NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الدكان ـ أربعة وتسعون جزء 21/102023

٦١
تنفست الصعداء بعد تلقيها ذلك الخبر المفرح عن إفاقتها من غيبوبتها المؤقتة، وبترقب شديد انتظرت انتهاء الطبيب من فحص مؤشراتها الحيوية لتلج إليها.
, دنت عواطف من فراشها الطبي، ثم مالت عليها تضمها إلى صدرها هاتفة بنبرة متأثرة:
, -حمدلله على سلامتك يا بنتي!
, ردت عليها بسمة بنبرة خافتة:
, -**** يسلمك يا ماما!
, تابعت قائلة بتنهيدة مطولة:
, -لو تعرفي اتخضينا عليكي أد ايه!
, ابتسمت هامسة:
, -قدر ولطف!
,
, لم يستطع الانتظار بالخارج لأكثر من هذا، فقد كان متلهفًا لرؤيتها هو الأخر.
, شعر بأن روحه ردت إليه بمجرد سماعه بخبر استعادتها للوعي.
, تحرك بتوتر رهيب دائرًا حول نفسه إلى أن حسم أمره بالدخول.
, دق دياب على الباب متنحنحًا بصوت خشن:
, -ممكن أدخل؟
, التفتت عواطف نحوه قائلة بود وهي تشير بيدها:
, -أه يا بني، تعالى!
, ثم استدارت برأسها لتحدق في ابنتها وهي تضيف:
, -سي دياب ماسبناش للحظة هو وسي منذر، ليل نهار معانا يا بنتي عشان يطمنوا عليكي!
,
, رمشت بسمة بعينيها في حرج واضح من وجوده، لكنها رأت في نظراته المتطلعة إليها شيئًا غريبًا عن كل مرة.
, تلألأت عيناه بتوهج لامع وهو يدنو منها.
, هتفت عواطف قائلة:
, -أما أروح أطمن أسيف، هي أعدة في الاستقبال من بدري، وهتفرح أوي لما تعرف
, هزت بسمة رأسها بإيماءة خفيفة دافنة نفسها أكثر في الفراش.
, تابعها حتى انصرفت من الغرفة، فاقترب أكثر منها متأملًا إياها بأعينه المشتاقة.
, قطع الصمت السائد بينهما معاتبًا بمرح:
, -ينفع القلق ده كله يا أبلة؟
, حركت رأسها للجانب متحاشية النظر إليه، ثم ردت قائلة بهدوء:
, -أنا اتأخرت على المدرسة، أكيد هايكتبوني غياب!
, عقد ما بين حاجبيه مدهوشًا من جملتها الأخيرة، فسألها مستفهمًا:
, -مدرسة! انتي بتتكلمي عن ايه؟
, أوضحت مقصدها قائلة بتنهيدة متعبة وهي تفرك جبينها:
, -المفروض كان عندي إشراف كمان، لازم حد يبلغهم يدوني اذن صباحي عقبال ما أفوق، و٣ نقطة
, قاطعها قائلًا باستغراب:
, -انتي فقدتي الذاكرة؟ إذن ايه ده؟
, التفتت برأسها نحوه هاتفة بتجهم قليل:
, -احنا عندنا شغل، صعب نغيب اليومين دول، ومافيش أذونات إلا في الضرورة القصوى، و٤ نقطة
, قاطعها دياب مرة أخرى مازحًا:
, -يا أبلة السنة خلصت من بدري، صحي النوم!
, قطبت جبينها مرددة بتعجب:
, -افندم؟
,
, ازدادت ابتسامته اتساعًا وهو يضيف بمرح:
, -انتي في غيبوبة بقالك عشر أيام أو أكتر!
, ارتفع حاجباها للأعلى وهي تصيح باندهاش كبير:
, -نعم! غيبوبة!
, رفع إصبعيه أمام عينيها مداعبًا وهو يشير بنظراته نحو عقلها:
, -ها دول كام بقى؟ عاوزين نطمن على الحتة الطرية اللي جوا برضوه!
, ٣٤ نقطة
,
, كانت شاردة أغلب أوقاتها تفكر مليًا في موافقتها على عرضه الأخير. خشيت من تسرعها، لكن لم يكن أمامها بديل، وهو لم يحاول فرض نفسه عليها.
, تنهدت مرهقة من كثرة التفكير، فاستندت برأسها على مرفقها مغمضة جفنيها للحظات.
, أتاها صوتها مهللًا بسعادة:
, -فاقت يا أسيف، بسمة فاقت!
,
, هبت من مقعدها واقفة لتلتفت نحوها، ثم ارتسم على ثغرها ابتسامة رضا وهي تقول:
, -بجد! الحمد****، **** جبر بخاطرنا!
, وضعت عواطف يدها على صدرها متابعة بتنهيدة ارتياح:
, -أنا كان هيجرالي حاجة من رقدتها دي، عدت على خير، **** ما يعودها تاني
, -يارب
, أشارت قائلة بيدها:
, -أنا هاكلم نيرمين أبشرها!
, ردت عليها بهدوء:
, -ماشي، وأنا هاطلع عند بسمة أبص عليها
, -طيب يا بنتي!
, قالتها وهي تفتش في حقيبتها عن هاتفها المحمول لتبلغ ابنتها بذلك الخبر الســار.
, ٣٦ نقطة
, عــــادت بسمة إلى منزلها لتكمل فترة النقاهة به، وتماثلت للشفاء بدرجة كبيرة بعد عدة أيام.
, أولتها أسيف الرعاية الكاملة، ولم تبخل عليها بمجهودها رغم إرهاقها، فشعرت الأخيرة بأنها كانت مخطئة في حقها، وأنها تسرعت في الحكم عليها، وتقاربت الاثنتان إلى حد ما.
,
, اتفق منذر مع عائلة عواطف على إبقاء سر الخطبة بينهم، وكذلك اتفق على تحديد موعد محدد لقراءة الفاتحة، ورغم أنها خطبة زائفة إلا أنه أصر على القيام بها وفق الأصول والأعراف المتبعة.
, تأججت نيران الغيرة بداخل نيرمين، لكنها عقدت العزم على إفسادها مهما كلفها الأمر، حتى وإن تحالفت مع الشيطان ذاته، المهم ألا تحظى به غيرها.
, ٣٤ نقطة
,
, -أبدًا، مش رايحة!
, صاحت بها جليلة وهي تهز رأسها رافضة الذهاب مع ابنها البكري للتقدم رسميًا لخطبة تلك الفتاة تحديدًا.
, حك منذر رأسه بعصبية وهو يردد بهدوء ممتعض:
, -يعني يرضيكي أروح من غيرك يا ست الكل؟!
, ردت عليه بعبوس:
, -كفاية أبوك وأخوك!
,
, أضاف قائلًا بإلحاح:
, -وأنا مش هاعملها من غير ما تكوني راضية وموافقة!
,
, قطبت جبينها معللة سبب رفضها:
, -يا بني، يا حبيبي! أنا نفسي أفرح بيك، وأشوف عيالك بيتنططوا حواليا، بس.. بس مش من دي!
, سألها بانزعاج:
, -واشمعنى هي بالذات؟ يعني لو كنت وافقت على اللي في بالك كنتي هتبقي٣ نقطة
,
, قاطعته قائلة بجدية:
, -أنا بأدور على مصلحتك
,
, سحب منذر نفسًا عميقًا، ثم زفره على مهل قبل أن يقول:
, -يامه مش كل الرزق فلوس وعيال! الرزق في حاجات تانية، زي الصحة، وراحة البال، والسيرة الطيبة، والستر والرضا!
,
, ردت عليه قائلة بتبرم:
, -دي بتاعة أعمال وسحر و٣ نقطة
, قاطعها مداعبًا:
, -مش جايز سرها يبقى باتع معايا!
,
, نظرت له بحدة وهي تقول:
, -انت بتهزر يا منذر!
,
, ابتسم لها مضيفًا بإحباط:
, -طب أقولك ايه بس يا ست الكل؟ ما أنا احترت معاكي ومش عارف أخشلك من أي سكة
,
, بالفعل بذل مجهودًا كبيرًا في إقناعها، لكنها كانت متشبثة برأيها رافضة الإنصات إليه.
, تنهد بتعب، لكنه لم ييأس، فرسم على ثغره ابتسامة راضية.
, لف ذراعه حول كتفيها، وانحنى ليقبلها من أعلى رأسها قائلًا:
, -برضوه الفرحة مش هاتكمل إلا بيكي! ده انتي الخير والبركة!
,
, أشــار لها طه بيده مضيفًا بضيق:
, -خلاص بقى يا جليلة متحبكيهاش! عاجبك شحتفة ابنك؟
,
, نظر منذر لأبيه بامتنان لأنه كان يدعمه بقوة في رغبته، لم يتوقف عن إلحاحه عليها حتى استسلمت في الأخير، وضغطت على شفتيها قائلة بتبرم:
, -طيب.. خلاص!
,
, تهللت أساريره، وتنفس الصعداء هاتفًا بحماس:
, -ألف حمد وشكر ليك يارب!
, تابع طه قائلًا بجدية:
, -جهزولنا الأكل بقى خلونا نروح بعدها للزيارة دي
,
, ردت عليه زوجته بامتعاض:
, -ماشي يا حاج طه، أما نشوف أخرتها ايه!
,
, صـاح دياب مازحًا:
, -وأنا ماليش نصيب معاكو؟
, اتسعت ابتسامة جليلة قائلة:
, -انوي انت بس، وأنا يا حبيبي متأخرش عنك!
, أضـــاف منذر بمرح غامزًا لأخيه:
, -ايوه يا عم، واخد اللي على وش القفص!
, رد عليه دياب بتذمر زائف:
, -كفاية إني قاعد في قعره بقالي سنين!
,
, فهمت جليلة إلى ماذا يرمي ابنها، إلى زيجته السابقة التي انعكست بالسلب عليه، فمطت فمها قائلة بضجر:
, -بلاش السيرة الفقر دي، انسى يابني!
,
, هز دياب رأسه هاتفًا:
, -ماشي، خلينا مركزين مع منذر النهاردة، ده يومه!
,
, كان أخيه محقًا في هذا، فاليوم هو محلق في عنان السماء، ستحقق رغبته حتى ولو كانت مؤقتة، لكنه سينالها.
,
, ٢٦ نقطة
, بدت مزعوجة للغاية وهي تنتظر اتصاله الهاتفي لتنزل مع عمتها لانتقاء خاتم الخطبة، فهو يعد من الأمور ا?ساسية التي لا يمكن التغاضي عنها حتى وإن كانت معترضة عليها.
,
, وبامتعاضٍ بادٍ على وجهها اضطرت أن تبدل عباءتها وترتدي ثوبًا داكن اللون اختارته بسمة لها.
, ورغم عبوسها إلا أنها لا تنكر إعجابها به. في ظروف أخرى ربما كانت ستصبح أسعد الفتيات وأكثرهن فرحة، ولكن ?نها تعلم زيف الحقائق ففرحتها تعد مصطنعة.
,
, تأنق منذر على غير عادته، فبدا وسيمًا للغاية بثيابه المنمقة، أرادها أن تنبهر بهيئته، أن يلفت أنظارها، أن يشعرها بأهمية أبسط الأمور من منظوره حتى لو كانت في الملبس فقط.
,
, راقبته نيرمين من الشرفة بأعين نارية، كادت تفترسه نظراتها، تمنت لو كانت هي العروس، أن تتأبط في ذراعيه، أن تسير وسط الجيران بخيلاء ومرفوعة الرأس لأنها مخطوبة لسيد رجال المنطقة.
, كانت سترقص طربًا، وتقيم الأفراح والليالي الملاح، لكن ذهبت أحلامها أدراج الريح، وباتت تعيسة الحظ، خائبة الرجاء.
, ولم تكن لتفوت فرصة مثل تلك لتظهر حقدها وغلها، فأصرت على الذهاب معهم.
,
, ترقب على أحر من الجمر نزولها، وظل يتلفت حوله بضيق كبير حتى لمح طيفها.
, انتصب في وقفته، واتسعت ابتسامته، كما تحولت نظراته للإشراق.
, دنا منها قائلًا بنبرة متحمسة نسبيًا وهو مسبل عينيه نحوها:
, -صباح الخير، أخبارك ايه؟
,
, ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بحرج وهي تتحاشى النظر إليه:
, -الحمد****!
,
, وقبل أن يضيف كلمة أخرى، اقتحمت عليه نيرمين الحوار قائلة بعبوس:
, -مكانش ليها لازمة النزلة دي يا سي منذر، كنت هات حاجة صيني مضروبة، وأهي تقضي الغرض بردك!
,
, اشتدت تعابير وجهه من طريقتها الفظة، ونظر لها شزرًا قائلًا بتأفف:
, -لا مؤاخذة الصيني ده ليه ناسه، لكن أنا بأجيب بقيمتي!
, ردت عليه بامتعاض:
, -طبعًا قيمتك على عينا وراسنا يا سي منذر، بس الفلوس دي هتترمى في الأرض، فخسارة تضيعها على الفاضي!
,
, رمقها بنظرات ساخطة وهو يرد بصلابة:
, -مالكيش فيه!
,
, ثم استدار برأسه ناحية أسيف متابعًا:
, -يالا يا عروسة، اتفضلي!
,
, توردت وجنتي أسيف بشدة من تلك الكلمة، وبخطوات متعثرة تحركت صوب سيارته لتجلس في المقعد الخلفي.
,
, بعد لحظات كان الجميع بالسيارة، فانطلق بهم منذر نحو أشهر منطقة تضم أكبر محال الصاغة.
, أوقفها عند الناصية، ثم التفت برأسه للخلف لينظر مباشرة في عينيها متساءلًا باهتمام:
, -تحبي محل ايه؟
,
, احتارت أسيف في الرد عليه، فرأسها كان خاويًا، هي بصعوبة تحاول الاستمرار في تلك التمثلية الزائفة، لذلك ردت باقتضاب:
, -أي حاجة، مش هاتفرق!
, فرك طرف ذقنه بكفه متابعًا:
, -أنا في دماغي محل كويس، بس مش عارف إن كان ذوقي هيعجبكم ولا ٤ نقطة
,
, قاطعته عواطف قائلة بامتنان:
, -يا بني كتر خيرك، ده كفاية واقفتك معانا!
, رد عليها بإصرار جاد:
, -الأصول أصول يا ست عواطف!
,
, احتقنت عيناي نيرمين بشدة، واكتسى وجهها بحمرة مغتاظة.
, رمقت أسيف بنظرات حاقدة مشتعلة، وتمتمت مع نفسها بغضب:
, -يا بت المحظوظة، موديكي عند أشهر جواهرجي في الحتة كلها! بوز فقر!
, ٢٧ نقطة
,
, حدقت بشرود كبير في تلك الأشكال المختلفة للخواتم، وتنوعت نظراتها ما بين الإعجاب والقلق.
, أرادت شيئًا محددًا، وصممت على البحث عنه.
, أخرجها من حيرتها صوت منذر متساءلًا بحماس:
, -ها عجبتك حاجة؟
, ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بتردد:
, -يعني.. أنا في دماغي حاجة تكون خفيفة كده، ومش فيها شغل
,
, عقد ما بين حاجبيه متساءلًا باستغراب:
, -ليه؟
, نظرت له بجدية وهي تقول بغموض:
, -أكيد انت فاهم كويس!
,
, انتصب في وقفته، وحدق فيها بنظرات شبه صارمة مرددًا:
, -بس إنتي هاتتخطبي لمنذر حرب، مش أي حد، يعني لازم تكون حاجة من قيمتي وقيمتك!
, -بس ٤ نقطة
,
, رفع يده في وجهها مقاطعًا باقتضاب:
, -متجادليش كتير، هي كلمة!
,
, استدار برأسه ناحية صاحب محل الصاغة موجهًا حديثه له:
, -شوفلنا أحسن حاجة عندك!
,
, ابتسم الأخير بتكلف وهو يرد بدبلوماسية معتادة:
, -طبعًا يا فندم، حضرتك تؤمر!
,
, أزعجها تصرفه المعاند، فاقتربت منه أكثر، فتقلصت المسافة بينهما إلى خطوة واحدة، وزادت هي من نقصها بميلها عليها برأسها هامسة بضيق:
, -لو سمحت يا أستاذ منذر! إنت عارف إني مش موافقة على الموضوع من الأول، فأرجوك ماتضغطش عليا!
,
, تفاجأ من قربها الشديد، وشعر بخفقان شديد في قلبه.
, لم يتخيل للحظة أن تؤثر به هكذا، أن تحرك فيه شيئًا وبقوة.
, طالعته بنظرات متعجبة من تحديقه بها، فابتسم لها قائلًا بمزاح:
, -طب اتفرجي! ده حتى الفرجة ببلاش!
, نظرت له بضيق أكبر، فأصر قائلًا:
, -اتفرجي بس، متفقين؟
, اكتفت بالابتسام، وعاودت التحديق في الخواتم البراقة أمامها.
, راقبها بنظرات دقيقة متأملة لكل ردة فعل تصدر عنها، أراد أن يعرف وبشدة إلى أي شكل تميل، فقد دار في رأسه فكرة ما.
,
, استشاطت نظرات نيرمين على الأخير، وأحست بسخونة منبعثة من جسدها المتقد على جمراته الملتهبة.
, اقتربت من والدتها، ومالت على كتفها لتقول بصوت خفيض من بين أسنانها المضغوطة:
, -شايفة يا ماما الدهب، بصي!
, ردت عليها عواطف بإيماءة خفيفة من رأسها:
, -**** يعوضك بابن الحلال اللي يجيبلك أحسن منه!
,
, همست لها بحقد مسلطة أنظارها على ابنة خالها:
, -كفاية الوكسة اللي اتوكستها، وغيري واخد الحلو كله
,
, ربتت أمها على كتفها مرددة:
, -صفي قلبك، وربنا هيكرمك!
,
, بعد لحظات، كانت قد انتقت الأقرب إلى رغبتها، خاتمًا بسيطًا رقيقًا، والأهم خفيفًا في وزنه، فلم يكلفه إلا القليل.
, أزعجه اختيارها، ومع ذلك لم يعترض، وبضجر كبير اشتراه لها.
, نظرت لها نيرمين بسخط وهي تبرطم مع نفسها:
, -وش فقر طول عمرها، حد يقول للنعمة لأ؟
,
, غص صدرها بغيظها الحقود، فكورت قبضتها، وهمست لوالدتها قائلة بازدراء:
, -بأقولك ايه، أنا طالعة أشم شوية هوا برا لأحسن اتخنقت من الوقفة هنا!
,
, هزت عواطف رأسها بالإيجاب قائلة:
, -وماله يا بنتي! واحنا لما نخلص هانطلعلك على طول
, -طيب
, قالتها نيرمين وهي تعلق حقيبتها على كتفها متجهة نحو باب المحل.
, كانت تنفس نارًا من أذنيها، أوشكت على الانفجار من شدة غضبها المكتوم، لذلك فضلت الانسحاب مؤقتًا حتى تضبط انفعالاتها الهائجة.
, سريعًا ما تأججت مشاعرها المحتقنة حينما لمحتهما عند محل الصائغ المجاور، فضاقت نظراتها، وقست تعابير وجهها للغاية.
, انتوت نيرمين أن تفرغ شحنتها الغاضبة فيهما، خاصة أنها فرصة لا تعوض ٧ نقطة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٢

بتجهم واضح على تعابيرها المتصلبة دومًا اتجهت صوبهما، خاصة حينما رأت بصحبتهما رجلًا غريبًا وعائلته.
, لم يكن الأمر بحاجة إلى فطنة أو ذكاء خارق لتخمين السبب.
, تغنجت بجسدها واضعة يدها على منتصف خصرها، ثم نظرت لهما شزرًا قبل أن تنفرج شفتيها لتصرخ بتهكم:
, -أهلا بنسايب الهم والندامة!
,
, ارتفع حاجبي لبني للأعلى حينما رأتها قبالتها، وسريعًا ما حل الوجوم الممزوج بالسخط على نظراتها.
, هتفت بصدمة:
, -إنتي؟!
, رمقتهما نيرمين باحتقار وهي تتابع بوقاحة فظة:
, -ها، ده عريس الغفلة الجديد، لأ عرفتوا توقعوا صح المرادي!
, صاحت بها "شاهندة" بعصبية:
, -جرى ايه يا بت انتي، لمي نفسك يا مصدية بدل ما٤ نقطة
, قاطعتها نيرمين صارخة بانفعال متعمد وهي تلوح بذراعها في الهواء بحركات مستفزة:
, -مصدية مين يا مقشفة، يا ٥ نقطة، ده احنا دافنينه سوا يا حيلتها!
,
, حدق الرجل بغرابة في أوجه ثلاثتهن، لم يعرف بماذا يرد، فقد كان مدهوشًا بما يحدث حوله.
, ردت عليها لبنى مهددة:
, -وعزة جلال **** يا بنت الـ٦ نقطة يا ٧ نقطة لو ما اطرقتي من هنا، لأجيبك زي زمان تحت رجلي و٤ نقطة
,
, قاطعتها نيرمين صائحة بحدة:
, -اللسان الزفت مافيش أسهل منه
, تحركت لبنى خطوة نحوها محاولة الاشتباك معها بالأيدي هاتفة بتشنج:
, -انتي ناقصة رباية من يومك و٤ نقطة
, دفعتها نيرمين من يديها وهي تكركر ضاحكة لتثير أعصابها بطريقة مستفزة، ثم وجهت حديثها للرجل الذي كان يتابع الموقف باندهاش عجيب قائلة:
, -انفد بجلد يا أخ، دول عيلة سو، وربنا إنت أمك دعيالك عشان شوفتني النهاردة، العالم دول ولاد تيت، هيسفوا دمك!
,
, انفجرت فيها لبنى بوابل لاذع من السباب النابي، لكن لم يردع نيرمين هذا عن مخططها الانتقامي، فتابعت قائلة بامتعاض:
, -شايف البكابورت اللي طالع من بؤها، واسمها حماتك، دي حُمى بعيد عنك!
, دنت منه مشيرة بيدها:
, -اخلع منهم أحسنلك، خدها مني كلمة، ده أنا كنت معشراهم بقالي سنين
,
, ردت عليها شاهندة بصراخ حاد:
, -أخويا كان عنده حق يطلق واحد زيك مالهاش زابط ولا رابط، ده انتي تكفري العاقل يا ٥ نقطة!
,
, أضافت لبنى بوعيد شرس:
, -ما بقاش أنا أم حاتم يا بنت عواطف إن ما دفعت تمن ده غالي!
, ضحكت نيرمين عاليًا لتزيد من حنقهما، ثم تمايلت بميوعة بجسدها وهي تضيف:
, -كان زمان وجبر! احنا نحب نخدم بردك!
,
, أولتهما ظهرها وهي تبتسم بتشفٍ عظيم، شعرت بأن نيرانها المستعرة قد هدأت قليلًا، ردت إليهما جزءًا مما يستحقان.
, تنفست بعمق وهي تتجه عائدة إلى محل الصائغ.
, ٢٦ نقطة
,
, رغم اعتراضه عليه إلا أنه اضطر أن يرضخ مجبرًا لرغبتها، لكن هذا لم يمنعه عن التفكير في شيء أخر.
, هو راقب جيدًا نظراتها المتطلعة للمصوغات الذهبية، وجاهد لمعرفة متى تتلألأت حدقتيها بنظرات مشرقة، ومتى تنظر بفتور لها حتى يتمكن من اختيار هديته لها.
, وبجدية هادئة استطرد حديثه قائلًا:
, استنوني في العربية، وأنا هحاسب الأستاذ وأحصلكم
, ابتسمت عواطف قائلة بسعادة:
, -ماشي يا سي منذر!
,
, ثم ربتت على ظهر ابنة أخيها متابعة بلطف:
, -بينا يا أسيف
, اكتفت الأخيرة بالإيماء برأسها، وتحركت معها إلى خـــارج محل الصائغ.
, مـــال منذر على صاحب المحل قائلًا بخفوت جاد:
, -دلوقتي عاوزك تجيبلي الحاجات اللي هاشاورلك عليهم، وتلفهم في علبة محترمة عشان العروسة
,
, توهجت عيناي الصائغ بوميض متحمس وهو يرد:
, -تمام يا باشا، أحلى حاجة للهانم!
, التوى ثغره للجانب قائلًا باقتضاب:
, -ماشي!
, باهتمام واضح بدأ في اختيار ما انجذبت إليه حبيبته عله يسعدها بطريقة أو بأخرى.
, ٣٩ نقطة
,
, لاحقًا، أوصلهن منذر إلى المنزل مؤكدًا على قدومه بصحبة عائلته مساءً للتقدم رسميًا بخطبتها - حتى وإن كانت زائفة - فقد أراد اتباع الأعراف والتقاليد.
, وبالطبع لم تدخر عواطف وسعها في ترتيب المنزل وتجهيزه لاستقبال ضيوفها اليوم.
, فالليلة مميزة للغاية، وهي تريد الاحتفال بها فهي فرصة طيبة لتطرق الفرحة باب منزلها.
, هتفت بنشاط:
, -يالا أوام يا نيرمين، عاوزين نمسح الصالة و٤ نقطة
,
, التفتت بوجهها المتجهم نحوها مقاطعة بسخط:
, -ارحميني يا أمي، وسطي مقطوم من صباحية ****!
,
, تعقد وجه والدتها صائحة بانزعاج:
, -هو انتي عملتي حاجة؟ ده أنا اللي بيشيل وبمسح، مجاتش من نص ساعة احتجتلك فيها!
, ردت عليها نيرمين بتبرم ملوحة بيدها:
, -أنا مش عارفة ليه قلبة البيت دي؟ هي أول واحدة تتنيل تتخطب، ما أكم مليون غيرها ٤ نقطة
, قاطعتها عواطف قائلة بحدة:
, -خلاص، مش عاوزة منك حاجة، **** يديني الصحة! روحي لبنتك شوفيها!
,
, زمت فمها رامقة والدتها بنظرات حادة، ثم أولتها ظهرها متجهة نحو غرفتها مبرطمة بكلمات ناقمة.
, ٣٤ نقطة
,
, رفضت أسيف ارتداء أي ثياب مبهرجة رغم محاولات بسمة إقناعها بالعكس.
, حركت رأسها بالنفي قائلة بإصرار:
, -لا، مش عاوزة!
, ألحت عليها بسمة قائلة:
, -دي قراية فاتحة، يعني المفروض تكوني شيك و٣ نقطة
, قاطعتها أسيف قائلة بضجر:
, -احنا فاهمين إنها أي كلام، يعني مالهاش لازمة التمثلية دي!
,
, أشارت لها ابنة عمتها بيدها متابعة باهتمام:
, -ماشي، بس صدقيني هايبقى شكلك أحلى
, اتجهت هي ناحية خزانة الملابس بخطوات شبه عرجاء لتعيرها إحدى ثيابها.
, دققت النظر فيما تملك، ورغم محدودية الاختيارات، إلا أنها أثرت أن تعطيها أفضلهم.
, التفتت ناحيتها جاذبة ثوبًا رقيقًا من اللون الزيتي مصنوع من قماش الساتان هاتفة بحماس:
, -بصي بقى ده حلو خالص!
, رمشت أسيف بعينيها مرددة بحرج:
, -هو جميل و****، بس ٣ نقطة أنا٣ نقطة
, اقتربت منها قائلة بعبوس مصطنع:
, -عشان خاطري، يعني هاتكسفيني، يالا بقى!
,
, ابتسمت مستسلمة وهي تحرك رأسها:
, -ماشي! مش هازعلك!
, تبدلت سريعًا ملامحها للحماسة والسعادة، وتابعت قائلة:
, -أنا هاظبطك، متشليش هم!
, ٣٤ نقطة
,
, ترجل من سيارته وهو في قمة أناقته، حيث ارتدى حلة جديدة سوداء ناثرًا عليها عطره الهاديء، ومن أسفلها قميصًا أبيض اللون، وتأكد من إكمال وجاهته بوضع رابطة عنق تحمل لون الحلة.
, بدا كرجــال الأعمال في تلك الهيئة الكلاسيكية الرائعة.
, سلط أنظاره للأعلى محدقًا في الشرفة العلوية، ومخرجًا من صدره تنهيدة حارة.
, ها قد اقترب خطوة منها، حتى وإن كانت مؤقتة، لكنها حتمًا السبيل إليها.
, استند دياب بمرفقه على سقف السيارة رافعًا حاجبه للأعلى ليبدي إعجابه وهو يقول:
, -الشياكة ليها ناسها!
,
, أخفض أخاه نظراته نحوه، وابتسم له قائلًا بصوت رخيم وهو يجذب ياقة سترته للأسفل:
, -ها، ايه رأيك؟
, مط دياب فمه للجانب هاتفًا:
, -مافيش بعد كده!
,
, حدق منذر في باقة الورد التي يحملها أخيه متساءلًا بفضول:
, -انت جايب الورد ده لمين؟
,
, ارتبك دياب لوهلة متعللًا:
, -ده.. ده من الواد يحيى للأبلة بتاعته
,
, جمد منذر أنظاره عليه قائلًا بعدم اقتناع:
, -يحيى!
, رد عليه دياب مبتسمًا ببلاهة:
, -اه، أصل الواد مزوق زي أبوه!
,
, صاح طه بجدية وهو يشير بعكازه:
, -يالا يا شباب، مش هنتسامر كتير!
, التفت منذر ناحيته مرددًا بابتسامة صغيرة:
, -حاضر يا حاج!
, تنحنح بعدها بخشونة طفيفة، ثم أشــار له بيده ليتحرك أولًا كنوع من الاحترام الشديد لشخصه، بينما تأبطت جليلة في ذراع ابنها دياب، وتهادت في خطواتها معه، في حين تسابقت أروى مع يحيى في الصعود على الدرج.
, ٣٤ نقطة
,
, شعرت بدقات قلبها تتلاحق من توترها الواضح.
, جف حلقها، ولأكثر من مرة ارتوت من المياه المسنودة على الكومود.
, وضعت بسمة اللمسة الأخيرة على **** رأسها الذي فضلت أن يكون من اللون الذهبي ليتلاءم مع ثوبها.
, رفعت سبابتها قائلة بانبهار:
, -واو، شكلك جميل أوي!
,
, استدارت أسيف برأسها نحو المرآة لتطالع وجهها الذي تحول للإشراق بفضل جهود ابنة عمتها.
, رمشت بعينيها غير مصدقة أنها نفسها، هي لم تضع من قبل مثل تلك الكمية من مساحيق التجميل، بل على الأرجح لم تضع إلا أحمر الشفاه الرخيص وفي المناسبات الهامة فقط.
,
, وضعت بسمة قبضتيها على كتفيها بعد أن وقفت خلفها، ثم سألتها باهتمام:
, -أنفع يا قمر؟
, أجابتها قائلة بحياء:
, -هو أنا أقدر أتكلم! بجد انتي جميلة أوي! أنا.. مش عارفة أقولك ايه
, -متقوليش حاجة، المهم تتبسطي النهاردة حتى لو شوية
, -**** يقدرني وأردلك جميلك ده
, -مافيش جمايل بينا! احنا بقينا اخوات، صح؟
, -أيوه طبعًا.
,
, تابعتهما خلسة من فتحة الباب المواربة وهي تتقد غيظًا من استحواذها على أختها.
, استشاطت نظراتها، وشعرت بغلي الدماء في عروقها.
, همست نيرمين لنفسها بنبرة مغلولة:
, -و**** لأعكنن عليكي، إنتي مش هاتخلصي مني بالساهل!
, انتبهت لقرع الجرس، فتحركت متسللة متوارية عن الأنظار.
,
, هتفت بسمة بابتسامة عريضة:
, -الظاهر العريس جه، خليكي هنا شوية لحد ما نناديكي
,
, انزعجت قسمات وجه أسيف هاتفة بضيق:
, -بلاش نكبر الموضوع أوي، هو ٤ نقطة
, وضعت الأخيرة إصبعها على شفتيها مقاطعة بجدية:
, -ششش، هو كبر لوحده، المهم افردي وشك بس عشان الميك آب مش يبوظ!
,
, ثم داعبت طرف أنفها بإصبعها، ونظرت لها بأعين لامعة قبل أن تجذبها نحوها لتحضنها بحنو صـــادق.
, ٣٣ نقطة
,
, -يا أهلًا وسهلًا بالغاليين، شرفتونا!
, قالتها عواطف بنبرة مرحبة للغاية وهي تفتح الباب على مصراعيه سامحة لضيوفها بالولوج للداخل.
, رد عليها طه بخشونة هادئة:
, -كتر خيرك يا عواطف!
,
, اقتربت من جليلة لتحتضنها متابعة بسعادة:
, -نورتيني يا ست جليلة، و**** احنا زارنا النبي النهاردة!
, ابتسمت لها مجاملة وهي ترد باقتضاب:
, -تسلمي!
, تساءلت أروى قائلة بمرح:
, -مش هاتسلمي عليا أنا ويحيى يا طنط عواطف؟
,
, انحنت بجسدها قليلًا نحوها، واحتضنت وجهها الطفولي براحتيها لتقبلها قائلة بود:
, -ده السلام كله ليكي يا غالية يا بنت الغاليين!
,
, ثم ضمت الصغير يحيى إلى صدرها لتقبله من جبينه هو الأخر.
, تنحنح منذر بخشونة ليلفت انتباهها مازحًا:
, -ومافيش اتفضل للعريس و٣ نقطة
, قاطعته قائلة بحرج كبير:
, -يا خبر أبيض، هو احنا نقدر، ده بيتك يا سي منذر، اتفضل.. اتفضل!
,
, استقبلتهم في غرفة الصالون مبدية سعادتها الغامرة بقدومهم.
, وبامتعاض مزعوج ولجت نيرمين إلى الداخل لترحب بهم.
, بادلتها جليلة نظرات أسفة وشبه حزينة لعدم وقوع الاختيار عليها، كانت تتمنى أن تكون هي العروس المنشودة، لكن خاب رجاؤها، وفي نهاية المطاف القرار الأخير بيد ابنها البكري.
, خرجت من شرودها المؤقت على هتاف عواطف القائل:
, -اتفضلوا الحاجة الساقعة!
,
, ظلت أنظاره معلقة بباب الغرفة مترقبًا ظهورها بين لحظة وأخرى.
, لم يرغب في إضاعة فرصة أن يكون أول من تقع عليها عينيه.
, انتبه لصوت أبيه الأجش وهو يتساءل بجدية:
, -أومال العروسة فين؟ تقلانة ولا ٣ نقطة
, أخفت عواطف ابتسامتها الحرجة بكف يدها وهي تجيبه:
, -ما انت عارف البنات يا حاج طه، بيتكسفوا في المواضيع دي!
, هز رأسه بتفهم، ثم ربت على فخذ ابنه متابعًا بنبرته الجادة:
, -وماله، بس عريسنا عاوز يقول الكلمتين اللي عنده في وجودها!
,
, ردت عليه عواطف بابتسامة متسعة للغاية:
, -ثانية وهاتكون عندكم يا حاج!
,
, رغم إدراكها أنها لا تشغل باله في تلك اللحظة إلا أنها لم تفقد الأمل، جمدت نرمين نظراتها عليه طامعة في التفاتة خاطفة منه نحوها.
,
, كــــادت دقات قلبها تصم أذنيها من فرط الارتباك والتوتر.
, ازدردت ريقها لأكثر من مرة وهي تقدم خطوة وتؤخر الأخرى، لم تشعر بمثل هذا الاضطراب المنفعل من قبل.
, دعمتها بسمة في مشيتها، أو بالأحرى استندت عليها أثناء سيرها المتباطيء نحو غرفة الصالون.
, استشعر فؤاده وجودها قبل أن يراها، فثبت أنظاره على الباب.
, خفق بشدة حينما رأها تطل كالبدر في تمامه عليه.
, لم يشعر بجسده وهو يهب واقفًا مستقبلًا حضرتها الآسرة بتلهف كبير.
, التوى ثغر منذر للجانب مُشكلًا ابتسامة متشوقة، ولمعت نظراته ببريق الحب.
, لم يختلف حال أخيه عنه كثيرًا، بل ربما أشد وطــأة منه، هو يحترق شوقًا بداخله، تبدلت تعابير وجهه للإشراق، ولم يكترث بافتضاح أمره، فالمهم الآن أن تشعر هي تحديدًا بما يكنه لها في قلبه.
,
, هتف الحاج طه قائلًا وهو يضرب بعكازه الأرضية:
, -تعالي يا عروستنا!
,
, وضعت عواطف يدها على ظهرها لتدفعها نحو الداخل متابعة بنبرة مشجعة:
, -خشي يا بنتي، سلمي على عمك الحاج طه، والست جليلة!
, أطرقت رأسها في خجل وهي تتجه نحوه أولًا، ثم مدت يدها لمصافحته، وتحركت بحذر نحو جليلة لترحب بها.
, رمقتها الأخيرة بنظرات شبه ضائقة، لكن بقي وجهها خاليًا من أي تعبيرات مزعوجة.
, راقبتها أعين منذر، ومع كل خطوة تخطوها بقربه، كانت أنفاسه تتسارع، وحماسه يزداد.
, استقر الجميع في مجلسه، وبدأ طـــه في إتمام مهمته بالتقدم لخطبتها.
, سلط أنظاره عليها متساءلًا بصرامة:
, -ها يا عروسة، ايه رأيك؟
, فركت أسيف أصابعها بارتباك كبير، صمتت للحظات تفكر في الأمر، ورغم إعلانها موافقتها مسبقًا، إلا أن تنفيذ الأمر على أرض الواقع أصعب بكثير.
, تصارعت الأفكار في رأسها، وتخبطت قرارتها، مازالت تخشى من تلك الإقدام عليها.
, كانت أحلامها حول تلك الليلة مختلفة كليًا، فقد تمنت أن يكون والدها جالسًا بزهو في منزلها ومن حوله المعارف والأقرباء.
, يبدي شروطه بإباء وثقة، فمن سينال درته المكنونة لابد أن يستحقها.
, أما والدتها فكانت تحلم بها تزينها، تضع فوق **** رأسها تاجًا صغيرًا ليزيدها جمالًا.
, لمعت عيناها تأثرًا، وسحبت نفسًا عميقًا لتضبط انفعالاتها قبل أن تبكي بلا تبرير.
, طــال صمتها، وزاد قلقه، أوشك صبره على النفاذ من سكوتها المريب.
, تجمدت عيناه عليها محاولًا سبر أغوار عقلها.
, دومًا تفاجئه بتهورها، بقرارات عجيبة تصدمه.
, للحظة ظن أنها ربما سترفض، وستتعمد إحراج عائلته، لكن تبددت أوهامه، حينما همست بنبرة شبه متلعثمة وقد اعتلت الحمرة وجهها:
, -أنا.. انا موافقة!
,
, تنفس الصعداء لموافقتها، وهتف غير مصدق:
, -يبقى نقرى الفاتحة!
, أيده والده قائلًا بابتسامة هادئة:
, -وماله، على بركة ****، الفاتحة .. بسم **** الرحمن٥ نقطة
,
, كانت معظم الأوجه فرحة، أو على الأغلب راضية بتلك الخطبة، إلا وجهها تحول للإظلام، ونظراتها للقتامة.
, كتمت حقدها في قلبها مجبرة، لكن وعيدها بالانتقام وتعكير الصفو بينهما لن يخبو أبدًا.
,
, أطلقت عواطف زغاريد متعاقبة كتعبير رمزي عن فرحتها، وإعلانًا صريحًا عن وجود مناسبة سارة بأهل هذا المنزل، أعقبها هتاف جليلة:
, -لبس عروستك الدبلة يا ابني!
, أومــأ برأسه مرددًا:
, -حاضر..
, نهض من مكانه، ومد يده ليتناول العلبة الصغيرة الحمراء التي تحوي خاتمي الخطبة من والدته، ثم دنا من عروسه.
, تنحت بسمة جانبًا مفسحة له المجال ليجلس على مقربة منها، ووقفت على الجانب تتابعهما بسعادة واضحة.
,
, أخرج منذر الخاتم الخاص بها من العلبة، وأسبل عينيه نحوها قائلًا بهدوء:
, -ايدك يا عروسة!
, مدت يدها المرتجفة نحوه، وزادت رجفتها وهو يتلمس كفها محاولًا وضعه في إصبعها.
, سحبت يدها للخلف مكملة إرتدائه، وتحاشت النظر نحوه تمامًا.
, انتظر أن تفعل مثله، لكنها بقيت على جمودها، فمال عليها هامسًا بمرح:
, -وأنا مش هالبس دبلتي ولا ايه؟ أنا معاكي في الخطوبة دي!
,
, ابتسمت رغمًا عنها لتصرفها الأخرق، وتناولت منه خاتمه، ثم بإصبعين مرتعشين جاهدت لوضعه في إصبعه الغليظ.
, ضغطت على شفتيها بقوة وهي تفعل هذا، فبدت كمن يقوم بعملية جراحية حساسة للغاية.
, نظر لها مدهوشًا، لكنه لم ينكر استمتاعه بالأمر.
,
, ٣٣ نقطة
, على الجانب الأخر، استغل دياب الفرصة للتودد إلى حبيبته، فاقترب منها بدرجة كبيرة حتى أوشك ذراعه على ملامسة ذراعها.
, شعرت بسمة بالحرج من جرأته، فنظرت له بقوة، فابتسم لها بسخافة.
, رفع فجــأة باقة الورد أمام وجهها دون أن يعلق، فسألته بغرابة:
, -ده ليا؟
, أجابها مازحًا:
, -لأ للفازة، لاقيتها فاضية كده ومكتئبة فقولت أنعنشها!
,
, انعقد ما بين حاجبيها بدرجة كبيرة، وردت عليه بعبوس قليل:
, -حضرتك جاي تهزر!
,
, رد عليها معاتبًا:
, -هو في حضرتك بعد دش المياه إياه، فاكراه يا أبلة؟
,
, توردت وجنتاها كليًا من تذكيره لها بذلك الموقف المشحون بينهما.
, تابع قائلًا بابتسامة لطيفة:
, -عمومًا احنا اتصفينا خلاص، والورد ده ليكي يا أبلة!
,
, شعر بانجذاب بنطاله الرمادي للأسفل، فأخفض بصره ليجد صغيره ممسكًا به.
, داعب دياب خصلات رأسه بكف يده بحنو أبوي واضح.
, هتف يحيى ببراءة:
, -سلامتك يا مس بسمة!
, ردت عليه بنبرة رقيقة:
, -**** يسلمك يا حبيبي
, أشـــار الصغير نحو ساقها متساءلًا بفضول طبيعي:
, -رجعلك بتوجعك يا مس؟
, أجابته باقتضاب وهي تعض على شفتها السفلى:
, -يعني.. شوية!
, تابع الصغير مرددًا ببراءة وهو يوزع أنظاره بينهما:
, -خلاص قولي لبابي يشيلك!
,
, ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة واضحة، وشهقت بصدمة خافتة:
, -نعم
,
, تفاجأ دياب هو الأخر من جملة ابنه، فوضع يده على فمه قائلًا بابتسامة حرجة:
, -مسحوب من لسانه العفريت ده!
,
, أبعد الصغير يحيى كف والده عن شفتيه ليوضح مقصده ببراءة:
, -أنا لما رجلي بتوجعني بأقول لبابي ده وهو بيشلني على طول فمش بأحس بأي وجع، فانتي قوليله زيي!
,
, رفعت بسمة أنظارها نحو والده لترمقه بحدة وهي ترد بسخرية طفيفة:
, -لأ فيه الخير، حنين من يومه!
, حك دياب مؤخرة رأسه مضيفًا بسذاجة مرحة:
, -احم.. مش عارف الواد ده طالع غلباوي لمين، حاجة غريبة، أنا مش كده خالص!
,
, ضاقت نظراتها نحوه حتى كادت تخترقه وهي تقول بجدية:
, -انت هاتقولي!
, ٣٩ نقطة
,
, وقبل أن تفيق من حرجها الواضح أمام الجميع، اندهشت من إعلانه الصريح بنبرة ثابتة:
, -دي بقى هديتي للعروسة، يا رب بس تعجبك!
,
, حركت أسيف عينيها نحوه لتحدق فيه بعدم تصديق.
, ابتسم لها منذر وهو يخرج تلك العلبة المغلفة من الحقيبة القماشية ليضعها أمامها.
, أومــأ لها بعينيه متابعًا بهمس جاد:
, -افتحيها يا عروسة!
,
, تجهمت قسمات وجهها إلى حد كبير حينما رأت ما أهداها إياه؛ لقد انتقى لها من المشغولات الذهبية ما يخطف الألباب، ويذهب العقول.
, شعرت بخفقان قوي في قلبها وهي ترى بريق ذلك الذهب الذي تتخطى قيمته الألوف بكثير، وما زاد من توترها هو تعمده اختيار تحديدًا ما أحبته من أشكال رقيقة.
, حدقت فيه مرة أخرى بنظرات معاتبة، وقبل أن تحرك شفتيها لتعترض هتف بصرامة جادة:
, -النبي قبل الهدية، وهدايا منذر حرب مش بتترد مهما حصل!
, رمقها بنظرات أكثر شدة وصرامة ليمنعها من الرفض.
,
, صفعة أخـــرى مهلكة تلقتها نيرمين على وجهها بعد تصرفه المفاجيء. لم يطرأ ببالها أن يقدم لها ذلك الكنز الثمين كهدية متواضعة لمجرد خطبتهما.
, صرت على أسنانها بقوة حتى كادت تحطمهم من فرط غيظها المحتقن، فتلك التعيسة المعدمة حازت على الهيبة والمال معًا ٦ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٣
رجفة غريبة تسربت إلى جسدها بعد مفاجأته تلك، رمشت بعينيها متحرجة من اهتمامه الزائد بأصغر التفصيلات. فلم يطرأ ببالها أن يقدم لها شيئًا باهظًا كتلك المشغولات الرقيقة.
, هو انتقى من أجلها ما أحبته حقًا، شعرت أسيف بسخونة طفيفة منبعثة من وجنتيها، فاستشفت على الفور أنهما توردتا من الخجل، وعلى قدر المستطاع تجنبت النظر إلى عينيه.
, ابتسم لها منذر بعذوبة لطيفة، أراحه ردة فعلها الهادئة، فهي لم تعترض على هديته أو حتى تنبذها كعادتها حينما يقدم لها أي شيء، لكن تلك المرة مختلفة من وجهة نظره، فهو تعامل معها كمحب حقيقي متيم بها. عبر لها بصدق عن مشاعره بطريقته الخاصة، حتى وإن كلفته الكثير، فالأهم أن يصل إلى قلبها، أن تثق به، وأن تشعر بما يكنه نحوها.
, هتفت عواطف بتفاؤل:
, -**** يجعل الفرحة دايمة عليكم يا رب!
, رد عليها طه بإيماءة خفيفة من رأسه:
, -أمين!
, ظلت أنظار منذر مثبتة عليها، يطالعها بشغف وتمني، اليوم اقترب منها خطوة، وغدًا سيكون الأقرب إلى وجدانها.
, ٣٦ نقطة
,
, لن يجعلها أبدًا تمرق على خير دون أن يضع لمسته المُعكرة لصفو الأجواء الهادئة، طالع شرفة المنزل بأعين نـــارية متأججة، وبنظرات تحمل البغض والحقد اللا محدود له ولعائلته. اعتبر المسألة أمرًا شخصيًا، تعديًا على ما يخصه، ولن يتركه هكذا.
, وصل إلى مسامعه أنباء الخطبة، فالأخبار تتناقل في تلك المنطقة كما تنتشر النار في الهشيم. ترقب بأعصاب محترقة مجيء لحظته المناسبة لإفساد كل شيء، وقتله إن لزم الأمر.
, شدد مجد من أصابعه القابضة على رأس تلك العصا الغليظة، ثم أخفض عينيه الحادتين ليلتفت برأسه نحو رجاله المرابطين خلفه هاتفًا فيهم بقوة متشنجة:
, -خالوهالي على الأرض!
, رد عليه أحدهم بابتسامة عابثة:
, -أوامرك يا معلم مجد!
,
, رفع الرجـــال عصيهم للأعلى ليهوا بعدها على سيارة منذر المرابطة أمام مدخل البناية محطمين الزجاج بأكمله، ومتعمدين تخريبها.
, دوى صوت التكسير عاليًا، فانتفض أغلب القاطنين بالمنطقة للشرفات وللطرقات لرؤية ما يحدث، لكن لم يتحرك أحدهم قيد أنملة، فالمتسبب في الشجار هو ابن أبو النجا، البلطجي الشهير.
, استند مجد بكفه على مقدمة السيارة ليصعد عليها بثقل جسده، وانتصب واقفًا عليها. أمسك بقبضتيه الغليظتين برأس عصاه، ورفعها عاليًا في الهواء، ثم هوى بكل غضبه المكتوم بداخله على سقفيتها ليحدث بها انبعاجًا قويًا.
, هلل رجاله بصياح مرتفع مظهرين حماستهم المفرطة لجرأته العنيفة، وزادوا من شراستهم.
