NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الدكان ـ أربعة وتسعون جزء 21/102023

٨١
طرق بأنامل كفه على المقود بحركة ثابتة، بينما استند بذراعه الأخر على حافة النافذة متأملاً بفتور المكان من حوله، هي أبلغته برغبتها في الصعود مع سليطة اللسان هذه إلى الطبيب خاصة حينما رأت لافتة تخصصه التي أثارت قلقها، تفهم منذر موقفها رغم اعتراضه على بقائها معها، لكن الظرف تلك المرة مختلف، فنيرمين في وضع مرضي ربما يكون هامًا، ووجود زوجته إلى جوارها ربما يكون ضروريًا نوعًا ما.
, أخرج تنهيدة مطولة من صدره متابعًا تمرير أنظاره على المارة مترقبًا عودتهن ببال طويل، التوى ثغره بابتسامة خفيفة حينما شرد في وجهها البشوش الذي يتورد خجلاً من أبسط الكلمات، اتسعت ابتسامته تدريجيًا مستعيدًا في مخيلته تصرفاتها المفاجئة له والتي ملأته شوقًا ورغبة فيها، حدث نفسه باشتياق:
, -هانت، معدتش فاضل كتير يا حبيبتي!
, فرك رأسه بيده والتفت لليمين تارة ولليسار تارة أخرى وهو يدندن بصافرة خافتة.
, ٤٧ نقطة
, جلست ثلاثتهن على المقاعد الشاغرة بداخل العيادة الطبية في انتظار دور نيرمين التالي، حملت والدتها الرضيعة تلاعبها بيدها حتى غفت بين ذراعيها، بينما لم تتوقف هي عن حدج ابنة خالها بنظراتها المزعوجة منها، لن تصفو نيتها نحوها أبدًا، هي تحملها اللوم في تأزم الأمور معها مؤخرًا حتى سوء صحتها، أفاقت من شرودها وانتبهت لصوت الممرضة الهاتف بنبرة عالية:
, -يالا يا مدام نيرمين، ده دورك
, -طيب
, قالتها بامتعاض وهي تنهض بثقل عن مقعدها ممددة ذراعيها نحو أمها لتأخذ منها رضيعتها، اعترضت عواطف قائلة:
, -خليها معايا، خشي انتي بس للضاكتور
, أعادت يديها إلى جانبيها متجهة نحو غرفته، استقبلهن الطبيب بابتسامة ودودة، ثم استرسل في حديثه بجمل مرتبة بصورة علمية غير مفهومة لهن مما جعل صبر نيرمين ينفذ وهي تسأله بتجهم:
, -بردك مافهمتش حاجة! يعني ايه ده كله؟
, سحب الطبيب نفسًا عميقًا، لفظه ببطء محافظًا على ثابته وهو يجيبها بتريث:
, -شوفي يا مدام نيرمين، للأسف لما عملنا التحاليل والعينات اللي طلبتها أكدت إن٣ نقطة
, صمت مجبرًا محاولاً إكمال الجزء الصعب من جملته، فسألته عواطف بخوف واضح على نبرتها وفي تعبيرات وجهها المشدودة:
, -بنتي مالها؟ كمل يا ضاكتور **** يكرمك
, نظر لها بإشفاق، دومًا يوضع أمثاله في مواقف كهذه حينما يتم إبلاغ المريض بحالته الصحية خاصة إن كانت في مرحلة حرجة، تمرس بحكم الخبرة في انتقاء كلماته كي يكون وقعها أقل تأثيرًا على المريض، لذلك ابتلع ريقه مضيفًا بهدوء :
, -في ورم في المخ، وللأسف متشعب بدرجة كبيرة يخلي استئصاله صعب!
, شعرت عواطف بارتخاء ذراعيها عن الرضيعة، بارتعاشة رهيبة أجفلت جسدها لمجرد سماع جملته المخيفة تلك، بذلت مجهودًا كبيرًا كي تحافظ على ثباتها رغم الدقات العنيفة التي عصفت بقلبها، مازالت لم تستوعب الأمر كليًا بعد، كتمت أسيف شهقة مباغتة خرجت من جوفها بيدها لتستدير برأسها في اتجاه نيرمين مجمدة عينيها اللامعتين عليها، هتفت الأخيرة بعدم تصديق:
, -و٣ نقطةورم
, بدا وجهه خاليًا من التعبيرات وهو يكمل بجدية:
, -احنا لازم نبدأ العلاج فورًا، و٤ نقطة
, ضربت نيرمين بيدها بعنف على سطح مكتبه، ثم هبت واقفة من مكانها وهي تصرخ فيه بانفعال مهتاج:
, -يعني ايه ورم؟ وازاي موجود وأنا ما حستش فيه؟
, تفهم عصبيتها الزائدة، تكرر معه الموقف لأكثر من مرة مع مرضى مختلفين، فرد عليها بنبرة عملية:
, -أكيد ماخدتيش بالك من أعراضه، لأنه في مرحلة متقدمة و٣ نقطة
, قاطعته صارخة باهتياج:
, -انت بتقول ايه! أنا كويسة وزي الفل، معنديش الهباب اللي بتقوله ده، هما شوية صداع وبرشامتين يضيعوه!
, ترقرقت العبرات سريعًا في مقلتي أسيف تأثرًا بحالها، من الصعب عليها تقبل مثل تلك الحقيقة المفجعة، أن تكون تحت رحمة ذلك المرض اللعين الذي ينهش في الأبدان حتى يهلكها، من حقها أن تثور، أن تغضب، أن تخرج عن المألوف بالصراخ والعويل، فالخطب جلل بالتأكيد، لم يختلف حال عمتها عنها كثيرًا، كانت في حالة صدمة وشرود، ابنتها تساق نحو المجهول بكل قوة وهي عاجزة عن مساعدتها، بكت رغمًا عنها، وتتابعت شهقاتها المتحسرة عليها.
,
, انتبه لصوت الصراخ الأتي من الأعلى فارتفعت أبصاره نحو عيادة الطبيب، انقبض قلبه بقوة شاعرًا بوجود أمر مريب، أنبئه حدسه بالتحرك من مكانه والصعود إليها ليطمئن، فترجل من سيارته، وأسرع في خطاه نحو مدخل العيادة.
,
, زاد جنونها ورفضت تصديق الواقع المؤلم، أنها باتت أحد المصابين بالأورام الخبيثة، حاول الطبيب امتصاص انفعالات مريضته قائلاً بحذر:
, -أنا عارف إنه صعب عليكي تتقبلي الأمر، بس العلاج في الفترة دي مهم جدًا على الأقل عشان نمنع انتشاره ونقدر نتعامل٤ نقطة
, هدرت فيه نيرمين بصراخ أشد دافعة ما على سطح مكتبه من أدوات مكتبية وملفات:
, -أنا كويسة معنديش حاجة، إنت قاصد تقول كده عشان تحرق دمي وخلاص!
, نهض واقفًا من على مقعده مشيرًا لها بيده وهو يتابع بنبرة عقلانية:
, -يا مدام نيرمين، تقبل وجود المرض هي أول خطوات الشفاء بأمر ****!
, لوحت بذراعيها هادرة بعصبية جامحة:
, -واشمعني أنا ها؟ اشمعنى أنا اللي يجيلي الزفت ده!
, استشاطت نظراتها على الأخير، والتفتت برأسها نحو عدوتها لتحدجها بنظرات نارية وقد اصطبغ وجهها بحمرة قوية، أشارت بسبابتها متابعة بحقد مغلول:
, -ليه مش هي؟
, ارتجف جسد أسيف لمجرد رؤية نظراتها التي كادت تحرقها في مكانها، كذلك هوى قلبها في قدميها بعد سماعها لعبارتها الناقمة تلك، هزت رأسها مستنكرة ما رددته وبكت بلا توقف، لم ترغب في الرد عليها لأنها كانت في حالة لا وعي بسبب ألمها.
, صاحت عواطف بصوتها المختنق رافضة سخطها على مُصابها الأليم قائلة:
, -استغفري **** ماتقوليش كده!
, دنت نيرمين من غريمتها مهددة بالفتك بها وهي تواصل صراخها بجموح:
, -ليه هي تاخد كل حاجة وأنا في الأخر أموت؟ ليه؟٣ علامة التعجب
, خافت من اقترابها المهلك، فتراجعت للخلف منكمشة على نفسها ترمقها بنظرات شبه مذعورة، تحركت عواطف في اتجاهها لتشكل بجسدها حائلاً وهي تتوسلها باستعطاف باكٍ:
, -اهدي يا بنتي، مش كده!
, امتزج صراخها ببكائها المرير وهي تكمل بازدراء ناكر:
, -ليه أنا بختي قليل في الدنيا؟ ده أنا مطلبتش كتير!
, تحرك الطبيب هو الأخر في اتجاهها محاولاً السيطرة على نوبة الهياج العصبي التي تملكت منها قائلاً بتريث عله يقنعها:
, -مدام نيرمين من فضلك، التحاليل بينت إن المرض عندك بقاله أكتر من سنة، وده مالوش علاقة بشخص معين، هو ٥ نقطة
, دفعت الطبيب بيدها بقوة عنيفة محاولة تجاوزه لتصل إليها وهي تصرخ بصوت محتد:
, -إنتي السبب في اللي حصلي، ايوه إنتي اللي خلتي كل ده يجرالي!
, تهدجت أنفاس أسيف بخوف مما تسمعه من اتهامات لا شأن لها بها، هي وقفت مكبلة الأيدي عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمامها مصدومة من حالتها اللا عقلانية، هجمت عليها نيرمين بكل عنف وشراسة لتطبق على عنقها محاولة خنقها متابعة بجنون مخيف:
, -إنتي اللي لازم تموتي مش أنا!
, وضعت يديها على قبضتيها المطبقتين عليها لتبعدهما عنها قبل أن تختنق لكنها كانت تستمد قوتها من غضبها المشحون بداخلها نحوها، تابعت هادرة وهي تكز على أسنانها بشراسة:
, -أنا ملحقتش أعيش حياتي، ماتجوزتش اللي بأحبه ولا لحقت أتهنى، طول عمري في غلب وقرف، أنا٤ نقطة
, تحشرجت أنفاسها حتى أوشكت على الاختناق من قبضتيها المحكمتين بقوة حولها، ولم يستطع الطبيب نزع يديها عنها بسبب هياجها المضاعف، تدخلت أمها هي الأخرى بعد أن أسندت الرضيعة التي انفجرت في البكاء بسبب الصراخ المهتاج على الأريكة لتبعد ابنتها عن أسيف هاتفة بتوسل شديد:
, -سيبيها يا نيرمين، هاتموت في ايدك، هي مالهاش ذنب!
, ردت عليها بانفعال مرعب:
, -وأنا ذنبي ايه؟ قولولي ذنبي ايه؟
, تعذر عليها التنفس فشحب لون وجهها، وتشنجت تعبيراتها معلنة عن دخولها مرحلة الهلاك إن لم يتم إبعادها فورًا، تمكن الطبيب من نزع قبضة واحدة عنها، فأتاح الفرصة لها لتلتقط أنفاسها، وكبل يدها للخلف هاتفًا:
, -بالراحة يا مدام! لو سمحتي اهدي، اللي بتعمليه ده غلط!
, نبشت نيرمين أظافرها في عنق ابنة خالها متعمدة خنقها وجرحها وهي ترد باهتياج:
, -لازم هي تموت!
, في تلك اللحظة اقتحم منذر الغرفة بعد سماعه للصراخات الأتية من الداخل، سلط أنظاره سريعًا على الزاوية المحاصر بها زوجته، واتسعت عيناه في هلع حينما رأى ما يحدث، اندفع كالأعمى في اتجاهها صارخًا بصلابة:
, -ابعدي عن مراتي!
, استخدم قوته بالكامل في تحريرها من براثنها ودفعها للخلف بعنف ليشكل بجسده درعًا ليحميها من بطشها، ترنح جسدها من إثر الدفعة، وفقدت اتزانها لتفترش الأرض، دنت منها والدتها محاولة السيطرة على اهتياجها، بينما سعلت أسيف بقوة نتيجة اختناق أنفاسها، واختبأت في أحضان زوجها، ضمها منذر بذراعيه ليحتويها مستشعرًا تلك الرجفة التي تعتريها، بلغ ذروة غضبه المنفعل، فسلط أنظاره على نيرمين صائحًا بحدة:
, -انتي اتجننتي؟ هادفعك تمن اللي عملتيه ده غالي!
, لم تشعر نيرمين بوجوده، ولم تعبأ بكلماته بل ظلت أنظاره مثبتة على عدوتها الوحيدة محملة إياها اللوم في كل شيء، ردت صارخة بعنف:
, -انتي خدتي كل حاجة مني!
, لم يفهم منذر سبب ثروتها، لكن حتمًا لن يمرر ما فعلته مع حبيبته على خير، أحست أسيف من نظراته بذلك، فتوسلته بصوتها المتحشرج:
, -سيبها يا منذر!
, رغم رجفتها وذعرها إلا أنها تشبثت به لتمنعه من الاقتراب منها أو حتى المساس بها هاتفة برجاء:
, -ماتجيش جمبها عشان خاطري، كفاية اللي هي فيه!
, التفت ناحيتها مستغربًا ردها العجيب الذي أثار ريبته رغم تحفظه عليه، ومع ذلك استجاب بصعوبة بالغة لنظراتها المتوسلة له، ضمت نيرمين ركبتيها إلى صدرها ودفنت وجهها في كفيها صارخة باستنكار:
, -اشمعنى أنا؟ ليه!
, جثت والدتها على ركبتيها أمامها محتضنة إياها بذراعيها متمتمة بصوتها الباكي:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، لطفك بينا يا رب!
, تجمدت أنظار منذر عليهما متسغربًا ما يدور، لكنه بدأ سريعًا يخمن أن هناك شيء خطير بالموضوع لتتأزم الأوضاع بتلك الصورة المميتة.
, ٥٠ نقطة
, استقبلتها بترحــاب ودود بعد قدومها إلى المنزل رغم اندهاشها من وجودها بصحبة ابنها تحديدًا، أشارت ملامح وجهها ونظراتها إلى ذلك، هي توقعت مجيئها مع والدتها وأسيف لإكمال عملهن بالغرفة الجديدة، وقبل أن يدفعها فضولها للسؤال بطريقة قد تربكها، هتف دياب موضحًا:
, -هي جاية النهاردة عشان خاطر يحيى، جايز تساعدنا
, ردت قائلة بابتسامة لطيفة:
, -اه وماله!
, وضعت يدها على ذراعها لتمسح عليه برفق وهي تضيف برجاء:
, -يا ريت يا بسمة تقدري معاه، الواد حالته صعبة أوي و٣ نقطة
, قاطعتها الأخيرة هاتفة بهدوء وابتسامة صغيرة متشكلة على محياها:
, -اطمني، إن شاء **** خير!
, رفعت أنظارها للأمام متابعة بتساؤل جاد:
, -هو فينه؟
, أجابتها جليلة وهي تشير بيدها:
, -قاعد في أوضته مع أروى
, -طيب أنا هادخله
, سألها دياب بجدية:
, -تحبي أجي معاكي؟
, التفتت برأسها للجانب لتجيبه بجمود جاد:
, -لأ، خليك هنا، مافيش داعي دلوقتي!
, نظر لها بتفهم وهو يحك مؤخرة عنقه قائلاً:
, -ماشي
, تحركت صوب غرفته لتبدأ في مهمتها مع صغيره، ظلت أنظاره معلقة بها حتى اختفت من أمامه فوضعت والدته يدها على كتفه هامسة:
, -**** ييسر الأمور والواد ينطق معاها
, تنهد هامسًا:
, -يا رب
, هتفت والدته فجأة بحماس عجيب:
, -أما لو حصل، يبقى البت دي في ايدها الشفا!
, استدار ناحيتها لينظر لها بغرابة مرددًا:
, -كله من عند ****
, ربتت على كتفه عدة مرات برفق متابعة بنبرة متضرعة:
, -**** يجعلها من نصيبك
, زفر دياب بصوت مسموع وهو يرد بحزن طفيف:
, -ركزي في الدعوة دي يامه لأحسن معدتش عندي أمل خالص!
, ردت عليه مؤكدة بتفاؤل واثق:
, -بتيجي على أهون سبب
, التوى ثغره للجانب قائلاً باقتضاب:
, -على رأيك!
, تنهد مجددًا مخرجًا من صدره الكثير من الهموم مع زفيره المشحون، هو في انتظار تلك اللحظة التي يرق فيها قلبها ويلين نحوه حتى وإن طال وقت تحقيقها، لكن وجود بارقة الأمل سيحمسه على الانتظار.
, ٣٨ نقطة
, -ممكن أدخل يا حبيبي!
, قالتها بسمة وهي تطل برأسها من خلف الباب راسمة على ثغرها ابتسامة لطيفة محببة، حدق يحيى فيها بأعينه الحزينة المرتعدة وهو عابس الوجه، لم ينطق بحرف واحد، لكن نظراته كانت تحمل الكثير، لجأت إلى أسلوبها اللطيف في إزالة الحواجز مع الأطفال قائلة بمرح:
, -ينفع كده مش تيجي عندي ولا تسأل على المس بسمة؟ أنا هازعل منك!
, احتوته أروى بذراعها معللة:
, -هو تعبان أوي يا مس
, عبست بوجهها قائلة بتبرم زائف:
, -مين قال كده، ده يحيى زي الفل وكويس!
, ولجت إلى داخل الغرفة تاركة الباب مواربًا قليلاً، ثم هتفت متسائلة:
, -صح يا حبيبي مش إنت راجل قوي وشجاع؟
, لم يعلق عليها رغم أنظاره المثبتة عليها، جلست على طرف الفراش إلى جواره واضعة يدها على خصلات شعره لتعبث بها برفق، انحنت على جبينه تقبله بحنو وهي تهمس له:
, -مش عاوزاك تخاف من حاجة، أنا هنا معاك، ومش هاخلي حد يجي جمبك حتى لو كان مين!
, رفع عينيه المفزوعة في وجهها باحثًا عن الأمان فيها، ورأه بالفعل من خلال ابتسامتها وضحكاتها ونظراتها الموحية، ابتعد قليلاً عن أروى ليميل نحوها، فلم تتردد في ضمه إليها، أحاطته بذراعيها متابعة بتأكيد:
, -أي حد بس يفكر يجي جمبك أنا هاموته!
, هز رأسه كاستجابة أولية لجملتها، تنفست الصعداء لظهور بوادر طيبة لتفاعله معها مما شجعها على الاستمرار في بث روح الطمأنينة والأمان له، تعجبت أروى من ثقته فيها، لكنها كانت فرحة بتجاوبه معها، نهضت من على الفراش متحمسة لإبلاغ أخيها ووالدتها بذلك الأمر، فركضت بتلهف للخارج.
, مسحت بسمة برفق على ظهره متسائلة بحذر:
, -بابا ضربك فإنت زعلان منه؟ ده لو عمل كده أنا هاقوم أضربه و..
, هز رأسه نافيًا وهو يجيبها بهمس شديد:
, -لأ
, تنهدت بارتياح لكون الأمر بعيدًا عن الإيذاء البدني من قبل والده، لم تنتبه إلى تلك الأعين التي تراقبها في صمت منتظرة على أحر من الجمر نتائج بقائهما معًا، حرص دياب على عدم إصدار أي صوت أو لفت الأنظار إليه متصنتًا عليهما بخلسة، لكنه اطمئن إلى حد كبير بعد ما سمعه بأذنيه، تابعت بسمة متسائلة بحزن مصطنع:
, -طب ليه يحيى مش عاوز يطلع من الأوضة، مامي زعلتك؟
, أجابها وهو يهز كتفيه:
, -لأ!
, طوق عنقها بيديه متعلقًا في كتفها قائلاً ببراءة:
, -أنا عاوز أروح معاكي، أنا خايف
, ضمته إليها مواصلة الربت على ظهره بحنو مطمئن وهي تسأله بهدوء جاد محافظة على ثبات نبرتها:
, -خايف من ايه؟
, أجابها بغموض دافنًا وجهه في عنقها:
, -هايطلعلي ياكلني!
, ضاقت نظراتها وتأهبت حواسها من جملته المقتضبة تلك، وسألته بحذر:
, -مين ده؟
, اختنق صوته أكثر وارتعدت فرائصه هامسًا بهلع:
, -العوو!
, ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تنفي مخاوفه الخيالية قائلة بثقة:
, -مافيش عوو يا يحيى!
, رد عليها بإصرار ظهر بوضوح في نبرته العصبية:
, -لأ هو موجود
, سألته باهتمام:
, -فين؟
, لف ذراعيه أكثر حولها وتمسك بها قائلاً:
, -تحت السرير، أنا خايف أوي!
, زادت من ضمها له، ثم طبعت قبلة أمومية قوية على رأسه قائلة بجدية:
, -متخافش، أنا موجودة معاك!
, حاولت أن تحل وثاق ذراعيه القابضين عليها لتنظر في وجهه متابعة بقوة:
, -أنا هانزل أشوفه تحت
, ارتعدت نظراته وهو يصيح بخوغ:
, -لأ، هايكلك!
, نظرت له مطولاً دون أن تبدل تعابير وجهها، ثم همست قائلة بمكر:
, -طب بص أنا هاجيب العصايا معايا، وإنت هات المسدس اللعبة بتاعك ونشوفه سوا، ولو لاقيناه هننزل فيه ضرب لحد ما يموت!
, استغرب مما قالته، فأكدت له مستخدمة الخيال في محاولة إقناعه بحرفية ماهرة، فتابعت بحماس:
, -عارف احنا زي المحاربين، هنموت الأشرار ومحدش هايقدر يجي جمبنا لأن معانا كل القوة وهما ضعاف مش هيعرفوا يكسبونا!
, ظلت تستخدم تلك العبارات المحفزة لمخيلته حتى استجمع شجاعته معتقدًا أنه مقاتلاً يدافع عن مملكته ويساعد الضعفاء، استسلم لطريقتها المشجعة قائلاً ببراءة:
, -ماشي
, غمزت له بطرف عينها، ثم انحنت عليه هامسة:
, -بشويش عشان مايخدش باله
, -حاضر!
,
, جاهد دياب ليخفي ضحكاته الممتزجة بعبراته التي تجمعت رغمًا عنه عند طرفي مقلتيه تأثرًا بما رأه، هي تملك الكثير من الأمومة التي انعدمت في والدة صغيره الأصلية، لم تحتويه هكذا، لم يره منجذبًا إليها مثلما رأى اليوم، نعم فحبيبته استطاعت ببراعة أن تسحب ابنه المذعور إلى دفء حنانها فباح لها بما عجز هو عن الحصول عليه منه لتقضي رويدًا رويدًا على مخاوفه.
, ٥١ نقطة
, خيم الحزن على الجميع بعد اكتشاف خبر إصابتها بذلك المرض الخبيث، وبالطبع لم يجرؤ منذر على الانتقام منها مشفقًا على حالها، هي في وضع لا تُحسد عليه، وتحتاج للكثير من الدعم والتشجيع لتجاوز تلك الأزمة، المؤلم في الأمر إنها مهددة بالموت بين لحظة وأخرى نتيجة تطور وضع المرض بداخلها، حتى التدخل الجراحي بات غير مجدٍ معها، أوصلهن إلى المنزل مؤجلاً زيارتهن إلى منزله تفهمًا لوضعها.
, انهارت أسيف باكية عليها رغم ما فعلته بها، ظلت ترمقها بنظرات حزينة متعاطفة، ودت لو استطاعت مد يد العون لها لتخفف عنها ما هي فيه، لكن ليس باستطاعتها شيء، هي رافضة المساعدة من أي شخص، حبست نيرمين نفسها داخل غرفتها مجهشة ببكاء يقطع نياط القلوب، عكفت والدتها على الصلاة داعية المولى أن يهون عليها مصابها، اندمجت دمعاتها الغزيرة بصوتها المتوسل المتضرع حتى بدا كالأنين، فما أصعب أن ترى فلذة كبدك يموت ولا تستطيع مساعدته، ارتفع نحيبها خلال سجودها حتى فرغت من أدائها، التفتت بأنظارها إلى الرضيعة النائمة على فراشها محدقة فيها بأسف كبير، غمغمت بنواح متألم:
, -يا رب اشفيها عشان بنتها!
, تقطع صوتها واختنق على الأخير وهي تكمل بصعوبة:
, -هي مالهاش إلا هي، أبوها مش سائل فيها، طب مين هايراعها لو.. أمها جرالها حاجة؟!
, انخرطت في بكاء أشد حرقة عندما فكرت في مصير تلك الرضيعة المجهول.
,
, نفخ مستاءً من عدم مقدرته على تهدئتها بعد أن اعتصرها الألم حزنًا على ابنة عمتها، حاول التهوين عليها قائلاً:
, -خلاص يا حبيبتي مش كده
, وضعت يدها الممسكة بالمنشفة الورقية على طرف أنفها قائلة بنشيج:
, -صعبانة عليا أوي؟ الموضوع مش سهل عليها!
, رد بهدوء وهو يمسح على ذراعها بلطف:
, -دي مشيئة ****
, نظرت نحوه متابعة ببكاء:
, -أنا عارفة، بس صعب إننا نشوفها كده و٣ نقطة
, قاطعها قائلاً بجدية:
, -المهم هي تاخد خطوة في علاجها، جايز يجيب نتيجة معاها!
, تهدجت أنفاسها قائلة برجاء كبير:
, -يا رب!
, صمت للحظات مترددًا في الحديث معها في حفل زفافهما، بالطبع هو متفهم للظروف الطارئة التي جدت على العائلة، وإقامة الحفل في ذلك التوقيت ليس بالأمر المحمود، فالأفضل حاليًا تأجيله حتى تهدأ الأوضاع، تنفس بعمق ثم جمد أنظاره نحوها قائلاً بتريث:
, -أسيف أنا عارف إنه مش وقته نتكلم في ده، بس لو حابة نأجل الفرح بتاعنا ف أنا مقدر ده و٣ نقطة
, قاطعته قائلة بحزن وهي تكفكف عبراتها بظهر يدها:
, -سامحني يا منذر، إنت عارف كويس إني مش هاقدر أعمل حاجة ونيرمين في الوضع ده، ازاي هايجيلي قلب أعمل كده وهي٥ نقطة
, عجزت عن إتمام جملتها لتبكي مجددًا متأثرة بها، وضع يده على كتفها قائلاً بهدوء:
, -يا حبيبتي أنا فاهم ده كويس!
, نظرت له بأعينها الباكية هامسة:
, -**** يخليك ليا
, حافظ على ثبات نبرته وهو يقول:
, -أنا معملتش حاجة، اهدي انتي بس عشان أرتاح، ماشي؟
, حركت رأسها بإيماءة واضحة دون أن تجيبه، فابتسم لها بعذوبة ماسحًا بإبهامه عبراتها المنسابة على وجنتها.
, ٤٤ نقطة
,
, خرج من الغرفة ممسكًا بقبضتها وهو يبتسم لأول مرة بعد تلك الأيام العويصة، نظرت بسمة إليه بسعادة متابعة سيرها معه، وما إن رأتهما جليلة حتى أطلقت زغرودة كتعبير رمزي عن فرحتها، هرولت إليه لتحتضنه قائلة بتلهف:
, -يا ضنايا، حمدلله على سلامتك
, رد الصغير بخجل طفيف:
, -تيتة
, انهالت عليه بالقبلات لتغرق وجنتيه بهما مشبعة اشتياقها له، خرج دياب من غرفته مصدومًا حينما رأى ابنه يقف على قدميه، تسارعت دقات قلبه فرحًا، وتحرك نحوه هاتفًا:
, -يحيى!
, رفع الصغير أنظاره إليه مرددًا بتوجس:
, -مش تضربني بابي!
, -تتقطع ايدي قبل ما تتمد عليك يا حبيبي!
, قالها وهو يجثو أمامه محدقًا فيه بنظرات أبوية صادقة، جذبه إليه ليضمه في أحضانه، فأرخى ابنه قبضته عن بسمة ليحاوطه بذراعيه، حمله ناهضًا من مكانه لينظر في اتجاه محبوبته هامسًا لها بامتنان كبير:
, -مش عارف أقولك ايه
, ابتسمت له بلطف وهي تقول بصوت خفيض:
, -ماتقولش حاجة! **** يباركلك فيه
, بلا وعي منه مد يده ليمسك بكفها بأنامله، فتفاجأت من حركته الجريئة تلك، خاصة أنها أمام والدته، رفعه يدها إلى فمه ليضع قبلة صغيرة على ظهر كفها متابعًا بتنهيدة حارة:
, -**** يخليكي ليا، ويديمك في حياتي!
, خجلت كثيرًا من تصرفه الذي وضعها في موقف حرج للغاية، واكتست تعابير وجهها بحمرة قوية، شعرت بتدفق الدماء في عروقها مظهرة ارتباكها من تأثير ذلك عليها، سحبت يدها من بين أصابعه بسرعة رامشة بعينيها، استشعرت قوة نبضات قلبها التي كانت تتسابق داخل صدرها، عضت على شفتها السفلى متحاشية النظر نحوه، لم تقف جليلة كالمتفرج كثيرًا، فأحاطتها من كتفيها مضيفة هي الأخرى بكلمات ذات مغزى:
, -**** يكرمك يا بنتي، كلنا بنحبك هنا، وعاوزينك تفضلي دايمًا معانا!
, تحرجت مما يحدث حولها ولم تستطع الرد، فاكتفت بتنكيس رأسها حياءً منهما، لكن على الأرجح تأكدت من شيء ما قاومته حتى استنفذت كل طاقتها وهي ترفض تصديقه، عليها فقط أن تثق في قرارها وتفكر بتروٍ قبل أن تسمح لنفسها بالمجازفة ٤١ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨٢
انهارت باكية حزنًا على أختها بعد معرفتها بخبر مرضها الصادم، ولجت إليها لتحتضنها رافضة تركها بمفردها فهي بحاجة إلى دعم قوي ومستمر ممن حولها خاصة في تلك المرحلة الحرجة لتتجاوز الأزمة، لكنها لم ترغب في تلقي ذلك النوع من المشاركة الوجدانية، نبذت إحساسهم بالشفقة نحوها، فعمدت إلى استخدام أسلوب الشدة والقسوة مع الأقرب إليها، ورغم معاملتها الجافة معهم إلا أن الجميع تفهموا موقفها العدائي.
, حرصت أسيف على المتابعة الهاتفية اليومية مع الطبيب المتابع لحالتها المرضية كي تتبع نصائحه خلال الرعاية المنزلية، وبسطت الأمور لعمتها ليسهل عليها الفهم، كانت أهم توصياته هي البدء الفوري في مرحلة "العلاج الكيماوي" كي يتم وقف انتشار المرض، خاصة أنه في مرحلة متقدمة تتطلب اهتمامًا كبيرًا، وأصرت نيرمين على عدم الإصغاء لأي منهم مدعية أنها بخير، ومرت الأيام على ذلك الوضع المتأزم دون حل جذري، الجميع مُتلف الأعصاب، وهي تزداد عنادًا بمرور الوقت.
, أعدت عواطف صينية مليئة بالأطعمة الصحية، وأسندتها على طرف الفراش حيث تتمدد ابنتها، ابتسمت لها بود، ثم قدمت صحن الحساء لها، فمدت يدها نحوه لتمسك به، لكنه انزلق من بين أصابعها بسبب ارتجافتهم، أردفت عواطف قائلة بحذر:
, -حصل خير يا بنتي، ولا يهمك٥ نقطة
, صرخت نيرمين بعصبية زائدة مقاطعة إياها:
, -مش عاوزة حد يساعدني، أنا لسه بصحتي، مش عشان الطبق وقع مني أبقى خلاص بقيت عاجزة!
, أشارت لها أمها قائلة بتريث محاولة امتصاص ثورتها المنفعلة:
, -اهدي بس يا نيرمين، مالوش لازمة الزعيق!
, وضعت كلتا قبضتيها على رأسها ضاغطة بقوة عليها في محاولة بائسة منها لمنع استمرار ذلك الصداع الذي يفتك بها، ثم صاحت بزمجرة متشنجة:
, -سيبني لوحدي يا أمي
, رأتها والدتها وهي تقاوم الألم الشديد، فزادت وخزات قلبها نحوها، أليست ابنتها البكرية؟ أليست قطعة من روحها؟ هي تلقي بنفسها في التهلكة مستخدمة سلاح العند، وهي لن تسمح لها بذلك، تحركت خلفها واضعة يدها على كتفها وهي تتوسلها بصوت شبه مختنق:
, -يا بنتي، إنتي ليه بتعملي في نفسك كده؟
, أزاحت يدها عنها لتبتعد عدة خطوات وهي ترد بإحباط:
, -وأنا من امتى بقيت أفرق مع حد، كلكم بتكرهوني وعاوزين تخلصوا مني، وأهي جتلكم الفرصة، ارتاحوا!
, لمعت مقلتاها بشدة تأثرًا بكلماتها الموجعة، وردت بنبرة أقرب للبكاء:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، و**** إنتي غلطانة، كلنا بنحبك وزعلانين عشانك، بلاش تقولي كده!
, نظرت نيرمين لأمها بجمود رغم تأكدها من صدق كلماتها، لكن سريعًا ما زاد حنقها حينما تابعت:
, -حتى أسيف أجلت فرحها عشانك و٣ نقطة
, صرخت فيها مقاطعة وهي تسد أذنيها:
, -مش عاوزة أسمع اسمها، أنا بأكرهها!
, سألتها بصوت حزين متعجبة من كم الكراهية والعداء نحوها:
, -ليه بس؟ دي بتحبك جدًا
, صاحت بنفاذ صبر وقد قست نظراتها:
, -بلاش الكلام ده، وقفلي على سيرتها
, خشيت والدتها أن تثور من لا شيء، فاختصرت في حديثها مضطرة وهي ترد:
, -ماشي اللي يريحك!
, ٣٦ نقطة
, بذلت معها جهدًا كبيرًا محاولة التأثير عليها عل رأسها المتيبس يلين وتحكم عقلها وترضخ للعلاج الطبي، لكنها رفضت الاستجابة لها مكابرة ومعاندة بشراسة لم تتخيلها، جلست مستاءة على طرف الفراش مستندة برأسها على مرفقها، أخرجت تنهيدة حزينة من صدرها وهي تقول:
, -راكبة دماغها، أنا مش عارفة أقنعها، بتموت نفسها بإيدها
, ردت عليها أسيف بإيماءة موافقة إياها الرأي:
, -عنيدة بشكل رهيب!
, زفرت مجددًا بحزن أكبر وهي تضيف:
, -أنا احترت، وحاسة إني متكتفة ومش قادرة أعملها حاجة!
, رفعت بصرها للسماء لتتابع بأعين تترقرق فيها العبرات:
, -يا رب اهديها وتوافق تبدأ العلاج، يا رب مش هانستحمل يجرالها حاجة!
, لم تستطع الصمود أكثر من ذلك فتركت العنان لعبراتها بالانسياب، وأجهشت ببكاء موجوع عليها، مسحت أسيف على ظهرها برفق متفهمة حالتها تلك، هي لم تختلف عنها كثيرًا رغم العداوة الغير مبررة بينهما، لكن لا شماتة في المرض، فهي لا تملك أمر نفسها، وما هي فيه ماهو إلا ابتلاء من المولى ليمتحنها، ساد صمت ثقيل بين الاثنتين لبعض الوقت، فكلتاهما تفكران في وسيلة تمكنهما من إقناعها بالتخلي عن عنادها المهلك والعدول عن رأيها الخاطيء والبدء فورًا في خطة العلاج المكثفة خاصة أن الوقت بات حرجًا، وكل لحظة تمر دون علاج تشكل تهديدًا حقيقيًا عليها.
, طرأ ببال أسيف فكرة ما بها مجازفة قليلة، لكن ربما خلفها يكمن الحل، سحبت نفسًا عميقًا أخرجته من صدرها بتمهل وهي تقطع حاجز الصمت الإجباري :
, -أنا عندي اقتراح، بس مش متأكدة إن كان ينفع ولا لأ
, بحثت بسمة عن بارقة أمل من أجلها، فكفكفت عبراتها متسائلة بتلهف:
, -ايه هو؟
, ضغطت أسيف على شفتيها مرددة بتوجس ظاهر:
, -بس يا رب هو يوافق!
, قطبت الأخيرة جبينها متعجبة من تلك الجملة المريبة، والتي بدت غير مريحة إلى حد ما خاصة من طريقة نطقها لها، فسألتها باهتمام:
, -مين ده؟!
, حدقت أسيف في عيني ابنة عمتها مباشرة، بدا على وجهها الهدوء الذي يسبق العاصفة، انتظرت لثانيتين قبل أن تجيبها بجدية شديدة:
, -منذر!
, ارتفع حاجبي بسمة للأعلى غير مصدقة ما قالته توًا، ظنت أنها تتوهم اسمه، فرددت باندهاش عجيب:
, -بتقولي منذر!
, أومـــأت برأسها مؤكدة وهي تشرح لها ببساطة ماهية فكرتها الغير عقلانية ليزداد معها استغرابها، رمشت بعينيها عدة مرات، ولم تستطع التعقيب، هي على الأحرى لم تتوقع شيئًا كهذا منها هي تحديدًا، نظرت لها ببلاهة لبعض الوقت، ثم ردت بصدمة:
, -مش ممكن اللي قولتيه ده!
, ٣٨ نقطة
, واجه صعوبة كبيرة في التأثير على صغيره لكي يمتثل لطلبه ويعود لمدرسته بعد فترة غياب ليست بالقليلة، ومع ذلك اعترض ابنه على رغبته ورفض الإصغاء إليه، فاضطر دياب - رغمًا عنه - ألا يضغط عليه ويجبره على ذلك كي لا تسوء حالته كما كانت من قبل، جلس بشرفته محدقًا في الفراغ أمامه يفكر بحيرة فيما سيفعله معه، شعر بصخب كبير في رأسه المزدحم بالأفكار نتيجة إنهاكه بالتفكير المتواصل، ولجت إليه والدته وهي تحمل صينية بها فنجاني قهوة هاتفة بلطف:
, -اتفضل يا حبيبي، عملهالك مظبوط
, تناول منها فنجانه قائلاً بامتنان:
, -تسلم ايدك يا أمي!
, أسنده على حافة السور، وشرد مجددًا في الفراغ نافثًا ما تبقى من سيجارته بفتور، تفرست جليلة في ملامحه بضيق واضح عليها، هي تعلم ما يجيش في صدر ابنها من أماني وأحلام يتمنى حصولها على أرض الواقع، لكن شتان بين الحلم والحقيقة، تنهدت بعمق متسائلة باهتمام أمومي:
, -مالك؟ سرحان في ايه كده؟
, أجابها بضجر وهو يطفيء عقاب سيجارته:
, -شايل هم الواد ده، مش راضي يروح مدرسته، وأنا مش عاوز أشد معاه!
, أشارت له بيدها محذرة:
, -خده بالراحة يا ابني، على مهلك عليه، هو بردك غلبان
, أجابه بتشنج طفيف:
, -ما أنا مطول بالي على الأخر، هاعمل ايه تاني؟
, أومــأت له بعينيها متابعة برجاء:
, -معلش اصبر، وربنا هيدبرها من عنده
, أخرج زفيرًا قويًا من صدره متابعًا بتساؤل مزعوج:
, -نفسي أعرف جراله ايه؟!
, ردت عليه والدته:
, -الحمد**** إنه رجع زي الأول، هو احنا كنا طايلين
, صمت ليشعل سيجارة أخرى، وأخذ يستنشق دخانها لافظًا إياه بحرقة واضحة عليه، فكرت في الاستعانة ببسمة لمساعدته، فالصغير يحبها كثيرًا وهي تجيد التعامل معه، لذلك هتفت بلا تأخير:
, -بأقولك ايه، ما تقول لبسمة توديه المدرسة
, التفت ناحيتها متوقفًا عن تدخين سيجارته لتتحول نظراته للحدة وهو يردد بعتاب:
, -ده كلام، ما كفاية المصيبة اللي عندهم!
, تابعت محاولة تدعيم رأيها:
, -**** يشفي كل مريض، وأنا مقدرة اللي عندهم، بس٣ نقطة
, توقفت للحظة عن الكلام لتلتقط أنفاسها، ثم أضافت بعدها بجدية:
, -بس يا ابني انت بتقصدها في حاجة بسيطة، اسألها مش هاتخسر حاجة!
, أشاح بوجهه بعيدًا وهو يرد باقتضاب:
, -**** يسهل!
, كان متحرجًا بدرجة كبيرة من طلب أي شيء خلال تلك الفترة العويصة، هو متفهم للظرف الطاريء بالعائلة، ولكن ما بيده حيلة، كل الطرق تؤدي دومًا إليها، وكأن مفتاح حل مشاكله معها هي فقط، احترمت والدته صمته، فتابعت بابتسامة لطيفة:
, -طب يا حبيبي، اشرب قهوتك وأنا هاروح أعلق على الأكل
, هز رأسه دون أن يستدير قائلاً:
, -براحتك!
, لفظ مجددًا دخان سيجارته مرددًا لنفسه بامتعاض:
, -مش عاوزها تقول تماحيك!
, ارتشف ما تبقى من قهوته جرعة واحدة ليتابع تحديقه الشارد في الفراغ مفكرًا بتأنٍ في اقتراحها، ربما حقًا الحل معها، ابتسم لنفسه ابتسامة باهتة محدثًا نفسه:
, -وليه لأ؟
, ٤٣ نقطة
, -صعب أعمل كده!
, قالها منذر بصلابة متعصبة بعد أن أخبرته زوجته بخطتها في استدراج نيرمين بحذر نحو دائرة حبها المستحيل له، وبالتالي سيكون ما تفعله بغرض الحصول على رضائه الذي ستناله إن رضخت للعلاج، هي تعلم بمشاعرها نحوه، ومتيقنة أن شيء كهذا سيكون له أكبر الأثر في إقناعها بالأمر.
, تفاجأت برفضه الصارم للمسألة برمتها، فتوسلته قائلة:
, -عشان خاطري أنا، ماينفعش نسيبها تموت نفسها ونسكت!
, بدا مزعوجًا من اقتراحها، فرد رافضًا بجدية:
, -ماينفعش، أنا مش كده!
, ردت موضحة بنبرة مستعطفة:
, -أنا عارفة، بس دي خدمة!
, زم فمه قائلاً بإصرار معترض:
, -أسيف، أنا٣ نقطة
, وضعت يدها على كف يده الموضوع على مسند الأريكة لتحتضنه براحتها هامسة برجاء رقيق وهي مسبلة لعينيها:
, -أرجوك يا منذر، هي محتاجة لينا، وكلامك معاها جايز يفرق ويخليها تبدأ العلاج
, أخفض نظراته ليحدق في كفها الممسك بيده، شعر بلمساتها الرقيقة التي تذيب جبال الثلج في داخله، بتلك الحماسة المتدفقة في عروقه النابضة، سيطر على مشاعره الطامعة في تذوق طعم الحب معها قائلاً بامتعاض:
, -استغفر **** العظيم، بلاش٤ نقطة
, قاطعته متسائلة وهي تعمق نظراتها إليه محاولة التأثير عليه بسلاحها الأنثوي الذي تجيد استخدامه:
, -مش إنت بتحبني؟
, أجابها بلا تردد:
, -ايوه
, سألته بعتاب لطيف:
, -طب ترضى أزعل منك؟
, التوى ثغره للجانب مرددًا بضيق:
, -أنا مايهونش عليا زعلك، بس مش كده يا أسيف!
, سحب يده من كفها مديرًا وجهه للناحية الأخرى، شعرت بالذنب لفشلها معه، لمعت عيناها بالعبرات، وبدأت تنوح لقلة حيلتها، التفت ناحيتها متعجبًا من ذلك الحزن الجسيم الذي انعكس على تعبيراتها، وهتف محذرًا بصلابة:
, -بلاش تعيطي، أنا مش بأحب كده!
, دفنت وجهها بين راحتيها لتنخرط في البكاء، فنفخ عاليًا وهو يقول على مضض:
, -خلاص، هاعمل اللي انتي عاوزاه، ماتعيطش بقى!
, رفعت وجهها لتنظر إليه وقد اعتلى ثغرها ابتسامة متفائلة، مسحت دمعاتها العالقة في أهدابها بظهر كفها، ومدت كلتا يديها لتمسك بكفيه قائلة بامتنان حقيقي:
, -**** يخليك ليا!
, أغمضت عينيها للحظة قبل أن تفتحهما وتضيف بتنهيدة عميقة:
, -أنا بأحبك أوي
, ضغط على يديها بأصابعه، وابتسم لها قائلاً بلطف:
, -وأنا أكتر يا حبيبتي!
, ٣٩ نقطة
, بدأ الجزء الثاني والأهم من تنفيذ الخطة، وهو الاستعانة ببسمة لكي تبلغ أختها بذلك الطلب الغريب، كان عليها أن تبدو أكثر جدية وهي تخبرها بهذا حتى لا تظن أن في الأمر ملعوبًا ما وتكشفه، استجمعت رباطة جأشها، ورسمت قناع الجدية على وجهها وهي تلج إلى غرفتها هاتفة بجمود:
, -منذر عاوز يقابلك
, اندهشت كثيرًا من جملتها، ورغمًا عنها نطق لسان حالها بتنهيدة تحمل الأشواق والاشتياق:
, -سي منذر!
, انتبهت نيرمين لما قالته، فلملمت سريعًا نفسها، وشدت من تعابير وجهها قائلة ببرود مصطنع:
, -ليه يعني؟
, -معرفش، بس هو قال عاوزك إنتي بالذات
, انعقد ما بين حاجبيها باستغراب مرددة:
, -أنا!!
, حركت بسمة رأسها بالإيجاب مؤكدة بهدوء:
, -ايوه، ومستنيكي برا، ومصمم يشوفك!
, داعبت تلك الكلمات المنتقاة بعناية أوتار قلبها الحساسة، ولمست في روحها جزءًا كبيرًا، هي تمنته حتى بات حلمها المستحيل، وبالرغم من قسوته ناحيتها ورفضه العنيد لحبها، إلا أن قلبها يحمل له الكثير من المشاعر التي تثور من أجله مع أقل تلميح، هتفت غير مصدقة:
, -يشوفني أنا
, قرأت في عيني أختها تأثيره عليها، وتيقنت أن ابنة خالها محقة، فالحب يفعل المستحيل، له مفعول كالسحر لا يمكن لبشر أن يتصوره، تساءلت نيرمين بسخط وهي تشير بسبابتها:
, -بس مش هو جاير للفقر مراته؟
, أصابها بالضيق إهانتها لصاحبة القلب الحنون التي تبذل قصاري جهدها من أجلها، وفي المقابل تتلقى توبيخات مهينة لشخصها، ومع ذلك حافظت على جمود تعابيرها وردت موضحة:
, -لأ ليكي إنتي مخصوص!
, دق قلبها بعنف بعد تلك العبارة التي تضم كلمات موحية بالتفرد والاهتمام، تحمست كثيرًا لمقابلته، وتهللت أساريرها المتشنجة وهي تقول بتلهف واضح:
, -طيب أنا هاغير هدومي وطلعاله، قدميله إنتي حاجة ساقعة على ما أوضب نفسي
, ردت عليها بسمة بنبرة جادة:
, -اطمني هاقوم بواجب الضيافة معاه، بس انتي متتأخريش!
, نظرت نيرمين سريعًا لانعكاس وجهها في المرآة، تأملت شحوبها وذبولها المخيف بضيق، أرادت أن تخرج إليه في أبهى صورها، متأنقة فتخطف أنظاره وليس على تلك الحالة الواهنة التي تبعث على الشفقة والإحسان، زاد حماسها، وأسرعت نحو خزانة ملابسها لتختار أفضل ثيابها فترتديه، فمن بالخارج يستحق الأفضل فقط.
, ٤٦ نقطة
, تعثرت في خطواتها وهي تلج إلى غرفة الضيوف حيث ينتظرها، كاد صوت نبضاتها المتلاحق يصم أذنيها من شدة قوته، تورد وجهها لمجرد رؤيته، ولمعت عيناها حينما رأت عينيه تستديران نحوها، هتفت بنعومة:
, -سي منذر!
, لم يكن متفاجئًا من تصرفها لعلمه المسبق بمشاعرها التي نبذها، كان في حالة صراع كبير بين قلبه وعقله، أراد ألا يخدعها، لكنه وعدها أن ينفذ طلبها وإن كان منبوذًا، رسم بصعوبة ابتسامة باهتة على ثغره وهو يسألها باقتضاب:
, -ازيك
, أخرجت تنهيدة ثقيلة من صدرها وهي تجيبه بيأس:
, -أهي ماشية!
, أشار لها بيده متابعًا بجدية:
, -ممكن تقعدي، أنا عاوز أقولك كلمتين
, جلست إلى جواره على الأريكة هاتفة بتلهف متحمس وهي تسبل عينيها نحوه:
, -كلمتين بس، خليهم عشرة يا سي منذر!
, شعر بالنفور من طريقتها التي لا يستسيغها على الإطلاق، لكنه مضطر لتحملها حتى يدفعها نحو العلاج، للحظة تنفس بعمق، ثم رفع رأسه نحوها، وجمد أنظاره على وجهها قائلاً بثبات:
, -شوفي يانيرمين
, شردت في عينيه البنيتين متأملة حدقتيه باشتهاء واضح، رأت انعكاس وجهها فيهما، شعرت بدفء ينبع منهما، همست لنفسها متوهمة:
, -هــاه، نيرمين، قالي اسمي كده عادي، للدرجادي أنا مهمة عنده!
, كان مستشعرًا نظراتها الهائمة نحوه، وقاوم قد الإمكان إظهار علامات النفور منها كي لا تفسد خطته، هو أوشك على إنهاء الجزء الأخير المتبقي، فلا داعي للتعجل، واصل استرساله مشددًا:
, -وبنتك محتاجاكي، واللي بتعمليه ده مش كويس عشانها، ترضي هي تخسرك؟
, أفاقت من خيالاتها الحالمة على صوته الذي أضاف بجدية:
, -أنا عاوزك تبدأي تاخدي العلاج، لو فعلاً بتحبي بنتك و٣ نقطة
, سألته بتنهيدة حارة وهي تحدق فيه بنظرات والهة:
, -و.. ايه يا سي منذر؟
, جاء إلى تلك الجزئية التي كرهها كثيرًا، لكن لا مفر منها، الخطة في الأساس تعتمد عليها، وبالتالي هو مجبر على اللجوء إليها كي يضمن خنوعها، ابتسم لها ابتسامة زائفة وهو يقول عن عمد:
, -وبتحبيني، يبقى تخفي عشانا!
, هتفت بنزق ودون تفكير:
, -أيوه أنا بأحبك يا سي منذر وانت عارف ده كويس!
, أغمض عينيه للحظات مسيطرًا على ضيقه الذي تسلل إلى تعابير وجهه، خاف من افتضاح أمره لأنه يرفض تلك المشاعر بكل قوة، فقلبه لم يخفق إلا من أجل واحدة فقط، هي تلك التي عاهد نفسه ألا يحب سواها، عاود فتح عينيه مضيفًا بهدوء:
, -وهو ينفع اللي بيحب حد يموت نفسه؟
, توترت من كلمته تلك، وزادت تخبطًا حينما وضع يده على كفها مؤكدًا:
, -عاوزك تتعالجي يا نيرمين!
, أخفضت عينيها لتنظر بعدم تصديق في يده مرددة بصدمة:
, -الكلام ده ليا سي منذر؟
, هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يقول بحذر متعمدًا اختيار كلماته:
, -ايوه، خدي علاجك عشان نفسك الأول وعشان بنتك، وبعد كده عشان الناس اللي بتحبيهم!
, ارتسم على محياها ابتسامة متلهفة وهي ترد:
, -أنا مستعدة أعمل أي حاجة انت تطلبها مني
, سحب يده بحذر من على كفها قائلاً بجدية:
, -ده طلبي الوحيد!
, رمشت بجفنيها عدة مرات وهي تتأمل كفها الذي كان يلامس كفه قبل لحظات، لم يكن وهمًا أو حلمًا عابرًا، بل واقعًا ملموسًا شعرت به وملأ روحها وأنعشها من جديد، رأى تأثيره عليها فهب واقفًا ليقول باقتضاب جاد:
, -هاستأذن أنا بقى
, وقفت هي الأخرى تسد عليه الطريق بجسدها مرددة بتنهيدة حارة:
, -ما لسه بدري، ده ٣ نقطة
, قاطعها بهدوء:
, -معلش، ورايا شغل في الوكالة!
, أرادت أن تستفزه، أن تلعب على وتره الحساس كي ترى ردة فعله، لذا سألته بنزق:
, -ومراتك؟!
, رغم انزعاجه مما يحدث إلا أنه حافظ على ثبات نبرته وهو يرد بجدية:
, -أنا جايلك انتي وبس!
, برقت عيناها بوميض شديد غير مصدقة عبارته الأخيرة التي اخترقت قلبها بسهم نافذ لتلقى حتفها صريعة حبه، رددت بابتسامة عريضة قد تشكلت على ثغرها:
, -أنا بس؟
, وقبل أن يترك لها الفرصة لتسرح في خيالات وردية لا يحبذها، جمد نبرته وهو يقول باقتضاب:
, -سلامو عليكم
, تنحت للجانب ليمرق من جوارها، فأغمضت عينيها لثانية مستنشقة عبيره الرجولي ليكتمل المشهد ويحفر بالكامل في ذاكرتها، فتحت عينيها لتتابعه فرأته يخرج من الغرفة، تنهدت مرة أخرى بحرارة، وتعلقت أنظارها به وهي تسير خلفه لتوصله إلى باب المنزل، شعرت بانتفاضة كبيرة في روحها بعد حديثها معه، رغبت في تنفيذ مطلبه على الفور، يكفيه أنه قد جاء خصيصًا اليوم من أجلها، راقبتها الاثنتان من على بعد بدقة شديدة، مالت بسمة على ابنة خالها هامسة:
, -الظاهر منذر أقنعها
, اعتصر قلبها ألمًا لرؤيتها معه تبث إليه مشاعرها بأريحية تامة على مرأى ومسمع منها، لكن ذاك كان اختيارها، وتعهدت لنفسها أن تتحمل تبعاته حتى يأتي بثماره، ردت بنبرة مختنقة نسبيًا:
, -ماهو واضح عليها!
, التفتت بسمة ناحيتها قائلة بإعجاب:
, -أنا مصدقتش إنك انتي تفكري في حاجة زي كده!
, ابتلعت غصة مريرة في حلقها وهي ترد:
, -كان لازم أساعدها حتى لو على حساب نفسي
, رغمًا عنها لفت بسمة ذراعيها حولها لتحتضنها بقوة، هي خالفت كل توقعاتها، تجبرها يومًا بعد اليوم على إبداء ندمها لظنها السوء فيها ومعاملتها بفظاظة وجفاء من قلب، كان الأكثر رقة، الأكثر رفقًا بغيرها، هي تملك من الرحمة والحب ما لا يقارن بغيرها، قبلتها من وجنتيها متابعة بامتنان صادق:
, -انتي قلبك طيب يا أسيف، وربنا هيجازيكي خير عن اللي بتعمليه في غيرك!
, ردت بتضرع واثق في قدرة المولى على تدبير شئون خلقه:
, -يا رب، هو اللي عالم باللي فينا، وقادر يزيح عنها البلاء ويشفيها!
, ٥٤ نقطة
, تحفزت حواسها بعد كلماته الباعثة للتفاؤل على الشروع في خطة علاجها، ولجت إلى داخل غرفتها لتلقي بجسدها على الفراش، حدقت في السقفية مستعيدة صورة وجهه الرجولي المحبب لها في مخيلتها، تنهدت نيرمين قائلة:
, -بأحبك يا سي منذر!
, تقلبت على جانبها متابعة بنبرة متمنية:
, -آه لو تحس بيا وتفكري فيا شوية!
, أغمضت عينيها مجبرة عقلها على تكرار مشهد حديثهما سويًا مضيفة عليه الكثير من مخيلتها لتنتفض مشاعرها من جديد وبقوة.
, ٥٠ نقطة
, كان مدركًا لكونه سلاح ذو حدين، اللعب على مشاعر الأخرين، ورغم نبل غرضه إلا أنه كان ممتعضًا من منحها فرصة للتعلق به من جديد بعد أن حطم آمالها، رأى منذر انعكاس ذلك على حالها خاصة حينما أبلغته أسيف بتحديدها موعدًا مع الطبيب، اكتفى بتمني الشفاء لها، واقتضب في زياراته لزوجته كي لا ينكشف أمره لكونه مزعوجًا من تلك المسألة.
, لاحظ والده عبوسه المستمر فاستطرد قائلاً:
, -هاتفضل مسهم كده كتير؟
, رد عليه بتبرم:
, -غصب عني، مش عاجبني الوضع!
, تفهم موقفه، ومع ذلك حاول تهوين الأمر عليه، فبرر له:
, -انت قاصد خير، مالوش لازمة تحاسب نفسك كل شوية، اللي حصل حصل!
, رد عليه متسائلاً بضيق:
, -وبعدين يا حاج؟ أخرتها ايه؟!
, هز رأسه هاتفًا:
, -كل خير، قدم المشيئة وربنا عليه جبر الخواطر!
, ولج إلى داخل مكتبهما أحد العمال قائلاً بارتباك واضح عليه:
, -حاج طه، في.. برا٣ نقطة
, قطم عبارته مترددًا في إكمال الباقي، فصاح به طه بجدية:
, -ما تتكلم يا ابني، في ايه برا؟
, اقتحم المكان أخر فرد يمكن توقعه، قدم قدمًا وأخر الأخرى وهو يقول بحذر:
, -أنا يا حاج طه!
, ارتسمت علامات الصدمة الممزوجة بالاندهاش على وجهيهما، فقد كان الابن الأصغر لغريمهما اللدود، سريعًا ما تحولت قسمات منذر للشدة، ونظراته للعدائية والشراسة، فهب واقفًا من مكانه ليكز على أسنانه هاتفًا بحنق:
, -مازن ٢٨ نقطة ٣ علامة التعجب
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٨٣
اندفعت دمائه الغاضبة في عروقه سريعًا حينما رأى وجهه المقيت أمامه، لم يتحمل وجوده في نفس المكان معه، ملامحه تذكره بوجه أخيه المقيت الذي تعرض له ولزوجته، تشنجت قسماته كليًا، ومنع نفسه بصعوبة من إطلاق السباب النابي احترامًا لوالده، ومع ذلك ثار فيه هادرًا:
, -جاي ليه؟ انت مش اتحرم عليك انت وأهلك تعتبوا المكان هنا ولا ٤ نقطة
, قاطعه والده محذرًا:
, -اهدى يا منذر، مش كده!