, ٣١ نقطة
, تعللت بحاجة رضيعتها لتبديل حفاضها لتنأى بنفسها عن تلك الأجواء الخانقة لها، وولجت إلى داخل غرفتها كاظمة غيظها إلى أقصى حد. ألقتها بإهمال على الفراش ضاغطة على رأسها المشتعل بداخلها بيديها.
, سحبت نفسًا عميقًا، وزفرته على مهل محدثة نفسها بحنق:
, -دي مش النهاية أبدًا!
, بكت الرضيعة رنا بصراخ حاد، فالتفتت ناحيتها محدقة فيها بنظرات جافة، اقتربت منها لتحملها على كتفها، وبدأت في إطعامها. وفجأة جذبتها تلك الأصوات الحامية بالخارج، فاتجهت للشرفة لترى ما الأمر. اتسعت نظراتها فزعًا حينما رأت ما يحدث بسيارته، لوهلة تجمدت في مكانها مشدوهة، لكن سريعًا ما ارتخت ملامحها لتتشكل على ثغرها ابتسامة لئيمة.
, همست لنفسها بمكر:
, -أحسن، خليها تولع!
, زادت ابتسامتها حتى برزت نواجذها، وتابعت مستمتعة تنفسيه عن غضبه حتى توقف عما يفعل لتلتقي نظراتها بأعينه الشرسة.
, رفعت نيرمين حاجبها للأعلى مبدية إعجابها به، ورمقها هو بنظرات قوية قاتمة. ناوله أحد رجاله زجاجة مليئة بمواد مشتعلة، فرفعها أمامها قبل أن يقذفها بعنف بداخل السيارة لتطلق جذوة اشتعالها.
, رأت ألسنة اللهب تتراقص ببراعة، فشعرت بارتياح رهيب، ها قد حقق ذلك البلطجي غرضها دون أن تبذل أدنى مجهود. تحركت بتمهل نحو الداخل، وأسندت رضيعتها على الفراش، ثم تعمدت تصنع العبوس والخوف، وهرولت ناحية غرفة الصالون صارخة بفزع زائف:
, -اِلحق يا سي منذر، اِلحق عربيتك!
,
, انتبه لها متساءلًا باقتضاب:
, -خير في ايه؟
, أشارت بيدها قائلة بنبرة مذعورة:
, -مـ٣ نقطة مجد ورجالته بيولعوا في العربية تحت!
,
, حلت الصدمة على أوجه الجميع، وتباينت ردود أفعالهم؛ حيث هب منذر واقفًا من مكانه مرددًا بصدمة واضحة:
, -مين!!
,
, وضعت عواطف يدها على فمها كاتمة شهقة قوية، بينما برقت نظرات أسيف بهلع كبير.
, تجمدت أنظار بسمة على وجه دياب الذي تحول لكتلة ملتهبة من الحمرة الغاضبة حينما هدر بصوته المتشنج:
, -ابن الـ٥ نقطة، مش هاسيبوه! الظاهر نسى نفسه
,
, انكمش الصغير يحيى في نفسه، وضمته أروى بذراعيها. لطمت جليلة على صدرها متوجسة خيفة مما سيحدث، وصاحت بلا تردد محاولة منعهما من الاشتباك معه:
, -استنوا يا ولاد رايحين فين
,
, اندفع منذر إلى خارج الغرفة صائحًا بصوت محتد:
, -مش سايبه إلا لما أدفنه!
, انطلق والده في إثره قائلًا بامتعاض:
, -اهدى يا منذر، أنا هاتصرف!
, لم يصغِ إليه، بل واصل ركضه المتهور إلى الخارج، وتبعه أخيه بخطى سريعة. اتكأ طه على عكازه محاولًا اللحاق بهما قبل أن يتهور أحدهما في ذروة غضبهما الأعمى، بينما تحركت النساء نحو الشرفة ليتابعوا منها ما يدور بالأسفل، وبقي الصغار بصحبتهن.
, مالت عواطف على ابنتها هامسة لها:
, -ولعتيها وارتاحتي
, ردت عليها نيرمين بصوت خفيض وهي تحدجها بنظرات حادة للغاية:
, -وأنا ذنبي ايه؟ ده كل المصايب جاية على وش البومة اللي هنا!
, رمقتها والدتها بنظرات مزعوجة منها، وكتمت في نفسها غضبها منها كي لا تتسبب في إحراجها أمام ضيفتها.
,
, التصق وجه الصغير يحيى وعمته أروى بحافة الشرفة مراقبين بانتباه شديد ذلك الشجار المحتد رغم عدم فهمهما لتبعاته، لكنه فضول الصغار المتحمس دومًا لكل ما هو مفعم بالحركة والإثارة.
, أطلت أسيف برأسها لتجده وسط رجاله متباهيًا بأفعاله المشينة، جذعت بخوف بائن حينما رأته مسلطًا أنظاره عليها، وكأنه يرسل لها رسالة صريحة عبر نظراته الشرسة لها أنه لن يتركها لحالها. رفع عصاه للأعلى مشيرًا نحوها، فقفز قلبها في قدميها من شدة الخوف.
, بدا الرعب واضحًا في مقلتيها، شخصت أبصارها، وشحب لون بشرتها. ارتجفت رغمًا عنها، فتراجعت للخلف متجنبة نظراته المخيفة.
, ارتطمت بابنة عمتها التي هتفت بضيق كبير:
, -خلي بالك يا أسيف!
, التفتت ناحيتها ولم تجد من الكلمات البسيطة ما تقوله لها. تحركت بسمة بحذر بالغ لتقف إلى جوارها مجبرة إياها على العودة لحافة الشرفة من جديد لتنظر إليه مُكرهة.
, هتفت من بين أسنانها بحنق:
, -الحيوان ده عاوز يتربى! مفكرها سايبة
, لم تسمع كلمة واحدة مما قالته، بل ظلت محاصرة في دائرة خوفها المذعور من ذلك الهمجي العنيف.
, حركت جليلة رأسها بتوتر هاتفة بصوت خفيض متضرع وهي تبتلع ريقها:
, -احمي يا رب ولادي، أنا مش ناقصة أخسر حد فيهم!
,
, ارتفعت ألسنة اللهب في الهواء بعد تفحم أجزاء كبيرة من السيارة، وأصبح المشهد مهددًا للغاية.
, أقل من ثوانٍ معدودة، و دوى انفجار عنيف اهتزت له جميع البنايات المحيطة، ثم أعقبه أصوات صراخات مذعورة من الجميع.
, احتمت النساء والصغار بالداخل بعده، وأغلقن الشرفة متجنبين تلك الشظايا المتقاذفة، لكن لم تتحمل نيرمين الاختباء بالداخل دون متابعة مجريات الأمور فولجت سريعًا إليها.
, ٢٥ نقطة
,
, تجمدت أقدامهم قسرًا عند مدخل البناية بمجرد سماع صوت الانفجار، اضطروا للاحتماء للحظات ريثما تهدأ النيران المستعرة. انطلق منذر كالمغيب نحوه هادرًا بتهديد شرس:
, -إنت حفرت قبرك بايدك يا ابن أبو النجا!
,
, فتح له الأخير ذراعيه ليستقبله هاتفًا ببرود مستفز:
, -وأنا مستنيك يا عريس، ماهو مش معقول ماوجبش معاك الليلادي!
, ألقى مجد بعصاه في الهواء، واندفع كالثور الأهوج نحوه ليشتبك معه بالأيدي. تعالت الصيحات المهللة والمفزوعة في نفس الوقت لتلاحمهما، فالمشاجرة حاليًا بين قطبي العائلتين.
, كان دياب على وشك الانضمام إليه لكن شكل رجال مجد حائلًا ليمنعوه، وقيدوا حركته تمامًا. فأجبر على التشاجر معهم.
, لم يجرؤ أحد على التدخل بينهم، فقط مراقبين متابعين لما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
, سدد منذر لكمات عنيفة متتالية في فك غريمه ليطرحه أرضًا، فارتطم رأس الأخير بقوة بالأرضية الصلبة، لكن صوت ضحكاته المكركرة تشير إلى استمتاعه بالأمر. هو أفسد عليه ليلته بنجاح بارع، وحولها إلى كارثة مأساوية.
, جثى منذر فوقه منتويًا خنقه، لكن دفعه الأخير بركبته بضربة عنيفة ومباغتة أردته للخلف مترنحًا. استغل الفرصة لينهض من مكانه ثم انقض عليه كانقضاض الأسود ليلكمه أسفل معدته بشراسة، فانحنى بجذعه مجبرًا للأمام.
, تأوه منذر بصوت مكتوم، وتحامل على نفسه ليرد له الضربة، لكنه لم ينتبه لذلك الجنزير المعدني الذي قُذف في الهواء ليمسك به خصمه، ويطوقه حول عنقه.
, جذبه مجد بيديه متعمدًا خنقه بكل ما أوتي من قوة، فعجز عن التنفس بسهولة.
, اصطبغ وجهه بحمرة مختنقة، وجاهد لنزع ذلك القيد الحديدي عنه عنقه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
,
, رأته نيرمين من أعلى الشرفة، فخفق قلبها مفزوعًا عليه، هي أرادت التخلص منها، وليس منه،
, صرخت بلا وعي:
, -سي منذر!
,
, انتبه على إثر صراخها من هن بالداخل، فولجن للشرفة دون تردد، تعالت صراخاتهن المذعورة حتى بح صوتهن. تجمدت أنظار أسيف المرتعدة على وجه منذر، شعرت بوخزة عنيفة في صدرها، بخوف كبير يجتاح كيانها.
, تحركت رأسها بصورة هيسترية محاولة البحث عن شيء ما لتستخدمه كوسيلة لتشتيت الانتباه.
, وقعت عيناها على سلة (المشابك) الخشبية، فمالت نحوها لتحملها، ثم قذفتها بأقصة طاقتها في اتجاهه.
,
, ارتطمت السلة برأس مجد بعنف قوي، فأرخى قبضتيه قليلًا عن الجنزير متأثرًا بقوة الضربة.
, اتجهت أبصاره للأعلى ليراها محدقة به بشراسة مشتعلة.
, تلك اللحظة التي فقد فيها تركيزه أعطت الفرصة لمنذر ليتحرر من قيده المهلك، ودارت الدوائر، وتمكن من فرض سيطرته عليه، حيث طوق رأسه بذراعه، وأجبره على الانحناء، ثم هوى على رأسه بكمات أشد عنفًا عن ذي قبل. أفرغ فيه ثروته المشحونة بداخله، وساعده على ذلك شحذه لهمته المنتوية إذاقته ما يستحق على مرأى ومسمع من الجميع.
, لم يصمد مجد كثيرًا بل تهاوى جسده من عنف الضربات والركلات. بدا شبه مغيب عن الوعي، وترنح جسده بقوة.
, طرحه منذر أرضًا، وانحنى ملتقطًا العصا عن الأرضية، ثم بكل شراسة ضربه في ساقيه مسببًا له ألمًا مبرحًا.
, صرخ الأخير متأثرًا، ومع ذلك لم يرفق به، بل استمر في ضربه حتى خبت قوته وتخدل ذراعه نوعًا ما.
, تفاجأ أتباع مجد بما حل برجلهم، ولم يكن يفيقوا من دهشتهم حتى حُصروا برجال عائلة حرب. تولوا هم مهمة ضربهم بوحشية حتى أسقطوهم أرضًا، ثم قاموا بسحلهم على الأرصفة الخشنة حتى تمزقت ثيابهم، وتقطعت جلودهم.
,
, هدر منذر صارخًا بقوة:
, -خلوهم عِبرة لكل كلب فكر يجي على أسياده!
, انخفضت أنظاره نحو مجد الغارق في دمائه ليضيف بقسوة:
, -والـ٨ نقطة ده هايكون أولهم ٣٤ نقطة !!
,
, أنقذته من موت محتوم بغريزتها التي تحركت فورًا، وأجبرتها على الإقدام على تلك الخطوة الشجاعة. فزع قلبها لرؤيته بين الحياة والموت، ففعلت ما استطاعت، ونجحت فكرتها رغم بساطتها.
, شعرت بتلك الأذرع تضمها بقوة وكأنها تحميها، فقط لكونها تصرفت بجرأة من أجله، فتغيرت الأمور معاها تمامًا، أدارت رأسها للجانب لتجد وجهها البشوش الباكي يشكرها بامتنان أم حنونة لمساعدتها ابنها البكري. كانت شبه واعية لما حولها، هي تصرفت برعونة هوجاء لكن أتى في النهاية بنتائج طيبة.
, ربتت على كتفها جليلة قائلة بصوت متأثر:
, -**** يكرمك يا بنتي، انتي.. انتي نجتيه!
, -أنا.. معملتش حاجة!
, قالتها أسيف بصوت متردد محاولة تبرير فعلتها الطبيعية.
, وضعت عمتها هي الأخرى ذراعها حولها لتضمها قائلة:
, -بنت أخويا طيبة وبنت حلال!
,
, انزعجت نيرمين من انقلاب الوضع معها، وضاقت نظراتها لتصبح أكثر حدة وغيظًا. هي أرادت التفريق بينها وبين عائلته، ولكن حدث العكس معها، بل لعب الحظ لعبته، وأصبحت محبوبتهم.
, هتفت فجأة بنزق وقد انعقد ما بين حاجبيها بشدة:
, -تعالوا نخش جوا أحسن، بدل ما تتحدف حاجة كده ولا كده!
, اعترضت جليلة مرددة:
, -مش قبل ما أطمن على ٤ نقطة
, قاطعتها نيرمين بإصرار عابس:
, -يالا يا خالتي، البركة في سي منذر، هو خلاص لم الليلة وبقت عنده!
, أومــأت برأسها مستسلمة، ثم وجهت أنظارها نحو أسيف لتتابع بابتسامة سعيدة:
, -يباركلي فيكي يا عروسة ابني!
, توردت وجنتي الأخيرة بخجل وهي تقول:
, -شكرًا!
, ٣٥ نقطة
,
, أقسم أن يجعله عبرة لمن لا يعتبر، أن يذيقه ما يستحق، أن يردعه للأبد كي لا يعاود النهوض من جديد ليبطش في الضعفاء، وخاصة حبيبته.
, لن يلتفت لأي اتفاقات ودية أُبرمت بين العائلتين من قبل، سينسى أي صلح سلمي بينهم، هم في كل مرة يخطئون وينقضون العهد، ثم يبدون ندمهم، ويعاود فاقد العقل الكَرة ويخرب كل شيء.
, أمسك به منذر من قدمه، ونظر له بأعين نارية ثم بصق في وجهه، وجرجره منها متعمدًا سحل جسده بعنف على الأرضية القاسية.
, أخرج مجد أنينًا موجوعًا من فكه المحطم، ولم يجد من القوة ما يستطيع بها مقاومته. استمر هو في سحبه وركله حتى اكتفى منه، فانحنى عليه، وجذبه من ياقته مجبرًا إياه على النهوض.
, حدجه بنظرات أكثر شراسة، ثم سدد له لكمة عنيفة في وجهه، أعقبها ركلة أسفل بطنه، فخرجت صرخة موجعة منه.
, قبض منذر على عنقه بأظافره هادرًا فيه بإهانة لاذعة:
, -انت لعبت مع الراجل الغلط يا ابن الـ٦ نقطة، ومكانك الطبيعي هو الزبالة!
,
, انحنى بجذعه للأسفل ليتمكن من حمله على كتفه، ثم دنا به نحو أقرب صندوق للقمامة، وألقاه بداخله ليقبع جسده وسط الفضلات والمخلفات.
, إهانة أخرى وأشد قسوة عن ذي قبل تلقاها مجد لتقضي نهائيًا على سطوته الزائفة، وعلى هيبته المتعالية. أصبح مثل البقايا، ركامًا فانية لا تصلح إلا للتخلص منها.
, شهد العشرات بل المئات من قاطني المنطقة على تلك المذلة العلنية، إنها فضيحة مدوية بكل المقاييس، إعلان صريح عن اِنتهاء عهد بلطجة ابن أبو النجا.
, تخطى الأمر حدود المقبول وتحولت الساحة إلى منطقة دامية تلاحم فيها الرجال بضراوة شرسة حتى بسطوا سيطرتهم بالكامل على أتباع عائلة أبو النجا. كما تعاون الجيران أيضًا معهم للتخلص منه، فأي فرصة ستكرر مثل تلك.
, اندفع بعدها منذر برجاله ناحية مطعمهم لإغلاقه بالإكراه، انتهى عهد المصالحة والود، وعاد الأمر إلى سابق عهده قبل سنوات، إلى النزاع والشد والجذب، إلى المشاحنات والاقتتال الدائم.
, انطلق ديــاب ومعه عدد من الرجال نحو مداخل المنطقة ليقطعوا الطريق على مازن وأبيه قبل أن يأتيا لنجدته.، وجلس على مقدمة إحدى السيارات مسندًا ساقه عليها، وهتف بصرامة مشددة:
, -مش عاوز نملة تهوب من هنا، سامعين! الليلة وجبت يا رجالة!
, انتشر رجـــاله سريعًا ليسدوا كافة الطرق المحتملة وهم مجهزين بالأسلحة البيضاء والخفيفة.
, تابعهم دياب بأنظار متفاخرة، فاليوم ردت إلى العائلة هيبتها، وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
, وقف مفعمًا بثورته الغاضبة أمام واجهة المطعم رافعًا ذراعه للأعلى، ثم هدر صائحًا:
, -يتقفل نهائي، وتنزل يافطته على الأرض!
, رد عليه أحدهم من الخلف بصوت متحشرج:
, -تمام يا ريس منذر!
, تسابق الرجال فيما بينهم لإنزال لافتات المطعم بعد إخراج رواده منه، وحطموا أغلب الطاولات والديكورات، كما تناثرت أجزاء الصحون المهشمة على الأرضيات.
, بعد عدة دقائق تحول المطعم إلى خرابة معتمة، وتم إقفاله بنفس الجنازير الحديدية التي استخدمها أتباع مجد.
, نفض منذر يديه، ومسح حبات عرقه المتكونة على جبينه، ثم استدار عائدًا من حيث أتى.
, رفض الصعود إلى منزل عواطف كي لا تنفر أسيف من وجهه الملطخ بالدماء ولا تزعج من ثيابه الممزقة، أراد أن تظل صورته المنمقة، وملامحه المهذبة هي الباقية في ذهنها، وتحديدًا في تلك الليلة. فأثر العودة إلى وكالته بهيئته تلك، وأوكل مهمة اصطحاب عائلته من هناك إلى أخيه الأصغر.
, ولم يصعد هو أيضًا، وهاتف والدته لتحضر ابنه الصغير وأخته ليقابلهم بالمدخل.
, تساءلت جليلة بتلهف وقد زاغت أنظارها:
, -أخوك فين؟ حصله حاجة؟
, أجابها بهدوء:
, -اطمني يامه، كلنا كويسين
, -اومال هو فين؟
, -راح مع الحاج على الوكالة!
, -طب.. والزفت مجد، عملتوا معاه ايه و٤ نقطة
, -انسيه خلاص، ويالا عشان أرجعكم البيت!
, قالها دياب وهو يلقي سيجارته المشتعلة على الأرضية ليدهس عليها قبل أن يركب سيارته لينطلق بهم نحو منزلهم.
, ٣٨ نقطة
,
, مرت تلك الليلة العصيبة ببطء شديد، لم يستطع فيها مهدي الوصول إلى ابنه الذي بقي ملقيًا بداخل صندوق القمامة عاجزًا عن الحركة، أو حتى بلوغ المنطقة الشعبية لمعرفة ما الذي دار بمطعمه. حُصر عند الأطراف مع ابنه الأصغر قسرًا حتى سمح لهما بالدخول.
, اتجه مــازن ناحية المطعم ليتفقده، بينما توجه والده نحو الوكالة، فلديه هناك مهمة عويصة للغاية.
, نكس رأسه بخزي أمامه، ثم استطرد حديثه متساءلًا بنبرة ذليلة:
, -ليه كده بس يا حاج طه؟ ده احنا بينا عيش وملح!!
, ضرب الأخير بعكازه بعنف على الأرضية صائحًا بغلظة:
, -ابنك اللي ضيع كل حاجة! ده حرق عربية ابني، وكان ناقص يموته، لولا ستر ****!
, برر مهدي فعلته قائلًا:
, -هو مكانش في وعيه، الهباب اللي بيشربه آ٤ نقطة
, قاطعه طه هادرًا بانفعال ملحوظ:
, -دي مش أول مرة، وأنا حذرتك قبل كده!
, -بس ٤ نقطة
, -خلاص انتهى الكلام يا مهدي، لم حالك، وكفاية قلة قيمة لنفسك وارجع مطرح ما جيت!
,
, أدرك لحظتها أنه لا أمل في أي تفاوض، حسم الأمر، وانتهى كل شيء، فجرجر أذيال خيبته إلى خـــارج الوكالة متحاملًا على نفسه.
, راقبه المارة بنظرات أسفة، فذلك الرجل الطيب لديه ابن من نسل الشيطان، وأخر لا يختلف عنه كثيرًا.
,
, تجمدت أنظاره على مطعمه المعتم، خفقان قوي في قلبه لمجرد رؤيته هكذا. ترقرقت العبرات في مقلتيه، وشعر بوخزة حـــادة في صدره، ألم رهيب اجتاحه بسبب إحساسه بضياع ما أفنى فيه سنوات عمره في لحظات وتحوله لهباء منثور.
, انتبه بفتور شارد لصوت مازن الصارخ بتشنج:
, -مش هايتقفل، وربنا لأفتحه ولو طار فيها رقاب، مش احنا اللي هنطاطي لـ٣ نقطة
, قاطعه صائحًا بصوتٍ متحشرج:
, -اسكت خالص! إنت وأخوك السبب، ضيعتوا شقا عمري كله بغباءكم، منكم لله، منكم لله
,
, أولاه ظهره ضاربًا كف بالأخر في تحسر واضح، فلحق به ابنه قائلًا بقلق:
, -استنى يا حاج!
, نظر له شزرًا قبل أن يرد بحنق:
, -حسبي **** ونعم الوكيل!
,
, سار خطوتين فقط للأمام، وانهار جسده المنهك على الأرضية الإسفلتية. لم يتحمل خسارته الكبيرة، وفجع قلبه لتلك الكارثة، فتهاوى مع ما تهاوى من أملاك.
, فزع مازن صارخًا:
, -أبويا! حـــاج مهدي!
, ٣٥ نقطة
,
, استندت بظهرها على حافة الفراش متطلعة أمامها بنظرات شــاردة، تكرر المشهد في مخيلتها، تلك القبضتين الشرستين تطبقان على عنقه، وهو أوشك على الاختناق. أغمضت أسيف عينيها سريعًا لتنفضه عن عقلها، هي لا تريد تذكر الأمر؛ لأن مجرد استعادة وجه مجد الشيطاني يزعجها بشدة.
, وضعت يدها على وجهها لتمسحه برفق، فشعرت بملمس صلب.
, رفعت كفها أمام أنظارها لتحدق في ذلك الخاتم الرقيق الذي يزين إصبعها الأيمن، فابتسمت عفويًا.
, راقبتها بسمة بنظرات متسلية وهي تستند بذراعها على باب الغرفة، هتفت فجأة بمرح:
, -اللي واخدك عقلك
,
, انتبهت لصوتها أسيف، فأخفضت يدها سريعًا ليظهر ارتباكها جليًا أمامها، وتسربت خيوط حمراء لوجنتيها لتزيد من توردهما وهي ترد بخجل متلعثم:
, -مافيش و****، ده أنا .. كنت بأريح شوية!
,
, دنت منها لتجلس على الفراش، ثم غمزت لها قائلة بمكر:
, -عادي يا سوفي، من حقك تفكري في حامي الحمى عنترة بن شداد!
, ضحكت أسيف لدعابتها الطريفة، وتابعت ابنة عمتها قائلة:
, -هو برضوه جدع وشهم، وأديكي شوفتي بنفسك
, -أه فعلًا
,
, عضت بسمة على شفتها السفلى، ومالت بجسدها للأمام قليلًا لتتساءل بخفوت:
, -بس ايه الحلاوة دي، متخيلتش أبدًا إنك تساعديه، لأ برافو عليكي!
,
, زاد حياؤها من مجرد ذكر شجاعتها الجريئة في موقف لحظي مؤقت.
, استأنفت بسمة حديثها متابعة بمزاح:
, -دلوقتي هتبقي فرخة بكشك عند حماتك، على رأي نيرمين، ده سي منذر مش أي حد!
, -خلاص بقى
, -ده انتي مكسوفة خالص، لالالا، دي حاجة جديدة!
, -بسمة، أنا بأتحرج و****!
, -ماشي، بس المهم إن اليوم كان حلو وعدى على خير
,
, تنهدت أسيف قائلة بهدوء:
, -الحمد****! وقريب هينتهي ده كله!
, نظرت لها بسمة مطولًا ولم تعلق على عبارتها الأخيرة رغم تأكدها من مغزاها الصريح، لكنها تمنت بين طيات نفسها أن تدوم تلك الخطبة وتتطور إلى زيجة حقيقية، فهي تستحق شخصًا مثله يعوضها عما فات.
, ٣٩ نقطة
,
, سحب مقعدًا ليجلس هو الأخر بقرب والده، ثم دس في فمه خرطوم الأرجيلة مستنشقًا محتوياتها قبل أن يخرجها دفعة واحدة على هيئة دخان كثيف.
, أصدر دياب أوامره وشدد على الجميع بإنكار رؤية أي شيء مما حدث، والاكتفاء فقط بترديد ما يريد، وهو هجوم بعض مثيري الشغب على المنطقة للاشتباك مع الأهالي العزل، فاضطر الجميع أن يتدخل لمنعهم من التمادي في الأمر، وإلحاق الأذى بالبسطاء.
, فالعرف المتبع في تلك النوعية من الشجارات الحادة بين أقطاب العائلات القوية هو التستر التام على أسبابها وتبعاتها.
, وبالطبع لم يستطع رجال الشرطة التحقيق بأريحية في تلك المشاحنة العنيفة، أو حتى الحصول على معلومات مفيدة، ففي أنظارهم أغلب سكان المنطقة متورطين في الأمر، والمعلومات مبهمة ولا تشير إلى شخص بعينه، فتعثرت التحريات كثيرًا.
, تحسس دياب صدره قائلًا بجدية:
, -البوليس مالي الحتة، بس أنا ظبطت كل حاجة، ونبهت على كل رجالتنا!
, رد عليه طه باقتضاب جاد:
, -أما نشوف هترسى على ايه!
, أضاف منذر قائلًا بامتعاض:
, -كان نفسي أعلقه على باب الوكالة!
, كركر دياب ضاحكًا من استعادة مشهد إلقاء مجد بمفرغ القمامة، وبصعوبة بالغة سيطر على نفسه ليردد بعدها:
, -ده انت كيفته يا منذر، وخليته مايسواش، ناقصه بس يلبس طرحة ويقعد زي النسوان في البيت!
,
, وقبل أن يفتح أخاه فمه ليتحدث هتف أحد العمال بالوكالة:
, -يا ريس منذر، البيه الظابط عاوز حضرتك!
,
, هب واقفًا من مكانه قائلًا بجدية:
, -ماشي، أنا طالعله برا!
,
, تحرك بعدها على عجالة ليقف عند مدخل الوكالة حيث ينتظره عددًا من أفراد الشرطة.
, انتصب في وقفته متأملًا إياهم بنظرات قوية، وأردف قائلًا بهدوء:
, -خير يا باشا!
,
, استدار الضابط المسئول عن التحقيق في واقعة الاشتباك تلك بوجهه ناحيته، ونظر له بتفرس وهو يتساءل بجمود:
, -انت منذر حرب؟
,
, أومأ الأخير برأسه بالإيجاب هاتفًا:
, -ايوه!
,
, رمقه الضابط بنظرات مدققة في الجروح والكدمات البارزة على وجهه وهو يتساءل بقوة:
, -فهمني ايه اللي حصل؟
,
, رد عليه منذر بنبرة عقلانية متريثة:
, -خناقة يا باشا زي أي خناقة، شوية بلطجية حبوا يعملوا رجالة علينا، فاحنا مخلصناش قلة الأدب بتاعتهم، وكل شباب الحتة اتلموا وروقوهم، وفجأة فص ملح وداب، مش عارفين راحوا فين!
,
, لم يقتنع الضابط بحرف واحد مما قاله، وصاح مستنكرًا:
, -يا سلام، بالبساطة دي!
, التوى ثغر منذر للجانب مرددًا بتفاخر صريح:
, -اه، احنا أسود يا باشا!
, تدخل ضابط أخـــر في الحوار كان قد التقاه مسبقًا أثناء التحقيق في واقعة حادث بسمة مضيفًا:
, -أنا عارفه يا باشا، سيبني أكمل معاه!
, استدار الضابط الأول في اتجاهه قائلًا بامتعاض:
, -اتفضل يا فندم
, ابتسم منذر صائحًا بحماس:
, -معالي الباشا، منور الوكالة!
,
, استطرد الضابط حديثه بجدية وهو يحك عنقه:
, -شوف يا منذر كل اللي قولته، واللي أهالي الحتة بيقولوه مايدخلش دماغي بتعريفة، اللي حصل غير كده خالص، وأنا متأكد من ده، بس ماشي هانعديها بمزاجنا، لكن تحذير مني ليك، أنا حاطط عيني عليك إنت بالذات، وأي غلطة جاية هايكون حسابها عسير أوي!
,
, رد عليه منذر بثقة متعمدًا العبوس بوجهه وهو يرفع كفيه أمامه:
, -**** ما يوقعنا في الغلط يا باشا، احنا ماشيين جمب الحيط
,
, أشـــار الضابط بسبابته وكأنه قد تذكر شيئًا ما، فتابع متساءلًا بجدية:
, -اه بالمناسبة، جارتكم ولا قريبتكم اللي اتخبطت بالعربية، هي ليها عداوة سابقة مع حد؟
, -لأ، ليه؟
, -عمومًا هانشوف!
,
, توتر دياب من بقاء أخيه بالخارج لبرهة، فخرج في إثره ليتابع التحقيق معه، لكنه بقي في الخلف واضعًا كفيه بداخل جيبي بنطاله الرمادي، لكن تبلدت حواسه كليًا وتحفزت على الأخير حينما التقطت أذناه تلك العبارة الأخيرة التي تخص معشوقته.
, أخرج قبضتيه من جيبيه، واندفع نحو الضابط متساءلًا بنزق:
, -طمنا يا باشا، في حاجة عرفتها تخصها؟
,
, نظر له الضابط بازدراء قليل وهو يرد عليه بتساؤل جاد:
, -وانت مين انت كمان؟
, أجابه دياب بتعصب قليل:
, -أنا ..
,
, وضع منذر يده على كتف أخيه ضاغطًا عليه بقوة ليجبره على قطم عبارته، ورد هو قائلًا بابتسامة باهتة:
, -ده أخويا الصغير يا باشا!
, سلط أنظاره عليه ليحذره من الحديث، وتابع متساءلًا بحذر:
, -حصل حاجة تانية؟ عرفتوا اللي عملها؟ ولا٣ نقطة؟؟
,
, أجابه الضابط مرددًا:
, -واحنا بنفرغ محتويات كاميرات المراقبة لاحظنا واحد مراقب الطريق من على الناصية وجمبه حد تاني، المخبرين اتحروا عنه، وعرفنا إنه عنده محل جزارة هنا في الحتة
,
, كظم دياب حنقه المشتعل في نفسه هامسًا بصوت محتد وهو يكز على أسنانه بقوة عنيفة:
, -جزار الـ٧ نقطة، ابن الحرام!
,
, أضاف الضابط بجدية:
, -وفي محاضر بينهم ومشادات وآآ٤ نقطة
, قاطعه منذر موضحًا بحذر:
, -يا باشا دي خلافات عادية، انت عارف موضوع البهايم والدوشة، كلنا بنتخنق من الريحة والصوت!
,
, رد الضابط بعدم اقتناع:
, -عامةً هي هايتم استدعائها للتحقيق وهانفهم منها أكتر طبيعة الخلافات، لأنه جايز يكون متورط في الموضوع!
,
, هز رأسه متفهمًا:
, -ماشي يا باشا، اللي تشوفه
,
, قبض منذر على ذراع أخيه، واستدار بجسده ليشكل حائلًا أمامه قبل أن يندفع ويفعل بتهور ما لا يحمد عقباه، سمع صرير احتكاك أسنانه وهو يردد بسباب قاسٍ:
, -ابن الـ١٢ نقطة!
,
, حذره قائلًا بصوت خفيض:
, -امسك نفسك يا دياب!
, -الـ٧ نقطة ده أكيد وراها، وربنا ما أنا راحمه، هاجييب مسارينه على الأرض!
, -هايحصل بس بالعقل، الشرطة مفتحة عينها علينا أوي، اركز!
, -مش هافوتها! هاموته!
, ٣٦ نقطة
,
, ذرعت الصالة جيئة وذهابًا منتظرة عودة ابنها من الخارج لتسرد له ما فعلته طليقته الشمطاء معها ومع أخته في حضور خطيبها عند محل الصائغ، وبالطبع لم يخلو حديثها من الكلمات النابية، ولا من الوصف الجارح.
, وضعت لبنى يدها على كتفه صارخة بعصبية:
, -لازم تشوفلك صرفة، دي كانت هتخرب الجوازة على أختك
, فرك طرف ذقنه مرددًا بفتور:
, -حاضر، هافكر!
,
, اغتاظت من أسلوبه البارد في التعامل مع الموقف، وكأنه لا يعنيه، فصاحت بحدة مهددة إياه:
, -لأ ماتفكرش، إنت تاخد حقي وحق اختك وإلا لا انت ابني ولا أنا أعرفك، هاتبرى منك وآ٦ نقطة
, قاطعها حاتم هاتفًا بتبرم:
, -حاضر يا أمي، قولتلك هاتصرف، اهدي عليا بس!
,
, أمسكت والدته بأطراف خصلاتها المتدلية من **** رأسها المنزلي، وهزتهم بعنف مواصلة وعيدها الشرس:
, -بنت الـ٥ نقطة ، مفكرة هاعديهالها بالساهل! وحياة مقاصيصي دول لهوريها نيرمين الكلب!
, ٣٣ نقطة
,
, احتضنته بقوة بعد عودته سالمًا إلى المنزل، فلم يسعفها الوقت لرؤيته بعد انتهاء المشاجرة. ظل عقلها مشغولًا عليه، إلى أن عاد إليها.
, ضمت وجهه براحتيها، وحدقت فيه بأعين لامعة للغاية.
, انحنى منذر على رأس والدته ليقبلها قائلًا:
, -أنا كويس يا أمي، اطمني عليا
, ربتت على ظهره قائلة بحنو:
, -**** ما يضرني فيك أبدًا
, -يا رب
,
, لف ذراعه حول كتفيها، وســار معها بتمهل نحو غرفته، تابعت جليلة حديثها الحماسي قائلة:
, -لولا كرم ****، وخطيبتك أسيف **** أعلم كان هايحصل ايه!
,
, تنهدت بعمق لتضيف:
, -الحمد**** يا رب
, بدت تعابيره غريبة إلى حد ما، وانتابه الفضول لمعرفة سبب تلك العبارة الغامضة، فتساءل مهتمًا وقد رفع حاجبه للأعلى:
, -وايه علاقة أسيف بالخناقة؟
, أجابته بلا تردد:
, -ماهي يا بني حدفت على اللي ما يتسمى سبت المشابك عشان تلبخه، خافت عليك يجرالك حاجة!
,
, حدق منذر في وجه والدته بنظرات شاردة سارحًا بأفكاره في صورتها التي غزت عقله بالكامل، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تكون هي سبب نجاته، أن تتلهف عليه بل وتجاذف من أجله.
, رمقته جليلة بنظرات متعجبة، فقد كان كالمغيب وهي تحدثه عنها، لكن تحولت تعابيرها للارتخاء عند رأت تلك الابتسامة الصغيرة تتشكل على ثغره، وما أكد صدق حدسها من وجود مشاعر ما نحوه لها هو ذلك اللمعان البائن في عينيه.
,
, ابتسمت له قائلة بهدوء:
, -**** يسعدك معاها يا بني ويتمملكم على خير، أنا صحيح في الأول مكونتش مبسوطة من الخطوبة دي ، بس.. بس جايز أكون ظلماها، و..
,
, انتبه منذر لحديثها فقاطعها مبتسمًا:
, -سيبك من اللي فات يا ست الكل!
, -أنا اللي مخوفني منها موضوع الأعمال والسحر و٣ نقطة
, -تاني، ما أنا قولتلك مالهاش في الحركات دي!
, -ده أنا شوفت بعيني، ولولا إن نيرمين نبهتني كان زماني ٥ نقطة
, تعقدت قسمات وجهه للغاية بعد ذكر اسم تلك السمجة، أحس بوجود شيء مريب بالمسألة، فتساءل بعبوس:
, -نيرمين! ثواني يامه، مالها بالظبط بأسيف؟!
,
, أخذت والدته نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهل وهي تقول:
, -الحكاية وما فيها إن ٦ نقطة!!
 
٦٤
سردت له بالتفصيل ما له علاقة باكتشاف وجود (****) ما أسفل فراشه أثناء مكوث أسيف وعمتها بغرفته، وكيف فزعت هي من مجرد التفكير في حدوث الأسوأ له بمجرد رؤيته، وتوجسها من كونه مرتبط بالسحر والأعمال السفلية، وتأكيد نيرمين لها صحة ذلك الأمر.
, نظر لها منذر بامتعاض مستنكرًا تفكيرها الساذج والمحدود، ثم هتف من بين أسنانه بحنق واضح:
, -بقى تصدقي التخاريف دي يامه، لأ ومن مين من البت دي؟!
, زمت شفتيها مبررة:
, -كنت هاعمل ايه طيب؟ أنا لاقيته تحت فرشتك وخوفت لـ٤ نقطة
, قاطعها هاتفًا بعتاب:
, -يا حاجة جليلة، ده انتي زرتي بيت ****، وعارفة إن ده اسمه كفر، هاقول ايه بس! مش عارف أرد عليكي!
,
, ربتت على كتفه مرددة بحذر:
, -اهدى بس يا بني، أنا مكانش قصدي، بس هاعمل ايه خايفة عليك انت وأخوك، و٣ نقطة
,
, رفع منذر كف يده أمام وجهها مقاطعًا بانفعال:
, -ده مش خوف يا أمي، وبعدين إيش حال أنا اللي جايبها بإيدي من دكانها! وجرتها بالعافية لحد هنا، لحقت تجيب أعمال امتى؟ مخاوية مثلاً؟
,
, انفرجت شفتاها بذهول مما قاله، هي لم تنتبه لتلك الجزئية من قبل، وانشغلت بالتفكير فقط في كونها وجدت ذلك ال****.
, تابع منذر حديثه بصرامة:
, -شوفي! من الأخر كده، انتي ظلمتي أسيف، هي لا بتاعت أعمال سفلية ولا حتى علوية!
,
, أخفض والدته نظراتها حرجًا منه، فقد أخطأت في حقها، بينما استأنف حديثه مرددًا بسخط:
, -الدور والباقي على قريبتها، دي محور شر متحرك!
, دافعت عنها قائلة بحزن قليل:
, -و**** دي نيرمين غلبانة وتتحط على الجرح يطيب، الظروف بس اللي معاندة معاها!
,
, عقد ما بين حاجبيه صائحًا بتهكم:
, -دي حقنة! بلاش **** يكرمك الكلام ده عنها لأحسن أنا دمي بيفور لما بتيجي سيرتها!
, أومــأت جليلة برأسها متفهمة، فلم ترغب في إثارة أعصابه بحديثها الغير مجدي عنها، تحرك هو خطوتين للأمام مرددًا بين جنبات نفسه بوعيد جاد:
, -بس أنا بقى هاتصرف معاها! وبالعقل!
, ٤٠ نقطة
,
, لم يستطع كبح جماح غضبه بعد معرفته بتورط الجزار في تدبير حادث السير الخاص بحبيبته، فشل في ضبط انفعالاته وفي السيطرة على نوبة الهياج العصبي التي تملكت منه، انتظر على أحر من الجمر انصراف والده وأخيه لينطلق بعدها في اتجاه محل الجزارة.
, سلط أنظاره عليه حتى كاد يحرقه بتحديقه الشرس فيه، لمحه أحد العمال بالداخل، فاقترب منه متسائلًا:
, -خير يا سي دياب؟ تؤمرنا بحاجة!
, تجمدت أنظار الأخير على وجه العامل، ورد عليه بغموض مقلق:
, -فين الكلب اللي مشغلك؟
,
, فغر العامل شفتيه مندهشًا من تلك الإهانة الصريحة الموجهة لرب عمله، فصاح به دياب مجددًا بنبرة أشد غلظة وصرامة وقد برزت عروق وجهه النابضة:
, -سمعتني
,
, ارتجف العامل وهو يجيبه:
, -المعلم روح من بدري!
,
, أشـــار له دياب بسبابته متابعًا بصوت هادر:
, -تتصل بيه وتقوله يجي دلوقتي بدل ما يلاقي الهلومة دي كلها كومة فحم!
,
, هز رأسه بالإيجاب وهو يردد بخنوع:
, -أوامرك يا سي دياب!
, وضع كفيه على منتصف خصره مثبتًا أنظاره على اسم الجزارة، كانت عيناه تطلقان شررًا مخيفًا، لكنه أقسم ألا يجعله يهنأ أبدًا في ليلته، سيذيقه من الآلام ما يروي عطشه.
, ٣٩ نقطة
,
, بقي في مكانه لفترة لم يتحرك فيها قيد أنملة مترقبًا حضوره، وما إن رأه مقبلًا عليه حتى زاد شموخًا وقوة، دنا منه الجزار متسائلاً بتوجس:
, -خير يا كبير الناس؟
, لم يعلق عليه دياب بل استمر في حدجه بنظراته القاسية المنذرة بكل شر، ازدرد الجزار ريقه محاولاً الترحيب به، فهتف بود مصطنع:
, -ده المحل نور، وربنا لو أعرف إنك جاي كنت٤ نقطة
, أجبره على قطم عبارته بصفعه بشراسة على صدغه لاعنًا إياه بكلمات حادة:
, -اخرس يا ٧ نقطة، يا ابن ٦ نقطة!
, وضع الجزار يده على وجهه متألمًا بشدة، وسأله باندهاش عجيب:
, -ليه كده بس؟ ده أنا٧ نقطة
,
, سدد له لكمة قوية في فكه ليمنعه عن الكلام وهو يقول بعصبية متشنجة:
, -انت وقعت معايا!
, قبض عليه من عنقه محكمًا أصابعه عليه، ثم هزه بعنف قبل أن يطرحه أرضًا بتلك الركلة القوية في ركبته، جثى فوقه، وجذبه من خصلات شعره وهو يضرب مؤخرتها بالأرضية.
, صفعه مرة أخرى متعمدًا إيلامه أكثر وهو يقول:
, -مش أنا منبه عليك قبل كده ملاكش دعوة ببنت الحاجة عواطف!
, رد عليه الجزار بصوت مختنق وهو يبصق ددممًا من بين أسنانه:
, -هو أنا جيت جمبها أصلاً
, استشاطت نظراته أكثر، وباغته بضربة موجعة في عنقه صارخًا فيه بنبرة مغلولة:
, -أكتر حاجة بأكرهها هي الكدب، موتي وسمي اللي يحور عليا، وإنت كداب!
,
, سعل الجزار بشدة محاولاً التقاط أنفاسه، فقد اختنقت أحباله الصوتية بفعل قوة الضربة، وانزلق ريقه في قصبته الهوائية فسبب له اختناقًا مؤقتًا، لم يكترث له دياب أو يظهر نحوه أي نوع من الشفقة، بل زادت شراسته هادرًا:
, -بس قبل ما تاخد الحكومة حقها، فيه حساب أولاني؛ حساب دياب حرب!
,
, قفز قلبه في قدميه من نظراته المخيفة، وتيقن أنه وقع في مأزق كبير، لذلك توسله باستعطاف عله يرأف به:
, -خلاص يا ريس دياب، أنا مستعد اعمل اللي تؤمرني بـ٤ نقطة
,
, وضع دياب يده على فمه ليكممه، واقترب منه برأسه ليحدق فيه بنظراته المتوهجة بغضبها، كز على أسنانه هامسًا بنبرة عدائية:
, -وقت التوبة خلص، ودلوقتي جه وقت الحساب!
,
, كــال له من الضربات الموجعة ما أنهك جسد الأخير، وجعل عظامه تتحطم، ثم نهض عنه ليجذبه بعنف من رقدته، جرجره من عنقه ناحية الخشبة المخصصة لتقطيع اللحوم -أو ما يعرف عنها بالمصطلح الشعبي الدارج "أورمة"- ليضع رأسه عليها.
, شهق الجزار مذعورًا حينما التصقت رأسه بها، وتخيل أبشع ما يمكن أن يحدث له، ثبته دياب جيدًا، وانحنى برأسه عليه ليهمس له متسائلاً:
, -تفتكر هاعمل فيك ايه؟
, امتزجت الدماء بلعابه السائل، وخرجت منه فمه بغزارة لتزحف أسفل وجهه وهو يتوسله:
, -توبت يا سي دياب! أنا محقوقلك!
, ضغط الأخير أكثر بكوعه على فقرات عنقه مسببًا له ألمًا موجعًا، ومد يده الأخرى ليسحب "الساطور" قائلاً:
, -اللي زيك لازم يتعلم عليه زي البهايم بالظبط!
, قرب نصل الساطور القاطع من عنقه ليشعره بوخزه الحاد، فصرخ الجزار باكيًا:
, -ماتموتنيش! حقك عليا، جزمتك على راسي، بس ماتدبحنيش، ده أنا عندي عيال و٤ نقطة
,
, قاطعه قائلاً بصرامة:
, -اسكت! مش عاوز أسمع حسك!
,
, استشعر والده وجود خطب ما به، خاصة حينما صارت تعابير وجهه مشدودة للغاية، وتحولت نظراته للاحمرار، فادعى انصرافه ليراقبه من على بعد لكي يعرف ما الذي ينتويه، وصدق حدسه، فرأه مقبلاً على محل الجزارة عاقدًا العزم على ارتباك شيء متهور.
, صــــاح طه بصوت جهوري صارم وهو يضرب بعكازه الأرضية:
, -ديـــــــــــــاب!
, توقف عما يفعل ليلتفت برأســـه نحو أبيه الذي كان يرمقه بنظرات نارية محذرة، أكمل قائلاً بصلابة:
, -سيبه لحاله
, احقنت نبرته وهو يرد:
, -مش هاينفع يا حاج، انت مش عارف ده٣ نقطة
,
, قاطعه والده بجمود صارم ضاربًا بعكازه الأرضية:
, -دياب هي كلمة! سيبه وتعالى عندي!
, أحس الجزارة بالقليل من الأمان لوجوده، بأنه سيحول دون حدوث الأفظع له، فهمس متوسلاً بصوته المبحوح المختنق:
, -**** يكرمك يا حاج طــه، أنا واقع في عرضك، خليه يرحمني!
, أومـــأ طه بعينيه متابعًا بصرامة:
, -تعالي ورايا يا دياب!
,
, على مضض كبير اضطر أن يرضخ لأمر أبيه، فتراجع عن الجزار، لكن قبل أن يحرره من قيده ركله بعنف مؤلم في جانبه، وطرحه أرضًا ليضربه بقسوة مرة أخرى، بصق فوقه باشمئزاز واضح، ثم هدر هاتفًا:
, -حظك إن الحاج ظهر!
, تكور الجزار على نفسه مخرجًا أنينًا مكتومًا من جوفه، وبكى لنجاته من براثنه، لقد كتبت له الحياة من جديد.
, ٣٧ نقطة
,
, اتجه به نحو وكالته لينفرد في حديثه معه، هو أوشك على اقتراف جرم ما بسبب اندفاعه الأعمى، ولولا مشيئة الرحمن وتدخله في الوقت المناسب لربما تحول الأمر إلى مذبحة جديدة.
, لكزه طه في كتفه صائحًا:
, -ممكن تفهمني ايه الجنان ده؟
, ضغط دياب على شفتيه كاتمًا حنقه في صدره وهو يرد:
, -خلاص يا حاج
,
, لوح والده بيده أمامه متابعًا بحدة:
, -بأنقولك الحتة في حكومة ولبش وقلق، وإنت زي التور الهايج رايح تهجم على الجزار وتدبحه!
, برر له موقفه بتجهم شرس:
, -ليه تار معايا، وكان لازم أخلصه!
, عنفه طه بحدة:
, -أخوك مش منبه عليك؟
, لوى ثغره للجانب مبديًا عدم اقتناعه، فاستأنف والده قائلاً:
, -**** أعلم كان ممكن يحصل ايه لو ماجتش في الوقت المناسب!
,
, وضع دياب يده على رأسه ليمررها في خصلاته هاتفًا بامتعاض:
, -يا أبا ده٤ نقطة
, قاطعه مشيرًا بنظراته الصارمة:
, -ولا كلمة، قدامي على البيت، ماشبعتش ددمم النهاردة!
, لم يستطع إضافة المزيد، فصرامة أبيه غير قابلة للنقاش أو المجادلة، ولكن على أقل تقدير أفرغ به جزءًا من ثورته المشحونة.