, رد عليه معترضًا بشراسة وهو يحدج غريمه بنظرات مخيفة:
, -لأ يا حاج، هما الظاهر نسيوا اللي عملوه!
, كز على أسنانه مضيفًا وهو يلوح بيده مهددًا:
, -وأنا ناري لسه مابردتش!
, ابتلع مازن مرارة الإهانة مجبرًا، فهو مضطر للقبول بأي شيء حتى يحقق مطلب أبيه الأخير، رد عليه مطأطأ الرأس مكسور النظرات:
, -أنا محقوقلك مهما قولت، ولو عاوز تشتم براحتك!
, وضع يده على مؤخرة عنقه متابعًا بانكسار بائن:
, -أنا راضي ورقبتي تحت جزمتك، بس هاستسمحك في حاجة!
, نظر إليه طه بإشفاق، هكذا تتداول الأيام بين الناس، فتارة تظن نفسك في أعلى عليين، وفي أخرى تجد نفسك تهوي في أسفل القاع، تمتم بتعجب:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، سبحانه المعز المذل
, بدا منذر أكثر جمودًا وصلابة عن أبيه، لم ينسَ للحظة عنفهم وتجبرهم على الضعفاء، بطشهم الذي طال مداه عائلته – وخاصة أخته الصغرى – ناهيك عن مشكلاته مع أخيه، بالإضافة إلى أسيف والتي كان لها واضعًا خاصًا مع البلطجي مجد، زاد وجهه تعقيدًا وهدر متسائلاً بانفعال:
, -عاوز ايه؟
, ازدرد مازن ريقه قائلاً بتلعثم:
, -لو.. ينفع.. أفتح المطعم..و٣ نقطة
, قاطعه صائحًا بعصبية وهو يكاد يهجم عليه:
, -إنت بتحلم؟!
, استشف مازن احتمالية رفضه لطلبه، فتابع مستعطفًا:
, -مش عشاني و****، بس٤ نقطة
, هدر فيه منذر بنفاذ صبر:
, -على جثتي إن ده حصل!
, استشعر طه اندفاع ابنه الأهوج الذي ربما يودي به إلى مشكلة ما، خاصة أن طريقته الموحية تؤكد نيته في الاعتداء عليه، لذلك تدخل في الحوار قائلاً بنبرة عقلانية:
, -إديله فرصة يتكلم يا ابني، ماتبقاش ظالم، وتجور عليه!
, زفر ضاغطًا على أسنانه بعصبية:
, -استغفر **** العظيم!
, رد مازن بنبرة ذليلة:
, -أبويا بيحاسب على أخر أيامه، وأنا مش عاوزه يموت بقهرته بسببي أنا وأخويا!
, حدق فيه الاثنان بجمود جدي، فأضاف متوسلاً عل قلبيهما يرقان نحوه:
, -فإذا سمحت يعني تخليه يفتح المطعم، شقى عمره فيه!
, رد عليه منذر بتهكم ساخر وهو يحدجه بنظرات مهينة:
, -ومافتكرتش ده ليه وإنتو عاملين عصباجية علينا؟
, لوح طه بذراعه قائلاً بجدية:
, -اهدى شوية
, سلط منذر أنظاره على عدوه ليرمقه بنظرات احتقارية دونية وهو يرد بتشنج:
, -بلاش كلام مجانين!
, ابتلع مازن من جديد مرارة الإهانة والذل، هو من جنى على نفسه بذلك،يستحق من التوبيخات والمهانة أضعافًا مضاعفة، فهو أضاع نفسه ووالده بغبائه المستحكم، فلا يلومن الآن إلا نفسه، طأطأ رأسه ذليلاً أمامهما متوقعًا الرفض، ها قد خسر أخر محاولة لإرضاء أبيه، لكن أعاد إليه الأمل طه حينما هتف بهدوء:
, -سيبنا نفكر في الموضوع وروح لحالك دلوقتي
, اشتعلت عيناي منذر أكثر عقب جملته المحفزة لانفعالاته المتعصبة، فاستدار ناحية والده ليسأله بصوت محتد يحمل حنق صريح:
, -إنت بتديله فرصة يا حاج
, رفع عكازه بيده هاتفًا بصرامة:
, -منذر!
, اضطر أن يصمت قسرًا احترامًا لشخصه المهيب، فكظم غضبه في نفسه لكن نظراته عكست ما بداخله، تساءل مازن بحذر وقد برقت عيناه:
, -هاترد عليا طب امتى يا حاج طه؟
, أشار له طه برأسه قائلاً بجمود:
, -قريب، اتوكل على ****!
, رد عليه مازن بابتسامة باهتة وهو يتراجع للخلف:
, -كتر خيرك، ومعروفك ده مش هنساه أبدًا وهايفضل دين في رقبتي لحد ما أموت!
, انتظر على أحر من الجمر اختفائه من أمامه ليصيح بعصبية في أبيه معاتبًا بغيظ:
, -إنت بتديله فرصة يا حاج
, عاود والده الجلوس على مقعده، ثم سحب نفسًا عميقًا زفره على مهل قبل أن يجيبه بحكمة اكتسبها من تجارب الزمن:
, -**** مايحكم عليك ظالم، أبوهم مالوش ذنب في عمايل ولاده، وجيته هنا النهاردة أكبر دليل على ذلهم وكسرتهم، ولما احنا نسمح بفتح المطعم الناس هتقدرنا بزيادة، وهيتكلموا عنا بالخير، وبعدين مين قالك إني هاسيبه يفتحه من غير ضمانات وشروط!
, كان غير مقتنع بما قاله، فجلس بعصبية خلف مكتبه هاتفًا بامتعاض:
, -اتصرف إنت يا حاج طه، لأن أنا جايب جاز مع العالم الـ٧ نقطة دول!
, ٤٥ نقطة
,
, عاونتها في غسل الصحون المتسخة بالمطبخ لينتهيا سويًا في وقت قليل بعد ترتيب المنزل، واستغلت كلتاهما الوقت في الثرثرة المعتادة لكن لم ينتبها إلى المتنصتة عليهما، عاودت عمتها فتح الحديث في ذلك الموضوع الحرج الخاص بزوجها وابنتها، ورغم إقتناعها بنبل نواياها إلا أنها كانت رافضة لتلك الوسيلة، جففت أسيف يديها في المنشفة القديمة متنهدة بإرهاق وهي تقول:
, -ماشي أنا موافقاكي يا عمتي، جايز أكون خاطرت بعلاقتي مع منذر، بس أنا واثقة فيه!
, ردت عليها بغموض مبدية انزعاجها:
, -أنا عارفة ده، بس بصراحة مش عارفة أقولك ايه، **** يستر بقى
, توجست ابنة أخيها خيفة أن يكون وراء ما فعلته أمر خطير لم تحسب تبعاته جيدًا، فسألتها بقلق:
, -عمتي ايه اللي مخوفك بس؟
, تنهدت بعمق وهي تجيبها:
, -أسيف إنتي طيبة وكل حاجة، ومقدرة و**** كل اللي عملتيه، ايوه نيتك خير مع نيرمين، بس أنا خايفة لما هي تعرف إنه كان ملعوب منكم عشان هي ترضى تتعالج تقلب الدنيا!
, لم تعلق عليها وأصغت بانتباه تام لكل كلمة تقولها، فتابعت عواطف مضيفة بتساؤل مريب:
, -طب ايه الحل ساعتها لو مشاعرها اتطورت مع جوزك؟
, تجمدت أنظار أسيف عليها حائرة في إيجاد الرد المناسب عليها، كانت محقة في تلك الجزئية الحساسة، أضافت عمتها بجدية شديدة:
, -نيرمين٣ نقطة تقريبًا بتحبه!
, لم تكن مندهشة من تصريحها، لكن خفق قلبها بتوتر رهيب من مجرد التفكير في ذلك الأمر من منظور عمتها، شعرت بجفاف حلقها، فمدت يدها لترتشف الماء من الصنبور، وقفت عواطف خلفها مكملة حديثها العقلاني:
, -وكمان إنتي مش ملاحظة إنه اتغير من ساعة الموضوع ده، معدتش بيجي زي الأول ولا بيتكلم معاكي، فكرك هو راضي باللي حصل؟!
,
, شحوب مخيف غطا تعبيرات وجه نيرمين بعد سماعها للحقيقة الصادمة مصحوب بانقباضة قوية اعتصرت قلبها بعد اكتشافها مصادفة أمر تلك الحقيقة المرة التي لم تطرأ ببالها أبدًا، كانت هي بطلتها بجدارة، إشفاقًا على حالها أقدمت ابنة خالها على اختلاق كذبة المشاعر لتغرقها من جديد في أحلام لا أمل منها، كتمت بيدها شهقة كانت على وشك الخروج من جوفها لتفضح أمرها.
, تابعت أسيف موضحة أسباب لجوئها لتلك الوسيلة:
, -يا عمتي محدش جرب زيي إنه يخسر حد عزيز عليه في لحظة!
, اختنق صوتها وهي تضيف متأثرة:
, -إنه يختفي فجأة من حياته، وإنك تبقى لوحدك!
, بدت على وشك البكاء وهي تكمل بصعوبة:
, -أنا جربت مرارة اليتم والوحدة، ومش عاوزة بنت نيرمين تجربها، ومش عاوزاكم انتو كمان تحسوه!
, وضعت عواطف يدها على ذراعها لتمسح عليه برفق وهي تقول بحذر:
, -**** ما يجيب حاجة وحشة! احنا عشنا ده مع جوزي **** يرحمه والبنات جربوا إحساس الوحدة واليتم، ومش هاقولك إيه اللي حصلنا بعد كده، بس **** عوضنا، وأنا عملت اللي عليا عشان أعوضهم عن غيابه!
, صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها ثم استأنفت محذرة بجدية:
, -أنا خوفي كله من ردة فعل نيرمين، جايز متقدرش اللي عملتيه عشانها، وإنتو الاتنين بينكم مصانع الحداد، وهي مش بالساهل تسيب حاجة عاوزاها، وخصوصًا إن ده ٣ نقطة منذر.. جوزك!
, زادت مخاوفها من احتمالية خسارة زوجها بسبب حسن نيتها، فهتفت بقلق كبير:
, -أنا غرضي كان خير و****!
, -مش كل الناس بتفكر زيك!
,
, تراجعت مسرعة قبل أن تكتشف إحداهما أمرها، هرولت إلى غرفتها موصدة الباب خلفها، ومحدقة أمامها بأعين دامعة، وضعت يديها على رأسها ضاغطة عليه بقوة:
, -كانوا بيضحكوا عليا، بيستغفلوني عشان أنا٤ نقطة!
, قطمت عبارتها لتهدج أنفاسها باضطراب ملحوظ، شعرت بهبوط حاد في معنوياتها المرتفعة، وبتثبيط رهيب في مناعتها، بألم قاتل يجتاح رأسها حتى كاد يفتك به، استنزفت مشاعرها مجددًا، وخبت أحلامها تمامًا، وانهار كل شيء في لحظة، زادت حدة الألم واشتدت قسوته، فعجزت عن الصمود، ترنح جسدها، وسقطت على ركبتيها لتبكي متألمة:
, -طب ليه؟ اشمعنى أنا؟
, غلت الدماء في العروق المغذية لخلايا عقلها، فشعرت بنيران متأججة تحرقه، لم تتحمل المزيد من الضغوطات المميتة، فصرخت بوجع حقيقي:
, -ليه أنا؟ لييييييييه؟
, ٤٠ نقطة
, امتثلت لرغبته الملحة في رؤيتها بسبب حاجته لمساعدتها في إقناع صغيره في مسألة عجز هو عن إقناعه بها، انتظرها بجوار مقر عملها ليحدثها على انفراد، فخرجت إليه متهادية في خطواتها، ابتسم لرؤيتها وهو يعتدل في وقفته بعد أن كان مستندًا على باب سيارته الجانبي، استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
, -أنا عارف إني بأتقل عليكي بس محدش قدامي إلا انتي، ويحيى بيحبك وبيسمع كلامك
, ردت عليه بابتسامة صغيرة:
, -اتفضل، أنا تحت أمرك!
, حك مؤخرة رأسه متابعًا بحذر:
, -هل ينفع أطلب منك توصليه للمدرسة؟
, قطبت ما بين حاجبيها مرددة باندهاش:
, -المدرسة؟!
, أضاف موضحًا بضيق ظاهر في نبرته:
, -هو مش عاوز يروح خالص
, مطت بسمة شفتيها قائلة باستغراب:
, -غريبة، طب ليه كده؟
, أجابها بامتعاض:
, -مش عارف، وأنا مش حابب أضغط عليه عشان مايكرهش المكان!
, سألته باهتمام وهي ترمش بعينيها:
, -طيب مش سألته إيه اللي مضايقه؟
, أجابها دياب بتهكم مزعوج:
, -مابخدش منه عقاد نافع
, حدقت فيه بنظرات فارغة تفكر مليًا فيما قاله، بينما طالعها هو بنظرات عميقة محاولاً سبر أغوار عقلها، التوى ثغرها بابتسامة واثقة وهي تقطع حاجز الصمت المؤقت:
, -اوكي، سيب الموضوع ده عليا، وأنا هاتصرف
, شعر بالارتياح لتجاوبها معه، واستشف احتمالية وصولها إلى حل ما، فردد بتفاؤل ممتن:
, -أنا مش عارف أقولك ايه!
, أشارت بكفها قائلة بهدوء:
, -ماتقولش حاجة!
, لم يكن ليفوت الفرصة هكذا دون أن يضع لمسة خاصة به، فهمس مداعبًا عن قصد:
, -**** يخليكي ليا وتفضلي في حياتنا احنا الاتنين على طول!
, تحرجت من غزله المتواري، فأخفضت رأسها متجنبة النظر إليه وقد شعرت بسخونة طفيفة في وجنتيها، اتسعت ابتسامته وهو يكمل:
, -تحبي نوديه دلوقتي؟ مش هأخرك، هي ساعة بالكتير
, ردت باقتضاب وهي ترمش بعينيها:
, -ماشي!
, ٤٠ نقطة
, لاحقًا، توجهت معه إلى منزل عائلته حيث انتظرتهما جليلة التي كعادتها رحبت بها ترحيبًا ودودًا معبرة عن فرحتها بمجيئها، ولجت بسمة إلى غرفة الصغير يحيى، فقفز من على فراشه ليحتضنها هاتفًا بمرح:
, -مس بسمة!
, ضمته هي الأخرى إلى صدرها حاملة إياه على ذراعها، ثم دغدغته بلطف لتعلو ضحكاته اللاهية معها كتمهيد حذر قبل أن تسأله بخفوت:
, -ايه رأيك أنا هاوصلك المدرسة!
, عبس سريعًا، وحل الوجوم على تعبيرات وجهه البريئة قائلاً بتذمر:
, -مش عاوز
, سألته مستفهمة محاولة تخمين أسباب ذلك التحول المريب في تصرفاته للنقيض تمامًا:
, -يعني مش عاوز تروح معايا يا يحيى؟
, أجابها بصوت خفيض:
, -لأ عاوز أفضل معاكي، بس المدرسة لأ!
, جلست على طرف الفراش ووضعته في حجرها متسائلة بجدية ومحافظة في ذات الآن على ابتسامتها الودودة:
, -طب ليه؟
, هز كتفيه معترضًا بعبوس:
, -كده!
, تابعت قائلة بجدية وهي تعبث بخصلات شعره:
, -طيب أنا هاقعد معاك في الكلاس، ايه رأيك؟
, صمت ولم يعقب عليها، فأكملت وهي تداعبه برقة:
, -يعني مش هامشي ولا هاسيبك، هافضل طول اليوم معاك!
, شعر الصغير باطمئنان طفيف في كلماتها، وبأمان شديد ينبعث من نظراتها، فردد بجدية:
, -بجد؟
, أومـــأت برأسها بالإيجاب وهي ترد:
, -اه يا حبيبي، خلاص موافق؟
, تعلق الصغير بعنقها متابعًا ببراءة:
, -ماشي، بس مش تمشي وتسيبني!
, مسحت على ظهره برفق قائلة:
, -لأ، أنا معاك، نقوم نلبس بقى!
, ٤٥ نقطة
,
, اتفق دياب مع ناظرة رياض الأطفال على استضافة صغيره مجددًا لبعض الوقت دون الالتزام بالجدول الدراسي ليعاود الاندماج مع زملائه تدريجيًا بعد حالة النفور الغريبة والممزوجة بالخوف والتي سيطرت عليه من المكان، ووافقت هي بصدر رحب على ذلك الأمر لكونه يخدم مصلحة الصغير ويراعي نفسيته المهتزة ويؤدي في الأخير إلى تبديد خوفه الغير منطقي.
, ظل يحيى جالسًا في أحضان بسمة التي كانت جالسة بجوار والده متحرجة من الأمر برمته، لمحتهما مصادفة طليقته السابقة وهي تتجه إلى محطة الوقود، فرأت ثلاثتهم سويًا كأسرة واحدة، اشتعلت بها نيران الغيرة والغضب، تمتمت بحنق واضح وقد اصطبغت أعينها بحمرة حارقة:
, -ده مكاني مش هي!
, عمدت إلى ملاحقتهم لتفسد عليهم لحظاتهم الخاصة، فضغطت على دواسة البنزين لتتجاوزهم، ثم أوقفت السيارة فجأة أمامهم لتسد عليهم الطريق، مما أجبر دياب لاستخدام المكافح بصورة فجائية وحرفية ليمنع ارتطام حتمي، اندفعت أجسادهم للأمام كردة فعل طبيعي للتوقف المباغت.
, سريعًا ما تحولت أنظاره للشراسة حينما رأى ولاء ترمقه بنظرات مغتاظة، ترجل من السيارة مندفعًا نحوها بعصبية وهو يصرخ:
, -انتي اتهبلتي يا ٨ نقطة!
, ترجلت من سيارتها لتنظر لها بحدة وهي ترد بتشنج:
, -عاوزة ابني اللي راميه في حضن واحدة تانية!
, إهانة قوية تلقتها بسمة وكتمتها في نفسها، وتابعت بأعين نارية ذلك الصدام الحامي بينهما، دفعها دياب من كتفها هادرًا فيها بصوت جهوري غاضب:
, -الواحدة دي جزمتها القديمة برقبة 100 من أمثالك!
, أحست بسمة بالفخر لكونه يدافع عنها بضراوة معيدًا لها قبل أن تتطاول أكثر عليها وتسيء لها، فتشكل على ثغرها ابتسامة راضية، وعلى العكس تمامًا كانت تحترق ولاء في مكانها من مدحه لأخرى، وخاصة هي، فضغطت على شفتيها مرددة بتشنج:
, -أتكلم كويس ماتنساش أنا أبقى أم ابنك و٤ نقطة
, قاطعها هادرًا وهو يرمقها بنظرات احتقارية:
, -أمه على الورق وبس، ده أخرك!
, خافت بسمة من تطور الأمور بينهما خاصة أن الصغير يراقب الوضع معها بنظرات متوترة، لذا بحرص شديد طلبت منه الجلوس في الخلف، وساعدته على الانتقال إلى المقعد الخلفي، ثم أعطته هاتفها المحمول وزودت به السماعات ليضعها في أذنيه، فاستمع الصغير للموسيقى المرحة مدندنًا معها، وأدارت هي رأسها في اتجاه دياب لتتابعه عن كثب.
, زادت نظراته المهينة لطليقته قوة حينما تأمل ثيابها الفاضحة التي تزداد عُريًا مع الأيام، لم تكن ترتدي سوى ثوبًا قصيرًا يبرز كتفيها وساقيها ويغطي فقط عنقها، بالإضافة إلى كم مساحيق التجميل المبالغة التي تلطخ وجهها بها، تابع مكملاً باشمئزاز صريح:
, -بصي لمنظرك الأول قبل ما تكملي معايا، إنتي بقيتي شبه الـ٧ نقطة !
, فغرت ولاء شفتيها مغتاظة من إساءته لشخصها، وما زاد من غضبها هو أنه أهانها أمامها، فهتفت بنزق:
, -بقى عامل الشويتين دول عشان تترسم قصاد دي! خلاص فهمت الدور!
, رد عليها محذرًا بعدائية مهددًا بصفعها بظهر كفه:
, -اخرسي ما تجبيش سيرتها على لسانك!
, تلك المرة لم تتحمل بسمة الإهانة، فترجلت من السيارة مندفعة نحوها بتحفز رهيب، تأبطت سريعًا في ذراع دياب ليتفاجيء هو من فعلتها، سلطت أنظارها الحادة عليها لترمقها بنظرات دونية وهي تقول ببرود مستفز:
, -بتكلمي مع خطيبي ليه؟
, ارتسمت علامات الذهول على وجه دياب وتبدلت في لمح البصر إلى فرحة غامرة، لم يستطع التعبير عن مشاعره لكنه كان كمن بلغ عنان السماء بجملتها تلك، صفعة قوية تلقتها ولاء في قلبها لتظل متسمرة في مكانها مصدومة مما سمعته، أفاقت من صدمتها الكبيرة على صوت دياب القائل بجفاء:
, -خدي بعضك وامشي من هنا، الأشكال اللي زيك مايشرفناش نتكلم معاها
, احتقنت الدماء بداخلها، شعرت بفوران محتد يشتعل بداخلها، فهدرت منفعلة:
, -وأنا مش هاسيب ابني لوحدة زي دي تربيه، هاخده منك وغصب عنك، وابقى وريني هاتعمل ايه!
, نظر لها متحديًا وهو يرد بشراسة مهددة:
, -أعلى ما في خيلك اركبيه، وأنا هاطلعلك القديم كله، وخلي يحيى يعرف أمه كانت ايه!
, ابتلعت ريقها بخوف من كلماته المهددة، هي تعلم جيدًا أنه لا يعبث معها، وأنه لن يسمح لها بأخذ صغيرها رغمًا عنه حتى ولو بحكم القانون، نظرت له بغيظ مكتوم، ووضعت يدها على قبضة باب سيارتها لتركبها وهي تصيح بعصبية، لكن لم ينتبه دياب لها بل وضع يده على قبضة بسمة ليضغط عليها بأنامله وهو يبتسم لها بإشراق، ورغم تحرجها منه إلا أنها حافظت على ثباتها حتى تنصرف تلك البغيضة من أمامهما، وما إن ابتعدت حتى سحبت يدها مرددة بحرج:
, -سوري إن كنت قولت ٤ نقطة
, قاطعها بتلهف وهو ينظر لها بحنو كبير:
, -يا ريته يكون بجد، أنا نفسي في كده و****، اديني بس فرصة وأنا٣ نقطة
, قاطعته بسمة مجددًا متنحنحة بخجل:
, -احم.. احنا اتأخرنا كده، يالا بينا
, كان سعيدًا بظهور بوادر طيبة في علاقتهما الغير معلومة المصير، وأثر عدم الضغط عليها كي لا يفسد تلك اللحظة الحميمية التي قلما تحدث، هز رأسه مرددًا:
, -ماشي، براحتك..!
, ٤٠ نقطة
,
, أوقف سيارته عند مدخل بوابة المدرسة الرئيسية، وترجل منها منتظرًا نزول ابنه وبسمة، ارتجف الصغير رغم إحاطتها له لتبث فيه إحساس الأمان، لكن زاد يقينها أن ما يمر به مرتبط بمكروه قد تعرض له داخل ذلك المكان، التفت يحيى ليدفن رأسه في حضنها هاتفًا بخوف:
, -عاوزة أروح البيت، مش عاوز هنا!
, انحنت عليه لتقبله من رأسه هاتفة بحنو وهي تربت على ظهره بلطف:
, -ماتخفش يا حبيبي، أنا جاية معاك ومش هاسيبك، وبابي كمان معانا!
, هز رأسه معترضًا:
, -مش عاوز، خلينا نمشي!
, كان دياب على وشك الصياح فيه لكنها أشارت له بعينيها محذرة ليتراجع مجبرًا عن تعنيفه له، داعبت خصلات رأسه مرددة بلطف:
, -ماشي، هاندخل نجيب الهوم ورك ونمشي، اتفقنا
, رد مصرًا:
, -لأ
, زفر دياب بانزعاج كبير شاعرًا بالضجر لعناد ابنه الذي يزيد من غضبه، لكن استمرت بسمة في استخدام أسلوب الرفق واللين معه، وبعد محاولات مضنية لإقناعه بشتى الطرق وافق بصعوبة على الدخول، كانت كمن يجره لحتفه رغم حدسها الذي ينذرها بذلك، لكنها أرادت معرفة سبب خوفه الحقيقي.
, صادف وقت وصولهم لفناء المدرسة وقت الفسحة الخاصة بطلاب المرحلة الابتدائية، وكان هو بشخصه المقزز ضمن معلمي الإشراف، تحرك بؤبؤي الصغير بعفوية نحو شيطانه المهلك حينما سمع صوته يصيح في الطلاب:
, -محدش يوقع زميله!
, ارتعدت فرائصه وزادت رعشته، شعرت بسمة بيده ترتجف داخل قبضتها، فالتفتت برأسها نحوه متسائلة بتوجس:
, -مالك يا يحيى؟
, ترقرقت العبرات في مقلتي الصغير، وتجمدت الكلمات على طرف لسانه فبدا كمن فقد النطق، لكن بقيت أنظاره مثبتة عليه هو فقط، رفعت بسمة وجهها للأمام لتدير رأسها نحو الزاوية المحدق بها، فشخصت أبصارها هلعًا هي الأخرى حينما وقعت أنظارها عليه، لقد عرفته فورًا، لم تنساه للحظة، ولم يغب عن عقلها ذكرى ليست بالسارة على الإطلاق ٤ نقطة
, ٤٢ نقطة
,
, عادت بذاكرتها لفترة مضت، ظنت أنها نسيتها وطوتها مع ما يطوى من ذكريات مشينة، إنه ذلك الوقح الدنيء الذي كان متواجدًا في ليلة زفاف أختها، على ما تذكر كان رفيق طليقها الذي كان ملازمًا له، رأت نظراته المسلطة عليها ولم ترتح لها أبدًا، وتحاشت على قدر الإمكان الاقتراب منه، واهتمت بمتابعة الضيوف الحاضرين.
, تعمد في لحظة ما أثناء انشغالها بالحفل الالتصاق بها من الخلف لتشعر بشيء ما يلامس جسدها فانتفضت لأكثر من مرة مستنكرة ذلك الإحساس المرعب الذي جعل ساقيها يتحولان كالهلام، في البداية ظنت أنها تتوهم ما تشعر به، ولكن حينما استدارت للخلف رأته يرمقها بنظرات شهوانية مخيفة أجفلت جسدها، أخفض بصره ليشير إلى منطقة ما محظورة، فاتسعت حدقتاها برعب، وقبل أن تفتعل فضيحة كبيرة همس لها بلؤم متمرس مهددًا إياها:
, -جربي تفتحي بؤك وهاقول إنك إنتي اللي ٥ نقطة
, غمز لها بثقة ليؤكد لها عدم اكتراثه بما ستفعله، فاكتفت بصفعه بقوة قبل أن تتوارى عن أنظاره لباقي الحفل حتى انقضى اليوم وانقضت معه تلك الذكرى التي عاهدت نفسها على عدم ذكرها، ولم تلتقِ به بعدها بالإضافة إلى رفضها الذهاب إلى منزل عائلة طليقها كي تتجنب الالتقاء حتى به ولو مصادفة.
, ٥٠ نقطة
, تلك الانتفاضة المخيفة أنعشت ذاكرتها من جديد فشحب وجهها سريعًا، وتذكرت ابتسامته الوضيعة التي كانت تبرز بثقة من خلف أنيابه، انكمشت على نفسها، وضمت الصغير عفويًا إليها لتحميه، شعر دياب بوجود خطب ما بها، وتفرس في تعابيرها المتحولة للارتعاد والذعر متسائلاً:
, -في ايه؟
, بقيت أنظارها عالقة على وجه ذلك الحيوان القذر، لم تحد عنه، فأدار دياب رأسه في اتجاهه ليرى بوضوح ما الذي تحدق فيه، تجهمت قسماته وهو يسألها بنفاذ صبر:
, -بتبصي على مين كده
, لا إراديًا همست بصوت شبه مختنق:
, -هو.. هو!
, لم يفهم مقصدها فسألها بضيق:
, -مين ده؟
, تساءلت بلا وعي وهي تحاوط الصغير بذراعيها:
, -يحيى ده عملك حاجة؟
, أجابها بصوت مرتجف وهو يتشبث بها أكثر:
, -ده العوو، أنا عاوز أمشي من هنا قبل ما ياكلني ويموتني!
, لم يفهم دياب كلماتهما الغامضة فوزع أنظاره عليهما متسائلاً بعصبية:
, -في ايه يا بسمة؟
, أجابته بتلعثم وهي تتراجع للخلف:
, -دياب، أنا.. ده..
, أمسك بها بقبضته من ذراعها ليجبرها على التوقف وهو يهتف بزمجرة:
, -ركزي معايا، في ايه؟
, استجمعت شجاعتها لترد بنبرة تحمل الكثير من الحنق والغضب وهي تشير بسبابتها نحو ناصر؛ صاحب الوجه الذي لم تنساه أبدًا:
, -الحيوان ابن الـ٨ نقطة شكله عمل حاجة في ابنك ٤٠ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨٤
توهجت أعينه المحتقنة بنيران مشتعلة عقب جملتها التي تقشعر لها الأبدان لمجرد تخيل ما يمكن أن يفعله ذئب كهذا في *** بريء لا يفهم من الدنيا إلا القليل، جمد أنظاره عليها متسائلاً بشراسة مخيفة:
, -نعم؟ بتقولي ايه؟
, ضمت الصغير إلى أحضانها لتحميه وهي تجيبه بغل واضح:
, -الكلب ده أكيد اتعرض لابنك!
, احتدت نظراتها وهي تضيف بتشنج مريب:
, -أنا عمري ما أنسى الشكل الزبالة ده أبدًا!
, لم تعرف أنها بكلماتها المخيفة تلك تزيد من نيرانه المستعرة بداخله، خاصة أنها لم تكن تشير إلى فلذة كبده فقط، بل إليها هي الأخرى، فهم مقصدها سريعًا، وأدرك أنه ربما تطاول باليد عليه، إن لم يكن الأمر قد وصل إلى الاعتداء الجنسي، الآن فسر سبب رهبة صغيره وخوفه المستمر، كان على قدر من الغباء ليغفل عن وجود ذئب بشري وسط هؤلاء الصغار ليعثو معهم دون رقيب أو عتيد، بلغ قمة غضبه في أقل من ثوانٍ معدودة وهو يتخيل الأسوأ، هدر آمرًا فيها من بين أسنانه المضغوطة بعصبية:
, -ارجعي العربية حالاً
, بدت شاردة وكأنها لم تنتبه لأمره الصريح، فقط نظراتها المشمئزة مسلطة على وجه ذلك الحيوان المريض، كانت تود الهجوم عليه ونبش أظافرها في عنقه لتنهش لحمه النتن حيًا فتمزقه إربًا، اغتاظ دياب أكثر من جمودها، فرفع كف يده ليضعه على فكها، وأدار وجهها ناحيته فحدقت في عينيه بتوتر كبير، رأت علامات تؤكد وجود رد قاسٍ على ما سمعه منها، رد لن يقبل فيه بالسماح مطلقًا أو التهاون في حقها أو حق صغيره أو حق أي مظلوم كان من ضحاياه، ضغط بأنامله على فكها صائحًا:
, -سمعتيني، استني في العربية!
, هزت رأسها ممتثلة لأمره بخنوع كبير، أرخى أصابعه عنها لتتحرك بارتجافة طفيفة للخلف وهي ضامة للصغير يحيى في أحضانها، تابعها بترقب حتى ابتعدت نسبيًا، فاستدار برأسه ناحية ذلك الوضيع القذر ليرمقه بنظرات مهلكة، دس يده في جيب بنطاله ليخرج هاتفه المحمول، انتظر للحظة قبل أن يأتيه رد أخيه قائلاً:
, -في ايه يا دياب؟
, أجابه بنبرة تحمل الوعيد:
, -عاوزك تجيب رجالتنا يا منذر وتجيلي عند مدرسة يحيى دلوقتي
, سأله منذر مستفهمًا خاصة أن طلبه يشير إلى وجود أمر مريب وخطير في نفس الوقت:
, -حصل ايه؟ الواد ماله؟
, أجابه بانفعال وهو يجاههد لإخفاء نبرة صوته:
, -عرفت مين اتعرضله!
, سأله منذر بنبرة حادة:
, -اتعرضله! قصدك ايه؟ أنا مش فاهمك! في ايه يا دياب؟
, سحب نفسًا عميقًا ليضبط أعصابه قبل أن ينفجر من كثرة ما يكتمه في صدره، ثم هتف بشراسة وهو يضغط على شفتيه:
, -ابن ١٦ نقطة لمس ابني، سامعني يا منذر، لمسه! وأنا هاخد حقي منه!
, رد عليه محذرًا:
, -اهدى، وامسك أعصابك لحد ما أجيلك، واحنا هانفخ اللي جابوه، وهانطلع ٢٠ نقطة٣ علامة التعجب
, لمح دياب مصادفة أخته الصغرى أروى بالفناء وهي تلهو مع رفيقاتها، فانتفض قلبه فزعًا عليها خاصة أن أنظار ذلك الوضيع الغير بريئة كانت مسلطة على أغلب الفتيات، فقد أعصابه وهو يحدث أخيه:
, -وجايز يكون جه جمب أختك واحنا نايمين على ودانا ومش عارفين!
, سمع صوته الهادر يخرج من الهاتف قائلاً بوعيد:
, -مش هانسيبه، اصبر عليا لحد ما أجيلك!
, صر على أسنانه هاتفًا:
, -ماشي!
, أنهى معه المكالمة ليتقدم نحو الفناء هاتفًا بنبرة عالية متعصبة:
, -أروى!
, استمر في خطواته المتحركة نحوها متابعًا بصياح هادر:
, -أروى، بت يا أروى!
, انتبهت لصوته فتهللت أساريرها قائلة:
, -أبيه دياب!
, اقترب منه أحد المشرفين متسائلاً بجدية:
, -ايوه يا فندم، في حاجة؟
, نظر له دياب بازدراء وهو يرد بتجهم:
, -جاي لأختي!
, هز المشرف رأسه متابعًا بجدية وهو يشير بيده:
, -تمام، حضرتك لو عاوز تاخدلها إذن تقدر تكلم الوكيل و٤ نقطة
, قاطعه متسائلاً بصوت شبه متشنج:
, -هاخدها، بس قولي مين الأستاذ اللي هناك ده؟
, نظر إلى حيث يشير فأجابه ببساطة:
, -إنت تقصد أستاذ ناصر، مدرس الصيانة؟!
, ضاقت نظراته حتى صارت أكثر حدة، وأردف متسائلاً بامتعاض:
, -أيوه، هو بقاله كتير هنا؟
, رد عليه المشرف موضحًا:
, -لأ منقول قريب، بس في حاله، محدش يعرف عنه كتير!
, التوى ثغره للجانب مرددًا بسخط:
, -ما هو باين!
, أضاف المشرف بجدية:
, -ممنوع حضرتك تتواجد في٥ نقطة
, قاطعه دياب وهو ينظر له بحنق:
, -خلاص فهمتك!
, أدار رأسه ناحية أخته الصغرى متابعًا بصرامة تفهمها جيدًا:
, -اطلعي فصلك يا أروى هاتي شنطتك وتعاليلي، أنا هستناكي هنا، وإياكي تكلمي أي حد! سمعاني!
, هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد:
, -حاضر!
, ظلت أنظاره مثبتة عليها حتى اطمئن لدخولها دون أن يمسها ذلك الوضيع الحقير بنظراته، فتحرك نحو مكتب وكيل المدرسة ليحصل على إذن بالانصراف مبكرًا قبل انتهاء اليوم الدراسي.
, ٣٨ نقطة
, على الجانب الأخر، جلست بسمة بالسيارة محتضنة الصغير تمسح على ظهره محاولة امتصاص حالة الخوف التي سيطرت عليه، منحته عشرات القبلات الأمومية الحانية التي ساعدت على التهدئة من روعه، تلفتت برأسها للجانب بين لحظة وأخرى لتحدق في بوابة المدرسة متوقعة خروج دياب، لكنه لم يأتِ، فدار في رأسها عشرات السيناريوهات لما يحدث، أغمضت عينيها بقوة لتنفض صورة هذا الدنيء عن عقلها، لكن ابتسامته المقززة كانت تبرز لها بوضوح لتنغص عليها سكونها، اشتدت تعابير وجهها حدة، وتمتمت بخفوت:
, -**** يولع فيك وفي اللي زيك!
, حاولت بحرفية استدراج الصغير يحيى لمعرفة إلى أي مدى قد تطاول عليه وتلمس جسده، اقشعر بدنها وأصيبت بالنفور والتقزز لمجرد فقط تصور ذلك الأمر يحدث معه أو مع غيره، تنفست بعمق لتضبط انفعالاتها، فقد شعرت بغلو دمائها، وبحرارة متأججة في صدرها تحثها على الترجل من السيارة والفتك به، هي خاضت ذلك الإحساس المرعب من قبل، فماذا عن صغار ضعفاء عاجزين عن الفهم أو التفسير؟
, رسمت ابتسامة مصطنعة على ثغرها وهي تسأل يحيى بهدوء:
, -قولي يا حبيبي، العوو ده حط ايده على جسمك!
, أجابها ببراءة وهو يدفن رأسه في صدرها:
, -ده عاوز يموتني!
, مسحت على رأسه برفق، وأبعدته عنها لتنظر إلى وجهه ببشاشة مطمئنة إياه وهي تتابع بحذر:
, -متخافش، مش هيقرب منك، بابي هايضربه زي ما احنا عملنا مع الأشرار، مش هايقرب منك خالص، مش إنت بتصدق مس بسمة!
, هز رأسه بإيماءات متكررة، فابتسمت لتجاوبه معها، تابعت متسائلة بجدية شديدة وهي تشير إلى جزء محدد من جسده:
, -ها حط ايده هنا؟
, أجابها باقتضاب وهو عابس الوجه:
, -لأ
, أخفضت يدها لتشير إلى الجزء السفلي من جسده دون أن تلمسه وهي تسأله بهدوء رغم توترها:
, -طب هنا؟
, رد نافيًا:
, -لأ
, تنهدت بارتياح لعدم المساس به، إذًا فأمر الاعتداء الجسدي الصريح بات مستبعدًا، تابعت متسائلة بتريث وهي محافظة على تلك الابتسامة الودودة:
, -أومال عملك ايه؟
, استخدم يحيى الصغير يديه وهو يجيبها ببراءة:
, -خانقني كده، وكان بيبوس بنت كده، وهي بتعيط!
, اتسعت حدقتاها بهلع فقد استشفت من كلماته المقتضبة اعتدائه على طفلة أخرى وقعت كضحية في طريقه الشيطاني، ضمته إلى صدرها، ومسحت عليه برفق لتزيد من إحساسه بالعاطفة الأمومية المطمئنة، ثم طبعت على وجنته وجبينه قبلات صغيرة وهي تقول بخفوت:
, -حبيبي، احنا كلنا جمبك، متخافش
, هتف يحيى بعبوس قليل:
, -يالا نمشي، أنا عاوز أروح البيت
, ردت عليه بصوت خفيض:
, -هنمشي، بس بابي يجي من جوا!
, مرت الدقائق طويلة عليها إلى أن رأت دياب يلج من البوابة ممسكًا بيد أخته الصغرى، نست أمرها تمامًا، وانقبض قلبها بقوة، خافت أن يكون قد نال منها بصورة أو بأخرى، شحب وجهها وهي تنظر إلى وجهها الضحوك، تحركت أعينها نحو وجهه المكفهر، فشعرت بما يعتريه من مشاعر مشتعلة، أشار لها بيده قائلاً:
, -اركبي ورا!
, أزاحت بسمة الصغير عن قدميها، وأرجعته بحرص للخلف لتترجل من السيارة متسائلة بتوجس:
, -حصل ايه؟
, رمقها بنظرات نارية وهو يرد بتشنج آمر:
, -ماتنزليش من العربية
, زاد قلقها من طريقته الهجومية فسألته بخوف:
, -في ايه يا دياب؟ إنت كده قلقتني، هو قرب من أروى؟
, رد بغموض أكبر وهو يجبرها على دخول السيارة:
, -متسأليش، اركبي!
, اعترضت على أسلوبه الحاد معها قائلة:
, -بس٣ نقطة
, هتف مقاطعًا بصلابة:
, -بسمة، أنا فاضلي تكة وهاولع في أم المدرسة باللي فيها، اركبي وانتي ساكتة
, ردت باحتجاج متذمر وقد اكتسى وجهها بحمرة منفعلة:
, -من حقي أعرف عملهم ايه الـ٦ نقطة ده! أنا عارفاه من أيام أختي و٤ نقطة
, لم يكن بحاجة إلى تلميحها الضمني لكونه قد أساء لها لتلهب ثورته وتشعل بركان غضبه الذي يهدد بالانفجار توًا، زفر صائحًا بنفاذ صبر:
, -بسمة بلاش تستفزي أعصابي، اسكتي دلوقتي
, استشعرت حالة العصبية المسيطرة عليه، فتراجعت عن عنادها مضطرة وهي ترد بامتعاض:
, -حاضر يا دياب!
, اختنق صوتها وصار أكثر حدة وهي تكمل بصعوبة:
, -بس الكلب ده ليه تار معايا، ومش هاهدى إلا لما أشوفه متعلق!
, نظر لها بجمود رغم اشتعال نظراته، كان حديثها يعكس الكثير، لكنه كان كافيًا لإعطاء إشارة لقتله، ركبت السيارة فصفق الباب خلفها متطلعًا أمامه بنظرات حادة تحمل الكثير، لم يفارق الهاتف أذنيه فقد كان بين فنية وأخرى يهاتف أحد ما، حاولت هي تخمين هوية المتصل، لكنها لم تعرف، وزال فضولها حينما رأت منذر مستقلاً إحدى شاحنات النقل التابعة له وبصحبته عدد من عماله، هنا أيقنت أن الأمر لن يمر على خير.
, تعلقت أنظارها بدياب الذي أسرع ناحية أخيه، لم يختلف حاله عنه كثيرًا، خرجت من تحديقها المتمعن بهما على صوت أروى المتسائل بفضول:
, -هو احنا مستنين ايه يا مس؟
, استدارت برأسها نصف استدارة لتجيبها بحذر:
, -مش عارفة!
, عاودت التحديق في دياب وأخيه فرأتهما يتبادلان إشارات غاضبة باليد، ونظراتهما تحملان الوعيد بالرد القاسي، حاولت قدر الإمكان فهم ما يقولان ووصل إلى مسماعها تهديدات بالانتقام الشرس، التفت دياب ناحيتها ليجدها محدقة فيه فعاود النظر لأخيه ليضيف شيء ما، ثم لوح له بيده وهو يتحرك عائدًا نحوها.
, لم ينطق بكلمة واحدة وهو يفتح الباب ليجلس خلف المقود، فسألته بجدية:
, -حصل ايه؟
, أجابها بغموض دون أن يلتفت نحوها:
, -هتعرفي دلوقتي!
, ابتلعت ريقها متوقعة الأسوأ، هي تعرف تلك التعبيرات جيدًا، وقرأتها من قبل حينما يوشك على رد الصاع صاعين لمن يتجرأ عليه، التزمت بالصمت تفكر مليًا فيما سيفعله بالوضيع ناصر، هو يستحق الشنق لا محالة لتجرأه على الصغار ممن يغتال برائتهم، فلا يستطيعون البوح بما يتعرضون له سرًا ورغمًا عنهم.
, ظل منذر واقفًا بجوار الشاحنة متطلعًا إلى بوابة المدرسة ومن حوله عماله، كانوا على أهبة الاستعداد، أدار بصره في اتجاه أخيه ليرسل له إشارة ضمنية ليبدأ بعدها في إدارة محرك السيارة، شعرت بسمة بالخوف فتساءلت:
, -انتو هتعملوا ايه؟
, لم يجب عليها، بل وجه سؤاله لأخته الصغرى وهو يحدق بها عبر مرآته الأمامية:
, -أروى، مدرس الصيانة ده جه جمبك؟
, سألته أخته باستغراب وهي قاطبة لجبينها:
, -مش فاهمة يا أبيه؟
, التفتت برأسها للخلف لتحدق في وجه أروى الحائر، وقبل أن تتفوه بكلمة سألها دياب بحدة قليلة:
, -مد ايده عليكي؟
, توترت بسمة من نوعية الأسئلة التي يطرحها عليها، بينما أجابته أروى ببساطة وهي تهز رأسها نافية:
, -لأ
, تابع مضيفًا بحدة:
, -ضربك قبل كده أو٣ نقطة
, تلك المرة قاطعته بسمة مرددة بقوة مستنكرة طريقته في استجواب أخته وكأنه متهمة ما:
, -دياب!
, رد بانفعال وهو يقبض على مقود السيارة بأنامله:
, -نعم؟ مش أختي معاه في المدرسة ولا مش واخدة بالك؟
, حاولت أن تمتص غضبه قائلة بحذر وهي توميء له بعينيها:
, -بس مش كده؟
, سألها بنفاذ صبر وقد اشتدت تعابيره:
, -أومال ازاي؟
, أشارت له بقبضتها محذرة:
, -بالراحة شوية!
, ضغط على شفتيه مرددًا باقتضاب:
, -ماشي!
, تنفس بعمق ليخرج بعدها زفيرًا قويًا، ثم تابع متسائلاً بتريث:
, -أروى اللي اسمه ناصر ده هزر معاكي قبل كده ولا مع حد من أصحابك؟ ضايقكم يعني؟
, هزت رأسها نافية وهي ترد:
, -لأ يا أبيه، مستر ناصر مدخلناش إلا مرة، وأنا غبت عشان فرح أبيه منذر و٣ نقطة
, شعر بالارتياح لكونها كانت في منأى عن نجاسته، فرد باختصار:
, -تمام!
, اكتفى مما سمعه فضرب بيده على المقود متابعًا
, -أنا نازل أجيب أمه!
, انقبض قلبها بقوة خوفًا عليه، فسألته بتلهف:
, -دياب إنت رايح فين؟
, رمقها بنظرة أخيرة دون تعليق قبل أن يخطو نحو أخيه متسائلاً بحزم:
, -جاهز يا منذر؟
, هز رأسه بالإيجاب وهو يرد:
, -ايوه، هاته برا واحنا هنتصرف معاه!
, كور دياب قبضته متابعًا بوعيد مهلك:
, -ابن الـ ١٢ نقطة مش هاسيبه !!
, ٤٥ نقطة
,
, ولج مجددًا إلى داخل المدرسة مدعيًا وجود موعد مع معلم الصيانة، تجول في الفناء باحثًا عن هدفه، لم يجد صعوبة في إيجاده، فقد كان واقفًا بالقرب من صنابير المياه يأمر الطلبة بتنظيف الفناء مما به من أوراق متناثرة، احتدت نظراته نحوه وهو يتحرك صوبه مباشرة، هتف بصوت قاتم:
, -إنت ناصر؟
, التفت الأخير نحوه ينظر له شزرًا لكونه يناديه مجردًا دون أي ألقاب كوسيلة للتحقير من شأنه، رد بتجهم واضح عليه:
, -اسمي مستر ناصر، أو أستاذ ناصر يا كابتن؟
, لوح بيده متابعًا بازدراء:
, -إنت مش داخل سويقة، دي مدرسة محترمة، فاتكلم كويس!
, رمقه بنظرات مهينة وهو يرد بتهكم:
, -وماله يا محترم!
, زادت نظرات دياب حدة وهو يكمل بغموض مريب:
, -حيس كده بقى أعرفك بنفسي يا أبو الماستر!
, أطال ناصر النظر نحوه وهو يسأله باستخفاف:
, -هاتكون مين يعني؟
, دنا منه حتى تقلصت المسافة تمامًا، ثم لف قبضته حول عنقه ليطوقه منه وهو يجيب بنبرة عدائية:
, -قضاك يا ابن الـ ١٥ نقطة يا ١٥ نقطة ٣ علامة التعجب
, تفاجأ ناصر من كم الإهانات اللاذعة التي تلقاها دفعة واحدة بالإضافة إلى محاولة إعتداء باليد عليه، وقبل أن يفيق من صدمته أو حتى يقاومه ويرد عليه، جذبه دياب ناحيته مكملاً بشراسة:
, -مش هاتفلت باللي عملته يا ابن الحرام! إنت وقعت معايا أنا بالذات
, وضع ناصر ذراعه محاولاً صده وهو يرد بحنق:
, -في ايه؟ ماسمحلكش، ده أنا٣ نقطة
, قاطعه دياب صائحًا بإهانة حادة:
, -أنا اللي هاطلع ١٦ نقطة بذنب ابني وابن كل واحد نجسته بقذارتك يا ١٧ نقطة!
, ارتجف ناصر للحظة مما صرح به، وخشي أن يكون أمره قد فُضح من قبل إحدى ضحاياه، فازدرد ريقه الجاف متسائلاً بخوف كبير:
, -انت.. بتقول ايه؟
, رد عليه دياب بصوته المحتد:
, -فكرك محدش كان هيعرف يا نجس؟!
, ابتلع ريقه مجددًا وحاول أن يتملص منه لكنه عجز عن الإفلات من قبضتيه المحكمة عليه، هتف بصوت شبه مذعور:
, -ابعد ايدك عني، أنا مدرس محترم هنا!
, رد دياب بعدوانية صارخة غير مكترث بتبعات تهوره:
, -انت تخرس خالص بدل ما أدبحك في قلب الحوش!
, استشعر خطورة تهديده فحدق فيه بهلع، لم يكن دياب بالشخص المازح أو الذي يردد عبارات عابثة، بل كلماته موحية بشر دفين، تابع دياب محذرًا وقد لوى عنقه أسفل ذراعه:
, -من سكات معايا لبرا
, حاول أن يحرر عنقه من أسفله مرددًا بتوتر كبير:
, -انت فاهم غلط يا أستاذ أنا، ٥ نقطة
, قاطعه بقوة وهو يضغط على فقرات عنقه:
, -وماله، عاوزك تفهمني الصح يا ١٧ نقطة!!
, توسه مستعطفًا:
, -يا أستاذ اسمعني بس
, جرجره خلفه هاتفًا بحنق متوعد:
, -هاسمعك بس مش هنا!
,
, نظر بعض المتواجدين على مقربة من بوابة المدرسة باستغراب لهما، ولكن كان دياب الأسرع في الخروج قائلاً:
, -عندي كلمتين مع الأستاذ شوية وراجعين
, لم يقوَ أحد على اعتراضه وإلا فضح أمره علنًا وخسر كل شيء، فاضطر ناصر أن يهتف بخوف:
, -ده قريبي وهاكلمه برا، وراجع تاني!
, كانت نبرته مهتزة رغم وضوحها لكنها أعطت المجال لحارس البوابة لكي يفسح لهما ليمرا، وما إن تأكد من عدم إتباع أي أحد له حتى هدر عاليًا وهو يلوح بذراعه المتحرر:
, -منذر
, انتبهت بسمة لصوته المألوف ورأت بصحبته ذلك الدنيء النجس، رمقته بنظرات متقززة، وتابعت ما يحدث باهتمام، أشار منذر لعماله هاتفًا بصرامة:
, -الدبيحة جت يا رجالة!
, حدق ناصر في عدد الرجال المحاوط به ليقيدوا حركته تمامًا وهو يتساءل بتوجس مذعور:
, -في ايه؟
, حدجه منذر بنظرات مظلمة متأملاً وجهه المقيت، باغته برفع كفه عاليًا في الهواء ليهوى بظهره على صدغه بصفعة قوية مؤلمة، صرخ الأخير مصدرًا أنينًا موجعًا، شعر بخيوط الدماء تخرج من بين أسنانه فزاد هلعًا مما هو مقبل عليه، أمسك به من فكه يعتصره متابعًا بتهديد:
, -هاندمك على اللحظة اللي فكرت بس فيها تمس ابننا!
, قفز قلبه في قدميه من فرط الرعب وهمس مستجديًا بصوت متقطع:
, -أنا، مـ٤ نقطة
, لم يمهله الفرصة لطلب الرحمة بل صاح آمرًا في عماله:
, -خدوه
, قيده العمال وسحبوه جرًا نحو الشاحنة ليلقوه بداخلها، واندفعوا فوقه يكيلون له من اللكمات والضربات ما جعله يصرخ مستغيثًا، لم يعبأوا بصراخه فهم مكلفين بمهمة محددة وهي تلقينه درسًا قاسيًا طوال الطريق حتى يصلوا إلى المستودع حيث ينتظره جزائه.
, عاد دياب إلى السيارة ليقودها، بدت أنفاسه مضطربة نتيجة انفعاله، راقبته بسمة عن كثب متجنبة الحديث معه، لكنه بادر قائلاً بصوت متعصب وشبه لاهث:
, -احنا طالعين على المخزن
, سألته باهتمام:
, -ليه؟
, -هاخد حق ابني من الكلب ده!
, التفت ناحيتها معمقًا نظراته وهو يتابع بجدية:
, -وحقك إنتي كمان!
, رمشت بعينيها بتوتر مستشعرة تلك السخونة الطفيفة التي تنبعث من وجنتيها كدليل على توردهما بشدة، هو سيعيد لها حقها المسلوب، سيذيق أمثاله من الحقراء ألوانًا قاسية من العذاب، تقوست شفتاها بابتسامة باهتة لكنها راضية عما سيفعله، وضع دياب يده على كتفها مضيفًا:
, -زي ما ابني يهمني واللي يدوسله على طرف أشقه نصين، انتي كمان ليكي وضعك معايا!
, أدارت رأسها بعيدًا عنه متحاشية النظر إليه بعد خجلها من جملته الأخيرة، كان مطمئنًا نوعًا ما لكونها لم تنبذ مشاعره مثلما تفعل، بل على العكس كانت تلين نحوه، وقلبها المتيبس يرق من معسول كلماته الصادقة المصحوبة بأفعاله الشهمة، لم يطل التحديق فيها طويلاً، والتفت أمامه ليدير محرك السيارة منطلقًا نحو المستودع التابع للوكالة.
, ٥٨ نقطة
, تعذر عليها الوصول إليه لتبلغه بتدهور حالة ابنة عمتها واضطرارها لنقلها للمشفى بصحبة عمتها التي انهارت كليًا حينما رأتها على تلك الوضيعة الحرجة، وضعت بالعناية المشددة، وتم حظر الزيارة لها نهائيًا ريثما يصدر الطبيب المتابع لوضعها الصحي تقريره الأخير، جلست الاثنتان على أحد المقاعد المعدنية بالممر تدعوان **** أن يخفف عنها ألمها، احتضنت أسيف رضيعتها برفق وهي تهدهدها، فهي الأخرى لم تكف عن البكاء وكأنه تشعر بما في والدتها.
, هتفت عواطف قائلة بصوتٍ باكٍ:
, -أنا خايفة عليها أوي، يا رب اشفيها عشان خاطر بنتها!
, ضمت الرضيعة إلى حضنها بذراع وباليد الأخرى لفتها حول كتفي عمتها قائلة:
, -**** موجود يا عمتي، هو قادر على كل شيء
, مالت برأسها نحوها وهي تبكي بقلب موجوع:
, -آه، يا ضنايا يا بنتي! يا رب خد بإيدها!
, مسحت على كتفها متابعة بصوت خفيض:
, -اهدي يا عمتي، إن شاء **** هتقوم بالسلامة، نيرمين جامدة ومش هاتستسلم للمرض!
, كفكفت عبراتها بظهر كفها لتدعو بتضرع:
, -يا رب قويها على اللي هي فيه، يا رب اشفيها، إنت اللي عالم بحالنا، مالناش غيرك يا رب!
, خــرج الطبيب من غرفة العناية متوجهًا نحوهما قائلاً بنبرة رسمية:
, -لحظة من فضلكم!
, هبت الاثنتان تنتفضان من مكانهما لرؤيته، تساءلت أسيف بتلهف:
, -ايوه، خير يا دكتور؟
, ردت عواطف هي الأخرى بنبرة شبه مرتعدة:
, -طمنا يا ابني، بنتي جرالها حاجة؟
, استصعب التمهيد لهما لكونه يرى الجو العام لحالتهما النفسية، لكن لا مفر من الحقيقة، ففي كل الأحوال هو مضطر للتطرق إلى وضعها الصحي، تنفس بعمق مستجمعًا شجاعته ليستطرد حديثه بحذر، وضغط على شفتيه قائلاً بتمهل مدروس:
, -للأسف الحالة متأخرة جدًا، وحتى العلاج مش٣ نقطة
, وضعت أسيف يدها على فمها لتكتم شهقتها قبل أن تخرج من جوفها، بينما صرخت فيه عواطف بفزع:
, -ماتكملش **** يكرمك، قول انها هتفوق وتبقى كويسة!
, لم يكن بيده حيلة، هي فقدت مناعتها وتفشى المرض اللعين في خلايا جسدها بضراوة ليفني جسدها، طأطأ رأسه قائلاً بهدوء مفتعل:
, -دعواتكم ليها، عن اذنكم!
, تراخى جسد عمتها إلى حد ما من أثر الصدمة، وخشيت أسيف أن تفقد وعيها متأثرة فأسرعت بإسنادها بذراعها الحر، وتشبثت بالرضيعة جيدًا كي لا تسقطها، هتفت بتلهف مرتعد:
, -عمتي!
, كانت في حالة لا وعي حزنًا على ابنتها البكرية، وهتفت بقلب مفطور:
, -بنتي! نيرمـــين!
, ٤٧ نقطة
, رأتهم وهو يسحلوه أرضًا نحو المستودع فأثلج المشهد صدرها بقوة، هو يستحق الأبشع من ذلك، فقط لحظة واحدة اختبرتها معه أصابتها بالتقزز والاشمئزاز، فماذا عمن اختبر أكثر من ذلك بكثير خاصة إن كان صغيرًا عاجزًا؟ تمنت لو اقتصت بيدها منه، وأشبعته ضربًا حتى تروي رغبتها في الفتك به حيًا، استدار دياب ناحيتها متأملاً نظراتها الغريب نحوه، فشعر بالغيرة لكونها تنظر لغيره، لكنه يعلم جيدًا أن نظراتها تلك تحمل الشراسة والكره له، لمح تلك التشنجات الطفيفة في بشرتها، ورأى ذلك الزفير المشحون الخارج من صدرها، هتف متسائلاً بجدية:
, -دلوقتي هاعرف عمل ايه في ابني، تحبي تجي معايا؟
, هزت رأسها دون تردد وهي تجيبه بإيجاز:
, -ايوه، بس يحيى و٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بهدوء:
, -واحد من رجالتنا هيوصلهم البيت، ماتشليش هم!
, ضغطت على شفتيها هاتفة:
, -طيب!
, أشار لها بيده وهو يترجل من السيارة:
, -تعالي!
, أراد أن يصطحبها معه لتنتقم هي الأخرى منه عله يمحو تلك الذكرى البغيضة من مخيلتها رغم كونه متأكدًا أنها لن تصمت عن حقها.
, ٤٦ نقطة
, امتعض من اتصالاتها المتكررة على فترات وهو مشغول في مسألة ذلك البغيض، فاضطر أن يتجاهل مكالماتها عمدًا ريثما يفرغ منه، تمتم منذر مع نفسه بضجر:
, -مش وقتك يا أسيف!
, التفت للأمام صائحًا في عماله بصوت آمر:
, -خدوا الكلب ده ورا!
, رد عليه أحدهم بصلابة:
, -حاضر يا ريس منذر!
, سحلوه بقسوة على الأرضية الصلبة ليجرح جسده ويتأذى بعنف، لكن ذلك لم يجعل نيرانه تهدأ، فمجرد التفكير في تلمسه لأخته أو حتى لابن أخيه يجعل الدماء تحتقن في لحظة في عروقه وتؤجج غضبه وتزيد من حدته فيدفعه لقتله دون تردد، لحق بهم بخطوات متعجلة لكنه تهادى في مشيته حينما رأى أخيه مع بسمة، فهتف متسائلاً باستغراب:
, -جايبها ليه معانا؟
, أجابه بغموض وهويشير له بعينيه:
, -ليها حق عند الكلب ده!
, بدت نظرات منذر قاسية للغاية تنتوي كل شر له، فذلك الخبيث المنحرف تجرأ على الكثير دون أن يهاب ممن يمكن أن يردعه يومًا، وها قد حانت نهاية أمثاله ٥١ نقطة ٣ علامة التعجب
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٨٥
اندفع كالثور الهائج دافعًا حارس بوابة ذلك الصرح التعليمي دون الاكتراث بمحاولاته الفاشلة لمنعه من الدخول، وكيف يمكنه أن يتصرف بعقلانية وقد أخبرته ابنته عن محاولة التحرش بها من قبل أحد المعلمين بمدرستها؟ أخبرت ببراءة والدتها عن تلك التجاوزات معها علها توضح لها سبب ذلك، ففزعت لمجرد سماعها للأمر وأبلغت زوجها فورًا الذي ترك ما بيده ليصل إلى ذلك المنحرف الشاذ الذي يعتدي على الصغار في غفلة من الجميع، وبالطبع لم يأتِ خالي الوفاض فقد حرر محضرًا بالمخفر ليسجل الواقعة المشينة ويقتص لابنته وغيرها من ضحاياه.
, تفاجأ الحارس بولي الأمر وأفراد الشرطة من خلفه فلم يستطع صدهم بمفرده، وأرسل في طلب وكيل المدرسة الذي هرول راكضًا ناحيتهم وهو يتساءل بخوف:
, -خير يا حضرات؟ في ايه؟
, رد عليه الأب بتشنج متعصب وقد برزت حدقتاه بغضب مشتعل:
, -فين ناصر ابن الـ ٩ نقطة اللي شغال هنا
, ضاقت أعين الوكيل مرددًا بغرابة بعد سماعه لتلك الكلمات المهينة:
, -نعم؟
, سلط الضابط أنظاره عليه متسائلاً بنبرة رسمية:
, -انت مين؟
, حاول استيعاب ما يحدث من وجود للقوى الشرطية بمدرسته، وكذلك بإدعاءات ولي الأمر الذي يحترق غضبًا في مكانه، فارتجفت نبرته وهو يجيبه:
, -أنا وكيل المدرسة حضرتك، ممكن بس أعرف في ايه؟ وازاي حضراتكم ٤ نقطة
, قاطعه الضابط بلهجة رسمية:
, -معانا أمر من النيابة بالقبض على مدرس الصيانة هنا، اسمه ناصر٤ نقطة
, هتف وكيل المدرسة مدهوشًا وغير مصدق لما التقطته أذنيه:
, -أستاذ ناصر؟ ليه؟ هو عمل حاجة؟
, رد عليه الأب بشراسة وقد أوشك على ضربه:
, -انت لسه هتسأله يا باشا؟ اللي زيه الكللابب دول لازم يتعدموا في ميدان عام!
, اقترب أكثر من وكيل المدرسة ليدفعه من كتفه بعنف وهو يضيف بهياج جنوني:
, -بقى ولادنا نسيبهم أمانة هنا عندهم تقوموا تشغلوا واحد زي ده هنا يغتصبهم
, تفاجأ الوكيل بتلك الإدعاءات الصادمة، فرد بذهول كبير وقد شحب لون وجهه من هول ما سمعه:
, -انت بتقول ايه؟
, صاح الأخير بنفاذ صبر:
, -اللي سمعته، فينه الـ٩ نقطة هاموته بإيدي!
, تدخل الضابط بينهما قائلاً بصرامة:
, -اهدى يا أستاذ، وسيبنا احنا نتصرف بالقانون!
, شعر الوكيل أنه على وشك فقدان وعيه بسبب صعوبة الموقف، ففي مدرسته يوجد ذئب بشري يغتال براءة الصغار، كيف يعقل ذلك؟ حاول تدارك الموقف مرددًا:
, -الأستاذ ناصر خد اذن ومشى من شوية مع جماعة قرايبه!
, حذره الضابط بجدية وهو يشير بسبابته:
, -لو بتتستروا عليه ده هايكون ٤ نقطة
, قاطعه الوكيل بتلهف:
, -الإذن موجود وأقدر أوريهولك!
, بلغ الأب ذروة انفعاله فهدر بصراخ:
, -اتصرف يا حضرت الظابط وهاتلي حق بنتي بدل ما قسمًا عظمًا أخده بإيدي!
, حاول الضابط امتصاص ثروته المنفعلة بتعقل، فرد مؤكدًا:
, -هانعمل اللازم، متقلقش!
, ٤٥ نقطة
,
, ولج ثلاثتهم إلى داخل المستودع التابع للوكالة باحثين عن ذلك المنحرف الشاذ الذي عاث في الأرض فسادًا، واستباح ما حُرم عليه، اغتال براءة صغار لم يملكوا من خبرة الدنيا إلا القليل المعدود، وقعت أنظارهم عليه حيث كان مقيدًا بحبل قديم في أحد الأعمدة الخلفية، استشاطت أعين دياب فهتف بحنق من بين شفتيه المزمومتين:
, -هناك!
, تحركت أنظار بسمة نحوه وتوهجت بشدة حينما رأت وجهه المقيت مرة أخرى، التقت عيناه المتورمتين بنظراتها المحتدة، فارتفعت نسبة الأدرينالين المحفز لخلاياها للهجوم عليه، تذكرت ابتسامته الوضيعة التي أحرقتها حية وهو يتباهي بكونه قد تلمس جسدها رغمًا عنها وكأنه انتصار لا يضاهيه شيء، فاندفعت بلا تفكير نحوه لتنبش أظافرها في وجهه، خدشته بشراسة وهي تصرخ فيه بجنون:
, -يا قذر!
, توهمت ابتسامته تتسع لتستفزها أكثر، فارتفع صراخها المهتاج:
, -يا جبان، إنت حيوان، سامع، حيوان! الكل هيعرف بجريمتك يا ٥ نقطة!
, لم تتمالك أعصابها فهوت على صدغيه بصفعات متتالية عنيفة بقبضتي يدها، فتأوه متألمًا من قوة الضربات وخرج صوته كالأنين متحشرجًا، لم يعد به من القوة ما يستخدمه حتى في الصراخ، فقد تكفل عمال الحاج طه بإشباعه ضربًا حتى قضوا على مقاومته تمامًا فأصبح كالخرقة البالية.
, كانت بسمة مغيبة نسبيًا وهي تصفعه منتقمة لكل ضحاياه الأبرياء، اقتصت منه ونالت حقها وحق أخرين عجزوا عن الانتقام من أمثاله، أفرغت فيه شحنة غضبها حتى تخدل ذراعيها وشعرت بالوهن، أشفق على حالها دياب ولم يتدخل في البداية لكي تبرد نيرانها المحتقنة بداخلها، لكن أشار له منذر محذرًا:
, -دياب! خدها من هنا!
, أومأ برأسه بالإيجاب، وهتف لها:
, -بسمة، كفاية!
, تجاهلته متابعة ضربها وهي تصرخ بانفعال كبير:
, -اللي زيك مش لازم يعيش، إنت تستاهل الموت!
, تحرك خطوة للأمام ليجذبها من رسغيها عنوة وهو يقول بجدية:
, -اهدي، تعالي معايا
, تلوت بمعصميها محاولة تحريرهما، بدت منزعجة من إمساكه لها وجاهدت لتتملص من قبضتيه وهي تصيح بعصبية:
, -سيبني يا دياب!
, سحبها بعيدًا عن ذلك الدنيء قائلاً بهدوء ممتصًا لغضبها الثائر:
, -تعالي من هنا!
, لم تستطع مقاومته أكثر من هذا، فقد أُنهكت قواها بدرجة كبيرة، استسلمت لجره لها حتى خرج بها من المستودع، شعرت بالارتياح قليلاً لكونها قد نفست عن غضبها المدفون فيها، لم تتوقع أن تتأثر وهي تبرر تصرفها العدواني:
, -اللي زيه لازم يموتوا مليون مرة
, ترقرقت العبرات في عينيها بقوة وهي تضيف بصوت شبه متشنج لكنه مختنق:
, -ده مش بني آدم، ده واحد قذر و٥ نقطة
, انفعل لرؤيتها تبكي بسبب خوضها لتلك التجربة، فهتف مقاطعًا بحدة:
, -احنا لسه هناخد حقنا منه!
, مد يده عفويًا على وجنتها ماسحًا ما بها من عبرات انسابت عليه متابعًا بوعيد رغم هدوء نبرته:
, -اهدي انتي يا حبيبتي، مش هاسمح لـ ٦ نقطة زي ده يخليكي تعيطي!
, حدقت فيه بعينيها الباكيتين مكتفية بالنحيب الخافت مستشعرة لمسته الخشنة على بشرتها، هي عايشت معه الكثير من المواقف الصعبة، وفيها أثبت أنه كأخيه؛ نسخة من الشهامة والرجولة والشجاعة، تأمل نظراتها المتطلعة إليه بتلهف مشتاق، كم ود أن يتحول ما بينهما إلى ارتباط رسمي فعلي، فيعبر لها بأريحية تامة عن مشاعره العميقة نحوها، لكنه خاف من المحاولة فيفسد الأمر برمته، اكتفى بالابتسام العذب وهو يضيف بجدية:
, -ارجعي البيت مع العيال
, التفتت برأسها للخلف فوجدت الصغيران مازالا بالسيارة ويقف بجوارها اثنان من عمال الوكالة، عاودت التحديق في وجهه فأومـأت برأسها موافقة، لكنه تابع بصرامة طفيفة:
, -اركبي معاهم، وأنا هوصلكم
, كفكفت عبراتها قائلة بصوت مبحوح:
, -على فكرة يحيى بخير، الـكلب ده معملش فيه حاجة، أنا سألته وعرفت بنفسي
, ارتسمت ابتسامة راضية رغم كونها باهتة على محياه مرددًا:
, -الحمد****
, أشار لها بيده متابعًا:
, -تعالي اركبي يالا!
, هزت رأسها دون أن تعترض عليه لتجلس بالسيارة متنفسة بعمق حتى سكنت نسبيًا
, ٤٨ نقطة
,
, لم يتوقف عن صفعه بعنف مجبرًا الدماء على الخروج من فتحات أنفه وفمه بغزارة، فلا وجود لكلمة الشفقة والعفو مع أمثاله من الخبثاء المنحرفين، توسله ناصر مستجديًا:
, -ملمستش ابنكم، ورب الكعبة ما جيت جمبه!
, غرز منذر أظافره بشراسة في وجهه وهو يقبض على كفه مرددًا بقسوة:
, -قالوا للحرامي احلف!
, احتدت نظراته أكثر مكملاً بوعيد مهلك:
, -هو انت شوفت حاجة لسه؟!
, استشعر ناصر من نظراته المظلمة هلاكه الحتمي، هو أجرم غير مكترث بتبعات جرائره المشينة، وها قد جاء وقت القصاص العادل منه، صرخ مجددًا من صفعة أعنف تلقاها في وجهه كسرت إحدى أسنانه وجرحت شفته السفلى بألم قوي.
, تحرك منذر مبتعدًا خطوة للخلف ليوقف اهتزاز هاتفه المحمول الذي كان يتحرك في جيبه، حدق في عدد المكالمات الفائتة من أسيف بتعجب، أحس بوجود خطب ما لتكرار الاتصالات بلا توقف، فأجاب في النهاية قائلاً بانفعال ملحوظ:
, -أسيف أنا ٥ نقطة
, قاطعته بصوت مختنق وباكٍ:
, -إلحقنا يا منذر!
, سألها بقلب منقبض:
, -في ايه؟
, أجابته بنبرة متقطعة:
, -احنا في المستشفى، نيرمين بـ.. بتموت وأنا لوحدي!
, هتف مصدومًا وقد شخصت أبصاره:
, -بتقولي ايه؟
, ٤٢ نقطة
,
, تغيرت الوجهة تمامًا نحو المشفى، فبعد أن علمت بسمة بسوء حال أختها وتدهور صحتها فجأة انخرطت في بكاء مستمر حزنًا عليها، وحاول دياب تهدئتها بكافة الوسائل لكنه لم ينجح، ففي النهاية هي أختها وقطعة منها، أوصلها إلى هناك، ووقف إلى جوارها يدعمها، لحق به أخيه منذر بعد أن أوصى رجاله بتسليم المنحرف الشاذ للشرطة ليتم التعامل معه، فقد حرر محاميه محضرًا ضده ريثما يلقنه هو درسه القاسي، كذلك انتشر خبر اعتدائه على التلاميذ الصغار بين الجميع، وبالطبع استقبله الأباء الغاضبين عند المخفر بوابل من السباب اللاذع والضربات العنيفة حتى كاد يموت ضربًا بينهم، وتمكن أفراد الشرطة من إبعادهم عنه بصعوبة ليتم فتح تحقيقات دقيقة في قضيته المخجلة.
,
, جلست بسمة إلى جوار والدتها المكلومة تضم ابنة أختها الرضيعة الصغيرة إلى صدرها تواسيها وتشاطرها حزنها الكبير، أحاطتها عواطف بذراعها باكية بقلب منفطر عليها، راقبهما دياب بنظرات أسفة، ثم تركهما وتحرك مبتعدًا ليجري بعض المكالمات الهاتفية عله يصل إلى طبيب جيد يتابع حالتها، بالإضافة إلى متابعة أخر تطورات قضية ذلك الذئب الدنيء، وعلى مقربة منهما وقفت أسيف تطالعهما بنظرات دامعة، هي تشفق على ابنة عمتها كثيرًا، كانت قليلة الحظ، وعاشت حياة تعيسة في زيجتها السابقة، تحرك منذر نحوها هامسًا:
, -اقعدي يا أسيف، مش هاتفضلي وقفة كده
, ردت بصوت مرتجف وهي تمسح عبراتها العالقة بأهدابها:
, -خايفة أوي
, تنهد بعمق وهو يقول:
, -إن شاء **** خير، **** موجود!
, مط فمه للأمام مضيفًا باستفسار:
, -بس هي مش كانت كويسة وبدأت تتحسن، ايه اللي حصل؟
, تهدل كتفيها بانكسار كبير وهي تجيبه بنبرة مختنقة:
, -مش عارفة، فجأة كده لاقينها واقعة ومش بترد علينا، والدكاترة هنا قالوا٥ نقطة
, وضع يده على كتفها يمسح عليه برفق مقاطعًا بهدوء رغم جدية نبرته:
, -مافيش حاجة صعبة على ****! تفائلي خير
, رفعت أعينها الدامعة للسماء لتردد بتضرع واثق:
, -يا رب اشفيها وخد بإيدها
,
, على المقاعد المعدنية المقابلة، سحبت جليلة حقيبتها نحوها مفسحة المجال لزوجها ليجلس، وضربت كفها بالأخر محركة رأسها للجانبين آسفة على حالها، مالت ناحيته هامسة له:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، ده البت لسه صغيرة وفي عز شبابها
, رد عليها بامتعاض:
, -أمر **** يا جليلة
, تابعت قائلة بنبرة حزينة ومواسية:
, -**** يكون في عونهم!
, مصمصت شفتيها مكملة بتحسر:
, -ولا بنتها كبدي عليها مالحقتش تتهنى بحضن أمها، أه يا ضنايا، **** ما يجرب عليهم الخسارة!
, نظر طه نحوها بضيق، فلا حاجة به لسماع مثل تلك العبارات المصحوبة بالنواح، فحذرها بصرامة:
, -اذكري **** في نفسك يا جليلة، ماتقدريش البلا قبل وقوعه
, -حاضر يا حاج، بس أصلهم صعبانين عليا
, -**** يلطف بيهم وبينا!
, ٣٨ نقطة
,
, لاحقًا، انتهى الطبيب من فحصها مجددًا بغرفة العناية المشددة، وأعطى تعليماته لطاقم التمريض بضرورة متابعة حالتها أولاً بأول وإبلاغه بالمستجدات، فقد استقر وضعها إلى حد ما، وبدأت تستعيد وعيها مما أعطاه مؤشرًا طيبًا، همست نيرمين بصوت واهن للغاية وهي تدير رأسها نحوه:
, -أنا هاموت، صح؟
, حدق فيها بعبوس طفيف ظاهر على تعبيراته، وابتسم بزيف محاولاً بث الأمل فيها عل روحها المعنوية ترتفع وهو يجيبها:
, -الأعمار بيد ****، ماتفكريش في حاجة يا مدام نيرمين!
, أغمضت عينيها وعاودت فتحهما بتثاقل وهي ترد:
, -أنا حاسة بده، أجلي قرب!
, تنحنح بصوت خفيض متابعًا بنبرة شبه متحمسة:
, -احنا كنا فين وبقينا فين، المهم إن حالتك مستقرة دلوقتي، وده شيء كويس و٤ نقطة
, قاطعته بيأس وهي تحاول الإشارة بيدها المرتعشة:
, -محدش بيقوم من المرض ده
, وضع يده على كفها ليعيده إلى مكانه متأكدًا من ضبط الإبرة الطبية به وهو يقول:
, -خلي عندك أمل في ****
, لم يستطع إقناعها فقد كانت متأكدة من دنو أجلها، ابتلعت ريقها المرير في حلقها الجاف متسائلة:
, -هما.. أهلي برا؟
, أومأ برأسه قائلاً:
, -ايوه، كلهم مستنينك وهايفرحوا لما يشوفوكي
, تشكل على ثغرها ابتسامة باهتة وهي ترد:
, -كويس، أنا محتاجة أشوفهم
, حذرها قائلاً بجدية:
, -مافيش داعي للإجهاد، الراحة مطلوبة يا مدام نيرمين
, هزت رأسها معترضة وهي تقول بإصرار مريب:
, -لازم أتكلم معاهم، لو سمحت ناديلي أهلي
, لم يجد بدًا من الاعتراض على طلبها، فربما دعم أهلها يفيدها في تلك المرحلة الحرجة، لذلك ردد مستسلمًا:
, -ماشي، بس مش هاينفع يدخلوا كلهم مرة واحدة، هيتقسموا
, أغمضت جفنيها قائلة بضعف:
, -طيب، خليني أشوف الأول أسيف و.. ومنذر لو كان معاها!
, رد عليها بهدوء جاد:
, -حاضر، بس نصيحتي بلاش تكلمي كتير
, حركت رأسها بالإيجاب بإيماءة صغيرة كإشارة عن انصياعها لنصيحته، ابتسم لها مطمئنًا إياها، ثم أشار للممرضة بالبقاء معها ريثما يبلغ عائلتها برغبتها.
, ٤٠ نقطة
, تجمعوا حول الطبيب حينما رأه يتجه نحوهم وكل واحد منهم يعتري صدره مشاعرًا مختلفة عن الأخر، كان خوفهم الأكبر والمشترك هو أن يبلغهم بما يخشون سماعه، لكن تنفسوا جميعًا الصعداء حينما استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
, -حالة مدام نيرمين مستقرة والحمدلله، وفاقت كمان!
, بكت عواطف فرحًا لأنها لم تفقد ابنتها بعد، وأنها لا تزال على قيد الحياة، شعرت براحة تجتاح قلبها الملتاع عليها وظلت تهمس بكلمات شاكرة للمولى على رحمته الواسعة بها، في حين ضمت بسمة رضيعتها الوحيدة إلى صدرها بذراعيها وهي تقبلها بحب صادق، ابتسمت أسيف بسعادة من بين عبراتها الساخنة ونظرت في اتجاه منذر الذي كان يطالعها بنظراته الحنونة، أخرجهما الطبيب من تحديقهما حينما تابع بجدية:
, -وهي طالبة تشوفكم كلكم، بس في الأول أسيف ومنذر!
, تبادل الاثنان نظرات غريبة عقب جملته تلك، وتحولت ملامحهما للتوتر والقلق، انقبض قلب عواطف بقوة وهي تسأله:
, -خير يا ضاكتور؟
, أجابها بجمود:
, -مش عارف و****، بس هي عاوزة الاتنين دول الأول
, هتف منذر بجدية:
, -تعالي يا أسيف، احنا هندخلها وهنعرف في ايه؟
, ارتعش جسدها وهي تتحرك معه نحو غرفتها، بدت واجمة للغاية محاولة تخمين سبب طلبها المريب، اضطربت أفكارها وتداخلت معًا فلم تستطع التفكير بذهن صافٍ أو حتى تخمين السر وراءه.
, دقت الباب بخفيفة قبل أن تدخل الغرفة وتطالعها بنظراتها الحزينة، كانت مختلفة كليًا عن صورتها السابقة، ذبول رهيب اعتلى قسماتها، بالإضافة إلى شحوب مزعج يشبه الموتى في انتشاره على بشرتها، حاولت أن تبتسم لتقاوم رغبتها في البكاء حسرة على حالها، فبدت ابتسامتها مهتزة باهتة، همست لها نيرمين بصوت خافت:
, -قربي مني
, قاومت عبراتها التي تلألأت بكثافة في مقلتيها وهي ترد بصوت شبه مختنق:
, -حمدلله على سلامتك، الدكتور طمنا وقال٤ نقطة
, قاطعتها مبتسمة بتهكم:
, -هو في حد بيصدق كلام الدكاترة؟!
, دق منذر الباب بقبضته منكسًا رأسه قليلاً ومخفضًا أنظاره وهو يقول بصوت خشن ليلفت الانتباه إلى وجوده:
, -احم.. سلامو عليكم!
, همست نيرمين بتنهيدة تحمل الكثير وهي تحرك عينيها نحوه:
, -سي منذر
, ظل مطأطأً لرأسه وهو يسألها بجمود جاد:
, -ازيك يا أم رنا؟
, أجابته ساخرة من مرضها:
, -زي ما انت شايف، بأموت!
, اعتصر قلب أسيف بألم قوي من جملتها تلك، وتوسلتها بصوت مختنق:
, -ماتقوليش كده **** يكرمك، إنتي هاتعيشي
, ردت عليها نيرمين بإحباط تام:
, -معدتش فارقة!
, انهمرت عبرات أسيف بغزارة وغص صدرها بالبكاء الحزين، كانت تراها في أضعف حالاتها، في أصعب المواقف وأقساها، لم تعد تلك القاسية الغليظة متحجرة القلب والمشاعر التي لا تعبأ بأحدٍ سوى نفسها، تحولت كثيرًا، وبدت أخرى، كتمت بصعوبة شهقاتها الموجوعة عليها، لكن زاد ألمها وكذلك حدة الوخزات التي أوجعت حلقها حينما قالت بهدوء:
, -أنا عرفت الـ.. الحيلة اللي لعبتوها عليا
, تجمدت أنظار منذر على زوجته بعد اعترافها بكشف ملعوبهما، وبدا وجهه مشدودًا على الأخير، هو توقع ذلك، وحدث ما كان يخشاه، هتفت أسيف ببكاء تسترجيها:
, -أنا أسفة و****، سامحيني يا نيرمين، بس غرضي كان ٥ نقطة
, قاطعتها الأخيرة بصلابة قليلة:
, -ماتبرريش !
, حاولت توضيح موقفها لها متوسلة:
, -صدقيني أنا كنت ..
, ردت عليها نيرمين بتنهيدة متعبة وهي تسعل:
, -اسمعيني شوية!
, صمتت أسيف مجبرة ولم تستطع أن تحيد بعينيها الباكيتين عنها، ربما كانت نيتها حسنة معها لكنها أخطأت بالتلاعب بمشاعرها، ورغم ذلك تابعت قائلة بصوت منهك:
, -أنا عاوزة أشكرك على معروفك معايا، إنتي أحسن مني مليون مرة!
, نظرت لها أسيف بصدمة، فأكملت بصعوبة وهي تحرك عينيها نحو حبها المستحيل:
, -ايوه، دي الحقيقة، انتي تستاهلي واحد زي.. زي سي منذر!
, رفع الأخير عينيه نحوها حينما سمعها تتفوه باسمه ليحدق فيها بنظرات مطولة مستشعرًا تلك المرارة والألم في تحديقها له، واصلت حديثها بابتسامة منكسرة:
, -هو بيحبك ومقدرك وهيحافظ عليكي!
, كان الموقف عصيبًا للغاية، هي تعبر عن مشاعرها التي لم تجد من يغزيها في صورة أمنيات حلمت بها، خانتها عينيها فبكت وهي تضيف:
, -مانكرش إني كان نفسي في حد زيه يحبني، يخاف عليا من الهوا طاير، قلبه يدق عشاني بس.. نصيبي كده!
, مسحت أسيف عبراتها بالمنشفة قائلة بصوت منتحب:
, -إن شاء **** هتقومي بالسلامة وهـ٤ نقطة
, اكتفت من تحديقها في وجهه الذي عشقت تفاصيله بجوارحها، هو لم يكن لها منذ البداية، تلك هي الحقيقة التي حاربت لتثبت عكسها، وفي الأخير خسرت المعركة، ولم تظفر سوى بالمعاناة والألم، هو لم يشعر بخفقان قلبها ه ولا بحبها الذي حكم عليه بالنهاية قبل حتى يبدأ، انتهى الأمر بالنسبة لها، استدارت ببطء برأسها نحو ابنة خالها لتحدق فيها بعينين دامعتين وهتفت بجدية وهي تشير لها بسبابتها المرتعشة :
, -بصي عشان مش قادرة أتكلم كتير، أنا عاوزاكم تكملوا فرحكم وتتجوزا ٤٣ نقطة ٤ علامة التعجب
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨٦
أدركت في لحظة معينة من حياتها أنها وصلت إلى مفترق الطرق، إلى الختام حيث وجب عليها أن تصحح المسار، أن تضع لمسة أخيرة يذكرها الجميع فيها بالخير علها تحصل على الرضا والسلام الداخلي، لم تعبأ بتلك العبرات الساخنة المنهمرة من طرفي مقلتيها وهي تلح قائلة:
, -لازم تتجوزوا!
, نظرت لها أسيف بصدمة محاولة استيعاب ما قالته توًا، أحقًا تطلب منها ذلك في خضم ماهي فيه من معاناة قاسية، اعترضت قائلة بنبرة شجية:
, -مش هاعمل حاجة وإنتي كده، أنا ٥ نقطة
, قاطعتها نيرمين بإلحاح:
, -اسمعي الكلام، اتجوزي سي منذر واسعديه!
, التفتت أعينها الباكية نحوه لتتابع من جديد بانكسار ملحوظ:
, - هو يستاهلك، وبيحبك!
, بدت نبرتها أكثر اختناقًا وهي تتابع صعوبة:
, -مافيش راجل زيه أبدًا، هو واحد وبس!
, كانت صادقة في ذلك، أصابت في رأيها وهي تمدح صفاته بلا توقف، فشعر منذر بالضيق والعجز لكونها تفصح باسترسال عن مشاعرها نحوه بصورة غير مباشرة في نفس الوقت الذي لا يستطيع هو فيه أن يمنحها شيء، قلبه خفق لواحدة فقط هي زوجته أسيف، فلا يحق له أن يعطي غيرها ما لا يملك.
, تنهدت بحرارة لتسحب بعدها نفسًا عميقًا قائلة بوهن:
, -معلش تعبتكم
, اعترضت أسيف بعتاب محبب وهي تمسح على جبينها برفق:
, -ماتقوليش كده، احنا٣ نقطة
, أشارت لها بسبابتها المرتعشة لتقاطعها بهدوء:
, -هاطلب منك تنادي بسمة أكلمها!
, هزت أسيف رأسها بالإيجاب فتابعت بتريث:
, -يا ريت أسمع خبر الفرح قريب
, ردت عليها بابتسامة باهتة:
, -إن شاء ****!
, تحركت رأسها ببطء نحو منذر لتطلب منه برجاء:
, -ده طلبي الأخير منك يا سي منذر لو كان ليا عندك خاطر، اتجوزوا وافرحوا
, ضغط على شفتيه مرددًا:
, -**** يسهل، ويعينك على اللي انتي فيه!
, ابتسمت له هامسة:
, -يا رب!
, أخفضت أسيف كفها لتمسك بيدها وربتت عليه بكفها الأخر قائلة:
, -احنا برا، وهابعتلك بسمة على طول
, أومــأت نيرمين برأسها إيماءة خفيفة مرددة باقتضاب:
, -متشكرة!
, تحرك منذر أولاً وصدره مثقل بالهموم والأحزان، فليس من السهل أن ترى قريبًا كنت تحدثه وهو في كامل صحته وعنفوانه على شفا الموت، لابد أن يكون في ذلك عظة، حكمة من المولى كي لا يتجبر الإنسان وينسى نفسه في لحظة، أخرج تنهيدات مكتومة من صدره محملة بالكثير رافضًا الحديث مع أي شخص، توجست عواطف خيفة أن يكون أصاب ابنتها خطب شديد فسألته بتلهف وهي تتفرس في ملامحه المشدودة:
, -بنتي كويسة؟ طمني يا ابني!
, رفع بصره في وجهها ليتأمل تعبيراتها المكلومة، ورد عليه بهدوء:
, -الحمد**** بخير
, تبعته أسيف ماسحة أنفها بالمنشفة الورقية لكن لم تتوقف عيناها عن البكاء، دنت منها عمتها متسائلة:
, -اطمنتي عليها يا أسيف؟
, ردت عليها بحذر:
, -ايوه، وهي عاوزة تشوف بسمة وتكلمها!
, انتفض جسدها حينما سمعت اسمها يلفظ على شفتي ابنة خالها وانقبض قلبها بقوة، جفاف شديد اعترى حلقها فشعرت كأن به علقم مر يزيد من نغصتها، كانت ترتجف وهي تنهض من مكانها حاملة للرضيعة الصغيرة، اقتربت من أسيف مرددة بصوت متقطع:
, -نيرمين كويسة صح؟
, حركت أسيف رأسها إيجابًا وهي تجيبها بألم:
, -هي بخير، بس عاوزاكي شوية!
, ضمت بسمة الرضيعة إلى صدرها أكثر، وتابعت قائلة:
, -أنا هاخد رنا معايا، هي بنتها ومحتاجة حضن أمها شوية!
, ردت أسيف بإيجاز:
, -براحتك
, ربتت عواطف على ظهر ابنتها هامسة بتحذير رقيق:
, -طلي على أختك يا بسمة، هديها واسمعي منها، بس أمانة عليكي ماتضيقهاش في حاجة، هي مش ناقصة!
, التفتت برأسها ناحيتها لترد بامتثال:
, -طيب!
, ورغم الرجفة القوية التي سيطرت على بدنها إلا أنها جاهدت لتبدو قوية ومتماسكة أمامها، سارت بتمهل حذر نحو غرفتها تهدهد رضيعتها برفق مستجمعة منها شجاعتها، شعرت بذلك الألم العصيب الذي يفتك بحلقها لكنها قاومته، وتنهدت بعمق كبير ضابطة انفعالاتها، استعدت للولوج إليها وهي ترسم ابتسامة زائفة على محياها، لكن انهار كل شيء في لحظة حينما رأتها في تلك الحالة الواهنة، رغمًا عنها بكت بحرقة متأثرة لها، ركضت نحوها هاتفة بشهقة مكتومة:
, -نيرمين
, انحنت عليها باكية بمرارة وهي تضمها بيد، وباليد الأخرى تحمل الرضيعة، لم تستطع قول المزيد عبرت عنها دمعاتها وشهقاتها عن ألمها الموجع لرؤيتها على تلك الحالة، همست لها نيرمين بوهن:
, -مش كده، خلاص!
, عجزت عن الرد عليها، مر أمام عينيها لحظات متداخلة من مشاهد كثيرة ضمت مشاحنات ومواقف كانت فيها أختها في قوتها، في شدتها، وحتى في قسوتها، وها هي الآن تراها في صورة أخرى، فُجع قلبها لرؤيتها في أضعف حالاتها، تابعت نيرمين قائلة بجمود مصطنع:
, -كويس إنك جبتي رنا، كنت عاوزة أشوفها
, خرج صوتها مكتومًا متقطعًا وهي تهمس لها بصعوبة:
, -نـ٣ نقطة نيرمين!
, ردت بتنهيدة تحمل في طياتها الكثير من الآلام:
, -ماتقوليش حاجة!
, ابتلعت ريقها متابعة بتمهل:
, -عاوزاكي تسمعيني للأخر يا بسمة!
, هزت رأسها بالإيجاب، وأسندت الرضيعة على طرف الفراش لتلهو بعبث بذراعيها مداعبة الهواء، سحبت نيرمين نفسًا عميقًا حبسته لثوانٍ في صدرها قبل أن تحرره دفعة واحدة لتستطرد بعدها قائلة بتحذير:
, -بسمة اوعي تبقي أنانية وتضيعي حب حقيقي ظهر قدامك!
, مسحت أختها الصغرى بظهر كفها عبراتها التي شكلت سحبًا ضبابية لتصغي لها بانتباه شديد، فواصلت الأخيرة مضيفة وهي تبتسم ابتسامة باهتة:
, -دياب بيحبك، وباين أوي عليه!
, لم تعلق عليها، واكتفت بتنكيس رأسها للأسفل، أشارت لها نيرمين بيدها متابعة:
, -أنا معرفش ده حصل ازاي، لأ ومعاكي إنتي بالذات، سبحان ****، مقدر ومكتوب، بس ماتبقيش غبية وتركبي دماغك وتخليه يروح منك!
, تجمدت أنظار بسمة عليها منصتة بتركيز شديد في كل كلمة ترددها، هي تفتح لها بصيرتها، تدعمها في قرار مترددة بشأنه، تساعدها على الاختيار.
, تنهدت بتعب وهي تقول محذرة:
, -اوعي تبقي زيي، امسكي بإيدك وسنانك في اللي بيحبك، في اللي مستعد يعمل أي حاجة عشان يشوفك بس مبسوطة!
, بدا صوتها إلى حد ما أكثر اختناقًا وهي تقول:
, -اتجوزيه وعيشوا سوا، هو لايق عليكي!
, مدت بسمة يدها لتضعها على كف أختها هامسة بصوت باكٍ:
, -مالوش لازمة الكلام في الموضوع ده دلوقتي، ارتاحي عشان خاطري
, ردت عليها نيرمين بسخرية مريرة:
, -لأ ده وقته، يا عالم إن كنت هـ٣ نقطة
, فهمت سريعًا إلى ماذا تلمح، فقاطعتها بلا تردد:
, -ماتكمليش **** يكرمك!
, سلطت نيرمين أنظارها عليها لتطلب منها بجدية:
, -اوعديني إنك هتتجوزيه يا بسمة!
, صمتت ولم ترد، فاستعطفتها بنظراتها، تلك النظرات التي لم تكن رأتها فيها من قبل، نظرات لو كانت هي عنوانها لتغير الكثير معها، همست لها متسائلة:
, -ها.. هتوعديني؟
, حركت رأسها باهتزازة خفيفة وهي ترد:
, -أوعدك!
, أخفضت نيرمين نظراتها لتحدق في رضيعتها، تلك الصغيرة التي حرمتها من الكثير، لم تعدها نعمة وهبها **** لها، بل كانت ناقمة على وجودها في أغلب الأوقات لأنها تذكرها بزوجها وبعائلته المقيتة، داعبت يدها الصغيرة بإصبعيها، وتلمست بشرتها بحنو، ثم همست بصوت متأثر:
, -وبنتي رنا!
, تحركت أنظار بسمة نحوها، فأكملت بنبرة خفيضة:
, -مش هوصيكي عليها!
, بكت أختها بحرقة أشد مستشعرة وداعها في جملتها تلك، فهتفت بنحيب:
, -انتي اللي هتربيها!
, وكأنها لم تصغِ إليها، فتابعت معترفة بتقصيرها في حق رضيعتها:
, -أنا معرفتش أكون أم حنينة ليها، كنت قاسية عليها غصب عني!
, وضعت يدها على يد أختها مكملة بتأكيد وهي محدقة في عينيها:
, -إنتي غيري يا بسمة، هاتحبيها وتعوضيها عني، مظبوط!
, ارتجفت بسمة منفعلة لكلماتها التي تقطع القلوب، استأنفت نيرمين هامسة بصوتٍ باكٍ:
, -خلي بالك منها، وابقي احكي عني بالخير، قوليها أمك مختارتش حياتها، بس عمرها مكرهتك، مش ذنبك يا بنتي إن أبوكي وحش وأمك قاسية!
, رغمًا عنها بكت بتأثر أكبر، هي جَنَت على رضيعتها بجمودها معها، لم تمنحها العاطفة والحب كما تستحق، أهملتها رغم تلك الغريزة التي منحها المولى لها، توسلتها بسمة باستعطاف:
, -عشان خاطري ماتقوليش الكلام ده
, تجاهلت رجائها متابعة:
, -قربيها عشان أبوسها
, نهضت بسمة من جوارها لتحمل الرضيعة، ثم قربتها من أختها التي جاهدت لتحني رأسها نحوها وقبلتها بحب تلك المرة، بللت عبراتها جبين ابنتها وهي تهمس لها:
, -**** يجعل نصيبك أحسن مني يا رنا!
, التقطت أذنيها كلماتها الهامسة فاعتصر قلبها متألمًا، وردت بتفاؤل محاولة إنكار ما تشعر به:
, -هاتعيشي وتشوفيها لما تكبر!
, أشارت لها لتبعد الرضيعة عنها وهي تقول:
, -ناديلي أمي أشوفها، وبعدين سبوني أرتاح!
, بكت رنا ببكاء كبير وكأنها تستشعر رحيل أمها عنها، فزاد صراخها لابتعادها عنها، وحاولت خالتها أن تهدهدها برفق علها تهدأ لكنها فشلت، فابتعد بها عن نيرمين كي لا يؤلمها صوت البكاء الصارخ.
, أغمضت نيرمين عينيها تاركة العبرات عالقة بأهدابها مستسلمة لمصيرها المجهول.
, ٣٨ نقطة
, على عكس الجميع حاولت أن تبدو متفائلة وأكثر تماسكًا لتبث روح القوة والحماس في نفس ابنتها على روحها المعنوية المتداعية ترتفع من جديد، هي بحاجة لذلك الدعم عن ذي قبل، وإن كان الجميع في حالة حزن شديد عليها أن تكون على النقيض لأجلها، ولجت إليها بابتسامة مشرقة وهي تقول:
, -حمدلله على سلامتك يا بنتي، إن شاء **** غمة وهتنزاح
, ردت نيرمين مبتسمة بسخرية:
, -بتصدقي الكلام ده
, صاحت بها عواطف بصرامة طفيفة:
, -ولا كلمة يا نيرمين، الضاكتور قال ترتاحي، ولازم تسمعي الكلام
, ردت عليها نيرمين بتنهيدة متعبة:
, -مش عاوزاكي تزعلي مني إن كنت ٥ نقطة
, قاطعتها بلهجة شديدة وهي تدنو من فراشها:
, -قولت ايه؟
, مسحت على ساقيها المغطاة بالملاءة بيدها برفق، وتابعت بحماس:
, -وشدي حيلك بقى عشان تطلعي من هنا، ولا عاجبك أعدة المستشفيات؟
, نظرت لها نيرمين بأعين لامعة منهكة من كثرة البكاء، ورغم تلك النظرات التي تفطر من يرى حقيقتها إلا أنها حافظت على ابتسامتها الودودة وهي تطالعها بحنو لتقول بضجر قليل:
, -ده حتى لا أكل ولا نومة مريحة، اجمدي عشان نرجع بيتنا!
, بدت غير مقتنعة بما تفعله، هي تشعر بمدى الحزن الذي تكتمه في قلبها، حاولت أن تعبر لها عن إحساسها بألمها نحوها، فردت مستنكرة:
, -انتي بتضحكي علي مين يا ماما؟
, وضعت عواطف يدها على وجنة ابنتها، وظلت تمسح عليها برفق شديد، وباليد الأخرى ربتت على كتفها قائلة بثقة:
, -خلي عندك إيمان في ****، هو صانع المعجزات وقادر على كل شيء!
, حدقت نيرمين في عينيها هامسة:
, -الحمد**** على كل حال، مالوش لازمة!
, اكتفت عواطف بنظراتها الدافئة إليها وظلت مرافقة لها حتى غفت ابنتها في نومها، حينها فقط بكت متأثرة لحالها كاتمة في جوفها شهقاتها كي لا تخرج من حلقها وتفضحها، انحنت عليها لتقبلها في جبينها هامسة:
, -**** يقومك بالسلامة يا بنتي!
, ٤٧ نقطة
, انقضى اليوم والجميع مرابط بالمشفى متابعين باهتمام تطورات حالتها الصحية والتي ظلت على وضعها المستقر، ضجر دياب من بقائهم دون تقديم أي شيء، فاقترب من بسمة قائلاً:
, -مالهاش لازمة القعدة هنا!
, هزت رأسها معترضة وهي تقول بإصرار:
, -أنا هافضل جمبها!
, زم فمه قائلاً بضيق:
, -هاتفديها بإيه وانتي شكلك هتقعي من طولك؟!
, عاد إليهم منذر هاتفًا بصوت مرهق:
, -أنا سألت الدكتور هنا وقال مافيش مرافقين، بينا يا جماعة!
, اعترضت عليه بعبوس:
, -مش هانسيبها لوحدها
, في تلك المرة تدخلت عواطف لتقنع ابنتها بالعدول عن رأيها، فهتفت قائلة:
, -هو بيتكلم صح، يالا يا بنات، نيرمين في سابع نومة، واحنا محتاجين نكون بصحتنا عشان نفضل جمبها
, لم تجد مفرًا من الرفض، فاضطرت أن تخضع لرغبة أمها وسارت معها تجرجر ساقيها المتعبتين، لحقت بهما أسيف بخطوات متهادية لكن انضم إليها منذر هامسًا بجدية:
, -أسيف، عاوزك في كلمة
, التفتت برأسها نحوه لترد باستغراب:
, -خير في حاجة؟
, أشار لها بعينيه لتتبعه فتحركت بهدوء معه متباطئة في خطواتها لتتمكن من الحديث معه بانفراد، أخرج من صدره زفيرًا مسموعًا ليقول بعدها بجدية:
, -بيتهيألي مالوش لازمة التأجيل بعد اللي اتقال!
, فهمت مقصده، هو يعني إتمام الزيجة التي تأجلت بفعل الظروف الطارئة التي مرت بها العائلة، تحرجت منه قليلاً وهي تهمس باعتراض طفيف:
, -بس٣ نقطة
, قاطعها بهدوء:
, -هي خلاص عرفت كل حاجة!
, بدت نظراته أكثر صرامة وهو يكمل بجدية:
, -وطالما دي رغبتها يبقى أكيد هاتفرح لما تلاقينا مبسوطين، صح؟
, تردد في إعطائه إجابة مباشرة، فتحججت قائلة:
, -طب أخد رأي عمتي وبسمة
, رد عليها بهدوء:
, -براحتك، وكمان في حاجة
, عقدت ما بين حاجبيها متسائلة بتوجس:
, -ايه هي؟
, أجابها بهدوء:
, -دلوقتي أنا ظبطت الشقة بتاعتنا، ناقص كام حاجة فيها وتكون خلصت، فايه رأيك لو اتجوزنا فيها؟
, رمشت بعينيها عدة مرات، كان الأمر محيرًا نوعًا ما، فقد رتبت أمورها على البقاء معه في البداية مع عائلته، لكنها تفاجأت بتجهيزه منزل الزوجية في وقت قصير،
, استشعر منذر حالة التخبط المسيطرة عليها والتي انعكست بوضوح على ملامحها، فأكمل موضحًا:
, -أنا مديكي حرية الاختيار، ده موجود وجاهز، والأوضة جاهزة في بيتنا، ممكن نيجي عند أهلي ونبات كام يوم، فكري وأنا معاكي في اللي تختاريه!
, ابتسمت له لكونه يمنحها مساحة من الحرية للتفكير فيما ترسد، فردت بإيجاز:
, -ماشي
, لف ذراعه حول كتفيها ليجبرها على السير معه في أحضانه، فتورد وجهها خجلاً من حركته البسيطة تلك، مال عليها برأسه ليهمس لها باشتياق:
, -وحشتيني، ووحشني حضنك!
, أدارت رأسها في اتجاهه لتنظر له بأعين لامعة، فتناست مع نظراته تلك الأحزان التي تعيشها، ففي عينيه الدفء والأمان.
, ٣٥ نقطة
, بعد مرور يومين، حدق الجميع باندهاش غريب غير متوقعين ما يحدث بالمنطقة الشعبية، لو سرده أحدهم لم يكن ليصدقوه، لكن ما يروه الآن يحدث على مرأى ومسمع من الأشهاد، فالحاج طه المعروف بالشدة والصرامة وهو يسير بصحبة مهدي أبو النجا ليتجه به نحو مطعمه الذي حُكم عليه بالغلق لتجاوزات ابنيه مع عائلته وكأن شيئًا لم يحدث، تجمع المارة متبادلين همهمات خافتة متابعين بفضول ما يدور.
, صاح طه عاليًا:
, -اتفضل يا حاج مهدي، افتح محلك بنفسك!
, التفت الأخير نحوه محدقًا فيه بنظرات شاكرة، لقد تفاجأ به يطلب منه فتح مطعمه ليمارس عمله من جديد، تشكل على ثغره ابتسامة صغيرة قائلاً بامتنان:
, -ولاد الأصول محدش يقدر يتكلم عنهم بكلمة، كتر خيرك يا حاج طه على اللي عملته معايا، أنا مش عارف أقولك ايه
, ضرب طه بعكازه الأرضية الصلبة قائلاً بجدية:
, -احنا مش بناخد حد بذنب حد، وأنا عارف إنك إنت اللي باني المطعم ده طوبة طوبة، فاقعد فيه وليك الأمان!
, هز مهدي رأسه مرددًا بانكسار:
, -**** ما يحكم عليك ظالم!
, أشار له بكفه متابعًا:
, -بينا يا حاج مهدي نتكلم في مطعمك!
, ثم استدار برأسه للجانب صائحًا في أحد عماله:
, -شربات هنا يا وله حلاوة رجوع الحاج مهدي بالسلامة!
, رد الأخير بامتثال وهو يبتسم:
, -أوامرك يا حاج طه!
, ظلت علامات الذهول والصدمة مرسومة على أوجه الجيران، ورغم ذلك أبدوا إعجابهم بتصرفه العقلاني خاصة في موقف القوة، حينما تكون منتصرًا، هو كسب المزيد من الاحترام والتقدير من قاطني المنطقة، وظل الحديث عن ذلك المشهد دائرًا على ألسن الجميع ٣٠ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨٧
تلفت حوله بتوتر كبير مترقبًا ولوجها إلى المطعم القريب بين لحظة وأخرى، لا يعرف سبب طلبها لرؤيته خارج المنزل، بدا له أن الأمر هامًا للغاية خاصة أنها خالفت مبادئها وأصرت على الالتقاء به منفردًا دون إبلاغ عائلتها، طرق بأصابعه على السطح الزجاجي للطاولة محاولاً تخفيف حدة القلق الذي يعتريه، لكن كيف له أن يتحكم في ذلك وقلبه بين ضلوعه يدق بعنف حتى كادت صوت نبضاته المتلاحقة تصم آذانه.
, أحس بوجودها فحرك عينيه للجانب ليجدها تسير بتمهل محبب له، نهض من مكانه راسمًا على ثغره ابتسامة مشرقة، أشار لها بيده قائلاً بحماس:
, -اتفضلي يا بسمة
, هزت رأسها بإيماءة خفيفة كنوع من التعبير الرمزي عن تقبلها لترحيبه المتحمس لوجودها، وجلست على المقعد المقابل له، تابع متسائلاً باهتمام:
, -تحبي تشربي إيه
, عبست بوجهها مرددة بجدية:
, -لأ مش عاوزة
, قطب جبينه هاتفًا باستنكار:
, -وده كلام؟ لازم تاخدي حاجة الأول، ده أنا مش عاوز أطلب أكل ولا٣ نقطة
, أشارت بكفها معترضة:
, -لالالا، مالوش لازمة
, ابتسم قائلاً بلطف وهو يشير بيده
, -طيب مسافة ما يجي العصير، ترتاحي وتاخدي نفسك كده، عصير بس!
, استسلمت أمام إلحاحه المستمر مرددة:
, -طيب
, تنهد بحرارة محدثًا نفسه بنبرة حالمة:
, -وأهي فرصة أملي عيني منك!
, حضر النادل إلى الطاولة راسمًا على ثغره ابتسامة مصطنعة وهو يرحب بالعميلين، فأعطاه دياب طلبه، دونه سريعًا وانصرف ليتابع الاثنان حديثهما، بدت بسمة في حالة ارتباك كبير ممزوجة بالتخبط، عضت على شفتها السفلى بتوتر بائن، وحاولت تصفية ذهنها لكي ترتب أفكارها، زفرت بصوت مسموع وهي تقول بتردد:
, -بص.. أنا مش عارفة أقول ايه!
, نظر لها دياب اهتمام فواصلت بحيرة:
, -أنا حاسة إن الكلام طاير من دماغي
, ابتسم لرؤيتها على تلك الحالة المربكة، خاصة أن بشرتها تزداد توردًا وعيناها بريقًا، أشار لها بيده بهدوء:
, -سمي ب**** كده وأنا معاكي على الخط
, تنحنحت بصوت خفيض لتتابع بعدها:
, -انت عارف ظروف مرض نيرمين وحالتها
, هز رأسه قائلاً بنبرة مواسية:
, -**** يشفيها، كلنا زعلانين عشانها، لعلمك أمي بتحبها أوي و٣ نقطة
, قاطعته قائلة بجدية:
, -يا رب أمين، المهم أنا ٤ نقطة
, وقبل أن تكمل جملتها انضم لهما النادل محضرات العصائر الباردة، فتوقفت مجبرة عن الحديث، لتنظر له بجدية، ابتسم قائلاً بنبرة عملية مرحبة:
, -اتفضلوا يا فندم!
, لوى دياب ثغره قائلاً بامتعاض:
, -متشكرين
, انتظره للحظاتٍ حتى انصرف فسلط أنظاره عليها مكملاً بابتسامة متسعة:
, -اشربي يا بسمة!
, زاد توترها المصحوب بعبوس مقلق فحاول تخفيف حدة الاضطراب المسيطر عليها، فتابع مازحًا:
, -بلي ريقك، ده فريش و****
, كورت قبضتها ضاغطة على أصابعها بقوة وهي تتنفس بعمق، هتفت فجأة دون أي مقدمات:
, -دياب!
, تحفزت حواسه لنطقها اسمه مجردًا من بين شفتيها، أسبل عينيه نحوها مرددًا بسعادة:
, -عيون دياب!
, انعقد ما بين حاجبيها بشدة وهي ترد:
, -نعم؟
, أشار بسبابته مبتسمًا:
, -بأقول اشربي قبل ما يبرد
, ردت عليه مستنكرة جملته الغريبة:
, -على فكرة ده عصير، يعني بارد أصلاً!
, حك مقدمة رأسه باستغراب، ثم ابتسم قائلاً بمزاح:
, -و****، يبقى اشربيه قبل ما يسخن!
, استاءت من كونه يجعل الموقف هزيلاً فصاحت بحدة طفيفة:
, -ممكن تديني فرصة أقول الكلمتين اللي جاية عشانهم!
, لاحظ التبدل السريع في ملامحها ما بين الاضطراب والتشنج، والتردد والصلابة، فرد عليها بحذر:
, -ماشي، بس أمانة عليكي يا شيخة، وحياة حبيبك النبي ما تكون حاجة تزعل!
, أجابته بتجهم:
, -و**** على حسب
, ابتلع ريقه قائلاً:
, -استر يا رب، أنا خايف من الدخلة دي!
, صمتت للحظات تستجمع فيها شجاعتها، أخفضت نظراتها متحاشية تحديقه المتعمد بها لتركز فقط في كأس المشروب الموضوع أمامها، تنحنحت هامسة بتردد:
, -احم.. دلوقتي نيرمين كانت.. كلمتني بخصوص.. يعني موضوعنا!
, تأهب في جلسته، وأصغى بانتباه تام لكل كلمة تقولها، إذًا فالمسألة متعلقة بهما وليس أمرًا أخرًا، سألها باهتمام:
, -ها وبعدين؟
, تلعثمت وهي تقول:
, -هي هاتكون فرحانة لو٣ نقطة قصدي هي هاتبقى مرتاحة لو٣ نقطة
, صمتت محاولة ترتيب أفكارها، فبدا أكثر تلهفًا لمعرفة ما الذي تريد قوله، هتف بإصرار:
, -لو ايه؟
, شعرت بصعوبة كبيرة في البوح باسترسال طبيعي لتخبره برغبة أختها في وجود رابط رسمي بينهما، حاولت التلميح عن ذلك الأمر قائلة بحذر:
, -أنا مش عاوزة أكسر بخاطرها
, تمتم معلقًا بصوت خفيض:
, -ولا بخاطري أنا كمان!
, مطت شفتيها لتضيف:
, -مممم.. يعني إن٣ نقطة إنت وأنا.. قصدي إنك.. مش عارفة بقى!
, مل من تلك الإطالة التي لا تسمن ولا تغني من جوع فهتف بنزق:
, -بسمة قولي إنك وافقتي نرتبط، صح؟
, أجابته بصوت أقرب للهمس وهي تتحاشى النظر كليًا له:
, -ايوه
, اتسعت ابتسامته بصورة عريضة حتى برزت نواجذه، وتلاحقت أنفاسه مرددًا بعدم تصديق:
, -احلفي!
, رفعت رأسها لتنظر نحوه باستغراب وهي تقول:
, -نعم
, هب واقفًا من مكانه ليحدق بها بنظرات أكثر تفائلاً وحماسًا عن ذي قبل، صاح بنبرة عالية غير مكترث بمن حوله:
, -إنتي وافقتي نتجوز؟
, تلفتت حولها بحرج وهي تقول:
, -اقعد، كده هتفضحنا!!
, وضع يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة مرددًا بفرحة جلية:
, -أخيرًا، ده أبو الهول نطق وإنتي لأ!
, حاولت أن تلفت أنظاره لكون ردة فعله تتجاوز حدود اللا معقول، لكنه كان في عالم أخر مرسوم فيه جميع أحلامه معها، تنهد مطولاً وهو يردد بارتياح:
, -ياه، نشفتي ريقي عشان أسمع كلمة أه منك!
, رمشت بعينيها عدة مرات هاتفة بخجل من أسلوبه:
, -دياب مايصحش كده، الناس بتتفرج علينا
, دنا منها ليمسك بكف يدها وطالعها بنظرات شغوفة بها، هتف بلا مبالاة:
, -سيبك منهم!
, ضغط على يدها بأصابعه مؤكدًا:
, -وأنا أوعدك عمرك ماهتندمي على القرار ده
, حاولت سحب يدها من كفه ضاغطة على شفتيها وهي تقول:
, -ممكن تعقل وتهدى!
, اضطر أن يمتثل لطلبها، وأرخى يده عن كفها مضطرًا كي لا تثور، عاد إلى مقعده مضيفًا بسعادة:
, -**** يباركلها أختك، عملت حاجة كويسة، هادعيلها بضمير
, سألته مستنكرة:
, -ده على أساس إن قبل كده كنت لأ؟
, فرك طرف ذقنه مرددًا بحرج طفيف:
, -لأ هاكثف الدعا وأركز
, -إن شاء ****
, انتصب في جلسته متابعًا:
, -شوفي إنتي حابة أتقدم امتى رسمي ونتجوز، أنا جاهز على فكرة و٣ نقطة
, قاطعته مسرعة قبل أن يفرط في حماسه وخيالاته:
, -لأ هي خطوبة و٣ نقطة
, رد رافضًا المماطلة:
, -هو احنا لسه هانعرف بعض؟ جرى ايه بسمة، العملية كده باخت أوي، طب ايه رأيك نكتب الكتاب زي منذر وأسيف؟
, -ممممم..
, -احنا نخلي الفرح فرحين ونعملهم سوا، ها قولتي ايه؟
, ردت بهدوء حذر:
, -بلاش استعجال
, سألها بإلحاح وهو يعمق نظراته الرومانسية نحوها:
, -خير البر عاجله، ها موافقة؟ قولي أه، طب أي حاجة؟
, لم تعلق عليه واكتفت بالصمت، فصاح مهللاً وهو يرفع يديه في الهواء:
, -بيقولوا السكوت علامة الرضا، وأنا شايف بعيني أحلى بسمة في الدنيا!
, زادت سخونة وجهها من غزله الصريح لها، فنهضت واقفة من مكانها لتقول:
, -هامشي أنا بقى
, هب واقفًا هو الأخر مرددًا بعبوس:
, -بالسرعة دي، أنا كده بأتكروت على فكرة!