, ٣٢ نقطة
,
, تمدد على فراشـــه محدقًا في سقفية الغرفة شاردًا في طيف وجهها المُشكل عليه، شبك كفيه خلف مؤخرة رأسه، والتوى فمه مبرزًا ابتسامة عذبة عليه وهو يستعيد في ذاكرته خجلها ورقتها المحببة إليه، أخرج من صدره تنهيدة عميقة حينما تردد في أذنيه صدى كلمات والدته بأنها من قد أقدمت بلا تفكير على مساعدته.
, أرخى ساعديه ليلتف بجسده على الجانب، ثم رفع نصب عينيه خاتم خطبته ليشرد فيه مطولاً.
, زادت ابتسامته اتساعًا وهو يهمس لنفسه بثقة:
, -استحالة أنهي الخطوبة دي إلا بجواز إن شاء ****!
, ٣٧ نقطة
,
, هدأت الأوضــــاع إلى حد ما بعد مشاجرة الأمس العنيفة، والتي ظل الجميع يتناقل أخبارها حتى الساعات الأولى من الصباح، بالطبع وصل إلى مسامع قاطني المنطقة إصابة مهدي بأزمة قلبية ونقله للمشفى متأثرًا بما حدث، حزنوا على مصابه، لكن لم يشفق أي أحد على ابنيه، فالاثنان يستحقان ذلك الجزاء القاسي.
,
, جمعت الثياب الجافة من على المنشر متأملة الطريق بالأسفل بنظرات فاترة، لكن سريعًا ما ارتفع حاجباها للأعلى حينما رأته يلوح لها، تلفتت حولها بخجل بائن، وابتلعت ريقها بتوتر رهيب، أحقًا يشير لها علنًا؟
, عبس وجه أسيف بشدة لتصرف منذر الجريء هكذا، فتراجعت مختبئة للخلف متحاشية النظر إليه، لكنه على عكسها ظل في مكانه يبتسم لها بإشراق، جمعت ما استطاعت من ثياب معًا دون طيها، واستدارت عائدة للداخل متمتمة بكلمات مبهمة.
, فرك منذر مؤخرة عنقه باستمتاع ثم أكمل سيره نحو مدخل بنايتها، فيومه يبدأ بها، ويستمر معها.
,
, توقعت أن يطرق الباب، فأسرعت بالاختباء في الغرفة متجنبة الالتقاء به، وحدث ما توقعته، سمعت قرع الجرس، فانتفضت في مكانها بتوتر ملحوظ، لا تعرف ما الذي أصابها لتصاب بتلك الحالة من الاضطراب، هي عادة لا تهتم به، لكن نبضات قلبها المتسارعة تحذرها من شيء ما تخشى الإقدام عليه، شعرت بأنفاسها تتلاحق، فتنفست بعمق لتضبطهم.
, أتاها صوت عمتها المرحب به عاليًا، وما هي إلا لحظات حتى ولجت إليها قائلة:
, -خطيبك برا يا أسيف، اجهزي يا حبيبتي عشان تشوفيه
, زفرت قائلة بانزعاج:
, -أولاً مش خطيبي، انتي عارفة يا عمتي إنها تمثيلية أي كلام، وثانيًا بقى أنا مش طالعة!
, ضربت عواطف صدرها بيدها مستنكرة رفضها الصارم وهي تقول:
, -يعني الراجل يجي لحد عندنا ونطرده؟!
, هزت كتفيها بعناد:
, -ماليش دعوة، اتصرفي معاه!
, -مايصحش يا بنتي، يقول علينا بس ايه؟ دي عيبة كبيرة أوي
,
, ردت أسيف مبررة بعصبية طفيفة:
, -هو فاهم كويس إني مش بتاعة الحركات دي، بس قاصد يحرجني!
, دافعت عمتها عنه هاتفة:
, -هو لحق عمل حاجة، ده احنا لسه بنقول يا هادي، وبعدين٤ نقطة
, قاطعتها بإصرار:
, -بلاش يا عمتي تضغطي عليا
, -لا حول ولا قوة إلا ب****! اطلعي المرادي وفهميه ده بنفسك! أنا مش هادخل بينكم
, -بقى كده!
,
, ابتسمت لها قائلة بمكر:
, -ايوه، انتو أحرار مع بعض!
, ٣٦ نقطة
,
, على الجانب الأخر، أسرعت نيرمين بارتداء عباءتها الجديدة لتظهر أمامه في أحلى صورها، فإن خسرت جولة معه، لا يعني هذا خسارتها للمعركة برمتها، مازال لديها من الفرص ما يمكنها من استعادته.
, دلفت إلى غرفة الضيوف وعلى ثغرها ابتسامة عريضة، ثم انحنت واضعة صينية المشروب البارد والحلوى على الطاولة لتعتدل بعدها في وقفتها رامقة إياه بنظرات مشرقة.
, نظر لها منذر بتأفف واضح، وتعمد إظهار امتعاضه منها، أقبلت عليه لتجلس على الأريكة المجاورة له، ثم أمسكت بطرف كم عباءتها تعبث به وهي تستطرد حديثها:
, -ازيك يا سي منذر؟ عامل ايه دلوقتي؟
, عبست بوجهها لتظهر حزنها بسبب أثار الكدمات الواضحة على قسماته، ثم تمايعت بجسدها مضيفة:
, -و**** قطع في قلبي اللي حصلك، ده أنا كنت خايفة عليك موت من الجبان مجد، بس طول عمرك راجل يا سي منذر، مخدش في ايدك غلوة!
,
, أرجع ظهره للخلف ليرمقها بنظرات جامدة، لم يحرك شفتيه لينطق بكلمة، فقط نفور واضح على تعابيره، تنهدت بصوت مسموع وهي تقول:
, -مش تمد ايدك يا سي منذر، ده عصير طازة عملاه بايدي!
,
, نظر لها باحتقار قائلاً بتمهل:
, -مش جايز تكوني حاطة فيه عمل من بتوعك
,
, اتسعت حدقتيها سريعًا، وشهقت مصدومة من رده المباغت الذي كان متعمدًا ليكشفها أمامه، شحب وجهها إلى حد ما، وحاولت لملمة نفسها، فخرج صوتها مترددًا:
, -أعمال ايه بس يا سي منذر؟ ده.. ده٥ نقطة
, انتصب في جلسته محدجًا إياها بنظرات أشد قسوة وهو يقاطعها محذرًا بسبابته:
, -أحسنلك تبعدي عن سكتي، وبلاش تلعبي في دماغ أمي بهبلك لأني فاهمه كويس، وبأحذرك تاني زعلي وحش!
,
, ارتعد جسدها من نبرته المهددة، واستشعرت قوة انتقامه إن استخفت به، انكمشت على نفسها في جلستها، لكنه صاح بها بصرامة:
, -امشي اطلعي برا، أنا جاي أقعد مع خطيبتي مش معاكي!
, حطم أمالها تمامًا ليغلق الطريق نهائيًا أمام محاولاتها البائسة للتودد إليه، هبت واقفة من مكانها ناظرة إليه بغيظ بائن، واكتسى وجهها بحمرة غاضبة من اساءته لها، ضغطت على أصابعها بقوة مكورة إياهم بحنق حتى كادت تخترق أظافرها راحتها، ثم استدارت مهرولة من الغرفة كاتمة عبراتها بصعوبة.
,
, شعر بالارتياح لتخلصه منها، ونفخ بعمق مخرجًا من صدره زفيرًا مزعوجًا منها.
, تراجع في جلسته منتظرًا بتلهف ولوجها إليه، وسريعًا ما تبدلت نظراته للإشراق، وتشكلت ابتسامة هادئة على ثغره حينما رأها مقبلة عليه، بحرج بائن عليها دخلت الغرفة منتقية أبعد أريكة لتجلس عليها.
, نظر لها مدهوشًا من تصرفها العجيب، ثم وضع إصبعيه على طرف ذقنه مداعبًا بمرح:
, -على فكرة في كنبة برا أوسع وأريح!
,
, سيطرت بصعوبة واضحة على ابتسامة تتقاتل معها للظهور على شفتيها، زمت شفتيها قائلة بعبوس:
, -أستاذ منذر، احنا اتفقنا إن الخطوبة دي صوري، يعني مافيش داعي للي بتعمله، أظن كلامي واضح
, رد عليها بنبرة غير مبالية وهو يشير بيده:
, -أنا مش سامعك على فكرة، الصوت مش واصل!
,
, قطبت جبينها محدقة فيها بنظرات جادة وهي تقول:
, -لأ، انت سامعني كويس، بس بتستعــ٦ نقطة
, عجزت عن إتمام جملتها حينما رأت نظراته المحذرة من التطاول عليه بأي لفظ لا يليق، فعضت على شفتها السفلى بارتباك.
, أخــذ منذر نفسًا طويلاً لفظه على مهل ليرد بهدوء:
, -شوفي يا ست البنات، طبيعي تلاقيني عندك كل شوية، لأن الاتفاق بينا لسه مخلصش ٦ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٥
حافظت على تلك المسافة الكبيرة بينهما، متعمدة الظهور بمظهر جدي أمامه، ورغم ما تفعله من مكابرة وعِند إلا أنه كان هادئ الطباع متأملاً إياها بتمعن، شددت من كتفيها لتعتدل في جلستها، ثم أدارت رأسها بخفة ناحيته متابعة بتشنج قليل:
, -حضرتك الاتفاق هينتهي بمجرد ما نروح بيتي!
, ضاقت نظراته حتى بدت مزعوجة من عزمها على إنهاء الخطبة نهائيًا، وما زاد من ضيقه هو تعاملها الرسمي معه، وكأنه شخص غريب، تمتم باستنكار قليل:
, -مممم.. حضرتي٣ علامة التعجب
,
, تابعت قائلة بعصبية واضحة وهي ترمقه بنظرات حادة:
, -بيتي اللي في البلد، أظنك فاكره؟ ده سبب الاتفاق من الأول، ولحد دلوقتي أنا معرفش حاجة عنه، ولا روحنا ولا ٥ نقطة
, أزعجه تلميحها الصريح لكونه متقاعسًا عن تأدية مهمته، مع أنه يبذل ما في وسعه لراحتها وإسعادها، لذلك هتف مقاطعًا بنبرة جادة رغم ضيقه الواضح على تعابيره:
, -وأنا متأخرتش، بس أكيد إنتي شايفة الظروف عندكم كانت عاملة ازاي؟ وإلا كان هيتقال عننا كلام بايخ! ده غير اللي حصل امبارح!
, ردت بتجهم:
, -ايوه، والظروف دي انتهت والحمدلله!
,
, نظر لها بجمود، بوجه غير مقروء التعبيرات، متعجبًا من طريقتها، كيف يعقل أن تكون هي من عاونته في شدته بالأمس؟ وفي نفس الوقت ترغب في إنهاء ما بينهما في أقرب وقت؟ عبست نظراته، واكتسى وجهه بالحزن لمجرد التفكير في الأمر.
, سلطت أسيف أنظارها عليه متسائلة بقلق:
, -ممكن بقى نحدد ميعاد نروح هناك؟
, صمت ولم يعقب عليها، هي تتعمد التعجيل بإنهاء كل شيء قبل أن يشرع في إشعارها بما يحسه نحوها، تريد أن تخمد جذوة حبه قبل أن يصرح بها، واصلت حديثها المنفعل حينما طال سكوته المريب:
, -لو سمحت رد عليا، أنا أعصابي متوترة، وبيتي معرفش إن كان اتحرق ولا دي كدبة من خالي، ومحدش حاسس بالحيرة اللي جوايا ولا بالقلق و٣ نقطة
,
, هب واقفًا فجأة من مكانه ليرد بصلابة تليق به:
, -حاضر، جهزي نفسك وهنتوكل على **** بكرة، بس الأول لازم أسلمك حقك!
, ارتجفت لوهلة من تصلبه، ورفعت أنظارها عاليًا لتحدق فيه مرددة بذهول:
, -حقي؟
, دنا منها قائلاً بضيق:
, -ايوه، بقية اتفاقنا!
, نظرت له بتفرس متأملة تلك الخدوش وأثار الكدمات الواضحة عليه، لم تكن رأتها عن قرب، فشعرت بنغصة في صدرها لمجرد تخيل ذلك الألم القوي الناتج عن الضربات العنيفة التي تلقاها، لم ينتبه لنظراتها المتطلعة إليه، حيث دس يده في جيب بنطاله الخلفي ليخرج منه ورقة ما مطوية، نظرت له باستغراب أكبر، اقترب أكثر منها حتى بات قبالتها، ثم ناولها إياه، تسائلت أسيف بحيرة:
, -ايه ده؟
, أجابها باقتضاب:
, -عقد الدكان
, فغرت شفتيها مدهوشة، وبحذر مترقب أخذته منه، وسريعًا ما فتحت الورقة لتتأكد من صحة ما يقول، هو بالفعل أعطاها صك ملكية الدكان ليغدو بالكامل لها.
, أخرجها من صمتها المتعجب قائلاً بتريث:
, -أنا اتنازلت ليكي عن حصتي بيع وشرا
, لوهلة بدت في حيرة واضحة غير قادرة على إيجاد الكلمات المناسبة للرد عليه، شعرت بالإحراج منه، وأطرقت رأسها قليلاً، ثم ضغطت على شفتيها هامسة:
, -بس احنا ٤ نقطة
, أشاح بوجهه بعيدًا بعد دسه ليديه في جيبي بنطاله، ثم هتف بجمود:
, -الاتفاق اتفاق.. يا بنت رياض!
,
, انزعجت في نفسها من تبدل حاله من الارتخاء والابتسام للتجهم والعبوس، كانت متأكدة أنها وراء ذلك التحول السريع، هي خشيت أن تحيد عن هدفها الأساسي، وتنشغل بأمور أخرى فرعية لن تستمر طويلاً، لذلك الأسلم أن تلمح دومًا إلى قرب انتهاء ما بينهما.
, أولاها منذر ظهره قائلاً بضيق وهو يتجه نحو الخارج:
, -سلامو عليكم!
,
, أحست بتأنيب الضمير لتعاملها معه بتلك الطريقة الجافة، هي كانت حذرة في كلماتها، لكنها لأول مرة تشعر بالضيق من تصرفها على الرغم من اقتناعها به، حدقت مجددًا في صك الملكية بنظرات شاردة، هي حصلت على مبتغاها، لكنها لم تكن سعيدة بالمرة، هناك شيء ناقص في فرحتها تلك.
, أخفضت رأسها لتحركها بإيماءات مستنكرة، مازال يتكبد الكثير من أجلها، وهي تتعامل بجفاء قاسٍ، تنهدت بضجر واضح عليها، ثم أغمضت عينيها محاولة إجبار نفسها على عدم التفكير في أي شيء.
, ٣١ نقطة
,
, وكعادة موظفي المصالح الحكومية التباطئ المتعمد لتعطيل سير الأمور، لكنها كافحت قدر استطاعتها لتنتهي من الحصول على ورقة رسمية تفيد بأحقيتها في عطلة مرضية نتيجة لتعرضها لحادث مفاجئ، بقي لها القليل، وعاونتها رفيقتها في إنجاز ما هو مطلوب من توقيعات وطوابع حكومية، وتبقى فقط الذهاب إلى مقر عملها لإعطاء تلك الإفادة لوكيل المدرسة.
, استقلت بسمة مع رفيقتها سيارة الأجرة لتتجها إليها، وما إن توقفت السيارة حتى ترجلت هي منها مستندة على عكازها الطبي، هي مضطرة لاستخدامه في تلك الأونة الأخيرة حتى تتمكن من السير بصورة طبيعية.
, تفاجأت به متواجدًا عند بوابة مدرستها مستندًا على سيارته، وعاقدًا ساعديه أمام صدره، اتسعت حدقتيها باندهاش كبير، وتحركت بخطى عرجاء نحوه متسائلة باستغراب:
, -إنت بتعمل ايه هنا؟
, اعتدل دياب في وقفته مرخيًا ساعديه، ثم رد عليها معاتبًا:
, -مافيش سلامو عليكم، أهلاً وسهلاً، أي حاجة كده؟
, لم تعبأ بما قاله بل واصلت استجوابها المتهكم:
, -جاي هنا ليه؟ هو إنت بتطاردي ولا حاجة؟
, حدق فيها بنظرات حادة، ثم أجابها متسائلاً بامتعاض بائن على محياه:
, -إنتي ايه اللي نزلك من البيت؟
,
, تعقد حاجباها بدرجة كبيرة وهي تسأله:
, -افندم؟
, تابع مبررًا وهو يشير نحو ساقها المصابة:
, -مش لسه رجلك مخافتش، و٣ نقطة
, قاطعته بحدة رافعة سبابتها أمام وجهه:
, -ده شيء يخصني، ومعلش يعني سيادتك مش هاتنفعني لما أترفد من المدرسة ولا يتخسف بمرتبي الأرض!!
, رد عليها بسخط:
, -يا ستي اقعدي مرتاحة في بيتك معززة مكرمة وبعد كده ربك يسهلها!
, لم تنتبه إلى رفيقتها التي ظلت باقية في الخلف منتظرة إياها لكي تفرغ من حديثها، لكنها استشعرت احتمالية امتداد الحوار بينهما، فهتفت قائلة بحرج:
, -بسمة أنا داخلة جوا، عاوزة حاجة مني؟
,
, التفتت برأسها نحوها، وردت بجدية:
, -استني أنا جاية معاكي!
, تدخل دياب في حوارهما قائلاً بصلابة:
, -معلش يا أبلة هي مشغولة معايا، روحي انتي شوفي مصالحك، متشكرين مش عاوزين نعطلك!
,
, تحرجت رفيقتها كثيرًا، فاكتفت بالابتسام وتحركت مبتعدة عنهما، انزعجت بسمة من تصرفه الوقح، فصاحت مستنكرة بعصبية:
, -انت مالك ومال زميلتي؟ هو أنا وكلتك تكلم عني؟ ولا ناقصة لسان!
, رد عليها مداعبًا:
, -ما شاء **** إنتي عندك فائض فيه!
, قبضت بيدها أكثر على عكازها هاتفة:
, -لو سمحت أنا٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بجدية:
, -ما أنا مخلصتش كلامي يا أبلة!
, نفخت بصوت مسموع وهي تقول بعبوس جلي:
, -انجز!
,
, رفع حاجبه للأعلى ساخرًا:
, -بقى دي كلمة يا أبلة تعلموها للعيال عندكم؟
,
, ضجرت من ثرثرته الزائدة، فهتفت بنفاذ صبر:
, -عاوز ايه؟
, -انتي هايجيلك استدعا من النيابة
, -ليه؟
, وضع يده على طرف ذقنه يفركه بعصبية وهو يجيب على مضض:
, -هما شاكين في الجزار إنه يكون ورا الحادثة بتاعتك!
,
, تحولت نظراتها للشراسة، وتعابير وجهها للاحتقان، وبدأت خيوط حمرة الغرب تتجمع على وجنتيها، صاحت بنبرة مغلولة:
, -الجبان الخسيس، قلبي كان حاسس إنه وراها!
, ضربت بعكازها على الأرضية، ثم استدارت بجسدها متابعة بوعيد مغتاظ:
, -و**** ما سيباه
,
, اعترض دياب طريقها متسائلاً:
, -استني رايحة فين؟
, كزت على أسنانها بقوة وهي تقول:
, -هاعرفه مقامه!
, أشار لها بكفه قائلاً بغموض:
, -لأ خلاص، مفيش داعي، أنا ظبطهولك!
, كورت قبضتها بعنف متابعة بحنق:
, -أنا مخدتش حقي لسه منه، ومش٣ نقطة
, قاطعها مازحًا وهو يشير بكفي يده:
, -اهدي بس، ماتبقيش زي القطر واخدة في وشك ودايسة اللي واقف قدامك!
, حدجته بنظرات مزعوجة، ثم ضغطت على شفتيها متسائلة:
, -في حاجة تانية؟
, ابتسم قائلاً:
, -تعالي أما أوصلك البيت، مش انتي خلصتي اللي وراكي؟
, تجهمت تعابير وجهها وهي تجيبه باقتضاب:
, -اه، بس هاخد تاكسي
, وضع يده على صدره قائلاً بغطرسة قليلة:
, -تاكسي وأنا موجود؟ دهحتى عيبة في حقي!
, ردت عليه بتهكم:
, -هو انت قلبت عربيتك أجرة؟
,
, نظر لها بضيق، ثم لوى ثغره قائلاً:
, -شربات، لسانك بينقط عسل أسود!
, -بايخة!
, -إيش حال مابقينا نسايب ومعارف أكتر وحبال الود رايحة جاية بينا٣ نقطة
, -استغفر **** العظيم يا رب
, اقترح عليها قائلاً بهدوء علها تقتنع بحديثه:
, -طب بصي اركبي ورا، وأهو نص العمى ولا العمى كله!
,
, ردت قائلة باستغراب:
, -إيه الحكمة اللي نزلت عليك فجأة
, هز رأسه للجانبين قائلاً بهدوء:
, -يهدي من يشاء بغير حساب!
,
, أدارت وجهها للجانب لتخفي ابتسامتها من طريقته الطريفة، لكن سريعًا ما اختفت حينما تابع قائلاً بجدية:
, -هاتي ايدك
,
, هتفت مستنكرة وقد زاد انعقاد ما بين حاجبيها:
, -نعم؟
, تنحنح مرددًا بخفوت:
, -قصدي عكازك!
, سألته مستفهمة:
, -ليه؟
, أجابها مبتسمًا بتأكيد وهو يغمز لها:
, -هاقعده جمبي يونسني!
, ظهر شبح ابتسامة رقيقة على ثغرها، ثم أدارت رأسها للجانب لكنها كانت تلمحه من طرف عينها.
, ٢٨ نقطة
,
, احترقت كمدًا من وقاحته الفظة معها، أنهى بأسلوبه اللاذع أي بارقة أمل للتودد إليه، بل قضى على رغبتها في التعلق به، ولكن هذا ليس معناه أن تجعله يهنأ مع غيرها، مثلما جعلها تحترق غيظًا وحنقًا، ستحيل حياتهما إلى جحيم متواصل، حدقت في انعكاس صورتها في المرآة لترى شبح امرأة تنهشها نيران الحقد والغل، ولن تسمح للهيب غضبها أن يأكلها هي فقط.
, همست نيرمين من بين شفتيها بتوعد مخيف:
, -هاتشوفوا انتو الاتنين، مش نيرمين اللي يتعمل فيها كده وتسكت!
,
, بكت رضيعتها حتى اختنق صدرها من كثرة الصراخ، لكنها لم تكترث بها، نظرت لها بقسوة مزدرية، اندفعت والدتها نحو الغرفة صائحة بتوبيخ:
, -ايه يا بنتي؟ مش سامعة صراخها؟ حرام عليكي!
, تحركت أنظارها نحو والدتها وهي ترد بفتور:
, -تلاقيها عاوزة تغير ولا اتنيلت جاعت!
, حملتها عواطف برفق بين ذراعيها لتهدهدها برفق، وربتت على ظهرها بحنو كبير، نظرت إلى ابنتها قائلة بضيق:
, -راعي **** في الأمانة اللي معاكي بدل ما تروح منك!
,
, ردت عليه نيرمين بصياح متشنج:
, -يووه، أنا مخنوقة وجاية أخري، مش ناقصة حد يعتت في جتتي!
, استاءت من تحجر قلبها نحو رضيعتها، من قسوتها الغير مبررة، فمصمصت شفتيها هاتفة بيأس:
, -هاقول ايه بس غير **** يهديكي!
, ٣٨ نقطة
,
, اعتدل في جلسته بعد أن أسند فنجان قهوته الفارغ، ثم وضع ساقه فوق الأخرى ليبدو مظهره أكثر صرامة، ابتسم له الشيخ إسماعيل بود لاستجابته لدعوته في ضيافته بمنزله، وهتف مرحبًا:
, -شرفتنا يا سيادة المأمور، شوية والحريم هاينزلوا بالغدا و٣ نقطة
,
, قاطعه المأمور قائلاً بجدية:
, -مافيش داعي، كفاية القهوة!
,
, ابتسم قائلاً بود مهذب:
, -ليه بس جنابك؟ هو احنا كل يوم بيجيلنا مأمور المركز، ده الليلة عيد عندنا!
, -كتر خيرك، دايمًا الدار مفتوحة بكرمك
, -**** يخلي سيادتك، المهم بلدنا تكون عجبتك!
, -مش بطالة، أنا بقالي شهرين هنا بس مبسوط من الناس
, -إن شاء **** يبقوا سنتين
,
, ضحك الاثنان بتكلف كنوع من المجاملة الودودة، لكن هدأت ضحكاتهما ليسترسل بعدها المأمور في حديثه الجدي قائلاً:
, -شوف يا حاج إسماعيل، بما إنك من كبارات البلد هنا، فأنا حبيت أتكلم معاك بشكل ودي الأول قبل ما أخد خطوة تانية!
, توترت تعابير وجه الأخير وهو يرد بحذر:
, -اتفضل جنابك
, انتظر المأمور للحظات قبل أن يكمل بغموض:
, -موضوع حريق دار خورشيد، مش قضاء وقدر، ده بفعل فاعل!
, ارتفع حاجباه للأعلى مظهرًا قلقًا أكبر عن ذي قبل.
, تابع المأمور موضحًا:
, -المعمل الجنائي قال في تقريره إن الحريقة مفتعلة، بمعنى إن في حد عمل زي قفلة في الكهربا عشان يولعه!
, ازدرد الحاج إسماعيل ريقه بصعوبة، وجاهد ليبدو هادئًا في تصرفاته، لكن تأكدت شكوكه تمامًا، وخشي أن يفتح أمره أمام ذلك الضابط المخضرم في وظيفته.
, أخرجه من تفكيره المتوجس صوته المردد:
, -والسؤال هنا بقى بصفتك عارف كل كبير وصغير هنا، مين ليه يا حاج إسماعيل عداوة مع عيلة رياض خورشيد؟
, تلعثم الحاج إسماعيل وهو يجيبه:
, -احنا.. كلنا أهل في بعض، و٣ نقطة
, أشار له بكفه معللاً:
, -شوف أنا عارف الكلام د كويسه، بس لازم يكون في زي حاجة كده حصلت، شد بين رياض وحد من البلد، أو مراته جايز بنته و٣ نقطة
, -المرحوم كان راجل طيب وفي حاله، ومراته اللي يرحمها كانت زي النسمة محدش بيكرهها!
,
, ضاقت نظرات المأمور نحوه، ثم انحنى للأمام متسائلاً:
, -وبنته؟
, تردد في إخباره بالمشاجرة العنيفة التي دارت مع قريبها، هو لا يريد الزج بنفسه في مشاكل ما دون داعٍ بسبب اندفاع فتحي، فبدا مرتبكًا وهو يقول:
, -و**** هي سافرت عند.. عمتها، و٣ نقطة
, تفرس في وجهه بنظرات غامضة، بدا حديثه غير مرتب وكأنه يحاول اختلاق الأعذار، فاستشف بخبرته وجود خطب ما، لكنه لم يرد إثارة ريبته، ابتسم هاتفًا بتنهيدة مرهقة وهو ينهض من مقعده:
, -طالما عند عمتها يبقى مافيش مشاكل من ناحيتها، عمومًا أنا بأشكرك على القهوة دي، ومنتظرك تنورني في مكتبي!
, ٤١ نقطة
,
, أعدت عدتها في ظهيرة اليوم التالي لتسافر بصحبته ومعها عمتها وبسمة، واستعان هو بسيارة أخيه كبديل عن سيارته المحترقة، انتظرهن بالأسفل بوجه جامد الملامح، نظراته فارغة إلى حد كبير، خفق قلبه لمجرد رؤيتها، فسحب نفسًا عميقًا ليضبط به انفعالاته قبل أن تتغير، هو تعمد عدم إظهار تأثره بها، يكفيه حاليًا حدتها المستمرة معه ليسمع منها ما يزعجه.
, استقر الجميع في المقاعد، وانطلق بالسيارة نحو وجهته غير متوقع ما سيحدث هناك ٤ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و wagih
٦٦
استوقفته بالإجبار عند ناصية الطريق حينما لمحها تشير له بيدها، فأخفض سرعة سيارته تدريجيًا حتى توقفت عن الحركة على مقربة منها، دنت منه وعلى ثغرها ابتسامة هادئة، ومررت أنظارها على الجالسات بالسيارة.
, انحنت فاطمة بجسدها للأمام قليلاً لتتمكن من رؤية وجه أسيف بوضوح، واستطردت حديثها قائلة:
, -الحمد**** إني لحقتكم! الأول مبروك على الخطوبة، وربنا يتمم على خير ويسعدكم
, ردت أسيف بصوت رقيق لكنه خافت:
, -**** يبارك فيكي
, ردت عواطف باهتمام:
, -تسلمي يا بنتي، **** يسعد قلبك ويفرحك!
, سألها منذر بجدية واضحة على تعابيره:
, - في حاجة جدت يا دكتورة؟ طمنيني؟
, هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
, -لأ، بس أنا كنت عاوزة أشكرك على اللي عملته مع الـ٤ نقطة
, ضغطت على شفتيها بقوة مانعة نفسها من ذكر اسم ذلك البغيض الذي اعتدى عليها بصيدليتها، فاضطرت أن تغلقها خوفًا من تكرار مثل ذلك الهجوم الوحشي عليها.
, اعتذر لها منذر قائلاً بامتعاض:
, -أنا اسف إني قصرت معاكي وقتها، بس و**** ٤ نقطة
, قاطعته قائلة بابتسامة ودودة:
, -مافيش داعي للاعتذار يا أستاذ منذر، إنت ملكش ذنب، هو أصلاً بني آدم بشع، وده حصل فجأة و٤ نقطة
, رد عليها معللاً:
, -أنا عرفت باللي حصل كله بعد كده، وجيت عشان أشوفك، وأتعامل معاه، بس لاقيتك قافلة الصيدلية، والرجالة بلغوني إنك مش موجودة!
, أوضحت قائلة بضجر:
, -كنت مضطرية أبعد بدل ما يـ٤ نقطة
, أجبرت نفسها على الصمت للحظة لتنفض تخيل الموقف المؤلم عن ذاكرتها، ثم ابتسمت مرددة بتكلف:
, -يالا الحمد****، أهو **** ريحنا منه، والبركة طبعًا فيك
, رد عليها منذر بهدوء:
, -أنا معملتش حاجة، هو خد جزاته!
, أضافت قائلة بامتنان:
, -**** يباركلنا فيك يا أستاذ منذر، وبأعتذر إني عطلتكم!
, رد عليها مبتسمًا:
, -خدي راحتك يا دكتورة!
, لوحت فاطمة بيدها مودعة إياهم، وقبل أن يدعس على دواسة البنزين لتتحرك السيارة انتبه لصوت أخيه الصادح عاليًا:
, -منـــذر! منذر!
, استدار برأسه للخلف ليجده يركض ناحيته، فانعقد حاجبيه باستغراب كبير، ابتسم له دياب هاتفًا بصوت لاهث:
, -استنى أنا جاي معاكو!
, تعجب كثيرًا من قراره المفاجئ فسأله مهتمًا:
, -ليه إن شاء ****؟
, رد عليه بعد أن تنفس بعمق:
, -عادي يعني، قولت أونسكم!
, ثم سلط أنظاره على حبيبته الجالسه بالخلف التي كانت تبادله نظرات متعجبة من حضوره، داعبها بغمزة حذرة من طرف عينه، ثم استدار في اتجاه أخيه الذي بدا مزعوجًا من تواجده الغير مبرر.
, أفسحت عواطف المجال له لتجلس بجوار الشابتين في المقعد الخلفي، بينما جلس هو إلى جوار أخيه الذي انطلق نحو وجهته فورًا.
, ٣١ نقطة
,
, انزعجت من بقائها بمفردها في المنزل رغم اختيارها لذلك، هي رفضت التواجد معهمكي لا تثار أعصابها من تلك المشاعر المستفزة لها، ظلت تذرع غرفتها جيئة وذهابًا حتى شعرت بدوار خفيف، فتوقفت عن الحركة لتجلس على طرف الفراش، ضاقت نظراتها، وبدأت تفكر في طريقة ماكرة للإيقاع بينهما.
, أخرجها من تفكيرها الشيطاني صوت دقات ثابتة على باب المنزل، فنهضت بتثاقل من مكانها لتتجه نحوه، ارتسم على تعابيرها علامات الاندهاش حينما رأت طليقها الأسبق واقفًا قبالتها.
, انفرجت شفتاها مرددة بصدمة:
, -حاتم! انت بتعمل ايه هنا؟
, حدق فيها بجمود قبل أن يجيبها باستنكار:
, -جاي أشوف بنتي، مش أنا أبوها، ولا ناسية ده كمان؟
, نظرت له شزرًا وهي ترد بسخط:
, -مش بعوايدك يعني، بقالك مدة قاطع رجلك، دلوقتي افتكرت إن ليك بنت، ده انت ما هان عليك حتى تبعتلها فلوس تشوف طلباتها ولا٣ نقطة
, قاطعها قائلاً بغموض مريب:
, -وأنا جاي النهاردة عشانها
,
, نظرت له بازدراء قبل أن توليه ظهرها لتتحرك نحو الداخل قائلة باقتضاب:
, -بس هي نايمة!
, خطى للداخل بتمهل ممررًا أنظاره سريعًا على أرجاء الصالة، تقوس ثغره للجانب، فقد راقب المنزل جيدًا ليتأكد من خلوه من ساكنيه حتى يتمكن من الانفراد بها.
, أضاف حاتم بامتعاض:
, -طيب هابص بس عليها، وأديكي فلوس عشانها!
, مصمصت شفتيها قائلة بتهكم صارخ:
, -فلوس، ياما جاب الغراب لأمه!
, استدارت برأسها نحوه لتسلط أنظارها على يده الموضوعة بداخل جيبه، لكنها لم تتخذ حذرها منه، فقد باغتها بتسديد لكمة عنيفة في عينها اليسرى ألمتها بشدة، تفاجأت من الضربة، وتراجعت للخلف مترنحة.
, كرر لكمها في وجهها قائلاً بشراسة:
, -بتفضحي أمي وأختي في الشارع، وربنا لأحرق قلبك وأوجعك!
, تأوهت من الألم الشديد، وقبل أن تستوعب ما يدور معها، طرحها أرضًا بفعل ضرباته العصبية المتتالية على وجهها، فارتطمت بمؤخرة رأسها، غلف أعينها سحبًا ضبابية، وأوشكت على فقدان وعيها، قاومت بصعوبة واضحة عليها تلك الحالة الواهنة التي تمكنت منها.
, لمحته بنصف عينٍ وهو يندفع نحو غرفتها ليأخذ رضيعتها بالقوة، مدت يدها محاولة منعه، لكنها لم تصل أبدًا إليه، بصق فوقها لاعنًا إياها:
, -انتي ولية ٧ نقطة، بنت٧ نقطة !
, بكت الرضيعة من صوت صراخه، فلم يهتم بها، وأكمل باحتقار:
, -وريني هاتخدي بنتك ازاي يا ٧ نقطة!
, خرج صوتها متحشرجًا واهنًا وهي ترد:
, -سيب البت، هاتها!
, رمقها بنظرات دونية أخيرة، ثم تحرك مبتعدًا عنها تاركًا إياها في حالة لا وعي واضحة، جاهدت لتنهض من رقدتها لتلحق به، لكنها لم تستطع، خانتها قواها، ومادت بها الأرض، ففقدت وعيها في مكانها، وواصل هو هروبه بابنته.
, ٤٤ نقطة
,
, لم يتوقف عن التحديق بها من خلال رؤية انعكاس وجهها في مرآته الأمامية، كانت تلتقي أعينهما بين الحين والأخر، لكنها سريعًا ما تخفض نظراتها متحاشية النظر إليه، فيزداد تورد وجنتيها خجلاً منه، هي تخشى من ترك العنان لمشاعرها للانسياق وراء شيق لا تضمن عواقبه، ربما هناك نوع من الاحترام، العرفان بالجميل له، لكنها لا تريد للأمر أن يزيد عن حده معه، بمعنى أدق تقاوم أي رغبة بداخلها لتصديق ما تراه بعينيها.
, تمنى منذر لو تخلت للحظة عن عنادها المؤذي، وفكرت فيه فقط من زاوية أخرى، حتمًا سترى محبته الصادقة لها، ستدرك أنه متيم بها، يعشقها، واهتمامه بها نابع من قلبه، أخرج من صدره تنهيدة مطولة تحمل الكثير من أمنيات يحلم بتحقيقها لينتبه على صوت أخيه المتسائل باهتمام:
, -على كده بلدكم حلوة يا أسيف؟
, أجابته بتلقائية:
, -ايوه، انت لما هاتشوفها هاتعجبك!
, ابتسم مادحًا:
, -كفاية إنك من هنا!
, ثم وجه حديثه إلى معشوقته الجالسة إلى جوارها متسائلاً:
, -ولا إيه رأيك يا أبلة؟
, ردت عليه بسمة بعبوس واضح:
, -أنا ماليش في جو الأرياف!
, استنكرت أسيف عبارتها الأخيرة، فهي تحمل نوعًا من الإهانة – حتى وإن كانت غير مقصودة أو عفوية – فنظرت لها بعتاب قائلة:
, -على فكرة أهلنا هناك طيبين، مش زي ما الناس مفكرة إنهم على نياتهم ولا٦ نقطة
, قاطعتها بسمة معتذرة بهدوء:
, -أنا مقصدش حاجة وحشة و****، بالعكس دول أحسن ناس، بس أنا اتعودت على العيشة بتاعتي، ليا لي نظام معين، فصعب أتأقلم بسهولة على أي حاجة جديدة!
, سألها دياب بفضول:
, -وايه هو نظامك يا أبلة؟
, ضاقت نظراتها نحوه وهي ترد بفتور:
, -هايفيدك في حاجة لما تعرفه؟
, لكزتها والدتها في جانبها برفق مرددة من بين شفتيها بحذر:
, -عيب يا بسمة كده!
, رسمت على ثغرها ابتسامة متسعة قبل أن تستكمل حديثها:
, -يا سي دياب بنتي دي تتحط على الجرح يطيب، بس لسانها يهدى شوية!
, هز رأسه متفهمًا وهو يؤكد قائلاً:
, -انتي جبتي الخلاصة يا ست عواطف!
, اغتاظت بسمة من اتحاد والدتها معه، وكأنها تتعمد إحراجها أمامه، فأضافت بتبرم:
, -متشكرة يا ماما، مافيش داعي إنك ٤ نقطة
, قاطعها دياب متسائلاً بجدية:
, -أومال هاتيجي الدرس امتى؟ الواد يحيى بيسألني عليكي كل شوية، معدتش بيفهم من حد إلا انتي!
,
, نظر له منذر من طرف عينه غير مقتنع بما يقول، ولوى فمه قائلاً بصوت خفيض:
, -يحيى برضوه!
,
, أجابته عواطف بتنهيدة متعبة:
, -إن شاء ****، تقف على رجلها، وهاتيجي
, رد عليها دياب بحماس:
, -وليه تتعب نفسها؟ ده أنا أجيبه لحد عندك يا أبلة، ولا إيه رأيك؟
,
, زمت بسمة شفتيها هاتفة:
, -نتكلم عن ده بعدين، خلونا مركزين في الطريق، احنا على سكة سفر!
, أشـــار دياب بكف يده قائلاً:
, -ماشي، شغلنا يا منذر حاجة كده تفرفشنا
, ردت عليه بسمة بحدة طفيفة:
, -بأقولك احنا على سكة سفر، انت عاوزنا نتقلب ونروح جهنم؟
, حذرتها عواطف قائلة بحرج:
, -خلاص يا بنتي، خليه يشغل الراديو، دي عربيتهم بردك!
, أراد منذر استغلال الموقف قليلاً ليسترسل في الحديث مع خطيبته علها تتجاوب معه، فسألها بهدوء:
, -ايه رأيك يا أسيف؟ تحبي نشغل حاجة معينة؟
, ردت بفتور واضح:
, -اللي يريحكم!
, هتف دياب قائلاً بتحدٍ:
, -أقولكم بناقص من الراديو خالص، أنا هاسليكم ببؤي!
, تمتمت بسمة بامتعاض هامس مبدية انزعاجها منه:
, -يا ربي على الصداع، جيتك معانا من الأول غلط!
, ٤٣ نقطة
,
, تهالك جسده ولم يقوَ على الوقوف مطولاً حينما أبلغه الطبيب بسوء الحالة الصحية لأخيه وأبيه، وخاصة الأخير الذي ربما تدهور حالته أكثر إن استمر وضعه النفسي هكذا، استند بكفه على الحائط، ونكس رأسه أسفًا على كليهما.
, ربت الطبيب على كتفه قائلاً بهدوء:
, -اجمد يا أستاذ مازن، وإن شاء **** هيبقوا أفضل
, لم يعقب عليه، بل نظر له بأعين شاردة منكسرة، ففي لحظة اندفاع طائشة خسرت عائلته كل شيء، النفوذ، السمعة، المال، والقوة.
, نظر له الطبيب بجمود ثم تركه في مكانه وانصرف ليتابع مرضــاه، رفع مازن رأسه للأعلى، وحدق في الفراغ مستعيدًا في ذاكرته ما ارتكبه خلال الفترة الماضية من حياته، كل ما أراده حدث حتى لو كان بالقوة والغصب، لم يعبأ يومًا بتبعات جرائره، فهو معتمد دومًا على عائلته، لكن لا أحد منهما الآن قادر على مساعدة نفسه، وما زاد من الطين بلة هو إبلاغ محاميه بوصول إخطار بقضية "خلع" أقامتها زوجته ولاء ضده في المحكمة، ليتزعزع بعدها كل شيء، خاف من أن تفضح أمره، وأن تكشف اعتدائه الوحشي عليها وما تبعه من إصابة بعاهة مستديمة، فحتمًا سيزج به في السجن، عجز عن التفكير بوضوح، وتهاوت قواه، لكنه تمالك نفسه كي لا يسقط أرضًا.
, جرجر ساقيه حتى وصل إلى أقرب مقعد، فألقى بثقل جسده عليه دافنًا وجهه بين راحتيه لينتحب بأنين موجوع:
, -كل حاجة كده راحت، طب ازاي هاقدر أرجع كله زي ما كان لوحدي؟ ازاي؟٣ علامة التعجب
, ٣٩ نقطة
, أفاقت من إغماءتها المؤقتة لتجد نفسها بمفردها في منزلها ورضيعتها غير متواجدة به، جزع قلبها بقوة، الآن تذكرت ما حدث، جاء طليقها الأسبق، واختطف الصغيرة بعد أن ضربها بقسوة، أسرعت نحو غرفتها لتحضر عباءتها، ثم ارتدتها على عجالة فوق ثيابها المنزلية، ولفت حجابها حول رأسها لتهرول بعدها إلى خــارج المنزل.
,
, بحثت سريعًا عن أقرب سيارة أجرة لتستقلها إلى منزل عائلته، فهو بالطبع سيذهب بها إلى هناك، هو صدق حينما ألقى على مسامعها تلك العبارة العدائية، ستعاني الأمرين معه ومع ذويه.
, ترجلت من السيارة راكضة نحو بنايتهم غير مكترثة بباقي الأجرة هي تعرف ذلك المكان جيدًا، ذاقت فيه الكثير من العذاب والمذلة، وعانت من ويلات قسوته، وجبروت والدته، لكن ذلك لا يهم، فالأولى عندها هو أن تصل إلى رضيعتها، صعدت الدرج بخطوات متعاقبة حتى تقطعت أنفاسها فتوقفت لتتنفس ببطء، ثم واصلت صعودها الراكض إلى طابقهم.
, احتقن وجه نيرمين بحمرة غاضبة، واشتعلت نظراتها على الأخير حينما سمعت صوت ضحكاتها الرقيعة المنبعثة من الداخل، تلك الضحكات التي كانت تستفزها وتحرقها حية حينما تملي على ابنها أوامره فينفذها دون نقاش، تأكدت الآن أنها وراء مخطف رضيعتها منها.
, دقت الباب بعنف حتى كادت أن تخلعه صارخة:
, -افتحوا يا عيلة مافيهاش راجل، افتحوا يا ولاد الـ٥ نقطة، هاتولي بنتي يا ٥ نقطة!
, فُتح الباب على مصراعيه لتظهر لها لبنى بوجهها المتجهم، فزاد غيظ نيرمين منها، اندفعت بجسدها نحوها، لكن صدتها الأخيرة بكفها قائلة ببرود مثير للأعصاب:
, -رايحة فين يا روح أمك؟
, أجابتها بصوت محتد:
, -داخلة لبنتي!
, دفعتها لبنى بقوة من كتفها للخلف وهي ترد بقسوة:
, -مالكيش بنات عندنا، روحي ارمي بلاكي على حد تاني
, أطلت شاهندة برأسها لتضيف هي الأخرى بوعيد صريح:
, -كنتي مفكرة هنفوتلك اللي عملتيه بالساهل، اه بنتك عندنا، بس ابقي قبلينا لو شوفتيها تاني!
, اشتدت تعابير وجه نيرمين عقب ما قالته، وبرزت مقلتيها من محجريهما بنيران مستعرة، فصرخت فيهما بغضب جم ملوحة بذراعها:
, -لأ فوقي لنفسك منك ليها، ده أنا لحمي مر و٤ نقطة
, قاطعتها لبنى قائلة بإهانة قاسية:
, -على نفسك يا بنت الـ٧ نقطة
, صاحت شاهندة بنبرة عالية وهي تصفق بكلتا يديها:
, -يا نسوان جت الحرباية اللي ما تتسمى، عاوزين نحفل على اللي جابوها!
, تفاجأت نيرمين بوجود بعض النساء بالخلف يتشحن بالسواد، تعابير أوجههن تشير إلى شيء خطير على وشك الحدوث معها، في أقل من ثوانٍ معدودة كانت محاصرة من قبلهن، تلفتت حولها بذعر كبير، وقبل أن تجد مهربًا لنفسها منهن، انهلن سريعًا عليها بأيديهن وبالأحذية معتدين عليها بالضرب المبرح.
, صرخت نيرمين مستغيثة:
, -الحقوني، آآآه، حرام عليكم، هاموت في ايدكم يا٦ نقطة
, هتفت لبنى قائلة بتشفٍ:
, -ربوها، علموها الأدب بنت الأبلسة دي!
, بينما أضافت شاهندة بحقد:
, -جاية تخربي عليا يا خرابة البيوت يا مطلقة، ده احنا هنحرق قلبك وهنوريكي السواد كله!
,
, في نفس الأثناء كان ناصر صاعدًا على الدرج ليقابل رفيقه حاتم بعد أن وجد صعوبة في الاتصال به، فرأى تلك المشاجرة الحامية بين النساء، اتسعت حدقتاه في اندهاش، وراقبها مستمتعًا، لكن شيطان رأسه وسوس إليه بالتدخل ليحظى بمتعة أخرى.
, رسم على تعابيره الجدية والعبوس، ثم دنا منهن صائحًا باستنكار:
, -عيب يا ستات اللي بتعملوه ده، مايصحش كده أبدًا!
, استخدم ذراعيه ليمر بينهن حتى تمكن من الدخول وسطهن، فوجد نيرمين ملاقاة على الأرضية، منكمشة على نفسها، وشبه ممزقة لثيابها، انحنى عليها متعمدًا تلمس أجزاء محددة من جسدها وكأنه يحميها، لكنه نواياه معها كانت دنيئة للغاية، واصل صياحه هاتفًا بضيق زائف:
, -هاتموت في ايدكم، كفاية كده! هي عملت ايه بس؟
,
, شعرت هي بتلك اللمسات الحرجة على جسدها، بأيادٍ تستبيحها، لكنها لم تستطع سوى الصراخ المستنجد، على إحداهن ترفق بها، ورغم هذا ظلت الضربات متتالية عليها تنال كل جزء فيها.
, ردت لبنى بقسوة وهي تشير بيدها:
, -ملكش دعوة انت يا ناصر، دي حاجة تخصنا احنا!
, رد عليها معاتبًا وهو يعتدل في وقفته:
, -ليه بس يا أم حاتم؟ هاتزعليني و****!
, التوى فمها للجانب وهي ترد بازدراء:
, -متكلفش خاطرك وتزعل على بوز الإخص العقربة دي!
, خشي من افتضاح أمره، فتحرك مبتعدًا عنها قائلاً بإصرار:
, -عشان خاطري أنا!
, نظرت له لبنى بجمود مستنكرة دفاعه عنه، فتابع موضحًا:
, -مهما كان بردك، دي حاجة وحشة في حقكم، وجايز تموت هنا وتلبسوا مصيبة وانتو مش ناقصين ٥ نقطة
,
, قاطعته قائلة ببرود:
, -بأقولك ايه، سيبها وتعالى جوا استنى صاحبك لما يرجع، هو في الفرن وجاي!
, حك ناصر مؤخرة رأسه، ثم خطى نحو الداخل مكتفيًا بما حظى به اليوم.
,
, توقفت النساء عن ضربها بوحشية، فهمست نيرمين بأنين موجوع:
, -بنتي يا ولاد الهرمة، بنتي هاتوهالي!