, نظرت له بطرف عينها وهي تقول بجدية:
, -عن اذنك
, ظل للحظة متسمرًا في مكانه محاولاً استيعاب تلك المفاجأة، هي وافقت بعد عناء على الارتباط به، فرك وجهه بيده مخرجًا تنهيدة عميقة من صدره، تنبه لكونه تركها تنصرف بمفردها، فأسرع بإخراج بعض المال من جيبه ليضعه على الطاولة ثم تحرك في إثرها ليلحق بها.
, ٥٤ نقطة
,
, -على بركة ****، يبقى الدخلة بكرة!
, قالها منذر مبتسمًا وهو يطالع زوجته بأعين متوهجة من الحماس بعد أن حصلت على موافقة عمتها للتبكير بميعاد حفل الزفاف إزعانًا لرغبة نيرمين خاصة أن منزل الزوجية بات معدًا لاستقبال العروسين، كذلك لم تعترض بسمة هي الأخرى، فكل ما تطلبه أختها في تلك الفترة العصيبة بمثابة أمنيات يسعى الجميع جاهدًا لتحقيقها على أمل إعطائها دفعة إيجابية لتستمر في رفع روحها المعنوية، تورد وجه أسيف بالكامل لمجرد ذكر تلك العبارة، وأخفضت أنظارها لتحدق في أي شيء إلا وجهه مما اضطره لوضع إصبعيه على طرف ذقنها ليرفع وجهها إليه وهو يهمس لها بعشق:
, -بأحبك!
, ردت عليه بهمس وهي تعض على شفتها السفلى:
, -وأنا كمان!
, أمسك بكفها بأنامله، ثم رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ابتسمت له بخجل كبير، وبادلته نظرات والهة أججت من مشاعره نحوها، سيطر بصعوبة على تلك الرغبات الجامحة التي تعتريه معللاً لنفسه أن كل شيء في وقته أفضل، نهض من مكانه قائلاً بجمود مصطنع ليخفي رغبته فيها:
, -أنا هاقوم أشوف الكهربا والزينة، وإن شاء **** على الصبح كل حاجة هاتكون جاهزة!
, هزت رأسها بتفهم، فأكمل بثقة:
, -مش عاوزك تشلي هم أي حاجة يا أسيف!
, وقفت قبالته قائلة بجدية وكأنها قد تذكرت أمر ما:
, -ماتنساش دياب هايكتب كتابه على بسمة و٣ نقطة
, قاطعها بهدوء:
, -هما مسئولين عن نفسهم، خلينا مع بعض
, حركت رأسها بإيماءة صغيرة وهي تضيف:
, -ماشي، بس أنا كنت عاوزة أطلب منك حاجة، ويا ريت ماتكسفنيش
, طالعها بنظرات دافئة قائلاً:
, -انتي بس تؤمري
, أعطتها جملته الأخيرة الثقة لتقول بلا تردد ما تنوي فعله إن وافقها الرأي في ذلك.
, ٤٠ نقطة
,
, حركت رأسها على الوسادة لتحدق في الستائر الساكنة بأعين دامعة، هي الآن بمفردها في غرفة وحيدة، يصاحبها ألمها الذي يفتك بجسدها، وذكرياتها التعيسة التي أنهكت عقلها، بحثت عن السعادة بين ما مرت به، فلم تجد إلا القسوة والجفاء، فتحول قلبها للجحود وتجمدت مشاعرها تدريجيًا، انهمرت العبرات بغزارة من ازدياد حدة الوجع لتبلل وسادتها، أصدرت أنينًا مكتومًا وهي تقاتله بمقاومة أخيرة حتى أنهكت تمامًا، فخرجت شهقاتها الباكية معبرة عما تتحمله من أوجــاع.
, لم تسمع تلك الدقات الخافتة على باب غرفتها، فقد حان موعد المتابعة من قبل الطبيب المسئول عن حالتها، لكن لظروف ما تعذر عليه الحضور فأرسل من ينوب عنه، أطل الطبيب برأسه متنحنحًا بخشونة ليلفت انتباهه لوجوده، لكنها لم تشعر به، نظر لها بإشفاق مستشعرًا ألمها، ودنا منها قائلاً بهدوء:
, -مدام نيرمين
, أدارت رأسها في اتجاهه لتجد شخصًا غريبًا يطالعها بنظرات أكثر غرابة، توقفت عن البكاء رافعة يدها إلى وجهها لتمسح عبراتها بأنامل مرتعشة وهي تسأله:
, -إنت مين؟
, أجابها مبتسمًا دون تكلف:
, -حضرتك أنا د. نبيل، والمفروض هاتابع مع سيادتك الحالة لحد ما يرجع الدكتور بتاعك، هو عنده٤ نقطة
, قاطعته بحدة:
, -امشي، مش عاوزة حاجة!
, رد بجدية:
, -يا مدام، أنا مقدر الألم اللي فيكي، وده طبيعي أثناء العلاج، حضرتك٣ نقطة
, قاطعته بيأس:
, -أنا عارفة إني هاموت، فمحدش يكدب عليا ويقولي كلام غير ده
, هتف معترضًا:
, -أنا مش معاكي، إنتي متشائمة وده بيعمل نتيجة عكسية مع العلاج
, تنهدت مستاءة من كونه يضغط عليها، زاد ألمها، فتأوهت بصوت مكتوم، دنا منها يتفحصها بدقة قائلاً بهدوء:
, -اهدي يا مدام نيرمين، إن شاء **** فترة وهتعدي
, اغرورقت مقلتاها بالعبرات فبكت بإحباط:
, -معنتش قادرة، تعبت من كل حاجة، نفسي أرتاح بقى!
, ربت على كف يدها برفق قائلاً بابتسامة ودودة:
, -هترتاحي إن شاء ****، وأنا موجود جمبك لحد ما الجرعة تخلص!
, التفتت برأسها نحوه لتنظر له بامتنان، هي حقًا كانت بحاجة لوجود من يقف إلى جوارها وإن كان غريبًا عنها ليخفف عنها ألمها المصحوب بالوحدة، هي اكتفت من معاناتها في صمت حتى غص صدرها ولم تعد تتحمل المزيد، فانفجرت باكية تشكو كل شيء.
, لم يقاطعها الطبيب نبيل، تركها على حريتها لتطلق العنان لنفسها، و تقوم بما يسمى بالتداعي الحر، فربما تكمن راحتها في ذلك، ظل إلى جوارها حتى انتهت جلسة علاجها الكيماوي ثم تركها تستريح متمنيًا لها الشفاء.
, ٤٥ نقطة
,
, ترقب على أحر من الجمر خروجها من مركز التجميل، مر الوقت بطيئًا عليه رغم انشغاله طوال اليوم في الترتيب لكل شيء، لكن ما أصعب اللحظات الأخيرة، لم يعد يفصله عنها سوى دقائق معدودة، فرك كفيه معًا، وتلفت حوله بشرود محاولاً إلهاء عقله عنها ولو للحظات، لكنه رفض الإنصات ليظل باله مشغولاً بها هي فقط، ربت دياب على كتفه بقوة وهو يقول:
, -مبروك يا عريس!
, التفت منذر ناحيته ليرد بامتعاض:
, -**** يبارك فيك، ما هي ليلتك إنت كمان
, جذب دياب طرفي سترته الرمادية بيديه قائلاً بابتسامة مغترة:
, -أرزاق يا ابن أبويا!
, ابتسم لمزاحه الطريف فتابع قائلاً بتعجب وهو يهز رأسه:
, -حد كان يصدق إن أنا وإنت نتجوز في ليلة واحدة!
, ثم لكزه برفق في كتفه ليكمل بعبث غامزًا له بطرف عينه:
, -بس يا بختك إنت دخلة يا معلم، وأنا مع إيقاف التنفيذ!
, رد عليه منذر محذرًا:
, -إحمد **** إنها جت كده معاك، مين عالم كان ممكن ولا حاجة من دي تحصل!
, هز رأسه بالإيجاب هاتفًا:
, -أه و****، ده أنا حامده وشاكره، كده رضا على الأخر!
, وضع منذر يده على كتف أخيه ليضغط عليه قليلاً وهو يضيف:
, -**** يتمملك على خير يا دياب، و**** فرحانلك!
, احتضن الأخير أخيه بود كبير معبرًا له عن حبه الغريزي له فهو نعم السند له، ضمه منذر بذراعه وهو يربت على ظهره بقوة، تباعد الأخان عن بعضهما البعض ليحدقا في باب المركز بعد سماعهما لأصوات الزغاريد تصدح بالداخل، هتف دياب بمرح:
, -سمعت، باين عليهم خلصوا
, نفخ منذر مرددًا بنفاذ صبر:
, -أخيرًا، هما بيخترعوا الذرة جوا
, رد عليه دياب مازحًا:
, -عقبال ما يدوها وش صنفرة على كام وش معجون والبوهية في الأخر!
, لكزه منذر في جانبه محذرًا بغلظة:
, -بطل بواخة، مراتي حلوة من غير أي حاجة!
, غمز له أخاه مرددًا بعبث ماكر:
, -يباركله يا عمنا، إمسك البوكية بقى واجهز
, سأله منذر باهتمام:
, -ها، البدلة مظبوطة؟
, ضبط دياب لأخيه رابطة عنقه السوداء، وعدل له من ياقة حلته التي تحمل نفس اللون ليبدو كل شيء منمقًا ولائقًا به، رفع إبهامه أمام وجهه هاتفًا بإعجاب:
, -مية مية يا كبير!
, سحب منذر نفسًا عميقًا يضبط به انفعالاته المتلهفة بشغف متحمس لرؤية عروسه التي ستخرج إليه بين لحظة وأخرى، مشاعر قوية انتابته في تلك اللحظة لتزيد من نبضات فؤاده، شعر بتدفق الدماء في عروقه، بنشاط عجيب يجتاح كل ذرة في خلايا جسده، حرك قدميه بتوتر وهو يشدد من قبضته الممسكة بباقة الورد البيضاء ليردد بارتباك:
, -يا مسهل يا رب ٣٧ نقطة !!
, حُكم عليه بالإقصاء لتجاوزاته الغير أخلاقية ولمخالفته المعاهدات الودية بين العائلتين، فاضطر أن يرضخ لقانونهم الجبري واتجه لتأسيس عمل جديد خاص به بعيدًا عن منطقته الشعبية، نظر إليه والده مطولاً قبل أن يستطرد حديثه متسائلاً بهدوء:
, -مش ناوي تيجي معايا؟
, التفت مازن ناحيته مرددًا بتجهم وهو يعقد رباط حذائه:
, -لأ، أنا رجلي اتقطعت من الحتة دي، ومش ناوي أعتبها تاني!
, اعترض عليه مهدي قائلاً:
, -بس يا بني الحاج طه هيفرح لما نقوم بالواجب معاه، و..
, قاطعه بجدية:
, -يا أبا ده بيجبر بخاطرك، لكن إن كان عليهم مافيش حد من عيلة حرب نسى اللي فات!
, -**** يهدي الحال
, -ده غير إن أنا عندي شغل كتير، توضيب المطعم ولوازمه!
, سأله أباه مستفهمًا:
, -استقريت على اسمه ولا لسه؟
, أجابه بهدوء وهو يضبط ياقته:
, -أه "مشاوي حسب الطلب"
, رد عليه مهدي بنبرة متمنية:
, -**** يجعله فاتحة خير عليك
, -أمين!
, بدا وكأنه قد تذكر شيئًا ما فهتف بتلهف:
, -بالحق، المحامي اتصل وبلغني إنه جابلنا تصريح بالزيارة، ماهو مجد اتجدد حبسه على ذمة التحقيقات
, رد عليه مهدي بعبوس:
, -أخوك ضيع نفسه بنفسه! **** يعينه على **** هو فيه!
, لم يعلق مازن على جملته تلك، فقد اكتفى من كم المشكلات التي أرهقت كاهليه، وهو بحاجة للبدء من جديد، انتبه لسؤال والده المباغت:
, -مش ناوي ترجع لولاء؟
, عبست قسماته بشدة ورد بتأفف ظاهر على محياه:
, -قفل على السيرة الغم دي، هي خلاص انتهت من حياتي!
, اعترض مهدي على أسلوبه قائلاً:
, -يا مازن دي مراتك و٣ نقطة
, قاطعه بحدة:
, -كانت.. مش الهانم رفعت قضية خلع؟
, صمت والده ولم يرد، فاحتدت نظرات ابنه مضيفًا بحنق:
, -تشرب بقى، وبعدين خليها تكسبها عشان تبريني من كل حاجة، كفاية اللي لهفته هي وأمها
, هز رأسه بإحباط، فحياة ابنه لم تعد كما كانت، فزيجته فسدت، وعمله تأخر، وهو الآن بصدد تحديات أكثر صعوبة، هتف قائلاً:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****
, تابع قائلاً بانفعال:
, -هي كانت جوازة غلط من الأول، جابتلي الفقر ووجع القلب، وأديني خلصت منها! خليني أفوق للبلاوي اللي ورايا!
, يئس من إقناعه بالعدول عن رأيه وإن كان صائبًا في جزء كبير منه، لكن سبق السيف العذل، وحسم الأمر بينهما.
, ٤١ نقطة
, أخذت تعبث بهاتفها المحمول بفتور وهي تحرك ساقها المتدلية من على مسند الأريكة غير مكترثة بنظرات والدتها المحتدة نحوها، كظمت الأخيرة غيظها في نفسها، فابنتها أضاعت من يدها كل شيء بعنادها الجامح، زفرت مستاءة من جلوسها بالمنزل، من أفعالها الطائشة، وخاصة محاولاتها الفاشلة للتودد لطليقها السابق دياب.
, هي علمت مصادفة بأمر عقد قرانه لكنها لم تأتِ على ذكر المسألة أمامها كي لا تثور ثائرتها، وتفعل ما لا يُحمد عقباه، أخرجها من تفكيرها المتعمق صوت ولاء المتسائل:
, -ماقولتيش ايه رأيك؟
, سألتها بحيرة وهي قاطبة لجبينها:
, -في ايه؟
, ردت عليها بتبرم:
, -أومال أنا بأحكي في ايه من الصبح
, زفرت شادية بصوت مسموع وهي تقول بامتعاض:
, -مكونتش مركزة٣ علامة التعجب
, اعتدلت في جلستها موضحة بحماس قليل:
, -بأقولك صاحبتي عاوزاني أشاركها في بيوتي صالون
, نظرت لها والدتها بغرابة وهي تسألها:
, -ده عبارة عن ايه؟
, أجابتها مشيرة بيدها:
, -حاجة زي كوافير كده بس على مستوى عالي! ستايلش وفيه سمعة
, -وانتي دورك ايه؟
, -لسه مش عارفة، بس بأفكر أكون معاها
, بدت أمها غير مهتمة بالتفاصيل، فردت بفتور:
, -اعملي اللي انتي عاوزاه
, نهضت ولاء من على الأريكة متفرسة في وجهها بتعمق، كانت تعبيراتها تشير إلى وجود خطب ما بها، شيء ما يزعجها لكنها ترفض الإفصاح عنه، سألتها باهتمام:
, -مالك يا ماما، شكلك مش مبسوطة؟
, -عادي
, تابعت ولاء هاتفة بنبرة حالمة وهي تسير بخطوات متهادية في أرجاء الصالة:
, -وأهي فرصة يعرف البيه دياب أنا هابقى ايه، وساعتها هايجي عندي يتسرجاني أرجعله، ده غير إني واثقة إنه هيرمي المصدية اللي معاه!
, نظرت لها شادية بقوة، ابنتها تبني أحلامًا في الهواء لن تتحقق يومًا، لذلك لم تجد بدًا من إخفاء الأمر عنها، فإن عاجلاً أم آجلاً ستعلم، لذلك حسمت أمرها بإبلاغها الآن حتى لو انفعلت، فالأفضل أن تكون على دراية بمسألة عقد قرانه، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة وهي تسألها بحذر:
, -انتي عرفتي بموضوع دياب
, التفتت ناحيتها برأسها لتبدو تعبيراتها أكثر حدة وهي تردد متسائلة:
, -ماله؟
, ابتلعت ريقها وهي تكمل:
, -يعني مافيش خبر وصلك عنه
, فقدت أعصابها في لحظات وهي تصيح بها:
, -في ايه يا ماما؟ ماتقولي على طول ٣ علامة التعجب
, صمتت لثوانٍ تحاول إطلاعها على الخبر، لكن حصار ابنتها لم يمهلها الفرصة لانتقاء كلماتها، فخرج صوتها مترددًا وهي تقوا
, -أصله٣ نقطة هـ.. هيتجوز
, ارتفع حاجباها للأعلى في ذهول عجيب، وتوترت أنفاسها وهي تهتف بعدم تصديق:
, -ايييه؟
, ضغطت شادية على شفتيها بقوة مترددة في المتابعة، ولكن إشارات وجهها، وإيماءات عينيها كانت كفيلة بتأكيد ما قالته، انتابتها نوبة من الهياج لمجرد تخيله بصحبة أخرى يتأبط ذراعها ويهيم في حسنها عشقًا، صرخت بلا وعي:
, -بتقولي ايه؟ يعني ايه هايتجوز؟
, اضطربت أنفاسها بصورة ملحوظة، ونهج صدرها علوًا وهبوطًا مرددة بصدمة جلية:
, -ايه الهبل ده؟ دياب مش بيحب حد، دياب مش هايتجوز، لأ! إنتي بتقولي كده عشان تحرقي دمي!
, أمسكت بها أمها من ذراعيها تهزها بعنف وهي تقول:
, -فوقي من الأوهام اللي انتي عايشة فيها، خلاص دياب هيكتب كتابه ويتجوز، كفاية عبط بقى، كله سابك وبعد عنك، وإنتي لسه مصدقة نفسك
, نفضت ولاء قبضتي والدتها عنها بعصبية أشد لتصرخ بها باهتياج متشنج:
, -إنتي السبب، استحالة أسمحله يتجوز!
, ركضت كالمجنونة في اتجاه باب المنزل بثيابها المنزلية، حاولت والدتها اللحاق بها صائحة:
, -رايحة فين يا ولاء؟ استني يا مجنونة!
, استدارت برأسها نصف استدارة لترد بنبرة تحمل الغضب:
, -هامنع الجوازة دي!
, ٤٧ نقطة
, لمعت عيناه بوميض العاشقين منتظرًا خروجها من الباب، ومع كل ثانية تمرق عليه يزداد لهفة ورغبة فيها، لمح تلك الأطياف التي تتحرك من خلف الزجاج الداكن، فتأهبت حواسه بالكامل واستعد لرؤيتها، فُتح الباب ببطء فتجمدت أنظاره على الخارجين منه، في البداية كانت أخته الصغرى ووالدته التي غطى صوتها المطلق للزغاريد أصوات الجميع، ارتسم على ثغره ابتسامة متشوقة، وشعر بدقات قلبه تزداد قوة وخفقانًا.
, توهجت حدقتي منذر حينما رأى حبيبته تطل عليه بثوبها الأبيض، خطفت قلبه، وسلبت لبه، اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرى خجلها المثير يكسو تعبيراتها المتلألأة، مرر أنظاره سريعًا عليها، كان يشبه ثوب السندريلا في تصميمه، ضيقًا إلى حد ما من الخصر، وينساب بتموجات واسعة حتى الأسفل، ناهيك عن الذيل الطويل الذي يحتاج لعدة أشخاص لرفعه، وما زادها رونقًا وجمالاً هو حجابها الأبيض الذي برز بتاجٍ يليق بها، تحرك نحوها ناظرًا لها بتعمق وهو يقول:
, -بسم **** ماشاء ****!
, تحاشت النظر إليه وأخفضت عينيها بارتباك ملحوظ، سحبها من ذراعها ليتأبط بها قائلاً:
, -مبروك يا أحلى عروسة
, ردت أسيف هامسة:
, -**** يبارك فيك
, ناولها باقة الورد مضيفًا:
, -ده عشانك!
, ابتسمت بخجل أكبر وهي تأخذه:
, -شكرًا
, هتف دياب بمرح وهو يشرأب بعنقه للأعلى محاولاً اختلاس النظرات:
, -وأنا فين عروستي؟
, وضع يده على رأسه متابعًا بمزاح رغم قلقه:
, -وقعت منكم جوا ولا ايه؟ طب أخش أشوفها؟ ما حد يقولي؟!
, ردت عليه جليلة بابتسامة أمومية:
, -اصبر على رزقك، هي طالعة أهي!
, بالفعل ما هي إلا لحظات حتى ظهرت بسمة أمامه وهي في مزدانة في ثوب "كشميري" اللون، خطفت أنظاره بجمالها الهادئ، وبابتسامتها المشرقة، هتف بحماس دون أن يعبأ بلفت الانتباه:
, -اللهم صلي على النبي، هو في كده!
, خطى سريعًا نحوها مداعبًا:
, -أنا قولت غيرتي رأيك ولا حاجة، ما إنتي بمليون حالة!
, احتدت نظراتها نحوه لتردد محذرة:
, -دياب
, أمسك بها من ذراعها ليعلقه على ذراعه، ثم مال عليها برأسه ليتغزل بها هامسًا بابتسامة شبه بلهاء:
, -قلب دياب وكلاويه!
, أشارت له بعينيه متابعة بصرامة:
, -بص قدامك
, حرك رأسه بالإيجاب وهو يرد بجمود زائف:
, -ماشي يا أبلة!
, لم يستطع إخفاء ابتسامته، فهي ببساطة تعبير صريح عن الفرحة الغامرة التي تعتريه، لم يكن ليحلم بهذا، أن يجد الحب بعد أن فقد الإيمان به، أن يحصل على زوجة توافقه الرأي، تليق به وتستحقه، شعر بالرضا لكونه قد حاز في الأخير على حب حقيقي.
, تحرك الجميع نحو السيارات المرابطة أمام مركز التجميل ليجلس العرائس في أماكنهم متجهين نحو المشفى حيث الاحتفال بالزيجة مع نيرمين.
, ٤١ نقطة
, لم تكن لتدعها بمفردها في ليلة كهذه، ربما هي طريحة الفراش وعاجزة عن النهوض والتحرك بفعل جرعات الأدوية الكيماوية التي تحقن بها أوردتها، لكن هي أمها التي تشعر بألمها وإن أنكرت، بحزنها وإن صمتت، أعدت لها عواطف ثوبًا فضفاضًا مريحًا اشتركت في اختياره مع ابنتها الصغرى ليليق بتلك المناسبة البهيجة التي سيتم الاحتفال بها هنا، لم تتخيل نيرمين أن تصر أسيف على وجودها رغم تعذر قدومها، لكن ما لم تضعه في الحسبان أن يتم الترتيب لحفل أسري صغير بالمشفى مقتصر فقط عليهم دون أن يسببوا الإزعاج لباقي المرضى، وتزينت الغرفة بباقات الورد ووضعت في الأركان، وبمقاعد مريحة لاستقبال الضيوف القادمين.
, راقبت نيرمين ما يحدث بأعين لامعة، مقاومة بصعوبة رغبتها في البكاء، كل شيء يشير إلى قلب طيب، روح نقية لم ترد إلا الحب من عائلتها الجديدة، وهي بخلت عليها بذلك، في تلك اللحظة أدركت أنها أخطأت في معاملتها الجافة لها، لم تكن بالقريبة الجيدة والتي تستحق معاملة مثل تلك، فإن كانت في محلها لقست عليها وعاملتها بفظاظة ووضاعة، لكنها دومًا تثبت لها أن الأنقياء يسعون للخير، بكت متأثرة لقسوتها معها، لظلمها لها، ندمت على ما كانت تنتويه من شر مستطر لها، انتحب صوتها، ولاحظت أمها عبراتها المنهمرة فاقترب منها متسائلة بتخوف:
, -مالك يا نيرمين؟ في حاجة تعباكي؟
, هزت رأسها نافية وهي ترد:
, -لأ
, أمسكت عواطف بمنشفة ورقية لتمسح عن وجهها تلك الدمعات التي تبلله وهي تسألها:
, -اومال بتعيطي ليه؟
, أجابتها بصوت متقطع:
, -مش مصدقة، أسيف تعمل كل ده!
, ابتسمت لها عواطف وهي ترد:
, -مش قولتلك، بنت أخويا طيبة وبتحب الناس!
, حركت رأسها بإيماءات تؤكد ما قالته، ثم همست بندم:
, -**** يسامحني على اللي كنت بأعمله فيها!
, رفعت أعينها الباكية نحوها متسائلة بحزن:
, -تفتكري هي هتسامحني؟
, ردت أمها بثقة:
, -يعني لو مكانتش بتحبك كانت عملت ده عشانك؟
, بكت نيرمين مجددًا، فحذرتها والدتها برفق وهي تلف حول رأسها حجابها الوردي:
, -ها بلاش تعيطي، هما زمانهم على وصول، خليني أعملك الطرحة!
, اكتفت بالابتسام لها وعاونتها في ضبط حجابها بلفة بسيطة لا تسبب لها الاختناق أثناء تنفسها المضطرب، وزينتها والدتها بحليٍ جميلة لتعيد لها جزءًا من جمالها المفقود.
, ٤٣ نقطة
, اصطفت السيارات بجراج المشفى، وتفاجأ العاملون بالعروس التي تسير بصحبة زوجها في اتجاه الاستقبال، انتابهم الفضول لمعرفة الأسباب، فأي عذر يدفع بعروسين في ليلة مميزة وخاصة كتلك للحضور إلى هنا، لابد أن يكون السبب قهري، اعتلى وجوههم دهشة كبيرة حينما علموا أنهم قدموا للاحتفال مع قريبتهم المريضة، لم يصدقوا الأمر في البداية، لكن حينما صدحت الزغاريد تأكدوا من صدق الادعاء.
, دقت جليلة الباب بخفة مستأذنة بالولوج وهي تقول:
, -ينفع ندخل
, هتفت عواطف مرحبة:
, -طبعًا، ده احنا أعدين مستنينكم من بدري
, أطلقت زغرودة صغيرة وهي تفسح المجال للعروسين بالمرور، دخلت أسيف أولاً وعلى ثغرها ابتسامة ناعمة، سلطت أنظارها على ابنة عمتها التي كانت تطالعها بأعين دامعة، فتحت لها ذراعيها لتستقبلها في أحضانها، فرفعت أسيف ثوبها من الجانبين لتتحرك نحوها، احتضنت كلتاهما الأخرى بحب كبير، وتبادلت الاثنتان قبلات ودية، خانتها العبرات فبكت وهي تقول:
, -ماينفعش نحتفل من غيرك
, ردت عليها نيرمين بصوت متأثر:
, -مش هنسى اللي عملتيه معايا أبدًا!
, تبعها منذر متنحنحًا بصوت خشن ليشير إلى وجوده، ثم أردف قائلاً:
, -سلامو عليكم
, تراجعت أسيف للخلف لتتمكن نيرمين من رؤيته، طالعته بنظرات حانية وهي ترد:
, -وعليكم السلام، مبروك يا سي منذر، **** يسعدك ويفرح قلبك
, رد عليها بهدوء:
, -**** يبارك فيكي
, أبعدت عينيها عنه بصعوبة، فلا يحق لها الآن التطلع إليه، بينما تراجع للخلف منزويًا بأحد الأركان ليتجنب ذلك الموقف الحرج، ولجت أختها الصغرى بثوبها المتلألئ لداخل الغرفة لتضفي المزيد من الحماسة وهي تقول:
, -أديني سمعت كلامك أهوو
, ضحكت نيرمين من بين عبراتها مرددة:
, -أخيرًا، كده أنا أرتاح!
, اقتحم دياب الغرفة متسائلاً بنزق دون أي مقدمات تمهيدية:
, -المأذون مستني برا، أقوله يدخل ولا أعمل ايه؟!
, ردت عليه جليلة بضحكة عالية:
, -اصبر يا ابني، ده العجلة من الشيطان!
, نظر لها بغيظ وهو يرد بتجهم:
, -ماشي، هاقوله يتركن برا!
, اعترضت نيرمين هامسة:
, -خليه يدخل، مالهاش لازمة يستنوا
, هتف دياب متحمسًا:
, -أهوو، ست الكل قالت!
, رد عليه منذر محذرًا:
, -اهدى على نفسك شوية!
, ظلت حالة الشد والجذب المرحة بين الجميع للحظات حتى انتهت بحضور الحاج طه ليتم بعدها عقد القران بين دياب وبسمة بحضور أفراد العائلتين فقط في أجواء احتفالية هادئة، أطلقت جليلة زغرودة فرحة، وانضمت إليها عواطف لتعبر عن سعادتها بزواج ابنتها وابنة أخيها، تمنت أن تدوم تلك الفرحة للأبد، ألا يعكر صفوها أي شيء.
, داعبت نيرمين رضيعتها وهي جالسة في أحضانها مراقبة بنظرات صامتة ما يدور، حمدت **** في نفسها أنها شهدت على تلك اللحظة حتى لو كانت ستحفر ذكرى حزينة في نفسها، فراق الحبيب وزواجه من غيرها، المهم الآن أن يحظى بالسعادة التي حرمت هي منها.
, انتهى الوقت المخصص للزيارة، فولجت الممرضة لداخل الغرفة لتشير إلى ذلك، امتثل الجميع لطلبها، وبدأوا في جمع متعلقاتهم استعدادًا للانصراف، هب الحاج طه واقفًا من مقعده ليتجه نحو فراشها، مد يده ليصافحها وهو يقول:
, -ألف سلامة يا بنتي، شدة وتزول
, نظرت له بامتنان وهي ترد:
, -**** يخليك!
, أشار لها بسبابته متابعًا:
, -شدي حيلك واحنا معاكي في أي حاجة
, ردت بهدوء:
, -تسلم يا حاج طه، مش جديد عليك!
, -ده انتي زي بنتي، وولادي أخواتك!
, التوى ثغرها بابتسامة شبه متهكمة، فقد نطقها منذر من قبل وأكد عليها قلبًا وقالبًا، فليست بحاجة إلى سماع ذلك، اعتبرت حديثه مجاملة وحافظت على ابتسامتها الباهتة التي تغطي تعابيرها المرهقة، لاحقًا انسحب الجميع واحدًا تلو الأخر من الغرفة لتبقى معها أسيف فقط ورضيعتها، رفضت الانصراف حتى تتحدث معها في أمر أخير ٢٨ نقطة
, ٥٠ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44
٨٨
استغلت لحظة انشغال الجميع عنها أثناء استعدادهم للانصراف لتطلب منها البقاء دون أن تلفت الانتباه لكونها رغبتها الخاصة، فاستجابت ابنة خالها لطلبها، واعتذرت بلباقة عن الذهاب مع زوجها لتبقى لعدة لحظات معها تؤنسها فيها وتشد من أزرها، توجس منذر خيفة أن تكون نيرمين تدبر لها أمر ما لتفسد عليهما ليلتهما المميزة، فتعمد البقاء بالخارج وملصقًا ظهره بالحائط ليتنصت عليهما، دفعه حدسه لفعل ذلك، وانتظر بترقب شديد ما دار بينهما.
, ابتسمت لها بكل ود وهي تطالعها بنظراتها الحنونة الدافئة، رأت في صفو حدقتيها راحة عجيبة غفلت عنها بسبب حقدها الأسود الذي أعمى بصيرتها، تنفست بعمق وهي تستطرد حديثها قائلة:
, -أسيف، أنا.. عاوزاكي تسامحيني
, وضعت يدها على كفها المرتعش لترد بابتسامة لطيفة:
, -صدقيني أنا نسيت اللي فات
, هزت رأسها معترضة وهي تقول:
, -لأ، انتي مش عارفة أنا كنت ناوية أعمل فيكي ايه، ولا الجحيم اللي كنتي هرميكي فيه، أنا٤ نقطة
, قاطعتها ابنة خالها بجدية دون أن تخفي ابتسامتها الودودة عن محياها:
, -خلاص يا نيرمين، ارمي ورا ضهرك، احنا بقينا أخوات
, تنفس منذر الصعداء لكون الموضوع لا يتخطى الاعتذار وإبداء الندم، فتراجع متحرجًا من استراقه السمع دون إذن ليعطي لهما مساحة من الخصوصية، جلس على أقرب مقعد منتظرًا على أحر من الجمر، فأمامهما ليلة حافلة.
, ابتسمت لها بصفاء يذيب ما في القلوب من أحقاد قديمة، ويمحو ما في العقول من ذكريات أليمة، فأدمعت عيني نيرمين بشدة، تعذر عليها المتابعة بنبرة ثابتة، فخرج صوتها متقطعًا وهي تضيف:
, -أنا قلبي كان مليان غل ناحيتك
, بررت لها أسيف موقفها العدائي نحوها مرددة ببساطة:
, -مكونتيش تعرفيني
, انسابت العبرات من طرفي عينيها متابعة بندم:
, -أنا عملت زي جدتي عزيزة ما عملت مع أبوكي وأمه، أنا مفرقتش حاجة عنها، لأ و.. وكنت عاوزة٣ نقطة
, منعتها عن إتمام جملتها جبرًا هاتفة بتوسل:
, -عشان خاطري أنا مش عاوزة أتكلم في اللي فات، المهم دلوقتي بقينا ازاي!
, ثم مدت أناملها لتمسح برفق عبراتها عنها، فسألتها نيرمين بصوت خفيض باكٍ:
, -يعني انتي من قلبك مسامحاني؟
, هزت رأسها بإيماءة واضحة وهي تجيبها:
, -ايوه
, تنفست بارتياح للحظات قبل أن تكمل بمرارة:
, -كان نفسي أشوف بنتي زيك
, احتجت على خبو مقاومتها سريعًا فهتفت بجدية:
, -ماتقوليش كده، الأعمار بيد ****، وإن شاء **** تشوفيها وهي بتكبر قصادك وتفرحي بيها و٣ نقطة
, قاطعتها نيرمين بصوتٍ واهن:
, -أنا حاسة بنفسي!
, ابتلعت ريقها قبل أن تتابع بجدية:
, -أسيف! مش هوصيكي عليها، علميها تكون زيك، تحب غيرها ماتكونش أنانية!
, ردت عليها ابنة خالها بنبرة متأثرة:
, -إنتي اللي هاتعملي ده بنفسك
, أحست أنها أزاحت ثقلاً كبيرًا كان يجثو على صدرها، أنها رممت شرخًا عميقًا في علاقتها مع صلة الرحم الأقرب لها، أغمضت عينيها قائلة بتنهيدة مرهقة:
, -أنا أخرتك عن عريسك، معلش!
, ابتسمت أسيف بخجل طفيف وهي تقول:
, -ولا يهمك
, ضحكت نيرمين من نفسها ساخرة:
, -سي منذر، زمانته بيدعي عليا!
, -متقوليش كده هو بيقدرك
, اشارت لها بيدها مكملة:
, -قومي شوفيه، بس خليني أبوس رنا
, هزت رأسها بالإيجاب ثم نهضت من مكانها لتحمل الرضيعة وقربتها إلى فمها، فطبعت أمها قبلة أمومية على وجنتها الناعمة، احتضنتها بيدها على قدر استطاعتها، وهمست لها بصوت شبه منتحب:
, -هتوحشيني يا ضنايا
, عاودت تقبيلها بعمق مشبعة عينيها من رؤيتها ثم أبعدتها عنها برفق، أضافت أسيف بنبرة رقيقة:
, -إن شاء **** هنعدي عليكي في أقرب وقت
, ردت عليها بهدوء:
, -براحتك، أنا كده ارتحت
, أوصتها أسيف مرددة بتحذير:
, -خلي بالك من نفسك
, في تلك اللحظة ولج الطبيب نبيل إلى داخل الغرفة ليتفقد حالة المريضة، فتفاجأ بوجود العروس بالداخل، تهللت أساريره مرددًا بحماس:
, -إيه ده لسه العروسة هنا؟!
, تحرجت أسيف من وجوده، واكتست تعبيراتها سريعًا بحمرة كبيرة وهي ترد بخجل:
, -احم .. أهلا وسهلاً بحضرتك!
, مد يده ليصافحها قائلاً بابتسامة مهذبة:
, -أنا د. نبيل
, نظرت إلى يده الممدودة نحوها وترددت في مبادلته المصافحة، فعمدت إلى الإشارة للرضيعة التي تحملها هاتفة بحرج وهي ترمش بعينيها:
, -أهلاً بيك يا دكتور!
, تفهم موقفها، وأبعد يده متابعًا بسعادة:
, -ما شاء ****، النفسية تمام النهاردة، أكيد العروسة غالية عليكي عشان وشك ينور بالشكل ده
, تابع منذر الموقف من على بعد بنظرات نارية، ورغم تصرف زوجته الحذر إلا أن ذلك أصابه بالغيرة الشديدة، فكون غيره يجاملها حتى لو كان الأمر بحسن نية إلا أنه أشعل نيران الغيرة بداخله، لم يستطع ضبط نبرته المتشنجة وهو يصيح عاليًا:
, -مش يالا بينا يا أسيف!
, انتفض جسدها على صوته، والتفتت برأسها نحوه لتنظر إلى قسمات وجهه المشدود، تحرك نبيل نحوه هاتفًا بمرح وهو يمد يده نحوه:
, -مبروك
, بادله منذر المصافحة بامتعاض جلي على وجهه قائلاً بعبوس:
, -**** يبارك فيك!
, شعرت بنظراته التي تأكله، بالغيرة التي تعصف بروحه، هو أحبها حتى الجنون، عشقها حتى النخاع، فكيف لا يثور لرؤية غيره يمدحها؟ تمنت لثانية لو عاشت مثل تلك المشاعر الفياضة لتغير الكثير في حياتها، ولتحولت لشخصية أخرى محبوبة، هتفت بصوت هادئ محاولة امتصاص الأجواء الحادة والمشحونة من حولها:
, -لا مؤاخذة يا سي منذر، أخرتكم!
, استدار برأسه نحوها قائلاً بجمود:
, -ولا يهمك، وسلامتك
, عاود التحديق في وجه الطبيب نبيل مرددًا بتجهم:
, -فرصة سعيدة يا حضرت!
, رد عليه نبيل بابتسامة محببة:
, -شكرًا ليك، ومبروك مرة تانية
, أضافت أسيف بعفوية دون أن تنتبه لذلك المشتعل حنقًا خلفها:
, -مش هنوصيك عليها يا د. نبيل، أرجوك خلي٣ نقطة
, قاطعها الطبيب بود وهو يوميء برأسه:
, -اطمني، أنا موجود!
, قبض منذر على ذراعها بيده، فقد بلغ الحلم معه أدنى مراحله، وهتف من بين أسنانه المضغوطة:
, -يالا يا بنت رياض، الجماعة قلقانين تحت
, نظرت له بغرابة وهي عاقدة لجبينها متعجبة من ذلك العبوس الظاهر عليه، ردت بهدوء:
, -حاضر
, رسمت ابتسامة زائفة على ثغرها وهي تود ابنة عمتها لتقول:
, -مع السلامة
, لوحت لها الأخيرة بيدها وهي تتنهد بتعب:
, -سلام
, تابعت الاثنان بأنظار مطولة وهما ينصرفان من الغرفة بصحبة رضيعتها، وظلت أعينها مثبتة على الباب للحظات حتى أخرجها من تحديقها الشارد صوت نبيل المتسائل باهتمام:
, -ها ايه الأخبار معاكي؟
, ردت باقتضاب وهي تدير رأسها نحوه:
, -الحمد****
, ٣٣ نقطة
, كادت قدميها أن تلتف حول بعضهما البعض وتتعثر في سيرها السريع وهو يسحبها بعصبية نحو الرواق، فحذرته بجدية:
, -بالراحة هاتكعبل وأنا شايلة البنت!
, أرخى قبضته عنها زافرًا بصوت مسموع ليخرج من صدره غضبًا مشحونًا بدا واضحًا للعيان، قست نظراته نحوها قائلاً بعتابٍ شبه حاد:
, -مش واخدة بالك من اللي عملتيه؟
, تعقدت تعبيراتها متسائلة بعدم فهم:
, -في ايه لكل ده؟
, رد عليها بغموض وهو متجهم الوجه:
, -هنتكلم بعدين يا بنت رياض!
, مطت فمها للأمام مرددة لنفسها باستغراب متوجس:
, -بنت رياض، واضح إنك مضايق أوي!
, التقطت أذناه جملتها رغم صوتها الخافت إلا أنه أجابها بجدية:
, -مش عاوز أتكلم دلوقتي، فالأحسن متسأليش
, هزت كتفيها قائلة بجمود:
, -براحتك
, أراد التحكم في غضبه، فكتم في نفسه بأقصى طاقته ما لديه من مشاعر محتقنة، ربما تصرفت بتلقائية مع الطبيب، لكنه لن يتحمل مثل تلك الأفعال البسيطة، هو يغار عليها بشدة، وعليها أن تعلم ذلك، لكن لا وقت للعتاب هنا، فالمكان والوقت لا يسمحان.
, تابعا السير بصمت في أروقة المشفى حتى وصلا إلى الاستقبال حيث ينتظرهما باقي أفراد العائلتين، فاستقل الجميع السيارات متجهين نحو المنطقة الشعبية لتكتمل أجوائهما الاحتفالية هناك.
, ٤٤ نقطة
,
, احتدت نظراتها المتقدة غيظًا على تلك الأضواء اللامعة التي تزين البناية وما حولها، هو اليوم سيزف إلى غيرها، سيقترن اسمه بأخرى يضمها إلى أحضانه، ستغدو حبيبته، وسيطارحها الغرام على فراش قد جمعهما سويًا، تأججت مشاعر الكراهية والحقد بداخلها، بلغت الذروة في لحظات، وانتظرت كالواقف على الجمرات قدومه لتفتعل فضيحة لا تنسى، بقيت بسيارتها تشحن غضبها بداخلها حتى سمعت أبواق السيارات تزداد، انتبهت حواسها بالكامل وتحفزت للهجوم.
, اصطفت السيارات على الناصية حيث الزفة الشعبية التي أصر الأخوين على إحضارها، كانت مفاجأة سارة لأسيف وبسمة، لم يتوقعا ذلك منهما، فعائلة حرب دومًا تلتزم بالأعراف المتبعة في كل شيء، لا تخرج عن الأصول والتقاليد حتى في أفراحهم، وإعلان خبر الزفاف ما لم يكن مصحوبًا بشيء مبهج ربما سيفسر بصورة خاطئة، لذا وجب على منذر التصرف بحنكة.
, استغربت أسيف من أسلوبه الرقيق في التعامل معها رغم تلك الحدة الطفيفة التي كانت ظاهرة عليه، ومع ذلك تجاوبت معه وارتسمت علامات السعادة على محياها، رأت في عينيه نظرات شغوفة بها، تشتاق لأحضانها، تتوق إلى تذوق طعم الحب معها، ولما لا فهي قد تربعت وبجدارة على عرش قلبه؟
,
, ترجل دياب من السيارة أولاً مستقبلاً التهنئات من المحيطين به، وتبعه أخيه، ثم اصطحب كل منهما عروسه وتأبط في ذراعها، التف الجميع حول منذر وعروسه ليشكلوا دائرة حولهما لتصدح بعدها أصوات التهليلات والزعاريد الفرحة، كما ارتفعت دقات الطبول والمزامير إعلانًا ببدء الزفة الشعبية المتعارف عليها، وبدأ الجميع بالتمايل والرقص معبرين عن سعادتهم بتلك الزيجة.
, بقي دياب مع عروسه بالمؤخرة يتبادلان حديثًا هامسًا لكن ضحكاتهما كانت واضح للعيان، أراد استغلال الفرصة والتغزل بها فسحبها بعيدًا عن الزحام لينفرد معها في حديث خاص، ولكن في تلك اللحظة تحديدًا ترجلت ولاء من سيارتها مندفعة نحوهما وهي تصرخ بهياج:
, -عملتها يا دياب!
, سلطت أنظارها النارية على وجه بسمة متابعة بتهكم صارخ متعمدة إهانتها:
, -لأ واتجوزت دي بالذات؟!
, ســـاد صمت رهيب بين الحضور المتواجدين حولهم والذين راقبوا المشهد بفضول مثير، بينما تجمدت أنظار دياب على شخصها المسيء إليه، احتقن وجهه بشدة، ونظر لها باحتقار متأملاً ثيابها المنزلية التي لم تعبأ بكونها ضيقة فتثير الفتن والأطماع في نفوس الرجال، واصلت صراخها المهتاج ملوحة بذراعيها:
, -بقى ترفض ترجع لأم ابنك الوحيد عشان الزبالة دي؟
, لم يستطع كبح جماح غضبه فأوشك على التهور والاعتداء بالضرب عليها، لكن سبقته بسمة بصفعها صفعة قوية ومباغتة لترد إليها إساءتها وهي تقول بصلابة:
, -الزبالة دي جابت أشكالك، وهتربي ابنك أحسن منك!
, وضعت ولاء يدها على صدغها متحسسة إياه، وقبل أن تفتح شفتيها لترد واصلت بسمة حديثها بقوة:
, -غلطة جوزي الوحيدة إنه عرفك، والحمدلله صلحها واتجوز اللي حبها وبتحبه!
, صفعات أقوى تلقتها ولاء على مرأى ومسمع من المتابعين للمشهد في الخلف، ورغم ذلك بدت أكثر صلابة وتماسكًا، هي لن تسمح لغريمتها بتذوق لذة الانتصار والظفر به، ستفعل أي شيء لتعكر صوف فرحتها، احتقنت نظراتها والتهب وجهها بدماء ساخنة، تدخل دياب مضيفًا بتهديد عدائي:
, -عشان خاطر ابني مكونتش عاوز أقرب منك، بس انتي تستاهلي اللي هايتعمل فيكي
, ردت عليه بتحدٍ:
, -مش هاسيبكوا تفرحوا، أنا هافضل زي الشوكة في ضهركم، هانغص عليكم حياتكم!
, أشارت نحو قدمها متابعة بسخرية واثقة:
, -وهاخليك يا دياب تجيلي زاحف تبوس رجلي
, وكأنها وضعت النيران بجوار الوقود لتزيد من تأزم الوضع واشتعاله، هدر بها بصراخ عنيف:
, -هادفنك وانتي واقفة!
, كاد أن يهجم عليها ليضربها علنًا لكن حالت بسمة بينهما بجسدها مستخدمة كل قوتها لدفعه للخلف متوسلة له:
, -ماتستهلش يا دياب!
, اغتاظت ولاء منها، فهتفت بنزق:
, -خلي الشرشوحة دي تنفعك!
, شدد دياب من قبضتيه على بسمة محاولاً إزاحتها من طريقه هادرًا بانفعال:
, -حاسبي يا بسمة، قسمًا ب**** مش سايبها!
, رأى مهدي زوجة ابنه مازن على تلك الحالة الهائجة، فانقبض قلبه بشدة، أدرك أن خلافًا حادًا دائرًا بينها وبين طليقها السابق، وما زاد من ضيقه هو تلك الحالة الفاضحة الظاهرة بها، فاندفع وسط الحشد الملتف حولها ليبعدها قبل أن يزيد الموقف حدة وشراسة، لف ذراعه حول كتفيها دافعًا إياها للخلف وهو يهتف بتخوف:
, -تعالي يا ولاء معايا!
, قاومته قدر استطاعتها وهي ترد بعصبية:
, -حاسب يا حاج مهدي، أنا٣ نقطة
, أجبرها على السير معه قائلاً:
, -سيبي الجماعة في حالهم، مالك بيهم
, صرخت فيه بجنون:
, -ابعد عني، أنا مش ماشية من هنا، لازم أحرق قلبه وأبوظ ليلته!
, نظر لها بغرابة متعجبًا ذلك الموقف الهجومي الغريب، فمن المفترض أنها لا تزال زوجة ابنه، وعلى وفاق حذر مع طليقها من أجل مصلحة ابنها الوحيد، لكن كونها على تلك الحالة المريبة أثار في نفسه الشكوك، نفض عن عقله مؤقتًا تلك الأفكار المتخبطة التي تعصف برأسه هاتفًا بصرامة:
, -يالا يا بنتي من هنا!
,
, شعرت أن قبضتيه تعتصران ذراعيها ورغم ذلك تحملت الألم لتمنعه من تصرف أهوج، توسلته باستعطاف كبير
, -عشان خاطري يا دياب! اسمعني بس!
, صاح بحدة وقد فقد السيطرة على أعصابه:
, -هاموتها، هي قفلت معايا!
, رأت في حدقتيه نظرات لا تنتوي خيرًا على الإطلاق، وأيقنت أنه لن يصغي لها مهما فعلت، لذا لجأت إلى وسيلة أخرى، ربما ستلهيه ولو بقدر بسيط عن التفكير بها، تعمدت الترنح بجسدها بصورة قوية لتلفت أنظاره هاتفة بصوت متقطع:
, -ديـاب.. آآ٣ نقطة
, نظر لها بغرابة وهو قاطب جبينه مرددًا:
, -بسمة!
, أبعدت قبضتيها عن صدره متراجعة للخلف، واهتزت بجسدها بطريقة مقلقة، ثم وضعت يدها على جبينها تتحسه وهي تقول بصوت خفيض:
, -مش عارفة مالي!
, عمدت إلى إخفاض نبرتها أكثر وتسريع أنفاسها وهي تكمل بصعوبة:
, -أنا .. دايخة خالص!
, لف ذراعه حولها ليمسك بها من خصرها، وأحال دون سقوطها متسائلاً بتخوف كبير:
, -مالك في ايه؟
, ادعت فقدانها للوعي لتثير فزعه، فحاول إفاقتها هاتفًا:
, -بسمة، مالك، ردي عليا، بسمة!
, أجابته بهمس:
, -أنا.. مخنوقة، نفسي بيروح!
, لم ينتظر أكثر من ذلك انحنى ليحملها بين ذراعيه، فأسندت رأسها على صدره مكملة تلك التمثيلية الزائفة للنهاية، استمع إلى تلك الهمهمات المستنكرة للموقف برمته فتجاهلها مضطرًا، سار بها مبتعدًا عن الجميع وكاظمًا في نفسه غضبه حتى يطمئن عليها أولاً، توجه بها نحو مدخل بنايته والتي كانت قريبة منه، ثم صعد بها بخطوات مهرولة إلى الطوابق العليا حيث يتواجد منزله.
, ولج للداخل مستخدمًا مفتاحه، ثم أسندها برفق على الأريكة القريبة، أسرع راكضًا نحو غرفته ليحضر لها عطرًا من غرفته، تأكدت بسمة من اختفائه ففتحت عينيها، وابتسمت لنفسها بغرور، اعتدلت في جلستها متنفسة الصعداء، فقد نجحت خطتها ببساطة وأبعدته عن شر تلك البغيضة، ضبطت من حجابها الذي تأثر من المشادات اليدوية، تفاجأ بها دياب في كامل وعيها فحدق فيها بأعين شبه مغتاظة، هتف متسائلاً فجأة بنبرة أجفلتها:
, -يعني كنتي بتشتغليني ٢٧ نقطة ؟!
 
٨٩
تواصل مع أحد أقربائها ذوي العلاقات الجيدة معه عله يكون سببًا في التوفيق بينهما من جديد وإصلاح ذات البين قبل أن يتمادى الأمر، ولوضع حد لتلك الخلافات الناشئة ولم الشمل من جديد، ربما عنادهما الزائد يدفعهما للتصرف بعدم عقلانية وبتهور كبير، لكن كما هو متبع عند رجال العائلات الكبار التدخل وحل الأزمات، لذلك اتفق معه على الالتقاء به لكنه لم يحدد الموعد، وترك للأخير حرية الاختيار، ما لم يضعه في الحسبان أن تكون زيارته موافقة لذلك اليوم العصيب.
, ابتلع مهدي ريقه، ولف ذراعيه حول كتفيها ليجرجرها قسرًا معه إلى مطعمه، حاول أن يمتص عصبيتها لكنها لم تهدأ وواصلت تذمرها وصراخها، صاح بها بنفاذ صبر:
, -اسمعي الكلام، ايه مالكيش كبير؟
, تجهمت تعبيراتها بشدة وزفرت بصوت مسموع، فتابع بازدراء وهو يرمقها بنظرات دونية:
, -على الأقل كنتي استري نفسك بدل ما حد من كلاب السكك يطلع عليكي وينهش لحمك
, نظرت ولاء إلى ثيابها فأدركت حجم حماقتها، هي اندفعت كالعمياء خارج منزلها دون أن تعبأ بما ترتديه من ثياب تعتبر شبه فاضحة ومثيرة للشهوات ربما سيظن من يتطلع إليها أنها إحدى عاهرات الليل، عجزت عن ستر جسدها، فانكمشت على نفسها حرجًا من نظراته الاحتقارية لها، أبعد عينيه عنها مكملاً بحدة:
, -ده انتي لسه على ذمة ابني، وإن كنتو هتطلقوا يبقى تصوني نفسك لحد ما تسيبوا بعض!
, انتبه لجملته التهكمية قريبها "كامل" المشهود عنه بالصرامة والشدة، ناهيك عن سماعه لبعض الأقاويل التي نالت من شرفها أثناء ولوجه للداخل، فتشكل تفسير مبدئي في ذهنه عن الموضوع، وربطه سريعًا بها حينما توجهت أنظاره تلقائيًا نحوها، بالطبع اكتسى وجهه بحمرة رجولية منفعلة، وهدر بصوت جهوري جعلها ترتعد في مكانها:
, -كاشفة لحمك يا بنت شادية؟
, التفتت برأسها نحوه لتجده يطالعها بنظرات شرسة لا تبشر بأي خير، فشحب لون وجهها سريعًا، شعرت بحجم الخطر المحدق بها، هو لا يتفاهم مُطلقًا، أسلوبه حاد وعنيف، فتيقنت أنها وقعت بين براثن من لا يرحم، حاولت تبرير تصرفها قائلة بخوف بائن:
, -أنا.. كنت٣ نقطة
, أشار لها كامل بكفه ليمنعها عن الكلام صائحًا بقوة:
, -ولا كلمة!
, سلط أنظاره على مهدي متابعًا بنبرته المحتدة:
, -ليه حق ابنك يا حاج ميرضاش يكمل معاها، معذور! ماهي ناقصة الأدب والتربية، بس ملحوئة!
, زادت كلماته الغاضبة من رعبها، فهو لن يتفاهم على الإطلاق معها، سيظن أنها عابثة، إن لم يكن قد تأكد لديه ذلك اليقين بعد أن رأها هكذا، حدق فيه مهدي بنظرات قلقة، وهتف بهدوء حذر:
, -اهدى يا حاج كامل، احنا لسه كنا٤ نقطة
, قاطعه بصلابة مخيفة:
, -ماتقولش حاجة، أنا شوفت بعيني!
, جمد أنظاره المخيفة على ولاء ليتابع بغموض مريب:
, -ولحمي هاعرف ألمه!
, استشعر التهديد العدواني في نبرته، فأكملت بهلع وهي توجه أبصارها نحو مهدي:
, -أنا٣ نقطة عمي إلحقني
, لم يمهلها الفرصة لطلب النجدة أو الاستغاثة بغيرها، فقبض على ذراعها صائحًا:
, -بينا يا بنت شادية!
, بدا مشمئزًا من هيئتها الفاضحة فنزع معطفه عنه ليضعها عليها قائلاً بوعيد:
, -استري لحمك، ولينا حساب في البلد، ما احنا مش هانقبل سمعتنا تتوسخ!
, ارتجفت أوصالها من تهديده العلني، وصرخت مستغيثة:
, -ماتسبنيش يا عمي، أنا واقعة في عرضك!
, لم يدع لها كامل أي فرصة للهرب منه، فأحكم قبضته عليها، ووجه حديثه إلى مهدي بجمود مخيف:
, -هي خرجت من ذمتك، وابنك حقه يعمل اللي عاوزه، واحنا أدرى بحال بنتنا!
, أدركت أنه لن يتركها تفلت منه فصاحت ببكاء:
, -كلم أمي بسرعة يا عمي مهدي، خليها تجيلي، هي عارفة مكاني!
, جذبها بشراسة خلفه هاتفًا من بين أسنانه المضغوطة:
, -تعالي يا٩ نقطة ! مالكيش أهل يلموكي!
, وقف عاجزًا في مكانه حتى عن تقديم أي مساعدة لها، بالطبع هي جنت على نفسها بتصرفاتها الهوجاء، ربما لو تريثت قليلاً أو تناولت الأمور بصورة عقلانية لأختلف الوضع كثيرًا لكنه ستحصد تبعات أعمالها، جذبها كامل بقسوة فعجزت عن إيقاف دفعه لها حتى وصل بها إلى سيارة خاصة كانت تعج برجال بلدتها الأشداء، حدقت في أوجههم العابسة بتخوف كبير، وقبل أن تفيق من صدمتها المذعورة وضعت بداخل السيارة حيث مصيرها الغامض الذي ينتظرها هناك.
, ٤٢ نقطة
,
, ارتفع حاجباه للأعلى باستنكار كبير حينما رأها تقف على قدميها وفي تمام صحتها لا تشكو من شيء، ضغط بغيظ على زجاجة العطر التي كانت في قبضته هادرًا:
, -بتعلمي عليا يا بسمة؟
, ارتجفت من صوته المفاجئ وحافظت على ثباتها الانفعالي هاتفة بتبرير:
, -مكانش ينفع أسيبك في الحالة دي وما اتصرفش!
, قذف دياب بعصبية زجاجة العطر على الأرضية لتتحطم إلى أجزاء ويتناثر ما بها على الأرضية الصلبة، انتفضت في مكانها من أثر الصوت المدوي، بينما تابع صارخًا بحدة:
, -انتي عارفة عملتي فيا ايه؟
, ازدردت ريقها بتخوف طفيف، واعترضت طريقه معللة:
, -مكانش قدامي إلا كده
, وقف قبالتها هاتفًا بحنق:
, -بس مش بالشكل ده
, كتفت ساعديها أمام صدرها، وهزت كتفيها في عدم مبالاة وهي تضيف ببرود:
, -اللي جه في بالي بقى!
, أغاظه نوعًا ما كونها غير متأثرة بحالة الخوف التي أصابته لظنه أن مكروهًا ما قد أصابها، وهي تقف أمامه متباهية بتصرفها، فكر للحظات في العبث معها لتلقينها درسًا ألا تثير أعصابه من جديد، التوى ثغره للجانب بابتسامة غير مريحة وهو يرد باقتضاب:
, -بقى كده، ماشي!
, شعرت بعدم الارتياح من طريقة لفظه للجملة السابقة بالإضافة إلى نظراته التي تحولت للغرابة وهو يطالعها، حلت ساعديها متسائلة بتوجس:
, -مالك؟ بتبصلي كده ليه؟
, جمد أنظاره عليها مرددًا بثبات مريب:
, -ايه انتي؟!
, تراجعت بحذر للخلف قائلة:
, -انت فيك٤ نقطة
, لم تكمل جملتها للأخير حيث حاوطها من خصرها مقربًا إياها بقوة إلى صدره هامسًا بتسلية:
, -هاه بقى؟
, نظرت له بتوتر شديد، واصطبغ وجهها بحمرة شديدة، ارتجفت أكثر من اقترابها المهلك منه في لحظة خاطفة، حاولت أن تنسل من أحضانه لكنه أحكم ذراعيه حولها كي لا تفلت منه، انتابها مشاعر متداخلة وهي تدفعه متسائلة بارتباك:
, -إنت بتعمل ايه؟
, شدد من ضمته لها قائلاً بمكر وهو يغمز لها:
, -مش احنا اتجوزنا، و.. وكده
, اتسعت حدقتاها بخوف كبير مرددة بصدمة:
, -جواز ايه، ده.. ده ورقة و٣ نقطة
, مال عليها برأسه هامسًا بنبرة ذات مغزى:
, -محدش هايكلمنا، وبعدين انتي جيتي هنا بنفسك، وأنا بأحبك و٣ نقطة
, استشعرت من طريقته المندفعة تهورًا أعمى، فتدفق الأدرينالين بقوة في دمائها يحثها على الابتعاد من أحضانه، هتفت باضطراب كبير:
, -ايه؟ لأ، ده٤ نقطة
, عمق من نظراته نحوها متابعًا بهدوء مثير للأعصاب:
, -فرصة ناخد راحتنا و٣ نقطة
, استخدمت أقصى قوتها في دفعه من صدره علها تتحرر منه، لكنها لم تستطع إبعاده عنها، ظل محاوطًا إياها يقربها أكثر إليه، زادت رجفتها وخوفها مما هي مقبلة عليه، وهتفت بذعر:
, -ابعد عني٣ نقطة
, عبس بوجهه مرددًا بحزن مصطنع:
, -ليه بس كده، مش كنا متفقين من الأول؟!
, لكزته في صدره بكوعها صائحة بتشنج:
, -حاسب
, أرخى ذراعه عنها ليمسك بها من معصميها، وطوق بالأخر خصرها ليتمكن من رفعها عن الأرضية، وسار بها نحو غرفته قائلاً بلؤم:
, -تعالي يا أبلة، ده أنا مصدقت نبقى سوى
, فزعت أكثر من أسلوبه الذي لم تعهده من قبل، فركلت بقدميها في الهواء صارخة بتشنج:
, -لأ
, لم يعبأ بمقاومتها الشرسة له فأكمل سيره متابعًا:
, -وفيها ايه لما نخلي الفرح فرحين؟
, صرخت بهلع:
, -و**** هاصوت وألم الناس، أنا مش عاوزة كده!
, أدرك أنها بلغت ذروة خوفها منه، فتوقف عما يفعل قبل أن يتطور الأمر، أنزلها على قدميها مرددًا بجدية:
, -اهدي خلاص، بأهزر معاكي!
, لمعت عيناها تأثرًا، ودفعته بعصبية قائلة بصوت مختنق:
, -أنا مش هاقعد هنا ثانية واحدة!
, حررها من قبضتيه فانطلقت مسرعة نحو باب المنزل لتفر منه لكنه اعترض طريقها مجددًا ليرد بابتسامة لاهية:
, -اسمعي بس، استني يا بسمة!
, تحركت للجانبين لتجد ثغرة تمر منها دون أن يمسها، وتحاشت النظر إليه هاتفة بحنق:
, -اوعى
, أشار لها بذراعيه معللاً:
, -عشان تعرفي لما بأضايق ممكن أتهور
, تعقد ما بين حاجبيها بشدة، وصاحت مزمجرة:
, -حاسب من وشي، عاوزة أمشي من هنا!
, ضم كفيه معًا بحركة متوسلة وهو يقول:
, -مش هاعملك حاجة صدقيني و****!
, أسبل عينيه نحوها متابعًا عن قصد عل رسالته تصل إلى مداركها:
, -الحاجات دي بالرضا يا بسمة، مش بالغصب!
, سدت أذنيها صائحة بتذمر:
, -مش عاوزة أسمع حاجة
, رد مازحًا:
, -بابور طايح في الناس، خلاص بقى يا حبيبتي!
, باغتها بتطويقها من كتفيها ليضمها إلى صدره، ورفض إبعادها عنه رغم تلويها بجسدها للتخلص منه، همس لها مستعطفًا:
, -و**** ما إنتي زعلانة، عشان خاطري!
, جاهدت لتزيحه عنها لكنه فشلت، فصاحت باستياء:
, -حاسب بقى
, ضحك من طريقتها مرددًا:
, -طب هاتي دماغك أبوسها، حقك عليا!
, انحنى على جبينها طابعًا قبلة نادمة عليه، لكنها رفضت العفو عنه هاتفة بعبوس شديد:
, -ابعد عني!
, رد معترضًا بشدة:
, -مش هايحصل، مش قبل ما نبقى صافي يا لبن!
, زفرت بصوت مسموع مستسلمة لقوته التي امتصت مقاومتها كليًا، فأكمل مداعبًا:
, -ولا بلاش، أنا عارفك هاتحميني زي المرة اللي فاتت، طب ما فكرة، ايه رأيك٤ نقطة
, رفعت وجهها لتحدق في عينيه بنظرات محذرة وهي تقول:
, -ايه؟
, قلد وجهها العابس بطريقة مثيرة للضحك مرددًا بجمود زائف:
, -خلاص يا شاويش عطية، مش هاعمل حاجة!
, عمق نظراته العاشقة نحوها فتلاشى تدريجيًا غضبها منه، همست له من بين شفتيها بغيظ:
, -بايخ
, رد عليها بصوت خفيض متغزلاً فيها:
, -بس قمر!
, قاومت تلك الابتسامة التي تحاول الظهور على محياها، فأضاف مازحًا:
, -مش هانجيب ليحيى أخ قريب؟
, دفعته بسمة بقوة من قبضتيها فتمكنت من تحرير نفسها منه، وردت بصرامة زائفة:
, -قليل الأدب، عيب كده!
, رفع دياب كفه في الهواء قائلاً بتبرم:
, -لسانك اللهم صلي على النبي مشرط! بينا ننزل بدل ما نطأش (نتشاجر) في بعض تاني
, تنحى للجانب فمرت سريعًا من جواره لتسبقه في خطواتها، تابعها بأنظاره الواله ممنيًا نفسه بليلة زفاف وشيكة يفعل معها ما يجيده العاشقين.
, ٤٥ نقطة
,
, لاحقًا، اختفى ضيقه منها مع استحواذ حماسه المتقد لليلتهما المرتقبة على كامل تفكيره، انشغل عنها مؤقتًا بتلقي التهنئات ممن حوله حتى حانت اللحظة التي انتظرها مطولاً، انتهت الزفة وتأبطت ذراعه وهي ترتعش من داخلها، حتمًا لم تكن تتخيل أجمل من ذلك، فرحتها كانت شبه كاملة رغم غياب أبويها ومرض نيرمين، سارت معه بتمهل نحو السيارة التي ستقلهما إلى منزلهما المستقل، فقد أبدى منذر رغبته في قضاء أول أيام حياتهما سويًا دون إزعاج ممن حوله، فاستجابت له ولم تبدي اعتراضها، وقفت عند السيارة فأقبلت عليها عمتها، ومالت عليها لتقبلها من وجنتها قائلة بنبرة باكية:
, -**** يسعد قلبك ويكرمك يا بنتي بالخير كله، و**** انتي تستاهلي ده
, احتضنتها أسيف بذراعيها قائلة بنبرة شبه مختنقة:
, -**** يخليكي ليا يا عمتي!
, طالعتها بنظرات ممتنة وهي تضيف:
, -وجودك الفترة دي فرق معايا كتير
, ردت عليها عواطف بنبرة منتحبة:
, -ماتقوليش كده، ده احنا أهلك
, التفتت برأسها للجانب موجهة حديثها إلى منذر الذي كان يصافح أحدهم قائلة بجدية:
, -مش هاوصيك يا ابني، دي الغالية بنت الغاليين
, استدار ناحيتها قائلاً بعتاب لطيف:
, -وده كلام يا ست عواطف!
, سلط أنظاره على وجه حبيبته قائلاً بنبرة صادقة:
, -دي قلبي!
, اشتعل وجهها بحمرة خجلة من غزله الصريح أمام عمتها، فأطرقت رأسها حياءً منها، أكملت عواطف بنبرة متفائلة:
, -إن شاء **** أعدي عليكم في الصباحية أطمن عليكم
, لم يكن بحاجة إلى تلك الزيارة، لكنه يعلم المقصد من ورائها، ورغم ذلك رد عليها بهدوء:
, -مافيش داعي تتعبي نفسك
, أصرت على القدوم قائلة:
, -ودي تيجي، ده الواجب يا سي منذر
, ابتسم مجاملاً:
, -تنورينا
, هتف دياب مهللاً من على بعد ليلفت الأنظار إليه:
, -مبروك يا عريس، بالرفاء والبنين!
, اقترب من أخيه ليحتضنه مهنئًا إياه، فسأله الأخير بفضول:
, -مختفي فين من بدري؟
, أجابه دياب بغموض:
, -شوية عوأ بس ظبطت الدنيا
, تعقدت تعبيرات وجه منذر إلى حد ما متسائلاً بجدية:
, -في حاجة حصلت؟
, أجابه أخاه بعدم مبالاة:
, -لأ كله تمام!
,
, وضعت عواطف يدها على كتف دياب لتربت عليه قائلة بود:
, -مبروك يا ابني
, استدار ناحيتها مرددًا بمرح وهو يشير بيديه:
, -**** يبارك فيكي يا حماتي، عاوزين نعجل بالجواز
, هزت رأسها قائلة بعدم اعتراض:
, -شوفوا اللي يناسبكم
, استمعت بسمة إلى جملته تلك، وأزعجها استباقه للأمور دون تمهل، فبدت متجهمة من طريقته تلك، وقفت إلى جوار العروس لتقبلها وردت ببرود:
, -أنا مش مستعجلة، لسه ورايا مدرسة وامتحانات ومراقبة وتصحيح و٤ نقطة
, أغاظه جفائها المستفز له، فقاطعها مرددًا بتهكم:
, -خلينا على الملاحق جايز تفضي، يمشي معاكي؟
, تغنجت بكتفيها قائلة بدلال:
, -هافكر!
, نظر لها بأعين لامعة مستمتعًا بحالة الشد والجذب بينهما، هي أعادت إحياء روحه من جديد، أضافت طعمًا إلى حياته الجافة بعد أن ضنت عليه مسبقًا بقسوتها، فلا ضرر من التريث حتى يصل إلى مبتغاه.
, ٤١ نقطة
,
, تجددت الزغاريد والتهنئات المباركة عند مدخل البناية كتوديع أخير للعروسين، وزاد حينها خوف أسيف مما هي مقبلة عليه رغم يقينها بأنه سيمنحها السعادة والحب، حاولت بث الثقة لنفسها كي تهدأ، ومع ذلك بدت أكثر ارتباكًا، فلم تستطع إخفاء خجلها، وبقيت في حالة إنطواء فاركة لأصابع كفيها المتشبثة بباقة الورد.
, لوح منذر لمن حوله قائلاً بجدية:
, -نجاملكم يا رب في الأفراح!
, ارتجف جسدها من صوته مستشعرة تلك اللحظات المميزة التي ستجمعهما معًا، فدنت من الدرج لتصعد عليه وتفر منه قبل أن يغازلها دون مقاومة،
, أمسكت بالدرابزون، وبدأت بالصعود بتريث، لكنه لحق بها هاتفًا:
, -استني يا أسيف!
, تسمرت في مكانها مستديرة برأسها نحوه قائلة:
, -سلم على الناس وأنا هاطلع
, نظر لها مطولاً وهو يرد بابتسامة عريضة:
, -ناس مين السعادي!
, لف ذراعه حول خصرها مضيفًا بصوت آجش:
, -وبعدين يصح تبقي عروسة وتطلعي كده وأنا موجود؟
, تفاجأت به ينحني عليها ليحملها بين ذراعيه مكملاً صعوده بها، فخجلت من تصرفه مرددة بهمس:
, -برضوه؟
, رد عليها بنبرة جادة وهو يرمقها بنظرات عاشقة:
, -أنا جوزك دلوقتي
, أبعدت عينيها عن مقلتيه التي تبثان لها حبًا غير محدود، وظل على ثغرها بسمة ناعمة تلهب المشاعر أكثر، لحظات ووصل بها إلى باب منزلهما، فأنزلها على قدميها ليفتح الباب، وقبل أن تطأ بهما للداخل قام بحملها مجددًا فشهقت مصدومة:
, -تاني؟
, رد موضحًا بنبرة غير قابلة للتفاوض:
, -لحد أوضتنا يا عروسة!
, زادت حمرتها الخجلة من تلك الكلمات الموحية، شعرت باضطراب أنفاسها، وبتلاحق دقات قلبها من فرط الحماس الممزوج بالحياء والخجل، دار في خلدها الكثير من الأفكار المتخبطة حول طبيعة حياتهما سويًا بعد أن أصبحت جزءًا من حياته، وكذلك هو، انتابها إحساس غريب بالخوف، حاولت تهدئة نفسها لكنها لم تقاوم رجفتها المتوترة، أخرجها من شرودها صوته الهامس:
, -أسيف
, التفتت برأسها نحوه لتجد أعينه تقتحم عينيها بقوة، ظلت أنظاره مثبتة عليها وهو يميل برأسه نحوها، همس لها بتنهيدة حارة نابعة من أعماق قلبه الذي يهيم عشقًا بها:
, -بأحبك!
, تقوست شفتيها مبرزة ابتسامة صغيرة عليهما، فانحنى عليهما ليحصل على أول قبلة انتظرها على أحر من الجمر وهي في أحضانه، شعر بخوفها، باضطرابها، برهبتها من الموقف برمته، فلم يتعجل الأمر، أغمضت عينيها مستسلمة لذلك الشعور الدافيء الذي اخترقها رويدًا رويدًا لينتشر في لحظات في أنحاء خلايا جسدها ليسحبها إلى مناطق شعورية حالمة، زادت قبلته تعميقًا، وتلاشى معها خوفها نهائيًا.
, ابتعد عنها ليحدق فيها بنظراته الشغوفة بها، رأى تأثير حبه المتأجج على تعابيرها التي استسلمت لتيار عشقه، فأنزلها لتقف على قدميها دون أن يفلتها من أحضانه، بقي ذراعه محيطًا لخصرها، ضمها إليه قائلاً بهمس:
, -ياه، استنيت اللحظة دي كتير
, رفعت عينيها نحوه لتنظر إليه بتأمل وقد أشرقت نظراتها بلمعان محبب، طوقت عنقه بذراعيها قائلة بصوت خفيض:
, -مين كان يصدق إننا هانكون لبعض؟
, ابتسم قائلاً:
, -حاجة ولا في الأفلام!
, بادلته ابتسامة رقيقة أغرته للعودة مجددًا إلى تذوق مذاق الحب من على شفتيها، نعم طال انتظاره، وتحمل على عاتقه الكثير حتى وصل بها إلى تلك اللحظة الفارقة، هو يعيش مشاعرًا لم يختبرها من قبل مع زوجته الراحلة، بدا كالمراهقين وهو يتلهف لضمها، للتمتع معها بأسعد أوقاته، تخلى عن صبره، واحنى رأسه عليها رافضًا إضاعة ثانية أخرى دون أن يتنعم بحبه المشتعل معها، ارتوت بذرة عشقهما مع كل قبلة حسية منحها لها، زادت توردًا وتجاوبًا، وفحمسه ذلك للتعبير أكثر عن حبه لها، فغرقا سويًا في سعادة وردية، تلاحمت فيها أجسادهما ، وتلاقت فيها روحهما الهائمة فأصبحا كيانًا واحدًا
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٩٠
مر أمام أنظارها الشاردة شريط حياتها العابث، ركضت وراء أهوائها متناسية يومًا كذلك، أرعبتها نظرات قريبها كامل حد الموت، ودعت **** في نفسها ألا يصل الأمر به إلى دفنها حية، كانت ترتعد في المقعد الخلفي، وهوى قلبها لأكثر من مرة في قدميها مع كل طريق مظلم تسلكه السيارة التي تقلها لبلدتها حتى توقفت عند منزله، هنا زاد شحوب وجهها وزاغت أبصارها، جذبها كامل من ذراعها بقبضته العنيفة آمرًا بجمود:
, -انزلي يا بت شادية
, ارتجفت شفتاها وهي تقول:
, -أنا٣ نقطة
, احتدت نظراته وبدت أكثر إظلامًا فارتعدت فرائصها، هتف من بين أسنانه بقسوة:
, -حريمنا هيوجبوا معاكي!
, أفزعتها كلماته المريبة تلك، فتهاوت قدماها وهي تجر خلفه نحو المنزل، استعطفته باستجداء:
, -اسمعني يا عمي، أنا هافهمك
, هدر آمرًا بصرامة ترعب الأبدان:
, -اتكتمي!
, صمتت مجبرة متوقعة هلاكًا حتميًا بالداخل، كان في انتظارها حفنة من نساء العائلة، نظراتهن كانت مخيفة للغاية ناهيك عن أوجههن الواجمة، جف حلقها من الخوف، دفعها بعنف نحوهن فسقطت تحت أرجلهن منكبة على وجهها، أشار لهن بسبابته صائحًا بلهجة صارمة:
, -مش هاوصيكم!
, ردت عليه إحداهن بنبرة قاتمة وهي تنظر لها بازدراء:
, -اطمن يا حاج كامل، الضلع الأعوج لازم يتعدل!
, رفعت ولاء رأسها لتنظر في وجه تلك المرأة، فرأت ما أخافها أكثر، مررت أعينها الخائفة على حفنة النساء التي شكلت دائرة حولها لتضيق عليها الخناق، دق قلبها بعنف وهي تتلفت حولها بذعر مرددة بتوسل:
, -اسمعوني، أنا معملتش حاجة!
, وكأنها تخاطب أصنامًا لا تنطق ولا تسمع، هن تلقوا أمرًا صارمًا بتهذيب أخلاقها على طريقتهن، بردع تصرفاتها الهوجاء بأسلوب عنيف، كاد قلبها يخرج من بين ضلوعها وهي ترى النساء يواصلن التحرك نحوها ليقمن بواجب الضيافة الخاص معها، نزعن عنها المعطف الذي يستر ثيابها، فشعرت أنها عارية، لا يحجب جسدها عن أعينهن الغاضبة شيء ، انهلن عليها بالضرب المبرح فصرخت متألمة، استغاثت بمن ينجدها لكن بدا صوتها لهن معزوفة آسرة حتى فقدت وعيها، حينها توقفن عن تعذيبها الجسدي، صاحت فيهن مرأة ما:
, -كفاية عليها كده، ودوها الزريبة زي ما الحاج كامل أمر!
, أمسكت بها اثنتان منهن من معصميها، وقامتا بسحلها على الأرضية حتى وصلتا إلى حظيرة البهائم، فتركت حبيسة ذلك المكان حتى يتم النظر في أمرها.
, ٤٤ نقطة
, وأصبح للحب عنوانًا يخلد بداخله أسماء العاشقين، كانت حلمه الغريب، وأصبحت واقعه الجميل، لم يغمض له جفن، وظل مستيقظًا طوال الليل ليتأكد أنها باتت زوجته وتغفو في أحضانه، لم تغب البسمة عن محياه، سحبها معه نحو أنهر العشق التي يجيد فنونها ببراعة، واستجابت هي لتيار حبه الجارف مستسلمة لأمواجه المتدفقة فتنعمت معه بأحاسيس لم تختبرها من قبل، حلقت معه في عنان السماء مستنشقة أكسيد الغرام الذي حفز حواسها بالكامل لتغدو تحت سيطرة العشق العميق، خشى أن تكون في مرحلة ما قد تأذت منه لكن للحب تأثير عجيب، لذة محببة تذيب الحواجز والمخاوف، فتخطت تلك اللحظات الحرجة والهامة بشاعرية مضاعفة لتصبح زوجته فعليًا.
, نامت أسيف في أحضانه بعمق ربما لكونها تشعر بالسكينة معه، وربما لأن الإرهاق قد تملك منها، لكن الأكيد أنها لم تعد تهابه، ظل يداعب خصلات شعرها بأصابعه متنهدًا بحرارة، احنى رأسه عليها ليطبع قبلة صغيرة على جبينه هامسًا لها:
, -بأحبك يا أسيف!
, تململت متأثرة من صوته الهامس الحنون فابتسمت بشغف، بدت كالطفل الصغير الذي وجد راحته بعد مجهود مضنٍ، ضمها إليه محاوطًا إياها بذراعه رافضًا السماح لها بالابتعاد عنه، أعاد إسناد رأسه للخلف مغمضًا عينيه ليستسلم لخدر النوم الذي بدأ يتسلل إلى جفنيه.
, ٤٣ نقطة
,
, احترقت وهي تتقلب على جانبيها متخيلة ما يفعله أي عروسين في ليلة عرسهما، تجسد في مخيلتها وجه منذر بملامحه الجادة ونظراته الصرامة، توهمته يتودد إليها، ينهال عليها بالقبلات الشغوفة، ويغدقها بأحضان دافئة تثير فيها الرغبات لتذوق المزيد معه، اجتاح رأسها ألم رهيب فجأة لتتبخر مع قوته أحلامها الوردية وتفيق على واقعها المرير، إنسانة مريضة على وشك ملاقاة الموت بين لحظة وأخرى.
, أدمعت عيناي نيرمين بشدة وهي تحاول تجاوز تلك الساعات العصيبة، لكنها كانت تمر ببطء بثقل يهلك القلوب قبل العقول، رغمًا عنها خرج أنينًا من جوفها شاعرة بوخزات قاسية تعتصر فؤادها، أجهشت بالبكاء سريعًا، كورت يدها ضاغطة على أصابعها بقوة وهي تحدث نفسها بأسى:
, -كان نفسي في واحد يحبني وأحبه، كنت هاكلها معاه بدوقة، مكونتش طالبة كتير، آه!
, زادت حدة الآلام التي تعصف برأسها فصرخت بوجع شديد، ولجت الممرضة بصحبة الطبيب نبيل على إثر صرخاتها المتتالية إلى داخل غرفتها، دنا منها متسائلاً بتلهف:
, -مدام نيرمين، حصلك ايه؟
, لم تكن تراه جيدًا، أثر ألمها المميت على مراكز الإبصار لديها، فبدت الرؤية مشوشة، واصلت صراخها المتألم صائحة ببكاء يدمي القلوب:
, -تعبت، كفاية بقي، يا ريت أموت وأرتاح، خدني يا رب، ارحمني من العذاب ده!
, انهارت مجددًا عاجزة عن مقاومة كل أوجاعها التي هاجمتها بشراسة، هتف فيها بنبرة عالية:
, -مدام نيرمين، متقوليش كده، كلنا معاكي وجمبك!
, أمسك بقبضة يدها يحتضن راحتها متابعًا:
, -أنا جمبك ومش هاسيبك، سمعاني يا مدام نيرمين، أنا موجود معاكي
, للحظة تسرب صوته الجاد إلى أذنيها فبدا كالترياق لذلك الذي يلتهمها بضراوة، هدأت نسبيًا وانخفضت حدة صرخاتها، ظل يبث في روحها المعذبة كلمات مهدئة حتى خف أنينها المصاحب لصراخها نوعًا ما، فقام بفحصها وإعطائها جرعة جديدة من دوائها عل أوجاعها تسكن، رفض تركها بمفردها وأكمل مناوبته الليلة ماكثًا في غرفتها حتى الساعات الأولى من الصباح مراقبًا إياها في صمت، شغل تفكيره تلك الجمل الغامضة التي كانت تهذي بها وسط صرخاتها، تساءل في نفسه بفضول عن الذي يدفع شابة مثلها للوصول إلى الحضيض في مشاعرها، لتعاني بقسوة رافضة التمسك بأقل الآمال لتبقى على قيد الحياة.
, ٤٧ نقطة
,
, تثاءبت بإنهاك وهي تجاهد للنهوض من نومتها التي طالت معتقدة أنها في غرفتها بمنزل عمتها وكانت منغمسة في أحلام ممتدة، شعرت بتيبس في عنقها، بألم طفيف في أجزاء متفرقة من جسدها، لكن صدمتها حينما رأته نائمًا إلى جوارها جعلها تشهق صارخة وكأنها رأت شبحًا للتو، انتفض منذر فزعًا على إثر صرختها محدقًا فيها بذهول، كمم فمها بيده ، وطوق بالأخرى عنقها ليمنعها عن الصراخ متسائلاً باندهاش:
, -في ايه؟
, جاهدت لتتحرر منه محاولة نزع يده عنها لكنها فشلت، امتص سريعًا صدمتها قائلاً بتريث عقلاني:
, -احنا متجوزين، وفي بيتنا!
, تجمدت أنظارها الجاحظة عليه، وتوقفت عن المقاومة والصراخ، بدأ عقلها يستوعب الأمر من جديد، هي بالفعل تزوجته، وكانت ليلة عرسهما بالأمس، أزاح يده عن فمها قائلاً بابتسامة عذبة:
, -افتكرتي، أنا منذر جوزك!
, أخفضت أسيف عينيها حرجًا منه، وهزت رأسها باستنكار كبير لتصرفها الأحمق في أول صباح يجمعهما معًا، دست يديها في خصلات شعرها المتبعثرة ضاغطة على شفتيها بقوة، ابتسم لخجلها الحرج منه متابعًا بمزاح:
, -حصل خير، بس يا ريت مايتكررش تاني، الناس تقول عنا ايه!
, زاد خجلها وبدا واضحًا على وجنتها التي اصطبغت بحمرة كثيفة، خبأته براحتيها متحاشية النظر إليه، وألقت بظهرها على الفراش زافرة بصوت مسموع، اعتدل منذر في نومته ليحدق فيها بنظرات والهة، لا يصدق أنها تشاطره الفراش، يشعر بدفء جسدها الملاصق لها، يراقب براءة روحها النقية التي أضاءت حياته الكئيبة، تحفزت خلاياه سريعًا للاستمتاع معها بحب جارف، فنهض من جوارها ليعتلي جسدها دون أن يلمسها، وهتف قائلاً بنبرة ذات مغزى
, -صباحية مباركة يا عروسة
, رفضت إبعاد يديها عن وجهها أو حتى النظر إليه بعد تصرفها الخجل مرددة بصوت شبه مكتوم:
, -صباحية إيه بقى، أنا وشي منك في الأرض!
, مد يده نحو قبضتيها ليزيحمها عن وجهها الذي شعر بسخونته من فرط حرجها، حدقت فيه بأعين لامعة، فتابع بتنهيدة حارة:
, -وحشتيني من بالليل لدلوقتي
, عبست بوجهها مرددة بغرابة:
, -هو احنا لحقنا؟
, التوى ثغره ببسمة عابثة وهو يقول:
, -طبعًا، إنتي مش عارفة أنا نفسي فيكي أد ايه
, -بس٣ نقطة
, قاطعها بهدوء مغرٍ:
, -ده مش وقت كلام خالص، احنا٥ نقطة
, لم يكمل جملته للنهاية فاستغربت من صمته، لكنه فسره لها حينما انحنى على رأسها ليطبق على شفتيها بشفتيه، قبلها بشغف أكبر، فذابت معه سريعًا، وتفاعلت مع حبه الذي أغدق به عليها، وانغمسا مجددًا في عشق خاص بهما.
, ٥٣ نقطة
,
, بصعوبة بالغة تمكن من النوم في فراشه، لم يغب عن باله صورتها التي انطبعت في مخيلته، ظل محدقًا في خاتم الخطبة لفترة طويلة متمنيًا أن ينقله لليد اليسرى، زفر دياب باستياء لكونه لم يتزوج مثل أخيه، همس بصوت مزعوج:
, -يا بختك، زمانتك غرقان في العسل، وأخوك مفحوت هنا!
, نهض عن فراشه ذارعًا الغرفة جيئة وذهابًا، بحث عن هاتفه ليحدثها، فقد تملكته رغبة كبيرة في سماع صوتها، تساءل مع نفسه بتوتر:
, -يا ترى هاتكون صاحية ولا لأ؟
, تردد في مهاتفتها واضعًا يده على رأسه قائلاً لنفسه:
, -استحالة تكون صاحية
, رن الهاتف فجأة في يده، فانتفض في مكانه مفزوعًا على إثر الرنة المباغتة، أطلق سبة نابية وهو يحدق في الشاشة بنظرات حادة، تحولت تعبيراته للوجوم الشديد حينما قرأ اسم "شادية" عليها، ضغط على زر الرفض مرددًا بازدراء:
, -ولية ٦ نقطة تجيب النحس، هو أنا ناقصها على الصبح!
, تجاهل اتصالاتها المتكررة واضعًا هاتفه على الوضعية الصامتة، اعتقد أنها تحاول تهديده كعادتها لكونه قد تطاول على ابنتها بالأمس، وتوجه إلى المرحاض ليغتسل قبل أن يقوم بزيارة صباحية مباغتة لعروسه التي اشتاقها.
, ٤٥ نقطة
,
, ضاقت بها كل السبل للوصول إلى ابنتها، فقدوم قريبها الصارم "كامل" قطع عليها الطريق للتواصل معه أو حتى معها، هو لن يتهاون فيما يخص سمعة العائلة، خاصة وضعها الفاضح الذي رأها عليه، سيحكم عليها بالبقاء في داره ريثما تنتهي القضايا مع زوجها الحالي ليقرر هو مصيرها، خافت عليها من أن يحكم عليها بالموت، فإن كان على عهده متعصبًا شديدًا لن يتراجع عن ذلك، هداها تفكيرها المحدود للجوء إلى والد حفيدها دياب، فهو مشهود عنه بمواقفه الرجولية، ربما سيبرر الموقف بصورة هينة يسهل تقبلها، فقريبها يثق فيه، ستقنعه بطريقتها أن يختلق عذرًا ما، لكنها فقدت الأمل في الوصول إليه، عاتبت نفسها لتفكيرها المحدود معتقدة أنه سيلبي ندائها بعد كل الخلافات الدائرة بينهما، لم يعد أمامها بدًا من الذهاب إلى مازن، الأمل الأخير بالنسبة لها، توجهت إلى منزله لتقابله، استقبلها بفتور لم يبذل جهدًا في إخفائه، توسلت له بقلب مفطور أن يساعدها لكنه أبى قائلاً بتهكم:
, -مش هي اختارت تشرب بقى!
, هددته شادية بصراخ:
, -هاضيعك يا ابن أبو النجا، التقارير الطبية معايا، هاقول اللي انت عملته فيها، اوعى مفكرني نسيت!!
, نظر لها بجمود غير عابيء بتهديداتها، ورد ببرود:
, -وإنتي قبضتي التمن
, صاحت فيه بصوت غاضب مهددة بيدها:
, -أخوك ضحك عليا، باعلي الهوا، مخدناش حاجة منكم!
, رد بعدم مبالاة:
, -ماليش فيه، وبعدين عاوزاني أرجع واحدة لامؤاخذة بتلوف على واحد تاني وهي على ذمتي، قالولك عني قرني؟
, اشتعلت حدقتاها من أسلوبه المسيء لابنتها، فصاحت بعصبية:
, -انت قذر وسافل
, هتف باستفزاز:
, -ده العادي بتاعي، مش جديد يعني
, بصقت في وجهه متعمدة التحقير من شأنه فاستشاط غضبًا، دفعها من ذراعها قائلاً بانفعال:
, -يالا يا ولية من هنا، أقولك على حاجة، بنتك طالق! خلصنا!
, ضاقت نظراته أكثر وهو يتابع بشراسة:
, -وهابعت ورقة الطلاق على بلدكم، يالا من هنا!
, شهقت شادية مصدومة من فعلته الغير متوقعة، وتلاحقت دقات قلبها بصورة كبيرة، لقد أنهت زيجة ابنتها دون قصد منها، وبات الأمر متأزمًا بصورة أكبر، وقفت في مكانها عاجزة عن التفكير فيما ستفعله إن نفذ تهديده ذلك، دفعها بلا رحمة إلى خــارج منزله ملقيًا إياها كالشاردة على الدرج، لم يشفع له كبر سنها ولا صلة النسب بينهما، أدركت بعد تلك المهانة أنها أجرمت في حق نفسها قبل ابنتها، أنها زجت بها في متاعب لا حصر لها بسبب أطماعها الغير منتهية، هبطت الدرج وهي تبكي بحسرة على مصائبها، تبقى لها أمرًا واحدًا هي المواجهة المباشرة مع عائلتها، عليها أن تعترف بأخطائها أولاً قبل أن يتم محاسبة ابنتها على أفعالها.
, ٥٣ نقطة
,
, توجهت نحو باب المنزل لتفتحه معتقدة أن محصل الكهرباء بالخارج، فاليوم هو الموعد الشهري لسداد الفاتورة، سارت عواطف بتمهل حتى بلغته، ثم قامت بفتحه لتتفاجأ بوجود زوج ابنتها دياب أمامها، تشكل على محياها ابتسامة ودودة وهي ترحب به:
, -اتفضل يا ابني، نورتنا
, رد عليها بابتسامة عريضة:
, -ازيك يا حماتي، أنا جاي أصبح عليكم، وأشوف إن كنتو محتاجين حاجة
, -تسلم على تعبك!
, تنحنح مضيفًا بخشونة طفيفة:
, -هي بسمة موجودة
, ردت عواطف ضاحكة:
, -يعني هاتروح فين، ما هي أعدة في البيت
, سألها بتلهف واضح عليه:
, -طيب ينفع أشوفها؟
, هزت رأسها بالإيجاب مرددة بحماس:
, -أه يا ابني، دي مراتك دلوقتي
, رفع كفيه عاليًا وهو يقول:
, -يسمع منك ****
, أضافت عواطف بودٍ:
, -ثواني هناديهالك، وأهوو بالمرة تقعدوا شوية قبل ما نعدي على نيرمين نشوفها، وبالمرة نطلع على العرسان نطمن عليهم
, -ماشي
, تحركت نحو غرفة ابنتها بعد أن استقبلته في غرفة الضيوف لكنها لم تكن بالداخل، رددت لنفسها:
, -تكونش في الحمام؟
, توجهت إلى هناك، فوجدت الباب موصدًا، وسمعت هدير الماء يأتي من الداخل فتأكدت من وجودها به، تحركت نحو المطبخ لتعد مشروبًا لضيفها ريثما تخرج بسمة لتستقبله،
, وكعادتها لم تهتم بمظهرها ففتحت باب المرحاض مرتدية قميصًا منزليًا ذو حملات رفيعة من اللون الوردي، يكاد يصل إلى ركبتيها، وشعرها المبتل ملتفًا بمنشفة قطنية، دندنت بأغنية شهيرة وهي تسير بلا اكتراث نحو الصالة لتلقي نظرة خاطفة على هاتفها الموصول بالشاحن،
, مرت بغرفة الضيوف فلم تنتبه لوجوده بالداخل، لكنه لمحها وهي تسير بخيلاء مثير ودلال ناعم يلهب المشاعر ويؤجج العواطف، هب من مكانه واقفًا ليحدق فيها مدهوشًا، لمعت عيناه بوميض مشرق، وارتسم على محياه ابتسامة عريضة، لم يتسمر في مكانه مطولاً، أسرع بتحريك قدميه نحو عتبة باب الغرفة ليستند بذراعه على الحائط، مرر أنظاره على جسدها الملفوف بنظرات مطولة، لم يستطع إبعاد عينيه عنها، فمجرد رؤيتها يعطيه إحساسًا صافيًا بالسعادة، فعليًا لم يكن يرى سواها، هتف بلا وعي بتنهيدة حارة:
, -هو في كده ٣٢ نقطة ؟!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٩١
أسرعت تستقل إحدى الحافلات المتجهة إلى بلدتها البعيدة، لم يبقَ أحد لمساعدتها سوى هي، وعليها التصرف حتمًا قبل فوات الآوان، فأي دقيقة تمر ربما تشكل فارقًا في حياة ابنتها، فصرامة الحاج كامل وشدته معروفة للجميع، ولن يتهاون في التفريط في حق العائلة طالما أن الأمر يمس سمعتها المهيبة، لم تتوقف عن الدعاء طوال الطريق آملة أن يرفق بها وألا يؤذيها، وصلت مع ساعات الصباح الأولى، فاستأجرت سيارة خاصة لتوصلها إلى منزله المعروف، حبست أنفاسها متوقعة الأسوأ، وبدت في وضع لا تحسد عليه حينما رأته يخرج من باب منزله، ازدردت ريقها هاتفة بحرج:
, -حاج كامل!
, التفت الأخير برأسه نحو صاحبة الصوت الأنثوي المعروف، رمقها بنظرات مشمئزة وهو يقول بجمود متهكم:
, -البشاير هلت
, دنت منه هاتفة بتلهف وهي تبتلع ريقها في حلقها الجاف:
, -بنتي يا حاج كامل، عملتوا فيها إيه؟
, رد عليها بجفاء وهو يشير بإصبعه:
, -رجعت عند عمها، احنا أولى بلحمنا!
, انحنت شادية على كفه تقبله وهي تستعطفه بتوسل شديد:
, -أبوس ايدك ارحمها، دي أم وعندها ابن، حرام يتيتم و٣ نقطة
, قاطعها ساحبًا يده من بين راحتيها:
, -ساعتها لسه ماوجبتش!
, تنفست الصعداء بعد جملته تلك، فتابعت متسائلة:
, -يعني هي لسه عايشة؟
, أجابها قائلاً:
, -أيوه، بس خلاص مالكيش حكم عليها
, أومـأت برأسها خانعة لقراره الصارم وهي تتابع بقلب ملتاع:
, -أنا راضية بحكمك بس أشوفها وأطمن عليك
, نظر لها مطولاً بتأفف حتى ظنت أنه سيرفض رجائها لكنه تنهد قائلاً بعبوس مقتضب:
, -أخرج تكلمي مع الحاجة وهي تطمنك!
, لم تجد بدًا من الاعتراض على حكمه، فارتضت بمحادثة زوجته علها تطمئنها عليها فيهدأ خوفها المبرر.
, ٤٢ نقطة
, مذلة ما بعدها مذلة، أن تتحول حياتك فجأة من الترف والبذخ إلى النقيض تمامًا، لم تتصور أن تصبح بين عشية وضحاها في وضع متردٍ كذلك، أفاقت من ألامها على تلك الرائحة المنفرة التي تقتحم أنفها بقوة، أصدرت أنينًا موجوعًا وهي تتقلب بألم على جانبها محاولة النهوض، اختنقت أكثر بتلك الرائحة المثيرة للغثيان.
, فتحت ولاء عينيها ببطء محاولة رؤية ما حولها، تأملت المكان بنظرة شمولية رغم تورم عينيها وعرفت من الأصوات القريبة منها أين هي، استندت على مرفقيها محاولة النهوض من رقدتها المتعبة، وسحبت ساقيها إلى صدرها لتنزوي بعيدًا عن البهائم التي كانت تتحرك حولها، بكت بقهر متحسرة على ما آلت إليه الأمور معها، انتفضت في جلستها مذعورة حينما سمعت صوت إحداهن يصيح عاليًا:
, -فاقت يا حاجة!
, ظنت أنهن سيتطاولن بالضرب عليها، فصرخت بهلع:
, -حرام و**** اللي بتعملوه فيا!
, ولجت إليها زوجة عمها كامل، فرمقتها بنظرات احتقارية أشعرتها بوضاعتها، ثم أردفت قائلة بجمود:
, -اللي اتعمل فيكي قرصة ودن يا بت شادية، ولولا إن الحاج عمل خاطر ليا كان زمانته بيدفنك ولا من شاف ولا من دري
, سألتها بصوت مختنق وهي ترتجف:
, -ليه كل ده؟
, أجابتها بحدة وهي تنظر لها بازدراء:
, -مفكرانا مش دارين في البلد باللي بتعمليه في البندر!
, اقتحم عقلها سيلاً متداخلاً من مشاهد مختلفة لمقتطفات متفرقة من حياتها؛ اتفاقات حقيرة مع سليل عائلة أبو النجا للإيقاع بغريمه بدياب، مشاحنات عنيفة معه بعد وقعه في المحظور وجره لحبائلها الخبيثة، توريطه في مسألة الزيجة وما تبعه من حمل وإنجاب، ثم انكشاف المستور وطلاقهما الحتمي، علاقات خفية مع مازن، وانصياع تام لأطماع وشهوات دونية، أفاقت من شرودها المشين قائلة بارتباك:
, -أنا..
, وكأن زوجة عمها قد قرأت أفكارها، فقاطعت بنفور:
, -اتطلقتي من ابن الأصول وقولنا نصيبها كده، عرفنا بعدها إنك فجرتي، وقلعتي، مفكرة بكده إنك مالكيش أهل شوهتي سمعتهم!
, تجمدت الكلمات على طرف لسانها فلم تستطع الدفاع عن نفسها، تابعت الأخيرة مضيفة بقوة:
, -حاشنا عنك الحاج طه!
, ارتفع حاجبي ولاء للأعلى في ذهول تام، بدت علامات الاندهاش جلية على قسماتها المتورمة، لم يطرأ ببالها أن يقوم حماها السابق بزيارة سرية إلى عائلتها، فقط لوأد الخلافات قبل أن تتطور وذلك حرصًا على مصلحة ابنها آنذاك، رأت زوجة عمها تعبيراتها المصدومة فأكدت حديثها موضحة:
, -ايوه، جه زمان عندنا ووصانا منتعرضش ليكي!
, شعرت بخيبة الأمل لكونها فرطت في عائلة ذات أخلاق متأصلة فيها بروعونتها وتفكيرها الأحمق، أضاعت كنزًا ثمينًا من بين أصابعها بسبب غبائها الشديد، واصلت زوجة عمها مكملة بتعنيفٍ قاسٍ:
, -ابن أصول! خرجتي عن طوعنا وعن سلو بلدنا وقولنا أهو كله لنفسها، طالما مش بتعمل العيبة، خبيتي عنا خبر جوازك وعرفناه بالصدفة، وعديناه، ما انتي بقيتي في عصمة راجل تاني يلمك، بس طالما رماكي واتطلقتي تاني يبقى مالكيش عندنا إلا البُلغة!
, توالت صدماتها بعد كشف الستار عن كل ما يخصها، فتسائلت بخوف:
, -انتو عرفتوا ده منين؟
, رمقتها زوجة عمها بنظرات قاسية وهي ترد:
, -مافيش حاجة بتستخبى!
, تملكها إحساس الندم والخزي، أدركت أنها ارتكبت من الأفعال المشينة ما يجعلها تخجل لما تبقى من حياتها، إن كان الأقرباء يعرفون عنها كل ذلك وتنكروا لها، فماذا عن صغيرها إن شب وكبر وعرف ماضيها المسيء؟ تخبطت في أفكارها التي أنهكت عقلها إلى أن سمعت صوتها يضيف بغموض أصاب جسدها بالقشعريرة:
, -وعرضنا هنلمه، وبالأصول٣ علامة التعجب
, سألتها بتوجس كبير:
, -قصدكم ايه؟
, -إنتي ونصيبك بقى
, قالتها باقتضاب لتثير هلعها قبل أن تتركها في حظيرة البهائم لتعاود أدراجها للداخل، حاولت ولاء النهوض من رقدتها المتألمة لتلحق بها، لكن كانت عظامها تئن بشراسة، فتعذر عليها الوصول إليها، توقفت عن الزحف وأجهشت ببكاء مرير، نكست رأسها بحسرة كبيرة متوجسة مما سيحدث لها لاحقًا.
, ٤٢ نقطة
, قابلتها بفتور رغم الألفة المعهودة بينها، هي تلقت تعليمات صارمة من زوجها – والذي يعد كبير العائلة- بعدم الاسترسال في الحديث الودي معها، لذلك حرصت على أن يكون أسلوبها جافًا ورسميًا، نظرت لها شادية قائلة بعتاب:
, -بعد كل ده؟
, ردت قائلة بقسوة:
, -ده أخري، ويبقى بجميلة كمان!
, هتفت فيها بحدة:
, -دي بنتي؟ يهون عليكم تعملوا فيها كده؟
, ردت بجفاء دون أن يرتد لها طرف:
, -ده ذنب وبيخلص، احمدي **** إنه مدفنهاش حية في قبر أبوها!
, فغرت فمها مدهوشة وهي ترد باستنكار:
, -للدرجادي
, قست نظراتها موضحة:
, -ريحتها فاحت يا شادية، وهي مش عاملة اعتبار لحد، خليها عندنا تتربى وتعرف إن **** حق
, كانت محقة في ذلك، فابنتها تخطت حدود المقبول في تصرفاتها المتجاوزة، طأطأت رأسها مرددة بخزي:
, -ماشي، بس ماتموتهاش، وأستسمحك تخليني أشوفها!
, صمتت للحظات قبل أن تقول بقوة جامدة:
, -لأ، الحاج كامل رافض!
, انقلع قلبها في صدرها لمجرد منعها من رؤيتها وهي على بعد خطوات منها، هتفت بنبرة مختنقة وقد أوشكت على البكاء أمامها لتستجديها:
, -يرضيكي أتحرم من طلتي على بنتي؟!
, ردت بقسوة متعمدة الإشارة إلى صمتها عن أفعالها المسيئة:
, -شوفي إنتي عملتي ايه ووصلتيها لده!
, -مغطلش معاها بس٣ نقطة
, -اللي أقدر أخدمك فيه إني أقولك الحاج كامل هيسترها وتتجوز الكلاف بتاعنا
, اتسعت مقلتاها في صدمة، وهتفت مرددة:
, -ايه؟
, تابعت موضحة بجمود وكأن أمرها لا يعنيها:
, -مابيخلفش ومش بيدور على خلفة ولا عيال، عاوز واحدة تخدمه وتقوم على طلباته، وده اللي يليق ببتك
, -ليه كده بس؟ حرام و****
, هبت الأخيرة واقفة من مكانها لتضيف بجمود جاف:
, -شرفتي يا شادية، مانجلكيش في حاجة وحشة!
, أولتها ظهرها متابعة بصياح جهوري:
, -واد يا مسعود وصل الست شادية للمحطة قبل ما يفوتها القطر!
, حركت شادية رأسها للجانبين وهي تبكي بحرقة على فراق ابنتها الإجباري ومصيرها المجهول مع زوج مستقبلي لن تعرف عنه شيئًا، لم يعد بمقدورها التصرف، انفلتت زمام الأمور منها، فوقفت مكتوفة الأيدي عاجزة حتى عن رؤيتها، وضعت كفيها على رأسها تضغ عليها بحسرة، آهٍ لو تم تحذيرها من قبل لردعت ابنتها قبل أن تخرج المسائل عن السيطرة، خشيت أن تعاند فتتسبب في تبعات جمة تعرضها للخطر، لذلك استسلمت بيأس كبير لقرار العائلة الغير قابل للنقاش بتزويجها بعد انتهاء العدة الشرعية، وجرجرت ساقيها للخارج ملقية نظرة وداع أخيرة على المنزل، همست لنفسها بانكسار:
, -**** يسترها عليكي يا بنتي وينجيكي من المستخبي!
, تابعت سيرها المتخاذل متجهة نحو الطريق الرئيسي باحثة عن وسيلة مواصلات تقلها لمحطة القطارات لتعود إلى المدينة وحيدة، ظلت شاردة أغلب الوقت تفكر فيما ستفعله في المستقبل، لا يمكنها أن تتخلى عنها في ذلك الوقت الحرج وتبقى في معزل جاهلة بما يحل بها، بقى أمامها خيارًا واحدًا، ألا وهو العودة إلى البلدة لتكون إلى جوارها، لم تفكر كثيرًا وحسمت أمرها بتنفيذ ذلك والانتقال إلى هنا، فقط عليها أن ترتب لذلك لتعود سريعًا إليها.
, ٤٣ نقطة
,
, ارتعش جسدها لمجرد سماع صوته يأتي من خلفها، وانتفض قلبها بقوة من كلماته المادحة، لم تتوقع وجوده مطلقًا في تلك الساعة المبكرة، والأهم من ذلك هي خروجها أمامه مرتدية ثيابًا كاشفة لأجزاء من جسدها، جحظت عيناها بصدمة جلية عندما أدركت ذلك الموقف الحرج الذي وضعت فيه، التفتت عفويًا برأسها للخلف لتجده يطالعها بأعين لامعة وتلك الابتسامة المغرية مرتسمة على ثغره، شهقت بسمة مفزوعة ووضعت يدها على مفاتنها تخبئها صائحة بتوتر رهيب:
, -إنت بتعمل إيه هنا؟
, رد مبتسمًا بثقة وهو يشير بحاجبيه:
, -و**** أنا محظوظ، مكتوبلي أشوفك! شوفتي القدر؟
, رغم كونها المرة الأولى التي ينظر لها بجرأة بعد عقد قرانهما إلا أنها انزعجت من نظراته التي تخجلها، شعرت بأنها عارية أمامه، بأنه يخترقها بسهولة، بلا تردد نزعت سريعًا منشفتها القطنية عن شعرها المبتل لتغطي به كتفيها وهي ترمقه بنظرات حادة، لم تعطه المزيد من الوقت ليتأملها، فتحركت مبتعدة من أمامه وهي تزفر بصوت مسموع، اعترض دياب طريقها مرددًا بضيق:
, -استني بس، رايحة فين؟
, عبست أكثر بوجهها قائلة بتجهم آمر وهي تتحاشى الاقتراب منه:
, -وسع من سكتي!
, أشار لها بكفه محتجًا:
, -ليه بس؟!
, نفخت دون أن تجيبه، فتحرك صوبها متعمدًا تقليص المسافات بينهما، أضاف بخفوت لكن بكلمات موحية:
, -ده حتى كل حاجة حلوة النهاردة، و ٦ نقطة
, فهمت مقصده الضمني الذي يتغزل فيه بجمالها الطبيعي، قاطعته مستنكرة وهي قاطبة لجبينها:
, -إنت قليل الأدب، عيب كده!
, عقد ما بين حاجبيه مزعوجًا من أسلوبها الحاد معه مرددًا بعتاب لطيف:
, -ينفع الغلط طيب؟
, تحركت بسمة للجانب قائلة بجدية تحمل التهديد:
, -حاسب، ماما لو شافتنا كده مش هايحصل طيب!!
, اتسعت ابتسامته العابثة أكثر وهو يرد بتسلية:
, -يا ريت! حتى أقولها عاوز أكمل نص ديني عملي، وأنا متأكد إنها مش هتمانع!
, كان محقًا في ذلك، فوالدتها ستفرح كثيرًا إن أسرعت هي في إتمام الزيجة، بدت أكثر اضطرابًا من طريقة نظراته التي تثير أعصابها، شعرت بتورد وجهها، وبارتباك أنفاسها، فهتفت محذرة ومحاولة إخفاء توترها:
, -بلاش تستفز أعصابي
, نظر لها متحديًا وهو يواصل اقترابه منها قائلاً بصوتٍ هادئ لكنه واثق:
, -هتعملي ايه يعني؟
, تراجعت بتعجل للخلف وتلفتت حولها باحثة عن شيء تقذفه به، وقعت عيناها على مزهرية قريبة –صغيرة الحجم- فالتقطتها بيدها ثم ألقتها في وجهها، انحنى دياب ليتفادى ارتطامها به قائلاً بذهول:
, -يا بنت المجانين!
, نظرت له بأعين محتقنة وهي ترد بغيظ:
, -أحسن
, استغل فرصة التهائه عنها لثوانٍ لتتمكن من الفرار من أمامه متجهة إلى غرفتها، أوصدت الباب خلفها كي لا يلحق بها، فتجمدت أنظاره عليه، وضع إصبعيه على طرف ذقنه يفركه قليلاً، أخرج تنهيدة حارة من صدره هامسًا بتشوق:
, -ليكي يوم!
, حرك يده لمؤخرة عنقه متابعًا بإعجاب:
, -بس وربنا بردك قمر!
, استدار بجسده عائدًا نحو غرفة الضيوف ليجلس بها، فالتقى بعواطف في طريقه وهي تحمل صينية بها القهوة الساخنة وبعض الحلوى مرددة بابتسامة أمومية:
, -اتأخرت عليك يا ابني!
, تنحنح بخشونة قائلاً بحرج طفيف:
, -احم، منورة يا حماتي!
, أشارت بيدها متابعة:
, -هاروح أشوفلك بسمة
, هز رأسه مبتسمًا بهدوء:
, -خدي راحتك
, لاحظت نظراته الدافئة وطريقته المتحمسة التي كانت واضحة للعيان، فابتسم متمتمة مع نفسها بخفوت:
, -يا قرب البعيد بينكم!
, ٤٩ نقطة
, مسحت بأناملها المرتجفة التجمعات البخارية التي تحجب رؤية انعكاس وجهها في المرآة، حدقت في بشرتها المتوردة بحيوية نضرة بنظرات راضية، هي تحيا سعادة غامرة لم تظن أنها ستحظى بها بعد كل ما مرت به من أحداث عصيبة، تخلت عن ذلك الحزن القابع في حياتها ليحل محله مفهومًا جديدًا وعميقًا في حياتها، تنهدت مطولاً وهي تتمط بكتفيها محاولة تخفيف ذلك الألم الطفيف الذي يعتريها، بالطبع كل ما تمر به طبيعيًا فهي عروس جديد تخوض تجارب مثيرة لأول مرة تسحبها إلى عوالم خاصة بها أعمق المشاعر وأقواها.
, أكملت ارتداء ثيابها الجديدة -ذات اللون الأحمر- متأملة هيئة جسدها المثير الذي بدا مغريًا من أسفل القماش الشفاف، تحرجت للغاية من كونها ستظهر هكذا أمام زوجها، هي لم تعتد على تلك الأمور بعد، أغمضت عينيها للحظات مستجمعة جأشها، ثم فتحت جفنيها وهي تتنفس بتمهل، سارت بخيلاء خارج المرحاض فوجدت منذر في انتظارها ينظر لها بضيق زائف وهو يقول:
, -كل ده يا حبيبتي؟
, رمشت بعينيها بخجل بائن أغراه للتودد إليها، تعمدت سحب أطراف ثوبها الحريري للأسفل بيدها لتغطي فخذها المكشوف أمامه لكنه لم يستر إلا عدة سنتيمترات، راقه ما تفعله ببراءة فتأملها بنظرات حنونة مطولة جابت جسدها وفحصته بدقة، شعرت بسخونة قوية تنبعث من بشرتها فتأكدت من كون وجهها قد تحول لثمرة البنادورة، اقترب منها منذر ممددًا يده نحو كفها ليلتقطها، أسبل عينيه نحوها هامسًا:
, -لسه بتتكسفي مني؟
, عضت على شفتها السفلى وهي تحرك رأسها بالإيجاب بإيماءة خفيفة خجلة، سحبها إلى أحضانه محاوطًا إياها من خصرها بذراعيه، استندت بقبضتيها على صدره، وتلألأت عيناها بوميض الحب وهي تتأمل عينيه، تابع بصوت خفيض وهو يرمقها بنظرات والهة:
, -إنتي أحلى حاجة حصلت في حياتي!
, ردت نبرة ناعمة وهي تتحسس صدره برقة:
, -وإنت كمان!
, تقوس فمه للجانب قائلاً:
, -طب يالا على المطبخ عاملك مفاجأة حلوة
, رفعت حاجبها للأعلى متسائلة بفضول:
, -بجد؟ طب ايه هي؟
, ظل محاوطًا إياها بذراع واحد وهو يتجه بها نحو المطبخ قائلاً بغموض:
, -هاتعرفي دلوقتي!
, ولج الاثنان إلى داخله فتأملت بنظرات جادة ما أعده لها من إفطار بسيط، حدقت في صحن مليء بالجبنة، وأخر بالمربى وبعض الخبز، التفتت برأسها نحوه متسائلة بابتسامة ناعمة:
, -انت مجهز الفطار؟
, أجابها عفويًا:
, -ده اللي قدرت عليه، مش عارف بصراحة مكان الحاجة، فقولت أخدم
, ضحكت برقة مغرية واضعة يدها على صدغه تمسح عليه، رمقته بنظرات عاشقة وهي تقول:
, -ولا يهمك يا حبيبي، كفاية تعبك!
, وضع قبضته على كفها ليقربه من فمه فقبله قائلاً:
, -بأحبك!
, سحبت يدها من راحته متجهة نحو البراد لتبحث فيه عما يمكن استخدامه في إعداد طعام الإفطار، انحنت دون أن تنتبه لأعينه المسلطة عليها وتصرفت بتلقائية أهلكت أعصابه فورًا، شعرت بيد تحاوطها من الخلف فانتفضت في مكانها وهي تعتدل في وقفتها، عاتبته بدلال:
, -منذر، ماينفعش كده!
, حاولت إبعاد ذراعه عنها مرددة بإلحاح:
, -مش هاعرف أجهز الفطار!
, زادت ضمته لها وهو ينحني برأسه على أذنها ليهمس لها بتنهيدة ساخنة أصابت جسدها بالقشعريرة لكنها استمتعت بها:
, -سيبك من الأكل دلوقتي، وتعالي أقولك حاجة!
, قاومته بدلال مثير بعد أن فهمت مقصده، وجاهدت لتحرر نفسها منه هامسة بثقل:
, -مش وقته! نفطر و٣ نقطة
, قاطعها مبتسمًا بإصرار:
, -خلاص أنا نفسي اتفتحت على حاجات تانية أهم!
, أدارها نحوه ببطء دون أن يفلتها لينال من على شفتيها قبلة شغوفة، استسلمت لحرارة مشاعره الفياضة وتجاوبت معه أكثر، فانحنى بجذعه قليلاً ليحملها بين ذراعيه ليكملا سويًا معزوفة حبهما الخاص.
, ٤٦ نقطة
, -إيه اللي حصل؟
, تساءلت بها نيرمين بصوت واهن وهي تعاود فتح وغلق جفنيها لتعتاد على الإضاءة بغرفتها، ابتسم لها الطبيب نبيل الذي ظل مرابطًا بجوار فراشها وهو يجيبها:
, -حمدلله على سلامتك، كده تخضينا عليكي!
, تجمدت أعينها عليه بغرابة شديدة فتابع موضحًا بهدوء:
, -الحمد**** عدت على خير!
, تذكرت ما مرت به بالأمس من آلام مهلكة كانت تودي بحياتها بسبب ذلك المرض اللعين الذي ينهش في خلايا جسدها، لمعت عيناها بقوة، وأخرجت تنهيدة متعبة من صدرها تحمل الكثير، لن تنتهي معاناتها أبدًا، لن يشعر بأوجاعها أحد، تنهدت مرة أخرى لترد بعدها باستياء:
, -يعني أنا لسه عايشة؟!