, ردت عليها شاهندة بسخط واضعة يدها على منتصف خصرها:
, -حوش حوش الأمومة بتنط منك، ده احنا دافنينوه سوا يا ٤ نقطة!
, هتفت لبنى بامتنان مخرجة منديلاً مطويًا من صدرها:
, -تسلم ايدكم يا حبايب، نجاملكم في الفرح يا رب!
, انصرفن بعدها واحدة تلو الأخرى بعد أن أعطت زعيمتهن مبلغًا نقديًا تم الاتفاق عليه مسبقًا نظير القيام بتلك المهمة البسيطة، ثم انحنت عليها بجسدها على ضحيتها الملاقاة عند عتبة منزلها لتضيف بوعيد شرس:
, -ولسه الدور جاي على أمك وأختك، ماهو لازم ينوبهم من الحب جانب!
, صفعتها بظهر كفها على وجهها، ثم بصقت فوقها متعمدة الإساءة أكثر إليها قبل أن تتركها على تلك الوضعية وتصفق الباب خلفها بقوة.
, بكت نيرمين بعجز مقهور، شعرت بتلك الوخزات الحادة تعصف بصدرها، بتلك الآلام الموجعة في أنحاء جسدها، لكن لا يقارن هذا أبدًا بإحساسها بفقدان رضيعتها الوحيدة، ففي تلك اللحظة تحديدًا تيقنت أنها لن تستطيع استعادتها بسهولة ٦ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٧
كانت بالنسبة لها زيجة تقليدية بحتة، لم تكن قائمة على قصة حب أو حتى على معرفة مسبقة، بل وافقت عليه كي لا يفوتها قطار الزواج، أو حتى تحمل لقب "عانس" بين قريناتها، وهو تقدم إليها معتقدًا أنها تملك من الأموال ما سيحسن من وضعه المادي، لكن خابت توقعاته، وتأكد من مستواها المادي المتواضع، فقط أملاك لا تأتي إلا بالقليل من العائد المادي.
, اندلعت المشاكل الفعلية بينهما منذ أول ليلة لزفافهما، واستمر الوضع على ذلك الحال بين شد وجذب، وافتعلت والدته الكثير من الخلافات بينهما، حتى خلال فترة حملها عانت من ويلات تسلطها، لم تحبها نيرمين مطلقًا، وبادلتها الأخرى نفس مشاعر البغض والكره، أرادت فقط إنجاح زواجها، لكن مع كل لحظة اكتشفت أنها تسرعت في قرارها، وأخطأت في اختيار حاتم زوجًا لها.
, لم تتوقف عن البكاء المرير بعد تلك المهانة المذلة التي تعرضت لها، زحفت على مرفقيها لتصل إلى الدرابزون كي تمسك به حتى تتمكن من النهوض، ألمتها عظامها وكل قطعة في جسدها، التفتت برأسها لتحدق في باب منزلهم بأعينها المشتعلة كمدًا وغيظًا، ليس أمامها وسيلة متاحة لاستعادتها، هي في موقف ضعف، ستتحمل رغمًا عنها تلك الإهانة حتى تعيد رضيعتها إليها.
, أخفضت نظراتها لتحدق في هيئتها المزرية، عباءتها ممزقة، ووجهها مليء بالكدمات والتورمات، ناهيك عن باقي جسدها الصارخ بألمه، سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به نوبة بكائها، ثم كزت على أسنانها قائلة بصوتها المنتحب:
, -بنتي هاعرف أخدها منكم، وغدركم بيا هارده، مش أنا اللي أسيب حقي!
, اتجهت نحو الدرج هابطة عليه بتريث، لكنها تسمرت في مكانها مجبرة حينما سمعت صوت الباب يفتح من خلفها، أدارت رأسها ناحيته، فتفاجأت بكيس من القمامة – ذو رائحة نتنة – يُلقى في وجهها لتتناثر محتوياته الكريهة عليها.
, شهقت نيرمين صارخة من هول المفاجأة، بينما رمقتها شاهندة بنظرات دونية وهي تقول:
, -ده تمامك يا قذرة! اتفوو!
, صفقت الباب بعنف في وجهها ليزداد حنقها وتشتعل في مكانها، أغرقتها القمامة كليًا، خاصة أنها كانت تحوي مياه كريهة، فعبأت عباءتها برائحة منفرة، ضربت بيدها المتكورة بعصبية على الدابزون، وصرخت من بين شفتيها بغل محتد:
, -يا ولاد الـ٥ نقطة، مش هاسيبكم، هاموتكم كلكم، وربنا لأردلكم اللي عملتوه فيا، وهاتشوفوا!
, أكملت هبوطها على الدرج مطلقة وابلاً من السباب اللاذع منفسة عن غضبها المحتقن بداخلها.
, ٤١ نقطة
,
, سرحت في الطريق بنظرات شاردة من نافذتها الملتصقة بها، مر ببالها لمحات سعيدة من حياتها مع أبويها الراحلين، ولمحات أخرى تعيسة حينما عايشت لحظات فراقهما، تنهدت بعمق مقاومة تأثير ذلك عليها، كم اشتاقت إليهما كثيرًا، هي بحاجة ماسة إلى أحضانهما الدافئة، تنهدت أسيف مجددًا لتضبط انفعالاتها قبل أن يلاحظ أي أحد حالتها المرتبكة تلك.
, لكن على عكسهم تمامًا كان مراقبًا جيدًا لكل ما يخصها، بل متابعًا عن كثب لأقل شيء يصدر عنها، شعر بحزنها البادي على وجهها، استشف سبب ضيقها دون أن يخمن ماهيته، أراد أن يحتويها، أن يعوضها عما فات، لكنها لا تترك له الفرصة لفعل ذلك، يرغب في أن تثق به، تمنحه الفرصة ليعبر لها بصدق عن حاله، لكنها دومًا تصده، تختلق الأعذار لتبتعد عنه حتى وإن كانت تعمد لأسلوب الهجوم والفظاظة، عاد من تفكيره المتعمق إلى أرض الواقع على صوت بوق إحدى الشاحنات، فانتبه منذر للطريق وأكمل قيادة السيارة بحذر.
, فرك دياب رأسه متسائلاً باهتمام:
, -مفكرتيش ليه تشتغلي يا أسيف زي بقية البنات، ولا عندكم بيمانعوا في ده؟
, انزعج منذر من استرسال أخيه في الحديث معها بأريحية تامة، فهو متحرج من مجرد اختلاق أي عذر لسحب الكلمات من على شفتيها، وهو لا يجد جهدًا في جرها نحو ثرثرته الزائدة عن الحد، تجمدت أنظاره على أعين أسيف حينما أجابت هامسة:
, -عادي، بالعكس بابا **** يرحمه كان مرحب بالفكرة، بس.. مكانش حابب إني أتعب وهو موجود، فـ.. فأعدت في البيت
, أضافت عواطف قائلة بنبرة أمومية:
, -يا بنتي هي البنت ليها ايه غير بيت جوزها وتربي ولادها كويس، والستر و٣ نقطة
, اعترضت بسمة على تفكيرها القديم قائلة:
, -ماما، بلاش الأفكار دي، خلاص عفا عليها الزمن!
, بدا دياب مهتمًا بمعرفة سبب رفضها لتلك المعتقدات، فسألها بجدية وهو يدير رأسه في اتجاهها:
, -ليه يعني؟
, حدقت في عينيه مباشرة، ثم أجابته بامتعاض وهي تشير بيدها:
, -مش معقول بعد تعب السنين دي كلها في المدارس والكلية أقعد في البيت أطبخ وأغسل وأنشر، وأربي العيال
, رد عليها دياب بضيق قليل:
, -محدش قال كده، بس بيتك المفروض يكون ليه أولوية عندك
, احتدت نظراتها وهي تصر على رأيها مؤكدة:
, -ايوه، بس الكلام ده لسه بدري عليه، أنا قدامي مستقبلي، ومش بأفكر في الجواز خالص دلوقتي!
,
, اشتدت قسمات وجهه حدة من رفضها الصريح لمسألة الارتباط، فأشاح بوجهه بعيدًا عنها متجنبًا افتضاح أمره، أتاه صوت عواطف في أذنه مرددة:
, -بردك البنت في النهاية ليها الجواز، المدة طولت قصرت، مش هاتتهنى إلا مع جوزها!
, التوى ثغر دياب للجانب وهو يضيف ساخرًا:
, -فهميها يا ست عواطف، جايز تسمعلك ولو إني أشك في ده!
, اغتاظ منذر من تحول مسار الحوار مجددًا للشد والجذب بينهما، فصاح بهما بضجر:
, -بصراحة انتو الجوز مش مدين فرصة لأسيف انها تتكلم خالص
, رد عليه أخيه قائلاً:
, -ما انت اللي ساكت يا منذر، حد حاشك يعني عن الكلام!
, رفع الأخير حاجبه للأعلى هاتفًا باستنكار:
, -انت شايف كده؟
, ابتسم دياب مضيفًا بمزاح:
, -ايوه، خطيبك يا ست أسيف عاوز يشلني ذنبك، قوليله بؤين صبريه بيه!
, لم يرغب منذر في فرض نفسه عليها، فصاح معنفًا إياه بقوة:
, -ماتبقاش رخم، خليها على راحتها!
, حدقت أسيف في وجهه المنعكس أمامها متأملة إياه بنظرات مرتبكة، فأمسك بها بعينيه، تورد وجهها خجلاً منه، وحادت ببصرها بعيدًا عنه
, ٣٥ نقطة
, -إنتي اتجننتي، إزاي تعملي حاجة زي كده من غير ما تشوريني؟
, صرخت شادية بتلك العبارة بعد تأكيد ابنتها خبر إبلاغ زوجها بقضية الخلع التي أقامتها ضده، نظرت لها بفتور، ثم سحبت الغطاء لتدفن رأسها أسفله وهي ترد بعدم اكتراث:
, -يولعوا!
, نزعت الغطاء عن رأسها هاتفة بتشنج:
, -اصحي كده وكلميني، انتي مش متخيلة الزفت مجد ممكن يعمل فيكي ايه، ده أنا خدت منه مليون جنية، ولا أخوه لو فاق من اللي هو فيه هـ٦ نقطة
, قاطعتها قائلة بانفعال:
, -اتصرفي معاهم انتي، أنا خدتي قراري وخلصت!
, ردت عليها شادية بهياج بائن في نبرتها وحركاتها:
, -انتي غبية ومتسرعة!
, -اه غبية عشان سمعت كلامك من الأول، بصي أهوو أديني خسرت كل حاجة في الأخر!
, -يا ولاء الزمن ده عاوز الفلوس عشان تقدري تعيشي
, -بس يا ماما، أنا تعبانة وعاوزة أنام!
, قالتها بصوت متجهم وهي تعيد سحب الغطاء على وجهها مدعية وجود رغبة ملحة بها للنوم، نظرت لها والدتها بحنق كبير، هي حاصرتها في خانة اليّك، وحتمًا ستتواجه مع المقيت مجد الذي لا ينسى من استغله يومًا.
, ٣٤ نقطة
,
, بعد برهة وصل منذر بالسيارة إلى مشـــارف بلدتها الريفية، تأهبت حواسها حينما اشتم أنفها تلك الرائحة التي اشتاقتها، أخفضت نافذتها لتستنشق نسمات الهواء المنعشة متمنية بين طياتها أن يخبئ لها القدر ما يمكنها تحمله، تساءل منذر بجدية:
, -بيتك فين؟
, أدارت رأسها في اتجاهه لتجيبه بتوتر قليل:
, -قدام شوية، هاقولك تمشي ازاي
, رد عليها بنبرة ذات مغزى:
, -وأنا متابع معاكي لحد الأخر!
, اتبع توجيهاتها حتى وصل إلى رأس الطريق المؤدي إلى بيتها، وهنا بدأت تتوتر أكثر، هي مرت بنفس الأماكن من قبل، رأت تلك الوجوه المكدة في عملها بالحقول، تعلقت أنظارها بتلك الأيادي المشققة من فرط اجتهادها حتى تحصد ثمار تعبها في نهاية المطاف، فبدأ قلبها يخفق بقوة، لكن تلاحقت نبضاته بسرعة كبيرة حينما ظهر طيف منزلها، ترقبت بأعصاب مشدودة رؤيته، دعت **** أن يكون ما أبلغها به قريبها مجرد أكذوبة مخادعة، لكن خاب رجاؤها، وصدق في إدعائه، لم يظهر أمامها سوى أطلال بيت محترق.
, توهجت عيناي أسيف بلمعان قوي، هزت رأسها باستنكار كبير رافضة تصديق ما رأته حدقتيها، انهمرت العبرات منهما دون سابق إنذار حسرة عليه، ونهج صدرها من قوة قهرها على هيئته، أهكذا تحول ذلك البناء الحجري الذي ضم أهم لحظات حياتها إلى بقايا محطمة؟ وضعت يدها على فمها لتكتم شهقة صارخة من صدرها الملتاع، تهدجت أنفاسها، وزادت لوعتها ..
, أشفقت بسمة على حالها، فلفت ذراعها حول كتفيها لتضمها إليها، فالفاجعة صعبة عليها بالتأكيد، همست لها مواسية:
, -حبيبتي يا أسيف، ده بيتك! لا حول ولا قوة إلا ب****!
, لطمت عواطف على صدرها هاتفة بصدمة:
, -يا نصيبتي، ده بقى كوم تراب، قدر **** وماشاء فعل! احتسبي عند **** يا بنتي! **** يعوض عليكي!
, زاد بكائها المتحسر على ذكريات حياة بأكملها انتهت في لحظات وتحولت لمجرد ركام متهالك.
, رأها منذر وهي تبكي فشعر بنغصة عنيفة في صدره، أراد ضمها إليه، أن يحتوي حزنها، ويلملم بقوة ضعفها الوشيك ليشعرها أنه معها في أصعب لحظاتها، لكنه عجز عن فعل ذلك، شدد من قبضتيه على عجلة القيادة حتى كاد يعتصرها، هو توقع حدوث صدمة لها حينما تراه، وود لو كان وقعها أخف عليها، لكن حال ما تبقى من المنزل لا يبشر بأي خير.
,
, أوقف السيارة ببطء منتظرًا ترجلها منها، وبأيد مرتجفة فتحت بابها لتطأ بقدميها تراب قريتها، رفضت أن تمسك بها بسمة أو عمتها، وخطت نحوه بمفردها، ولم تعترض الاثنتان على تصرفها، هي بحاجة إلى مساحة من الحرية، تباطأت أسيف في خطواتها، بل الأحق أن يُقال أنها عجزت عن السير وهي تتجه إليه، كان الأمر غير قابل للتصديق، لم يبقَ أي شيء من ذكرياتها سوى أنها احترقت بالكامل معه.
, لحق بها بخطوات متعجلة متأهبًا لتقديم أي دعم لها في حال انهيارها، وقفت هي أمام منزلها تبكي بلا توقف، تركت العنان لنفسها لتنعي ما مضى من حياتها.
, لم يقاطعها أي شخص، واكتفوا بمواساتها بتلك الكلمات المحفوظة عن ظهر قلب والتي تردد بصورة تلقائية في مثل تلك المواقف، أحاطتها عمتها من كتفيها وضمتها إلى صدرها لتبكي في أحضانها، وظلت تربت على ظهرها عدة مرات محاولة تهدئتها، بينما تراجع دياب خطوة للخلف ليقف إلى جوار أخيه، ثم مال برأسه عليه متسائلاً بجدية:
, -هاتعمل ايه؟ الموضوع طلع بجد مش مقلب من قريبها الرخم
, رد عليه منذر بنبرة جادة وقد ضاقت نظراته:
, -المفروض نروح قسم الشرطة اللي هنا ونشوف التفاصيل، الحريقة دي حصلت ازاي جايز يفيدونا!
, تلفت دياب حوله مضيفًا بهدوء:
, -ماشي، بس الأول نسأل على لوكاندة هنا قريبة عشان الجماعة اللي معانا يرتاحوا، وخصوصًا خطيبتك!
, اتجهت أنظاره نحوها حتى باتت لا ترى سواها، ثم أخرج تنهيدة مشحونة من صدره قائلاً باقتضاب:
, -ماشي، هاشوف!
,
, انتبه الجميع إلى صوت أحد الرجال صائحًا بنبرة عالية:
, -سلامو عليكم
, استدار منذر ناحيته ليطالعه بنظرات مدققة متأملة هيئته، كان شيخًا طاعنًا في السن ممسكًا بدراجته القديمة، ومرتديًا لجلباب ملطخ ببقع طينية، رد عليه بهدوء:
, -وعليكم السلام!
, سألهم زكريا باهتمام وهو يمرر أعينه بين وجوههم الغريبة:
, -عاوزين مين يا حضرات؟
, كفكفت أسيف عبراتها، وأبعدت رأسها عن صدر عمتها لتحدق فيه، ثم أجابته بنبرة مختنقة:
, -دي أنا يا عم زكريا!
, ضاقت نظراته نحوها، وهتف بنزق بعد أن تعرف إليها:
, -**** بنت الحاج رياض!
, هزت رأسها بالإيجاب، فدنا منها ساحبًا دراجته خلفه، ثم أضاف بنبرة حزينة وهو يشير بيده الأخرى:
, -و**** ما ليكي علينا حلفان، حاولنا نلحق البيت، بس **** أكبر النار مسكت فيه من كل حتة، و٣ نقطة
, قاطعته عواطف قائلة بحزن لتمنعه من الاسترسال في عباراته كي لا تنخرط ابنة أخيها في البكاء من جديد:
, -قدر **** وماشاء فعل، الحمد**** على كل حال!
, تساءل منذر بجدية وهو يومئ بعينيه:
, -متعرفش مين يا وراها يا حاج؟
, عقد زكريا ما بين حاجبيه مسلطًا أنظاره عليه، ثم رد عليه متسائلاً:
, -انت مين يا بني؟
, اشتد كتفيه حتى بدا اكثر شموخًا وهيبة، ثم أجابه وهو يشير بيده نحوها:
, -أنا منذر حرب خطيب الآنسة!
, ثم أدار رأسه في اتجاه أخيه متابعًا:
, -وده أخويا الصغير دياب، ودي الحاجة عواطف عمتها، ودي بنت عمتها!
, مرر أنظاره عليهم سريعًا قائلاً بنبرة ودودة:
, -يا أهلاً وسهلاً بيكوا، نورتوا البلد!
, سأله دياب باهتمام:
, -قولنا يا حاج متعرفش ايه اللي حرق البيت؟
, أجابه زكريا بصوته المتحشرج:
, -المأمور اللي هايقدر يفيدك أو الحاج إسماعيل!
, -والحاج فتحي؟
, هتف بها منذر قاصدًا شيئًا محددًا من وراه سؤاله الغامض ذلك..
, ٤٠ نقطة
,
, أسرعت بالعودة إلى منزلها – رغم الألم الذي يجتاحها - لتبدل عباءتها المتسخة بأخرى نظيفة كي تهرول إلى أقرب مخفر شرطة لتبلغ عن اختطافهم لرضيعتها عنوة، لن تتركها لهم حتى وإن كانت تتعامل معها بجفاء، لو كانت متيقنة للحظة واحدة أنهم سيقدمون لها المحبة والود لاطمئن قلبها، لكنها متأكدة من قسوتهم وشراستهم، ستعاني الرضيعة معهم ولن يعبأ بها أحد، بل على الأرجح سيتركوها تبكي حتى تفيض روحها الملائكية إلى بارئها.
, طرأ ببالها أن تلجأ للحاج طه أولاً ليأتي معها إليه، كي يدعمها بمعارفه، فغيرت وجهتها، واتجهت نحو وكالته.
, صاحت بصراخ مستنجد قبل أن تخطو للداخل:
, -الحقني يا حاج طه، خطفوا بنتي مني، الحقني يا كبيرنا!
, هب الأخير واقفًا من مقعده، واتجه نحو الخارج على إثر صراخها المنفعل، نظر لها مدهوشًا وهو يسألها بقلق:
, -خير يا بنتي؟ في ايه؟
, لوحت بذراعيها في الهواء وهي تجيبه بصوت صارخ ممزوج بالبكاء:
, -تعالى معايا يا حاج طه القسم، **** ينتقم منه طليقي السابق اتهجم عليا في بيتي وأنا لوحدي وضربني وخطف مني بنتي، ولما روحت أجيبها من عند أمه ضربوني وبهدلوني!
, صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها قبل أن تتابع بعويل:
, -أنا عاوزة بنتي يا حاج، أبوس ايدك انجدني وتعالى معايا القسم، أنا لوحدي ومافيش حد في ضهري!
, لوح لها بعكازه قائلاً بصوت جاد:
, -طب اهدي وأنا هاتصرف
, لطمت على صدغيها مواصلة نواحها الباكي:
, -أهدى ازاي طيب؟ دي بنتي اللي اتخطفت، حتة من لحمي و٣ نقطة
, قاطعها بصرامة:
, -قولتلك هاتصرف يبقى تبطلي المندبة دي!
, وضعت يديها على فمها لتكتم صرخاتها، فاستدار برأسه للخلف صائحًا بنبرة متصلبة:
, -خلي بالك من الوكالة يا بني عقبال ما أرجع!
, رد عليه أحد العمال من الداخل:
, -أوامرك يا حاج
, أشار لها برأس عكازه متابعًا بصرامة:
, -تعالي يا بنتي
, ردت عليه نيرمين بتوسل مستعطف:
, -ماتسنيش يا حاج، أنا ماليش حد بعد **** إلا انت
, -اطمني، بنتك هاترجع وهتبات في حضنك
, -يا رب!
, ٣٨ نقطة
,
, بدت متأففة للغاية وهي تبدل للرضيعة حفاضها بعد اتساخه، فنظرت لها باشمئزاز، ثم تركتها مسجية على الفراش بغرفة أخيها دون أن تكمل لها ارتداء ثيابها، فبقي جسدها مكشوفًا ومعرضًا للفحات الهواء الباردة،
, سارت شاهندة نحو المطبخ لتلج إليه صائحة بتذمر في وجه أمها:
, -أنا مش هابقى الخدامة بتاعتها، شوفيلك صرفة مع البت دي، أنا مش كل شوية هافضل أغير لها و٤ نقطة
, قاطعتها لبنى بتبرم:
, -ده انتي المفروض عمتها!
, ردت عليها بقسوة:
, -بلا عمتها بلا قرف، أنا عاوزة افوق لنفسها، طالما جبتيها هنا تبقي انتي المسئولة عنها!
, ضربتها والدتها في كتفها هاتفة بسخط:
, -خلاص اتكتمي، وخليني أشوف القهوة لصاحب أخوكي الملأح برا
, -ماشي، وأنا هاعمل لنفسي سندوتش!
, ٢٨ نقطة
,
, في نفس التوقيت، انتبه لصوت صراخها الباكي الأتي من غرفته، فتلفت حوله بريبة ليتأكد من عدم متابعة أي أحد له، نهض من مكانه متجهًا صوبها، ثم وقف عند العتبة ليحدق في الرضيعة رنا، بكت بحرقة حتى احمر وجهها من كثرة صراخها المتوسل للرحمة والحنان، راقبها بنظرات مطولة، ثم عاود الالتفات خلفه.
, تسلل ناصر إلى الداخل على أطراف أصابعه محدقًا في جسدها المنكشف بنظرات غريبة ومخيفة للغاية، رفعت الرضيعة كفيها للأعلى عله يمسك بها، لكنه لم يفعل، ووضع أصابعه المرتعشة على عنقها يتحسسه، ثم أخفضهم تدريجيًا وهو مغمض عينيه متخيلاً أشياءً مخجلة، وقبل أن يتمادى معها تدارك نفسه حينما سمع صوت لبنى بالخارج، فلملم نفسه، ورفعها بذراعيه إلى صدره يهدهدها كي تصمت.
, خرج بها من الغرفة حاملاً إياها ومعاتبًا بضيق زائف:
, -مش حرام تسيبوها كده، ده البت نفسها اتقطع من كتر العياط!
, أشارت له بظهر كفها قائلة بامتعاض:
, -سيبها عندك، شوية وهتسكت لوحدها
, أخفض نبرة صوته وهو يرد بغموض ماكر:
, -وهي دي تتساب بردك ٧ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٨
تناولتها من بين يديه برفق لتضعها على كتفها، وقامت بهدهدتها كي تستيكن الرضيعة وتغفو بعد صراخها المتواصل، فنظر لها ذلك الشيطان البشري بأعين شبه نادمة على ضياع تلك الفرصة الثمينة هباءً، لكن إن تهور أكثر من هذا، لربما فُضح أمره، ونال ما يستحقه، تنفس الصعداء لتريثه، ثم عاد للصالة مجددًا ليتخذ من أقرب أريكة مقعدًا له.
, ولجت لبنى بالرضيعة رنا إلى داخل غرفة نوم ابنها لتدثرها في فراشه، وتأكدت من إحاطتها بالوسادات كي تضمن سلامتها في حال وقوعها إن غفت عنها.
, أحضرت شاهندة صينية تحمل القهوة مرددة بفتور:
, -اتفضل يا أستاذ ناصر، حاتم زمانته على وصول
, التفت ناحيتها برأسها مبتسمًا بهدوء مريب:
, -براحته!
, انحنت أمامه لتضعها على الطاولة، فجمد أنظاره على منحنيات جسدها بوقاحة جريئة، لكنها لم تنتبه لنظراته الخبيثة، واكتفت فقط بالابتسام مجاملة له، قبل أن تكمل تحركت مبتعدة عنه، فأخرج تنهيدة حارة من صدره دون أن يبعد نظراته عنها.
, انتفض في مكانه مفزوعًا على إثر صوت فتح الباب، فجف حلقه، وارتبك بشدة، شعر بتلك السخونة المقلقة تنبعث منه حينما سأله حاتم باستغراب:
, -ناصر! انت هنا من بدري؟
, ازدرد ريقه قائلاً بتلعثم طفيف:
, -اه يا سيدي، فينك من بدري٣ نقطة غلبت أطلب عليك وانت مش بترد!
,
, أسند ما معه من أكياس بلاستيكية على الأريكة معللاً:
, -معلش، كنت بأجيب طلبات للبت رنا
, فرك ناصر ذقنه برفق متنحنحًا بخشونة:
, -احم.. **** يخليهالك!
, صمت للحظة ليجمد أنظاره عليه قبل أن يستأنف قائلاً:
, -بس فاتك كتير!
, حك حاتم مؤخرة رأسه متسائلاً:
, -هو حصل ايه؟
, ٤٠ نقطة
,
, تركت ذلك الكهل يصطحبهم إلى أرض قريبها الزراعية رغم معرفتها بمكانها، فهي لم ترغب في الذهاب إليه بمفردها، خشيت من تطاوله عليها، فاحتمت بوجودهم حولها، استمر عقلها في التفكير في جملته الغامضة، وطرح عقلها العشرات من الأسئلة التي جعلت أفكارها تتخبط أكثر وتزداد حيرة.
, وصلوا إلى الحقل المملوك لفتحي، فأوقف منذر سيارته على الجانب، نزع زكريا خفيه، ووضعهما أسفل ذراعه متجهًا نحوه بعد تركه لدراجته القديمة، تبعه الأخرين سائرين بحذر، فرأوه يجلس كعادته أسفل تلك الشجرة العريضة يستظل بها، تباطأت أسيف في خطواتها بوضوح حينما وقعت عيناه عليها، وبدت علامات التوتر مسيطرة عليها، لم تنسَ المصادمة الحامية بينهما، ولا ما حدث مؤخرًا في المنطقة الشعبية، وكذلك كان الحال معه، لم يغب عن عقله لثانية تلك المذلة التي تلقاها بسببها.
, ارتبك للحظة من وجودهم، فظن أنه ملعوبه قد كُشف، لذا عمد إلى استخدام الأسلوب الهجومي ليصرف الانتباه عنه، فعبس فتحي بوجهه قائلاً بتبرم:
, -خير يا زكريا، جاي ليه؟
, أشار له بيده موضحًا:
, -الجماعة بيسألوا عليك
, نظر لهم شزرًا وهو يقول:
, -استغفر **** العظيم، نعم، جايين ليه؟
, رد عليه منذر معاتبًا بتجهم ظاهر على محياه:
, -دي سلامو عليكم بتاعتك يا حاج فتحي، ولا خلاص نسيت الأصول والواجب؟٣ علامة التعجب
, أضـــاف دياب بامتعاض:
, -باين عليه شايل من المرة اللي فاتت، مع إنه هو اللي جه علينا!
, رمقهما فتحي بنظرات مشتعلة، فكلاهما تعمدا تذكيره بما مضى عله يفكر مرتين قبل أن يتفوه بأي حماقات، لكنه خالف توقعاتهما ولجأ لطريقة أخرى، فصاح عاليًا ليلتفت الانتباه:
, -جايبالي الافندي ده هنا ليه يا بنت حنان؟ ردي!
, ارتجف جسدها من نظراته المهددة، وانكمشت على نفسها مرتعدة منه، رأها منذر على تلك الحالة المذعورة، فتقدم بجسده أمامها ليسد عليه الطريق هاتفًا بانزعاج:
, -كلامك معايا أنا يا حاج فتحي!
, رمقه فتحي بنظرات احتقارية وهو يسأله:
, -بصفتك ايه ياخويا؟
, أجابه تلك المرة دياب بتفاخر واضح:
, -ده خطيبها يا عم الحاج، وقريب هايتجوزوا!
, لوى فتحي فمه للجانب مرددًا باستهجان:
, -أها، قولتيلي بقى، والمطلوب مني ايه؟ أبارك وأهني، ولا أحط راسي في الطين وأسكت!
, اغتاظ منذر من طريقته التهكمية التي تحمل بين طياتها إعلانًا صريحًا بسوء النوايا والظن، فصاح به بانفعال كبير وهو يهدده بيده:
, -ما تتكلم عدل يا حاج، هو انت شايفنا عاملين الغلط؟
, أرادت أسيف أن تسيطر على الموقف قبل أن يسوء بينهما ويتطور إلى مشاجة أخرى، هي تعلم جيدًا نهايات مثل تلك الخلافات، فهتفت بنبرة مرتجفة:
, -أنا جاية اسألك عن بيت بابا واللي حصل فيه! فلو سمحت ٤ نقطة
, قاطعها فتحي قائلاً بحدة:
, -ولع، وخلصنا!
, خرج من جوفها شهقة قوية متأثرة، هي لم تلملم جراحها بعد، ورؤية المنزل محترق مازالت متجسدة أمام أنظارها، وهو يضغط على جرحها بقسوة مفرطة وكأنه يتلذذ بتعذيبها.
, بدا غير مقتنع بما قاله من مبررات مبهمة، فرد عليه منذر بحنق واضح في نبرته وفي عينيه:
, -كده من الباب للطاق؟
, لوح فتحي بذراعه أمام وجهه صارخًا فيه:
, -روحوا المركز اسألوا، حد قالوكم إن أنا بأشتغل مأمور أخر النهار، الحكاية دي متخصنيش!
, صاح فيه دياب بنفاذ صبر:
, -ازاي يعني، مش البيت ده بتاع قريبتك، والطبيعي إنك٤ نقطة
, قاطعه فتحي قائلاً بتهكم مسيء وهو يسلط أنظاره على أسيف ليصل إليها مقصده الصريح:
, -أنا ماليش قرايب مفضوحين وجايبلنا العار!
, فهم منذر تلميحاته الموحية بسوء السمعة، فهدده بشراسة بادية في نبرته:
, -نعم، ما تحترم نفسك يا جدع انت!
, أجهشت أسيف ببكاء أشد مستنكرة ما يقول، وقبل أن تنفرج شفتاها لترد، تدخلت عمتها هي الأخرى في الحديث، فلم يرقَ إلى مسامعها اتهامه الباطل لها، فهتفت مدافعة عنها بعصبية:
, -لأ عندك، اقف عوج واتكلم عدل، اللي بتغلط فيها دي بنت أخويا المرحوم، الراجل اللي كنت واكل معاه عيش وملح، ولا نسيت!
, هب من مكانه واقفًا ليحدجهم بنظرات نارية، ثم هتف من بين أسنانه المضغوطة:
, -انتو جايين تتخانقوا بقى!
, انتصب منذر بجسده أمامه، وبدا متحفزًا للهجوم عليه، قرأ فتحي هذا بوضوح في عينيه، فعمد إلى التمسك بما يردده، فربما نجاته تعتمد على ذلك الادعاء الزائف:
, -بس أنا ماليش كلام مع واحدة زيها، **** أعلم إن كانت غلطت في الحرام ولا ٤ نقطة
, لم يقوَ على احتمال المزيد من حماقاته المتهورة، خاصة أنها تمسها تحديدًا، فقاطعه بانفعال جلي مهددًا بإنهاء حياته:
, -شكلك عاوزني أدفنك في أرضك!
, منعه من الهجوم عليه ذراع أخيه الأصغر وتشبثه به بقواه الجسمانية ليمنعه من الاشتباك معه، نظر له فتحي بأعين محتقنة، ثم هتف ساخرًا:
, -خش عليا بالفتونة والعضلات، لأ انت هنا وسط أهلي وعزوتي، وبكلمة واحدة مني هتترجموا كلكم، ده أنا الحاج فتحي يا سبع البرومبة!
,
, نظرت له بسمة بازدراء وهي تهمس لنفسها:
, -الراجل ده زبالة، شكله مش مريحني، وناوي على حاجة!
, هدر فتحي عاليًا وملوحًا بذراعيه في الهواء ليجذب الأنظار إليه:
, -تعالوا يا أهل البلد، اتجمعوا يا ناس وشوفوا الفضايح اللي بتحصل هنا
,
, بدأ الأنظار تتجه صوبهم بعد صياحه المثير للفضول، وتجمع معظم المتواجدين بالأراضي الزراعية ليتابعوا باهتمام ما يحدث، لم تصدق أسيف ما يفعله، وتلفتت حولها بذعر بائن، هو حتمًا سيحدث فضيحة لن تمحى بسهولة من الذاكرة، وأمام أهل قريتها الذين يعرفوها عن ظهر قلب.
, هتف دياب مصدومًا:
, -الراجل اتهبل في عقله!
, رد عليه منذر بحنق:
, -ده مش طبيعي أصلاً!
,
, أحاطت عواطف ابنة أخيها التي كانت ترتجف بذراعها علها تبث إلى روحها الأمان، ووقفت إلى جوارها بسمة تمسح على ذراعها بود لتؤازرها.
, لمح فتحي من على بعد الحاج إسماعيل، فهتف عاليًا وهو يشير إليه:
, -تعالى يا حاج إسماعيل انت كمان اتفرج على المسخرة اللي بتحصل هنا!
, انتبه له الأخير، وسار بخطوات متمهلة نحوه، خاصة بعد أن عرف أغلب الأوجه الواقفة أمامه، وفي أقل من دقائق احتشد الجميع لمتابعة الموضوع باهتمام، تابع فتحي صراخه المتنمر:
, -شوية الواغش الفلتانين دول جايين يصيعوا عليا، يرضيك ده يا حاج إسماعيل؟!
, استنكر منذر طريقته المستفزة، فهدر به معلنًا بعدائية:
, -ماتخلنيش أتهور عليك، أنا جبت أخري!
, أمسكه دياب جيدًا ليمنعه من الانقضاض عليه مضيفًا باستنكار:
, -لم نفسك يا حاج، مش عاوزين نتجن عليك!
, وبدهاء ماكر أبعد فتحي الشبهات تمامًا عنه ليوجه تفكيرهم نحو أمر لا يخطر على الأذهان مطلقًا ٥ نقطة
, ٤٣ نقطة
,
, -هما ساكنين هنا!
, قالتها نيرمين وهي تصعد على الدرج بخطوات أقرب إلى الركض محاولة الوصول إلى ابنتها والانتقام منهم بعد اعتدائهم العنيف عليها، حررت محضرًا رسميًا ضد عائلة طليقها الأسبق بمساعدة الحاج طه، واتهمت فيه والدته وابنتها بتدبير مكيدة لاستدراجها، واصطحبت أفراد الشرطة معها لكي تأتي بابنتها، حاز البلاغ على الاهتمام بسبب تلك التوصيات المعروفة من الوسطاء الهامين من ضباط الشرطة ذوي الرتب العالية، فتحرك فورًا للتحقق منه.
, كورت نيرمين قبضة يدها، ودقت بعنف على باب المنزل صارخة بعصبية هائجة:
, -افتحوا يا حرامية! افتحوا يا خطافين العيال يا ٥ نقطة
, حذرها الضابط المسئول قائلاً:
, -بلاش تغلطي يا مدام، كده انتي هتوقعي نفسك في مشاكل
, ردت عليه بحدة وهي تلقي بطرف حجابها لخلف كتفها:
, -يعني أسيبهم يا حضرت الظابط ٤ نقطة
, قاطعها طه قائلاً بصرامة قبل أن تتهور:
, -خلاص يا نيرمين، اسمعي كلام الباشا!
, ضغطت على شفتيها مرددة على مضض:
, -حاضر يا حاج طه!
, فتحت لبنى الباب غير متوقعة تلك الطلات الرسمية أمامها، فاتسعت حدقتيها بتوتر قليل، لكن فسرت الأمر بديهيًا حينما رأت نيرمين تدفعها مقتحمة منزلها وهي تصرخ بقلب ملتاع:
, -وسعي من وشي، هاتولي بنتي!
, صدتها لبنى بكل قوتها هاتفة بزمجرة مغتاظة:
, -مالك داخلة كده ليه هجم عليا
, استخدمت نيرمين كفيها لتدفعها بشراسة أكبر وهي تقول باهتياج:
, -اوعي، بنتي، هاتوهالي!
, صاحت لبنى بقلق قليل:
, -يا حاتم، تعالى يا سيدي شوف النصايب اللي جاية علينا!
,
, أتى ابنها من الداخل ممسكًا بمنشفته ليجفف بها يديه المبتلتين ممررًا أنظاره سريعًا على أوجه المتواجدين، فتوجس خيفة منهم، ثم تمتم بحذر:
, -يا ساتر، خير يا باشا؟
, رد الضابط بهدوء جدي:
, -المدام مقدمة فيكو بلاغ بتتهمكم فيه بخطف بنتها!
, لطمت لبنى على صدرها مرددة باستنكار تام:
, -و**** عيبة في حقنا، بقى احنا نخطف بنتنا! إخص على كده!
, أضاف حاتم قائلاً بارتباك طفيف:
, -يا حضرت الظابط، أنا أبوها، ودي ستها، والبت خدتها من عندها تقضي اليوم معانا، ازاي هاكون خاطفها؟
, تفاجأت نيرمين من إدعاءاتهما الباطلة، وكأنهما يدبران لها شيئًا ما، فصرخت بجنون:
, -يا عالم يا ظلمة، ده انتو ضربتوني وعدمتوني العافية هنا
, رد عليها حاتم ببرود حذر:
, -محصلش، أنا لسه جاي من برا، وبأغير هدومي!
, اشتعلت نظراتها، وغلت الدماء في عروقها من أسلوبه المستفز، وهدرت فيه بصوتها الذي بح من كثرة الصراخ:
, -ده صاحبك ناصر كان واقف و٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بتجهم:
, -بطلي تتبلي على الناس، صاحبي أصلاً مسافر!
, استشاطت نظراتها على الأخير، فرفيقه الوضيع كان يضع يديه النجستين على جسدها، وشعرت هي بجرأة لمساته عليها، فاختنق صوتها وهي تنفي كذبته:
, -كدب، ده كان.. كان ٦ نقطة
, قطمت عبارتها مجبرة كي لا تشير إلى فعله الفاضح معها فلا يظنوا بها السوء، لكن تهدج صدرها بأنفاسها المضطربة بداخلها، أخرجها من صمتها المجبر صوت لبنى القائل بتلهف:
, -يا باشا، وما ليك عليا حلفان أبدًا!
, ادعت البكاء متابعة بحزن مصطنع:
, -بنتنا وحشانا، وهي حرمانا منها، كلمتها واسترجتها تجبهالي كام ساعة أملي عيني منها، ووافقت على ده، وبعتلها ابني ياخدها، تقوم هي تعمل فينا محضر، شايف الجبروت والافترا
, صرخت فيها بلا وعي غير مصدقة كذبها الملفق:
, -أما إنكم عالم ولاد كلب فاجرين لا ليكم ذمة ولا عندكم ضمير، أنا عملت كده يا ضلالية؟
, أشارت لبنى بيدها للضابط قائلة بامتعاض كبير:
, -شايف يا باشا بتغلط فينا ازاي، سجل عندك، أنا عاوز أعمل فيها محضر سب وقذف!
, رف الضابط كف يده أمام وجه نيرمين محذرًا بجدية تامة:
, -اهدي يا مدام!
, صرخت قائلة ببكاء:
, -و**** كدابين، هما مدوا ايدهم عليا، طب شايف الزرقان اللي في وشي ولا الضرب اللي على جسمي!
, نظرت لها لبنى شزرًا قائلة باستهجان:
, -يا شيخة روحي ارمي بلاكي على ناس تانيين!
, تجمدت أنظار الضابط على وجهها مرددًا بتساؤل جاد:
, -أنا في القسم سألتك إن كان عندك شهود وإنتي أكدتي بدل الواحد في عشرة!
, ردت عليه لبنى بتلهف:
, -شهود مين، احنا أعدين في حالنا كافيين خيرنا شرنا، وهي اللي جاية علينا، حسبي **** ونعم الوكيل، منك لله يا مفترية!
, هدرت فيها نيرمين بجموح:
, -بتحسبني في وشي، ده بنتك إلهي ايدها تتقطع كانت معاكو و٤ نقطة
, قاطعتها لبنى هاتفة بحدة:
, -بنتي، اتقي **** شوية، هي راحت مع أهل عريسها من بدري، مش موجودة في البيت!
, ثم التفتت برأسها ناحية الضابط لتكمل حديثها بثقة:
, -وتقدر يا حضرت الظابط تكلمهم وتتأكد!
, ضربت نيرمين فخذيها بقوة صائحة بسخط:
, -منكم لله، **** يولع فيكم!
,
, تابع طه الموقف برمته دون أن يبدي أي تعليق، لكنه فهم أنها مكيدة دنيئة وضعت بإحكام لتلقين نيرمين درسًا قاسيًا، وهي كالمغفلة وقعت فيه بسذاجة، شعر بتلك النيران التي تآكلها بسبب الظلم والتجبر، فوضع على عاتقه رد حقها لاحقًا، لكن بتعقل شديد ودون تمهل.
, تنحنح بصوت خشن موجهًا حديثه للضابط:
, -معلش يا حضرت الظابط، احنا عاوزين البت لأمها، ميرضكش يفضل قلبها متشحتف كده عليها!
, نظرت له نيرمين بأعينها الدامعة غير مستوعبة أنه الوحيد الذي وقف إلى جوارها في تلك المحنة العويصة، نشج صوتها وهي تقول:
, -هاتولي بنتي، أنا مش هاتعتع من هنا إلا وهي في حضني
, ردت عليها لبنى بسماجة مستفزة:
, -وهو احنا هنموتها، دي لحمنا!
, تابع الضابط محذرًا وهو يشير بسبابته للجميع:
, -يا ريت أي خلافات أسرية تحلوها بشكل ودي يا إما تلجأوا للمحكمة!
, رد عليه حاتم بقلق خفيف وهو يحك فروة رأسه:
, -إن شاء **** يا باشا، أنا بس عشان خاطر الفضايح هالم الليلة، استني هاجيبلك البت!
, استند طه بكفيه على رأس عكازه، ثم ابتسم للضابط مرددًا بامتنان:
, -تعبناك معانا يا باشا
, رد عليه الأخير على مضض:
, -حاج طه لولا التوصيات والمعرفة اللي بينا كان ممكن يتقلب الوضع ضدها ويبقى بلاغ كاذب، و ٤ نقطة
, قاطعه طه قائلاً بعشم:
, -يا باشا انت بنفسك شايف وشها عامل ازاي، يعني أكيد مش هاتعمل كده في نفسها
, -بس معندهاش اللي يثبت
, -عندك حق، كتر خيرك على مجيتك واهتمامك!
, -ده واجبنا
,
, خفق قلب نيرمين بقوة حينما رأت رضيعتها بين يدي طليقها السابق، هرولت ناحيته لتأخذه منه، ثم ضمتها إلى صدرها بقوة وهي تبكي:
, -رنا، بنتي!
, انهالت على وجهها كله بالقبلات الأمومية، هي ابتعدت عنها لساعات لكنها كانت كافية لتدرك أهميتها، ضمتها مجددًا إليها، ثم رفعت أنظارها في وجه طليقها وأمه، نظرت لهما شزرًا، وهمست بتقزز:
, -عالم ولاد٥ نقطة، اتفووو!
, صاح بها طه محذرًا قبل أن تتهور:
, -نيرمــــــــــــــــين!
, تحركت ناحيته لتنظر إليه بامتنان وهي تقول:
, -تسلملي يا حاج طه، و**** من غيرك ما كنت هاعرف أتصرف ازاي ولا أرجع بنتي!
, أشار لها بعينيه قائلاً بصرامة:
, -قدر ولطف، يالا بينا من هنا!
, أسرعت في خطواتها محكمة ذراعيها حول رضيعتها لتلج خارج المنزل متمتمة بكلمات خافتة لكنها تحمل السخط نحوهما، انصرف أفراد الشرطة في إثرها ومعهم الحاج طه، فأوصد حاتم الباب خلفهم.
, نظر إلى والدته بانزعاج قائلاً:
, -عاجبك كده يامه، كان ممكن نروح في داهية!
, تغنجت بجسدها مرددة بعدم اكتراث:
, -عدت خلاص، بلاش نبر بقى!
, تابع حاتم موبخًا والدته:
, -ياباي! هو حد فيكم أصلاً كان طايق البت ولا أمها عشان تقولوا لحمنا وعرضنا!
, بررت فعلتها قائلة بغيظ:
, -أنا كان غرضي أحرق قلبها وأمرمطها، وأديني عملت اللي أنا عاوزاه وزيادة، بس لسه ناقص شوية عشان أرتاح خالص!
, ألقى حاتم بثقل جسده على الأريكة مرددًا بإنهاك:
, -**** يستر من نيتك السودة يامه!
, ٣٦ نقطة
,
, عَمِد إلى حشد أكبر عدد من المارة والعاملين بالحقول المجاورة لأرضه الزراعية ليؤجج من انتقام أخر لاح في عقله، أراد فضحها، إذلالها بطريقة مهينة تعجز عن الرد عليها، ويستعيد عن طريقها اعتباره الذي خسره من قبل، تيقن منذر أن ذلك الرجل ينتوي شرًا، لن يقدم على استدعاء كل هؤلاء الأشخاص من أجل لا شيء، هو يفكر في أمر ماكر وخبيث، لم يحد بنظراته عنه، بل ظل مثبتًا إياهم عليه مهددًا بوعيد شرس إن تجاوز المعقول.
, هتف فتحي بنبرة جهورية:
, -شوفوا يا ناس، الهانم بنت الأصول، دارت على حل شعرها وفجرت على الأخر، وجاية تقولي يا خال انجدني بعد ما ريحتها فاحت!
, جحظت أسيف بعينيها في ذهول تام، وصدرت عنها شهقت مصدومة من افتراءه الباطل، ناهيك عن خفقان قلبها في قدميها من هول كلماته المفجعة، هو يعلن صراحة أمام الملأ عن فحشها، عن ارتكابها للأفعال المشينة، أي شيء سيصدق بعد إدعائه ذلك؟!
, وضعت عواطف يدها على صدغها غير مصدقة كذب ذلك العجوز، ونظرت إلى ابنة أخيها بأبصار شاخصة، لم يختلف حال بسمة عنها كثيرًا، فالكل مصدوم بتصريحه المهلك.
, بلغت عصبية منذر الذروة، لم يعد يتحمل المزيد من أكاذيبه الباطلة، خاصة ما يتعلق بها، ودون تريث دفع أخيه بعنف ليتجاوزه، واندفع ناحيته بعصبية مشحونة على الأخير ليمسك به من تلابيب ياقة جلبابه، هزه بعنف رامقًا إياه بنظرات نارية قاتلة، ثم هدر صارخًا فيه بجموح مدمر:
, -إنت راجل ناقص، وأنا مش سايبك النهاردة!
, أدار فتحي رأسه للجانب مستغيثًا بفزع:
, -حوشوه عني يا ناس! هايموتني عشان بأقول كلمة حق
, سبه منذر هادرًا بغضب جم:
, -كلمة حق يا ٧ نقطة!
, تدخل الناس سريعًا للفض بينهما، لكنه رفض إفلاته، بل ظل متشبثًا به، عاقدًا العزم على ضربه نظير افتراءاته الكاذبة عليها، وبصعوبة واضحة تمكن أكثر من خمسة أشخاص من جره بعيدًا عنه مقيدين حركته، لكنه كان يقاومهم بكل ما أوتي من قوة ليعود إليه، وشكل أخرون حاجزًا حول فتحي ليحموه منه، فاستغل الفرصة ليضيف بعبث متقن:
, -بيستقوى على راجل أد أبوه، شايفين!
, صرخ فيه منذر بصوت متشنج:
, -كلمة زيادة غلط وهاطير رقبتك!