, تجهمت قسمات وجهه مزعوجًا من أسلوبها التشاؤمي الذي يؤثر بالسلب على صحتها ويؤتي بنتائج عكسية مع علاجها المكثف، هتف معنفًا بلطف:
, -ليه بتقولي كده؟ و**** أزعل منك!
, ضاقت نظراتها أكثر متعجبة طريقته معها، همست بصوت مرهق:
, -تعبت من كل حاجة، وزهقت، عاوزة أموت خليني أرتاح من ده كله!
, باغتها بالإمساك بكفها وضمه براحتيه لتشعر بسخونة دمائه على بشرتها الباردة، انفرجت شفتاها مشدوهة من حركته تلك، وحدقت فيه بنظرات أكثر حدة، لم يهتم بردة فعلها، وتابع قائلاً بجدية وهو يضغط على كفها برفق:
, -حتى لو فاض بس ساعة واحدة في عمرك، اوعي تفقدي الأمل وتستسلمي، في ناس يهمها أمرك يا مدام نيرمين!
, شعرت بجفاف شديد في حلقها، لأول مرة تجد من يهتم بها خارج نطاق الأسرة، من يشعرها بأهمية وجودها في الحياة، من يبث في نفسها روحًا إيجابية تعيد بعث التفاؤل في روحها المستهلكة، رأت ابتسامة عذبة تتشكل على ثغره وهو يكمل بصوته الرخيم:
, -سعيد إني اطمنت عليكي، وإنك فوقتي واتكلمتي معايا!
, هزت رأسها بإيماءة خفيفة كتعبير عن امتنانها له، أسند كفها إلى جوارها متابعًا بنفس الابتسامة اللطيفة:
, -هاستأذنك هامشي، مطبق من بالليل، والشيفت بتاعي خلص من بدري، مهانش عليا أسيبك لوحدي!
, استغربت كلماته كثيرًا، هي لم تعهد مثل ذلك الاهتمام المكثف من قبل، ناهيك عن المعاملة الرقيقة التي يستخدمها معها، ارتسم على وجهها الذابل ابتسامة باهتة مرددة:
, -كتر خيرك
, لمعت عيناه وهو يقول بتأكيد:
, -هاشوفك تاني، وعشان خاطري بلاش تشاؤم، اتفقنا؟
, ردت بحذر:
, -ماشي
, تابع محذرًا بجدية وهو يشير بعينيه:
, -خلي بالك من نفسك
, -طيب
, -وأنا موصي الممرضة، هتابع معاكي وأنا هاكلمها أول بأول عشان أطمن
, لم تصدق أذنيها، هو يعبأ لأمرها حقًا، ليست أوهامًا بفعل تأثير العلاج القوي الذي تحقن به أوردتها، وليست خيالات وردية اختلقها عقلها لها، أفاقت من شرودها هامسة بامتنان:
, -تسلم على تعبك
, رد بمرح:
, -تعب ايه بس، كل حاجة تهون عشانك!
, عمق نظراته نحوها قائلاً بنبرة جادة وهو يلوح بإصبعيه:
, -عن إذنك!
, صمتت نيرمين ولم تعقب عليه، لم يكن لديها من الكلمات ما ترد عليه به بألفة وتهذيب، بدت في حالة غريبة لبعض الوقت محاولة استيعاب الموقف وتفسيره، هو مازال يحاصرها بعباراته التي تربك حواسها، بالإضافة إلى نظراته المتطلعة لها باهتمام، حافظت على ابتسامتها الباهتة حتى خرج من الغرفة، فتلاشت من على ثغرها وهي تتسائل باندهاش:
, -مش معقول، هو فعلاً بيقولي أنا الكلام ده ٣٠ نقطة ؟!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٩٢
انقضى الأسبوع الأول سريعًا لتجتمع بعدها العائلة في زيارة ودية لتهنئة العروسين وتقديم الهدايا لهما في منزلهما الخاص، وبالطبع لم تدخر أسيف وسعها في الترحيب بالجميع بما يليق بهم، عاونتها بسمة على قدر الإمكان في إعداد الصحون المليئة بالكعك والبسكويت منزلي الصنع -وكذلك المشروب المنعش- كتقليد متبع في تلك المناسبات المعروفة، تسلل دياب إلى المطبخ ليحظى بمحادثة خاطفة مع عروسه التي تتجنبه عمدًا لتزيد من شوقه لها، وقف خلفها دون أن يصدر أي صوت، لمحته أسيف فأشار لها بإصبعه لكي لا تلفت الانتباه له، أومأت بعينيها متفهمة، ثم أردفت قائلة بابتسامة لطيفة:
, -كملي يا بسمة رص الأطباق عقبال ما أرجعلك
, ردت عليها الأخيرة بتركيز شديد:
, -ماشي
, كانت تظهر مهاراتها في ترتيب الكعك بصورة جذابة للأنظار، وبالتالي لم تشعر بوجود دياب معها، راقبها باستمتاع كبير حتى قرر أن يفاجئها، وضع يده على كتفها ضاغطًا عليه برفق، فظنت أنها أسيف، لذلك لم تستدير للجانب وتابعت بجدية:
, -قربت أخلص أهوو، ثواني بس أرص البتي فور!
, وضع دياب قبضته الأخرى على كتفها الأخر، ثم قرب يديه من عنقها وبدأ في فركه بحركة تدليكية خفيفة، تأوهت بصوت خفيض قائلة:
, -كتر خيرك يا أسيف، بجد محتاجة مساج لضهري، عضلاتي قافشة و٤ نقطة
, قاطعها بعبث:
, -أنا موجود شوفي إنتي محتاجة ايه وأنا٤ نقطة
, شهقت مصدومة من وجوده وتسمرت في مكانها مذهولة، استدارت فجأة للخلف لتجده على مقربة شديدة منها، رددت من بين شفتيها بنبرة مدهوشة:
, -إنت!
, حرك رأسه بالإيجاب وهو يرمقها بنظراته المتيمة بها، اغتاظت من حصاره لها، فصاحت به بغلظة:
, -اوعى!
, سد عليها الطريق ليزيد من حصاره عابثًا معها بتسلية، حاولت التحرك للجانب لكنه كان يتحرك معها، تكرر الأمر لعدة مرات، فانزعجت من تصرفاته المستفزة لها، سألته بحدة:
, -جاي هنا ليه؟ مش قاعد مع الناس اللي برا و٣ نقطة
, قاطعها بهدوء رغم تشنج تعبيراته:
, -بالراحة يا أبلة عليا، احنا مش مكتوب كتابنا بردك ولا أنا غلطان؟
, ضاقت نظراتها نحوه فبدت أكثر حدة عن ذي قبل، تابع مضيفًا بلؤم:
, -يعني المفروض ناخد وندي بشكل ودي شوية، حتى٣ نقطة
, ارتبكت من تلميحاته الخفية، وشعرت بتأثير حضوره عليها، ارتدت سريعًا قناع الجدية الزائف قائلة بصلابة:
, -لو سمحت
, استاء من تلك الروتينية الجافة التي تعامله بها، فعاتبها بلطف:
, -ليه الرسمية دي بس؟ وربنا أنا بأحبك ودايب فيكي!
, هي واثقة من إحساسه الصادق نحوها، لكنها تتخذ حذرها على الأخير حتى تتهيأ كليًا لذلك، ابتلعت ريقها قائلة بجمود:
, -بعد اذنك إنت مش شايف أنا مشغولة ازاي؟!
, رد بهدوء واثق:
, -وده يمنع نقول كلمتين حلوين لبعض؟!
, لم تستطع أسيف المماطلة أكثر من ذلك وإلا أثارت الشكوك بالخارج، لذلك عادت إلى المطبخ هاتفة بمرح:
, -نتعبلكم يوم فرحكم إن شاء ****
, رفع دياب كفه في الهواء قائلاً برجاء:
, -يا رب إن شاء ****
, ردت عليها بسمة بعبوس:
, -كويس إنك جيتي، شيلي البيه الصينية!
, نظر لها بضيق وهو يقول:
, -ايه المعاملة الناشفة دي؟ شايفة؟!
, ابتسمت من حالة الشد والجذب الدائرة بينهما، وهتفت معللة:
, -معلش، بكرة تتجمعوا سوا وتاخدوا راحتكم
, رد عليها بتنهيدة مستاءة:
, -يا مهون، الحجر لان ودماغها لأ! وربنا أنا زهقت، كل حاجة جاهزة، لازمتها ايه العطلة دي؟
, بررت له رغبتها في التأجيل:
, -معلش، خليها على راحتها وإن شاء **** خير!
, زفر بملل وهو يرد:
, -يا رب يسر!
,
, ولجت جليلة إلى داخل المطبخ لتتمكن من الحديث مع زوجة ابنها في أمر هام، وجدت أن الفرصة سانحة لمفاتحتها في ذلك الموضوع دون حرج خاصة أن ابنها مشغول بالحديث مع المتواجدين، لمحت دياب واقفًا معها فهتفت بحماس:
, -شوف الجماعة برا وسيبلي عروسة ابني شوية
, -ماشي يا حاجة
, قالها دياب وهو ينسحب من المكان لتصبح الاثنتان بمفردهما، تساءلت أسيف باهتمام:
, -عاوزة حاجة يا طنط؟ أجيبلك٤ نقطة
, قاطعتها بصوت خافت لكنه يحمل الجدية:
, -لا يا بنتي تسلمي، أنا بس عاوزاكي في كلمتين!
, دنت منها لتتابع بنبرة ذات مغزى:
, -عاوزاكي تشدي حيلك كده وتفرحينا قريب
, عقدت أسيف ما بين حاجبيها باستغراب وهي تسألها:
, -مش فاهمة
, أوضحت مقصدها بجدية أشد:
, -نفسي أشوف حتت عيل من منذر، اتجدعني بقى يا بنتي وخلينا نفرح بيكم!
, تعجبت من تعجلها لتلك المسألة الغيبية التي لا دخل لها بها، وهتفت معترضة بنبرة شبه مرتفعة:
, -بس لسه بدري، احنا ملحقناش، وبقالنا كام يوم متجوزين!
, التقطت آذان منذر جملة زوجته وهو في طريقه إليهما فتوقف عن السير ليسترق السمع لحديثهما بانزعاج كبير، ردت جليلة بإصرار واضح:
, -وماله، أديني بوعيكي عشان تحطي الموضوع في بالك!
, ثم شددت من لهجتها قائلة:
, -وابني نفسه في عيل يشيل اسمه ويكبر في حضنه!
, تجهم وجهه تمامًا من أسلوبها الضاغط على زوجته، لم يتحمل المزيد وولج إلى المطبخ صائحًا:
, -أبويا بيسأل عليكي برا يا ست الكل!
, التفتت الاثنتان نحوه فبدت المفاجأة واضحة عليهما، تفرس هو وجه أسيف بنظرات قوية دون أن ينطق بكلمة، لكنه كان مستشعرًا ذلك التغيير الذي طرأ عليها، أراد أن يخلصها من حصار أمه فتابع بهدوء:
, -معلش يا أسيف هاتي مياه لعمتك برا!
, هزت رأسها إيجابًا وهي ترد:
, -طيب
, انتظرها حتى انصرفت من المطبخ فعاتب والدته بضيق:
, -ايه الكلام اللي سمعته ده؟
, لم تكن أسيف قد ابتعدت تمامًا فوصل إلى مسامعها صوته الحاد والمزعوج، تخوفت أن يحدث صدامًا بينهما، فانزوت في الجانب لتتنصت عليهما خلسة، بدت متوترة للغاية لمعرفة ردة فعله إن كان حقًا قد سمع حديثهما، فهمت والدته مقصده فورًا وردت عليه ببرود:
, -**** يا ابني مش نفسي أفرح بعوضك!
, عنفها منذر بانفعال طفيف ملوحًا بيده في الهواء:
, -مش كده بردك، هانعيده تاني يا حاجة؟
, ردت بإلحاح:
, -وتالت ورابع كمان، هو أنا غلطت؟ مش أمك وعاوزة مصلحتك
, اجتاح خلاياه غضبًا جمًا من نفس الأسلوب القديم الذي كانت تتخذه معه من قبل لإقناعه بالزواج من نيرمين لأنها تصلح للإنجاب متناسية أنه وجد الحب والسكنى مع زوجته الحالية، رد عليها بقوة رغم هدوء نبرته:
, -وبعدين مين قالك إن أنا ملهوف على العيال؟ أنا مبسوط كده
, بررت إصرارها بنبرة حزينة:
, -يا ابني اللي زيك عنده أورطة عيال، ونفسنا أنا وأبوك نشوف عيالك بيتنططوا حوالينا!
, رد بجمود وقد ضاقت نظراته:
, -**** هيكرم في وقته، فبلاش **** يكرمك تفتحي السيرة دي تاني مع أسيف
, ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض رغم عدم اقتناعها:
, -طيب!
,
, انسحبت سريعًا قبل أن يكتشف أحدهما وجودها فيتسبب ذلك في إحراجها، شعرت بعبء ثقيل يُلقى على كاهلها، وبهمٍ كبير يجثو على صدرها فقلل من فرحتها، جلست بجسدها وسط الحاضرين، جاهدت لتبدو تعبيراتها طبيعية باقي السهرة، لكن عقلها كان شاردًا يحلل عبارات جليلة بتفكير عميق، فماذا سيحدث إن لم تحمل ذلك الشهر؟ أو حتى في الشهر الذي يليه؟ ما الذي سيصيبها إن كان بها عطب ما أو مشكلة تحول دون حدوثه؟ تلبك جسدها وشعرت بالرهبة من تخيل الأسوأ، لاحظ منذر الوجوم الذي حل على قسماتها، ورأى ذلك الحزن البائن في نظراتها، توقع أن يكون حديث والدته أزعجها، قطب جبينه مهتمًا، وانتظر بترقب انصراف ضيوفه ليحدثها، التهت في ترتيب الصالة فأجبرها منذر على التوقف قائلاً بحدة:
, -أسيف
, استدارت نحوه مبتلعة ريقها وهي ترد بابتسامة زائفة:
, -ايوه يا حبيبي!
, وقف قبالتها مسلطًا أنظاره عليها وهو يسألها باقتضاب:
, -مالك؟
, ردت بهدوء:
, -مافيش
, بدا غير مقتنع بما تقوله، فكل ما فيها يشير إلى العكس، وهو متأكد من أن حديثه والدته قد أثر عليها بشكل ما، سألها مجددًا بجدية:
, -في ايه؟ شكلك متغير؟
, تعمدت الحفاظ على ابتسامتها اللطيفة وهي تكافح لمنع أفكارها من الظهور علنًا لتكشف ضيقها المكتوم بداخلها، رفعت يدها لتداعب طرف ذقنه قائلة:
, -صدقني عادي!
, قبض على أصابعها بيده، وحدجها بنظرات حادة وترتها، هتف قائلاً بصلابة:
, -أسيف أنا مش بأحب المناهدة ولا اللف والدوران، وشك مقلوب ومش مريحني
, ارتعشت من أسلوبه الجاف، وتوترت أنظارها نحوه، حاولت أن تختلق عذرًا ما لتبرر سبب حزنها، فكذبت قائلة:
, -تلاقيني بس تعبانة و٣ نقطة
, قاطعها بحدة:
, -متحوريش يا بنت رياض!
, بدت لهجته متشنجة إلى حد ما، فهمست عفويًا:
, -بنت رياض!
, تقوس فمها للجانب مضيفة بابتسامة صغيرة:
, -بقيت تقريبًا فهماك، لما تكون مضايق من حاجة تقولي بنت رياض
, رد عليها بجمود:
, -كويس إنك عارفة ده، فيا ريت نكون صُرحة مع بعض!
, هزت رأسها متفهمة طلبه، امتص غضبه قبل أن يسيطر عليه مكملاً بجدية:
, -أسيف! أنا مش عاوزك تخبي عني حاجة، أقل حاجة بتزعلك ممكن تعصبني وتضايقني
, ردت برقة ناعمة:
, -حاضر
, لف ذراعه حول خصرها ليضمها إلى صدره هامسًا:
, -سيبك من ده وتعالي ارتاحي
, اعترضت بدلال وهي تداعب صدره:
, -مش هاينفع لازم أروق الصالة و..
, رمقها بنظرات قوية هاتفًا بصلابة:
, -أنا قولت ايه؟
, ابتسمت بخجل مثير وهي ترد ممتثلة:
, -حاضر يا حبيبي
, حاوطها أكثر بذراعيه معمقًا نظراته نحوها، همس لها بتنهيدة متقدة بأشواق العشق:
, -بأحبك! وعمري ما هاسيبك!
, لفت هي الأخرى ذراعيها حوله ليلتصق رأسها بصدره، أغمضت عينيها مرددة بصوت خافت:
, -**** يخليك ليا ومايبعدنيش عنك!
, اختبأت في أحضانه الدافئة مستشعرة الأمان بقربها الملتصق به، خشيت أن تكون سعادتها لحظية، أن تتلاشى مع مرور الوقت وتعذرها في الحمل والإنجاب، أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها نافضة عن عقلها مؤقتًا تلك الأفكار التي باتت هاجسها الحالي.
, ٤١ نقطة
,
, تحسنت أحوالها الصحية تحسنًا طفيفًا بعد ارتفاع معنوياتها النفسية، ورغم التغيرات الطارئة على هيئتها العامة من تساقط كثيف لخصلات شعرها، وسواد أسفل جفنيها، إلا أن ذلك لم يؤثر عليها بفضله، نعم هو كان له الدور الأكبر في ذلك بحماسه الدائم، فأزاح عنها الكثير من الهموم والأحزان بتفائله الدائم، وبثقته في شفائها، صدقت إدعاءاته رغم حدسها الذي يؤكد العكس، لكنها تمسكت بذلك الأمل الجديد الذي أوجده في روحها الفانية وتشبثت به.
, كذلك تعلقت أكثر برضيعتها، وأفضت عليها بعاطفة حرمتها منها بجفائها وقسوتها قبل أن تعتل صحتها، متعة لا تضاهيها أي متعة وهي تتنعم ببراءة قطعة منها معها، شكرت والدتها لأنها واظبت على إحضارها لها لتمتع عينيها برؤيتها، هدهدت نيرمين صغيرتها قائلة بحنو:
, -حبيبة قلب أمك
, هتفت أمها بحماس:
, -ماشاء **** عليها، **** يحفظهالك!
, ردت بتنهيدة متعبة وهي تجمد أنظارها على الرضيعة:
, -يا رب، ويكون نصيبها أحسن مني!
, أضافت عواطف بامتنان:
, -الحمد**** على كل حال، احنا كنا فين وبقينا فين
, -ايوه
, انتبهت كلتاهما إلى صوت الدقات الخافتة على باب الغرفة، فتحركت أنظارهما نحوه ليجدا الطبيب نبيل بوجهه البشوش يطل عليهما وهو يقول:
, -صباح الخير
, ردت عليه عواطف بابتسامة متسعة:
, -صباح النور يا ضاكتور، تعبينك معانا!
, احتج عليها قائلاً:
, -متقوليش كده يا حاجة، ده واجبي!
, تحركت عيناه نحو نيرمين ليطالعها بنظرات مهتمة مضيفًا بهدوء:
, -وبعدين هو في أغلى من مدام نيرمين عندنا؟!
, تحرجت منه قائلة بخفوت:
, -متشكرة
, رأى رضيعتها التي تداعب الهواء بكفيها ببراءة، فدنا منها يلاعب أناملها الصغيرة متسائلاً باهتمام:
, -ماشاء ****، الكتكوتة دي بنتك؟
, هزت رأسها بإيماءة خفيفة وهي تجيبه:
, -ايوه، اسمها رنا
, رد مبتسمًا:
, -عاشت الأسامي، **** يخلي، المهم أنا عندي ليكي أخبار حلوة
, سألته بجدية وهي قاطبة لجبينها:
, -أخبار ايه؟
, تساءلت عواطف هي الأخرى بقلق:
, -خير يا ضاكتور؟
, أجابهما بتمهل:
, -إن شاء **** كل خير!
, ظلت أنظاره مثبتة على وجه نيرمين وهو يضيف بهدوء:
, -بصي يا ستي، مبدئيًا كده الحالة مستقرة، وده شيء كويس الحمد****!
, أصغت له بانتباه تام فتابع مشددًا:
, -بس طبعًا هانستمر في جرعات العلاج
, تساءلت عواطف بتلهف:
, -يعني بنتي هاتخف؟
, كان يعلم جيدًا أن العلاج لن يحرز تقدمًا إيجابيًا كبيرًا في وضعها الحرج، لكنه على الأرجح سيخفف من آلامها ويؤجل مصيرًا حزينًا تترقبه بيأس، لن تحدث بالطبع معجزة تشفيها تمامًا، لكن الأهم هو الحفاظ على ارتفاع روحها المعنوية، وإشعارها بأهمية وجودها في الحياة، استمر نبيل في رسم ابتسامة لطيفة شيقة على ثغره وهو يقول:
, -كل حاجة من عند **** خير، المهم إنها تبقى معاكو وفي وسطكم!
, هزت عواطف رأسها قائلة:
, -الحمد****
, تابع بحزن مصطنع:
, -وتقدري ترجعي بيتك بالسلامة مع إن ده هيزعلني أوي!
, استقبلت كلماته بابتسامة صغيرة، فأكمل بجدية وهو يناولها بطاقة صغيرة تحمل رقم هاتفه الخاص:
, -عمومًا ده رقمي كلميني في أي وقت!
, تناولتها منه قائلة باقتضاب:
, -متشكرة
, صاحت عواطف بامتنان كبير وهي تبتسم له:
, -**** يكتر من أمثالك يا ضاكتور
, نظر لها بأعين لامعة ثم عاود التحديق تارة في وجه نيرمين وتارة أخرى في وجه رضيعتها البريء، استأذن بعدها للخروج لتقترب أمها منها هامسة بمكر:
, -طيب وجدع الضاكتور ده، صح؟!
, نظرت لها نيرمين بغرابة وهي تقول:
, -ايوه
, ابتسمت أمها مضيفة بتريث قاصدة الضغط على كل كلمة فيها:
, -**** يصلح حاله، وحالك!
, فهمت ما ترمي إليه والدتها، فهزت رأسها مستنكرة محدودية تفكيرها، لا وجود في قاموس حياتها التعيس لعلاقة مثل التي تتمناها والدتها، هو ظهر في حياتها فقط ليعيد لها روحها المفقودة، ليكسبها ثقتها بنفسها، هو أنعشها ببث الحماسة والسعادة المختبئة في أبسط الأشياء، وقتل فيها الرهبة من المصائر المجهولة، أغمضت عينيها متنهدة بتعب، فقد أرهق التفكير عقلها وأتعبها، ومع ذلك كانت سعيدة في داخلها لأنها ستعود إلى المنزل من جديد، كم اشتاقت لفراشها ولأشيائها الخاصة، تقوس فمها بابتسامة راضية، هي حصلت على سلام داخلي وتصالحت أخيرًا مع نفسها، لم يعد بداخلها ذلك السخط الدائم الذي أظلم قلبها، وحجب بصيرتها عن رؤية النعم الموجودة في حياتها، اكتسبت شخصيتها خلال تجربتها القاسية سماتًا جديدة غيرتها للأفضل وحسنت علاقاتها بالجميع، فباتت محبوبة، وحظت على الاهتمام الذي كانت تنشده ٣٨ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٩٣
ألفة عجيبة تخللت مشاعرها الجافة واشتياق لا يوصف تملكها حينما عــادت بعد فترة غياب إجبارية إلى منزلها، استقبلها والدتها وأختها بالابتسامات والعبرات الفرحة، تأثرت لإحاطتها بذلك الكم الفياض من المشاعر الطيبة، خاصة حينما أصرت أسيف على الحضور معاها وإيصالها للمنزل، كذلك لم يتركها منذر وسدد كامل المستحقات المادية للمشفى، أدركت أنها كانت تحمل بذور الغل والحقد والكراهية في صدرها، وحينما تخلصت من أثارهم السيئة بدت كمن وُلد من جديد رغم فظاعة المرض الذي يوشك أن يفتك بها إن استسلمت له.
, دثرتها عواطف في الفراش هاتفة بحماس رهيب:
, -نورتي بيتك يا بنتي، ألف حمدلله على السلامة
, اعتدلت نيرمين في نومتها واضعة الوسادة خلف ظهرها لتستند عليها، ثم ردت بتنهيدة متعبة:
, -الحمد****
, أخفضت أنظارها لتحدق في رضيعتها التي وضعت إلى جوارها لتبدأ في مداعبتها بلطف وحب، هتفت بسمة بمرح:
, -أخيرًا هنرجع ناقر ونقير مع بعض
, اكتفت نيرمين بالابتسام الودود لها، بينما أضافت أمها قائلة بهدوء:
, -ارتاحي شوية يا حبيبتي وأنا هاجهزلك الأكل و٣ نقطة
, قاطعتها بصوت خافت:
, -مش عاوزة حاجة!
, أمسكت بيد رضيعتها الصغيرة تلاعب أصابعها وهي تتابع:
, -كفاية إني أقعد مع بنتي شوية وأملي عيني منها
, ردت عليها بسمة بأعين متأثرة:
, -**** يخليكي ليها
, هزت رأسها بإيماءات خفيفة مرددة:
, -يا رب
, وضعت عواطف يدها على ظهر بسمة قائلة:
, -خليها مع رنا شوية وبينا احنا نشوف اللي ورانا
, -ماشي
, قالتها وهي تستدير للخلف تاركة أختها مع رضيعتها لتقضي معها بعض الأوقات الطيبة، فقد افتقدتها مؤخرًا واشتاقت لوجودها في أحضانها.
, ٣١ نقطة
, خلال الشهرين التاليين، استمرت الأجواء الهادئة سائدة في العائلتين دون وجود ما يعكر الصفو العام، وتوطدت العلاقات العاطفية مع كل من منذر وأسيف وباتا كيانًا واحدًا، كذلك تقربت نيرمين من رضيعتها وأغدقت عليها بالكثير من الحب الأمومي الذي حرمتها منه منذ لحظة ميلادها، وظل الوضع متأرجحًا بين بسمة ودياب، بدا عابسًا نوعًا ما وهو يصغي إلى حديث أخيه بفتور واضح عليه، عبث بالقلم الحبري المسنود على مكتبه محدقًا فيه بشرود، زفر قائلاً بملل:
, -كويس!
, تفرس منذر في وجهه محللاً تعبيراته المتجهمة وهو يسأله:
, -مالك؟
, أجابه دياب بامتعاض:
, -ماليش يا سيدي
, ازداد انعقاد ما بين حاجبيه خاصة أنه لم يكن مقتنعًا برده، تابع متسائلاً باهتمام:
, -عليا بردك! في ايه؟
, انفجر دياب منفعلاً وموضحًا بيديه:
, -هاطق من جنابي، الهانم اللي منشفاها عليه ومطلعة عين أهل، غلبت معاها ومش نافع حاجة، خلاص زهقت!
, هز منذر رأسه بتفهم وهو يسأله متعجبًا من التأجيل الذي لا داعي له:
, -صحيح ايه اللي مأخركم؟
, أجابه بعصبية ظاهرة عليه:
, -كل ما أفاتحها في سيرة الجواز تطلعلي بمليون حجة!
, حرك منذر يده قائلاً:
, -طب ما تقول لأمها
, رد عليه بضيق:
, -و**** الست مش ممانعة!
, احتقن وجهه بصورة بائنة وهو يتابع بغيظ:
, -الدور والباقي عليها، لو ينفع كنت كسرت دماغها الحجر دي!
, حاول منذر أن يخفي ابتساماته المتسلية قدر المستطاع، فقد بدا أخيه مضحكًا وهو يشكو له عناد بسمة ورفضها تبكير موعد الزفاف، أكمل بهدوء زائف:
, -تحب أقول لمراتي تكلمها؟
, لوى ثغره مرددًا بضجر:
, -ولا هتأثر فيها! يا بني دي دماغها حجر صوان!
, ساد صمت متوتر بينهما حاولا خلاله الوصول لحل ما مرضي لجميع الأطراف، اقترح عليه منذر بعد لحظات من التفكير الصامت:
, -طب عندي فكرة، مش هي بتسمع كلام أختها؟
, هز رأسه الإيجاب قائلاً:
, -ايوه
, -قولها وهي تأثر عليها بكلمتين ولا حاجة
, فرك دياب موخرة رأسه متسائلاً:
, -تفتكر؟!
, أشار منذر بيده موضحًا:
, -جرب مش هاتخسر حاجة
, مط فمه ليقول:
, -أما أشوف، وربنا عليه التساهيل!
, تنهد دياب مطولاً مشبكًا كفيه خلف رأسه وهو يرد:
, -يا ميسر!
, حدق أمامه بنظرات أكثر شرودًا مديرًا في رأسه فكرة أخيه، فربما بطريقة ما أو بأخرى تتمكن هي من فعل ما عجز عنه.
, ٤٩ نقطة
, رتب موعدًا معها دون أن يبلغ زوجته بذلك، فقد كان بحاجة ماسة إلى أي عون ليحرز خطوة في علاقتهما، لذلك لجأ إليها متعشمًا أن تساعده في مشكلته، ومستغلاً فرصة تواجدها بالمدرسة ليحظى بحديث ودي جاد في منزل العائلة، تحركت نيرمين بتأنٍ وهي تتجه نحوه لتقابله في غرفة الضيوف، كانت أكثر حيوية رغم ظهور الإرهاق والتعب على وجهها، لكن أضاف الحب والاهتمام لها الكثير، صافحها دياب قائلاً بهدوء:
, -معلش يا أم رنا جيتلك من غير ميعاد
, أشارت له بالجلوس على الأريكة وهي ترد بابتسامة لطيفة:
, -ده بيتك يا سي دياب، احنا أهل ونسايب، ولا ناسي ده؟
, جلس دون استرخاء هاتفًا بجدية:
, -لأ طبعًا
, مال بجسده للأمام قليلاً ليتابع حديثه الجاد قائلاً
, -دلوقتي يا أم رنا أنا دايخ السبع دخات مع أختك، وهي مطلعة عين أهلي ومش عاوزانا نجوز خالص اليومين دول!
, نظرت له باهتمام فأكمل بامتعاض مزعوج مستخدمًا يده في التوضيح:
, -فإن مكانش يضايقك كلمتين منك ومن حماتي تلينوا دماغها
, ردت عليه مبتسمة:
, -إنت بس تؤمر، غالي والطلب رخيص!
, شعر بالارتياح لقبولها مساعدته، فهتف ممتنًا:
, -كتر خيرك
, أكدت له بثقة وهي تومئ بعينيها:
, -سيب الموضوع ده عليا
, سألها بحماس:
, -يعني أعتمد على **** ثم عليكي؟
, أجابته بهدوء واثق:
, -ايوه
, هلل متحمسًا بانفعال:
, -**** يكرمك يا رب!
, ضحكت من طريقته الظريفة في التعبير عن مشاعره، تنهد بصوت مسموع مضيفًا:
, -هاستأذن أنا بقى عشان أشوف المصالح اللي ورايا
, نهضت من مكانه قائلة:
, -ما لسه بدري؟
, رد مازحًا:
, -معلش، أتجوز وأفضالكم
, اتسعت ابتسامتها مرددة:
, -إن شاء ****
, لوح بيده قائلاً:
, -سلامو عليكم
, اصطحبته حتى باب المنزل لتودعه، ثم أوصدت الباب بعد انصرافه لتسير بخطوات متمهلة في الصالة، استندت بيدها على أحد المقاعد متطلعة أمامها بنظرات فارغة، زمت فمها قليلاً متعجبة رفض أختها إتمام الزيجة بعد تجهيز كل شيء، زفرت بيأس قائلة:
, -لسه زي ما إنتي يا بسمة، **** يقدرني وأقنعك!
, ٤٠ نقطة
,
, عضت على أناملها بترقب شديد وهي محدقة في جهاز اختبار الحمل المنزلي الذي اشترته خلسة لتتابع بترقب ظهور النتائج على شاشته الصغيرة، أجرت بحثًا مكثفًا عن علامات الحمل المبكرة وكذلك الوسائل والطرق التي تؤدي للحمل السريع آملة أن تتمكن من تحقيق أمنية منذر ووالدته، جف حلقها والثواني تمر عليها كأنها ساعات، تحولت تعبيراتها من الشدة للعبوس والحزن بعد أن قرأت بوضوح وجود علامة شرطية واحدة تفيد عدم وجود ما يشير للحمل، انسابت عبراتها قهرًا على ذلك، فقد عولت على الأمر الكثير، كما انهارت معنوياتها وبكت بحزن كبير.
, لم تستطع التوقف عن البكاء أو النحيب، عاتبت نفسها مرددة بصوت مختنق:
, -ليه كده بس؟
, دفنت أسيف وجهها في راحة يدها متابعة بحسرة:
, -يعني مافيش أمل، ده أنا عملت كل حاجة!
, زاد بكائها بداخل المرحاض وانهارت جاثية على ركبتيها بأرضيته، لم تشعر بعودته المبكرة للمنزل، فلم يكن لديه من الأعمال الكثير ليقضي نهاره بالكامل في الوكالة، ولج إلى داخل المنزل باحثًا عنها فلم يجدها، انزعج من كونها قد خرجت دون أن تبلغه، وقبل أن تثور ثائرته التقطت أذناه صوت أنينها الأتي من الداخل، انقبض قلبه بقوة، وتوجس خيفة أن يكون قد أصابها مكروه ما، ركض ناحيته هاتفًا بتلهف:
, -أسيف! حصل حاجة؟ ردي عليا
, انتفض جسدها بقوة من قوة ندائه، وحدقت في الباب الموصود بنظرات مذهولة، تداركت الموقف بسرعة، وكفكفت عبراتها بظهر كفيها، صدمها حضوره الغير متوقع خاصة في ذلك التوقيت الذي حرصت فيه كل الحرص على القيام بالفحص، تلفتت حولها بخوف، وحاولت لملمة الأشياء المبعثرة قبل أن يعرف ما الذي تفعله، أربكها صوته الآمر:
, -أسيف! افتحي الباب!
, دق الباب بعنف حتى كاد يخلعه، فردت بصوت مبحوح:
, -ايوه، خارجة أهوو، ثواني بس!
, أقلقته نبرة صوتها وأثارت هواجسه، انتظر فتحها للباب على أحر من الجمر وعقله مشتت بين أفكار سوداء، غسلت أسيف وجهها بالماء لتخبئ أثار البكاء لكن لم تستطع إخفاء تلك الحمرة التي تصبغ حدقتيها، رسمت ابتسامة زائفة على ثغرها، التفتت للخلف لتضع العلبة الخاصة باختبار الحمل بداخل المنشفة كي لا يراها، وضمتها أسفل ذراعها، تنفست بعمق ثم فتحت بالباب قائلة بصوت شبه متحشرج:
, -ازيك يا حبيبي
, رد عليها بجمود وهو يتفرس وجهها:
, -في ايه يا أسيف؟
, تنحنحت قائلة بتردد وهي تتحاشى النظر في عينيه كي لا يكشف أمر بكائها:
, -مـ..مافيش
, حاولت أن تتحرك من أمامه لكنه سد عليها الطريق بذراعه صائحًا بقوة:
, -أســـيف!
, ارتجف بدنها من قوة صوته ورغمًا عنها سقطت المنشفة فتبعثر ما بداخلها، شحب لون وجهها من هول الموقف، ووزعت أنظارها المرتبكة بين وجه زوجها وعلبة الاختبار، شعرت بجفاف أشد في حلقها وهي تحاول تبرير الوضع واختلاق الأعذار والأكاذيب، تجمدت أنظاره على تلك العلبة الغريبة، وتسارعت دقات قلبها بخوف كبير من فضح أمرها، انحنى ليلتقطها بيده متسائلاً بغرابة:
, -ايه دي؟
, اعتدل في وقفته فزاد هلعها، لم ترغب في معرفته بتلك المسألة كي لا يوبخها من جديد، توترت أكثر وحاولت أن تجذبها من يده عنوة وهي تقول بنبرة مهتزة:
, -هاتها لو سمحت!
, استغرب من تصرفاتها المتجاوزة معه وإصراره على خطف العلبة منه، فبدا الأمر بالنسبة له مريبًا بدرجة مقلقة، رفعها عاليًا بيده وهو يسألها بحدة:
, -دي ايه يا بنت رياض؟
, جاهدت لتأخذها منه متوسلة برجاء:
, -عشان خاطري هاتها
, فشلت في الوصول إليها، وشكل بجسده حائلاً أمامها ليمنعها من الاقتراب منها، دقق النظر في العبارات المدونة على ظهر العلبة الكرتونية، قرأ المكتوب وعرف طبيعة المحتوى فتحولت تعابيره للصرامة والضيق، التفت بأعينه المزعوجة نحوها ليحدق فيها بنظرات حادة، تراجعت أسيف للخلف لتبكي بخوف محاولة تفسير الموقف:
, -أنا.. كنت
, صاح بها بصوت غاضب:
, -اختبار حمل!!
, ابتلعت ريقها وتلألأت العبرات في مقلتيها وهي ترد:
, -معرفتش ..آآ٤ نقطة
, تابع معنفًا بضيق وهو يلقي بعصبية بالعلبة الفارغة على الأرضية:
, -احنا قولنا ايه يا أسيف؟
, ضمت يديها إلى صدرها محدقة فيه بنظرات نادمة وهي تبرر تصرفها:
, -غصب عني و****، كنت عاوزة أفرحك
, وضع يده على رأسه ضاغطًا عليها بقوة وهو يتابع توبيخه لها:
, -أنا قولتلك ايه؟
, لم تستطع حبس عبراتها أكثر من ذلك، فبكت أمامه بشهقات متتالية،ضرب كفه بالأخر مرددًا باستياء:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، مش عارف أقولك ايه؟
, نكست رأسها بإحباط كبير، لقد أرادت إسعاده بتحقيق أمنيته وتبشيره بوجود نواة في رحمها ستنمو في أحشائها، وبعد أشهر سيحصل على رضيع صغير يحمل اسمه، لكن لم يأذن المولى بعد، نظر لها بعتاب أكبر، لقد تحدث معها مرارًا وتكرارًا في تلك المسألة كي لا تصبح شاغلها الأكبر، ووعدته بعدم التفكير فيها والامتثال لطلبه، لكنها خالفته وانشغلت بذلك الأمر دونًا عن غيره، شعرت بالأسف لكونها لم تطع رجائه، وما زاد من ضيقها اكتشافه لما فعلته حتى لو كان بحسن نية، وقف قبالتها متابعًا وهو يشير بسبابته:
, -يا ستي ده نصيب وأمر ****، هانعترض على حكمه؟
, بدا صوتها مبحوحًا وهي ترد:
, -كان نفسي أبشرك
, نظر لها مستنكرًا تفكيرها السطحي، وأكمل تعنيفه بضيق:
, -استغفر **** العظيم، حرام عليكي الخضة اللي عملتيها فيا!
, دنا منها مضيفًا بحدة وهو يلوح بذراعيه:
, -أنا قولت حصلك حاجة، وقعتي من طولك ولا في بلوى سودة حلت في البيت وأنا مش موجود!
, تحول وجهها لحمرة ملتهبة من كثرة البكاء، حدقت فيه بأعينها المنتفخة مرددة بصوت هامس:
, -منذر!
, اقتربت منه لتضع يدها على كتفه لتبدي ندمها له، لكنه أبعدها عنه قائلاً بصلابة:
, -حاسبي يا بنت رياض
, أولاها ظهره مندفعًا نحو باب المنزل، فمسحت بيدها عبراتها عن وجنتها هاتفة:
, -استنى يا منذر
, هتف بتبرم ساخط:
, -لله الأمر، أمي عبت دماغك وإني مشيتي وراها!
, حاولت اللحاق به لكنه كان منفعلاً بدرجة كبيرة، لم يدعها تلمسه مبديًا نفوره منها، خرج من المنزل متعصبًا وصافقًا الباب خلفه بقوة، توقفت أسيف في مكانها محدقة في أثره بحسرة، زاد بكائها النادم وارتفعت أصوات شهقاتها، هي خذلته وأحزنته وربما أوغرت قلبه من ناحيتها، ومن المحتمل ألا يسامحها بسهولة.
, للحظة توقف في مكانه عاجزًا عن التقدم خطوة نحو الدرج، كور قبضته ضاربًا الدرابزون بعنف ومفرغًا فيه شحنة مكبوتة، نفخ بضيق أكبر هاتفًا لنفسه:
, -ليه كده يا أسيف؟
, استدار عائدًا إليها، لم يكن ليتركها على تلك الحالة تبكي بمفردها وهو يعلم جيدًا أنها في أشد حالاتها ضعفًا، فتح الباب ليجدها تقف في الصالة فنظر لها بحنو، رفعت وجهها نحوهه غير مصدقة أنه عاد إليها، أشار لها برأسه بإيماءة خفيفة قائلاً بهدوء جاد:
, -تعالي!
, فتح لها ذراعه كإشارة موحية لتأتي إليه، لم تتردد كثيرًا، كانت بحاجة إلى ضمته التي تحتويها فتعيد لها الثقة والأمان، ارتمت في أحضانه متابعة بكائها، فلف ذراعيه حول ظهرها ماسحًا عليه برفق وهو يقول:
, -انسي يا حبيبتي ومافتكريش في الموضوع ده تاني، ماشي
, أجابته بصوتها المختنق:
, -حاضر
, أرخى أحد ذراعيه عنها ليضع يده على طرف ذقنها، رفع وجهها إليه قائلاً بابتسامة طفيفة:
, -كفاية عياط لحد كده، عينيكي بقوا كاسات الدم
, هزت رأسها بإيماءة مواقفة دون أن تنطق، زادت ابتسامته العذبة متلمسًا بشرة وجهها برفق، وعاود ضمها إليه ولفت هي ذراعيها حول خصره لتزيد من تشبثها به، تنهد مطولاً مخرجًا عن صدره ثقلاً كاد أن يجثو عليه ويصيبه بالهموم، خشى أن يهمل حبها في لحظة غضب بالسماح للخلافات بالدخول بينهما، وتعامله مع الأمر بحنكة أكد لها قوة علاقتهما القائمة على الود والحب، أغمضت عينيها مستسلمة لدفء أحضانه التي انتزعت عنها حزنًا مؤقتًا لتشعر بعدها بالرضا والارتياح ٣٠ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٩٤ الأخير
أصرت على حضورها معها جلسة العلاج بالمشفى حتى تتمكن من الحديث معها بانفراد، ولم تتأخر أختها عنها فقد توطدت العلاقات بينهما كثيرًا في الفترة الأخيرة وخاصة حينما ظهر التغيير الجذري في تصرفات نيرمين وتحولت معاملتها للأفضل وقل ما بينهما من مشاحنات، جلست على المقعد المجاور لفراشها تطالعها بنظرات حانية قبل أن تستطرد نيرمين حديثها الجاد قائلة:
, -محتاجة أتكلم معاكي
, تعقدت تعبيرات وجه بسمة وهي تسألها باهتمام:
, -خير يا نيرمين؟ في حاجة تعباكي، المفروض يكون في دكتور هنا ولا ممرضة تساعدك و٣ نقطة
, قاطعتها مرددة بهدوء:
, -اطمني، أنا كويسة والحمدلله
, نظرت لها بأعين قلقة وهي تسألها:
, -أومال في٥ نقطة
, لم تكمل بسمة جملتها للأخير حيت ولج إلى الغرفة الطبيب نبيل الذي كانت قسمات وجهه متحمسة للغاية لمقابلة مريضته، هتف بمرح رغم هدوئه:
, -أنا بجد محظوظ إني شوفتك النهاردة
, تحرجت نيرمين منه رغم عدم قوله ما يسيء لكن لوجود أختها بصحبتها، فخشيت أن تفسر الأمر بطريقة خاطئة، رسمت على تعبيراتها علامات الجدية وهي ترد بنبرة رسمية:
, -ازي حضرتك يا د. نبيل
, قطب جبينه مرددًا بضيق مصطنع:
, -حضرتك؟! واضح إنك زعلانة مني!
, رسم على ثغره ابتسامة محببة وهو يضيف:
, -حقك عليا، الجلسة اللي فاتت كنت في مؤتمر طبي ومعرفتش أجي فعلاً
, ضاقت نظرات بسمة نحوه متفرسة وجهه وملامحه بدقة شديدة، ثم وزعت أنظارها على أختها التي بدت مرتبكة رغم جمودها الواضح، ابتلعت نيرمين ريقها قائلة وهي تضغط على شفتيها:
, -ولا يهمك
, استدار نبيل برأسه ناحية بسمة ليقوم بتحيتها مرددًا بنفس الابتسامة المتسعة:
, -أهلاً وسهلاً بيكي يا أستاذة
, ردت الأخيرة بجدية وهي تدقق النظر فيه:
, -أهلاً يا دكتور، أنا بسمة أختها!
, زادت حماسته بعد معرفته لهويتها، وهتف قائلاً:
, -و****، سعيد إني اتعرف عليكي
, التفتت بسمة برأسها نحو أختها لترمقها بنظرات ذات مغزى وهي تقول:
, -الظاهر إنك تعرف أختي من زمان
, أجابها بفخر:
, -طبعًا، أحسن معرفة!
, تعلقت أعينه بوجه نيرمين متسائلاً:
, -وازي البنوتة رنا؟
, مطت بسمة شفتيها لتجيبه بجدية صريحة:
, -مممم.. رنا، تمام!
, هز رأسه متابعًا بابتسامة مهذبة:
, -يا رب دايمًا، طيب أنا هاسيبكم مع بعض شوية، وهارجع تاني عشان نبدأ نجهز نفسنا للجلسة!
, ردت عليه نيرمين بجمود:
, -ماشي يا دكتور
, أمسكت بسمة لسانها بصعوبة حتى ينصرف ذلك الطبيب الغريب من الغرفة لتسأل أختها بفضول وقد برقت عيناها:
, -ايه حكاية المز ده؟
, رغم ارتباكها الملحوظ من نبرة أختها المتسائلة إلا أنها بذلت مجهودًا كبيرًا لتبدو طبيعية وهي تجيبها بفتور:
, -ولا حكاية ولا رواية
, غمزت لها الأخيرة مبدية عدم اقتناعها بحالة الإنكار التي تدعيها مرددة بلؤم:
, -ده واضح إن الموضوع كبير أوي!
, تنحنحت نيرمين بصوت خفيض متابعة:
, -سيبك دلوقتي منه وقوليلي بقى!
, -ايه؟
, سألتها مهتمة وهي تحدق فيها بنظرات قوية:
, -ناوية تتجوزي امتى؟
, لوت بسمة ثغرها للجانب مرددة بانزعاج:
, -يووه يا نيرمين، برضوه السؤال ده!
, تابعت نيرمين موضحة بنبرة شديدة اللهجة:
, -دياب جاب أخره، حرام اللي بتعمليه فيه!
, تهدل كتفي بسمة بشكل ملحوظ، وأخفضت رأسها قائلة بتذمر:
, -أنا مش عارفة هو مستعجل على ايه، الدنيا مش هاتطير!
, مدت نيرمين يدها نحوها ببطء لتمسك بكف أختها، نظرت لها الأخيرة بغرابة، فتابعت برجاء لطيف:
, -لو بتحبيني صحيح اتجوزي دياب وفرحينا كلنا، هو أنا ضامنة أعيش لبكرة، مستخسرة في أختك٧ نقطة
, شعرت بسمة بالانزعاج من حديثها المثير للأعصاب فقاطعتها بحدة:
, -ماتقوليش كده، بعد الشر عنك
, تحاشت النظر نحوها متجنبة نظراتها التي تتفرسها، هي لا تعرف سبب تلك الحيرة التي تجبرها على التردد في إتمام الزيجة، قرأت نيرمين ذلك بوضوح في أعين أختها، فتابعت بجدية دون أن يهتز لها جفن:
, -أنا عاوزة أحضر فرحك، حددي بقى ميعاد
, نكست بسمة رأسها قائلة بامتعاض:
, -**** يسهل
, سألتها بإلحاح أكبر:
, -يعني امتى
, ضغطت على شفتيها مرددة باستسلام بعد توسلها اللطيف لها سواء بنظراتها أو باللعب على مشاعرها:
, -هاشوف بقى
, أشارت لها نيرمين بسبابتها محذرة:
, -بسمة، أنا هانصحك تاني وأقولك أوعي تضيعي فرصة الحب من إيديكي وتركبي دماغك، دياب بيحبك وبيتمنالك الرضا ترضي!
, أخرجت تنهيدة تحمل الكثير من صدرها وهي ترد:
, -أنا عارفة ده
, تعجبت نيرمين من ذلك التخبط المسيطر على حالها فسألتها معاتبة:
, -طب ليه مدوخاه معاكي؟
, هزت كتفيها قائلة:
, -جايز مرتبكة، خايفة، قلقانة مش عارفة بصراحة!
, تابعت مضيفة بهدوء وهي تبتسم لها ابتسامة مطمئنة:
, -شيلي الحكايات دي من دماغك، وركزي معاه، إديله فرصة يعبرلك عن مشاعره!
, للحظة تذكرت بسمة مواقفها الجادة مع دياب، وكيف تصد كل محاولاته البائسة للتودد إليها، لم تخفِ ضحكتها وهي تقول بعبث:
, -بيني وبينك أنا منشفاه معاه على الأخر
, ضحكت نيرمين عاليًا، فلم تكن شكواه لها من فراغٍ، هو بلغ أقصى طاقاته على التحمل، لذلك ردت مؤكدة:
, -ما هو باين، **** يصلح الحال بينكم يا رب!
, ربتت بسمة على فخذ أختها برفق وظلت تطالعها بنظرات حانية تحمل في طياتها الكثير..
, ٤٢ نقطة
, حاوطتها أحضانه الدافئة فاحتوت ضعفها الذي أنهك عقلها، وعوضها عن لحظات الحزن التي عانتها بالتعبير عن حبه الشغوف -والذي لا ينضب- لها، شبك أصابعه في أصابع يدها تاركًا رأسها مسنودًا على صدره وهو معتدل على الفراش، داعب بيده الأخرى خصلات شعرها متسائلاً:
, -عاملة ايه دلوقتي؟
, مررت يدها على صدره برفق هامسة بامتنان:
, -أحسن الحمد**** يا حبيبي
, تابع محذرًا بجدية:
, -زي ما اتفقنا ماتفكريش في الموضوع ده تاني
, -حاضر
, -ده رزق بتاع ****، ولما يجي وقته هتلاقيه متيسر
, رفعت رأسها قليلاً لتنظر في وجهه وهي تبتسم لترد بنعومة:
, -**** يخليك ليا
, عمق نظراته المتيمة بها وهو يقول بغموض:
, -وبعدين يا ستي إنتي كده مش هاتكوني فاضية للمفاجأة اللي كنت عملهالك
, اعتدلت في نومتها محدقة فيه بأعين لامعة، سألته بتلهف:
, -مفاجأة، ايه هي؟
, رد بهدوء:
, -بصي أنا فكرت في حاجة كده تشغلي بيها وقتك بدل أعدة البيت لوحدك!
, زاد وميض عينيها وهي تسأله بتلهف أكبر:
, -ايه؟
, أجابها بهدوء متمرس ليجذب انتباهها بالكامل:
, -مش انتي كان نفسك تشغلي الدكان بتاعك، صح ولا أنا غلطان؟
, ردت بحماس كبير:
, -ايوه
, ابتسم متابعًا بهدوء رغم جدية نبرته:
, -أنا يا ستي بقالي فترة شغال توضيب في دكانك، والحمدلله الحاج زقزوق قفل الرفوف والمكاتب بعد توضيبها وبقت كل حاجة جاهزة على التشغيل!
, جلست القرفصاء إلى جوارها دون أن تفلت أصابعها من يده، وحدقت مباشرة في عينيه بأعين لامعة متسائلة بتنهيدة متلهفة:
, -إنت بتكلم جد يا منذر؟
, رسم على ملامحه الجدية وهو يرد بثقة:
, -طبعًا، هو في هزار في الحاجات دي!
, تهللت أساريرها هاتفة بتشوق:
, -يعني الدكان بتاعي بقى جاهز؟
, هز رأسه بإيماءة خفيفة مؤكدًا لها:
, -ايوه، شوفي بقى إنتي عاوزة تعملي فيه ايه!
, صفقت بيديها فرحًا، ثم هللت بحماس وقد برزت نواجذها من اتساع بسمتها المتحمسة:
, -****، أنا مش مصدقة، أنا دكاني هيشتغل!
, هبت من جلستها لتميل على زوجها محتضنة إياه بامتنان وهي تقول:
, -**** يخليك ليا يا حبيبي ومايحرمنيش منك أبدًا
, دق قلبه طربًا من رؤيتها على تلك الحالة الغبطة، سعادته تكمن في فرحتها، في إزاحة الهموم عنها، لف منذر يده حول خصرها قائلاً بهدوء:
, -أنا عاوز أشوفك دايمًا بتضحكي كده وفرحانة!
, اعتلته أسيف لتتمكن من تطويق عنقه، وحدقت فيه بنظرات عاشقة وهي تقول:
, -بأحبك أوي!
, رد بغموض عابث:
, -ناشف كده؟
, فهمت مقصده فتورد وجهها مرددة بخجل طفيف:
, -لأ طبعًا
, انحنت برأسها عليه لتعطيه قبلة بثت فيها أشواقها نحوه، أطبق بشفتيه عليها، وبادلها فيها مشاعرًا أكثر حسية وعمقًا واضعًا يده خلف رأسها، سحبها للحظات إلى عالم أخر مليء بالأحاسيس الفياضة، وحفزها لطلب المزيد، استجابت لنداءاته الغرامية، وسبحا سويًا في أنهر الغرام٣ نقطة
, مرت الدقائق وهما يتبادلان العشق بشغف لم ينقص من قدره شيء، أراحت أسيف رأسها على ذراعه متطلعة إليه بنظراتها المتقدة حبًا، لامس وجنتها الساخنة بأنامله برفق، ثم أردف قائلاً بهدوء:
, -المهم فكري في حاجة تكون مناسبة تعمليها فيه
, ردت بحيرة وهي ترمش بعينيها:
, -مممم.. عندي أفكار كتير، بس محتارة!
, أضاف موضحًا:
, -أهم حاجة تكون ماشية مع المنطقة هنا
, سألته بنبرة حائرة وهي تعض على شفتها السفلى:
, -ايه رأيك لو عملت مثلاً مشتل للزرع أو محل ورد؟
, أجابها بهدوء جاد:
, -هو صعب في الحتة هنا، بس فكري أكتر في حاجة مناسبة تمشي مع الناس اللي عايشين هنا!
, غاصت أكثر في أحضانه شاعرة بذلك الدفء المغري الذي يقدمه لها، ثم ردت عليه بتردد:
, -مش عارفة
, ضمها أكثر إلى أحضانه مستمتعًا بقربها الذي يذيب أوجاعه ويدخله إلى عوالم الإثارة والإغراء ليختبر كل مرة مشاعرًا أقوى وأعمق، رد عليها بتمهل:
, -لو إنتي عاوزة تعملي مشتل ممكن نخليه محل ورد مثلاً بس يكون صناعي، تعملي بوكيهات الورد للعرايس، هدايا، حاجة من اللي بتاكل مع الشباب
, رمشت بعينيها مرددة بإعجاب قليل:
, -هي فكرة مش وحشة
, استأنف حديثه بصوت جاد:
, -احنا ندرسها سوا ونشوف المناسب ونعمله، المهم في النهاية دكانك يتفتح!
, تنهدت هامسة:
, -مظبوط
, ربت على ذراعها الذي يحاوط صدره برفق قائلاً:
, -ويالا بقى أنا جعان، هاتعمليلنا ايه؟
, ابتسمت بثقة وهي تجيبه:
, -احلى أكل لحبيب قلبي
, أشار لها بحاجبيه مرددًا:
, -ماشي أما أشوف
, تسللت من أحضانه ساحبة معها الغطاء لتتوجه إلى المرحاض أولاً قبل أن تعد له الطعام الشهي الذي يهوى تناوله من يديها، تابعها بأنظاره حتى اختفت من أمامه فمط ذراعيه وشبكهما خلف رأسه محدثًا نفسه بسعادة:
, -**** يباركلي فيكي!
, ٣٥ نقطة
,
, لم يتوقع أن يتم إيداعه بالسجن لينفذ عقوبة جديدة استحقها بسبب أفعاله الغير قانونية وتجاوزاته الغير شرعية خاصة مع الصيدلانية فاطمة، تمسك بالقضبان الحديدية محدقًا بنظرات مصدومة في وجه القاضي الذي نطق الحكم عليه توًا، هي لجأت إلى أبرع المحامين للإدعاء بالحق عليه، فنال ما يستحقه بعد أن ثبت تورطه في الأمر، تحركت أعينه نحو والده الذي طالعه بنظرات أسفة، هو الجاني على نفسه قبل أي شيء، صاح مجد من خلف القضبان الحديدية بنبرة عالية:
, -سامحني يا أبا
, رد عليه مهدي بحزن كبير:
, -**** اللي بيسامح
, تابع صائحًا بتوسل:
, -حقك عليا، إن شاء **** هستأنف وهاخرج قريب من هنا!
, رد بفتور:
, -**** موجود
, أشار بيده لأخيه متابعًا بصرامة:
, -مازن خلي بالك من أبويا، حطه في عينيك، مش هاوصيك
, هتف أخيه الأصغر بضيق:
, -اطمن، أنا معاه
, جذبه الحارس من ذراعه ليبعده عن القضبان ليتجه نحو محبسه مع باقي المحتجزين بالقفص الحديدي، فلوح له مازن بيده مودعًا إياه، ثم أسند والده المتهادي في خطواته قائلاً:
, -أنا مش هاسكت، هاخلي المحامي
, قاطعه مهدي بهدوء:
, -مالوش لازم، أخوك غلطان، وافترى كتير على الغلابة، أنا راضي بحكم ****، المهم هو يعقل
, رد عليه بعدم اقتناع:
, -هو كان أول واحد، مافي غيره كتير
, هز مهدي رأسه رافضًا طريقة تفكيره المتهور والتي تدفعه إلى المهالك موضحًا:
, -بس مش كده! وأنا حذرته!
, -ماشي يا أبا، نتكلم بعيد عن هنا
, رد عليه بجدية:
, -ماتتعبش نفسك، اللي **** عاوزه هايكون، المهم أخوك يعقل زي ما قولتلك
, ٤٣ نقطة
,
, كان محقًا حينما اقترح عليها العمل وإلهاء نفسها في شيء يستحوذ على كامل تفكيرها بدلاً من الفراغ الممل الذي كانت قابعة فيه، انشغلت أسيف بإعداد الدكان الخاص بها ليصبح محلاً لبيع الورود الصناعية بالإضافة إلى الهدايا المميزة للصغار والكبار، واستخدمت أفكارها في تنسيق الباقات بطريقة جذابة ولافتة للأنظار بعد عملها بنصيحة زوجها منذر.
, وصل إلى مسامعها أنباء حبس مجد فسعدت بتلك الأخبار السارة كثيرًا، وكانت من أوائل المهنئين لصديقتها فاطمة التي تخلت عن خوفها، وأثبتت شجاعتها في مواجهته، واستمرت في معركتها حتى حصلت على حقها القانوني في نهاية المطاف.
, عاونتها بسمة في تجهيز كل شيء ليتم افتتاح الدكان في حلته الجديدة في أقرب وقت بالتزامن مع افتتاح الفرع الجديد الخاص بالوكالة، فقد عَمِد منذر إلى تغيير نشاط المحال بعد فض الشراكة مع عائلة أبو النجا ليتحول إلى معرض حديث مزود بالتصميمات الجديدة للأدوات الصحية، الجميل في الأمر أن زوجها سينتقل لذلك الفرع للعمل إلى جوارها ليظلا على مقربة من بعض.
, قامت أسيف برص الباقات المعدة سلفًا على أحد الرفوف متسائلة باهتمام:
, -يعني اتفقتوا؟
, أجابتها بسمة بتنهيدة مطولة:
, -ايوه
, لكزتها أسيف في كتفها معاتبة:
, -بذمتك في عروسة تكون قالبة وشها كده؟!
, ردت عليها بتجهم:
, -أنا مكونتش حابة أستعجل
, نظرت لها بغرابة رافعة حاجبها للأعلى وهي تقول:
, -ده انتو بقالكم فترة كاتبين كتابكم
, ردت بعدم اكتراث:
, -في ناس بتفضل بالسنين
, صححت لها أسيف تفكيرها قائلة:
, -ده لما يكونوا مش جاهزين!
, زفرت بسمة بصوت مسموع وهي ترد:
, -خلاص ارتاحوا كلكم من الزن، أسبوعين وأتنيل أتجوز
, انفرجت شفتي أسيف بصدمة واضحة، لم تتوقع منها تلك العبارة، فردت مدهوشة:
, -وساكتة
, قوست فمها للجانب متسائلة بفتور:
, -هايحصل ايه يعني؟
, تفاجأت بابنة خالها تجذبها من يدها بغتة لتتحرك معها نحو باب الدكان هاتفة بتلهف:
, -ده احنا كده معندناش وقت خالص
, استغربت من تصرفاتها المريبة والمبالغ فيها وهي تسألها:
, -في ايه يا بنتي؟
, ردت عليها بجدية:
, -سيبي اللي في ايدك دلوقتي وخلينا نشوف هانعمل معاكي ايه يا عروسة
, أشارت لها بكفها متابعة باندهاش:
, -يا أسيف الدكان٤ نقطة
, نظرت لها بنظرات عميقة وذات مغزى قبل أن تقاطعها بحزم:
, -مش وقته خالص، ده احنا عندنا عروسة!
, سحبت بسمة يدها من كف أسيف الممسك بها مرددة بقلق:
, -بلاش توتريني، خلي الأيام دي تعدي على خير!
, لم تستدر بجسدها نحو الباب وهي تتحرك نحوه باندفاع طفيف، وبالتالي لم ترَ دياب وهو يلج إليه، لذا دون قصد منها ارتطم ظهرها بصدره، فسقطت في أحضانه، تلقفها من ذراعيها مانعًا إياها من السقوط، شعرت بقبضتيه عليها فالتفت نحوه برأسها تحدق فيه بصدمة، رمقها بنظرات عاشقة قريبة مليئة بالكثير من المشاعر المتأججة، تلون وجهها بحمرة قوية وسريعة، لم يفلتها منه، وهمس لها بعبث مستغلاً تلك الفرصة التي لا تتكرر كثيرًا:
, -وربنا أنا محظوظ ٣٤ نقطة ٣ علامة التعجب
,
,
, تخشب جسدها من ذلك الموقف الحرج الذي يتكرر دومًا معه، وكأن الأقدار تلعب معها وتخدمه مهيئة له الظروف لتجمع بينهما رغمًا عن إرادتها، حدقت فيه بنظرات مدهوشة، وحاولت التحرر من قبضتيه المحكمتين حول ذراعيها لكنه رفض إفلاتها مستغلاً كل لحظة متاحة له للتقرب منها، بدا الانزعاج واضحًا على محياها وهي تصيح بتشنج:
, -لو سمحت ماينفعش كده!
, لم يضغط عليها كثيرًا، فالمكان والزمان غير ملائمين تمامًا للجدال أو حتى لإظهار المشاعر والأحاسيس، أرخى قبضتيه عنها قائلاً بابتسامة متسلية:
, -وماله!
, وما إن نالت حريتها حتى تراجعت مبتعدة للخلف محدقة فيه بنظرات تحمل الضيق، ظل دياب يطالعها بنظراته العاشقة بجرأة أكبر غير متحرج من وجود أسيف معهما، أخرجته هي من تحديقه المطول متسائلة:
, -ازيك يا دياب؟ إيه الأخبار؟
, رد قائلاً بهدوء وهو يعبث بمؤخرة رأسه:
, -الحمد**** يا مرات أخويا!
, عاود دياب التحديق في بسمة التي كانت في حالة خجل واضحة، لم تختفِ بعد الحمرة المغرية الظاهرة على صدغيها، ولم تسكن رجفة جسدها المتوتر إلا قليلاً، ابتلعت ريقها مرددة بارتباك:
, -أسيف أنا هارجع البيت!
, سد عليها دياب الطريق بجسده ليمنعها من المرور أو التقدم خطوة للأمام قائلاً باستنكار:
, -ايه ده! انتي ماشية؟
, فركت أصابع كفها بتوتر وهي ترد بتجهم زائف:
, -ورايا حاجات في البيت، مش فاضية للهزار البايخ ده!
, دنا منها فتوترت أكثر من اقترابه الغير حذر، تلفتت حولها مبدية حرجها من تصرفاتها المتجاوزة لكنه لم يكترث بما يفعله، همس لها بتنهيدة حارة:
, -بس أنا ملحقتش أشبع منك!
, تنحنحت بسمة بصوت خفيض، ثم دفعته بيدها من كتفه لتتمكن من المرور قبل أن يحاصرها أكثر من ذلك، اندفعت مسرعة نحو الباب قائلة بجدية شديدة:
, -سلام يا أسيف!
, لم تستطع ابنة خالها الرد عليها بسبب فرارها الغير مبرر من الدكان، واكتفت بالابتسام المتعجب، صاح دياب بامتعاض مستنكرًا جفائها معه:
, -شايفة المعاملة؟
, حافظت على ابتسامتها الرقيقة وهي ترد بهدوء:
, -معلش بتدلع عليك
, احتدت نظراته قائلاً بوعيد:
, -بكرة يطلع عليها إن شاء ****، أنا ماسك أعصابي لحد النهاية!
, وضعت يدها على أنفها مانعة نفسها من الضحك على طريقته المضحكة، ثم قالت:
, -اصبر على رزقك، ده حتى بيقولوا الصبر مفتاح الفرج!
, رد ساخرًا بعبوس:
, -ده لو فضل فرج عايش!
, ٤٦ نقطة
,
, انحنت بجسدها للأمام لتجمع بقايا روث البهائم من الحظيرة بعد أن أمرها عمها كامل بتولي مهمة تنظيفها يومًا بعد يوم، لم تتصور مطلقًا أن تتحول حياتها من الترفه والرفاهية للشقاء والذل، لو أخبرها أحدهم أنها بعد أشهر ستكون في تلك الحالة وعلى هذه الوضعية لظنت أنه مجنون، لكنها الحقيقة المرة، نعم هي حصلت على وثيقة طلاقها من زوجها مازن، وباتت حريتها مشروطة حتى انتهاء عدتها لتزف إلى ذلك العامل الذي حُكم عليها بأن تكون زوجته، هو لا يبحث عمن يبادلها مشاعر الحب أو الحميمية، بل عمن تلبي له رغباته المنزلية وتؤدي واجباتها بإخلاص، هو يعاني من مشاكل في الإنجاب، ولم يسبق له الزواج، لكن لرغبة عمها في تأديبها وفي ستر فضائحها عرضها عليه، وارتضى الأخير بها ممتعضًا وكأن بها ما يشين، ولما تنكر ذلك وهي من ألقت بنفسها في التهلكة؟
, بكت ولاء قهرًا على حالها البائس، انتحبت بصوت خفيض محدثة نفسها:
, -أنا اللي جبت ده كله اللي نفسي، أنا افتريت وطمعت، وضاع مني كل حاجة!
, لم تستطع التركيز في أداء عملها، فانهارت باكية بحرقة أشد، لطمت على رأسها بكفيها متابعة بانكسار:
, -كنت غبية! غبية!
, أخفضت كفيها لتلطم على صدغيها حينما تذكرت ابنها، ذلك الصغير الذي تناسته في خضم معاركها، لم ينل من أمومتها ولا أحضانها إلا القليل، لم تكن أمًا بالمعنى الحقيقي، شعرت بوخزة عنيفة تضرب قلبها الذي انفطر على بعده، صاحت بنواح:
, -حبيبي يا يحيى! وحشتني أوي، يا ترى هاعرف أشوفك ولا لأ؟!
, اشتعلت رأسها بنيران الغيرة حينما اقتحم عقلها صورة بسمة بابتسامتها التي تستفزها وهي متأبطة لذراع دياب، احتقنت أعينها الباكية، وامتلأ وجهها بحمرة ملتهبة، بالتأكيد على تربعت على عرش قلبه، واحتلت مكانها الطبيعي، ما أصابها بخيبة الأمل هو إحساسها بأنه متيم بها ويعشقها بجنون، كورت أصابع يدها بقوة ضاغطة عليهم وهي تردد لنفسها:
, -بقيت نهايتي هنا، وهي خدت كل حاجة!
, أخرجها من شرودها الغاضب صوت زوجة عمها الصائح بحدة:
, -إنتي يا بت لسه مخلصتيش؟
, كفكفت عبراتها بظهر كفها هاتفة:
, -أهوو على طول
, أشارت بيدها متابعة بلهجة آمرة:
, -طب يالا أوام، لسه عندنا خبيز وموال أد كده!
, ٤٢ نقطة
, أسرعت في خطواتها متجهة نحو منزلها هاربة من حصار مشاعره الصادقة والتي تضعف بقوة جمودها الزائف معه، هو استحوذ على كامل تفكيرها رغم إنكارها لذلك أمامه، لكن انفعالاتها تعكس حقيقتها دون أن تضطر للبوح بذلك، توقفت في مدخل البناية لتلتقط أنفاسها قبل أن تصعد إلى منزلها فتظهر عليها علامات التوتر والاضطراب مما يجعلها فريسة لأسئلة أختها التي لا تنتهي عنه، أرادت الحفاظ على بقايا عقلها من كثرة إلحاح الجميع عليه، نعم هي تفكر فيه وبكثرة، لكنها تقاوم إحساس الرهبة الذي يعتري من آن لأخر ليوترها من مستقبل مجهول معه، أحيانًا يلوح في الأفق توترات علاقته السابقة مع طليقته، ناهيك عن وجود ابنه الذي ربما لن يتقبل وجودها في حياته لاحقًا إن اعتقد يومًا أنها احتلت مكان والدته، تصارعت أفكارها المتخبطة بداخل رأسها فأتعبتها، تنفست بعمق هامسة لنفسها بتوجس:
, -**** يستر، إن شاء **** هايحصل كل خير
, أكملت صعودها على الدرج بخطوات سريعة، ولجت إلى داخل منزلها متلفتة حولها بهدوء، حمدت **** في نفسها أن الصالة كانت خاوية من والدتها، فأسرعت في خطواتها مختبئة داخل غرفتها، وقفت أمام المرآة متأملة وجهها الذي كان يحتفظ بحمرته الملتهبة، تحسسته بظهري كفها فشعرت بسخونته المتقدة، شردت سريعًا في تقاربهما الشديد، نظرات الوله التي يطالعها بها، هي تزداد عمقًا يومًا بعد يوم، وجدت نفسها تبتسم عفويًا وهي تتخيل أفكارًا جامحة معه فنظراته لها توحي بذلك، وجرأته المباغتة تؤكد نواياه، زادت ابتسامتها العابثة، ثم تجهمت بشدة محركة رأسها مستنكرة شرودها الطائش، همست معاتبة نفسها:
, -مجنونة، بلاش الحاجات دي!
, ألقت بجسدها على الفراش لتكمل تحديقها الفارغ في سقفية الغرفة مستسلمة للذكريات الشيقة التي تجمعهما سويًا والتي لا تخلو من اللهو والنظرات العاشقة، تحركت أعينها نحو خزانة الثياب حيث يوجد داخلها ثوب عرسها الذي اشتراه لها دياب، كانت رافضة لتلك الفكرة في البداية، أرادت استئجار ما يليق بها، لكنه عارضها وأهداها إياه، تنهدت بعمق وهي تنهض من على الفراش لتتجه نحوها، فتحت الضلفة لتطالعه بأعين لامعة، مدت يدها ببطء تتحسس ملمسه من فوق الحافظة البلاستيكية التي تغطيه، عضت على شفتها السفلى بخجل، ثم سحبت يدها لتغلق الضلفة من جديد، استندت بظهرها على الخزانة لتشرد من جديد في أحلام وردية.
, ٤٤ نقطة
,
, أشرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة لافتتاح فرعه الجديد بالتزامن مع دكان زوجته، ونقل إدارته إلى هناك ليكون إلى جوارها أغلب الأوقات بينما سيتولى أخيه متابعة الأعمال بالوكالة مع والده، لم ينزعج منذر من رغبة أسيف في تأجيل الإعلان عن ميعاد الافتتاح النهائي لانشغالها مع ابنة عمتها، بل على العكس رحب بذلك كثيرًا، فالطرف الأخر في الموضوع هو أخيه الأصغر، والذي سيحظى أخيرًا بالحب والاستقرار بعد فترة ليست بالقليلة من مشاكل متواصلة انعكست عليه، لكنه في الأخير خرج منتصرًا وظافرًا بحب جديد، كذلك رتب منذر لسفرة قصيرة يقضيها مع حبيبته وبصحبة العائلة بعد الانتهاء من تجهيزات العرس، فالجميع بحاجة لوقت مثل ذلك لتجديد النشاط والترويح عن النفس.
, وعلى مدار الأيام التالية، خصصت أسيف أغلب وقتها لتظل إلى جوارها، فالوقت المتبقي محدود للغاية، وتجهيز العروس يتطلب فترة كافية للتأكد من تجهيز كل شيء، كانت أسعد أوقاتها هي مشاطرتها تلك الفرحة خاصة أن نيرمين كانت على قدر المستطاع تعاونهما، خفف ذلك من وطأة الضغوط النفسية التي كانت تعانيها بسمة، وشعرت بدفء العائلة الذي حمسها كثيرًا، وبدد خوفها تدريجيًا، هي تخشى من تبعات الإقدام على تلك الخطوة الفارقة في حياتها، وجاهدت لصرف أي أفكار متوترة عن ذهنها.
, انتهت عواطف من إعداد الكعك والبسكويت الخاص بتلك المناسبة السارة وبدأت في وضعه في علب نظيفة لتوزعه على الأحباء، ورغم تعجب نيرمين من مبادرة والدتها في عمل ذلك إلا أنها أوضحت غرضها قائلة بود:
, -خلي الناس تفرح، وبعدين فرصة يا بنتي، إنتي معايا وإيدك بإيدي! هو أنا في ديك الساعة لما تكوني وسطنا وبتجهزي حاجة أختك ويايا، ده الفرحة مش سيعاني يا بنتي، **** يديمها علينا ويكمل شفاكي على خير!
, تلألأت عيناها بعبرات طفيفة تأثرًا بحديث والدتها، ربما هي سعت لإسعادها بطريقة غير مباشرة، أرادت أن تشعرها بأهمية وجودها، بأن الفرحة لن تكتمل إلا بحضورها معهم، تملكها إحساس سعادة صافٍ، دون تردد احتضنها قائلة بنبرة شبه مختنقة:
, -يا رب يا أمي!
, ربتت عواطف على ظهرها بحنو ثم تابعت هاتفة:
, -يالا يا بنتي، تعالي نشوف ناقصنا ايه!
, ٣٨ نقطة
, بدا المنزل بمن فيه كخلية النحل خاصة حينما حانت ليلة الزفاف، فلم تتوقف التنهئات ولا المباركات من الجيران والمعارف الذين تسابقوا في ذلك، ولم تهدأ صديقات العروس من الاحتفاء بها على طريقتهن، أصرت بسمة على إقامة زفة حتى لو كانت متواضعة عند منزلها قبل الانتقال للقاعة للاحتفال، فعلى عكس أخيه أراد دياب ألا يحرم عروسه من كل أحلام الفتيات من زفاف مميز، وزينات براقة، وصورًا تذكارية مختلفة، ورغم كون اليوم مشحونًا منذ بدايته إلا أنه كان سعيدًا، فالمهم أنها ستصبح بعد ذلك زوجته.
, شغلت نيرمين طرحة أختها بيدها بحب أخوي صادق، فحينما ارتدتها بدت أكثر إشراقًا وجمالاً، تأملت بسمة نفسها في المرآة غير مصدقة أنها عروس بالفعل، ارتسمت تعابير السعادة والفرحة على محياها، رفعت أبصارها نحوها لتقول بامتنان:
, -**** يخليكي ليا يا نيرمين، حلوة أوي
, ردت عليها بابتسامة لطيفة:
, -إنتي اللي حلوة من يومك!
, صدحت أصوات الدفوف والمزامير لتعلن عن قدوم الزفة أسفل البناية، أعقبها إطلاق الزغاريد العالية، فارتبكت في غرفتها وانقبض قلبها بقوة، شعرت بدقات قلبها تخترق أذنيها من فرط الاضطراب الممزوج بالتوتر، وضعت نيرمين يدها على كتفها هامسة لها بعبث:
, -اهدي يا عروسة، علقة تفوت ولا حد يموت!
, ضاقت نظراتها وهي ترد بخوف:
, -بلاش توتريني بزيادة، أنا أعصابي تعبانة
, -و**** ما في أحلى منك عروسة
, قالتها أسيف بنبرة رقيقة وهي تدنو منها حاملة في يدها عطرًا أنثويًا لتغرق به ثوبها، حركت بسمة رأسها نحوها مرددة:
, -إنتي شايفة كده؟
, أكدت لها بثقة:
, -طبعًا!
, أطلت نيرمين برأسها من النافذة مرددة بحماس:
, -العريس جه تحت والزفة جاهزة، يالا بينا
, هتفت بسمة بخوف:
, -لالالا، استنوا شوية!
, غمزت لها نيرمين بعبث:
, -خدي راحتك يا بسوم!
, تصلب جسدها من فرط التوتر، فتابعت بتهور غير مدركة سذاجة تفكيرها:
, -أقولكم على حاجة، احنا نأجل الجوازة دي كام يوم، أنا مش مستعجلة!
, حدقت فيها أسيف بغرابة وهي تسألها:
, -إنتي شايفة كده؟
, أومـأت برأسها مرددة:
, -أيوه
, اقتحم الغرفة دون استئذان الصغيران يحيى وأروى هاتفين بحماس مرح:
, -مس بسمة
, ركضا نحوها ففتحت ذراعيها لتستقبلهما في أحضانها مرددة:
, -حبايبي
, هتفت أروى بابتسامة متسعة:
, -مبروك يا مس
, أضاف يحيى ببراءة وهو يشير بيده:
, -بابي طالع ورايا، بس أنا سبقته!
, ارتبكت من مجرد ذكر اسمه، وحاولت الحفاظ على ثباتها مرددة بحذر:
, -أوكي يا حبيبي
, تابع الصغير قائلاً ببراءته المحببة:
, -بابي قالي إنك هتنامي معانا بعد كده، صح يا مس؟
, تورد وجهها كليًا من تلك العبارة الصريحة، وردت بخجل:
, -احم ٣ نقطة ايوه
, وضعت أسيف يديها على كتفي الصغيرين قائلة بهدوء:
, -يالا يا حلوين نطلع برا عشان٤ نقطة
, لم تكمل جملتها للأخير حيث انتبه الجميع لدقات دياب الخافتة المصحوبة بصوته المتسائل:
, -ينفع أدخل؟
, انتفض جسد بسمة في مكانه من مجرد سماع صوته، وانكمشت على نفسها رهبة من الموقف برمته، رمشت بعينيها في ارتباك، وبدأت في الضغط على أصابعها محاولة تخفيف حدة التوتر التي تعتريها، ردت نيرمين بترحاب:
, -طبعًا
, بتمهل متشوق ولج إلى داخل الغرفة باحثًا بعينيه عنها، تجمدت أنظاره على شخصها الذي سلب عقله، فغر فمه للأسفل مبديًا انبهاره بجمالها الذي زاد توهجًا بارتدائها لثوب الزفاف، هتف غير مصدق:
, -اللهم صلي على النبي، هو في كده، أخيرًا هنتجوز!
, أخجلها غزله الصريح، وتوترت أكثر، جاهدت أسيف وبسمة لإخفاء ضحكاتهما المتسلية، اقترب دياب أكثر، فزاد ارتباك بسمة، أمسكت بكف ابنة خالها هامسة برجاء:
, -خليكي يا أسيف!
, ردت عليها بصوت خفيض وهي تشير بعينيها:
, -خليني ايه بس، ده العريس مستني!
, سحبت يدها منها ببطء تاركة إياها بمفردها مع عريسها الذي يحترق تلهفًا في مكانه، نظرت بسمة إلى نيرمين هامسة لها بتوسل:
, -نيرمين ماتمشيش! أنا٣ نقطة
, قاطعتها بجمود زائف:
, -باين ماما بتنادي برا، هاروح أشوفها!
, نظرت لها باستنكار معاتب لتخليها هي الأخرى عنها وتركها بصحبته، ظل يتابع باستمتاع تصرفاتها الخجلة دون أن يعلق عليها، وانتظر بشوق انصراف الجميع من الغرفة ليصبحا سويًا، سلط أنظاره اللامعة عليها مرددًا بعبث:
, -ايه بقى؟
, تراجعت للخلف مبتلعة ريقها بتوتر كبير، ثم ردت بحدة وهي تشير بسبابتها محذرة:
, -في ايه؟ لو سمحت مش هاسمح بأي تجاوز
, مازحها مرددًا:
, -هو أنا في القسم ولا حاجة يا أبلة؟
, تابعت محذرة بلهجة شديدة:
, -خليك مكانك!
, رد ببلاهة:
, -ده أنا جاي أديكي الورد، خايفة ليه؟
, أخفضت أنظارها لتحدق في باقة الورد التي كانت بحوزته، عاودت النظر إليه مرددة بعبوس:
, -طيب، هاتها!
, استغرب تجهمها المبالغ فيه، ولكنه برر ذلك لنفسه بكونها في حالة ارتباك، تلك الحالة التي تسيطر على أغلب العرائس في ليلة زفافهن، لم يتعجل أي شيء منها، حتى وإن كان الانتظار يقتله شوقًا إلا أنه لم يرد إرغامها على شيء، على الأقل حاليًا، نظر لها بوجه خالٍ من التعبيرات قائلاً:
, -مش يالا بينا، الناس مستنية تحت، لسه ورانا حاجات كتير!
, ردت باقتضاب:
, -ماشي
, تابع آمرًا وهو يشير بعينيه:
, -هاتي إيدك
, قطبت بسمة جبينها متسائلة بحدة طفيفة:
, -ليه؟
, رد ساخرًا من تساؤلاتها العجيبة:
, -محتاجها خمساية، مش هنأنجش (نرتبط) في بعض واحنا خارجين!
, ردت بامتعاض:
, -طيب
, تحركت بتمهل جاذبة ثوبها للأعلى لتتمكن من السير دون أن تتعثر فيه، وقفت قبالته متحاشية النظر فيه، لكنه بالطبع لم يضيع الفرصة هباءً، جاب بأنظاره ببطء على ثوبها المميز محدقًا فيها بإعجاب شديد، حينما رأه لأول مرة في محل ثياب الأفراح لم يتردد لثانية في شرائه، اقتناه فورًا، هو صمم من أجلها هي فقط، تأبطت في ذراعه باستحياء، شعر برجفتها وهي تتناول منه باقة الورد، فابتسم لها بسعادة، همس بأنفاس حارة لفحت وجنتها:
, -بس و**** قمر!
, ردت عليه بإيجاز وهي تتجنب التطلع إلى وجهه رغم يقينها بنظراته التي تخترقها:
, -شكرًا
, مال عليها متسائلاً باستجداء محبب:
, -مافيش كلمة حلوة ليا؟
, ردت بعبوس:
, -لأ
, مط فمه هامسًا:
, -براحتك، ادلعي زي ما إنتي عاوزة!
, أدارت رأسها في اتجاهه متسائلة بحدة:
, -بتقول ايه
, ابتسم لها ببلاهة وهو يجيبها:
, -يالا عشان الزفة يا حبيبتي، بيزمروا تحت وبيضربوا كلاكسات، بيب بيب، سمعاهم!
, لم تتمكن من إخفاء ضحكتها التي تشكلت على شفتيها لتزيدها إغراءً وأنوثة من دعابته الطريفة، طالعها بنظرات أكثر شغفًا ورغبة طامعًا في تذوق رحيق الحب من على شفتيها، هي بالفعل أسرته بعفويتها، بعنادها، بحدته،ا بعصبيها، وبطريقتها الغير متكلفة فبات معشوقها، وباتت حبه الأول والأخير بعد سنوات عجاف من المعاناة والبكاء على أطلال الماضي المشين، فقط ساعات معدودة ويصبح الحلم حقيقة ٣٧ نقطة !!
,
, جلست باستحياء على المقعد الخاص بالعروسين في منتصف القاعة تراقب بنظرات شمولية ومتوترة أوجه المتطلعين إليها من المدعوين، رسمت تلك الابتسامة المصطنعة على ثغرها لتخفي ارتباكها الكبير، انتفض جسدها قليلاً حينما شعرت بتلك اليد توضع على كتفها، أدارت رأسها للجانب لتجد والدتها محدقة فيها بنظرات حانية وهي تربت عليه برفق ، مالت عليها هامسة:
, -زي القمر يا بنتي، **** يحميكي ويكفيكي شر العين
, اكتفت بسمة بالابتسام المجامل لها وهي تهز رأسها بإيماءة خفيفة، ثم عاودت التحديق أمامها، جاهدت لتخفي حالة التوتر والصراع التي تعتريها، هي خائفة مما هي مقبلة عليه، فتنتظرها حياة جديدة مليئة بالكثير من التحديات والقرارات، عليها أن تكون فيها عقلانية تفكر بتريث وتتجنب حالة الاندفاع الأعمى التي تسوقها في بعض التصرفات، تنفست بعمق لتحافظ على جمودها الزائف، توجهت أنظارها نحو عريسها الذي كان يرقص طربًا مع محبيه، بالطبع لم يدخر وسعه في دعوة معارفه وأقربائه وأصدقائه ناهيك عن كل من له صلة به، امتلأت القاعة عن بكرة أبيها، وتسابق الجميع في تقديم التهنئات والمباركات له كل على طريقته الخاصة، تنهدت مطولاً حامدة **** في نفسها أنها أثرت الجلوس على التمايل والرقص أمام تلك الأعين الذكورية التي تعج القاعة بها.
, سعادة لا توصف تملكته حينما رفضت النهوض وتضاعفت أكثر ببقائها في مكانها كالملكة شامخة لا تطالها الأيدي، دق قلبه بقوة معلنًا عن حبه اللا محدود لها، لم تفارقها عيناه، وبين الحين والأخر كان يلتفت نحوها ليرمقها بنظراته العاشقة بالرغم من إحاطة الشباب له ممن يماثلونه عمرًا أو أصغر بقليل ليقوموا بواجبهم معه، تسابق دياب معهم في إظهار حماسه بليلة العمر، وزادت الأجواء حماسة مع انفعالهم المندمج بالأغاني الشعبية المحمسة.
, كان يترقب على جمر متقدة مرور الساعات لينفرد بها فيتمكن من التعبير لها عن مشاعره العميقة لها، ألهى عقله بما يحدث حوله مؤقتًا كي لا يهلك من كثرة الانتظار والتفكير.
, على الجانب الأخر جلست نيرمين على الطاولة القريبة من مقعد العروسين واضعة على حجرها رضيعتها، لم تفارق البسمة شفتيها، وتمايلت برفق مع النغمات المحفزة للحواس مداعبة ابنتها التي كانت تضحك ببراءة، انحنت على جبينها تقبلها، ضمتها إليها وأكملت دندنتها مع الأغاني، أبعدت أسيف أعينها المتطلعة إليها لتستدير برأسها نحو والدة زوجها، كانت بحاجة للعون، فتحركت صوبها، سألتها بنعومة:
, -عاوزة مساعدة مني يا طنط؟
, أجابتها جليلة بقلق:
, -اتأكدي يا بنتي إن كل حاجة موجودة في البوفيه ده، مش عاوزين الناس تاكل وشنا
, -حاضر
, أشرفت معها على إعداد الطاولات المعدة بالطعام الشهي وساعدهم الطهاة في رص الصحون بطريقة منمقة تمكن المدعوين من تناول ما يشتهون، دنا منهما منذر متأملاً زوجته المنهمكة فيما تفعل بهيام، مرر أنظاره ببطء على ثوبها الكريمي بنظرات لامعة، هو ملائم لها، ويزيدها رونقًا وتميزًا، أخرج من صدره تنهيدة حارة تحمل الكثير، وصرف عن ذهنه التفكير في أمور لا تصلح إلا في منزلهما، التوى ثغره ببسمة عذبة وهو يتساءل باهتمام:
, -إيه الأخبار؟
, ردت جليلة بابتسامة عريضة:
, -اطمن يا منذر، كل حاجة تمام
, هز رأسه بإيماءة خفيفة، ثم وضع يده على ظهر زوجته متسائلاً:
, -عاملة ايه يا حبيبتي؟
, أجابته بهدوء رقيق:
, -كويسة يا حبيبي!
, دس منذر يديه في جيبي بنطاله متابعًا بمرح:
, -الواد دياب أصحابه مولعين الفرح على الأخر
, التفتت برأسها حيث ينظر، وردت ضاحكة:
, -ايوه، ماهو باين!
, أضاف بجدية مشيرًا بحاجبيه:
, -كويس إن بسمة مقامتش ترقص مع أصحابها!
, ردت عليه أسيف موضحة:
, -هي من الأول قيلالي إنها مش حابة تعمل كده
, -أحسن
, ارتفع حاجبي أسيف للأعلى مبدية تفاجئها بظهور ذلك الشخص عند مدخل القاعة، هتفت فجأة باندهاش:
, -إيه ده؟
, نظر لها منذر بغرابة متعجبًا تبدل حالها، وقبل أن يحرك شفتيه ليسألها تابعت هاتفة:
, -بص هناك، شايف من جه؟
, نظر إلى حيث أشارت متسائلاً باقتضاب:
, -مين؟
, ارتسم على ثغرها ابتسامة متحمسة وهي تجيبه:
, -دكتور نبيل!
, حل الوجوم على وجهه وتبدلت تعابيره للانزعاج، نظر لها مرددًا بتجهم:
, -و****، ومالك مهتمة أوي كده؟!
, ردت بحماس وابتسامتها لم تفارق شفتيها:
, -أنا مش مصدقة، ده جاي الفرح، أكيد نيرمين هتفرح أوي، ده إنسان كله ذوق و٣ نقطة
, اشتعلت نيران الغيرة بصدره لمجرد مدحها لغيره، لم يتحمل المزيد من الترهات عنه، فقاطعها صائحًا بحدة:
, -أسيف!
, زادت تعجبها من صلابته الحادة، وردت متسائلة بحذر:
, -في ايه؟
, تابع بجمود لا يبشر بأي خير:
, -مش واخدة بالك إنك زودتيها؟
, قطبت جبينها مبررة حديثها:
, -ليه بس؟ بالعكس و**** د. نبيل محترم وأخلاقه عالية، المفروض نرحب بيه!
, كانت على وشك التحرك نحوه لتستقبله لكنه أوقفها جبرًا قابضًا على ذراعها، تأوهت من قوة ضغطته، وهتف آمرًا بلهجة صارمة:
, -إياكي تتحركي من هنا!
, استنكرت هجومه الغير مفهوم عليه، بالإضافة إلى طريقة إمساكه بها، حاولت نزع ذراعها من قبضته، لكنه لم يفلتها، ظلت أنظاره المحتقنة مسلطة على وجهها، ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض:
, -مايصحش يا منذر، ده ضيفنا، ومايعرفش حد إلا احنا
, هتف محذرًا بتهديد ضمني:
, -هي كلمة يا بنت رياض، ولو خالفتيها هايبقلنا كلام تاني مع بعض!
, فغرت ثغرها مصدومة من نبرته العدائية، ردت متسائلة بعدم تصديق:
, -قصدك ايه؟ إنت عاوز تمد إيدك عليا؟
, أرخى أصابعه عنها قائلاً بصلابة:
, -افهمي انتي بقى!
, احتدت نظراتها نحوه مستنكرة ما يفعله، ردت بغيظ:
, -بقى كده يا منذر!
, انتبهت جليلة للشجار الدائر بينهما، فتدخلت على الفور قبل أن يتفاقم ويتطور للأسفلـ هتفت متسائلة:
, -في ايه يا ولاد، إنتو اتحسدتوا ولا إيه؟
, رد منذر بتشنج:
, -اسأليها
, اغتاظت من تحميله اللوم دون سبب مقنع وكأنها ارتكبت جريمة ما، وجل ما قالته هو الترحيب بالضيف، صاحت بنبرة متعصبة:
, -شايفة يا طنط؟!
, نظر لها مطولاً بحنق، استشعرت من نظراته عصبية جمة رغم عفوية تصرفها، أطلق سبة خافتة قبل أن يتركها وينصرف مبتعدًا عن الاثنتين، تابعته أسيف بأعين متوهجة للغاية متعجبة مما حل به من عصبية غير مبررة، لم يكن على تلك الحال قبل لحظات، وفجأة تحول للنقيض، وبات يهددها بالضرب إن خالفت أوامره، كانت تلك هي المرة الأولى منذ زواجهما التي ينفعل فيها عليها بتلك الطريقة الهوجاء، خفق قلبها بقوة، بدت العبرات محبوسة في مقلتيها أخرجتها جليلة من شرودها العابس متسائلة:
, -ايه اللي حصل؟ فهميني يا بنتي!
, كزت أسيف على أسنانها بغضب كاتمة في صدرها ضيقها منه، لكن عكست تعبيرات وجهها حالة الاستنكار والغضب التي تتقد بداخلها، استشفت جليلة نشوب خلاف حاد بينهما، واستمعت إلى تفاصيله منها، حاولت لملمة الأمور بينهما، فأردفت قائلة بهدوء:
, -متزعليش نفسك، هما الرجالة كده طبعهم حامي!
, صاحت مستنكرة وهي تلوح بذراعها:
, -بس مش للدرجادي يا طنط! بقى أنا يقولي كده
, ربتت جليلة على ظهرها متابعة بلطف:
, -معلش، مايقصدش، وإنتي بردك استحملي شوية، هي الست عليها الاستحمال، وصدقيني شوية وهتلاقيه هدى ورجع زي الأول
, زفرت أسيف بغضب دون أن تعجب، لا جدوى من الجدال معها، فهي ستدافع عن ابنها وستبرر له تصرفه المبالغ فيه معها، كتمت بصعوبة ضيقها، وحاولت جليلة توضيح الأمور لها من منظورها الشخصي، أصغت لها دون مقاطعة حتى قالت بجدية:
, -المهم تتصالحوا مع بعض، اوعوا تباتوا متخانقين!
, ردت بعد اقتناع وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
, -إن شاء ****
, ابتسمت لها جليلة قائلة بود:
, -**** يصلح حالك يا بنتي! ويهدي سركم مع بعض
, ٥٨ نقطة
, نظر لها بتأمل قبل أن يتقدم بخطوات ثابتة نحو الطاولة التي تجلس عليها، لم يتأخر في تلبية دعوتها والحضور إلى حفل زفاف أختها، تشكل على تعابير وجهه ابتسامة متشوقة وهو يردد:
, -مدام نيرمين!
, استدارت برأسها نحوه على إثر صوته المميز، تفاجأت بوجوده بالقاعة، لم تستطع إخفاء علامات الاندهاش من على وجهها، تداركت الموقف سريعًا، وحاولت النهوض من مقعدها لترحب به قائلة:
, -دكتور نبيل
, أشار لها بيده لتجلس وهو يرد:
, -خليكي مرتاحة، أنا قولت أجي أبارك بنفسي للعرسان
, جلست نيرمين باسترخاء على المقعد معيدة وضع رضيعتها على حجرها، وردت بلطف:
, -**** يبارك فيك
, تابع بهدوء دون أن يخفي ابتسامته عن ثغره:
, -وعقبالك إن شاء ****!
, تورد وجهها من جملته تلك، ورغم يقينها أنها عبارة مجاملة لكنها لمست قلبها، سريعًا اقتحم عقلها ذكريات متنوعة من ماضيها الموجع حتى لحظة اكتشافها لمرضها، تنهدت قائلة بضجر:
, -متشكرة، أنا خلاص خدت حظي، ومستنية٤ نقطة
, قاطعها مشيرًا بكفه:
, -احنا اتفقنا على ايه!
, ابتسمت لصرامته المحببة معها، وهزت رأسها بتفهم، تابع مضيفًا بصوته المتحمس:
, -وبعدين ينفع نزعل في يوم زي ده؟!
, ردت مبتسمة:
, -عندك حق
, لمحته عواطف من أعلى "الكوشة" فتهللت أساريرها، مالت على ابنتها لتهمس لها بشيء ما في أذنها، ثم تحركت بتمهل نحو طاولة نيرمين، هتفت مهللة بسعادة وهي تمد يدها لمصافحة نبيل:
, -ازيك يا ضاكتور
, بادلها التحية قائلاً:
, -أهلاً يا حاجة
, -شرفتنا يا ابني
, -**** يخليكي يا رب، وألف مبروك للعروسة، **** يسعدها
, ردت بامتنان:
, -يا رب يا ابني، وعقبال ما نفرح بيك!
, انعقد ما بين حاجبيها وهي تتابع:
, -مش إنت لسه ماتجوزتش؟
, أجابها بابتسامة مصطنعة رغم خبوها قليلاً:
, -لأ أنا اتجوزت وانفصلت!
, تفاجأت نيرمين بذلك، فلم يسبق لها أن سألته عن أي شيء يخصه، واليوم هي اكتشفت عنه القليل، ردت والدتها بود:
, -أها، **** يعوضك خير بالأحسن
, وجه أنظاره نحو نيرمين مرددًا:
, -إن شاء ****
, تابعت عواطف قائلة:
, -اتفضل ارتاح يا ضاكتور
, هز رأسه وهو يقول:
, -شكرًا
, تركتهما عواطف بمفردهما متجهة نحو ضيوفها لترحب بهم، ساد صمت حذر بينهما، لم تحاول فيه نيرمين كسره، واكتفت بالتحديق في أي شيء إلا هو، استشعرت نظراته المسلطة عليها، وعمدت قدر المستطاع على عدم الالتفات نحوه، استغل نبيل الفرصة لتأملها على راحته، كانت أكثر حيوية عن وجودها بالمشفى، أحدث ظهوره في حياتها فارقًا ملحوظًا معها، وهي لا تستطيع إنكار ذلك، حاول التودد إلى مريضته التي شغلت باله مؤخرًا، فاستطرد حديثه هاتفًا:
, -ماشاء **** بنوتك شبهك
, التفتت نصف التفاتة نحوه وهي تجيبه باقتضاب:
, -تسلم
, لاحظ صمتها الطويل واكتفائها بالرد بالكلمات الموجزة، فأكمل متسائلاً باهتمام:
, -ممكن سؤال إن مكانش ده يزعجك؟
, استدارت نحوه مبدية تحفزها لسؤاله الغامض وهي ترد:
, -اتفضل
, أومأ بعينيه قائلاً بحذر:
, -هو أبوها فين؟
, تشنجت تعبيرات وجهها، فتابع موضحًا بحرج:
, -احم.. قصدي يعني بيجي يشوفها ويسأل عليها و٣ نقطة
, انزعجت من ذكره لشبيه الرجال، من أذاقها العذاب والذل، تجرعت على يده ألوانًا مختلفة من المهانة والإذلال حتى قسى قلبها وأصابه الحقد والغل، لم يعبأ يومًا بمشاعرها ولا برغباتها، فقتل فيها كل شيء وتحولت إلى ما هي عليه، وما عزز من ذلك جحود عائلته وشراستهم معها، أفاقت من شرودها المؤقت مرددة بامتعاض عابس:
, -لأ، ومش هايشوفها لأنه في السجن!
, صدم مما قالته واكتفى بالإيماء برأسه متفهمًا، تابعت مضيفة بتشنج:
, -أنا مش بأحب أتكلم عنه، سيرته بتقفلني!
, خاف أن تكون قد استاءت من حديثه وتسبب في إيلامها بصورة غير مباشرة، فاعتذر فورًا قائلاً:
, -أنا أسف، مكونتش آآ٤ نقطة
, قاطعته بفتور:
, -عادي
, أخفضت أنظارها لتداعب رضيعتها بحنان أموي مغدقة عليها بقبلات صغيرة، ابتسم للطفها معها، وسألها بهدوء:
, -تسمحيلي أشيلها شوية؟!
, استغربت من طلبه المريب، لم تتمكن من رفضه، فابتسمت قائلة:
, -اتفضل
, تناول الرضيعة منها ليهدهدها بود، ظلت ابتسامته الساحرة مرسومة على ثغره، ربت على ظهر رنا برفق قائلاً بنبرة ذات مغزى:
, -ماشاء **** على الجمال، إنتي زي ماما حلوة وضحكتك جميلة!
, خجلت نيرمين من غزله المتواري عنها، وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه رغم تلك الحماسة الرهيبة التي تملكتها، انتابتها مشاعرًا مختلفة عن ذي قبل، أحاسيسًا لم تخوضها أبدًا، هي ظهرت لها في وقت حرج لتكون كالضوء في النفق المظلم لترشدها في دربها المرير، لم تشعر بشفتيها وهما تبتسمان بنعومة، لكن التقطتها عيناه فزادتا إشراقًا.
, تعمد الجلوس إلى جوارها ليقلص المسافات بينهما، ناولها الرضيعة قائلاً:
, -**** يباركلك فيها
, ردت مجاملة:
, -يا رب!
, تنهدت بعمق لتتابع بحزن واضح:
, -نفسي بختها يكون أحسن مني وتعيش حياتها و٤ نقطة
, قاطعها نبيل بجدية:
, -إن شاء ****، وبعدين أنا عاوز أقولك على حاجة كنت مأجلها لحد ما أخد رأيك فيها
, قطبت جبينها متسائلة باهتمام وهي تعدل من وضعية رضيعتها على حجرها:
, -حاجة ايه دي؟
, رد بلا تردد:
, -دلوقتي في علاج جديد، هو تجريبي بس هايفيد حالتك كتير
, لوت ثغرها للجانب قائلة بتهكم يائس:
, -أخره يعمل ايه؟ هايأجل موتي كام يوم والسلام!
, عاتبها مرددًا برفق:
, -بلاش روح التشاؤم دي، كل حاجة بإرادة ****!
, مد يده ببطء ليضعها على كفها المسنود على الطاولة بعد أن أسندته متابعًا:
, -وأنا متعشم خير
, نظرت مصدومة إلى يده التي تحتضن راحتها، ثم عاودت التحديق في وجهه بأعين متسعة، لاحظ اندهاشها فسحب كفه ببطء قائلاً بابتسامة مهذبة:
, -أسف
, هزت رأسها بإيماءة خفيفة وظلت ترمش بعينيها بتوتر ملحوظ متحرجة من فعلته تلك، ومع ذلك لم يندم على تصرفه المتجاوز، وظلت ابتسامته المشرقة تزين وجهه بالإضافة إلى نظراته المتأملة لها.
, ٥١ نقطة
, التهت بمتابعة المدعوين متجنبة الحديث معه كاتمة في نفسها ضيقها من تصرفه المبالغ فيه، ومع ذلك بدا وجهها عابسًا للغاية، حاولت أن تبتسم لكن كانت بسمتها باهتة، اختلست النظرات نحوه فوجدته مشغولاً بالحديث مع والده، ضجرت أكثر من تجاهله المقصود لها خاصة حينما التقت أعينهما معًا، فرمقها بحدة قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنها، نغزة قوية ضربت قلبها فألمتها من جفائه القاسي، أولته ظهرًا، وأخفت قدر المستطاع ضيقها، سلطت أنظارها على العروس التي كانت تمرر أنظارها على الجميع، لوحت بيدها لها كتعبير عن اهتمامها بها، ثم أسرعت بالذهاب للمرحاض لتختفي بداخله قبل أن تنهمر عبراتها تأثرًا، لا تعرف ما الذي أصابها لتصبح على تلك الحالة الضائقة ويختنق صدرها على الأخير.
, زفــــر دياب بصوت مسموع وهو يلقي بثقل جسده المنهك من كثرة الرقص ومجاراة الشباب في حركاتهم الحماسية، التفت نحو عروسه هاتفًا بمرح:
, -هدوا حيلوا **** يحرقهم، مش ملاحق
, نظرت له بأعين قلقة وهي ترد:
, -فرحانين عشانك!
, وقبل أن يضيف كلمة أخرى اندفع الصغير يحيى نحوهما صائحًا ببراءة:
, -تعالي نقرص يا مس بسمة!
, عقد دياب ما بين حاجبيه متعجبًا من جملته تلك، وسأله بغرابة:
, -مين دي اللي تقرص يا يحيى؟
, ردت بسمة موضحة بابتسامة سعيدة:
, -قصده نرقص، الأطفال بينطقوها غلط
, حك دياب مؤخرة رأسه متفهمًا، ونظر لصغيره مطولاً دون أن يعلق عليه، تابع يحيى قائلاً بإصرار:
, -يالا يا مس
, اعترض والده عليه مبديًا انزعاجه:
, -هو أنا مش مالي عينك ياله!
, عبس يحيى بوجهه مرددًا:
, -بابي
, ربتت بسمة على ظهر الصغير بحنو، ثم انحنت قليلاً على جبينه طابعة قبلة صغيرة عليه وهي تقول:
, -معلش يا حبيبي، ماينفعش هنا
, احتج الصغير على رفضها قائلاً بتجهم:
, -ما بابي بيقرص من الصبح!!
, رد عليه دياب مازحًا:
, -هو أنا شغال ناموسة ولا ايه؟
, بدا الصغير مُصرًا على اصطحابها له، ولن يقبل بالرفض مطلقًا، لذلك عمدت إلى استخدام أسلوب الرفق معه، وضعت كفها على طرف ذقنه لتمسح عليه بحنو وهي تقول:
, -شوية وهارقص معاك
, حرك رأسه وهو يقفز مرحًا في مكانه، ثم اندفع عائدًا ليلهو مع الصغار بالقاعة، أمسك دياب بكف يدها ضاغطًا عليه بأصابعه، فنظرت له بجدية، قرب كفها منه وهو يمازحها قائلاً:
, -زي العسل، طالع لأبوه
, اكتفت بتحريك رأسها بالإيجاب وهي تستعيد يدها منه، سألها بغموض غامزًا بطرف عينه:
, -ايه بقى؟
, ردت بحدة طفيفة:
, -نعم
, تابع بابتسامة متسعة:
, -مش هاتقولي حاجة؟
, قوست بسمة فمها قائلة باقتضاب:
, -لأ!
, أشار لها بكفه مكملاً:
, -بشوقك، المهم خمساية والبوفيه يفتح
, حذرته بسمة بسبابتها بصرامة واضحة:
, -بأقولك ايه، أنا مش بتاعة حركات التورتة، خد بالك!!
, فهم مقصدها فيما يتعلق بتبادل القبلات العابثة أثناء تقطيع قالب الحلوى، بالطبع لم يكن ليقبل بذلك أمام مرأى رفاقه من الشباب، فمازالت حميته مسيطرة عليه، ورغم جدية ملامحه إلا أنه رد بلطف وهو يوميء بحاجبيه:
, -وأنا مقبلهاش أصلاً
, التفتت لتنظر أمامها قائلة بتنهيدة:
, -كويس اتفقنا على حاجة
, رد عليها بغموض وهو يطالعها بنظراته الوالهة:
, -احنا متفقين من زمان، بس انتي اللي مش واخدة بالك!
, التقطت أذناها كلماته الصادقة ومع ذلك ظلت متيبسة في مكانها دون أن يظهر أي تغيير ملحوظ على تعابيرها، فقط ضغطت على أصابعها بقوة محاولة تخفيف حدة التوتر المستحوذة عليها.
, رغم ضيقه منها إلا أن أعينه كانت تعرف الطريق إليها بين الجميع، انقبض قلبه بقوة حينما لم يجدها حوله، لم يستطع منذر التحكم في عينيه التي بحثتا عنها بتلهف، حبس أنفاسه مترقبًا وهو يجول بين جموع الشباب الذين يملأون القاعة، تنفس الصعداء حينما رأها تحادث والدته، همس لنفسه بضيق:
, -تعبتي أعصابي!
, التفتت أسيف فجأة لتجده محدقًا به، حاولت أن تبتسم له لتزيل ما بينهما من مشاحنات عملاً بنصائح والدته، لكن عبوسه الصارم صدمها، نظر لها بحدة قبل أن يوليها ظهره ويتحرك مبتعدًا موجهًا لها صفعة قوية في قلبها، رأتها جليلة على تلك الحالة الواجمة فمسحت على ظهرها هامسة لها:
, -معلش، تلاقيه لسه مضايق، بس شوفتي جه يدور عليكي لما ملاقكيش
, هزت رأسها بإيماءات خفيفة رغم عدم اقتناعها بمعظم ما قالته، ومع ذلك كانت محقة في أمر واحد أنه أتى من أجلها وإن كان لا يزال غاضبًا، تنفست بعمق مخرجة زفيرًا يحمل الكثير من الهموم وتابعت بفتور باقي الحفل.
, ٤٨ نقطة
, أوشك الحفل على الانتهاء، وبدأ المدعوين في الانصراف واحدًا تلو الأخر، ولم يتبقَ إلا أفراد العائلتين وقليل من الحضور يتبادلون الأحاديث العابرة، لاحقًا توجه العروسان نحو السيارة مصحوبان بالزغاريد والدعوات بالذرية الصالحة، ساعدت أسيف بسمة على وضع ثوبها إلى جوارها لتجلس بارتياح وهي تحدثها قائلة:
, -**** يسعدك يا بسومة، تستاهلي كل خير و****
, ردت عليها ابنة عمتها بتوتر:
, -أنا مرعوبة جدًا
, طمأنتها قائلة بتأكيد:
, -متخافيش، دياب بيحبك أوي
, ردت بسمة بتخوف بائن:
, -عارفة ده، بس قلقانة!
, ضحكت مرددة بعبث:
, -ده طبيعي، مش عروسة بقى، أومال العريس يعمل ايه؟
, صاح دياب مهللاً وهو يستقل السيارة ليجلس إلى جوار عروسه:
, -هاترغوا كتير، أنا تعبت، عاوزين نروح!
, ثم أدار رأسه تجاه النافذة ملوحًا للواقفين:
, -متشكرين يا جدعان، عملتوا الواجب وزيادة
, رد عليه منذر بجدية:
, -اتجدعن يا عريس وارفع راسنا
, كور دياب قبضة يده قائلاً بتفاخر:
, -اطمن يا ابن أبويا، انتو معاكو غضنفر (أسد) في البيت!
, ضحك منذر من دعابته الطريفة، وتابع باهتمام ركوب الجميع في السيارات لكنه لم يجلس إلى جوار زوجته التي تيقنت من استمرار ضيقه منها، فكرت مليًا في إزالة رواسب تلك المشاحنة الطفيفة بينهما على طريقتها الخاصة بالمنزل، ربما كبرياؤه يمنعه من المبادرة بالتصالح لكنها ستسعى لكسر أي حواجز بينهما.
, ٤٠ نقطة
,
, أعد لها المنزل الخاوي بالطابق الأخير بالبناية التي تقطن بها عائلته لتكون عش الزوجية، وأسسها بكل ما تحتاج إليه من أثاث جديد وأجهزة حديثة، شعرت بسمة بالارتياح لأنها لن تضطر للانتقال بعيدًا عن أمها وأختها، فهي تبعد فقط عنهما عدة دقائق سيرًا، ترجلت من السيارة بمفردها ناثرة ذيل ثوبها خلفها، ودع دياب عائلته قائلاً بمرح:
, -احنا عارفين السكة من هنا
, ردت عواطف بود:
, -مش هاوصيك يا ابني على بنتي، دي نور عيني
, آمال رأسه مؤكدًا بجدية دون أن تختفي ابتسامته:
, -اطمني يا حماتي، دي الحتة اللي في اليمين والشمال!
,
, حمل منذر الصغير يحيى على كتفه بعد أن غفا في نهاية الحفل، اتجه لمدخل البناية بخطوات متهادية، رأى والدته تصعد على الدرج بتريث، تنحت للجانب لتفسح له المجال للمرور متسائلة:
, -هو نام؟
, أجابها بجدية مشيرًا بعينيه:
, -ايوه، هاطلعه ونازل تاني
, اقترحت عليه جليلة بنبرة دافئة:
, -ما تبات يا ابني معانا
, رد باقتضاب:
, -لا
, عبست قليلاً بوجهها وهي ترد:
, -ده مراتك مش هاتمانع يعني، وهي٤ نقطة
, قاطعها بهدوء:
, -أنا عارف، بس سبيني على راحتي يا أمي
, هزت رأسها متفهمة وهي تقول:
, -ماشي يا منذر، وبالراحة عليها سامعني؟
, مط فمه قائلاً بتجهم:
, -إن شاء ****
, تنهدت مضيفة بتفاؤل:
, -**** يهدي سركم! العين بردك عليكم!
, لم يعقب عليها وواصل صعوده المتأني للطوابق العليا، تبعته والدته بتريث متمتمة بكلمات خفيضة تدعو له بصلاح الحال.
, ولج دياب مع حبيبته بسمة التي تأبطت ذراعه إلى مدخل البناية، وقبل أن يقدم على شيء مخجل أو متهور حذرته بصرامة:
, -مش عاوزاك تشيلي، ماشي!
, قطب جبينه متعجبًا وهو يرد عليها ساخرًا:
, -هو أنا قادر أشيل نفسي، كملي لسه السلم طويل، احنا أخر دور يا أبلة!
, تابعت بصلابة وقد تحولت تعبيراتها للجدية:
, -على مهلي، مش تسربعني
, هز رأسه مداعبًا:
, -حاضر هاشيلك الطرحة بس، ده أخري!
, أكملا صعودهما على الدرجات التي لا تنتهي ببطءٍ شديد، لم ترغب في صعود والدتها معها واكتفت بتوديعها في المدخل بعد أن رأت الإرهاق متمكنًا منها، كذلك لم تكن بحاجة إلى وجودها، فكل شيء معد سلفًا في المنزل، وبالتالي عدم صعودها لن يؤثر في شيء، الأمر المقلق بالنسبة لها هو اختلائها معه، هي متأكدة أنه لن يفوت الأمر دون أن يتودد بشتى الطرق لها، وهي في حالة تعب لا تحسد عليها، عصرت عقلها بشدة لتصل إلى فكرة مقنعة أو حجة ما تمكنها من تأجيل تلاحمهما الجسدي والوجداني معًا، لكن لتصارع الأفكار في ذهنها لم تصل لشيء، نفخت مغمغمة مع نفسها بكلمات متبرمة، في حين تغمد دياب سعادة لا توصف لرحيل الجميع بعد ذلك اليوم المشحون، مضي الكثير ولم يبقَ له فقط إلا لحظات معدودة لينفرد بها أخيرًا، نعم إنها ليلته المنشودة والتي طال انتظاره لها ٣٥ نقطة !!
,
, عادت لتجلس بالسيارة مع عمتها وابنتها الكبرى ورضيعتها النائمة، احتلت المقعد الأمامي وبقيت أنظارها مثبتة على المدخل، لم تتوقف الاثنتان من خلفها عن الثرثرة الخاصة بأجواء الحفل، وظلت هي صامتة أغلب الوقت ترد بكلمات مقتضبة إن وجه إليها أي سؤال، لمحت منذر وهو يخرج منه بوجهه الخالي من التعبيرات، تأهبت في جلستها وتسارعت دقات قلبها، وعمدت إلى التطلع إلى وجهه بأعين متلألأة وكأنها تناديه بنداءٍ خفي، لكن خيب أملها بعدم النظر نحوها، استطرد هو حديثه قائلاً بصوت رخيم:
, -معلش أخرتكم
, ردت عليه عواطف بود وهي تهز رأسها:
, -ولا يهمك يا ابني
, نظرت له أسيف مجددًا برجاء لكنه تجاهلها وتطلع أمامه بنظرات جامدة، شعرت بوخزة أخرى في قلبها من ذلك الجفاء القاسي الذي يمارسه معها، ابتلعت غصة مريرة عالقة في حلقها مقاومة رغبتها في البكاء، أخرجها من تأملها الشارد فيه صوته الجاد حينما تابع:
, -هاوصلكم ونروح على طول!
, ردت عليه عواطف بابتسامة محببة:
, -بأمر ****، **** يسلم طريقك، هانتعبك معانا
, ابتسم مجاملاً:
, -على ايه بس، ده واجبي!
, أضافت مادحة بعفوية:
, -ابن حلال الضاكتور نبيل!
, تحفزت حواس منذر بضيق ملحوظ لمجرد ذكرها اسمه، لم يستطع إخفاء انزعاجه من الحديث عنه، فقد تسبب ذلك في حدوث جدال حاد مع زوجته والتي رأت بوضوح تلك التغييرات البائنة على قسماته المشدودة بعد تطرقها لشخصه، ضغط بأصابعه على المقود مانعًا نفسه من التفوه بحماقات أو حتى إظهار ضيقه، تابعت عواطف مسترسلة:
, -ده فضل قاعد لأخر الفرح، كان مبسوط لبسمة ودياب و٣ نقطة
, أغمض عينيه ليضبط انفعالاته ويحافظ على هدوئه الزائف طوال حديثها المزعج عنه، لكن وجهه تشنج أكثر عندما هتفت:
, -ده حتى سأل عليكم
, التفت عقب تلك الجملة إلى وجه أسيف التي كانت تطالعه بأعين لامعة، ورد بجمود مريب:
, -اه واضح!