, رد عليه أحدهم بحدة:
, -تطير رقبة مين، إنت مفكر نفسك مين يا جدع انت؟
, وأضاف أخر مهددًا:
, -ده احنا نفدي الحاج فتحي برقبتنا!
, بينما أشــار أخر إلى أسيف بيده معلنًا بكلمات موحية:
, -الدور والباقي على اللي مالهاش أهل يلموها
,
, أجهشت هي ببكاء مرير صارخة بحسرة موجوعة:
, -حرام عليكم، أنا معملتش حاجة!
, ضمتها عواطف أكثر إليها وكأنها تحميهم من بطشها هاتفة بتأثر:
, -انتو عالم ظلمة، دي بنت أخويا، وأعدة معايا وفي بيتي ووسط بناتي!
, رد عليها فتحي بإهانة:
, -ده أنا أول مرة أشوفك يا ست انتي، أل بيتها أل!
, لم تتحمل بسمة هي الأخرى ظلمه البين، فصاحت بانفعال مستنكر:
, -انت تعرف ****، انت حاج انت؟!
, نظرت له أسيف بأعينها المغرورقة بالعبرات هاتفة بصوتها المبحوح، والممزوج ببكائها الذي يقطع نياط القلوب:
, -حرام عليك يا خالي، ليه بتقول عني كده؟
, ثم رفعت رأسها لتوجه حديثها إلى من حولها قائلة بعتاب أكبر:
, -ده أنا بنتكم، ومتربية وسطكم وعلى إيديكم، وعمري ما عملت حاجة تغضب **** ولا ٣ نقطة
, قاطعها فتحي بازدراء قبل أن تستجدي قلوب الأخرين:
, -وأنا ايش دراني، هو أنا كنت قاعد معاكي، وشايفك!
, سيطر دياب على أخيه بمجهود كبير مانعًا إياه من التهور، فقد خرجت الأمور عما هو مألوف، وأصبح الوضع يشير إلى تبعات مخيفة، وظل الأخير يقاوم بشراسة أذرعهم المكبلة له ليفتك به، راقبه الحاج إسماعيل بتوجس كبير، وأدرك أن الوضع قد تفاقم وتأزم كثيرًا، فهتف عاليًا مبديًا محاولة بائسة في فرض شخصيته على الحضور:
, -خلاص يا حاج فتحي، مش كده! اعملي اعتبار! ولم الليلة شوية!
, رد عليه بعبوس مظهرًا عدم اقتناعه:
, -ماشي يا حاج إسماعيل، بس يكون في معلومك إن حل الحكاية دي في ايد المحروسة، هي تثبتلنا إنها بختم ربها وقصاد نسوانا!
, ارتفع حاجبي الحاج إسماعيل للأعلى مستنكرًا ما لفظه توًا وهو يردد مصدومًا:
, -نعم؟ قصدك ايه؟!!
, اتسعت حدقتي منذر على الأخير عقب فهمه لمقصد ذلك الدنيء، هو أدار ببراعة الدفة ناحيته، لتنقلب الأمور في صالحه، ويجبر الجميع على ظن السوء في تلك البريئة اليتيمة، وبالتالي لكي تثبت طهرها وعفتها عليها أن تتجرد من ثيابها أمام عدة نساء لتتولى إحداهن فحصها حتى تتأكد من نقائها.
, تجمدت العبرات في مقلتي أسيف محاولة استيعاب ما يريده منها، فخرجت أنفاسها لاهثة وهي تجاهد عقلها لتفسير الأمر، كان عسيرًا عليها أن تصدق أنها في موضع الاتهام، أنها تعامل كالعاهرات العابثات.
, التوى ثغر فتحي للجانب متابعًا بخبث:
, -هو ده اللي يخليني أصدق انها زي ما هي!
, تسائلت بسمة بعدم فهم وهي توزع أنظارها بين أوجه من حولها:
, -هو قصده ايه بالكلام ده؟
, لم يجبها أحد، وظلت الأنظار كلها متجهة إلى أسيف التي كانت في موقف حرج؛ فإن رفضت طلبه وعاندته، فسيثبت للجميع صدق كذبته الباطلة، وستسقط في أنظارهم، وستنبذ فورًا من بلدتها لكونها ساقطة لعينة، وسيلحق العار بعائلتها وبنسلها من بعدها، ستحرم من الكثير من حقوقها، أما إن قبلت بتلك المهانة، وأباحت لغيرها بالإطلاع على أكثر الأمور قدسية لها، فستخسر ثقتها بنفسها، وستتدمر معها نفسيتها كثيرًا، شعرت بنظراتهم المتهمة لها تخترقها وتؤكد دعمهم له رغم صمتهم، أدركت أن خيارها بات إلزاميًا، وقبل أن تحرك شفتيها المرتجفتين لتعلن عن قرارها النهائي، هدر صوت منذر بصرامة غير قابلة للنقاش:
, -مش هايحصل، محدش هايقرب من مراتي ولا يشوفها ٥ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦٩
لم يتحرك أحدهم قيد أنملة، وكأنهم قد باتوا أصنامًا صلبة، عقب جملته الأخيرة تلك، وإعلانه بصراحة مطلقة رفضة التام للمساس بها، أرخوا أيديهم عنه، فانتصب في وقفته، وأصبح أكثر شموخًا وعدائية، مرر أنظاره المحتقنة على وجوههم كتحذير أخـــــر خطير ينذرهم بعدم الاقتراب من تلك المنطقة المحظورة والتي تخصه هو وحده، تجمدت أنظارها عليه وكأن عيناها الباكيتين تستنجدان به عله يلبي استغاثتها الصامتة.
, لم يتحمل أن يتطاول أحدهم عليها ولو بمجرد التلميح إلى ما قد يؤذيها، فتابع هادرًا بصوت جهوري أكثر صلابة وقسوة:
, -أي حد هيفكر للحظة ولا يجي في باله يظن فيها الغلط، هايكون حكم على نفسه بالموت!
, رد عليه أحدهم بجرأة وهو يشير بيده:
, -حاج فتحي بيتكلم صح احنا ٤ نقطة
, قاطعه منذر بصرامة مهددة وقد استشاطت نظراته:
, -ولا كلمة زيــــادة!
, قطم الرجل عبارته خوفًا من هيئته المخيفة، بينمت استأنف حديثه معنفًا إياهم بشراسة:
, -وقبل ما تسمعوه وتقولوا أمين على كلامه، كنتوا اسألوا الأول جايين هنا ليه؟
,
, استعان بسرعة البديهة التي يملكها للتصرف بعقلانية تامة في هذا الموقف الحرج، ربما لو وضع غيره في مثل الموقف لرجح كفة الخيار الأخر، لكنه فعل ما يتحتم عليه، التفت برأسه ناحية فتحي ليرمقه بنظرات مهينة، ثم هتف قائلاً بنبرة ثابتة رغم شدتها وقسوتها:
, -بس الراجل الكبير المحترم اللي المفروض عارف في الواجب والأصول، مادناش فرصة نتكلم، عمل شبورة على الفاضي!
, بدا الاهتمام الممزوج بالفضول ظاهرًا على أوجه الجميع، فالكل يتطلع إلى معرفة الأسباب، وبدون أن تهتز نبرته للحظة أضاف منذر بسخط:
, -وكل ده ليه عشان بأطلب منه نعمل كتب الكتاب عنده في البيت، باعتبار انه زي خالها، وخصوصًا إن بيت المرحوم رياض خورشيد اتحرق!
,
, تفاجأت أسيف من فكرته الجهنمية، لم يطرأ ببالها أن يتفوه بمثل ذلك الاقتراح الذي تخطى حدود تفكيرها الضيق، نظرت له ببلاهة رغم عبراتها التي تنساب بغزارة على وجنتيها، هو بحنكة مهارة غير مسار الأمور تمامًا، تعالت الهمهمات المستنكرة وتبادل الجميع نظرات حادة معاتبة له، تعمد هو رمقه بازدراء وهو يقول ملوحًا بذراعه في الهواء:
, -أنا جاي أتفق معاه على كده، ومعايا عمتها وأخويا، يبقى عداني العيب يا رجالة؟
, رد عليه أحدهم من الخلف بصوت مرتفع:
, -لالالا، انت كده بتكلم صح!
, وأضـــاف أخر متسائلاً بضيق:
, -ليه كده يا حاج فتحي؟ الأستاذ مغلطش!
, بينما عاتبه ثالث بجدية:
, -مايصحش يا حاج فتحي، دي بنتك بردك!
, رد الحاج إسماعيل قائلاً بضجر وقد زاد عبوس وجهه:
, -لا في دي غلطان خالص!
,
, شعر فتحي أن الدائرة تدور عليه من جديد، فصاح بعصبية:
, -انتو هتعوموا على عومه؟ كتب كتاب إيه ده اللي بيتكلم عنه، ده٥ نقطة
, رفع منذر سبابته أمام وجهه مقاطعًا إياه قبل أن يتمادى في كلامه اللاهي، ومحذرًا بشراسة مخيفة وقد تشنجت تعابير وجهه:
, -عنـــــــــــــــدك! كلمة غلط زيادة ومش هايحصل طيب، اللي بتكلم عنها هتبقى مراتي، وشرفها خط أحمر، واللي يمسه يبقى حكم على نفسه بالموت، ومالوش دية عندي!
, ارتجف الأخير من طريقته المهددة بالهلاك الحتمي، وابتلع ريقه بتوجس شديد، احتقن وجهه بحمرة مغتاظة، وجاب بنظراته سريعًا على أوجه الحاضرين، فتأكد أن غريمه قد نجح ببراعه في استدراجهم إليه، وانقلب الوضع لصالحه.
, تأكدت أسيف في تلك المرة تحديدًا أن نجاتها من تلك المذلة اعتمدت عليه كليًا رغم صدمتها بما قاله، لكنه أنقذها من إهانة لن تمحى أبدًا من عقلها، زاغت أبصارها نحو الحاج إسماعيل حينما هتف قائلاً:
, -اهدى يا أستاذ منذر!
, حرك منذر رأسه ناحيته ليتابع بنبرة موحية:
, -أنا جاي بأخويا النهاردة، وعيلتي بقيتها في الطريق عشان نرتب المواعيد، وأظنك عارفهم كويس يا حاج إسماعيل، اتفضل قولهم هما عاملين ازاي!
, تنحنح بخشونة موجهًا حديثه للحشد المتواجد حولهم:
, -دول ناس محترمين، أضمنهم برقبتي!
, هتف زكريا قائلاً بحرج:
, -حصل خير يا بني، معلش احنا محقوقينلك! العتب علينا!
, رد عليه منذر بقسوة متعصبة:
, -لأ، كلكم محقوقين ليها مش ليا أنا!
, ثبت أنظاره عليها مرسلاً لها إشارات ضمنية لتطمئن في حضرته، وشردت هي في عمق عينيه الحمراوتين من الانفعال متابعة باستسلام تام حديثه المهدد:
, -واللي يزعلها بحرف يبقى وقع معايا أنا!
, التفت الحاج إسماعيل ناحية أسيف قائلاً بنبرة محرجة:
, -انتي بنتنا، والشيطان أعوذو ب**** منه بيوقع الناس في بعض! حقك علينا يا بنت الغاليين!
, لم تعلق عليه أسيف بل اكتفت بالبكاء العاجز، ففي لحظة كان سيجنى عليها من أقرب الأقربون لها، أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتدفنه بين راحتيها، فضمتها عواطف إلى صدرها، ولوحت بذراعها الأخر قائلة بتذمر:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، منكم لله، حبستوا دمها، وقهرتوها!
,
, اقترب منها الحاج إسماعيل، ووضع يده على كتفها ليربت عليه بخفة معتذرًا منها:
, -متزعليش مننا، احنا غلطانين يا بنتي!
, أجهشت بالبكاء المعاتب له، ورفضت أن تدير رأسها ناحيته، فكيف يقبل عليها ببساطة مثل ذلك الأمر وكأنه لا يعرف حق المعرفة؟
, أراد منذر أن يقطع دابر تلك المسألة فصاح بصرامة غليظة:
, -بس قسمًا ب**** بعد اللي حصل ده ماهنعتب للحاج فتحي بيت، هي قطعت كده! وحقها هاجيبهولها وزيادة! وأي شيء يخصها حتى لو كان إيه بقى يخصني أنا!
, رد عليه الحاج إسماعيل قائلاً بحرج:
, -لالا، مايحصلش بردك، انتو ضيوف عندي أنا، وبيوتنا كلها مفتوحة ليكم!
, رفض منذر الإصاغ إليه، فأصر على استضافته كي يعوضهم جميعًا عن تلك الإساءة مرددًا بإلحاح:
, -مش هاقبل أبدًا، بينا على المضيفة نتكلم هناك، وعشان الحريم يرتاحوا من المشوار!
, التوى ثغر بسمة بابتسامة متباهية من تصرف منذر الشجاع، وتنهدت بحرارة مبدعية إعجابها بجرأته التي لا تقارن بمن عرفته يومًا، نظر لها دياب بغرابة، فعبس بوجهه قليلاً حينما رأى نظراتها المتطلعة إلى أخيه رغم تأكده من حسن نيتها، لكن أزعجه تلك التنهيدات الصاردة عنها، التفتت هي ناحيته لتجده محدقًا بها، فهمست قائلة بإعجاب:
, -أخوك دماغه سم!
, تجهم أكثر من مدحها له، ورد قائلاً:
, -ده كلام يطلع من أبلة زيك؟
, وضعت يدها على فمها متابعة بسخرية قليلة:
, -شوف واتعلم المرجلة!
, رد عليها بحدة طفيفة وهو يكز على أسنانه:
, -بلاش تستفزيني!
, عقدت مابين حاجبيها مرددة بصدمة:
, -نعم؟
, كظم غيظه بصعوبة، هو لا يريد إثارة المتاعب معها الآن، ولا يحبذ أن يوتر الأجواء بينهما، فتحامل على نفسه طريقتها التهكمية ريثما يصبح بينهما شيئًا رسميًا، فيصبح للعتاب معنى.
, مسحت عواطف على ظهر أسيف قائلة بحنو:
, -تعالي يا حبيبتي، متخافيش! عدت على خير والحمدلله!
, كانت الأخيرة غير قادرة على الحركة، شعرت بوهنها، بأن الأمر يفوق قدرتها على تجاوزه ببساطة وكأنه لم يكن، توجست عمتها خيفة من أن يكون مكروهًا ما قد أصابها، فهتفت بتوجس:
, -أسيف، ردي عليا، إنتي بخير يا بنتي؟
, انقبض قلب منذر من جملتها تلك، فأسرع في خطاه نحوها، ونظر إليها صائحًا بخوف:
, -انتي كويسة؟
, حدقت فيه بنظرات خاوية، فرأى عبراتها متجمدة في حدقتيها، بدت كمن يجد صعوبة في التنفس، فحاول تهدئتها قائلاً بنبرة حب صادقة:
, -اهدي يا حبيبتي، محدش هايمسك بشعرة طول ما أنا موجود، اسمعيني كويس، أنا معاكي، وهاحميكي منه!
, كانت بحاجة إلى كلماته تلك التي بدت كالدواء المسكن لأوجاعها المستمرة، فهزت رأسها بإيماءة ضعيفة معلنة ثقتها به، ابتسم لها لتجاوبها معه، لكن تلاشت سريعًا حينما أغمضت عينيها، واستكانت رأسها على كتف عمتها التي شهقت مرعوبة من تثاقل جسدها عليها، خفق قلبه بقوة، وشحب وجهه بتوتر كبير، هتف بصدمة:
, -أسيف
, -حوشها يا ابني!
, مد يديه سريعًا نحوها ليسندها هو الأخر، ثم طوق خصرها بأحد ذراعيه، وانحنى ليحملها برفق، وضمها أكثر إلى صدره، انخلع فؤاده بقوة لمجرد رؤيتها هكذا، ود لو يحرق الأرض بمن عليها لجعلها تعاني للحظة من قسوتهم الجاحدة التي لا تعرف أي شفقة بأمثالها من الضعفاء.
, هتفت عواطف بفزع:
, -هي فرفرت من كلامكهم المفتري ده!
, دنت بسمة من أسيف لتمسح على وجهها قائلة بخوف:
, -حسبي **** ونعم الوكيل، معندهومش ددمم!
, انتبه منذر لصوت الحاج إسماعيل الصادح بجدية:
, -تعالى يا أستاذ منذر، بيتي قريب من هنا، خليها تاخد نفسها هناك وترتاح!
, ٤٠ نقطة
,
, أوصلها إلى منزلها بنفسه بعد انتهاء الإجراءات في مخفر الشرطة، واطمئن على وجود الرضيعة في أحضانها قبل أن يشدد عليها محذرًا:
, -باب البيت مايتفتحش لحد يا بنتي!
, هزت نيرمين رأسها بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة ، فتابع قائلاً بخشونة جادة:
, -وأنا هاسيب حد من عمال الوكالة تحت البيت، هو هايشوف طلباتك لحد ما أمك ترجع من مشوارها
, ردت عليه بامتنان:
, -كتر خيرك يا حاج طه!
, أشار لها بعكازه متابعًا بتحذير شديد:
, -وإياكي تعلقي مع العالم دول تاني، سامعة، سدي أي سكة معاهم!
, أومــأت برأسها قائلة بخنوع:
, -انت تؤمرني يا حاج طه، ده .. ده لولاك كان زماني!
, رفع كفه أمام وجهها مرددًا:
, -متحكيش في اللي فات، سلامو عليكم!
, -وعليكم السلام
, قالتها بهدوء وهي توصد الباب خلفه برفق، ثم خطت بتمهل نحو الصالة مستعيدة في ذاكرتها وميض سريع لما دار معها، ما أثار حنقها، وحول وجهها لكتلة ملتهبة من الدماء الفائرة هو لمسات ذلك الحيوان القذر على جسدها، شعرت بوخزة قوية في صدرها، بشيء يوجج غضبها من تلك العائلة المتسلطة، صرت على أسنانها متابعة بوعيد مخيف:
, -مش هفوتهالك يا حاتم الكلب انت ولا ولاد الـ ٧ نقطة، مش أنا اللي أتضرب بالجزم وأسكت، هاجيب حقي منكم، وبكرة تشوفوا!
, ٣٧ نقطة
,
, وضعها بعناية وحذر على تلك الأريكة الخشبية الموجودة ببهو منزل الحاج إسماعيل بعد استضافتهم لهم، جثى على ركبته أمامها، وظل يمسد على جبينها برفق، أقلقه صمتها الإجباري، واختيارها لذلك الحل الضعيف في الهروب من المشاكل، دومًا تتكبد العناء والمشقة، وتستنزف كامل قواها مع كل ما تراه من مصائب متعاقبة، أراد سحبها إلى عالمه، بعيدًا كل ذلك، أن تنعم معه بحب دافيء نابع من قلبه الذي تعلق بها حتى سكنته تمامًا.
, انتبه لصوت مضيفه الهاتف بجدية:
, -خد يا بني الكالونية دي خليها تشمها؟
, نظر إلى ما يحمله في يده، فوجده ممسكًا بزجاجة عطر رخيصة – من ماركة شعبية معروفة – يقربها إليه، تناولها منه، ووضع القليل من محتوياتها على يده، ثم قرب راحته من أنفها لتستنشق رائحتها النافذة علها تستجيب وتفيق من تلك الإغماءة السريعة، تركه الحاج إسماعيل يكمل عمله، وانصرف ليتابع اهتمام البقية بإعداد الغرف لضيوفه.
, كرر منذر الفعلة لعدة مرات حتى تحركت رأسها قليلاً، وظهر تأثير طفيف على قسمات وجهها المشدودة، لحظات مرت عليه منتظرًا بتلهف عودتها لوعيها، فتنفس الصعداء لمجرد تحريكها لجفنيها، تشكل على ثغره ابتسامة باهتة حينما فتحت عينيها ببطء، تشوشت الرؤية لديها في البداية، لكنها شعرت بتلك التنهيدات الدافئة تلفح وجهها، رمشت بجفنيها لعدة مرات حتى اعتادت على الإضاءة، رأته محدقًا بها بنظرات متلهفة، فجاهدت لتنهض، هتف محذرًا:
, -خليكي زي ما انتي؟
, سألته بصوت ثقيل رغم خفوته:
, -حصل ايه؟
, تنهد قائلاً بارتياح:
, -ولا حاجة، انتي كويسة؟
, تلفتت حولها بنظرات سريعة محاولة تخمين المكان الذي تتواجد به، لكنها لم تستطع، فتسائلت بقلق:
, -أنا فين؟
, أجابها بتأنٍ:
, -انتي في بيت الحاج إسماعيل!
, انتفض جسدها بخوف، وظنت أنهم أتوا بها إلى هنا للقيام بتلك المهمة الوضيعة، فتلفتت حولها بذعر، استشعر رهبتها، وخمن السبب، فطمئنها قائلاً بحذر:
, -اهدي ومتخافيش، محدش هايقرب منك!
, تأكدت من صدق ما يقول حينما لم تجد أي أحد معهما، تابع هو حديثه بهدوء جدي:
, -أنا بس عاوزك تسمعيني كويس للأخر، ومن غير مقاطعة!
, هزت رأسها بالإيماء، فسحب هو نفسًا عميقًا حبسه للحظة في صدره، ثم أطلقه دفعة واحدة ليقول بتريث:
, -شوفي يا أسيف، فاكرة لما حذرتك من قريبك ده؟
, ضغطت على شفتيها قائلة باقتضاب:
, -ايوه
, استأنف حديثه بكلمات موحية:
, -انتي شوفتي بنفسك هو حطنا في موقف زي الزفت، ولو مكونتش اتصرفت كده، كان٣ نقطة مش هارغي في اللي قاله كتير!
, نكست رأسها بخزي بعد أن ترقرقت العبرات في مقلتيها، أخرجها من حزنها هاتفًا:
, -أسيف، أنا عاوزك تمشي ورايا للأخر!
, رفعت رأسها لتحدق مباشرة في عينيه متسائلة بخوف واضح:
, -يعني ايه؟
, طالعها بنظرات مطولة محاولة إطلاق العنان للغة العيون للبوح بما يكنه حقًا لها، لكنها لم تستطع قراءة نظراته الشغوفة بها، ضغط على شفتيه متابعًا بحذر:
, -احنا مضطرين نكتب الكتاب قصادهم!
, انفرج ثغرها للأسفل، وتسارعت دقات قلبها بتوتر كبير، أكمل هو موضحًا بجدية:
, -ولازم نعمل الفرح هنا عشان أحفظلك كرامتك وأردلك اعتبارك، وإلا هاتطلع سمعة مش حلوة عليكي وعلى أهلك، والراجل ده زي الكلب، مابيصدق يلاقي حاجة ويلبد فيها!
, لم تعقب عليه، وظل بؤبؤي حدقتيها يتحركان بقلق بائن عليهما، استشعر ترددها، بل ربما رفضها، فتنهد قائلاً بانزعاج طفيف:
, -أنا عارف إنك مش حباني، ولا عاوزة الجوازة دي!
, شعرت بالاطمئنان لتفهمه موقفها، لكن في نفس الوقت كانت تشعر بغصة في حلقها بدون أن تفسر الأمر لمجرد إحساسها بحزنه، وضع يده على رأسه يحكها مرة واحدة قبل أن يضيف بحسم:
, -وأنا أوعدك مش هاعمل حاجة غصب عنك، الجوازة دي لمصلحتك انتي، وهاتكون على الورق وبس!
, سألته مستفهمة وقد تعقدت تعابيرها:
, -قصدك انها تمثيلية؟
, حرك رأسه بالإيجاب مؤكدًا:
, -بالظبط، هانكملها قصادهم، ونمشي من هنا!
, بدا كمن يجد صعوبة في الحديث حينما أكمل بامتعاض:
, -وهاننفصل بعدها!
, نغصة أخرى قوية عصفت بها رغم أن المسألة مجرد اختيار مؤقت فرض عليها لن تجبر على شيء فيه، حاول أن يرسم على ثغره ابتسامة ودودة وهو يؤكد لها من جديد:
, -صدقيني، مش هايدوم الوضع كتير!
, ضمت كفيها المرتعشين معًا تفكر مليًا فيما قاله، فسألها بترقب:
, -ها قولتي ايه؟
, حدقت فيه مرة أخرى بأعينها اللامعة، شردت بعمق في لمحات وجهه، هي في كل مرة تكتشف فيه سمة مميزة، وفي كل موقف تتعرض له يثبت لها أنه الأجدر بين الرجال، خشيت أن تنساق وراء ما تشعر به، فنفضته سريعًا متسائلة بحذر:
, -انت مش هاتجبرني على حاجة، صح؟
, بلا وعي مد يده ليلتقط كفها المرتجف، نظرت له مدهوشة غير مصدقة ما فعله، ورغم هذا لم تبدِ أي مقاومة، تركته يسحب يدها إليه، ويحاوطه براحته، أحست بذلك الدفئ المنبعث منه، خرجت منها شهقة خافتة حينما رأته يضمه إلى قلبه مرددًا بنبرة مختلفة عما مضى وذات مغزى:
, -وحياة أغلى حاجة عندي هنا، مش هاتعملي أي حاجة إلا برضاكي وبس!
, تسارعت أنفاسها بتوتر كبير، تيقنت من صدقه، ولم يضف المزيد، اكتفى بتصرفه ذلك ليعبر لها عن حاله المشتاق لها، أرخى أصابعه عنها كي لا يسبب لها الحرج، فسحبت يدها للخلف قابضة على أصابعها، نظر لها مطولاً متوقعًا الرفض، لكن خرجت همسة خافتة من بين شفتيها تقول:
, -ماشي!
, حدق فيها مدهوشًا وهو يردد بعدم تصديق:
, -ماشي ايه؟
, ابتلعت ريقها قائلة بخجل ظاهر بعد أن أخفضت نظراتها:
, -أنا موافقة!
, اتسعت ابتسامته بدرجة ملحوظة، وزادت نبضاته حماسًا، أسبل عينيه نحوها متابعًا بشغف ذلك التورد المنعش للروح الذي غزا وجهها، هي بكلمة واحدة أعادت إليه بريق الحياة، وضع يده على رأسه ليمررها في شعره، أحس باضطراب أنفاسه من قوة الأدرينالين المحفز له، هي أربكته بموافقتها المفاجئة، لم يجد من الكلمات ما يعبر بها عن حاله، فتنفس بعمق ليضبط انفعالاته المتحمسة، اعتدل في وقفته، ونظر لها قائلاً بجدية:
, -وأنا أوعدك قصاد **** إني مش هاخلي حاجة أبدًا تضايقك أو حتى تأذيكي طول ما انتي معايا!
,
, حدقت أسيف في عينيه بقوة دون أن يطرف جفناها لثوانٍ، ابتسمت له بخجل شديد، وهمست بصوت خافت للغاية صدر تلك المرة من إحساسها ذلك:
, -وأنا مصدقاك ٤ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٧٠
ورد إليه اتصالاً هاتفيًا من ابنه الأصغر يبلغه فيه بتطورات الأوضـــاع خلال زيارتهم لبلدتها الريفية، وكيف تأزم الموقف من جديد مما اضطر أخيه منذر إلى اللجوء إلى حيلة كتب الكتاب لكي يسيطر على الأمر قبل أن يتفاقم وينقلب إلى أمر خطير غير مضمون العواقب، ولأنه يعرف ابنه جيدًا فقبل طه باختياره، وبامتعاض حرج أمره قائلاً:
, -سيب أخوك هناك يا دياب معاهم، وإرجع انت عشان نرتب أمورنا!
, رد عليه ممتثلاً:
, -حاضر يا أبا
, تابع طه محذرًا بصرامة:
, -وقوله ما يتهورش، انا جاي بنفسي عنده، هاحل أي مشاكل!
, -ماشي، طيب وبنت عواطف التانية هانعرفها؟
, -أكيد، وبعدين دي ليها موال تاني
, سأله دياب باهتمام:
, -ليه ؟ هو حصل حاجة في غيابنا؟
, أجابه بغموض هادئ:
, -بعدين هاقولك، بس المهم دلوقتي تظبط أمورك، وترجعلي!
, -تمام! اطمن يا حاج
, ٣٥ نقطة
, اعتدلت في جلستها بعد أن أبدته موافقتها على عرضه، شعرت بالارتياح لكونه في حياتها، فبدونه لأصبحت لقمة سائغة للأقوى منها، اختلست أسيف النظرات نحوه تراقبه باهتمام ظاهر عليها حينما انسحب من المكان ليتحدث مع الحاج إسماعيل في عدة أمور، لأول مرة لم تنفر حقًا كون ارتباطهما جديًا، أحبت فكرة درعها الذي يدفع عنها كل المصائب، أحست بصدق كلماته النابعة منه.
, رأت في نظراته ما أكد تلك المشاعر التي تعتريها، ففي كل لحظة تعرتض فيها لخطر ما، يظهر لها من الهدم ليزود عنها ويفديها بروحه دون اهتمام بما قد يحدث له، هي الأهم دومًا عنده أولاً وأبدًا، شعرت بنبضاتها تتلاحق بتوتر كبير لمجرد تفكيرها المتعمق فيه، بحالة من الارتباك والخجل لأنها استشعرت وجود شيء ما بها يجذبها إليه، أشاحت بأعينها بعيدًا عنه حينما أتاها صوت عمتها المتسائل بحنو:
, -بقيتي كويسة يا بنتي؟
, ابتسمت قائلة بخفوت خجل:
, -الحمد**** أحسن
, تنفست بهدوء محاولة ضبط حالها متحرجة من احتمالية اعتقاد عمتها بأنها تبادله نظرات غريبة، فنكست رأسها خجلاً، واكتفت بالصمت
, مسحت عواطف على وجنتها بكفها برفق شديد، وهتفت متابعة بود:
, -يا رب دايمًا يا بنتي!
, قربت منها كوبًا معدنيًا به مشروبًا باردًا أعدته من أجلها وهي تضيف:
, -خدي اشربي العناب ده يروق دمك!
, هزت رأسها نافية:
, -مش عاوزة يا عمتي!
, أصرت على ارتشافها منه قائلة بإلحاح:
, -اسمعي الكلام ده يا حبيبتي، خلي الدموية ترد في وشك
, استسلمت سريعًا أمام إصرارها هامسة:
, -طيب!
, بدأت ترتشف منه القليل حينما انضمت إليهما بسمة لتجلس إلى جوارها الأريكة مرددة بازدراء:
, -قريبك ده **** اكبر عليه، مش بيخاف ****، بجد بجح وعينه أد كده!
, نظرت لها عواطف محذرة كي تكف عن عباراتها المزعجة، لكنها واصلت حديثها مضيفة بامتعاض:
, -هو ده انسان، بجد واحد سمج!
, -بسمة، خلاص!
, قالتها والدتها بصرامة لكي تقطم جملتها مجبرة، لكن ما لبث أن تلاشى سكوتها المؤقت لتتسائل باهتمام:
, - قولولي هانعمل ايه بعد كده؟ يعني المفروض هي عروسة ومحتاجة طلبات و٣ نقطة
, ردت عليها أسيف معترضة:
, -أنا مش عاوزة حاجة!
, عقدت بسمة ما بين حاجبيها مرددة باندهاش:
, -لأ ماينفعش، هو في عروسة من غير فستان ولا فرح
, أوضحت سبب رفضها قائلة بضيق:
, -يعني ازاي أفرح وأنا عندي مصيبة تانية؟
, تبادلت بسمة نظرات متعجبة مع والدتها، فلم تفهم مقصدها بوضوح، فاستأنفت أسيف حديثها مبررة:
, -هو أنا مش من حقي أزعل على بيتي اللي اتحرق ولا حياتي اللي معدتش ليها وجود، ولا على كل اللي راح مني!
, ردت عليها عواطف مواسية إياها بلطف:
, -طبعًا من حقك يا بنتي، هو حد يقدر يتكلم!
, صمتت للحظة قبل أن تضيف بتريث لتؤكد على جدية الوضع:
, -بس الظروف دلوقتي أجبرتنا على كده!
, لمعت عيناها ببريق حزين، فكل ما يحدث لها لم يكن ضمن أحلامها الوردية البسيطة، دعمت بسمة كلمات والدتها قائلة:
, -وبعدين احنا اللي بنعمل حياتنا وبنصنع الذكريات، انتي بإيدك ترجعي كل حاجة، متخليش بس الحزن يسيطر عليكي!
, ردت عليها عواطف بابتسامة ممتنة:
, -مظبوط، اسمعي كلام بنت عمتك، هي بتقول المفيد!
, أكملت بسمة محذرة بجدية وهي تشير بسبابتها:
, -اوعي تخلي الراجل ده ينتصر عليكي، افرحي لو حتى لدقايق!
, تعلقت أنظار أسيف بها، وفكرت بتعمق في حديثها العقلاني، بينما استمرت بسمة في الاسترسال متابعة:
, -ومنذر وعدك هايجيب حقك، وهايشوف مين اللي عمل كده، خليه هو يركز في الحاجات دي وانتي فوقي لنفسك!
, ردت عليها باقتضاب غامض:
, -**** يسهل!
, ٣٧ نقطة
, قضى الجميع ليلتهم في منزل الحاج إسماعيل الذي يسر كل سبل الراحة للقيام على ضيافتهم، فكانوا ممتنين لكرمه الزائد معهم، وفي صباح اليوم التالي استعد دياب للانطلاق في طريقه، وأجرى مع أخيه حوارًا سريعًا للاتفاق على أهم الأمور قبل أن يتركه وينصرف.
, -ها فهمتني، وأنا هتابع معاك!
, هتف منذر بتلك العبارة لأخيه الذي أجابه وهو يفرك طرف ذقنه:
, -ماشي!
, ســـار بصحبته حتى أوصله إلى السيارة، فاستدار دياب ناحيته مضيفًا بنبرة ذات مغزى:
, -وخلي بالك من الجماعة، فاهمني طبعًا!
, فهم منذر مقصده الخفي، فابتسم له قائلاً:
, -انت هتوصيني!
, ودع الحاج إسماعيل أحد الأشخاص بعد الاتفاق معه على شيء ما ليقوم به توًا، ثم دنا منهما هاتفًا:
, -ماكنت تخليك قاعد يا ابني، والجماعة يحصولك على هنا!
, رد عليه دياب بإصرار:
, -مش هاينفع و**** يا حاج، طالما الموضوع جه على السريع محتاجين نعمل ترتيباتنا ونبلغ حبايبنا كلهم، وبعدين منذر معاكو الكام يوم دول!
,
, ربت إسماعيل على كتف منذر قائلاً بتفاخرٍ مادحًا فيه:
, -ده زينة الشباب ومنورنا!
, رد عليه الأخير ممتنًا:
, -**** يكرمك يا حاج!
, أضاف الحاج إسماعيل قائلاً بنبرة خشنة:
, -تسلم يا ابني، تعالوا نشرب الشاي عقبال ما الجماعة يجهزوا الحاجة
, تبادل دياب مع أخيه نظرات حائرة بعد كلماته الغامضة تلك، وتسائل منذر باستغراب:
, -حاجة ايه دي؟
, رد مبتسمًا دون تكليف:
, -حاجة بسيطة على ما قُسم، مش من قيمتكم طبعًا!
, اعترض دياب بشدة وهو يشير بيده:
, -لا مالوش لازمة!
, أصـــر الحاج إسماعيل قائلاً:
, -و**** مايحصل، إنت عاوز تزعلنا، تعالوا على المضيفة نتكلم جوا!
, لم يجد الاثنان بدًا من الاعتراض، فتلك من التقاليد الطيبة المعروفة لدى أهل تلك البلدات الريفية، ورفضها يعني التقليل من احترام المضيف.
, ٤١ نقطة
,
, لاحقًا، أصرت عواطف على ذهاب ابنتها مع دياب لتأتي بأختها، فلا يصح أن يُقام حفل عقد القران بدون وجودها، بالإضافة إلى حاجة بسمة إلى ثياب جديدة، وكذلك لإحضار بعض الأشياء والمتعلقات النسائية التي ربما تحتاج إليها العروس في ليلة كهذه، ووافق هو بسعادة على اصطحابها، فربما هي فرصة مناسبة له ليحظى بحديث ودي معها على انفراد، جلست بجواره في المقعد الأمامي رغم حرجها منه، لكن لم يكن أمامها أي بديل، خاصة حينما وضع بالمقعد الخلفي ما هو متعارف عليه من هدايا ترحيبية تشمل الفواكة والخضراوات والطيور وغيرها مما يعرف عنه بـ "الزيارة للعائلة".
, انحنت عواطف على النافذة الأمامية لسيارته لتودعها قائلة:
, -كلميني كل شوية لحد ما توصلي
, ردت عليها بسمة بهدوء:
, -حاضر يا ماما!
, وجهت حديثها إلى دياب قائلة بتخوف قليل:
, -خد بالك منها يا بني! السكة طويلة و٣ نقطة
, قاطعها بجدية وهو مسلط أنظاره على معشوقته:
, -دي في عينيا يا ست عواطف، انتي هتوصيني بردك!
, ردت عليه عواطف بتنهيدة:
, -يحميك ****
, أشارت بسمة لأمها قائلة بهدوء:
, -مع السلامة بقى يا ماما عشان نلحق الطريق
, -ماشي، **** يسلم طريقكم
, أدار بعدها دياب محرك السيارة لينطلق بها نحو الطريق الفرعي للبلدة ليعرج منه إلى الطريق الرئيسي حيث طريق عودتهما.
, ٣٤ نقطة
, تجول منذر في البلدة بصحبة الحاج إسماعيل ليتحدث معه حول مسألة حرق منزل المرحوم رياض، وبالطبع بدا الأخير حذرًا فيما يتفوه به كي لا يثير الشبهات حول فتحي الذي يشك به، لكن نظراته المتطلعة إليه أكدت له عدم اقتناعه، وفي النهاية طلب منه الالتقاء بمأمور القسم ليفهم من ملابسات الحادث، فرد عليه هاتفًا:
, -خلاص يا أستاذ منذر، أنا هارتبلك ميعاد معاه!
, هز رأسه موافقًا وهو يرد:
, -اه يا ريت، محتاج أفهم منه كل حاجة!
, حك الحاج إسماعيل ذقنه الخشنة متمتمًا:
, -ماشي! بينا على المضيفة نقوم معاك بالواجب
, -كتر خيرك، كرمك وصل من بدري
, -هو احنا لسه عملنا حاجة، تعالى يا أستاذ منذر
, ٤٣ نقطة
,
, وزع أنظاره بين الطريق تارة وبين وجهها تارة أخرى ممتعًا عينيه بتأمل ملامحها الهادئة، أمسكت به في إحدى المرات وهو محدق بها، فضاقت نظراتها نحوه، استندت بظهرها للجانب قليلاً، وعبست بوجهها قائلة بحدة طفيفة:
, -خير؟
, ابتسم ببلاهة مرددًا:
, -نعم
, سـألته بسمة على مضض:
, -بتبصلي كده ليه؟
, أشار بحاجبيه مازحًا:
, -بأبص على المراية اللي جمبك
, ردت بتهكم حاد وهي ترفع أحد حاجبيها للأعلى باستنكار:
, -و****، وهو المراية مرسومة على وشي؟!
, هز كتفيه نافيًا:
, -مش عارف، إنتي أدرى!
, نظرت له بضيق مظهرة انزعاجها من مزحته الخيفة قبل أن تعتدل في جلستها متمتمة بتذمر:
, -**** يهون بالطريق!
, رد عليها مداعبًا:
, -ايوه، كمان انتي أصلاً كائن قفوش!
, فغرت شفتيها متفاجئة بما قاله، فالتفتت سريعًا نحوه لتسأله باندهاش:
, -أنا ايه؟
, أجابها بهدوء عجيب محاولاً تقليدها:
, -قفوش! يعني فجأة الحواجب يترفعوا لفوق، والعينين تبظ شرار وغضب **** ينزل عليكي لو الواحد قال معاكي كلمة، فعلى ايه أخد وأدي، الطيب أحسن!
, احتدت نظراتها نحوه وهي تعنفه بغيظ:
, -بقى بتسمي دي طريقة حوار؟
, أجابها ببساطة:
, -ما أنا مش عارفلك سكة الصراحة عشان أتفاهم معاكي
, سألته عصبية قليلة وقد تشنجت تعابيرها:
, -وعاوز تتفاهم معايا ليه؟
, بدا عليه الارتباك وهو يحاول تفسير ما يريد الإفصاح عنه، فخرج صوته متعلثمًا وهو يقول:
, -احم.. يعني عشان ٣ نقطة أقصد ٤ نقطة
, لم ينتبه جيدًا للطريق، واستمر في التحديق بها دون مراعاة تلك الطرق الغير ممهدة، فانحرفت السيارة عن مسارها، شهقت بسمة مذعورة حينما رأته يميل نحو الحافة:
, -حاسب الترعة
, أدار ببراعة عجلة القيادة في أخر لحظة ليتفادى السقوط بالمجرى المائي، حبست هي أنفاسها بتخوف كبير، ثم تنفست الصعداء حينما تباطأت سرعتها وتوقفت عن الحركة، التقط دياب أنفاسه قائلاً بمرح طفيف:
, -الحمد****، عدت على خير!
, نظرت له شزرًا، وصاحت بانفعال:
, -و****، احنا كنا هانقع في الترعة عشان انت مش مركز في السواقة!
, رد عليها بضجر:
, -**** ستر، وبعدين العربية دي ماشية بدعا الوالدين و****!
, وقبل أن تفتح فمها لترد عليه، تابع مازحًا محاولاً امتصاص نوبة غضبها قبل أن تثور في وجهه:
, -وما ليكي عليا حلفان، الفرامل بعافية حبتين، بس لحقتها، والبط تمام ورا، والبرتقان زي ما هو، ناقص بس نشيك على البيض!
, شهقت قائلة برعب أكبر:
, -بتقول ايه؟
, ابتسم قائلاً بهدوء:
, -متخديش في بالك، دي حاجة بسيطة!
, صاحت بارتعاد وهي تلوح بذراعيها:
, -هي الفرامل بايظة، وطالع بينا على سكة سفر؟!
, أشار بسبابته في وجهها موضحًا:
, -أهو ده اللي بأتكلم فيه، بتقفشي في ثانية!
, تفهمت بصعوبة أنه يمازحها، فأعادت رأسها للخلف، ثم أغمضت عينيها، وظلت تتنفس بعمق حتى تستعيد انضباطها، توسلته قائلة برجاء خفيف واضعة يدها على قلبها المتسارع في نبضاته:
, -بلاش **** يكرمك الحركات دي، أنا قلبي مش ناقص!
, تابع حركاتها العفوية تلك باهتمام كبير، وتنهد قائلاً باشتياق:
, -ولا أنا قلبي مستحمل اللي هو فيه
,
, انتظر لوهلة حتى هدأت تمامًا، فأعاد تشغيل السيارة ليكمل طريقه بقيادة حذرة، ظل يقاتل داخل عقله في معركة فكرية كبيرة عله يصل إلى وسيلة تمكنه من البوح بمشاعره بطريقة سلسة أمامها، لكنه وجد صعوبة في الأمر، حسم أمره هاتفًا بجدية:
, -بسمة!
, استغربت من طريقته الفظة في نطق اسمها مجردًا من أي لقب، فعاتبته قائلة:
, -نعم، بسمة كده حاف؟!
, رد مبتسمًا بمرح:
, -خلاص هاحطها مع غموس!
, انعقد ما بين حاجبيها بعبوس كبير، فتلاشت ضحكته معتذرًا بحذر:
, -بلاش، مش هاهزر تاني!
,
, نظرت له بحدة، فتنحنح بصوت خشن قبل أن يضيف:
, -أنا كنت عاوز أسألك في حاجة كده، و.. ومحرج شوية
, ظنت أنه يريد مفاتحتها في مسألة الدرس الخصوصي الخاص بابنه، فهي قد أهملته مؤخرًا بسبب الظروف العائلية، وربما وجد الصغير صعوبة في الاستذكار بمفرده، لذلك ردت قائلة:
, -أها، فهمتك، لو على موضوع الدرس، فأنا ممكن أشوفلكم بديل عشان مؤقت ليحيى و٣ نقطة
, قاطعها بجدية:
, -لا مش ده!
, -اومال ايه؟
, تشبث أكثر بالمقود ضاغطًا عليه كوسيلة للتنفيس عن توتره الذي يعتريه، ثم تمتم من بين شفتيه مرددًا بارتباك:
, -يعني.. هو .. لو ٣ نقطة بصي ٣ نقطة
, تعجبت من تلك الحالة التي سيطرت عليه، فسألته بفضول:
, -ها عاوز ايه؟
, تراجع سريعًا عما يريد قوله، وتبلدت تعابيره قائلاً:
, -خلاص ماتحطيش في بالك، بعدين!
, نظرت له باستغراب مرددة بفتور:
, -براحتك!
, عنف دياب نفسه قائلاً بحنق:
, -حمار، ما انت كنت زي البغبغان قصادها، دلوقتي اتخرست!
, ٣٩ نقطة
, عاد إلى منزله ليخبرها بأخر المستجدات التي طرأت فيما يخص ابنها، صدمت من قراره المباغت بالزواج في تلك البلدة، وبإصراره على حضور أفراد العائلة والمعارف لإقامة حفل عقد القران هناك، خاصة أنه لم يمضِ سوى يومين فقط على الخطبة.
, نظرت إلى زوجها مغمغمة باستنكار:
, -ابني هايتجوز، كده على طول، من غير ما ٤ نقطة
, قاطعها طه قائلاً بصوته الأجش:
, -اه يا جليلة، الظروف حكمت!
, تلفتت حولها ضاربة كفها بالأخر محدثة نفسها بعدم تصديق:
, -بس ده ناقصه كتير، هو احنا لحقنا نعمل حاجة، وبعدين ليه السربعة دي؟
, رد عليها موضحًا:
, -ده كتب كتاب بس، بعد كده نبقى نعمل الحلو كله!
, هزت رأسها معترضة وهي تقول:
, -لالالا، أنا ماحبش النظام ده، كل حاجة ليها أصولها و٣ نقطة
, رفع طه يده أمام وجهها هاتفًا بصلابة جادة:
, -بصي يا جليلة، أنا مش عاوز رغي كتير، جهزي نفسك والعيال عشان نتوكل على ****، وربنا ييسر في الباقي!
, بررت سبب رفضها التعجل في تلك الزيجة قائلة:
, -ده احنا ورانا مواويل كتير يا حاج!
, ربت طه على كتفها برفق محفزًا إياها:
, -اتجدعني بقى!
, ضربت جانبيها براحتي يدها مرددة بانزعاج:
, -ياني عليك يا منذر، لما تطق حاجة في دماغك!
, ٤٣ نقطة
,
, فركت وجهها بتعب نتيجة طول المسافة التي بدت وكأنها لا تنتهي، وتفكيرها ظل مشحونًا بكيفية الترتيب لما يحتاجه عقد القران، همست لنفسها بتبرم:
, -الواحد محتاج يجهز فساتين حلوة، ويشوف بنت كويسة للكوافير، و٣ نقطة
, استدار دياب ناحيتها يتأملها باندهاش، فقد كانت كمن يخطط لمعركة حربية وليس لمجرد عرس بسيط، فتمتم باستغراب:
, -ده الموضوع باينه كبير!
, زفرت قائلة بإنهاك:
, -اومال انت مفكر ايه؟ هو كتب كتاب كده وخلاص، ده احنا محتاجين شهر عشان نجهز كل حاجة، ويا ريت بس نلحق!
, رد مازحًا وهو يحاول كتم ضحكاته:
, -ليه، هتشطبوا عمارة؟
, اغتاظت من استخفافه بالأمر، فعاتبته قائلة:
, -انت هاتفهم ايه في حاجة البنات؟!
, غمز لها قائلاً بتسلية:
, -طب ما تفهميني، جربي مش هاتخسري حاجة!
, نظرت له من طرف عينها قائلة باستخفاف:
, -صعب عليك
, تنهد محدثًا نفسه:
, -لو تديني بس فرصة أتكلم!
, فكر للحظة أن يستغل الفرصة في التمهيد لموضوع رغبته في الارتباط بها، فأردف متسائلاً بترقب:
, -يا ترى اللي حصل ده مافتحش نفسك على الخطوبة والجواز؟
, نظرت له مطولاً قبل أن تجيبه بتبرم:
, -بالعكس ده سدها على الأخر!
, فغر فمه مدهوشًا من ردها الغريب، واستدار ليحدق في الطريق أمامه متمتمًا بصوت خفيض:
, -كويس، أنا كده اطمنت، طريقك مسدود يا ولدي!
, ظنت أنه ربما أساء فهمها، فتابعت مفسرة وهي تشير بيدها:
, -بص، هو كفكرة للجواز، عادي، بس أنا مش حابة انه يكون بالشكل ده؟
, لوى ثغره للجانب مرددًا بتساؤل:
, -أومال عاوزة دباديب وورد وقلوب وحركات من دي؟
, قطبت جبينها قائلة بجدية:
, -مش للدرجادي، لكن دلوقتي أنا مركزة في مستقبلي وبس
, أرخى قبضته عن المقود، ورفعها على رأسه ليحكها وهو يقول بتوجس:
, -لو على سبيل الفرض يعني، حد ظروفه زي ظروفي كده، واتقدملك هتوافقي؟
, نظرت له بعدم فهم، لكنها بدت مهتمة بما تفوه به، فتساءلت:
, -مش فاهمة؟ قصدك ايه؟ ممكن توضح اكتر!
, سحب دياب نفسًا عميقًا، ولفظه دفعة واحدة، أبطأ سرعة السيارة قليلاً كي يضمن عدم القيام بأي حادث سير، ثم التفت ناحيتها هاتفًا بنزق:
, -بصراحة كده ومن غير لف ولا دوران، أنا باحبك من زمان!
, اتسعت عيناها بصدمة واضحة من تصريحه المفاجئ، وانفرجت شفتاها ببلاهة جلية، فتابع قائلاً ببساطة:
, -مش عارفة أقولهالك ازاي، بس كان لازم أديهالك خبط لزق عشان تحسي بيا
, حاولت أن تجد من الكلمات ما ترد به عليه وبشدة، لكن ألجمت المفاجأة لسانها وعقدته، فخرجت الكلمات بصعوبة من جوفها وهي تقول:
, -انت..
, باغتها بوضع إصبعه على فمها ليمنعها قسرًا عن الكلام قائلاً بهدوء:
, -انا مش عاوز أسمع منك رد، أنا بأقولك اللي حاسه ناحيتك! أنا مش عارف أجيبهالك ازاي، بس ده حصل، وأنا حبيتك، وكان هيجرالي حاجة لما.. لما حصلك الحادثة، و.. وكنت مستني الوقت المناسب عشان أفاتحك فيه!
, رمشت بعينيها غير مصدقة أنه يفصح لها عن تعلقه الشديد بها، عن حبه الشغوف لها، عن رغبته في الارتباط بها، وهي لم تشعر بما يكنه لها..
, تخبط رهيب في أفكارها، بل الأحرى حيرة جلية سيطرت عليها بعد ذلك، شعرت فقط بدموية متحمسة تتدفق إلى وجهها لتزيد من سخونته، ربما لكونها في موقف حرج، ولكونه يعترف بحبه لها، فتأثرت خلايا تلقائيًا بذلك، لكن الأكيد أنها لم تجد من الكلمات ما تستطيع الرد به عليه.
, ٣٩ نقطة
, عقدت العزم على فضح أمره، على إنهاء حياته المهنية كخطوة أولى في تدميره، هي رفضت إلحاق الأذى به من أجل ابنتهما، لكنه تجاوز معها، وسمح لغيره بالاعتداء عليها، واستمتع برؤيتها مهانة، فقررت التخلي عن فكرة السلمية معه، ولجأت إلى مؤسسته الحكومية لتقديم شكوى علنية فيه مُسَببة وموضحة فيها أسباب شكواها.
, سألت نيرمين الموظف المسئول عن تلقي البلاغات عن الموظفين بعبث ماكر:
, -انتو بتحققوا في الشكاوي دي بعد ما بنقدمها؟
, أجابها بتأفف وهو يرتشف من كوب الشاي الخاص به:
, -ايوه، بتروح شئون العاملين، وفي لجنة بتتعقد، وبيتعاملوا مع الشكوى بجدية، خلصينا يا ست، لسه ورانا غيرك كتير!
, عمدت إلى إظهار توجسها كي تشير إلى أهمية الشكوى، وازدردت ريقها أمامه مصطنعة التخوف وهي تضيف:
, -بس.. بس دي فيها حاجات عن رشاوي و.. وتهريب ، وحاجات تانية
, انتبهت حواس الموظف لما قالته، ولاح في عقله أفكارًا كثيرًا، أهمها الحصول على مكافأة مالية مجزية وترقية استثنائية إن تولى بنفسه ذلك الأمر، أسند الكوب سريعًا على مكتبه هاتفًا بتلهف:
, -اكتبي اللي انتي عاوزاه، بس الأهم بياناتك تكون واضحة عشان جدية الشكوى!
, ابتسمت قائلة بسعادة:
, -ماشي يا أستاذ!
, التوى ثغرها للجانب أكثر لتظهر ابتسامة خفية من بين أسنانها وهي تحدث نفسها قائلة:
, -وريني هاتعمل ايه يا حاتم في الفضايح اللي هاقولها!
, ٣٧ نقطة
, انتهى من تناول تلك الوجبة الخفيفة التي اشتراها من مطعم الوجبات السريعة، وطوى الورقة الفارغة ملقيًا إياها بإهمال في سلة القمامة الصغيرة الموضوعة بجوار مقعده المعدني، كان على وشك الذهاب للمرحاض لغسل يده، لكنه تسمر في مكانه حينما رأى أفرادًا من الشرطة يملأون الرواق.
, اقترب منهم مازن ليعرف ماذا يريدون، فانتبه لصوت أحدهم الآمر وهو يشير بيده نحو غرفه أخيه:
, -حط حراسة يا بني هنا، وتحفظ على المتهم لحد ما يسمحولنا نستجوبه!
, صُددمم مما يفعله، وشعر بدمائه تفر من عروقه، فسأله بتلهف:
, -خير يا باشا، متهم مين اللي بتكلموا عنه، ده أخويا اللي في العناية!
, نظر لها الضابط مطولاً متفحصًا هيئته، ثم رد بجمود:
, -احنا عارفين، ومعانا أمر من النيابة بالقبض عليه
, سأله مازن بتوجس وهو يمرر أنظاره على وجوههم:
, -هاه، طب ليه؟ هو عمل ايه؟ ده .. ده راقد هنا و٤ نقطة
, برر له الضابط السبب قائلاً:
, -في بلاغ متقدم ضده بالاعتداء على صاحبة صيدلية لدكتورة اسمها فاطمة، والنيابة بتحقق في الموضوع ده!
, قوس فمه للجانب مرددًا بذهول:
, -ايييه؟
, تابع الضابط مضيفًا بصيغة آمرة لأحد المجندين:
, -تقف هنا متتحركش إلا بأوامر مني، سامع!
, أدى الفرد الأمني التحية العسكرية قائلاً بخنوع:
, -تمام يا باشا!
, تلفت الضابط حوله متسائلاً:
, -محتاج أتكلم مع الدكتور المسئول عن حالته، هو فين؟
, رد عليه أحدهم:
, -اتفضل يا فندم، هانسأل في الاستقبال وهما هيبلغونا!
,
, تابعهم مازن في صمت ضربًا كفه بالأخر، فقد خسر أخاه حريته بسبب تهوره، وحتمًا سيزج به في السجن عما قريب إن ثبتت تلك التهمة عليه، تنهد قائلاً بتوجس:
, -و**** أعلم ايه تاني ممكن يجرالك يا مجد! انت ضعت خلاص ٦ نقطة!!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٧١
ســـــاد صمت ثقيل بينهما طوال المسافة المتبقية من وصولهما، لم يتبادلا فيها الحديث إلا بكلمات مقتضبة فقط، حرص على عدم إزعاجها، ولجأت هي إلى الصمت الإجباري، هو باغتها باعترافه الصريح بحبه لها، وهي عجزت عن استيعاب الموقف، ظلت تفرك أصابع كفيها بتوتر بادٍ عليها، فلم سبق أن تقدم إليها أي أحد بعرض للزواج، حتى من تعرفهم من زملاء بالعمل كانوا يتعاملون معها بطريقة رسمية بسبب أسلوبها الجاف في المعاملة، مر ببالها موقف واحد محرج لأحد أقرباء أحد الأطفال ممن تستذكر معهم حينما أراد رؤية وجهها أثناء شرحها للدرس، فاستنكرت طريقته الفظة، واعتذرت عن إكمال الدرس الخصوصي.
, اختلس دياب النظرات نحوها، راقب ارتباكها بتوجس مزعوج، اعتقد لوهلة أنها ربما تفكر في طريقة للاعتذار منه بصورة لبقة عن الارتباط به، انقبض قلبه بقوة لمجرد التفكير في هذا الأمر، سحب زفيرًا عميقًا ليدعم به نفسه قبل أن يكسر الحاجز الجليدي بينهما هاتفًا بحرج:
, -أنا .. مش مستعجل منك على أي رد، بس.. بس محتاج كلمة تطمني ولو شوية
, لم تستدر نحوه، وظلت محدقة للجانب متحاشية النظر إليه، زاد تخوفه من رفضها، فتابع بتوسل خفيف:
, -عشان خاطري بس، قوليلي رأيك ايه في اللي سمعتيه مني؟
, أجابته بجفاء تام:
, -يعني عاوزني أرد أقول ايه؟
, همس برجاء:
, -أي حاجة تريحني!
, رفضت بسمة الالتفات نحوه قائلة بجمود:
, -معنديش حاجة أقولها!
, سألها بتوجس كبير:
, -يعني انتي ممكن ترفضيني؟
, رد باقتضاب غامض:
, -معرفش
, نظر نحوها متسائلاً بارتباك:
, -طب، موافقة مبدئيًا عليا؟
, أجابته بإيجاز:
, -مش عارفة
, شعر بأجواء الرفض تلوح في الأفق، فهتف مستسلمًا:
, -اعتبري إني مقولتش حاجة!
, ردت بفتور وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
, -يكون أفضل!
, استمر الصمت سائدًا بينهما لبرهة حتى مل منه دياب، أراد أن يبوح لها بإحساسه خلال زيجته السابقة عله يكسب جولة معها، فيرق قلبها إليه، تنهد ببطء، ثم استطرد حديثه هاتفًا بصوت حزين:
, -بسمة، أنا عاوزك قبل ما تقولي رأيك تعرفي حاجة مهمة!
, انتبهت لصوته، وحانت منها التفاتة سريعة نحوه، فرأت تعابيره يكسوها الحزن، شعرت بغصة في حلقها، لكنها عاودت التحديق في الطريق أمامها متجاهلة ما رأته، تابع قائلاً بصعوبة واضحة في نبرته:
, -لو.. لو هترفضيني يا ريت مايكونش بسبب ابني، هو مالوش ذنب، أنا مش بأدورله على أم، لأنها موجودة، ومقدرش أنكر ده!
, شعرت بالحرج لكونه برر أحد أسباب احتمالية رفضها له، الاقتران بزوج منفصل لديه أبناء، تنفس بعمق، وأخرج زفيرًا يحمل الكثير من الهموم وهو يضيف بامتعاض:
, -أنا كرهت فكرة الزواج والارتباط، جايز قليل أوي اللي عارف السبب، بس أنا حابب إنك تسمعيه مني، يمكن يفرق معاكي!
, ضغطت بسمة على أصابعها بقوة مستشعرة الحرج الشديد من استرساله في أمور خاصة لا يستوجب عليها معرفتها، فقاطعته بتهذيب:
, -لو سمحت، مافيش داعي٤ نقطة
, قاطعها مصرًا على أن تصغي له هاتفًا:
, -أنا دورت لنفسي على حبيبة، وافتكرت إن أم يحيى هي الانسانة دي، بس للأسف طلعت أكبر خازوق أخدته في حياتي!
, انزعجت من وقاحة ألفاظه، فتنحنحت مرددة بخفوت:
, -احم.. من فضلك!
, تجاهل رجاؤها، وواصل بوحه بما يجيش في صدره قائلاً:
, -لعبت عليا ووقعتني في آآ٣ نقطة يعني مش عارف أجيبهالك ازاي ، بس كنت زي الأهبل مشيت وراها، وصدقتها، وعملت أكبر حاجة ندمت عليها، مكونتش عاقل، كنت طايش ومجنون!
, تملكها الفضول لتعرف أكثر عنه، خاصة أن كلماته كانت غامضة وتحمل بين طياتها الكثير، ابتلع غصة مريرة عالقة في حلقه قائلاً بآسى:
, -اللي اكتشفته بقى إنه عشان خاطر الفلوس ممكن تعمل أي حاجة، استغفلتني، ولعبتها صح عليا، ولاقت المغفل اللي يشيل الليلة كلها!
, التوى ثغره للجانب ليضحك بتهكم:
, -بس حظها المهبب إن الكلب مازن قال على السر، ماهو اتفاق بينهم، ولولا إنها كانت حامل في يحيى كنت طلقتها ساعتها!
, طالعته بنظرات أسفة ومزعوجة من تلك المكيدة المحكمة التي أوقعت أعقل الشباب في فخ الحب ببساطة، تابع مضيفًا بتنهيدة منهكة:
, -مقدرتش أكمل حياتي معاها، كل لحظة كنت بأشوف وشها فيها بأفتكر غباءي، مطولناش كتير، واطلقنا بعد حادثة مرات منذر **** يرحمها!
, استدار ناحيتها ليسألها بجدية:
, -أكيد انتي فاكرة المشاكل اللي كانت وقتها مع عيلة أبو النجا والكلب مجد؟ ماهو كان على عينك يا تاجر!
, ضغطت على شفتيها قائلة بحرج:
, -أها.. كنت لسه صغيرة!
, أكمل بتريث:
, -ومن وقتها وأنا خدت عهد على نفسي مخليش أبدًا واحدة تقرب مني، ولا أتجوز تاني!
, صمت عمدًا ليجذب انتباهها، ونجح بسهولة في هذا، فابتسم ابتسامة باهتة وهو يقول بنبرة ذات مغزى:
, -بس الظاهر قلبي مطاوعنيش!
, حدقت بسمة مباشرة في عينيه، مشدوهة بما يقوله، فواصل بحذر دون أن يخفي ابتسامته العذبة:
, -انتي ظهرتي في حياتي، وشوية شوية عرفتي تدخلي قلبي، وتسيطري على عقلي!
, تورد وجهها من غزله المتواري، فأبعدت نظراتها بعيدًا عنه، توسلها قائلاً برجاء:
, -أنا مش طالب منك كتير، عاوز بس فرصة أعبر بيها عن مشاعري!
, بدت متخبطة من كم الذكريات التي تلقاها عقلها دفعة واحدة، فهتفت بنزق نابذة فكرة الارتباط:
, -بس إنت هاتحطني دايمًا في مقارنة معاها
, رد مستنكرًا تفكيرها السطحي:
, -مين قالك؟
, عللت قائلة بحدة:
, -ده المتوقع، الجوازة التانية بتكون مظلومة و٥ نقطة
, قاطعها بانفعال طفيف:
, -استحالة، الجوازة الأولى من الأول كانت غلط، مافيش حاجة فيها كانت صح، جايز ابني اللي طلعت بيه منها!
, -بس٣ نقطة
, -ماتحكميش على الحاجة من غير ما تجربيها
, ردت عليه بنبرة جافة:
, -وليه أجرب حاجة مش مضمونة؟ أنا لو اختلفت مرة معاك هاتعاملني على إني مراتك ولاء، وجايز تتهور عليا زي ما شوفتك قبل كده، صدقني صعب تفصل بينا!
, هتف مؤكدًا بقوة:
, -مش هايحصل!
, هزت رأسها معترضة وهي تقول بجمود قاسٍ:
, -مش قادرة أصدقك، سامحني!
, تأكد في تلك اللحظة من رفضها، لكنه لم يفقد الأمل بعد، فسألها يائسًا:
, -هو انتي جربتيني؟
, أجابته بجدية تامة دون أن ترمش بعينيها:
, -مش حابة أجرب حاجة هاخسر فيها!
, وخزة حادة ضربت بقلبه لمجرد تصريحها بأن ارتباطهما محكوم عليه بالفشل، فسألها بإحباط:
, -انتي شايفة كده؟
, صمتت مطولاً قبل أن تجيبه بإيجاز:
, -ايوه! أنا أسفة!
, انطفأ وميض عينيه، ولمعت حدقتيه إلى حد كبير تأثرًا بما قالته، بل الأحرى أن نقول أن الحزن قد خيم سريعًا على قسماته، ازدرد ريقه قائلاً بجمود زائف:
, -طيب
, أدركت أنها كانت قاسية معه إلى حد كبير، لكنها لم تستطع أن تخدعه، أو حتى أن تتلاعب بمشاعره وهي لا تشعر نحوه بأي شيء، سيشكرها لاحقًا لكونها كانت صادقة معه، لكن مُحال أن تكون كطليقته السابقة، ممن يتلاعبن بقلوب الرجــال.
, ٤١ نقطة
, بعد برهة وصل بها إلى المنطقة الشعبية، لم يتجرأ على قول المزيد، فقد لذة الحديث معها، فهو لن يجدي بأي حال، وخسر جولة أخيرة في اكتساب قلبها، وأثرت هي الصمت، فلا حاجة إلى إضافة ما لن يفيد.
, أوقف السيارة عند مدخل بنايتها قائلاً بهدوء رغم حزنه:
, -حمدلله على سلامتك
, ردت عليه بابتسامة متكلفة:
, -**** يسلمك
, ترجلت سريعًا من السيارة سائرة بخطوات متمهلة مستخدمة عكازها الطبي لكن أوقفه صوته الصائح:
, -شوية وهابعت حد يطلع الحاجات دي فوق!
, استدارت ببطء نحوه قائلة باعتراض:
, -مالهاش لازمة
, رد بنبرة جافة متطلعًا نحوها بنظرات ذابلة:
, -دي زيارة لأهل العروسة، مش لينا
,
, ألمها أن تراه هكذا، شعرت بأنها جنت عليه بقسوتها الحادة، فبدت متوترة عن زي قبل، استشعر من نظراتها نحوه شيئًا غريبًا، ظن أنها ربما تحتاج للتحفيز الإيجابي لتفكر فيما قاله بجدية، فتمسك بذلك الإحساس، وترجل من السيارة، تفاجأت من نزوله، لكن أدهشها أكثر إصراره حينما قال برجاء:
, -بسمة، أنا مش عاوزك تكوني مضايقة من اللي قولتله، بس ده حقيقي شعوري ناحيتك، حاولت كتير أخبي، بس مش عارف، أنا فعلاً بأحبك أوي، وعمري ما تخيلت نفسي أحب واحدة تاني بعد اللي حصلي!
, زادت حمرة وجهها من اعترافه في الطريق العام أمام الجيران، خشيت أن يسمعها أي أحد من المارة، فتحرجت منه قائلة بتذمر:
, -لو سمحت، أنا مش حابة الطريقة دي!
, نظر لها مطولاً معمقًا نظراته نحوها وهو يتوسلها باستعطاف:
, -يا ريت تفكري فيا يا بسمة، اديني فرصة!
, ازدردت ريقها هامسة بحرج:
, -عن اذنك!
, تسمر في مكانه يتابعها وهي تختفي أمام ناظريه، أخرج تنهيدة حارة من صدره محدثًا نفسه بتبرم:
, -شكلي بدل ما أكحلها عميتها!
, ٣٧ نقطة
, توترت أنفاسها من إصراره على ملاحقتها باعترافه بحبه لها، تنفست الصعداء لوصولها إلى منزلها لتهرب من حصاره لها، شعرت بخيبة الأمل لأنها لم تستطع صرف تفكيره عنها، أخرجها من تفكيرها المزعوج صوت جارتها خضرة التي استوقفتها على الدرج مرددة:
, -ازيك يا بسمة؟ كويس إني لامحتك يا بنتي
, سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به حالها متسائلة بتوتر طفيف:
, -خير، في حاجة؟
, ابتسمت لها قائلة بحماس:
, -ايوه، الكتكوتة رنا عندي!
, تعجبت من وجودها لديها، فسألتها باستغراب شديد:
, -ليه؟ هي نيرمين فين؟
, أجابتها ببساطة وهي تشير بيدها:
, -راحت مشوار كده، وسابتها عندي، أنا قولت أعرفك لأحسن نازلة السوق و٣ نقطة
, قاطعتها بسمة قائلة بجدية:
, -كتر خيرك! هاتيهالي يا خالتي، أنا هاخد بالي منها، وتسلمي على تعبك معاها!
, ردت بود معهود منها:
, -تعب ايه بس، دي حاجة بسيطة!
, انتظرتها عند عتبة الباب مترقبة حضورها بالرضيعة التي كانت غافية، تناولتها منها بحذر بذراعها، وانحنت برأسها لتقبلها، ثم أمالتها على كتفها وتشبثت فيها جيدًا.
, تساءلت خضرة بفضول:
, - أومال أمك فين؟
, أجابتها بإرهاق قليل:
, -مع أسيف بنت خالي في البلد، وراهم حاجات بيخلصوها هناك!
, ردت خضرة قائلة:
, -طيب بلغيها سلامي لحد ما أشوفها
, -يوصل بأمر ****، عن اذنك!
, قالتها وهي تواصل صعودها بتمهل حذر على الدرج حتى وصلت إلى باب منزلها.
, ٣٩ نقطة
, لاحقًا عادت نيرمين من الخارج لتأخذ رضيعتها من جارتها، لكنها تفاجأت بوجودها مع أختها، اعتقدت أن الجميع قد عادوا من تلك الزيارة القصيرة، فأكملت صعودها بحماسة محاولة معرفة اخر المستجدات التي حدثت في غيابها، لكن زادت غرابتها حينما رأت بسمة بمفردها تطالعها بنظرات حادة، انتابها الفضول لمعرفة السبب، وقبل أن تفهم منها، سألتها بسمة بجدية:
, -كنتي فين يا نيرمين؟ وسايبة بنتك ليه عند الجيران؟
, ردت عليها أختها بتساؤل متلهف:
, -قوليلي الأول انتو رجعتوا كلكم؟
, دنت منها نافية:
, -لأ، في حاجات جدت هناك، بس انتي مردتيش عليا! كنتي فين؟
, تفرست أكثر في ملامح وجهها، فرأت تلك الزرقة التي تغطي عينها، وكدمة أخرى بارزة فيه، فسألتها متخوفة:
, -****! مال وشك؟
, زفرت بعمق مظهرة تأففها، ثم ردت بامتعاض:
, -اصبري وهاحكيلك
, ٣٥ نقطة
, صف سيارته عند الناصية، ثم طالع وجهه في المرآة الأمامية قبل أن تقع عيناه صدفة على طيفها، امتعض وجهه بشدة، وزاد عبوسه، لم يتوقع أن يراها بعد أخر مرة طردها فيها، نفخ بغيظ متمتمًا مع نفسه:
, -هو أنا كنت ناقصها!
,
, ترجل من السيارة، فلمحته ولاء من على بعد، رسمت ابتسامة مشرقة على وجهها، هي جاءت اليوم متأنقة، متعمدة أن تفرض نفسها عليه، أن تعيد ما مضى بينهما، علها تستميل قلبه نحوها، وستلجأ إن ضاقت بها السبل إلى حيلتها الدائمة، مصلحة صغيرهما التي تتطلب التضحية من أجله.
, اقتربت منه بخطوات متعجلة لتسد عليه الطريق، فتنحى جانبًا مظهرًا عن عمد اشمئزازه منها، نظر لها شزرًا وهو يسألها بفنفور:
, -واقفة كده ليه؟
, ردت عليه برقة مصطنعة:
, -أنا مستنياك من بدري يا دياب!
, رمقها بنظرات حادة متسائلاً بغلظة:
, -عاوزة ايه؟
, تنهدت في وجه قائلة بدلال:
, -أشوف ابني! أنا جاية أستأذنك الأول، ومرضتش أطلع إلا لما انت توافق!
, حدجها بنظرات نارية، ثم تراجع خطوة مبتعدًا عنها هاتفًا بازدراء:
, -تقدري تكلمي أمي وهي هتخليكي تشوفيه!
, اقتربت منه مجددًا لتقلص المسافات بينهما، ثم وضعت يدها على صدره تتلمسه بحذر، نظرت في عينيه قائلة بهمس رقيق:
, -دياب، أنا عاوزاك تسامحني، حرام نعمل كده في ابننا!
, وضع يده على كفها نازعًا إياه عنه، ثم أرخى أصابعه عنه مبديًا سخطه بشدة، ورد عليها قائلاً بتجهم:
, -ابننا كويس من غيرك!
, أزعجها تصرفه الغليظ معها، لكنها تحملت إهانته قائلة بعتاب:
, -يعني يرضيك يتربى بالشكل ده؟ شوية هنا، وشوية هناك!
, رد بصلابة غير متأثر بحركاتها المصطنعة:
, -نصيبه كده
, أشـــاح بوجهه بعيدًا عنها متجنبًا النظر إليها، فتحركت للجانب لتصير قبالته، وبحركة مباغتة مدت أناملها نحو ذقنه لتدير رأسه في اتجاهها متسائلة برقة:
, -دياب، ايه رأيك لو ٣ نقطة لو رجعنا لبعض؟
, ضرب أناملها بعنف ليبعدهم عنه هاتفًا باستنكار منفعل:
, -شكلك شاربة حاجة على الصبح!
, فغرت شفتيها مدهوشة:
, -نعم، أنا؟
, تابع هادرًا بشراسة مخيفة وقد استشاطت نظراته:
, -أو مخك فوت، مين اللي يرجع للتاني؟
, انكمشت على نفسها من طريقته المهددة، وأوضحت له مقصدها بحذر:
, -دياب، أنا خلاص هاخلع مازن، وهأبقى حرة، يعني في قدامنا فرصة نرجع لبعض ونربي ابننا سوا!
, رمقها بنظرات دونية أشعرتها بحقارتها، ثم هتف بصلابة:
, -عندك! الأسطوانة المشروخة دي مابقتش تاكل معايا، حلي مشاكلك بعيد عني، وانسي انك عرفتيني أصلاً!
, هربت الدماء من وجهها بعد تحطيمه لآمالها هاتفة بتوسل:
, -ليه بس؟ اديني فرصة أصلح اللي فات!
, هدر فيها بعصبية:
, -وأنا نسفت اللي فات ده من مخي، إنتي مرحلة ونستها، وكفاية أوي إني سامحلك تقفي تكلميني كده!
, شعرت بخفقة قوية تضرب قلبها من طريقته القاسية، هي ظنت ببساطة أنها مازالت تملك سحرها الأنثوي، فستجذبه بيسر إلى أحضانها، وتغافلت أنه لم يضمر لها سوى الكره والبغض، رمقها بنظرات مهينة متابعًا بتهديد عدائي:
, -لولا إن بيني وبينك يحيى، كان زماني عملت حاجات كتير أقلها إني أدفنك حية!
, شهقت مصدومة من تهديده لها:
, -ايه؟ تدفني؟
, رد عليها بازدراء قاسٍ:
, -يدوبك! ده اللي يليق بواحدة رخيصة باعت نفسها للفلوس، وللي دفع فيها أكتر!
, أشار بسبابته إلى هيئتها متعمدًا الحط من شأنها واحتقارها:
, -بصي لمنظرك دلوقتي، موميا، بشعة، الواحد يقرف يبص لواحدة زيك!
, دفعها من كتفه بقوة مضيفًا بانزعاج:
, -اوعي من سكتي لأحسن نفسي جزَّعِت!
, حدقت فيه مصدومة من قطعه كل حبال الوصــال بينهما، هو سد الطريق عليها تمامًا كي لا تكرر تلك المحاولة، أدركت في تلك اللحظة أنها بالفعل خسرت أخر أحلامها وأصبحت لا شيء ..
, ٣٠ نقطة
,
, سردت لها بإيجاز تعرض حاتم لها بعد ذهابهم، وكيف اختطف الرضيعة من بين أحضانها، وإلحاقه للأذى بها، بالإضافة إلى تطاول والدته وأخته عليها، حذفت الحزء المتعلق باعتداء ناصر عليها، كي لا تشمت أختها فيها، وفضلت أن تضعه طي النسيان، فهو ليس بالأمر المحمود لتكرره،
, انزعجت بسمة بشدة مما سمعته، لكن لا يقارن هذا بحالة الغضب العارمة التي سيطرت على أختها الكبرى فور علمها بعقد قران منذر، شهقت صارخة بعصبية ضاربة صدغيها بقوة:
, -ايه؟ كتب كتاب؟ وازاي يوافق على كده؟!
, ردت عليها بهدوء:
, -الظروف حكمت!
, وضعت يديها على رأسها مرددة باستنكار:
, -مش ممكن! يعني٣ نقطة يعني خلاص هايتجوزوا؟
, نظرت لها بسمة بتعجب، ثم وضعت يدها على خصرها قائلة بتأكيد:
, -أكيد مافيش هزار في الموضوع ده!
, كزت نيرمين على أسنانها بقوة مطلقة سبة لاذعة:
, -بنت الـ٥ نقطة، خلاص خدته ليها!
, اغتاظت بسمة من إهانتها لها، فصاحت معنفة إياها بحدة:
, -انتي من الأول عارفة إن مالكيش فرصة معاه، وعلقتي نفسك بحبال الهوا الدايبة!
, أولتها نيرمين ظهرها صائحة بانفعال شديد ضاربة بيديها على فخذيها:
, -سيبني لوحدي، مش عاوزة أسمع حاجة، خلاص هيتجوزوا، يادي النصيبة اللي حلت على نافوخي!
, أرادت بسمة أن تثير فضولها أكثر علها تصرف انتباهها عن تلك اليتيمة التي تقاسي الأمرين بمفردها، فهي ليست بحاجة إلى اعتراضات أختها الساخطة، ولا نقمها الدائم، دنت منها هاتفة بغموض:
, -طب خدي المفاجأة التانية!
, ردت نيرمين بإحباط جلي وهي تلقي بثقل جسدها على أقرب أريكة:
, -هو في أكتر من كده!
, دنت منها بسمة لتحدق في عينيها بنظرات مريبة، ثم حركت رأسها للجانب قائلة بتسلية وهي تبتسم لها بعد أن كتفت ساعديها:
, -أيوه، في ٢٩ نقطة !!
,
, كانت كمن تلقت صفعة قوية في وجهها، وضربة موجعة في صدرها وذلك حينما أخبرتها أختها الصغرى باعتراف دياب بحبه لها، وكيف أنها صدته بجمود قاسٍ ورفضت بإصرار عرضه المغري للزواج، رمقتها بنظرات نارية مشتعلة انتوت فيها إحراقها حية، هبت واقفة من مكانها لتقبض على ذراعيها، ثم هزتها بعنف صارخة فيها بتوبيخ حاد:
, -انتي مجنونة، وقولتيله لأ؟
, نفضت بسمة يديها الممسكتين بها مبررة بضيق:
, -ايوه عملت كده!
, رمقتها بنظرات أكثر ضيقًا وهي تضيف مفسرة:
, -ازاي اتجوز واحد مش حاسة ناحيته بحاجة؟
, كورت نيرمين قبضتها، ولكزتها بحنق في كتفها متابعة تعنيفها:
, -انتي غبية .. ده دياب أخو منذر! مش أي حد٣ علامة التعجب
, تأوهت من ضربتها، فوضعت يدها على كتفها لتفركه قليلاً مخففة من حدة الألم، ثم ردت بفتور متعمدة استفزازها:
, -عادي يعني
, خرجت نيرمين عن شعورها، فأمسكت بها من ذراعها مجددًا لتجذبها نحوها، وصرخت بها بعصبية:
, -يا متخلفة، بقى واحدة زيك تجيلها فرصة زي ده وتقول لأ، إنتي فعلاً مجنونة، لأ وفقرية زي البومة التانية!
, أغاظها هجومها الغير مبرر عليها، بالإضافة إلى تعاملها معها بخشونة غير مقبولة، فأزاحت يدها بعيدًا عنها هاتفة باحتجاج:
, -ملكيش دعوة، أنا حرة
, -لأ مش حرة، إنتي غبية وباصة تحت رجليكي ، حد يرفس النعمة برجله!
, نظرت لها شزرًا قبل أن ترد عليها بندم واضح على محياها:
, -أعوذو ب**** منك، تصدقي أنا غلطانة إني بأقولك حاجة
, رمقتها نيرمين بنظرات أكثر سخطًا وهي تقول:
, -يا ريتك ما قولتي، ده انتي حرقتي دمي بزيادة!
, كزت بسمة على أسنانها كاظمة غيظها في نفسها، فكرت للحظة في أن تستفزها، فهتفت بنزق مظهرة ابتسامة متشفية:
, -طب جهزي بقى نفسك عشان الفرح، عاوزين نشرف العروسة!
, احتقنت مقلتي نيرمين على الأخير، وهدرت بغل:
, -أجهز نفسي، قولي ألبس اسود، دي جنازة مش جوازة!
, ٣٩ نقطة
, في نفس الأثناء، وقفت زوجة الجزار أسفل البناية القاطنة بها بسمة وعائلتها رافعة رأسها للأعلى، ومحدقة في شرفة منزلهن الخاوية بأعين لا تنتوي خيرًا مطلقًا، ألقي القبض على زوجها، وتم الزج به في السجن بتهمة التحريض على القتل، وأصبح موقفه حرجًا بعد ظهور تلك الدلائل التي تشير إلى تورطه، حملت زوجته الذنب كله على عاتق تلك التي كانت تتربص به وتتشاجر معه، فهي الملامة الوحيدة فيما أصابه وحل به من خراب.
, أخذت نفسًا عميقًا استخدمته في إخراج صوتها المنفعل صارخة بكل ما أوتيت من قوة لتجذب الأنظار إليها:
, -تعالوا يا ناس، اسمعوا كلكم واعرفوا الأشكال الـ ٦ نقطة عايشة وسطكم!
, صفقت بكلتا يديها بقوة لتجذب الانتباه وتشد الأنظار نحوها، ثم تابعت بصوتها الهادر الحقود:
, -اتفرجوا وشوفوا اللي عاملة نفسها البت الطاهرة الشريفة العفيفة، وهي مية من تحت تبن!
, نجحت في مسعاها، وبدأ المارة في التجمع حولها لمعرفة تفاصيل تلك المعركة الكلامية القائمة، مررت سريعًا أنظارها عليهم، ثم عاودت رفع رأسها وهي تكمل صراخها اللاعن:
, -منك لله يا بنت الـ٥ نقطة، شغلتي جوزي في الرايحة والجاية لحد ما جاب أخره منك!
, صدرت همهمات جانبية فضولية لمعرفة عمن تتحدث، وانكشف الغطاء عن هوية الشابة العابثة حينما صرحت علنًا:
, -اطلعي يا بنت عواطف كلميني، اطلعي قصاد الناس دي كلها وانكري إنك كنتي شغلاه، إنتي السبب في اللي جراله، لعبتي عليه وبلفتيه تحت باطك عشان توقعيه، فعلاً ياما تحت السواهي دواهي!
,
, انتبهت بسمة إلى تلك الصراخات المسيئة عمدًا إليها، فخرجت للشرفة متحفزة للاشتباك مع من تدعي عليها بالزور، فهدرت بصراخ متعصب:
, -راجل مين ده اللي أبصله، بقى بتسمي جزار البهايم ده راجل، روحي ارمي بلاكي على حد تاني غيري، أنا أشرف منك ومن عيلتك كلها!
, أشارت زوجة الجزار بذراعها مرددة بصياح هائج:
, -المعدولة طلعت أهي، اتفرجوا يا ناس على البجحة عديمة الرباية!
, زادت من حدة نبرتها ورمقتها بنظرات نارية مضيفة:
, -ده ريحتك فاحت والحتة كلها لازمًا تعرف وساختك!
, لم تتحمل المزيد من الاتهامات الباطلة، فصرخت فيها بسمة بنبرة مهددة:
, -لمي لسانك بدل ما أنزلك، وأوديكي اللومان، ده أنا جزمتي برقبتك يا ٧ نقطة
, قاطعتها زوجته غير مكترثة بها:
, -انزليلي يا ٦ نقطة، خليني أفش غلي فيكي! يا بايرة يا معنسة!
, ردت عليها بتحدٍ:
, -و**** لأوريكي!
, أمسكت نيرمين بأختها وجذبتها عنوة بعيدًا عن حافة الشرفة هاتفة بسخط:
, -خشي جوا يا بسمة، عاجبك الفضايح دي!
, ردت عليها باحتجاج ناقم:
, -فضايح ايه؟ ده أنا هافرج عليها التايهين، بقى واحدة جربوعة زي دي تكلم عني أنا كده!
, لوت نيرمين ثغرها للجانب صائحة بازدراء:
, -احنا اتجرسنا واللي كان كان!
, وضعت يدها على رأسها ضاغطة عليها بقوة وهي تكمل بحسرة:
, -زمانت الحتة كلها بتجيب في سيرتنا دلوقتي!
, صاحت بها بسمة بنفاذ صبر وهي تلوح بيدها بانفعال:
, -اللي عنده كلمة يقولها في وشي، غير كده قطع لسانهم كلهم لو اتكلموا عني بالباطل!
, نظرت لها أختها شزرًا وهي تعاتبها بجفاء:
, -يا ريتك يا فالحة كنت وافقتي على دياب قبل ما الكلام يطلع عليكي! هيبص في وشك إزاي؟
, تفاجأت بسمة بما رددته، هي تفكر فقط في مسألة الزيجة المنتهية قبل أن تبدأ، وتعنفها لكونها أفسدت فرصتها رغم أنها نبذت الفكرة قبل أن تستمر، احتقنت دماؤها، واستشاطت نظراتها، ثم هدرت بغضب مستنكر:
, -انتي بتقولي ايه؟
, حدجتها نيرمين بنظرات تحمل الاحتقار قائلة:
, -بعد اللي حصل ده مافيش راجل هايفكر يقربلك! وهاتعنسي يا فالحة، افرحي بنفسك!
, اغتاظت أكثر من طريقتها التهكمية، فردت بتشنج:
, -هو انتي مفكرة إني مستنية دياب يجيبلي حقي، أنا أقدر٥ نقطة
, قاطعتها نيرمين مشيرة بيدها:
, -معدتش ليه لازمة الكلام، هي خلصت خلاص!
, نظرت بسمة لأختها بأسف، هي دومًا تنظر للأمور من نطاق محدود، فهزت رأسها مستنكرة تصرفاتها الجامدة، رمقتها مجددًا بنظرات أخيرة محبطة وهي تقول:
, -انتي معمركيش هاتحسي بحد أبدًا!
, ٣٢ نقطة
, سرد على والدته باختصار مقابلته الخاطفة مع طليقته السابقة، وكي صدها بوقاحة فظة ليسد عليها الطريق تمامًا، أعجبت بتصرفة العقلاني وعدم تجاوزه معه قائلة بارتياح كبير:
, -أحسن إنك مشيتها، بلاش خوتة دماغ
, رد دياب قائلاً بضجر:
, -جاية تصيع عليا!
, زم فمه للأمام مضيفًا بحنق واضح:
, -اياكش تولع بجاز هي وأمها، **** ياخدوهم خلينا نرتاح!
, ربتت جليلة على كتفه مرددة بحذر:
, -متفكرش فيها!
, تنهد مطولاً ولم يضف المزيد، وألقى بثقل جسده على أقرب أريكة محدقًا أمامه بنظرات شاردة، راقبته أمه باهتمام، وبالطبع دفعها الفضول لتعرف ما الذي صار بالبلدة الريفية بالضبط، ضاقت نظراتها متسائلة بمكر:
, -ها قولي حصل ايه بالظبط هناك؟
, رد على تساؤلاتها بإجابات مقتضبة، فشعرت أن هناك خطب ما به، فسألته بإلحاح أكبر وحاصرته حتى اضطر أن يقص عليها ما حدث مؤخرًا مع بسمة.
, نظرت له بإشفاق متمتمة:
, -ما انت اللي غشيم، حد يقولها كده
, فرك مقدمة رأسه قائلاً بتبرم:
, -كنت هاعمل ايه بس، الكلام طار من مخي و٣ نقطة
, قاطعته جليلة هاتفة بتفاؤل:
, -خلاص أنا هاحاول اكلمها وأشوف دماغها!
, نظر لها بفتور مرددًا بيأس:
, -مافيش داعي
, أصرت على مفاتحتها مجددًا بطريقتها الخاصة قائلة:
, -أنا ليا لي سكتي معاها، وبعدين هي هتلاقي أحسن منك فين؟
, رد ساخرًا:
, -هاتقولك في كتير، بس النِفس!
, ضحكت من إضحاكه لها،واقتربت منه لتنحني على رأسه مقبلة إياه بحنو أمومي، ثم رددت مداعبة:
, -**** يحظك يا حبيبي!
, تنهد قائلاً باستسلام:
, -يالا، اللي حصل حصل!
, أحاطت جليلة ابنها من كتفيه مؤكدة بثقة:
, -اطمن يا دياب، إن شاء **** خير
, -يا رب، دعواتك يا أمي!
, اقتحم الصغير جلستهما الخاصة ليجلس في حجر أبيه متسائلاً ببراءة:
, -انت ناوي تتجوز مس بسمة يا بابا؟
, نظر له دياب بغرابة وهو مقطب الجبين، ثم عبث بخصلاته القصيرة متسائلاً باهتمام:
, -انت عرفت منين؟
, أجابه الصغير يحيى مبتسمًا:
, -صوتكم عالي!
, ضمه إلى صدره، وقبله بشغف، ثم أخرج تنهيدة عميقة من صدره هاتفًا:
, -لو **** سهل!
, تحمس الصغير مرددًا بمرح:
, -يا ريت يا بابي، عشان تحل الواجب بتاعي كله لوحدها!
, ضحك من براءته مداعبًا:
, -بتدور على مصلحتك زي أبوك، ناصح!
, هتفت جليلة قائلة بجدية:
, -تعالى يا يحيى هنا خلي أبوك يرتاح شوية
, عبس الصغير بوجهه معترضًا:
, -بس مش لحقت أشوفه!
, رد عليه دياب بهدوء وهو يقبله من وجنته:
, -إن شاء **** يا حبيبي هانقعد كلنا سوا، هاخلص بس اللي ورايا وجايلك!
, ابتسم يحيى هامسًا:
, -ماشي يا بابي!
, بادل والده قبلات كثيرة بعد أن ضمه، ثم نزل عن حجره ليعود إلى غرفته، ظل دياب جالسًا بمفرده شاردًا يفكر في رفضها له، كسا الحزن تعابيره، وبدا بائسًا إلى حد كبير بعد استعادته لتلك الأحداث في عقله، نظرت له والدته من بعيد بإشفاق، لم يتحمل قلبها رؤيته هكذا، وعقدت العزم على تيسير السبل من أجل ابنها كي تحقق مراده.
, ٣٥ نقطة
, دفعها تلهفها وشوقها إلى الاقتراب من ذلك المكان الذي اعتادت الجلوس فيه مع والديها الراحلين، رغم تخوفها من تأثير ذلك على نفسها إلا أنها فضلت ألا تضيع الفرصة هباءً، وتستعيد ما مضى علها تروي اشتياقها إليهما، حدقت في الشجرة التي كان يستظل بها أبيها بنظرات مطولة، ثم أخرجت من صدرها تنهيدة عميقة، التفتت برأسها نحو عمتها الواقفة على مقربة منها قائلة بابتسامة باهتة:
, -بابا كان متعود يقضي اليوم كله تحت الشجرة دي!
, زادت ابتسامتها تدريجيًا وهي تضيف:
, -وكنت أنا وماما بنستناه لما يخلص عشان نروح ناكل معاه!
, أصغت عمتها لها دون مقاطعة مستمتعة بتلك الذكريات التي لم تعرف عنها شيئًا، واستشعرت من طريقة حديثها عن عائلتها أنها عاشت ذكريات سعيدة وطيبة، طالعتها بنظرات ودية حينما هتفت بحماس:
, -ماما مكانتش حابة تتحرك إلا معاه، وبالا كان بيحبها أوي!
, انضم إليهما منذر، وحرص على عدم إزعاج أسيف حتى تستمر في استرسالها دون خجل، نظرت له عواطف بترحيب، فأشار لها بسبابته كي لا تنطق، فامتثلت لأمره الصامت، وفضلت أن تنسحب لتترك لهما مساحة من الحرية للتقارب سويًا، رمقها بنظرات ممتنة على موقفها المتفاهم، وثبت أنظاره على حبيبته التي لم تشعر بوجوده خلفها.
, أكملت أسيف قائلة بتنهيدة متأثرة:
, -أد ايه كان عظيم معها، عمره ماتكسف منها، بالعكس كان بيفتخر إنها مراته، وإن أنا بنته!
, جمد أعينه عليها متابعًا باهتمام ما تبوح به، فهي فرصة طيبة ليعرف عنها أكثر، سحبت نفسًا عميقًا لتضبط به انفعالاتها المتأثرة خاصة بعد أن لمعت عيناها بقوة، بدت نبرتها مهتزة وهي تقول:
, -ياما لعبت هنا، أحلى ذكرياتي كانت معاهم، بس.. خالي فتحي **** يسامحه استكتر ده عليا!
, أزعجه بشدة ذكر ذلك المقيت الذي سبب لها الأذية، وحفر في عقلها ذكريات أليمة، بصعوبة واضحة عليه سيطر على أعصابه، وفضل ألا يصدر صوتًا، أخرجت من صدرها تنهيدة أكثر حزنًا وهي تقول:
, -كان نفسي يكونوا معايا أوي، عارفة يا عمتي، ماما كانت بتفكر تشتريلي فستان فرح، بس بصراحة أنا مكونتش عاوزة كده، كنت حابة ألبس فستانها!
, اختنق صوتها نوعًا ما وهي تقول:
, -حتى الأمنية دي كمان اتحرمت منها!
, استدارت فجأة للجانب لتحدق في وجهها، فصدمت من رؤيته، شهقت بتوتر، ورمشت بعينيها بحرج كبير، وبلا تردد سألته بارتباك:
, -انت.. انت هنا من امتى؟
, ابتسم لها بعذوبة قائلاً بتريث:
, -من بدري!
, توترت بشكل ملفت للأنظار من حضوره المباغت، وزاد احمرار وجهها حتى بات ككتلة ملتهبة من الحرج، همست بتلعثم:
, -أنا.. هاروح أشوفه إن كانوا٣ نقطة محتاجين مساعدة
, تحرك منذر سريعًا ليعترض طريقها قائلاً بلطف:
, -ممكن نتكلم شوية!
, تسمرت في مكانها مجبرة، وأخفضت نظراتها قائلة بخجل:
, -أستاذ منذر!
, ابتسم لها قائلاً برجاء ودود:
, -ينفع نشيل التكليف بينا
, أسبلت عيناها نحوه متحرجة أكثر منه، فتابع موضحًا محاولاً إقناعها بوجهة نظره بطريقة عقلانية:
, -يعني كوضع مؤقت! الناس هنا هايقولوا ازاي هايتجوزوا ولسه بينادوا بعض بالألقاب؟ شكلها غريب!
, هزت رأسها بتفهم، وأخفضت نظراتها لتحدق في أي شيء إلا هو، زفر مطولاً رافعًا رأسه للأعلى، ودس يديه في جيبي بنطاله، أردف قائلاً بهدوء:
, -المكان هنا حلو!
, حدقت أمامها قائلة باقتضاب:
, -ايوه!
, -تعرفي أنا شكلي هاحسدك إنك اتربيتي في مكان زي ده!
, اكتفت بالابتسام دون أن تعلق عليه، وظلت مثبتة أنظارها في الخضرة الممتدة على مرمى البصر، التفت ناحيتها ممتعًا عينيه بقربها الساحر، شعرت بأنظاره عليها رغم عدم استدارتها، فحافظت على ثباتها كي لا يزيد حرجها، بدا عقلها في صراع كبير محاولاً الوصول إلى طريقة مثلى في التعبير عن امتنانها له لمساعدتها إياها دون تأخير، شعرت بصعوبة الأمر رغم بساطته، عضت على شفتها السفلى كاتمة توترها، فابتسم لعفويتها.
, تجرأت للحظة قائلة بخفوت رغم اهتزاز نبرتها:
, -أنا.. كنت حابة أشكرك على كل حاجة عملتها عشاني!
, اهتم بما تقوله مبتسمًا، فلأول مرة تظهر له تقديرها لمواقفه، فركت أصابع كفيها معًا وهي تكمل بارتباك أكبر:
, -أنا عارفة إني ضايقتك كتير، وساعات كنت يعني متسرعة معاك، وانت.. استحملت مني حاجات محدش يقبلها على نفسه!
, أخرج يده من جيبه، ووضعها على رأسه ليمررها بثبات خلال خصلاته قائلاً بهدوء:
, -ولا يهمك!
, أغمضت عينيها متمتمة بخفوت مضطرب:
, -وفي كل مرة كنت بأقع فيها في مشكلة، كنت .. بتقف معايا حتى لو في بينا خلافات!
, طالع تعابير وجهها بنظرات متيمة، ورد عليها هامسًا بصدق:
, -اللي بيحب حد بيحبه زي ما هو كده!
, فتحت عينيها مستديرة نحوه بخجل كبير، فعمق منذر نظراته أكثر نحوها لتصبح هي محاصرة بين وميض عينيه المتقدتين شوقًا لتذوق حبها الدافئ، أحست بنظراته تخترقها، تصيبها مباشرة في قلبها، تزيد من نبضاته، وتؤكد لها وجود شيء ما في كيانها، توترت بشدة من حضوره القوي، فتنهد مضيفًا بنبرة عاشقة صادرة من فؤاد ذاق لوعة الحب:
, -وأنا حبيتك كده ٣ نقطة ٣ علامة التعجب
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٧٢
جلست منزوية في أحد الأركان بمنزلها محدقة بنظرات خاوية في تلك الورقة التي لم يعد لها أي قيمة، اعتقدت أنها ملكت الدنيا باستحواذها على مبلغ كهذا، لكن تحولت أحلامها إلى سرابٍ حينما اكتشفت الخدعة، كان "الشيك" بدون رصيد، خدعها بسذاجة ليضمن عدم تقدمها بأي شكوى ضد أخيه، وانطليت عليها الأكذوبة بسهولة، هربت من عينيها عبرات خائنة، فمسحتها سريعًا قبل أن تراها ابنتها وتكتشف الأمر.