, استشعرت تهديد خفي من كلماته المقتضبة، عمدت إلى تغيير مسار الحوار إلى شيء أخر كي لا يثير هذا الموضوع حنقه أكثر من ذلك، تنحنحت قائلة بنبرة شبه مهتزة:
, -احم.. عمتي، حاولي تاخدي الدوا المسكن بتاعك عشان ضهرك، انتي تعبتي جامد النهاردة
, ردت عليها عواطف مبتسمة:
, -كله يهون يا بنتي عشانكم
, استدارت أسيف برأسها نحوها لتقول بابتسامة باهتة:
, -**** يخليكي لينا
, آمالت عواطف رأسها للأمام قليلاً لتحدق عاليًا في الشرفات العلوية، ثم أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها وهي تتابع برجاء:
, -إن شاء **** تكون ليلة هنا على العرسان، أنا وضبتلهم الأكل و٣ نقطة
, قاطعها منذر بجدية:
, -اطمني يا ست عواطف، مافيش حاجة ناقصة عندهم
, ربتت على كتفه قائلة بامتنان:
, -**** يسعدهم ويسعدك!
, -يارب
, قالها وهو يدير المحرك لينطلق بالسيارة في اتجاه البناية التي تقطن بها عمة زوجته، ظل ملازمًا للصمت لم ينبس بكلمة رغم محاولة الجميع اجترار الحديث معه، تفهمت أسيف سبب صمته المزعج، وتعهدت لنفسها ألا تجعل الجفاء يستمر طويلاً، هي تعشقه ولن تقبل مُطلقًا بتلك المعاملة الجافة منه، فحيل النساء لا تنضب أبدًا، وحتمًا ستجد وسيلة لإذابة الجمود المؤقت بينهما.
, ٤٢ نقطة
, -أخيرًا
, قالها دياب بتنهيدة تحمل الكثير وهو يوصد الباب خلفه ليتمكن من الاختلاء بزوجته التي أذاقته الكثير كي يصل لهذه اللحظة، راقبها وهي تلج للداخل متأملة المكان من حولها بنظرات شمولية، اعتلى ثغره ابتسامة عابثة لم يبذل مجهودًا في إخفائها، أدارت بسمة رأسها في اتجاهه قائلة بأنين وهي تجاهد لنزع حذائها عن قدميها:
, -رجلي ورمت من الجزمة، يا ساتر يارب
, رد قائلاً بابتسامة متسعة:
, -معلش، اليوم كان طويل، احنا نصلي ركعتين كده عشان **** يبعد عنا الشيطان ونتوكل على **** في اللي جاي!
, وافقته الرأي، فالأمر مستحب كل من هم مقبلين على الزواج لكي يرزقهم **** المودة والرحمة ويجنبهم الشيطان، استعد الاثنان لأداء الركعتين، وما إن فرغا منها حتى فرك دياب كفي يده معًا هاتفًا بحماس:
, -ايه يا عروسة؟!
, طالعته بنظرات قلقة، هي تعلم نواياه نحوها خاصة أنها الليلة المنشودة، شعرت بجفاف كبير في حلقها، بدقات قلبها تتصارع داخلها، تهدجت أنفاسها نوعًا ما وهي تحذره برجاء غريب:
, -بأقولك ايه، بلاش البصات دي
, اتسعت ابتسامته حتى برزت نواجذه، وردت عليها بتسلية:
, -يعني مش أمتع عيني بالجمال؟
, تعمدت الظهور بمظهر خشن أمامه، فصاحت بنبرة متصلبة:
, -بص أنا دماغي وجعاني ومصدعة جامد، وجسمي مكسر ومش قادرة و٣ نقطة
, قاطعها مازحًا وهو يشير بذراعيه في الهواء:
, -فيكي ايه سليم يا أبلة عشان أفهم بس؟!
, ردت عليه بإباء وهي ترفع رأسها للأعلى في شموخ:
, -أنا بأفهمك من الأول عشان تكون على نور، مش قادرة أعمل حاجة النهاردة خالص
, فغر فمه مدهوشًا من تصريحها المستتر وفهم سريعًا المقصد من ورائه، ردد مستنكرًا:
, -نعم، هو أنا بأقولك اكنسي واغسلي! ده احنا هانقول كلمتين على الهادي كده
, كتفت ساعديها أمام صدرها قائلة بجمود:
, -وحتى الكلام تعبانة منه
, ضاق ذرعًا من طريقتها المتنافرة معه، ومع ذلك كانت نظراته نحوها تعكس غيظه، زفر بصوت مسموعًا مزيحًا عن صدره أي انزعاج، وحافظ على هدوء انفعالاته معها، لاحظ حالة الارتباك التي تظهر في نظراتها المترددة نحوه، كذلك تلك الارتعاشة الخفيفة في ثوبها، فخمن أنها تهز ساقها بعصبية، ربما هي متحرجة منه، متخوفة من بقائها معه، فالأمر جديد عليها، كما أنها لا تزال عديمة الخبرة فيما يتعلق بالزواج، بالإضافة إلى تمرسه عنها بحكم زيجته السابقة، أظهر ابتسامة مشرقة وهو يدنو منها قائلاً بإعجاب:
, -بس ايه الحلاوة دي، الفستان جامد عليكي
, ردت بحذر وهي ترخي ساعديها:
, -ميرسي
, تابع مازحًا كطريقة لجذبها للحديث معه وتخفيف حدة التوتر الظاهرة عليها:
, -بس كده، مافيش كلمتين زيادة
, هتفت ضاغطة على شفتيها:
, -ايوه!
, قام دياب بنزع سترته عنه فاتسعت مقلتاها إلى حد ما وهي تهتف بصوت شبه مصدوم:
, -إنت بتعمل ايه؟
, رد باستغراب:
, -هاغير هدومي
, غطت سريعًا عينيها بكفي يدها وهي تقول باستنكار:
, -مش قدامي عيب كده!
, أخفض دياب عينيه لينظر إلى قميصه مرددًا باستغراب:
, -ده أنا لسه لابس! بتداري وشك ليه؟
, اعتلى ثغره ابتسامة عريضة وهو يضيف ساخرًا:
, -أومال لو شوفتيني بالفانلة هاتعملي ايه؟!
, رفعت كفها أمام وجهه محذرة بصرامة:
, -إياك
, حرك كفيه في الهواء قائلاً بإحباط:
, -خلاص هافضل بهدومي!
, أخرجت بسمة تنهيدة قوية من جوفها، ثم وضعت يديها أعلى رأسها محاولة نزع الطرحة التي تزينها، استصعبت الأمر في البداية، وضجرت سريعًا من نجاحها في إزالتها بمفردها، صاحت مزمجرة:
, -أعوذو ب**** من دي تهمة على دماغي!
, تحرك صوبها ليقف قبالتها، تساءل بحذر:
, -تحبي أساعدك؟!
, ردت مستسلمة:
, -يا ريت! بس خد بالك!
, -حاضر
, مرر دياب أنظاره على الطرحة باحثًا عن بدايتها لكي ينزعها عنها دون أن يتسبب في إيلامها، لكنها كانت كاللغز بالنسبة له، حدق مدهوشًا في عدد المشابك المعدنية المثبتة بها مرددًا بتعجب:
, -ايه كمية الدبابيس دي؟
, أجابته بسمة مبررة ببساطة:
, -عشان الطرحة ماتقعش!
, رد عليها بسخرية:
, -ده لو بيثبتوها مش هاتكون كده!
, بعد محاولات حذرة نجح الاثنان في إزاحتها عن رأسها، تنفست بسمة الصعداء لكونها قد ارتاحت من ذلك الثقل الذي أصابعها بصداع مستمر طوال الحفل وتسبب في إيذاء أذنيها، نزعت المشبك الذي يربط شعرها لتحرره في الهواء وهي ترد:
, -متشكرة
, تجمدت أنظار دياب عليها بعد حركتها تلك، حدق فيها كالصنم لبضعة لحظات، لم تعرف أنها قد ألهبت مشاعره دون قصد وحفزت أعصابه للتودد إليها، باغتها بلف ذراعيه حول خصرها، فانتفضت مصعوقة من حركته تلك، دفعته بيدها صائحة باضطراب:
, -أنا قولت ايه
, رفض إفلاتها قائلاً بتنهيدة حارة بعد أن ضمها إليه أكثر:
, -ده أنا جوزك!
, استجمعت كل قوتها لتدفعه بقبضتيها من صدره، ونجحت في الانسياب من أحضانه، نظرت له بحدة وهي تصيح بانفعال:
, -ده مش يديك الحق تقرب مني بدون رضايا
, نظر لها مستنكرًا ردها الفظ، ثم هتف بضيق:
, -يعني المفروض أخد إذن الأول؟
, أومــأت برأسها قائلة:
, -أيوه!
, تراجعت مبتعدة عنه عدة خطوات تاركة مسافة فاصلة بينهما، وتابعت بامتعاض:
, -أنا يدوب أغير الفستان وأنام، ولوحدي!
, لوى ثغره هاتفًا باستهجان صريح:
, -لا و****! كمان!
, لوحت بذراعها من بعيد وهي تصيح بحدة:
, -قولتلك تعبانة، قدرني شوية!
, تفاجأ من حالة العصبية التي سيطرت عليها دون سابق إنذار، تنهد مستاءً وهو يفرك مؤخرة رأسه في حيرة، تمتم مع نفسه بإحباط:
, -شكلها ليلة طويلة!
, هزت بسمة جسدها بعصبية، لا تعرف ما الذي أصابها، لكن فاق التوتر لديها حد المسموح به، لذلك اندفعت بخطوات شبه متعثرة وهي تجرجر ثوبها نحو غرفة النوم، وقبل أن تلج للداخل أوقفها صوت دياب المهلل بجدية:
, -لالالا، أنا ماينفعش معايا كده، أنا هانزل أقضي السهرة مع أمي تحت!
, فغرت فمها مشدوهة من جملته، ارتفع حاجبها للأعلى وهي تطالعه بنظرات حادة، أكمل ببرود:
, -ولا أقولك أنا هاتصل بأم يحيى ارغي معاها و٣ نقطة
, مجرد الحديث عن طليقته السابقة أصابها بحالة من الفوران السريع، احتقنت دمائها بالأدرينالين، واهتاجت خلايها، اتجهت بتمهل مقلق ناحيته ووجهها مصطبغ بحمرة جلية، استشعر دياب غضبها المتأجج بها، هتفت متسائلة بغيظ:
, -تكلم مين؟
, ابتسم لنجاح كلماته في إثارة حفيظتها، ارتدى قناع الجمود على وجهه، ورد بعدم مبالاة ليستفزها أكثر:
, -أم يحيى، وهي ما هتصدق، صحيح هاتستغرب إني بأكلمها السعادي وكمان في يوم زي ده و٤ نقطة
, لم يكمل عبارته للنهاية فقد تحركت بسمة صوبه تنتوي لكزه بعنف في صدره للحديث عنها هكذا غير مكترث لمشاعرها، صرخت بلا وعي:
, -مين دي اللي هاتكلمها؟
, تراجع متحاشيًا هجومها الوشيك عليه ومحاولاً إخفاء ضحكاته المتسلية، لحقت به متابعة بصوت متشنج:
, -رد عليا!
, كركر ضاحكًا من عصبيتها الواضحة، فتوقف في مكانه ينظر لها بأعين لامعة، تمكنت من الوصول إليه، وبدأت في ضربه بعصبية بقبضتيها في صدره وكتفيه، تفادى ضرباتها المتلاحقة قدر المستطاع وهو يهدئها قائلاً:
, -بأهزر و****!
, كزت على أسنانها صائحة بصوت محتد:
, -ماتجبليش سيرتها، سامع!
, أمسك بها دياب من معصميها قابضًا عليهما بقوته فمنعها من الاستمرار في التطاول باليد عليه، عجزت عن تحرير رسغيها فصرخت به:
, -سيب ايدي
, رد قائلاً بتريث:
, -اهدي بس!
, لم تنجح في إفلات رسغيها المقيدين بيديه، نظرت له بأعين مشتعلة وهي تأمره:
, -دياب، أنا قولت ايه
, غمز لها قائلاً بابتسامة ماكرة:
, -مش المرادي يا أبلة!
, استشعرت من نبرته وجود خطب ما، خاصة أن نظراته كانت موحية للغاية، ازدردت ريقها بتوتر، ارتجفت نبرتها قليلاً وهي تسأله بتوجس:
, -قصدك ايه؟
, رد بغموض أجفل جسدها:
, -هو دخول الحمام زي خروجه؟!
, تصلبت عروقها من طريقته تلك، فهمت على الفور مقصده، واستخدمت قوتها لتتحرر منه، شدد من قبضتيه عليها وهو يفصل بين رسغيها ليتمكن من إدارتهما خلف ظهرها، قربها أكثر إليه فألصق جسدها بصدره، شهقت مصدومة، وتوترت أنفاسها، نظرت إليه بأعين قلقة للغاية، حاولت أن تظهر له رفضها لما ينتوي فعله، فصاحت بتشنج:
, -انت بتعمل ايه؟
, نظر لها بأعين لامعة محافظًا على ابتسامته الهادئة، زادت رهبتها من صمته المريب، وتوترت نظراتها نحوه، تلوت بسمة أكثر برسغيها –وكذلك بجسدها- مجاهدة للتحرر منه، لكن زاده هذا إصرارًا على التشبث بها وعدم تركها، همس لها بحرارة لفحت وجهها:
, -نشفتي ريقي ودوختيني وراكي عشان أتجوزك!
, تحاشت النظر إليه مركزة تفكيرها على تخليص معصميها منه وإبقاء مسافة آمنة لها، تعمد الضغط بأصابعه عليهما لتنتبه له، رفعت رأسها في وجهه هاتفة بصوت متألم:
, -انت بتوجعني!
, لم يعطها فرصة للشكوى أو حتى الأنين، أحنى رأسه عليها ليطبق على شفتيها بشفتيه مقبلاً إياها بشوق قوي، فحبست أنفاسها رغمًا عنها، تخشب جسدها من فعلته المباغتة وتحفزت حواسها، اتسعت حدقتاها مصدومة وعاجزة عن ردعه، أبعد رأسه لمسافة محدودة ليتمكن من الهمس لها:
, -بأحبك!
, التقطت بسمة أنفاسها لثوانٍ معدودة قبل أن يعاود هو تكرار القبلة ولكن بعمق أكبر، بث لها فيها كامل أشواقه ومشاعره الفياضة، شعرت بخدر قوي يسري في جسدها، بارتخاء تدريجي يصيب عضلاتها المتشنجة، للحظة بدأت تتراجع عن مقاومتها وتستسلم لتأثير أحاسيسه التي تخترقها بلا أي مقدمات، فأغمضت عينيها واندمجت مع تأثير قبلاته الحارة التي نقلتها إلى عالم أخر.
, أرخى قبضتيه عنها ليحاوط خصرها ويلصقها أكثر به، ظل محنيًا عليها يضاعف لها من قبلاته الرومانسية حتى انهارت مقاومتها له، تراجعت برأسها للخلف وصدرها يعلو ويهبط متأثرًا من فرط الحماس، واستندت بيديها على كتفيه محاولة التقاط أنفاسها، نظر لها متأملاً حمرة وجنتيها المغرية، وضع يده على طرف ذقنها متحسسًا إياه بأنامله ورافعًا وجهها إلى عينيه:
, -ياه، كنت مستني اللحظة دي من زمان!
, مال برأسه نحوها ليقبلها مرة أخرى، لكنها وضعت إصبعها على فمه، وهمست بصوت خفيض يحمل الخجل:
, -استنى لوسمحت!
, لهث صوته وهو يسألها:
, -ايه؟
, ردت هامسة:
, -هـ.. هاغير فستاني
, التوى ثغره بابتسامة عابثة وهو يقول لها:
, -أساعدك!
, هزت رأسها نافية:
, -لأ، استنى هنا
, حذرها بلطف وهو يمرر يده على ذراعها:
, -ماتطوليش عليا
, أومــأت بالإيجاب قائلة:
, -حاضر
, انسلت من أحضانه متجهة نحو غرفة النوم لتبدل ثوبها، اختلج قلبها مشاعرًا قوية حفزتها بدرجة عجيبة لم تتخيلها وهيأتها لما هي مقبلة عليه معها، أغلقت الباب خلفها بهدوء، واستدارت باحثة بعينيها عن ردائها الأبيض لترتديه في تلك الليلة، كانت ترتجف وهي تبدل ثوب الزفاف، لا تعرف إن كانت تلك الرجفة بسبب الخوف أم الحب.
, ٥٤ نقطة
, صعدت خلفه على الدرج محدقة في ظهره بأعين تحبس العبرات بداخلها، فتح باب المنزل متوجهًا نحو الصالة متجنبًا حتى النظر إليها، أحزنها ذلك كثيرًا ومع ذلك قاومت رغبتها بالبكاء أمامه، هتف بجمود:
, -أنا هاقعد هنا شوية!
, لم ترد عليه، واكتفت بالإيماء الخفيف برأسها، ظلت متسمرة في مكانها عدة ثوان آملة أن يرمقها بأي نظرة لكنه لم يستدر نحوها، تحركت بتمهل نحو غرفة النوم وهي تكتم شهقة تحاول الخروج من جوفها مصحوبة ببكاء حزين، أغلقت الباب خلفها، ونكست رأسها باكية، وضعت يديها على عينيها تاركة لعبراتها الحرية للانسياب بغزارة على وجنتيها، تذكرت كلمات والدته المشجعة لها بالمبادرة بالمصالحة حتى وإن كان هو المخطيء، رفعت وجهها للأعلى ماسحة بظهر كفها الدمعات الساخنة عنها، حدثت نفسها قائلة بصوت شبه مختنق:
, -ماشي يا منذر!
, اتجهت نحو خزانة الملابس لتنتقي منها ما سترتديه، لفت انتباهها ذلك القميص الحريري القصير المنزوي على الشماعة الأخيرة، حدقت فيه مطولاً متأملة لونه الزهري، تحسسته بأناملها شاعرة بملمسه الناعم، ابتسمت لنفسها معتقدة أنها ستجذب أنظاره بلونه المغري على جسدها، لم تتردد في اختياره، وبدأت في ضبط مظهرها، وعدلت من وضعية مساحيق التجميل بعد أن تلطخت بفعل بكائها، نفضت شعرها خلف ظهرها، ووضعت شريطًا من الستان على مقدمته تاركة بعض الخصلات تغطي جبينها، نثرت من عطرها على عنقها وكتفيها، استعدت للخروج إليه بعد أن ألقت نظرة أخيرة على مفاتنها التي تسلب العقول، ابتسمت لنفسها برضا وسارت نحو الخارج متشوقة لاستعادته في أحضانها.
, تغنجت بجسدها بدلال مثير وهي تتجه نحوه، استنشق أنفه عبيرها الذي غزاه بكل قوة فتصلبت حواسه من اقترابها، تحركت عيناه تلقائيًا نحوها فرأها على تلك الوضعية المغرية، جمد أعصابه قبل أن تفلت منه وتنهار حصونه أمام جمالها المهلك، دارت حوله لتطوق كتفيه بذراعيها، ثم أسندت رأسها على كتفه هامسة له بتنهيدة تذيب القلوب:
, -احضرلك العشا يا حبيبي؟!
, طبعت على صدغه قبلة مطولة متوقعة أن يتجاوب معها لكنه بدا أكثر صلابة مما ظنت، حدق منذر أمامه مرددًا بجمود:
, -مش عاوز!
, أصرت على عرضها قائلة بدلال:
, -إنت مكالتش حاجة في الفرح، مش معقول هتنام جعان، ثواني ويكون العشا عندك
, قبلته في نفس المكان مجددًا قبل أن تعتدل في وقفتها لتسير بخيلاء أمامه علها تحدث في نفسه تأثير ما، فضلت ألا تنظر خلفها تاركة لخيالها تخيل أعينه وهي تتفحص جسدها بدقة متناهية.
, اتجهت أسيف نحو المطبخ لتعد له عشاءً خفيفًا، قامت برص الصحون واضعة بها قطعًا من الجبن واللانشون والمربى وغيرها مما يصلح لتناوله في صينية معدنية كبيرة، سارت بتمهل نحوه راسمة على شفتيها ابتسامة ناعمة، اقتربت منه قائلة برقة:
, -أنا جهزتلك العشا يا حبيبي!
, صاح بقوة أرعبتها وجعلت يديها ترتعشان بقوة:
, -قولتلك مش عاوز!
, شحوب مريب حل على بشرتها حينما رأت تلك القسوة تنبعث من نظراته، سألته بقلب منقبض:
, -ليه بس؟ دي حاجات خفيفة و٣ نقطة
, زفر مهددًا بعصبية:
, -يووه، يعني أسيب البيت وأمشي عشان ترتاحي!
, خفق قلبها أكثر من تهديده المخيف، وتلألأت عيناها بعبرات قوية، سألته بصوت مختنق:
, -للدرجادي زعلان مني؟
, أشاح بوجهه للجانب مبرطمًا بكلمات متشنجة لم تفهمها بوضوح، ظلت تلك الرجفة القوية تعتريها، خشيت أن تسقط الصينية من يديها فتحدث فوضى بالمكان، حاولت أن تتوقف عن الاهتزاز، وردت بحذر وهي تبتلع ريقها:
, -طب.. حقك عليا، أنا مقصدش!
, أشار لها بكفه آمرًا:
, -قفلي على السيرة دي خالص، سامعة
, هزت رأسها قائلة:
, -حاضر!
, ساد صمت ثقيل بينهما للحظات عجزت فيها عن إيجاد الكلمات المناسبة لإخراجه من حالة الضيق المتمكنة منه، سألته بتردد:
, -يعني مش هتاكل معايا و٣ نقطة
, قاطعها بحدة ألجمتها وهو يرمقها بنظراته القوية:
, -ابعدي عني السعادي يا بنت رياض!
, أخافها صوته المتشنج ونظراته المحتقنة نحوها، لا يحتاج الأمر لكل هذه العصبية والانفعال الغير مبرر، مجرد عناد ميؤوس منه مسيطر عليه جعله رافضًا الاستماع إليها، انسابت عبراتها أمامه بعد صده لها، هي حزنت كثيرًا لطريقته الجافة معها، وأصابها جفاؤه المؤلم بإحباط قوي، أولته ظهرها لتتحرك بخطوات متخاذلة عائدة نحو المطبخ، شعر منذر بالضيق لحدته معها رغم اجتهاده لضبط أعصابه، لكنه بحاجة لبعض الوقت ليتجاوز فقط المسألة، ربما في الصباح سيصفو قلبه لها، اعتصر قلبه ألمًا لرؤيتها تبكي، وما زاد من تأنيب ضميره أنه المتسبب في ذلك، زفر لاعنًا عناده الأحمق الذي يهلكه قبلها.
, لم تستطع إيقاف تلك الرجفة التي حلت بساقيها وهي تسير نحو المطبخ، شعرت بالبرودة تجتاح جسدها وتزيد من رعشتها، ظلت يداها تهتز بقوة مهددة بإيقاع الصينية بين لحظة وأخرى، غلف عيناها عبرات كثيفة فلم تعد ترى بوضوح، لكن الأمر المقلق حقًا هو ذلك الدوار الذي أصاب رأسها بقوة، أصبحت غير قادرة على التحكم في خطواتها أو حتى في اتزانها، ترنح جسدها بصورة مقلقة، شعرت أن الأرض تميد بها، فقدت السيطرة على كل شيء من حولها، وفجأة ظلام دامس سيطر على أعينها لتسقط بعدها فاقدة للوعي.
, هب من مكانه مذعورًا حينما سمع صوت الارتطام القوي للصحون الذي بدا كأنه انفجار كبير، ركض بلا تردد نحو المطبخ ليجد زوجته تفترش الأرضية الصلبة بجسدها، والزجاج المهشم متناثر من حولها، جثى على ركبتيه أمامها هاتفًا:
, -أسيف، حصل ايه؟
, ظن في البداية أنها تعمدت فعل ذلك لتسرعي انتباهه وترقق قلبه نحوها، لكنه أدرك أنها مغشية عليها، هوى قلبه في قدميه حينما لم تستجب لأي محاولات لإفاقتها، مرر ذراعيه خلف ظهرها وأسفل ركبتيها ليحملها، نهض بها متجهًا نحو غرفة نومهما، أسندها بحذر على الفراش ثم مسح بكفه على وجنتها صائحًا بخوف كبير:
, -أسيف، ردي عليا، سمعاني، أسيف
, ظل يضرب على وجنتها برفق علها تفيق لكن دون جدوى، كانت مغيبة تمامًا عما حولها، استدار نحو التسريحة باحثًا عن زجاجة العطر، انتزع غطائها بقوة ووضع بعضه على كفه ثم قربه من أنفها لتشمه، لم يظهر أي مؤشر حيوي على تأثرها به، زاد هلعه عليها حينما رأى تلك الجروح في ساقها وذراعها، لقد تسبب قطع الزجاج الحادة في جرحها، ركض نحو المرحاض ليحضر عدة الإسعافات الأولية وبدأ في وقف معالجة جروحها قبل أن تزداد سوءًا، عاتب نفسه وبقسوة شديدة لكونه لم يرفق بها ولا لتوسلاتها البريئة، سب نفسه بشراسة وهو يضمدها.
, انحنى على جبينها ليقبلها معتذرًا:
, -حقك عليا! أنا مسامحك، فوقي بس وكلميني، أسيف سمعاني، أنا معاكي!
, ٤٥ نقطة
, انتظرها مترقبًا خروجها في أي لحظة بعد أن طال بقاؤها بالداخل، أنهى ثلاثة سجائر واضعًا بقاياهم في المنفضة الزجاجية وهو يذرع الصالة جيئة وذهابًا، حدث نفسه بتبرم:
, -هي بتعمل ايه كل ده؟
, تحرك بخطوات متوترة نحو باب الغرفة، ثم طرق عليه برفق وهو يتساءل بنبرة عالية:
, -ها يا حبيبتي خلصتي؟
, خشى أن تكون قد غافلته ونامت كما ادعت من قبل، تبدلت تعبيراته للشدة وزادت دقاته على الباب هاتفًا بنبرة عالية:
, -بسمة! اوعي تكوني نمتي؟
, أتاه صوتها قائلاً:
, -ثواني
, تنفس الصعداء لأنها مازالت مستيقظة، واتسعت ابتسامته اللاهية وهو يرد:
, -ماشي يا حبيبتي، بس ماتطوليش **** يكرمك!
, ردت عليه:
, -أنا طالعة!
, وكأن كلماتها تلك قد أوقدت نيران الحب بداخله، فاستعد جسديًا ونفسيًا لرؤيتها، فتحت الباب لتطل عليه بشكلها المثير، حدق فيها متأملاً ردائها الأبيض الذي تحاول جاهدة أن تخفي ما يبرزه من مفاتن جسدها من خلف قماشه الشفاف، عضت على شفتها السفلى قائلة بخجل:
, -أنا هـ٤ نقطة
, لم يعطها الفرصة لإكمال جملتها، طوق خصرها بذراعيه وهو ينحني عليها ليقبلها بشغف، لم تبدِ أي مقاومة معه، بل تجاوبت مع كل ما يقدمه لها من أحاسيس فياضة جعلت جسدها يندمج أكثر مع حبه الجارف، لم تفارقها شفتيه، جرفها سريعًا إلى عواصف عشقه اللا محدود، شعر بتأثيره القوي عليها، باستجابة خلاياها لفيض المشاعر، تراجع برأسه عنها ليتمكن من حملها، سار بها بتمهل نحو الداخل، ثم أجلسها على الفراش نازعًا قميصه عنه، طالعته بنظرات شقية ألهبت حواسه بقوة، همس بها برغبة:
, -الليلة مافيش نوم يا مزة!
, ضحكت بدلال وهي تعبث بخصلات شعرها، أومأت له بحاجبها قائلة بتحدٍ مثير:
, -بجد؟
, طقطق دياب فقرات عنقه وهو يحركه للجانبين، ثم تمط بذراعيه أمامها ليظهر لها قوته الجسمانية وعضلاته المشدودة، نظرت له بإعجاب وهي تعض على شفتها السفلى، رد عليها بعبث:
, -طبعًا، ده مش هزار، في ضرب نار!
, كركرت ضاحكة بميوعة بعد استعانته بكلمات لأغنية شعبية دارجة فأثارت رغبته فيها، وبالطبع لم تمر الثانية التالية إلا وكان في أحضانها يدفعها بخبرة محنكة نحو سعادة لا توصف.
, ٤٨ نقطة
, انتصبت بجسدها واقفة أمام المرآة مغمضة لعينيها ومكورة لأصابع قبضة يدها اليمنى، كانت بحاجة إلى شجاعة عظيمة لتحدق في وجهها من جديد، فقد تجنبت في الأونة الأخيرة التحديق في هيئتها بعد تأثيرات جرعات الكيماوي عليها، واليوم هي أرادت وبشدة التحديق في قسمات وجهها الذابلة، وضعت يدها المرتعشة أعلى رأسها لتنزع حجابها الذي بات رفيقها الذي لا يفارقها أبدًا، ابتلعت ريقها وهي تتطلع بأعين حزينة إلى بقايا شعرها بعد أن قصته ونال منه المرض، تجمعت العبرات سريعًا في مقلتيها، لم تمانع في سقوطهم على وجهها، هزت رأسها مستنكرة تفكيره فيها، كيف لشخص مثله أن يتودد لمريضة مثلها لا تملك أي شيء لتقدمه له؟
, أغمضت جفنيها مكملة بكائها المرير في صمت، ومع ذلك ظل صدى صوته العذب يرن في أذنيها كالطنين، انتبهت حواسها فجأة لرنين هاتفها، فتحت نيرمين عينيها وهي تدير رأسها تجاه الكومود، تحركت أعينها الباكية نحو رضيعتها النائمة، وفي أقل من لحظات كانت ممسكة به محاولة إيقاف صوته المزعج قبل أن يوقظ ابنتها، فغرت شفتيها مصدومة حينما قرأت اسمه على الشاشة، للحظة ظنت أنها تتخيل ذلك لكن حينما تكرر الرنين انتفضت في مكانها مفزوعة، نقلت الهاتف على وضعية الصامت، ثم ردت عليه بصوت هامس:
, -ألو
, أتاها صوته الرخيم متسائلاً بهدوء عذب:
, -صحيتك؟
, أجابته بصوت خفيض:
, -لأ، أنا لسه مانمتش
, أضاف متحمسًا:
, -ده من حظي
, تعجبت من اتصاله المتأخر، فسألته دون تفكير:
, -في حاجة؟
, صمت للحظات قبل أن يجيبها بحذر:
, -كنت محتاج أسمع صوتك قبل ما أنام
, شعرت بدقات قلبها تتسابق بقوة من جملته تلك رغم بساطتها، لم ترد الانخراط في أحلام لن تتحقق مطلقًا لذلك سألته بحدة رغم خفوت صوتها:
, -دكتور نبيل إنت بتعمل كل ده ليه معايا؟ اشمعنى أنا؟ أفتكر إن حالتي٤ نقطة
, قاطعها بهدوء أصابها بالارتباك:
, -صدقيني معنديش تفسير لده
, توهمت أنه نوع من التعاطف معها، إحسانًا خفيًا يتبعه مع مرضاه، لذلك ردت بكرامة:
, -لو كنت بتعمل ده شفقة فمافيش داعي منه، أنا متقبلة مصيري وعارفة نهايتي
, هتف موضحًا سوء الفهم لديها:
, -أبدًا و****، مش كده خالص يا مدام نيرمين! إنتي كده بتظلميني!
, تركت صوته ينساب إلى داخل خلايا عقلها وهو يتابع بتمهل:
, -بس اللي أقدر أقوله وأنا واثق فيه إنك بقيتي حد مهم عندي
, ارتجف بدنها من قوة كلماته العذبة، كان يروي عطش قلبها بعباراته، توترت أنفاسها فبدا صوتها واضحًا إليه، تابع برجاء غريب:
, -وأتمنى ميكونش ده بيزعجك!
, لم تعلق عليه واكتفت بالصمت الذي أصابه بالقلق، سألها بتلهف:
, -مدام نيرمين، إنتي معايا؟
, أجابته بخفوت:
, -أيوه
, همس لها برجاء أكبر:
, -أنا.. حابب تكون قريبين أكتر من بعض
, أربكها تصريحه فعجزت عن الرد عليه، شعرت كما لو كانت مراهقة صغيرة تعيش مشاعرًا غريبة عليها، هربت من تأثيره الذي يُحيي بداخلها أحاسيسها المفقودة قائلة بخجل:
, -تصبح على خير
, سألها متعجبًا:
, -بتهربي مني؟
, أجابته بصوت متردد:
, -أنا .. تعبانة!
, سمعت صوت ضحكته الخافتة يرن في أذنها وهو يقول:
, -تمام، وإنتي من أهله!
, ضغطت على زر إنهاء المكالمة سريعًا لتجلس على طرف الفراش وهي لا تصدق نفسها، وضعت يدها على وجنتها تتحسس بشرتها التي زادت سخونة بعد مكالمته تلك، شعرت بالحيوية، بالطاقة، بالقوة والنشاط، خجلت من نفسها لتفكيرها كالفتيات الصغار في أمور لم تعد تصلح لها، وقبل أن تفيق من حلمها الوردي انتبهت لرنين الهاتف الذي أعلن عن وصول رسالة نصية، قرأت ما دون فيها بصوت هامس:
, -على فكرة كنتي حلوة أوي النهاردة، تتخطفي!
, اشتعل وجهها كليًا، وكتمت بكف يدها صوت ضحكتها التي كادت تفضح أمرها، رددت مع نفسها بسعادة:
, -ده دكتور مجانين!
,
,
, تلفتت حولها بنظرات قلقة محاولة اكتشاف ذلك المكان الذي ظهرت فيه فجأة، اتضحت لها الرؤية تدريجيًا، إنها في منزلها القديم ببلدتها الريفية، رائحة المخبوزات تخترق أنفها، تلاحقت دقات قلبها بقوة وهي ترى والدها أمامها، هتفت بصوتٍ باكٍ:
, -بابا!
, فتح لها ذراعيه راغبًا في احتضانها فركضت بلا تفكير نحوه لترتمي بجسدها داخل أحضانه التي تشتاقها، بكت بفرحة أكبر وهي تقول:
, -وحشتني أوي يا بابا، كل الغيبة دي!
, رد عليها بصوته الحنون:
, -المهم إنك بخير يا أسيف! شوفتي مين جه معايا
, التفتت حيث أشار بيده، لم تكد تفيق من صدمتها السعيدة حتى رأت والدتها تقترب منها بمقعدها المتحرك، اتسعت ابتسامتها رغم بكائها وهي تقول:
, -إنتي هنا كمان يا ماما
, ردت عليها حنان بصوتها الدافيء:
, -ايوه
, هتف رياض قائلاً بهدوء:
, -شايفة مامتك معاها ايه!
, دققت النظر فيما تحمله والدتها بيديها، لم تتبينه بوضوح، كان ملفوفًا بغطاء ما، تحركت نحوها متسائلة:
, -ايه ده؟
, رفعت والدتها اللفة للأعلى قائلة بابتسامة صافية:
, -زين!
, أمعنت أسيف النظر في تلك الهدية التي أعطتها لها والدتها، كان رضيعًا صغيرًا يتأوه بصوت آسر وهو غافٍ، أمسكت به بعناية فائقة متأملة وجهه البشوش، تشكل على ثغرها ابتسامة عذبة وهي تقول:
, -****! ده حلو أوي!
, رفعت رأسها لتحدق في والديها متابعة بسعادة:
, -هو٣ نقطة
, قطمت عبارتها مجبرة حينما لم تجدهما حولها، اختفيا كما ظهرا من العدم، شعرت بالخوف وهتفت بهلع وهي تدور حول نفسها:
, -ماما، بابا! إنتو رحتوا فين؟ بابا، ماما!
, تمسكت بالرضيع الذي بحوزتها أكثر وظلت تنادي على أبويها ببكاء كبير، اشتاقت لأحضانهما التي احتوت أحزانها وفرحتها كثيرًا، عاودت النظر إلى الرضيع مرددة بنحيب:
, -ملحقتش أشبع منكم!
, ٤١ نقطة
, لمح تلك العبرات وهي تسقط من طرفي جفنيها المغمضين، فانقبض قلبه بخوف أكبر، لقد راها على تلك الحالة مسبقًا تبكي وهي غائبة عن الوعي، ألمه ذكل كثيرًا، شعرت بتأنيب الضمير لتعنيفه لها بقسوة، والأمر لم يكن بحاجة إلى كل ذلك التعصب والانفعال، رفعها إلى صدره، وضمها إليه، ثم مد يده على بشرتها ماسحًا دمعاتها برفق، همس لها وهو ينحني على جبينها:
, -أنا أسف يا حبيبتي، حقك عليا!
, ضمها أكثر وهو يضيف:
, -ردي عليا يا أسيف، أنا جمبك!
, أخرجت تأوهات خافتة مصحوبة بأنين مكتوم لكنها كانت مؤشرات قوية على قرب استعادتها للوعي، هزها برفق وهو يقول:
, -أسيف، سمعاني
, ردت وهي في حالة ما بين الغفلة واليقظة:
, -ملحقتش أقعد معاكو، استنوا شوية!
, ضرب منذر على وجنتها برفق كي تفيق هاتفًا:
, -أسيف، اصحي!
, تنبهت حواسها بدرجة كبيرة إلى صوته الذي وصل إلى مسامعها بقوة، فتحت عينيها ببطء محدقة في وجهه بأعينها الدامعة، همست له بأنين:
, -أنا مش عاوزاك تزعل مني
, ضمها إليه قائلاً بتنهيدة حارة:
, -وهو أنا أقدر، يا ستي غيراني عليكي لازم تفهمي ده كويس، مرضاش أبدًا أشوفك بتحكي عن غيري كده واسكت،
, أرجع رأسها للخلف ليحدق في وجهها بنظرات عاشقة، طبع قبلات متتالية على وجنتيها فابتسمت له، لمحت بطرف عينها تلك الضمادات التي تغطي ذراعها وساقها، انعقد ما بين حاجبيها باستغراب وهي تسأله:
, -هو حصل ايه؟
, أجابها مبتسمًا:
, -باين عليكي هفأ واتزحلقتي، حتة صينية مش عارفة تشيليها؟
, نظرت له بعبوس وهي تعاتبه:
, -على فكرة أنا٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بود وهو يضع إصبعيه على طرف ذقنها:
, -انسي ، المرادي أنا اللي هاحضر العشا، مش انتي لسه جعانة؟
, أومأت برأسها دون أن تجيبه، فطبع قبلة عميقة على جبينها متابعًا بمرح أذاب أي حواجز بينهما:
, -خلاص نطلب دليفري بقى!
, زادت ابتسامتها إشراقًا ولمعت عيناها بوميض الحب الصادق الذي دومًا يخترق القلوب.
, ٤٥ نقطة
, مضى عدت أيام حتى أتى يوم الافتتاح الكبير لدكانها وفرع الأدوات الصحية الجديد، افترشت الطرقات بباقات الورد الكبيرة وكذلك بالرمال الملونة، زينت البنايات ومدخل المنطقة الشعبية بشرائط الإنارة الكهربائية الحديثة، وصدحت أصوات الموسيقى طوال اليوم، وقفت أسيف بين عائلتها تنظر إلى دكانها الذي ازدان بما فيه من ورود صناعية وهدايا شبابية بسعادة غامرة، تحقق حلمها، وباتت لافتة دكان والدها الراحل مضيئة بكلمة "خورشيد"، رقص قلبها طربًا وهي تقص شريط الافتتاح لتعلو الزغاريد من خلفها، انهالت عليها التهنئات من أهالي المنطقة وكذلك من المحيطين بها، دنا منها زوجها قائلاً:
, -وفيت بوعدي معاكي، صح؟
, ردت وهي تهز رأسها بالإيجاب:
, -ايوه
, مدت يدها لتمسك بكفه متابعة بامتنان:
, -**** يخليك ليا يا حبيبي، بأحبك
, ضغط بأصابعه على راحتها هامسًا:
, -مش قصاد الناس!
, ابتسمت له بخجل وتابعت التلفت حولها بنظرات متحمسة، لمحت بسمة وهي تتجادل مع دياب بجوار أحد الرفوف فسحبت كفها من راحة زوجها لتتجه نحوهما، تساءلت باهتمام:
, -خير
, ردت بسمة بعصبية طفيفة:
, -مش عاوز يجيبلي دبدوب أحمر
, رد دياب مبررًا بامتعاض وهو يشير بيديه إلى نفسه:
, -طب أنا راضي ذمتك، ده شكل واحد بتاع دباديب؟ ده حتى وحش في حقي، هيبتي قصاد أهل الحتة تروح!
, أشارت بسمة بسبابتها نحوه قائلة بغيظ:
, -شايفة!
, تقوس ثغر أسيف بابتسامة لطيفة وهي تقول:
, -خلاص أنا هاديهولك هدية
, تهللت أسارير بسمة بشدة، وأقبلت عليها تحتضنها بود كبير ماسحة على ظهرها بكفيها، هتفت بامتنان:
, -حبيبتي يا أسيف، اتعلم الذوق منها
, حك دياب مؤخرة رأسه مرددًا بمرح:
, -**** يكرمك، دايمًا كده تشكري فيا قصاد الناس!
, ابتعدت عنها بسمة لتضيف بتذمر:
, -اهوو، احنا على الحال ده مع بعض!
, ضحكت أسيف قائلة:
, -**** يخليكم لبعض دايمًا
, استمرت ثلاثتهم في الحديث الودي حتى انضم إليها منذر قائلاً بلهجة شبه صارمة:
, -عاوز المدام شوية
, التفتت برأسها نحوه مرددة:
, -ايوه يا منذر
, أشار لها بعينيه لتتبعه في زاوية الدكان حيث الأجواء أهدأ قليلاً، سحب نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة ليقول بعدها بجدية:
, -بصي يا ستي أنا كان عندي شغل في راس البر، هانشطب أرضيات كام فيلا هناك عشان المصايف، فعاوز أخدك معايا تغيري جو
, ارتفع حاجباها للأعلى وهي تهتف بعدم تصديق:
, -بجد؟!
, أومأ برأسه مؤكدًا بهدوء:
, -ايوه، جهزي نفسك!
, استدارت برأسها للجانب قائلة باعتراض صغير:
, -بس الدكان، أنا ملحقتش آآ٤ نقطة
, قاطعها هاتفًا بهدوء جاد:
, -خلي بسمة تتابعه لحد ما نرجع، ولو مانفعش اقفليه!
, ضغطت على شفتيها مرددة:
, -خلاص هارتب أنا معاها ونسافر سوا يا حبيبي
, -ماشي، أسيبك لزباينك وأروح أشوف شغلي
, -اوكي يا حبيبي
, ودعها بلطف قبل أن يتجه عائدًا نحو أخيه ليصيح فيه بلهجة آمرة:
, -يالا يا باشا، ورانا مصالح
, لوح له دياب قائلاً:
, -حاضر، جاي في ديلك يا منذر!
, انتظر ابتعاد أخيه عن الدكان ليقترب من أسيف، توسلها برجاء مرح:
, -أمانة عليكي يا مرات أخويا متعصيش الأبلة عليا، لأحسن بيردم عليا في الأخر، وأنا مش ناقص!
, ضحكت على أسلوبه التهكمي في استجدائها، ثم ردت قائلة:
, -طيب، إنت بس تؤمر
, هلل متحمسًا:
, -حبيبة قلب أخويا وأم عياله إن شاء ****!
, أخفت ابتسامتها بكف يدها وهي ترد بخجل:
, -يا رب!
, ٤٢ نقطة
,
, رغم انشغاله بالأعمال في مدينة رأس البر الساحلية إلا أنه خصص لها وقتًا ليمضيه معها ومع عائلتهما التي أصرت على قدومهم معهما ليحظى الجميع بأوقات طيبة، استأجر لهم منزلاً واسعًا بالقرب من الشاطئ، ومكثت كل أسرة في غرفة خاصة بهم، كانوا يتجمعون في أوقات الطعام وبعد الظهيرة ليتسامروا ويستعيدوا ذكرياتهم، غلف لحظاتهم السعادة والهناء، أوشكت العطلة القصيرة على الانتهاء، فقرر منذر اصطحاب زوجته للسباحة سويًا في وقت مبكر من الصباح كي يتجنبا الزحام والأعين المتلصصة، كانت في قمة سعادتها معه، ظل الاثنان يلهوان وسط الأمواج ويتقاذفان المياه على بعضهما البعض بمرح واضح، شعرت أسيف بدوار شديد يصيب رأسها، بإنهاك غير مبرر يخدر خلايا جسدها، ضعفت قدرتها على الوقوف في المياه، فانهارت فجأة وسط الأمواج، نظر لها منذر بهلع، أسرع ناحيتها محاولاً الإمساك بها قبل أن تغرق صائحًا بفزع:
, -أسيف! في ايه؟
, أجابته بنبرة واهنة:
, -مش عارفة مالي، تعبانة أوي
, حاوطها من خصرها قائلاً:
, -تعالي احنا هنرجع
, ردت بصوت خفيض وهي تحاول التشبث به:
, -ماشي!
, ساعدها على السير حتى بلغا الشاطئ، بدا صوتها لاهثًا وهي تقول بصعوبة:
, -مش قادرة، دماغي بتلف جامد!
, لم ينتظر أكثر من ذلك، انحنى قليلاً بجذعه وحملها مكملاً سيره نحو منزل الشاطئ، هبت جليلة واقفة في مكانها حينما رأتهما على تلك الحالة، سارت بخطى سريعة نحوهما وهي تهتف بتوجس:
, -ايه اللي حصل يا ابني؟
, أجابها منذر بحيرة:
, -مش عارفة يا أمي، داخت جامد مني!
, تنحنت للجانب لتسمح له بالمرور والصعود على الدرجات التي تؤدي للشرفة الواسعة بذلك المنزل، التقى بعواطف في طريقه نحو الداخل، لطمت على صدرها وهي تشهق مفزوعة:
, -أسيف، يالهوي، مالها؟
, رد بضجر:
, -معرفش، تعبانة
, لحقت به مرددة بقلق:
, -نشوفلها ضاكتور بسرعة، بس قابلة تغير هدومها لأحسن تاخد برد
, -ماشي
, قالها منذر وهو يلج إلى الغرفة الخاصه به وبزوجته، اقترب من الفراش ليسندها برفق عليه، ثم اعتدل في وقفته ممررًا أنظاره عليها، زفر بضيق مبديًا انزعاجه مما يحدث معها من حالات دوار وإغماء متعاقب.
, ٤٣ نقطة
,
, لم تتوقف جليلة ولا عواطف عن إطلاق الزغاريد فور تأكيد الطبيب الذي فحص زوجة ابنها البكري لخبر حملها، كانت ما تمر به هي العوارض الأولية للحمل، ولكونها كانت مشغولة بالكثير من الأحداث التي دارت مؤخرًا، لم تنتبه للتغيرات التي طرأت عليها، لم يصدق منذر أذنيه، سيرزقه **** بعد فترة انتظار طويلة بنعمة عظيمة من نعمه، بكى متأثرًا لسماعه ذلك الخبر المفرح، احتضنه أخاه قائلاً:
, -مبروك يا منذر، إنت بتعيط يا جدع، وده كلام؟!
, كفكف منذر عبراته بظهر كفه هاتفًا بتضرع شاكر:
, -اللهم لك الحمد والشكر، يا ما انت كريم يا رب!
, رد عليه دياب وهو يهز رأسه:
, -**** يراضيك دايمًا، أيوه بقى عاوزين الواد يحيى يلعب مع ولاد عمه!
, -**** معاها ويكملها على خير
, -إن شاء ****
, وضع طه يده على كتف ابنه قائلاً بصوته الخشن:
, -رزق **** مالوش ميعاد ولا حدود يا منذر
, رد عليه ابنه مؤكدًا بثقة:
, -فعلاً، يرزق من يشاء بغير حساب!
, تابع طه مضيفًا وهو يعيد ضم يديه معًا على رأس عكازه:
, -**** يكرمك ويقوم مراتك بالسلامة، المهم تطلع حاجة لله عشان **** يفتحها أكثر في وشك
, -ده لازم
, ٤١ نقطة
, ولج إليها راسمًا على ثغره ابتسامة لا توصف، تأملها بأعين ممتنة وكأنها قد أهدته كنزًا لا يقدر بثمن، رأت في عمق نظراته حبًا أكبر وأصدق، حبًا انتشلها من حزن قاسٍ وأتى بها إلى أرض الأحلام، تلون وجهها بحمرة لطيفة وهي تطالعه بنظراتها الوالهة، همست له بخجل:
, -أنا طلعت حامل!
, دنا منذر من فراشها ليجلس إلى جوارها، ثم مد يده ليلتقط كفها، احتضنه بين راحتيه ماسحًا عليه بقوة، رفعه إلى فمه ليقبله قائلاً:
, -بأحبك اكتر من الأول، والحمدلله إن **** هيرزقني منك بعيل
, رمشت أسيف بعينيها قائلة بصوت خفيض شبه متردد :
, -منذر لو رنا كرمنا بولد، أنا عاوزة أسميه زين
, قطب جبينه متسائلاً باستغراب:
, -اشمعنى؟
, سحبت نفسًا كبيرًا أخرجته على تمهل وهي تسرد له ذلك الحلم الغريب الذي رأته من قبل، نعم كان يحمل لها البشارة بمولود سيملأ حياتها سعادة لكنها لم تفهم الرسالة، ابتسم لها منذر بعذوبة، ثم رفع يده ليضعها على وجنتها، داعب بشرتها بلطف وهو يقول:
, -بأمر ****، ولو بنت يبقى زينة!
, زاد لمعان حدقتيها وهي تنظر إليه، كما تشكل على محياها ابتسامة صافية وهو يضمها إليه لتشعر بدفء أحضانه التي أدمنتها.
, ٥٧ نقطة
,
, مرت الشهور ورزقها **** بمولود أسماه زوجها بـ "زين" تيمنًا برؤياها السابقة، أقيم له حفل "سبوع" شعبي في دكان خورشيد، ذلك المكان الذي شهد على الكثير وكان السبب الرئيسي في قدومها إلى هنا لتلتقي بنصفها الأخر، جمعهما التحدي والقوة، التحدي والعناد، الحب والتضحية، الصدق والمشاعر العميقة، هنا ولدت بذرة حبهما، وهنا حصدا ثمار عشقهما.
, أعد منذر لرضيعه مهدًا وضعه في زاوية الدكان أسفل الصورة الفوتغرافية الخاصة بعائلة أسيف ليكون إلى جوار والدته وهي متواجدة به، كذلك كي يتمكن من رؤيته حينما يعرج عليهما من فرعه.
, ألقى نظرة أخيرة عليه قبل أن يسير نحو الخارج مطفئًا الأنوار، أوصد الدكان خلفه واضعًا مفاتيحه في جيب بنطاله، ثم توجه بعدها إلى منزل أبيه حيث اللقاء الأسبوعي لتجمع أفراد العائلة معًا، وجد ابن أخيه يلهو مع الصغار عند مدخل البناية، فاقترب منه عابثًا بخصلات شعره وهو يقول بصيغة آمرة:
, -اطلع يا يحيى، الغدا اتحط
, رد عليه الصغير ببراءة:
, -مس بسمة عملتلي الأكل، أنا هالعب شوية مع ثحابي (أصحابي)
, ابتسم له منذر قائلاً بهدوء:
, -ماشي يا سيدي، الأبلة اللي مدلعاك على حِسنا
, أكمل صعوده على الدرج حتى بلغ باب المنزل فدس المفتاح في قفله، ولج إلى الداخل مستنشقًا رائحة الطعام الشهية التي تعبق الأجواء، تحركت معدته متأثرة بالراحة، بالطبع لم يخلو المنزل من الأصوات المتداخلة للحديث النسائي، هز رأسه متعجبًا من قدرتهم العجيبة على الثرثرة وأداء العديد من الأعمال في آن واحد، هتف بنبرة عالية ليلفت الأنظار إلى وجوده:
, -سلامو عليكم يا أهل الدار
, ردت عليه جليلة بنبرتها الحانية:
, -وعليكم السلام يا ابني، 5 دقايق والأكل هايكون جاهز، الشوربة بتغلي على النار و٤ نقطة
, قاطعها مشيرًا بكفه:
, -براحتكم، أومال فين زين؟
, ردت عليه تلك المرة عواطف وهي تحمل الصحون الفارغة بيديها:
, -مع عمته والبت رنا يا سي منذر!
, رد عليها مازحًا:
, -من دلوقتي قاعد وسط البنات، أنا عاوز عضمه ينشف، ومايبقاش عيل طري!
, اعترضت عليه جليلة قائلة بجدية:
, -ده راجل ابن راجل ومن ضهر راجل
, هتفت أسيف بمرح وهي تدنو من زوجها:
, -ده أبو الرجالة كلهم!
, حدق منذر في وجه زوجته البشوش غامزًا لها:
, -مين يشهد ليه زيكم؟
, ابتسمت له بنعومة محببة لقلبه، طوق كتفيها بذراعه متبادلاً معها غزلاً متواريًا جعل وجهها يلتهب بسخونة واضحة، عضت على شفتها السفلى بحياء جلي، فاستمر في مداعبة أذنها بكلماته الساحرة، لكن أخرجتهما جليلة من لحظتهما الخاصة صائحة بجدية:
, -يالا أوام زمانت خطيب نيرمين جاي!
, عبس وجهها نوعًا ما من ذكر اسمه، شعرت أسيف بتبدل تعابيره، وحاولت ألا تظهر تأثرها بذلك، أضافت عواطف بابتسامة متسعة:
, -أول مرة يشرفنا الضاكتور نبيل
, ضاقت نظرات منذر نحو زوجته وهو يسألها بتجهم:
, -انتو عازمتوا السمج ده هنا؟
, ردت عليه بصوت خفيض وهي تشير بحاجبيها مستنكرة نفوره الغير مبرر منه:
, -مش هايبقى جوزها، وبعدين هو٥ نقطة
, قاطعها محذرًا بصرامة:
, -هـــا، هانعيدوه تاني
, ردت بدلال وهي تطالعه بنظراتها العاشقة:
, -لأ **** من دي النوبة!
, ضمها أكثر إلى صدره مبديًا إعجابه بطاعتها له، ثم سار معها نحو طاولة الطعام، في حين دست بسمة الطعام في فمها وتناولته بشراهة عجيبة، هتفت من بين أسنانها وهي تلوك الطعام في جوفها:
, -مش قادرة! طعمه يجنن
, تبعها دياب حاملاً صينية البطاطس الساخنة ناظرًا لها بتأفف وهي تتلذذ باستمتاع بقطع الطعام الشهية، أخفض نظراته نحو بطنها المنتفخ قائلاً بسخرية:
, -ارحمي كرشك شوية، هاتبلعينا بعد كده!
, نظرت بسمة إلى حيث يشير فتعقدت تعبيراتها بضيق، تلاشت ابتسامتها ليحل التبرم على ثغرها، صاحت فيه بحدة طفيفة:
, -****، مش عيالك هما اللي جعانين جوا بطني، ده أنا بأكل بتلات أرواح!
, لكزها برفق من كتفها قائلاً:
, -ده زي 3 دقات كده!
, نظرت له شزرًا وهي ترد:
, -ماتبقاش رخم
, أضافت جليلة بنبرة ودودة وهي تربت على ظهر زوجة ابنها الأصغر:
, -حقها تاكل وتتبسط، دي حبلى وفيها روحين بتكبر، ماشاء **** **** معاها ويعينها
, رد عليها دياب بعبوس زائف:
, -ادعيلي أنا يامه، أنا مش ملاحق!
, كركرت ضاحكة وهي تقول:
, -العيال بيجوا برزقهم، وإنت ماشاء **** عليك، **** فتحها في وشك وبزيادة
, رد بصوت خفيض وهو يفرك مؤخرة عنقه:
, -ماهو واضح، جوز من أول مرة، أومال لو طولت شوية، هاجيب كام؟!
, انتبه الجميع لوقع دقات عكاز الحاج طه المصحوبة بصوته الخشن وهو يقول:
, -احم٣ نقطة يالا يا جماعة
, ردت عليه جليلة:
, -حاضر يا حاج
, هتفت عواطف بنبرة متحمسة:
, -نيرمين طالعة مع خطيبها على السلم، هاروح أفتحلهم
,
, وما هي إلا لحظات وتجمع حول مائدة الطعام جميع أفراد العائلتين، ترأس الطاولة الحاج طه، وجلست على يمينه زوجته جليلة التي ظلت واقفة على قدميها تقدم ما أعدته من مأكولات شهية للجميع، وعاونتها عواطف التي جلست إلى جوارها، في حين جلس منذر في الجهة المقابلة لأبيه وإلى يساره زوجته أسيف التي كانت تختلس النظرات إليه بين حين وأخر حينما يداعب ساقها بقدمه فتبتسم له بحياء محذرة إياه من كشف أمرهما، لكنه كان مستمتعًا بغزلهما الصبياني، جلس دياب على يسار والده وإلى جواره نبيل وخطيبته، وبالطبع لم تكف عواطف عن تحفيز زوج ابنتها المستقبلي لتناول ما لذ وطاب من الأطعمة المنزلية المعدة بالسمن البلدي، في حين فضلت بسمة الجلوس على الأريكة لتشعر بالاسترخاء وتمد ساقيها المتورمتين دون حرج، مررت أسيف أنظارها ببطء على أوجه المحيطين بها شاعرة بفرحة لا توصف، لقد منحها **** عائلة كبيرة تفخر بها، وعوضها بزوج محب ومخلص بذل ما في وسعه ليمحو آثار ما عانته من مآسٍ موجعة، ورزقها طفلاً زين حياتها ببراءته وضحكاته التي تنسي أي هموم وأحزان، تنهدت بارتياح متمنية في نفسها أن تدوم تلك السعادة للأبد.
,
, -تمت بحمد ****-
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
روووووووووووووووووووووووووووووووعه
 
  • عجبني
التفاعلات: ناقد بناء

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%