, دنت منها ولاء متفرسة في تعبيراتها الحزينة، ومتأملة بفضول حالتها الشاردة، وقفت أمامها لبرهة منتظرة أن تشعر بوجودها، لكنها كانت كمن في عالم آخر، فصاحت باستغراب:
, -ماما! مالك في ايه؟
, انتبهت شادية لوجودها، فاضطربت بدرجة ملحوظة، وازدردت ريقها بتوتر وهي تطوي الورقة لتدسها في جيبها دون أن تنتبه لها ابنتها، سريعًا عمدت إلى إخفاء حزنها، وقوست فمها لتظهر ابتسامة باهتة وهي ترد:
, -مافيش يا بنتي
, لم تقتنع الأخيرة بما قالته، فسألتها بفضول:
, -شكلك مش طبيعي، هو في حاجة حصلت؟
, أسندت رأسها على مرفقها قائلة بتبرم:
, -لأ، بس يحيى واحشني وكده!
, جلست ولاء إلى جوارها مخرجة تنهيدة عميقة من صدرها وهي تضيف:
, -أنا هاحاول أرتب مع جليلة ميعاد نشوفه فيه!
, انعقد ما بين حاجبيها باستغراب من جملتها الأخيرة، واستدارت برأسها نحوها لتنظر في عينيها قائلة بجدية:
, -احنا مش معانا الحضانة، يعني من حقنا ٤ نقطة
, قاطعتها ولاء بحدة:
, -ماما، أنا مش عاوزة مشاكل تاني مع دياب، خليني أحاول أرجع المياه لمجاريها معاه!
, توقفت لتسحب نفسًا أخرًا وهي ترجع رأسها للخلف متابعة بيأس:
, -ولو إن ده صعب يحصل دلوقتي!
, بدت جملتها مريبة لوالدتها فسألتها مهتمة:
, -هو انتي كلمتيه تاني؟
, ردت باقتضاب غامض:
, -يعني!
, انتصبت أكثر في جلستها، وسألتها بتلهف علها تروي فضولها الثائر:
, -وعرف إنك هاتخلعي مازن؟
, -اه
, سألتها باهتمام أكبر:
, -ها ورأيه ايه؟
, أغمضت ولاء عينيها حسرة، ابتلعت غصة عالقة في حلقها لترد بمرارة:
, -ولا فرق معاه!
, لامتها شادية على تهورها قائلة بانزعاج:
, -انتي اتسرعتي، كنتي اصبري مع مازن شوية و٤ نقطة
, ملت من طريقتها التي تستثير أعصابها، فهبت واقفة من مكانها، والتفت برأسها ناحيتها لتصيح مقاطعة بانفعال:
, -ماما! كفاية تحكمات في حياتي، أنا خدت القرار وانتهيت!
, زفرت بعدها بصوت مسموع قبل أن تسرع في خطواتها وتتركها بمفردها، تابعتها شادية بأعين منكسرة وهي تختفي من أنظارها متمتمة بتحسر كبير:
, -مش انتي بس اللي انتهيتي!
, ٣٣ نقطة
, لوهلة شعرت بانفصـــال تام عما يحيط بها، وكأن العالم قد بات خاليًا إلا من كليهما، حدقت فيه بأعين لامعة، وأحست بتلك الدقات العنيفة التي حمست قلبها وزاته نشاطًا وعنفوانًا، هو صرح بعشقه لها دون سابق إنذار، بلا زيف أو تجميل، أحبها كما هي، استشعرت تلك السخونة الشديدة التي انبعثت من وجهها، فخمنت أنه صار كثمرة البنادورة من فرط الخجل.
, ابتسم منذر لحيائها، وأسبل عينيه نحوها متأملاً خجلها المحبب إليه، واصل حديثه المسترسل قائلاً بتريث جاذب للأسماع:
, -عارفة لما الواحد يحس فجأة إنه قلب دق كده من غير ميعاد!
, أخفضت نظراتها مطرقة رأسها بحرج أكبر عاجزة عن الرد عليه رغم استمتاعها بما يقول، شعرت بدفء كلماته، بصدق إحساسه حينما قال:
, -وده اللي حصل معاكي!
, تنهد بعمق، ثم وضع يده على قلبه مضيفًا باشتياق ومشيرًا إليه:
, -نفسي تحسي بده أوي!
, رفعت أنظارها لتحدق في كفه الموضوع على صدره، زاد ارتباكها الخجل منه، ولم تعترض أبدًا على ما يبوح به، أو حتى على ما يفعله، وكأنها مخدرة تحت تأثير سحره الآسر للعقول قبل الأفئدة، كان على وشك إضافة المزيد لكن قاطع خلوتها الحاج إسماعيل الذي هتف بصياح مرتفع:
, -أستاذ منذر، كويس إني لاقيتك هنا!
, استدارت أسيف برأسها نحوه متحرجة باضطراب ملحوظ على تعابيرها من رؤيتها لها معه حتى وإن كان الأمر مقبولاً له، سارع منذر بالرد عليه ليجذب انتباهه إليه:
, -اتفضل يا حاج إسماعيل، لسه كنا بنتكلم عن كرمك مع المرحوم رياض!
, هز الأخير رأسه متأسفًا وهو يرد:
, -**** يغفرله، كان راجل طيب فعلاً
, أمن منذر على جملته قائلاً:
, -يارب!
, كورت أسيف قبضتها بقوة ضاغطة على أناملها المتوترة، وأشارت بالأخرى هامسة بصوت شبه متحشرج:
, -أنا رايحة أشوف عمتي إن كانت محتاجة حاجة!
, رد عليها الحاج إسماعيل مرددًا:
, -وماله يا بنتي، واطمني الحريم كلهم مجهزينلك كل اللي يلزمك!
, هتف منذر قائلاً بجدية:
, -كتر خيرك يا حاج إسماعيل، هي مش هتحتاج حاجة، أنا متكفل بكل طلباتها
, أصر عليه بشدة:
, -دي عوايدنا يا ابني!
, لم يجد بدًا من المجادلة معه، فمثل تلك الأمور تعد من الأعراف السائدة لديهم، وتجاهلها يعد نوعًا من الإهانة، أضــاف الحاج إسماعيل باهتمام:
, -أنا رتبتلك ميعاد مع المأمور، أعدة ودية كده تاخد وتدي معاه في الحوار، بعد **** العشا في دوار العمدة على اعتبار إنك هاتعزمه على كتب الكتاب!
, ابتسم منذر قائلاً:
, -حلو أوي!
, حدق الحاج إسماعيل أمامه متابعًا بعزم وهو يشير بيده موضحًا:
, -احنا إن شاء **** هانعمل الصوان قصاد المضيفة عندي، في حتة فاضية و٣ نقطة
, قاطعه منذر قائلاً بصرامة:
, -سامحني إن كنت هاقاطعك، بس أنا عاوز منك خدمة
, -أؤمرني
, -الأمر لله وحده!
, زفر منذر بعمق، ثم دس يديه في جيبي بنطاله ليحدق مباشرة في عينيه، تابع بثبات مشيرًا بحاجبه:
, -أنا كنت حابب ننصب الصوان في أرض المرحوم رياض، عند الشجرة اللي كان بيقعد عندها!
, ٤٢ نقطة
,
, اجتهد لينهي الكثير من الأعمال العالقة بالوكالة قبل أن يسافر مع عائلته للترتيب لحفل عقد القران، وقف على مقربة من مكتبه اثنان من عمالته مترددين في إخباره بما حدث من مشادات كلامية بين زوجة الجزار وابنة عواطف، فقد تابع كلاهما ما حدث، ولكنهما لم يتدخلا لأنها انتهت بتجاهل الأخيرة لها مما اضطر الزوجة في النهاية للانصراف،
, عقد العزم أحدهما على إبلاغه، فتحرك بخطى ثابته نحوه هاتفًا بحذر:
, -ريس دياب!
, لم يلتفت نحوه، وسأله باقتضاب وهو يعيد ترتيب الأوراق على مكتبه:
, -خير؟
, حك العامل مؤخرة رأسه مجيبًا إياه بتردد:
, -في حاجة حصلت كده، وكنت عاوز أعرفك بيها
, نفذ صبر دياب من مماطلته، فصاح به بعصبية طفيفة:
, -قول على طول أنا مش فايقلك!
, -احم.. بنت الست عواطف!
, انتبهت حواسه كليًا فور سماعه لتلك الجملة، وتوقف عما يفعل ليستدير نحوه متسائلاً بتوجس:
, -مين؟
, ابتلع العامل ريقه قائلاً بتخوف:
, -الأستاذة!
, ارتفع حاجبي دياب للأعلى، واتسعت حدقتيه بخوف كبير، وبلا وعي اقترب منه ليصيح فيه بشراسة:
, -مالها؟ في حاجة حصلتلها؟ قول!
, زادت سرعة حركة بؤبؤيه وهو يجيبه بتلعثم:
, -أصل ..مرات الجزار جت و.. وكانت٥ نقطة
, لكزه دياب بعنف في كتفه هادرًا بنفاذ صبر:
, -انطق بسرعة، في ايه؟
, سرد له على عجالة ما حدث بينهما، فاستشاط الأخير غضبًا من تلك الإساءات الجارحة في شخصها، والتشهير بها علنًا على مسمع ومرأى من الجيران، برزت عروقه بدمائه الفائرة، واحتدت نظراته على الأخير، توجس العامل خيفة من تهوره، فأضاف بقلق:
, -بس اطمن يا ريس، الأستاذة طنشتها و٥ نقطة
, صرخ به مقاطعًا:
, -وأنا مش هاعدي اللي حصل ده على خير!
, اندفع كالثور الهائج خارج الوكالة منحيًا العامل بقوة للجانب، فتوجس الأخير أن يتصرف رب عمله بطيش كعهده في مثل تلك الأمور.
, ٣٨ نقطة
,
, ذرعت غرفتها ذهابًا وإيابًا بخطوات متعرجة وبانفعال ظاهر عليها بعد نجاح أختها في منعها من الخروج من المنزل للاشتباك مع تلك اللعينة التي تفوهت عنها بالأكاذيب، ضربت بقبضتها المتكورة ضلفة خزانة ثيابها عدة مرات لتفرغ شحنتها المكتومة بداخلها محدقة أمامها بأعينها المشتعلة، كزت على أسنانها محدثة نفسها بغضب:
, -بقى واحدة زي دي تبهدلني كده!
,
, لم تشعر بنيرمين وهي تقتحم عليها الغرفة هاتفة بحماس والذي يتنافى كليًا مع حالة النقم المسيطرة عليها قبل برهة:
, -بت يا بسمة، اجهزي بسرعة
, نظرت لها بعينيها الحمراوتين صائحة بغضب:
, -في ايه؟
, -دياب برا
, -بتقولي مين
, -عاوز يكلمك، ومستني في الصالون
, -وده اللي جابوه
, -هو ده وقت أسئلة، البسي بسرعة خلينا نعرف جاي ليه!
, ٣١ نقطة
,
, احترقت أعصابه لمجرد سماعه بالأمر، فماذا إن كان قد شهده بنفسه؟ نعم لأقام الدنيا وأقعدها حتى يأتي بحقها، بذل مجهودًا مضنيًا لضبط انفعالاته حتى يتمكن من الحديث إليها بنبرة عقلانية، ثبت أنظاره على باب الغرفة مترقبًا ولوجها بين لحظة وأخرى، طال انتظاره حتى أوشك على الانفجار، لكنها ظهرت في اللحظة الأخيرة.
, نظرت له بسمة بضيق متسائلة بجمود:
, -خير يا أستاذ دياب؟
, حدق فيها متفرسًا إياها بنظرة شمولية وهو يسألها بتلهف:
, -انتي كويسة؟ الـ٦ نقطة دي عملتلك حاجة؟
, انزعجت من سبابه النابي قائلة بتحذير:
, -بلاش الكلام ده!
, رد عليها معللاً:
, -معلش أنا مش مستحمل وجايب جاز من اللي سمعته، بس قسمًا ب**** لـ٤ نقطة
, قاطعته قائلة بصرامة وهي تخطو نحو أقرب أريكة:
, -خلاص الموضوع انتهى، وأي حد هيفتح بؤه بكلمة أنا قادرة أقطع لسانه وأخرسه
, سلط أنظاره عليها متابعًا عدم اكتراثها بحالته النفسية التي تستعر حتى بلغت أشدها أمامها، وهدر بعصبية بائنة ملوحًا بذراعه:
, -بسمة، أنا دمي بيتحرق من أي حاجة تمسك، مش بأقدر أمسك نفسي، و٦ نقطة
, ألقت بجسدها على الأريكة محدقة فيه بجمود، ثم قاطعته بجفاء:
, -احنا مش قفلنا على الموضوع ده!
,
, راقبتهما نيرمين من الخارج مسترقة السمع لحديثهما، لم تكن بحاجة لتفسير ما يقولان، فأصوات الاثنين كفيلة بإسماع المنطقة بأكملها، تابع دياب هاتفًا بإصرار:
, -أنا لسه عند طلبي ومغيرتش رأيي
, ردت معترضة بعناد أكبر:
, -وأنا سبق ورفضت عرضك!
,
, صرت نيرمين على أسنانها هاتفة بحنق بائن:
, -يخربيتك، هاتضيعيه من ايدك، بلاش العند يركبك السعادي!
,
, رد دياب متحديًا رفضها الصارم:
, -وأنا مش هيأس!
, أغمضت عينيها مبدية إرهاقها وهي تقول بفظاظة
, -هاستأذنك أنا تعبانة وعاوزة أرتاح!
, أغاظه أسلوبها المستفز وتعمدها إظهار جفائها نحوه، بل حز في قلبه أنها تعامله هكذا بقسوة، فدنا منها متعمدًا حصارها في مكانها وإرباكها، تفاجأت باقترابه الشديد منها، ففغرت شفتيها مصدومة منه، انحنى بجذعه للأمام قليلاً مسندًا كفية على مقبضي الأريكة ليضمن بقائها تحت سيطرته، حدقت فيه باندهاش مرعوب، وازدردت ريقها بتوتر رهيب، رمقها بنظرات قوية تحمل العزيمة والإصرار وهو يقول مؤكدًا بثبات:
, -وماله، بس أنا هافضل حاطط عيني عليكي!
, شعرت باحتباس أنفاسها، باضطراب شديد يجتاحها، بجفاف حلقها خلال تلك اللحظات الثقيلة، كانت الأسعد إليه، والأكثر توترًا بالنسبة لها، لوى ثغره مبتسمًا للجانب ليزيد من تأكيد نيته نحوها قبل أن يرخي ساعديه ويعتدل في وقفته، رمقها بنظرة أخيرة قبل أن يتركها في تخبطها وينصرف..
, أوصلته نيرمين للخـــارج شاكرة إياه على زيارته العاجلة، ثم عادت إليها لتحدجها بأعين مغلولة، ثم هدرت توبخها بعنف:
, -اتهبلتي، ومخك لسع، الراجل جاي لحد هنا يتقدملك تاني، وتطرديه، أكيد بوز الإخص بهتت عليكي، إنتي مكونتيش كده!
, صاحت بها بسمة بعصبية:
, -ابعدي عني، أنا مش طايقة حد!
, تابعت قائلة بغيظ:
, -ده السند والحماية، افهمي بقى!
, اختنق صوتها للحظة حينما تذكرت وضعها الاجتماعي الحالي، فهتفت بمرارة:
, -ولا عاوزة حالك يبقى زيي، مطلقة ومحدش راضي بيكي! لأ ومعاكي عيلة!
, سدت بسمة أذنيها رافضة الإنصات لها، وصرخت فيها باهتياج واضح:
, -يووه، نيرمين، بلاش الكلام ده! أنا مش عاوزة كده! مش دي أحلامي، مش ده اللي أنا عاوزاه
, ضربتها نيرمين في كتفها بقوة متمتمة بسخط:
, -اتأمري يا خايبة براحتك لحد ما النعمة تزول من وشك!
, احتقنت نظراتها نحوها لأنها تحاول التلاعب بأفكارها وتوجهيها نحو أمر بعينه، وهي رافضة لذلك المبدأ من الأساس، أن تكون مجرد زوجة لأحدهم دون مشاعر مسبقة نحوه، كما أن تجربة أختها الفاشلة في الزواج دومًا تلوح في الأفق، تذكرها بعواقب التسرع وسوء الاختيار دون تأنٍ أو تعقل.
, ضاقت أعبن نيرمين نحوها، وتابعت مرددة بامتعاض ناقم على كل شيء:
, -ياريت حظي كان ربع حظك، مكونتش ضيعت الفرص دي من ايدي ٢١ نقطة !
,
, رتب له لقاءً مدبرًا مع مأمور المخفر في منزل العمدة ليتمكن من الحديث معه بأريحية دون أي رسميات ليعرف ملابسات حرق منزلها، بات كل ما يخصها شاغله حتى وإن كان تافهًا من وجهة نظر أحدهم، بدا الحوار بينهما حذرًا مرتبًا، لكنه استشف منه الكثير، أهمها أن الحادث مدبر ويقف وراءه مجهول ما رغم أنه لا توجد استفادة صريحة من تدميره.
, تحولت شكوكه نحوه هو تحديدًا -القريب ذو القلب المتحجر- بات شبه متأكد من كونه المتسبب به، وبحكم خبرته من كم المعارك التي اشتبك بها، رجح كفة الانتقام ورد الاعتبار عن طريق إشعاله، لكنه لم يصفح عما بداخله ريثما تصبح ظنونه حقيقة.
, صافحه المأمور قائلاً بود:
, -فرصة سعيدة إني شوفتك أستاذ منذر
, رد عليه بثبات جاد:
, -الشرف ليا يا باشا!
, أضــاف المأمور قائلاً بهدوء:
, -أتمنى اللقاء ده يتكرر تاني
, رد عليه مبتسمًا:
, -أكيد، لو جيت البلد لازم أشوف حضرتك!
, بادله نفس الابتسامة مرددًا باختصار:
, -باذن ****!
, التفت ناحية مضيفه الشيخ الوقور هاتفًا:
, - ماشي يا عمدة، متشكر على كرمك معايا
, رد العمدة قائلاً بترحاب:
, -نورتنا يا سيادة المأمور!
, أضاف المأمور قائلاً:
, -أشوفك على خير يا حاج إسماعيل!
, عقد الأخير ما بين حاجبيه مرددًا:
, -ما لسه بدري يا باشا
, لوح بيده مبررًا:
, -يدوبك، انت عارف المركز والمشاكل اللي بتحصل بين الأهالي على حاجات ماتذكرش!
, رد عليه متفهمًا:
, -**** يكون في العون
, ثم اصطحبه إلى الخارج شاكرًا إياه مجددًا على زيارته الأليفة، ترقب منذر عودته ليفاتحه من جديد في ذلك الأمر الذي طرحه عليه قبل وقت سابق،
, سأله بجدية:
, -ها يا حاج إسماعيل عملت ايه في اللي قولتلك عليه؟
, سحب الأخير نفسًا مطولاً ثم لفظه دفعة واحدة قبل أن يجيبه بامتعاض:
, -المشكلة إن الأرض اتباعت للحاج فتحي وهو ٣ نقطة
, قاطعه منذر بإصرار صارم:
, -طب سبني أتكلم أنا معاه
, هز الحاج إسماعيل رأسه معترضًا:
, -بس أفتكر إنه مش هيوافق
, التوى ثغره للجانب مرددًا بثقة تامة:
, -لأ هيوافق! اسمعها مني!
, تعجب من تلك الثقة البادية عليه وكأنه قد ضمن الحصول على موافقته رغم يقينه من حدوث العكس، ومع ذلك وافق على ترتيب موعد معه.
, ٣٣ نقطة
, بتأفف ظاهر عليه، اضطر أن يقابله بعد تدخل رفيقه كوسيط بينهما، لكنه لم يخفِ تبرمه من تلك الزيارة الغير مرحب بها أبدًا، وجلس أمامه عابس الوجه مكفهر الملامح، بدا منذر غير مكترث بما يظهره نحوه من مشاعر بغض، فالمهم بالنسبة له أن يحقق لها رغباتها، تابع قائلاً بثبات متعمدًا إثارة شكوكه:
, -مش هانلف على بعض كتير، أنا عارف إنك انت اللي وراها!
, احتدت نظرات فتحي فبرز الشر منهما وهو يعنفه صائحًا:
, -حاسب على كلامك!
, رد عليه منذر بقسوة مخيفة وقد تجمدت أنظاره المهددة عليه:
, -ده مش كلامي، ولو أنا حكيت عن المضاربات بينا، هاخلي الليلة كلها تدور حواليك، ومش بعيد تلاقي الكلابشات منورة في ايدك!
, توتر من تأثير كلماته الغامضة، وفهم ما يرمي إليه، فسأله بنفاذ صبر:
, -عاوز ايه؟ اخلص
, اعتدل منذر في جلسته، وعمق نظراته المخيفة نحوه قائلاً بحسم:
, -أرض المرحوم رياض!
, احتج فتحي قائلاً بحدة:
, -دي حقي، أنا دافع فيها ددمم قلبي و٣ نقطة
, قاطعه منذر بتهكم:
, -وخدتها بلوي الدراع! مش هاتضحك عليا!
, وقبل أن يضيف المزيد تابع قائلاً بثبات صارم:
, -وأنا راجل حقاني، هاديك اللي دفعته فيها وزيادة!
, أصر على رفضه صائحًا بانفعال:
, -لأ، مش هايحصل، مش هافرط في شبر واحد من الأرض دي، حتى لو فيها رقبتي!
, هب منذر واقفًا من مكانه، ورمقه بنظرات قاسية قبل أن يرد بتوعد:
, -عظيم، يا ريت تثبت على كده، لأن أنا مش هاسيب حق مراتي!
, وقف فتحي هو الأخر محدقًا فيه بنظراته المشتعلة متسائلاً بتوجس:
, -ده تهديد؟!
, دنا منه حتى بات قبالته، ثم أجابه بغموض مهلك:
, -اعتبره زي ما تحب، بس بنت المرحوم رياض خط أحمر، وأنا هافضل أنخور ورا اللي يخصها لحد ما أوصل للي يريحني ويريحها!
,
, ازدرد فتحي ريقه بتخوف واضح، أخذ يفكر في المسألة من الناحية العقلانية، فرفضه العنيد ربما يؤدي إلى هلاكه، وبعد لحظات من التفكير المتأني اضطر مجبرًا أن يوافق على عرضه، وأبرم معه اتفاقًا رسميًا لبيع الأرض له.
, ٣٧ نقطة
,
, بدا ليلها طويلاً رغم انقضاء معظمه، لكن عقلها لم يهدأ من كثرة التفكير، لم تكن مزعوجة من ذلك، بل على العكس كانت مبتسمة، متحمسة، متقدة الحواس، ظلت تستعيد في ذاكرتها حديثه الرزين المصحوب بخياله، كلماته التي داعبت أوتار قلبها بقوة لتعزف عليه معزوفة خاصة بها، تقلبت على فراشها بحذر كي لا توقظ عمتها لتحدق أمامها بشرود، بدت ابتسامتها أكثر وضوحًا وهي تسترجع اعترافه بحبه لها، "أحبها كما هي" تلك الجملة التي ظل صداها يتردد في أذنيها وكأنها لحن مميز يمتعها، تنهدت بعمق مرددة لنفسها بخجل:
, -مش لوحدك!
, سحبت أسيف الغطاء على وجهها لتخفيه بابتسامتها المشرقة التي أضاءت صفحته، كتمت بصعوبة ضحكة عابثة تمردت عليها وخرجت من جوفها، كانت عمتها مستشعرة حالتها المتحمسة، هي لم تكن نائمة كما كانت تبدو أمامها، فشعرت بتقلباتها، بأرقها، وأدركت أنها تعيش في حلم جميل، دعت في نفسها لها قائلة:
, -**** يفرح قلبك يا بنتي، ويكملك على خير!
, ٤٧ نقطة
, -مش عاوزة أكون تجربة تانية في حياة حد!
, قالتها بسمة لنفسها وهي تدفن وجهها في الوسادة بعد أن أنهكها كثرة التفكير في تلك المسألة، هي تخشى من الفشل الذريع، من تكرار تجربة الانفصال مثلما حدث مع أختها، أن تحصل على لقب مطلقة، وتصبح كالعار في نظر الجميع، ورغم ذلك هي لا تكره دياب، لكنها تنبذ أن توضع رغمًا عنها في مقارنة مع زوجته السابقة خاصة إن تكررت المواقف وتشابهت الظروف.
, نهضت بتثاقل من فراشها بعد أن عادت إلى غرفتها لتهرب من حصار أختها المزعج، وأخذت تجوب فيها ذهابًا وإيابًا، تنهدت بإرهــاق، وحاولت أن تلهي عقلها بالتفكير في أمور حفل الزواج المتعلقة بابنة خالها، فهي ستتكفل بتجهيز ماهو مطلوب لتصبح عروسًا جميلة تليق برجل كمنذر.
,
, ولجت نيرمين إلى الغرفة دون أن تطرق الباب متسائلة بتأفف:
, -لسه راكبة دماغك ولا عقلتي؟!
, التفتت بسمة ناحيتها لترمقها بنظرات حادة وهي تقول:
, -هو انتي مانمتيش؟
, ردت عليها بسخط بارز على تعابيرها ونبرتها:
, -هانام ازاي وأنا هاموت من عمايلك!
, لوحت بسمة بذراعيها أمام وجهها صائحة بنفاذ صبر:
, -يا شيخة ارحمي نفسك وارحميني، تعبت من كل اللي بتعمليه
, -ماهو أنا صعبان عليا تضيعي الراجل من ايدك!
, -مايصعبش عليكي غالي
, -اسمعي بس انتي لو ناصحة هـ٥ نقطة
, قاطعتها قائلة بحدة:
, -أقولك على حاجة، أنا هنام، فصلت شحن، تصبحي على خير!
, نظرت لها شزرًا وهي ترد بجمود:
, -بكرة تيجي تسترجيني أقولك على نصايحي!
, -خليهالك! اقفلي الباب عاوز أنام!
, -ماشي ياختي، نامي وسيبني أنا أولع!
, انسحبت نيرمين من الغرفة متابعة لنفسها بازدراء حقود:
, -واحدة حظها نار ومش ملاحقة على الهنا اللي هاتبقى فيه، والتانية فقرية وبترفس النعمة!
, ٣٨ نقطة
,
, انقضت عدة أيــــام انشغل الجميع فيها بالترتيب لحفل عقد القران بالبلدة الريفية، كذلك وصل أفراد عائلة الحاج طه وحلوا كضيوف كرام لدى الحاج إسماعيل الذي أصر على استقبالهم والقيام معهم بمتطلبات واجب الضيافة على أكمل وجه، كما انتهى منذر من كافة الإجراءات القانونية الخاصة بنقل ملكية الأرضية من فتحي الذي كانت نيران حقده تآكله حيًّا لأنه خسرها ببساطة.
, تحول المنزل إلى خلية نحل الجميع مشغول فيه بتجهيز العروس، فاليوم هو ليلة حنتها التي تسبق عقد قرانها، رفضت في البداية إقامتها، لكنها رضخت لإلحاح عمتها وابنتها وإصرار جليلة واللاتي تعللن جميعًا بكونها مناسبة طيبة لإدخال البهجة والسرور على العائلتين، كتعويض عن تلك الفترة العصيبة التي مروا بها جميعًا؛ كلٌ على حسب ظروفه الخاصة، وعلى عكسهم تمامًا كانت نيرمين تتابع ما يقمن به بأعين مغلولة وقلب حقود متمنية في نفسها أن يفسد فرحتهم أي شيء، فمن ستتزوجه هو الذي خفق قلبها له، من ملأ فراغ حياتها واستحوذ على تفكيرها، لم تستطع إخفاء نقمها، وبات واضحًا عليها انزعاجها، حتى نظراتها كانت تشير إلى حنقها، فعمدت أسيف إلى تجاهلها متجنبة التشاجر معها.
, تجولت بسمة في البلدة بصحبة جليلة لتشتري بعض النواقص، فاستغلت الأخيرة الفرصة للحديث معها عما يخص ابنها، ولكن على طريقتها، استهلت حديثها قائلة بود:
, -عقبال ما نتعبلك كده يا بسمة
, ردت عليها مبتسمة بلطف:
, -شكرًا يا خالتي!
, أضافت قائلة بحماس:
, -و**** انتي بنت حلال وتستاهلي كل خير!
, ثم ربتت على كتفها متابعة بنبرة ذات مغزى:
, -وقريب أوي نصيبك هايجيلك لحد عندك
, فهمت مقصدها سريعًا، وردت بحذر كي لا تحرجها متعمدة:
, -احم.. أنا مش مستعجلة، ومركزة في شغلي!
, أصرت على إيصال ما تريد قائلة:
, -كل بنت مسيرها للجواز، ولا ايه رأيك؟
, رفعت بسمة حاجبها للأعلى مستنكرة طريقتها المكشوفة، رسمت على ثغرها ابتسامة مصطنعة وهي ترد بجدية:
, -ايوه، ده لما تكون أعدة في البيت فاضية لا شغلة ولا مشغلة، لكن اللي زيي وراهم حاجات كتير، كمان المدرسة واخدة كل وقتي! فمعنديش وفت للجواز!
, زادت من ابتسامتها وهي تقول:
, -سامحني يا خالتي ممكن نغير الموضوع ونركز في الحاجات اللي ناقصة!
, هزت جليلة رأسها باستياء، وهمست لنفسها بيأس:
, -دماغك ناشفة أوي!
, ٣٤ نقطة
, استغل وجوده بصحبة ابنه وأخته الصغرى ليرتب مقلب ما عله يتقرب إليها، هو متأكد من حبها للأطفال وتعلقهم بها، وأمر كهذا –وإن كان مصطنعًا- ربما يعطي فرصة للتفاهم بينهما خاصة أنها كانت تتحاشى التواجد معه أو حتى على مقربة منه، أكد دياب على صغيره ضرورة الالتزام بما طلبه منه لكي تنجح خطته، وبالفعل حينما لمحها تقترب اختفى عن الأنظار ليسرع يحيى بالركض نحوها صائحًا:
, -مس بسمة، مس بسمة!
, انتبهت إليه وسألته بابتسامة ودودة:
, -أيوه يا حبيبي؟
, احتضنها من خصرها قائلاً ببراءة وهو عابس الوجه:
, -بابا عاوز يضربني!
, قطبت جبينها متعجبة من جملته، وردت باهتمام:
, -ليه؟ أكيد ضايقته في حاجة!
, هز رأسه نافيًا وهو يطالعها بنظراته الحنونة قائلاً ببساطة:
, -لأ، أنا كنت بألعب مع عمتي أروى و٣ نقطة
, لم يكمل جملته مضطرًا حينما هدر والده بانفعال زائف:
, -تعالى هنا يا يحيى!
, رفعت بسمة أنظارها لتحدق في دياب الذي كان متجهم الوجه ويقف على بعد خطوات منها، تمسك الصغير أكثر بها بذراعيه، ورد معترضًا:
, -لأ مش جاي!
, صاح به دياب بعصبية وهو يشير له بيده:
, -قولتلك تعالى، مش لازم أشخط فيك عشان تسمع الكلام!
, انزعجت بسمة من طريقته الحادة خاصة أن الصغير يحيى كان يزداد تشبثًا بها، فردت قائلة بعبوس:
, -بالراحة يا أستاذ دياب!
, هتف الصغير بحزن واضح على ثغره:
, -يا مس بسمة خليه يمشي!
, رد عليه دياب بصوت غليظ:
, -يا واد ده أنا أبوك، المفروض تسمع كلامي مش هي!
, ابتسم يحيى قائلاً:
, -أنا بأحبها!
, ثم أخرج لسانه متعمدًا إغاظته وهو يضيف:
, -إنت لأ!
, حضرت أروى هي الأخرى لتكمل الجزء المتبقي من الخطة، وركضت في اتجاه بسمة لتحتضنها من الجهة الأخرى قائلة بمرح:
, -وأنا كمان بأحب المِس!
, مسحت بسمة على رأسها برفق وهي ترد:
, -حبيبتي يا أروى!
, وزع دياب أنظاره بينهم قائلاً بغيظ:
, -ده تكتل بقى!
, هتف يحيى قائلاً بمرح أكبر:
, -بأحبك يا مس بسمة!
, وأضافت أروى:
, -وأنا كمان!
, زاد الاثنان من احتضانها، فلفت ذراعيها حولهما وهي تبتسم بإشراق، جاء دوره ليكمل باقي التمثيلية المصطنعة، فاقترب بخطوات ثابتة منها صائحًا بتجهم أكبر:
, -تعالى يا وله هنا!
, أخفضت بسمة نظراتها لتحدق في وجه يحيى قائلة برقة طفيفة:
, -خلاص سيبه معايا شوية!
, اعترض عليها قائلاً بجدية:
, -لأ، أنا عاوزه دلوقتي!
, رفعت وجهها لتنظر إليه فوجدته يقف قبالتها محدقًا فيها بنظرات قوية، بادلته نظرات متحدية وهي تضيف بحذر:
, -مش هايحصل حاجة لما يفضل شوية معايا، بطريقتك دي هايخاف وهيعاند!
, مد دياب ذراعه نحو ابنه مدعيًا الإمساك به، فلجأ الصغير إلى الابتعاد عنه مجبرًا بسمة على الالتفاف معه ليتعذر عليه الوصول إليه.
, هتف دياب قائلاً بجدية:
, -حسبي شوية كده يا أبلة!
, شعرت بالحرج لحصارها بين الصغيرين ودياب، فباتت كالمقيدة بأذراع الجميع، وجاهدت للتملص منهم قائلة:
, -خلاص بقى، خليه شوية
, أصر دياب على بلوغه هاتفًا:
, -لأ مش هاسيبه
, رد عليه يحيى بعبث:
, -وأنا مش جاي
, بدأت بسمة تدور حول نفسها بسبب حركة الصغيرين يحيى وأروى، وتعالت ضحكاتهما الطفولية المرحة وهما يتقاتلان بمزاح مع دياب ليمنعاه من الاقتراب منهما، أصابها دوار طفيف، فهتفت بتوجس:
, -كفاية أنا هاقع!
, زاد عبثهما المرح حتى كادت تتعثر في حركتها، فصاحت بتوسل:
, -بالراحة شوية! أنا٣ نقطة
, وقبل أن تكمل جملتها فقدت اتزانها بسبب جذبهما لها بقوة فلم تستطع السيطرة على حركتها، ووقعت معهما على الأرضية ليسرع هو في مساعدتها هاتفًا بعتاب:
, -حاسبوا!
, مد يده ليعاونها على النهوض، فاضطرت مجبرة أن تمسك بكفه الممدود نحوها، أسند مرفقها بيده الأخرى لتتمكن من الوقوف على قدميها، شعرت بألم قليل في قدمها، فعنفهما بضيق:
, -كده بهدلتوا الأبلة!
, حدقت في عينيه المتطلعتين إليها بنظرات حانقة نوعًا ما، بدت غير مقتنعة بكل ما يدور، أحست بوجود أمر مريب في المسألة خاصة حينما رأت تلك الابتسامة العابثة تلوح على ثغره، وقبل أن تجد الجواب لشكها، حُصرت من جديد من الصغيرين اللذين تعمدا ضمها مع دياب بأذرعيهما لتصبح هي أسيرة أحضانه مجبرة ٣٠ نقطة !!
 
٧٣
شهقت مصدومة من اندفاعها المباغت نحوه، واستندت بكفيها على صدره محدقة فيه بنظرات مشدوهة ممزوجة بالخجل، تحول لون بشرتها إلى حمرة صريحة، بادلها نظرة شغوفة متلهفة لاقترابها الساحر، نجحت خطته، وباتت معه حتى وإن كان الأمر مفتعلاً لكنه حاز على مراده في الأخير، عمق نظراته المتقدة حبًا نحوها، استشعرت بأصابعها دقات قلبه العنيفة، فأحست بتأثيرها عليه، وبارتباك يسيطر عليها من تغلغل ذلك الشعور فيها، لم يتحرك من مكانه، وبقى كالصنم مسلطًا فقط أعينه عليها، وبحذر واضح انسلت مبتعدة عنه مبدية انزعاجها من تصرفات الصغيرين الطفولية التي وضعتها في موقف محرج كهذا.
, أرخى الاثنان أذرعيهما عنها لتحرر منهم، تراجعت مبتعدة للخلف قائلة بتلعثم:
, -أنا.. أسفة، مقصدش!
, أخفضت عينيها بحرج أكبر شاعرة بتلك السخونة المربكة المنبعثة من وجهها، لم ترغب في حدوث ذلك، ولكنه القدر.
, رد عليها دياب بهدوء واضعًا يده على مؤخرة رأسه:
, -ولا يهمك، حصل خير!
, انسحبت من أمامه دون إضافة المزيد مسرعة في خطواتها رغم عرجها الملحوظ، وبقيت أنظاره متعلقة بها حتى اختفت من أمامه، فأخر تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها، استدار للخلف ليحدق في الصغيرين بنظرات ممتنة، ثم فتح ذراعيه لهما ليندفعا في أحضانه، ضمهما قائلاً:
, -حبايب قلبي!
, سأله يحيى ببراءة:
, -أنا شاطر يا بابي؟
, أجابه وهو يقبله من وجنته:
, -انت أستاذ زي أبوك!
, ٤٢ نقطة
,
, رغم انتهاء الموقف إلا أن وجنتيها احتفظتا بتلك الحمرة البائنة حتى شعرت أن أمرها سيفضح بمجرد تطلع أحد ما لوجهها وتفرس في تعابيره المرتبكة، استغرقها الأمر بعد الوقت لتتلاشى تدريجيًا منها وتعود بشرتها إلى طبيعتها العادية، انزوت في أحد الأركان بالغرفة المعدة للاحتفال بليلة الحناء محدقة فيمن حولها بنظرات شاردة.
, تراجعت لتقف بالشرفة الخارجية مستنشقة نسمات الهواء العليلة، ومستعيدة في ذاكرتها لمحات خاطفة من ذلك الموقف المخجل، أطرقت رأسها حرجًا، وشبكت أصابعها معًا تفركهم بارتباك.
, لامت نفسها عشرات المرات لأنها لم تتخذ حذرها، فأعطته فرص ثمينة للتقارب الحسي بينهما، جمدت أنظارها على يديها متذكرة تلك الدقات العنيفة لقلبه، أغمضت عينيها بقوة نافضة عن عقلها تسلله إليها، وكأنه يتعمد اختراقها بمشاهده التي لا تفارق مخيلتها.
, ولجت أسيف إلى الشرفة بعد أن لاحظت اختفائها، فتعجبت من سكونها المريب، دققت النظر أكثر في هيئتها المزعوجة، ودنت منها متسائلة باهتمام:
, -مالك يا بسمة؟ في حاجة حصلت؟
, انتبهت لوجودها، فاعتدلت في وقفتها، وابتسمت لها بتوتر وهي تجيبها:
, -لأ، عادي!
, ردت عليها بعدم اقتناع معللة:
, -أصل شكلك متاخد كده و٣ نقطة
, قاطعتها بجدية زائفة:
, -تلاقيني بس تعبانة من المجهود الكتير فباين على وشي!
, وضعت أسيف يدها على كتفها تفركه برفق، ثم ابتسمت لها قائلة بود:
, -طب ارتاحي شوية
, اعترضت عليها مرددة:
, -لا مش عاوزة، أنا مبسوطة معاكي!
, رمشت أسيف بعينيها متابعة بامتنان حقيقي:
, -بجد أنا مش عارفة أقولك ايه، أنا **** مارزقنيش باخوات، بس فعلاً انتي بالنسبالي أكتر من أختي!
, -على ايه يا بنتي؟ هو أنا عملت حاجة
, -مش لازم تعملي حاجة، كفاية إنك قربتي مني و٣ نقطة
, قاطعتها قائلة بجدية:
, -بطلي عبط! احنا قرايب قبل ما نكون اخوات!
, زاد لمعان عينيها متأثرة بما قالته، وردت عليها بود:
, -**** يقدرني وأقفلك يوم فرحك وأتعبلك!
, لم تتمالك بسمة نفسها، فضمتها إليها لتحتضنها بحب واضح، ثم أرجعت ظهرها للخلفة مضيفة بجدية تحمل التحذير:
, -أسيف! أنا بس مش عاوزاكي تكوني مجبورة على الجواز عشان اللي حصل!
, نظرت لها الأخيرة باستغراب قليل، فأكملت بجدية أكبر:
, -بصي كل حاجة جت بسرعة، وجايز تكوني اضطريتي تعملي حاجات٣ نقطة
, قاطعتها أسيف قبل أن تكمل عبارتها هامسة بابتسامة خجلة:
, -لأ يا بسمة، اطمني!
, سألتها باهتمام وقد بدا على تعبيراتها الاندهاش:
, -يعني انتي موافقة على ٣ نقطة
, أومــأت برأسها هامسة:
, -ايوه
, فغرت بسمة شفتيها مصدومة وهي تسألها:
, -بتهزري؟!
, ردت أسيف بهدوء:
, -لأ، أنا فعلاً بأعمل ده وأنا مقتنعة!
, احتضنتها بسمة مجددًا وهي تقول:
, -**** يقدملك اللي فيه الخير، ويبعد عنكم أي شر!
,
, راقبتهما من على بعد متعجبة من تلك الألفة الزائدة بينهما، فأثر ذلك الأمر فضولها، فاقتربت منهما وهي تحدجهما بنظرات حقودة متسائلة بامتعاض:
, -مالكم أخدين جمب كده ليه؟
, نظرت لها بسمة بانزعاج، فهي تعلم أن قدومها دومًا يحمل المصائب، لذا ردت باقتضاب غامض:
, -عادي يا نيرمين!
, سلطت أنظارها على أسيف لتظهر لها تأففها منها وهي تضيف بعبوس:
, -ولا بتقولوا سر، شكلها كده!
, لم تعلق عليها، واكتفت بإشاحة وجهها للجانب متجنبة نظراتها المقيتة، لكن لم تتركها الأخيرة بمفردها، فاستأنفت قائلة بازدراء:
, -جايز المحروسة بتقولك على خبراتها في توقيع الرجالة، اتعلمي منها، يمكن دماغك الحجر تلين و٥ نقطة
, صدمت أسيف من كلماتها الفجة في الإساءة إليها، واستدارت نحوها لترمقها بنظرات أكثر كراهية، وقبل أن ترد عليها صرخت بها بسمة مستنكرة وقاحتها اللا محدودة:
, -نيرمين!
, ردت أسيف هي الأخرى بقوة:
, -اتكلمي عدل عني!
, نظرت باحتقار لها مقوسة ثغرها للجانب وهي تضيف بسخط:
, -هو أنا قولت حاجة غلط، ما أديكي جبتي سيد الناس راكع على رجله لحد عندك! مش دي الحقيقة؟!
, لم تطق تلك الافتراءات الباطلة عليها، فصرخت فيها بعصبية رافضة ما تتهمها به:
, -أنا مش كده!
, لوحت نيرمين بيدها قائلة ببرود مستفز:
, -مش لازم ترسمي الوش ده عليا، أنا مش بيخيل عليا الألاعيب دي، وياما شوفت!
, استشاطت نظرات أسيف على الأخير، وكادت تنفجر غيظًا منها، لكن أسرعت بسمة بالتدخل لتمتص غضبها مضيفة بازدراء:
, -تعالي يا أسيف، سيبك منها، هي كده وكلامها يفور الدم!
, ثم جذبتها من ذراعها بعيدًا عنها متمتمة بكلمات خافتة محاولة تهدئتها، فنظرت للاثنتين بحقد، وصاحت ساخرة:
, -اتلم المتعوس على خايب الرجا!
,
, أسرعت بسمة بإبعادها عن الشرفة ناظرة لها برجاء لطيف، فردت أسيف بهمس مزعوج:
, -بني آدمة مستفزة و****
, -هي مستحملة نفسها بالعافية!
, -**** يهديها ويبعدها عني
, -يا رب أمين!
,
, ظلت أنظارها مثبتة عليهما رغم ولوجهما للداخل، وأخذت تلعنهما بكلمات مسيئة، استدارت نحو الشرفة لتنظر بشرود إلى المكان، لكن جذب أنظارها وجوده المهيب بالأسفل، تجمدت عيناها عليه، وطالعته بنظرات مطولة متنهدة بحرارة، فكرت في استغلال الفرصة والحديث إليه مرة أخيرة معلنة عن حبها له، ربما يجعله يعيد حساباته من جديد نحوها.
, ٤٣ نقطة
, أسرعت في خطواتها لتلحق به قبل أن يبتعد، كانت الظروف مهيئة تمامًا لكي تنفرد بالحديث معه دون أن يراهما أي شخص، فالأغلب مشغول بليلة الحناء، جذبت عباءتها للأسفل متأكدة من تناسقها على جسدها، وضبطت هيئتها، ثم همست راسمة ابتسامة عريضة على ثغرها:
, -سي منذر!
, التفت برأسه للخلف لينظر إلى تلك التي تناديه، فامتعضت تعابيره حينما رأى نيرمين تدنو منه مرددًا بضيق:
, -استغفر **** العظيم!
, فرك رأسه بانزعاج واضح عليه، وجاهد قدر الإمكان ألا يبدو فظًا معها، لكنها أخرجته عن هدوئه الحذر حينما سألته بعتاب:
, -انت بردك هتتجوزها؟
, نظر لها شزرًا وهو يرد مؤكدًا:
, -اه، ريحي دماغك!
, وكأن كلماته كالحمم الملتهبة التي تزيد من عذاب قلبها، فسألته بحدة وهي تعمق نظراتها المتيمة إليه:
, -طب فيها ايه زيادة عن باقي البنات عشان تختارها هي؟
, حدجها منذر بنظرات قاسية وهو يرد بجمود:
, -مايخصكيش!
, تحركت خطوة نحوه لتقلص المسافات بينهما متسائلة بغيظ:
, -اشمعنى هي؟
, تراجع مستنكرًا اقترابها وهو يرد بانفعال طفيف:
, -****! انتي مالك!!
, رمقته بنظرات معاتبة، بدت أنفاسها مضطربة وهي تتطلع إلى وجهه بأعين غريبة، أرسلت له إشارات موحية تلومه، تحمله الذنب وكأنه ارتكب جرمًا في حقها، تعجب من طريقتها الغير مريحة معه، ومن نظراتها التي لا تحمل أي حياء أو حرج، وأظهر نفورًا واضحًا مما تفعله.
, هتفت فجأة بنزق أصابه بالصدمة:
, -سي منذر..أنا٣ نقطة بأحبك!
, صاح مستنكرًا:
, -نعم ياختي؟
, أكدت على عبارتها وهي توميء برأسها قائلة:
, -أيوه بأحبك!
, وضعت يدها على صدرها متابعة بحرقة:
, -وقلبي بيتقطع مليون مرة لما بأشوفك مع واحدة غيري!
, تحولت نبرتها للشراسة وتعابيرها للقسوة وهي تكمل بحقد بائن:
, -وخصوصًا هي!
, قست نظراته اكثر نحوها، وتشنجت قسمات وجهه مما سمعه منها، لم يصدق أذنيه، هو دومًا يصدها، بل على العكس لم يتودد إليها، ولم يعطها أي بارقة أمل من أجل أي شيء، لذلك انفعل بها باهتياج قائلاً:
, -انتي اتجننتي، شيلي التخاريف دي من عقلك!
, رمقها بنظرات مزدرية مضيفًا:
, -أنا عمري مابصيتلك، ولا هبصلك أصلاً!
, هوت كلماته كالسياط على قلبها لتجلده أكثر، لم يمهلها الفرصة لإظهار حزنها أو حتى للبكاء، فتابع بقسوة أشد مشيرًا بيده:
, -وقبل كده قولتلك إننا أخوات، يا ريت تفهمي ده كويس عشان تهدي!
, اضطربت أنفاسها من قوة عباراته، وترقرقت العبرات في مقلتيها، تراجع خطوة للخلف مكملاً بقوة:
, -ولعلمك أنا مش بأحب إلا أسيف وبس!
, وضعت نيرمين يدها على فمها كاتمة شهقاتها، فأضاف بسخط:
, -سمعتي! احفظي اسمها كويس أسيف رياض خورشيد، يا بنت الحاجة عواطف!
, أجهشت بالبكاء أمامه، لكنه لم يتأثر بها، بل زاد حدة وشراسة وهو يقول مهددًا بسبابته:
, -وبأحذرك لو في نيتك تضايقيها، صدقيني أنا اللي هاقفلك وهازعلك! وزعلي وحش أوي!
, زاد نحيبها أمامه لكنه لم يهتز أو يتأثر بها، بل نفر أكثر منها، وتجاهلها منصرفًا من أمامها لاعنًا ما فكرت فيه نحوه ورافضًا تصديق وقاحتها الزائدة، تعلقت أنظارها به رغم ابتعاده، انتهى حلمها الوردي بصورة بشعة، وبات الأمر حقيقة واضحة للعيان، لا مكان لها في حياته، ردت هامسة بصوتها المختنق:
, -يا كسرة قلبك يا نيرمين!
, هتف منذر بين جنبات نفسه بضيق كبير وهو يسرع في خطواته تاركًا المكان برمته:
, -معدتش إلا دي!
, سيطرت عليه العصبية بصورة واضحة، فعجزت عن إخفاء ذلك أمام أخيه الذي سأله بفضول:
, -في ايه يا منذر؟ حد ضايقك؟!
, رد بصوت شبه محتد:
, -لأ!
, حاول أن يسبر أغواره ليعرف ما ألم به، فأردف قائلاً
, -طب٣ نقطة
, قاطعه منذر بصرامة:
, -متسألش كتير!
, هز رأسه متفهمًا عدم رغبته في الحديث، وأكمل بحذر:
, -ماشي، الحاج اسماعيل عامل أعدة للرجالة عند العمدة، والكل بيسأل عليك!
, رد باقتضاب:
, -أنا جاي معاك!
, -تمام!
, فرك منذر وجهه بغل، مازال الأمر يثير أعصابه رغم إنهائه، لكن مجرد توهمها أمرًا كهذا أصابه بالتقزز، أكمل سيره المزعوج محدثًا نفسه باستنكار:
, -ولية تفور الدم ٢٢ نقطة !
,
, بكت بقهر في مكانها بعد أن لفظ حبها بقسوة رافضًا السماح لمشاعرها بالتحرر معه، نعم هي أحبته ولا تعرف كيف حدث هذا، لكنها عشقت رجولته وشهامته وشجاعته وخوفه على أحبته من أقل شيء يمكن أن يؤذيهم، تلك السمات التي افتقدتها في شريك حياتها الأسبق الذي كان على النقيض تمامًا، فأتاحت الفرصة لشخصه للتسلل إلى قلبها والاستحواذ عليه كليًا.
, كفكفت نيرمين عبراتها مستسلمة للحقيقة المريرة، فهو لن يقبل حبها أبدًا بل لن يشعر بما تكنه له، ندمت على تسرعها في اعترافها، لكنها كانت محاولة أخيرة بائسة ظنت أنها ستفلح معه، وأتت النتائج عكس توقعاتها، جرجرت أذيال خيبتها عائدة من حيث جاءت ناقمة على من حولها لكونهم سعداء وهي وحدها تعاني في صمت.
, رأتها والدتها على تلك الحالة الباهتة، فاقتربت منها متسائلة بتوجس:
, -في ايه يا بنتي؟ شكلك مش مريحني!
, أجابتها بفتور:
, -مافيش حاجة
, أضافت بهدوء وهي تربت على ظهرها:
, -طب تعالي شوفي بنتك، بتعيط و٣ نقطة
, قاطعتها قائلة باستياء:
, -أنا جايلها، ماهو معدليش إلا هي!
, استغربت عواطف من طريقتها المحبطة، وأثرت عدم إجبارها على الحديث كي لا تنفجر فيها كعادتها حينما تحاول فهم ما يدور في رأسها، اختارت أبعد مقعد خشبي لتجلس عليه، لكن نظراتها المحتقنة لم تفارق وجهها الضحوك متمنية بسوء تلاشي ابتسامتها ليحل الحزن عليه.
, مالت إحدى السيدات الجالسات على مقربة من نيرمين على أخرى تتهامس بكلمات مبهمة عنها، وظلت أنظارهما تتوزع عليها وعلى رضيعتها التي كانت تهدهدها على كتفها، بدا الاهتمام واضحًا على الاثنتين وكأنهما قد عقدا العزم على شيء ما يخصها.
, ٥٠ نقطة
,
, نهض الحاج إسماعيل من مكانه حينما رأى منذر مقبلاً عليه وبصحبته أخيه ليرحب بهما، استقبلهما العمدة بألفة معهودة منه، فقد قرر أن يحتفي بالزوج المستقبلي لابنة بلدتهم بإقامة حفل إنشاد ديني متواضع حضره أغلب رجال القرية لتقديم التهنئات والمباركات، لم يتوقع ذلك الترحاب الودود ولا تلك الليلة الجميلة، لكنها أظهرت له محبة الجميع لعائلة رياض ماعدا قريبهم الحقود الذي كان متجهم الوجه قاسي التعبيرات.
, جلس منذر إلى جوار والده الذي ربت بقوة على فخذه كنوع من الترحيب به، استمتع بالأجواء الطيبة حتى حان موعد تناول الطعام، فتفاجأ بكم الأطباق الشهية التي تم تجهيزها خصيصًا لتلك المناسبة، فهتف قائلاً:
, -ماشاء ****! لازمته ايه التعب ده كله، كفاية اللي عملتوه وزيادة!
, رد عليه الحاج إسماعيل مبتسمًا:
, -هو احنا عملنا حاجة؟ ده احنا مكسوفين منكم و****!
, أضاف العمدة مؤكدًا بابتسامة عريضة:
, -قوله يا حاج إسماعيل، ده مش من قيمتهم، لولا إن الموضوع جه بسرعة كنا ٧ نقطة
, قاطعه طه مبديًا امتنانه:
, -كتر خيركم، يدوم يا رب العز والخير، ويجعله عامر!
, رد عليه العمدة مبتسمًا:
, -يا رب
, ثم التفت برأسه للجانب صائحًا بحماس:
, -قول للحريم الصواني بسرعة للرجالة يا زكريا!
, -أوامرك يا عمدة!
, ٤١ نقطة
,
, أفـــاق من غيبوبته المؤقتة شاعرًا بتلك الآلام الموجعة تجتاح جسده بالكامل، بدت الرؤية مزعجة بالنسبة له، فاضطر أن يغمض جفنيه لأكثر من مرة ويفتحهما حتى يعتاد على الإضاءة القوية، حرك رأسه للجانب ليجد ابنه الأصغر محدقًا فيه بتلهف، فتنفس بعمق، ثم زفره ببطء قبل أن يستطرد حديثه هامسًا بصوت متحشرج:
, -مـازن!
, دنا منه سريعًا ممسكًا بكفه وهو يرد بتلهف:
, -أنا أهوو يا أبا
, حدق أباه في وجهه متسائلاً بصوت شبه متقطع:
, -حصل.. ايه؟
, ابتلع الأخير ريقه مجيبًا إياه بحذر:
, -انت تعبت شوية يا حاج واتنقلت على المستشفى!
, سأله مهدي بنبرة ذات مغزى وكأنه قد استشعر ما ألم بابنه البكري:
, -و.. أخوك.. مجد؟!
, ضغط على شفتيه هاتفًا بامتعاض مزعوج:
, -أخويا!
, صمت لبرهة مترددًا في إجابته، أيخبره بما أصابه فتسوء حالته أكثر، أم يكذب عليه ويخفي الأمر مؤقتًا؟ انزعج والده من صمته الذي طال فسأله متوجسًا:
, -ساكت ليه؟ هو جراله حاجة؟
, فرك طرف ذقنه بيده قائلاً بتلعثم طفيف:
, -أصل.. البوليس متحفظ عليه لحد ما يقدر يقوم!
, لم يكن مهدي بحاجة إلى أي تفسيرات لنهاية ابنه المتوقعة بعد ما ارتكبه من أفعال هوجاء ألحقت الأذى بغيره، فرد بنبرة أسفة:
, -أخوك ركب دماغه وضيع نفسه، وأنا ياما حذرته!
, سعل سعال حرج كاد يقطع أنفاسه قهرًا عليه، فخشي مازن عليه من تدهور صحته فتوسله راجيًا:
, -متفكرش في حاجة دلوقتي يا أبا، المهم سلامتك عندي!
, أغمض مهدي عينيه بحزن كبير وهو يرد:
, -كل حاجة راحت، الصحة، والمال والعيال! لله الأمر من قبل وبعد!
, هتف مازن بجدية:
, -إن شاء **** كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن
, أشاح بوجهه للجانب متابعًا بيأس:
, -فوضت أمري لله! إنت السميع العليم!
, شعر بحالة الحزن الشديدة المسيطرة عليه بعد فقده لكل شيء، فاعتصر قلبه آلمًا عليه، وحاول أن يهون الأمر قائلاً:
, -اطمن يا أبا، أنا معاك!
, التفت مهدي ناحيته محذرًا بصوت واهن:
, -متضيعش نفسك إنت التاني
, رد عليه مؤكدًا وهو ينحني على رأسه ليقبله:
, -حاضر يا حاج، ارتاح انت بس!
, ٥٢ نقطة
,
, انهالت المجاملات النقدية على العروس التي جلست في منتصف الأريكة كنوع من التهنئة بعقد قرانها فبدت متحرجة للغاية مما يقدم لها حتى وإن كان زهيدًا، لكنه العرف المتبع في تلك المناسبات السارة، جاهدت قدر الإمكان أن تحفظ في ذاكرتها اسم كل من قدمت لها شيئًا لتقوم برده في ظروف أخرى طيبة، وتسابقت عواطف مع باقي النساء في تقديم المشروبات والطعام على المتواجدات.
, دنت منها إحداهن مرددة بهدوء جاد:
, -ست عواطف!
, انتبهت لصوتها الأخيرة فأدارت رأسها للجانب قائلة:
, -ايوه!
, تابعت المرأة حديثها بجدية:
, -معلش عاوزاكي في كلمتين كده ياختي على جمب!
, قطبت عواطف جبينها باستغراب، وتعقدت تعبيراتها نوعًا ما قائلة بحذر:
, -اه وماله، اتفضلي!
, تحركت الاثنتان نحو الجانب بعيدًا عن الضوضاء المحيطة بهما، فأردفت المرأة قائلة بابتسامة صفراء:
, -اعذريني في ده سؤال، و**** أنا مكسوفة منك ومحرجة، بس.. بس متأخذنيش في دي الكلمة!
, زاد فضول عواطف لمعرفة ما تريد، فردت بنفاذ صبر:
, -قولي على طول اللي عاوزاه!
, وضعت المرأة إصبعيها على طرف ذقنها مدققة نظراتها نحوها وهي تسألها باهتمام:
, -هو بنتك اللي هناك دي متجوزة ولا أرملة؟
, التفتت عواطف برأسها سريعًا نحو ابنتيها متسائلة بجدية:
, -أنهو واحدة؟
, سلطت المرأة أنظارها على نيرمين، وردت موضحة:
, -اللي معاها عيّلة!
, -نيرمين
, -ماشاء ****، عاشت الأسامي، اه هي
, سألتها عواطف بجدية وقد بدت مزعوجة نسبيًا:
, -بتسألي ليه يا حبيبتي؟
, أجابتها المرأة بمكر غامض:
, -أصلي مش شايفة في إيدها دبلة، ولا لمؤاخذة جاية مع راجل، أنا أسفة إن كنت بأتدخل في اللي ماليش فيه!
, خمنت عواطف ما ترمي إليه دون أن تفصح لها علنًا عن نواياها، فهتفت على مضض:
, -هي منفصلة عن جوزها!
, فغرت المرأة شفتيها متمتمة باستنكار:
, -يا عيني، مطلقة!
, ضغطت عواطف على شفتيها هاتفة بضجر:
, -اه، الحمد**** على كل حال
, سألتها المرأة بفضول واضح عليها لم تبذل جهدًا في إخفائه:
, -ومافيش أمل ترجعله؟
, انزعجت عواطف من أسئلتا المتكررة فهتفت بتبرم:
, -لأ، مطلقة بالتلاتة، ادعيلها بصلاح الحال
, -**** يعوضها باللي فيه الخير
, -اعذريني يا حبيبتي أنا مشغولة وبأساعد أهل البيت و٣ نقطة
, قاطعتها بابتسامة ودودة:
, -خدي راحتك، بس سؤال تاني معلش!
, زفرت عواطف قائلة بنفاذ صبر:
, -خير
, ضاقت نظرات المرأة وهي تسألها باهتمام أكبر:
, -هي مابتفكرش تتجوز تاني؟ أصلها لسه صغيرة، و٤ نقطة
, قاطعتها عواطف هاتفة بصرامة:
, -ما تكلميني بصراحة أحسن عشان أفهمك!
, اتسعت ابتسامة المرأة الصفراء مبررة فضولها المُلح:
, -بصراحة كده أنا ابني شافها صدفة وحاول يطأس عنها، وعرف إنها تبعكم، فكلمني عليها عشان أسأل عنها!
, ردت عليها عواطف بامتعاض وهي تضم كفيها معًا إلى بطنها:
, -وأديكي عرفتي ظروفها
, أضافت المرأة قائلة بحذر:
, -طالما مافيش حاجة تعيبها ايه المانع إن٤ نقطة
, انزعجت عواطف من طريقتها في فرض نفسها، وكذلك في الحديث عن أمور كهذه دون تمهيد مسبق، فردت مقاطعة بجدية:
, -مش وقته يا حبيبتي، احنا مشغولين بالعروسة!
, أصرت المرأة على إكمال ما تريد قائلة:
, -طب خدي فكرة عن ابني، هو أرمل وعنده عيلين صغيرين يتمى يا حبة عيني عليهم، ده غير أرضه الزراعية، وشغال الصبح في مديرية الزراعة، و٣ نقطة
, وضعت عواطف يدها على كتف المرأة لتضغط عليه برفق، واكتفت بالابتسام وهي ترد بإيجاز متصلب:
, -**** يباركلك فيه بس مش وقته!
, تفهمت اعتراضها بعد صعوبة، وردت قائلة:
, -ماشي، نكمل كلامنا وقت تاني!
, انصرفت من أمامها سريعًا متعجبة مما حدث، فابنتها ناقمة على الأزواج والمتزوجين والحياة الزوجية بشكل عام، وربما قد أتتها فرصة طيبة، لكنها واثقة من رفضها من قبل أن تعرف التفاصيل، راقبتها المرأة باهتمام مرددة لنفسها:
, -**** يقدم اللي فيه الخير، ويرزقك يا ابني ببنت الحلال اللي تستاهلك!
, ٤٥ نقطة
,
, أشــرق صباح يوم جديد يحمل منذ لحظة ميلاد فجره وعودًا وأحلامًا كثيرة، عمل الجميع على قدم وســاق لإنجاز ما هو مطلوب لإقامة سرادق الحفل في أرض المرحوم رياض خورشيد، وتم إحضــار إحدى الشابات المتخصصات في تزيين العرائس لتقوم بدورها في تجميل العروس، بالإضافة إلى ثوب جديد يليق بها تم شرائه خصيصًا من أجلها.
, تفاجأت أسيف بالثوب الذي حملته جليلة لها مرددة بابتسامة ودودة:
, -يا رب يعجبك يا بنتي! ملحقناش ناخد رأيك، بس منذر **** يكرمه مفاوتش حاجة إلا وكان عامل حسابها
, تحرجت من مجرد ذكر اسمه، هو كعادته يفاجئها بالأفضل دومًا، لا يغفل أي تفصيلة تخصها، زاد تورد حمرة وجنتيها، ثم انتبهت لصمتها، فردت بنبرة رقيقة:
, -شكرًا، انتو تعبتوا نفسكم، وأنا مكونتش٣ نقطة
, قاطعتها جليلة قائلة بعتاب:
, -تعب ايه يا عروسة، بقى ده اسمه كلام! عقبال الليلة الكبيرة يا رب!
, تناولت الثوب المغلف منها بحذر، وأسندته على طرف الفراش لتعتدل في وقتها، وتحتضنها بعدها بود واضح، ربتت جليلة على ظهرها متمنية لها حياة طيبة مع ابنها، راقبتهما نيرمين بحقد ظاهر في نظراتها المثبتة عليهما، وردت بين نفسها باستنكار ساخط:
, -سبحانه مغير الأحوال، بقى دي اللي مكانتش طيقاها، خلاص خدتها تحت باطها وبلفتها!
, دنت منها بسمة محدقة فيها باستغراب شديد، خاصة أن تعبيرات وجهها كانت مشدودة للغاية، فسألتها بتعجب:
, -انتي بتكلمي نفسك؟
, التفتت نيرمين نحوها لترمقها بنظرات مزعوجة وهي ترد بتهكم:
, -ايوه، فيها حاجة دي!
, -لأ مافيش يا نيرمين!
, -حاجة تجيب الغم على الصبح
, ردت عليها بسمة على مضض:
, -طب افردي بوزك، النهاردة فرح!
, لوحت لها نيرمين بيدها هاتفة بسخط ساخر:
, -سبنالك ياختي الفرح كله، اتشمليلي وحصلي المعدولة اللي اتلميتي عليها!
, استنكرت طريقتها الفظة في الإساءة إليها، فصاحت بحدة:
, -دي بنت خالك! هاتفهمي ده امتى؟
, ضربتها بكفها على ذراعها قائلة بعدم اكتراث:
, -تبقى زي ما تبقى! روحيلها يالا، بلا هم!
, نظرت لها بسمة شزرًا وهي تقول:
, -**** يعدي اليوم ده على خير!
, ظلت واقفة في مكانها تراقبهما بأعينها المحتقنة غيظًا منها حتى حضرت والدتها فسألتها بتلهف:
, -فاضية يا بنتي شوية؟
, التفتت ناحيتها متسائلة بفتور:
, -في ايه يا ماما؟
, أجابتها بإنهاك:
, -ناقصنا حاجات كتير ومحتاجين أي حد فاضي عشان يساعدنا في المطبخ!
, ردت نيرمين من بين شفتيها بهمس خافت:
, -يعني من قلة الموجودين!!
, -ها قولتي ايه؟ هتساعدي في أكل بنت خالك!
, ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض:
, -طيب!
, تحركت مع والدتها بخطوات بطيئة مضيفة بحنق مغلول:
, -إياكش تطفحه بالسم الهاري!
, ٤٤ نقطة
,
, حل المســاء عليها بطيئًا، ولم يتوقف عقلها عن التفكير في كل شيء تحديدًا هو، ذاك الذي تغلغل إلى خلايا عقلها رويدًا رويدًا فتشبع به، باتت الدقائق تؤجج من حماسها الشغوف إلى التطلع إليه، فبدت متلهفة أكثر على رؤيته، وترقبت بتوتر شديد حضوره إليها، ما أثار غرابتها هو عدم إقامة سرادق عقد القران بالأرض الخاوية الملحقة بدار الحاج إسماعيل، فأصابها الأمر بالريبة، وظنت أنه سيكون حفلاً بسيطًا في المضيفة خاصة أن كل من تسأله عنها يجيبها بغموض غير مريح، وكأن المسألة أمرًا حربيًا لا يجب عليها معرفته.
, أنهت المصففة عملها ووضعت لمساتها الأخيرة على بشرة العروس الجميل، وتأكدت من ضبط ذلك التاج الفضي الذي ثبتته على حجابها الأبيض، أصبحت أكثر إشراقًا وجمالاً، وظهر على صفحة وجهها فرحتها الصافية.
, حدقت فيها عمتها بأعين لامعة متأثرة، ثم وضعت كفيها على كتفيها قائلة بصوت شبه باكٍ:
, -بسم **** ما شاء ****، زي القمر يا بنتي!
, رمقتها بسمة هي الأخرى بنظرات إعجاب وهي تضيف:
, -حلوة أوي، اقفي بقى عشان نظبط الفستان!
, نهضت أسيف بحذر من على المقعد، فأزاحته ابنة عمتها للخلف لتترك لها مساحة من الحرية لتتحرك، ظهر الثوب واضحًا أمام أعينهن، كان بسيطًا في تصميمه لكنه أنيقًا وكلاسيكيًا في مظهره، طرز صدره بالفصوص اللامعة ذات الحجم الصغير والموضوعة على قماش الدانتيل المغطى ببطانة بيضاء سميكة، أمام أكتافه فكانت من نفس الخامة لكن نقوشاتها الوردية أكثر بروزًا، وعند الخصر يضيق الثوب ثم يتسع بطبقات عريضة مموجة أعطتها حجمًا محببًا.
, هتفت بسمة بانبهار:
, -واو! شكله تحفة، بصراحة ذوقه يجنن
, التفتت أسيف ناحية المرآة لترى انعكاس هيئتها فيها، بدت مصدومة من مظهرها، كانت تشبه الأميرات في حليتهن المبهجة، مع فارق أنها عروس اليوم، مسحت عواطف عى ظهرها بحنو وهي تقول:
, -**** يعوضك خير يا أسيف، و**** انتي تستاهلي أحسن حاجة!
, هتفت بسمة بمزاح:
, -العروسة غطت علينا كلنا! احنا مش هنبان جمبها!
, ردت عليها ابنة خالها بخجل لطيف:
, -متقوليش كده، انتي جميلة و****!
, ابتسمت لها بسمة هاتفة بمرح:
, -بأهزر طبعًا، ارتاحي بقى لحد ما يجي عريسك أكون أنا كملت لبسي
, أضافت المصففة قائلة بجدية تحمل التحذير:
, -متتحركيش كتير يا عروسة، مش عاوزين عريس الهنا يشوفك دلوقتي، ده فال وحش!
, ضحكت عواطف مداعبة:
, -**** يبعد عنها كل وحش، ده الطيبون للطيبات!
, اقتربت منها لتحتضنها بحنو أمومي زائد مكملة دعائها الصادق لها، بينما تنهدت بسمة هامسة بقلق طفيف بدا على قسماتها:
, -أمين، وخصوصًا نيرمين ٦ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44
٧٤
أصر على استضافته - مع أغلب رجال عائلته - في داره الكبير ليرتدي ثيابه هناك، وأظهر ترحيبًا لائقًا به وبكرمه المعروف كعمدة لتلك البلدة، فأثنى الحاج طه على أخلاقه الكيّسة وطبائعه الخلوقة، انتهى منذر من ارتداء بدلته الداكنة، واستعان بأخيه ليعقد له رابطة العنق، فبدا – رغم صلابته – مهيبًا وجاذبًا للأنظار.
, هتف دياب متحمسًا وهو يضبط ياقته:
, -مبروك يا عريس!
, رد عليه منذر بهدوء:
, -عقبالك يا دياب!
, تنهد مضيفًا بإحباط طفيف:
, -كثف دعا وحياة أبوك، لأحسن العملية ناشفة على الأخر معايا، معقدة وكلها كلاكيع
, ربت على كتفه بقوة مرددًا بثقة:
, -بتيجي على أهون سبب!
, رفع دياب كفيه للأعلى هاتفًا:
, -يا ميسر يا رب!
, صــاح طه قائلاً بجدية ليثير انتباههما:
, -يالا يا شباب، كده احنا هنتأخر
, التفت منذر ناحيته ليرد مبتسمًا:
, -على طول يا حاج!
, تحرك بخطوات ثابتة نحوه، ثم انحنى على كفه الممسك برأس عكازه ليقبله بامتنان كبير، فمسح والده على رأسه وظهره قائلاً:
, -مبروك يا ابني، وربنا يجعلها جوازة دايمة إن شاء ****
, اعتدل في وقفته مرددًا:
, -يا رب أمين
, -عرفت تختار، هي بنت كويسة ومتربية، وتعتبر يعني من العيلة
, -طالما انت راضي عني يا حاج فأنا مبسوط
, -**** يراضيك دايمًا
, سبقهما ديــاب ليشير بيده للسائق الذي استأجر حافلته لإحضار بعض الأقارب والمعارف لحضور الحفل بتتبعه كي يصل إلى وجهته دون أن يضل طريقه في تلك البلدة الغريبة عليه، فامتثل الأخير له واستعد للتحرك خلفه،
, ســـار منذر بجوار والده يتبادلان عبارات خافتة حتى ركبا السيارة، لحق بهما الحاج إسماعيل وبصحبته العمدة، وعدد من رجال القرية، وبدأ الجميع بالتحرك نحو السرادق كل على حسب وسيلة مواصلاته.
, ٣٩ نقطة
,
, تعالت أصوات الزغاريد فخفق قلبها بقوة معتقدة أنه قد جاء بالخارج، توترت أنفاسها وازدردت ريقها بارتباك كبير، اشرأبت بعنقها للأعلى محاولة رؤيته، لكنها مجرد تعبيرات عادية عن فرحة النساء بالعروس المتواجدة بالمنزل، خبا حماسها، وهدأ توترها لتصبح كما كانت شبه ساكنة.
, اقتربت منها بسمة بخطوات متهادية هاتفة بانفعال متحمس:
, -ها يا سوفي، ايه رأيك في فستاني؟
, رفعت أسيف عينيها نحوها لتمعن النظر في ثوبها اللامع الذي ارتدته من اللون البترولي، كان متماشيًا مع نحافتها وحجابها الزاهي، ضيقًا من خصره ومتسعًا من الأسفل، وأكمامه فضفاضة وتضيق عند الرسغين، ابتسمت لها مبدية إعجابها به وهي تقول:
, -شكله حلو عليكي
, ردت عليها بسمة بلهو:
, -بس مش يجي حاجة جمبك يا عروسة!
, اكتفت بالابتسام الخجل لها، لكن سريعًا ما اختفت من على محياها حينما رأت نيرمين تقترب منها لترمقها بنظراتها الساخطة، أدارت وجهها للجانب متحاشية التشاجر معها ، فهي متيقنة أنها ستفتعل شيء ما لتثير أعصابها المشدودة، وهي لن تتحمل المزيد من التهكمات خاصة في ليلة متوترة كهذه.
, انتفض قلبها بين ضلوعها حينما سمعت أبواق السيارات، أحست بدقاته العنيفة تخترق أذانها فارتكبت بشدة، واضطربت حواسها، هتفت بسمة متحمسة:
, -الظاهر العريس وصل!
, صدحت أصوات الزغاريد الممزوجة بأصوات المزامير لتؤكد صدق حدسها، فتلاحقت ضربات فؤادها من تلك الحماسة المتدفقة في الأدرينالين المندفع في شرايينها، لا تعرف إن كان اضطرابها دليلاً على الفرح أم ماذا، لكنها حتمًا لم تكن مزعوجة بما يحدث لها.
, سدت بسمة الطريق بجسدها لتمنعه من المرور ومن رؤية عروسه، رأها دياب أولاً فتوهجت عيناه بوميض غريب، امتعضت ملامحه إلى حد ما لكونها ستظهر أمام الغرباء بصورة جميلة لافتة للأنظار، فربما تثير في نفس شاب ما خيالات متهورة أو أفكارًا حمقاء مخجلة نحوها، سيطر عليه شعور الغيرة فجاهد كثيرًا ليبدو طبيعيًا، لكن عبرات تعبيراته عن حاله
, تعمدت فرد ذراعيها هاتفة بمرح:
, -عروستنا لسه قدامها شوية
, عقد منذر ما بين حاجبيه قائلاً باستغراب كبير:
, -مش معقول ماتكونش خلصت!
, لوت ثغرها قائلة بمكر وهي توميء برأسها:
, -اها، لسه!
, تساءل بغرابة وهو يدير رأسه نحو أخيه:
, -ازاي؟ ده المأذون جه!
, جمد دياب أنظاره على بسمة قائلاً بتجهم مزعوج:
, -شكلها بتهزر، يا أبلة جرس الفسحة ضرب من زمان! خلي العريس يشوف عروسته!
, نظرت له بضيق مبدية عدم تقبلها من طريقته في الحديث، وردت باقتضاب:
, -ظريف!
, أبعد نظراته المحتقنة عنها مطلقًا زفيرًا حادًا من صدره باذلاً مجهودًا مضنيًا في ضبط هدوئه، تنحت للجانب لتفسح الطريق لمنذر ليلج إلى الداخل فقابلته والدته صائحة بسعادة:
, -مبروك يا حبيبي، **** يسعدك يا رب
, احتضنها بذراعيه للحظات، ثم تراجع مبتعدًا عنها، وانحنى على رأسها مقبلاً إياها قائلاً:
, -**** يبارك فيكي يا أمي!
, مسحت على وجهه بكفها المجعد، فأمسك به وطبع قبلة صغيرة عليه قبل أن يتركها ليكمل خطاه نحو الداخل متلهفًا لرؤيتها، اشتاقت إليها عيناه، خفق قلبه بقوة حينما لمح تلك الهالة البيضاء التي تغلفها، أهذا سحر الحب الذي يجعلنا نرى ما نحب كالملائكة؟
, ردد بإعجاب كبير:
, -بسم **** تبارك الخلاق!
, خجلت من نظراته المتطلعة بعشق إليها، شعرت بسخونة شديدة تجتاحها من لا شيء، بتوتر رهيب يعصف بخلاياها الساكنة، أتلك هي بوصلة الحب التي تدل قلوبنا على نصفنا الأخر، فنضطرب خجلاً من اكتشاف أمرنا؟ أخفضت رأسها حرجًا منه رامشة بعينيها بحياء كبير، اقترب منها ممررًا عيناه ببطء على كل جزء فيها، أصبحت لهفته مضاعفة نحوها، لم يصدق أنها ستصبح زوجته، سيكتب اسمها إلى جوار اسمه وتقترن به.
, تقوس فمه بابتسامة عذبة وهو يقول:
, -مبروك!
, همست بنبرة غير مسموعة:
, -**** يبارك فيك!
, تحسس رأسه الممشط جيدًا مداعبًا:
, -ولو إني مش سامع حاجة من الدوشة، بس أكيد مبسوطة؟ صح؟
, عضت على شفتها السفلى بخجل أكبر، واكتفت بإظهار ابتسامة صغيرة على ثغرها.
, سحب منذر نفسًا مطولاً حرره دفعة واحدة وهو يقول بجدية:
, -أسيف!
, انتبهت لصوته الذي تحول للجدية، وحدقت فيه بارتباك قليل، عمق نظراته نحوها متابعًا بثبات:
, -أوعدك قبل ما نكتب الكتاب إني مش هاخلي حاجة تضايقك أو تزعلك طول ما إنتي معايا، ولو حبتي لما نرجع نـ٤ نقطة
, استشعرت من طريقته التلميح إلى رغبته في الانفصال عنها حينما تنتهي الأمور هنا، ليس أمرًا مشوقًا على الإطلاق، خفق قلبها خوفًا، وقبل أن يضيف كلمة أخرى قاطعته بتوتر:
, -ماتكملش!
, استغرب كثيرًا مما قالته، فسألها بعدم تصديق:
, -ايه؟
, حركت شفتيها لتجيبه لكن منعها من الكلام هتاف والدته الصائح:
, -يالا يا ابني، الناس مستنينا!
, التفت برأسه للخلف مبديًا انزعاجه من مجيئها في تلك اللحظة تحديدًا، ورد بعبوس:
, -ماشي جايين، مش تدونا فرصة نتكلم!
, عاود النظر إليها متسائلاً بفضول:
, -كنتي هاتقولي ايه؟
, ابتسمت بخجل وهي ترد:
, -يالا بينا!
, زفر مستاءً من ضياع فرصة ثمينة لسماع ما تريد قوله، لكن استشعر قلبه شيئًا مطمئنًا منها، نظراتها نحوه، ابتساماتها، حتى عيونها، كل شيء يوحي بأمر محمود، تمنى في نفسه أن يصدق حدسه، ويحمل قلبها مشاعرًا ما إليه حتى وإن كانت قليلة، ثنى ذراعه لتتأبط هي فيه، ارتجفت أطرافها من شدة الحماسة وهي تعلق رسغها به، تحركت بحذر متمهل معه، وسار للأمام محدقًا بها بنظرات متيمة.
, تعالت الزغاريد مجددًا طوال سيرهما حتى السيارة، واعتلت أصوات المزامير والدفوف المصحوبة بالأغاني المهنئة بالأفراح، سبقها منذر بخطوة ليفتح لها الباب، وتحركت بحذر لتجلس بالمقعد الخلفي ساحبة ذيل ثوبها معها، وما إن تأكد من جلوسها حتى صفق الباب برفق ليدور حول السيارة لكي يجلس إلى جوارها.
, ٣٩ نقطة
,
, تفاجأت بتلك الأضواء البارقة التي زينت الطريق الزراعي وصولاً إلى ذلك المكان الذي حبست أنفاسها حينما خمنت وجهتها التالية، حدقت بجمود فيه، لم يطرأ ببالها مطلقًا أن تعود إلى أرض والدها، بل أن ترى سرادق الحفل مقامًا عليه وبالقرب من تلك الشجرة التي تضمنت الكثير من ذكريات طفولتها وصباها، تهدجت أنفاسها متأثرة، ولمعت عيناها ببريق واضح، أحس منذر بما يختلج صدرها من مشاعر مختلطة، فمال عليها برأسه قائلاً:
, -مكانش ينفع الفرح يتعمل إلا هنا!
, التفتت ناحيته برأسها لتحدق مباشرة في عينيه العاشقتين لها، خانتها العبرات التي تجمعت بكثافة عند طرفي مقلتيها، وانهمرت سريعًا على وجنتيها مبللة كلتاهما بغزارة غير مكترثة بمساحيق التجميل التي يمكن أن تفسد من بكائها، مد منذر أنامله بحذر ماسحًا بعضهم برفق وهو يضيف مبتسمًا:
, -أحلامك أوامر بالنسبالي!
, عجزت عن إيجاد الكلمات المناسبة لشكره، لقد حقق لها حلمًا تمنته في حياة أبويها، وظنت أنه ذهب مع رحيلهما، لكنه صار واقعًا بوجوده معها، التفتت برأسها لتحدق في النافذة من جديد، وارتسم على ثغرها ابتسامة أكثر اتساعًا امتزجت بعبراتها الفرحة، لم يرغب سوى في رؤيتها سعيدة تضحك، لا تلقي بالاً لهموم الحياة، يكفيه أن تبتسم فتشرق الحياة من حوله، وتتحول متاعبها إلى أمور هينة يمكن تحملها.
, توقفت السيارة عند مقدمة السرادق، وصدحت أكثر أصوات الدفوف والطبول المتراصة على الجانبين، لم تستطع منع نفسها من البكاء فرحًا، هي تعيش يومًا مميزًا في حياتها، ذكرى جديدة ستحفر في عقلها للأبد، ترجلت منها حينما فتح بابها لها، وحدقت فيه بنظرات ممتنة، ابتسم لها ابتسامة عذبة، واصطحبها بتمهل إلى الداخل..
, ركض الصغيران يحيى وأروى أمامهما قاذفين الورود على وجهيهما وهما يلهوان لتتسارع أنفاسها من فرط السعادة، استدارت للجانب لتنظر إلى ذلك الذي سلب قلبها رغمًا عنها بفرحة جلية، قبض بأنامله على كفها ضاغطًا عليه برفق قائلاً بصوت خفيض:
, -مبروك!
, واصلا سيرهما حتى بلغا "الكوشة" الموضوعة في أحد الأركان ليجلس كلاً منهما على مقعد منفصل، تجمع حولهما الأحبة والمقربين فيما عدا نيرمين التي جلست على المقعد المواجه لهما تحدجهما بنظراتها الغاضبة، نيران غيرتها تآكلها، كم تمنت أن تحظى به زوجًا يحبها وتحبه، يلاطفها بمعسول الكلام فتغدق عليه من حبها الفطري، لكن بقي لها فقط أحلام مؤودة.
, هتف الحاج إسماعيل قائلاً بصوت جهوري:
, -يالا يا أستاذ منذر، شرفنا مع الرجالة عشان نكتب الكتاب
, لوح له بيده قبل أن ينهض من مقعده متوجهًا نحوه، وقبل أن يبتعد عنها رمقها بنظرة أخيرة عاشقة شعرت بها تخترقها ببساطة لتصيب قلبها وتحمسه.
, بدأت مراسم عقد القران بهدوء تام، وقبل أن يشرع المأذون في إتمام باقي الإجراءات المعروفة قاطعه منذر قائلاً بجدية:
, -لازم الحاج فتحي يكون وكيل العروسة!
, اندهش الجميع من مطلبه الغريب، واستدار برأسه مسلطًا أنظاره على قريبها المتجهم الوجه متسائلاً بنبرة موحية:
, -ولا ايه رأيك يا حاج، مش إنت برضوه وكيلها؟!
, أشــار له بحاجبيه مؤكدًا مغزى عبارته الخفي، فامتعض وجه فتحي على الأخير، ولم يجد بدًا من الاعتراض، ضغط على فمه هاتفًا بصوت متحشرج:
, -طبعًا، ده أنا خالها!
,
, شهقت أسيف مصدومة مما سمعته توًا، لم تكن أوهامًا أو تخيلات اختلقها عقلها، لقد أعلن قريبها صراحةً أمام الجميع أنه وكيلها الشرعي في عقد القران ليقضي بهذا الحديث الجاد على أخر ذرة نزاع بينهما مؤكدًا على عودة علاقات الود معها، حركت عينيها نحو منذر لترمقه بنظرات مذهولة غير مصدقة ما يفعله من أجلها، كل لحظة يثبت لها أنه جدير بها، أنه يستحقها ويحبها حبًا جمًا، بل يثبت لها أيضًا أنها كانت مخطئة في حقه منذ البداية، لم يكن بالبشاعة أو الطمع الذي تخيلته عليه، بل هو أكثر الرجـــال شهامة ورجولة ٤٦ نقطة !!
,
,
, اشرأبت بعنقها محاولة رؤيته لكن غطى حضوره المهيب أجساد الرجال المحاوطين له، فبات الأمر عسيرًا عليها، أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها، ونكست رأسها بإحباط واضح، للحظة شردت في لمحات سريعة من ذكريات جمعتهما سوى، لم تكن البدايات مبشرة، لكن حتمًا النهايات طيبة، هو عرف الطريق الصحيح لدربها، وسار بتمهل عليه حتى وصل إلى قلبها فاتخذ مكانه فيه، ابتسمت بخفوت ممررة أنظارها على الجميع.
, مالت عليها بسمة مداعبة:
, -هيكتبوا كتابك يا قمر!
, رفعت أسيف رأسها نحوها محدقة فيها بأعين لامعة، واكتفت بابتسامة خجلة على محياها، بالطبع لم تفارقها نظرات نيرمين المحتقنة غيظًا، شعرت بدمائها الفائرة تحرق خلايا عقلها، بل إنه كاد ينفجر من كثرة ما تكتمه في نفسها مجبرة، وخزات حادة ألمتها في رأسها، فكزت على أسنانها بقوة غير قادرة على إخفاء حزنها الممزوج بوجعها.
,
, -قول ورايا يا أستاذ منذر، إني استخرت ****!
, انتبه الجميع إلى صوت المأذون الجهوري الذي صدح في السرادق لتنخفض الأصوات العالية تدريجيًا، ويخفق مع نبرته قلبها أكثر، إنها الآن تزوج إليه ووكيلها قريبها الذي أنكرها يومًا، الآن ترفع رأسها عاليًا وترد كرامتها بين الأشهاد، كذلك سيجمع القدر بينها وبين أكثر الرجال احترامًا ومهابة في رابط له قدسيته، اعتلى خلجاتها فرحة خافية رغم وضوحها في نظراتها، لكنها أيقنت أنها مستعدة كليًا إلى تلك الخطوة الحاسمة في حياتها، ستصنع مما تمر به ذكريات أخرى خاصة بها تحمل السعادة والبهجة، وستمحو أثار ما خلفه الزمن من أحداث مؤلمة، نعم عقدت العزم بشدة على نسيان ما يؤلمها، والتشبث أكثر بحاضرها ومستقبلها.
, ٤٧ نقطة
,
, انتهت الإجراءات الخاصة بعقد القران، ووقعت بأنامل ثابتة على ورقة زيجتها لتعلو بعدها أصوات الزغاريد والتهليلات الفرحة، تهدجت أنفاسها أكثر وهي تبتسم لمن حولها، لكن سريعًا اكتسى وجهها حمرة قوية حينما سمعت صوت المأذون يردد:
, -كلنا يا أحباب **** ندعلهم ونقول "بارك **** لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير"!
, ترددت العبارات بقوة بداخل السرادق ليزداد مع أصواتهم خفقات قلبها المتحمس، زاد توترها حينما التقطت أذنيها نبرته وهو يقول بانزعاج زائف:
, -ممكن أعدي بعد اذنكم!
, أفسحت النساء والفتيات المجال له ليمر، فوقعت أنظاره عليها سريعًا، تجنبت النظر إليه متحرجة بشدة من كم الأعين المراقبة لهما، بينما دنا منذر منها هاتفًا:
, -مبروك يا عروسة، **** يقدرني وأسعدك
, هتفت جليلة بسعادة وهي تربت على ظهر ابنها:
, -و**** **** بيحبك وعوضك خير يا بني!
, التفت ناحية والدته مبتسمًا، فتابعت مضيفة بتفاؤل:
, -يجعلها جوازة الهنا، وعقبال الليلة الكبيرة!
, هتفت عواطف بنبرة عالية وهي تشير بيديها:
, -يالا يا بنات انزلوا تحت خلوا العرسان يقعدوا سوا!
, عدلت بسمة من طرحة العروس قبل أن تبتعد بحذر من جوارها، لتنسحب في إثرها باقي النساء والفتيات واحدة تلو الأخرى من الكوشة تاركين فسحة للعروسين للجلوس سويًا، فيما عدا أروى التي أصرت على الجلوس على مسند مقعد العروس متغنجة بنفسها بمرح وهي ترتدي مثلها.
, سلط منذر أنظاره على وجه حبيبته التي كانت تختلس النظرات إليه بحياء مكشوف عليها، تعالت دقات قلبه حتى باتت أكثر عنفًا وهو يتخيلها في أحضانه، تدفقت دمائه المتحمسة في عروقه من فرط الانفعال الفرح، نعم هو غارق حتى النخـــاع في حب امرأة سلبت قلبه وسيطرت على عقله، تمنى في نفسه أن تدوم تلك الفرحة وألا تنتهي بذهابهما من هنا وعودة الأمور إلى سابق عهدها.
,
, على الجانب الأخر، لمح الصغير يحيى ذلك الجرو الصغير الذي يلهو بالخارج فأثار فضوله لتتبعه واللعب معه، فانسل دون أن ينتبه له أحد من السرادق ليلحق به، رأته بسمة مصادفة فتوجست خيفة أن يرتكب شيئًا أحمقًا دون أن يعي أو أن يضل الطريق فيقلق الجميع عليه، لذا أسرعت خلفه محاولة اكتشاف ما الذي يفعله.
, دومًا كانت أعينه عليها متابعة لكل ما يصدر منها، فاستغرب كثيرًا لابتعادها عن أجواء الحفل دون إبداء أي مقدمات، بدا مزعوجًا من خروجها بمفردها خاصة أنها ترتدي ثوبًا لافتًا للأنظار رغم احتشامه، لكنه لا يعرف نوايا البشر، لذلك بلا أدنى لحظة تفكير أو تردد، انطلق ورائها وهو متجهم الوجه.
, وجد صعوبة في ضبط انفعالاته حينما سمع أحد الشباب يعلق عليها قائلاً بعبثٍ لاهٍ:
, -بنات بحري دول حكاية
, رد عليه أخر مؤكدًا بضحكة غير مريحة:
, -بالظبط زي الكتاب ما قال!
, استدار ناحيتهما مسلطًا أنظاره النارية عليهما، تشنجت تعابيره، وبدا على وشك الفتك بهما وهو يقول بانفعال:
, -ما تلم نفسك انت وهو
, اعتدل الشاب في وقفته المائلة قائلاً بجفاء:
, -خير يا أستاذ؟ حد جه جمبك!
, صاح به بنبرة غاضبة ملوحًا بذراعه بتهديد صريح:
, -انت عارف إنت بتكلم عن مين؟
, تفهم الشاب سريعًا سبب ثروته المتعصبة، فلكز رفيقه قائلاً بتوجس:
, -شكلها تبعه!
, سلط دياب عينيه المتقدتين بشرر مخيف عليه وهو يرد بصوت متشنج:
, -اه يا سيدي تبعي، دي المدام!
, تبادل الشابين نظرات حرجة، وهتف أحدهما معتذرًا:
, -احنا أسفين و****، منقصدش، اعذرنا يا أستاذ!
, -حقك علينا، زلة لسان و٣ نقطة
, قاطعه دياب هادرًا بعدائية مخيفة:
, -تاني مرة تفكروا قبل ما تكلموا، لأحسن لسانكم ده ممكن يوديكم في داهية!
, نظر لها بازدراء قبل أن يسير مبتعدًا ليلحق بها مغمغمًا بين نفسه بغيظ:
, -شكلي هارتكب جناية هنا!
, ٤٠ نقطة
,
, خطت بتمهل حريص على الأرضية الطينية الغير ممهدة باحثة بأعين قلقة عن الصغير يحيى الذي لم يكن ظاهرًا حولها، انقبض قلبها إلى حد كبير خوفًا عليه، واصلت سيرها رافعة أطراف ثوبها الطويل كي لا تتعثر به، تلفتت برأسها تجوب بأنظارها كل ما تقع عليه عينيها هاتفة:
, -يحيى! انت فين يا حبيبي؟ يحيى!
, تسرب إليها هلع طفيف لعدم وجود أي رد على نداءاتها المتكررة، تعمقت أكثر في سيرها حتى بلغت حقول الذرة، ففزعت أكثر بسبب الظلام المغلف للأجواء، ارتجفت أطرافها بقوة لإحساسها بالخطر، وتأكد شعورها حينما سمعت تلك الهمهمات الخافتة، وضعت يدها على فمها حابسة أنفاسها متوقعة الأسوأ، خرجت منها صرخة مذعورة حينما سمعت صوتًا يأتي من خلفها متسائلاً بجمود:
, -جاية هنا ليه؟
, التفتت سريعًا برأسها ووجهها قد صار أكثر شحوبًا، لكن سريعًا ما تحول خوفها إلى حنق ظاهر في نظراتها حينما تأكدت من هويته، دنا منها متسائلاً بتجهم:
, -بتعملي هنا ايه لوحدك؟ ولا عاجبك الرجالة يتفرجوا عليكي ويعاكسوكي
, استنكرت طريقته الهجومية على شخصها دون تقديم أي مبررات تستوجب ذلك ناهيك عن اقتحامه لحريتها بشكل سافر، استشاطت نظراتها سريعًا، وردت بتشنج:
, -ايه اللي بتقوله ده، رجالة مين، ومعاكسة ايه دي؟
, نظر لها بأعين مغلولة موضحًا بانفعال:
, -يعني مش شايفة البهوات كانوا بيبصولك ازاي
, قطبت جبينها مستغربة مما يتفوه به، فصاحت غاضبة:
, -أنا معرفش أصلاً إنت بتكلم عن ايه!
, اقترب منها أكثر مضيفًا بتهكم:
, -هو إنتي فايقة غير لـ٤ نقطة
, قاطعته رافعة كفها أمام وجهه محذرة إياه من التمادي في افتراءه قائلة:
, -عندك، ولا كلمة زيادة، مش هاسمح بأي اتهام أو إهانة!
, جمد أنظاره المشتعلة عليها، فتابعت بسخط متعمدة تحميله اللوم لتسرعه معها:
, -انت مكلفتش خاطرك حتى تشوف بأدور عليه هنا!
, لوى ثغره متسائلاً ببرود متهكم:
, -هايكون على ايه؟
, ضاقت نظراته نحوه حتى باتت أكثر حدة، ثم أجابته بامتعاض ذو مغزى:
, -على ابنك اللي ناسيه
, وكأنه قد عاد إلى رشده بعد سماعه لاسم ابنه يتردد بين شفتيها، فهتف بلا وعي:
, -يحيى!
, تابعت معاتبة بنبرة لاذعة:
, -ايوه، ما انت لو عينك في وسط راسك ومركز كنت شوفت إن ابنك خرج ومحدش عارف هو فين!
, ارتسم على تعابيره علامات الانزعاج سريعًا، هي محقة في هذا الأمر، هو غفل دون قصد عن ابنه، وتناسى أنه بصحبته في تلك البلدة الغريبة، والأطفال بطبيعة الحال يسعون لاكتشاف كل ما هو غامض ومجهول بالنسبة إليهم بفعل فضولهم الطفولي، تلفت حوله هاتفًا بنبرة مرتعدة:
, -يحيى، يحيى، انت فين!
, بحث بخوف كبير عنه مدققًا النظر في حقول القصب المظلمة عله اختبأ بداخلهم، هوى قلبه في قدميه حينما لم يسمع منه خبرًا، وقبل أن يفقد أعصابه المتلفة سمع صوته يقول بعبوس:
, -أنا هنا مش لاقيت الكلب! استخبى مني!
, تنفست بسمة الصعداء لكون الصغير بخير، فتحركت نحوه بتمهل حذر مرددة بعتاب لطيف:
, -خضتنا عليك!
, أحاطت كتفيه بذراعها وضمته إليها بحنو محاولة التهوين عليه، لكن انفعل والده بعصبية بائنة معنفًا إياه بقسوة:
, -في حد يعمل كده؟ مش ممكن كنت تقع في ترعة ولا٥ نقطة
, ارتعدت فرائص الصغير من طريقة والده العنيفة معه، فتوجست بسمة خيفة أن يتهور عليه ويضربه، نظرت له مستنكرة انفلات أعصابه الدائم فردت بجدية:
, -قدر ولطف! بالراحة مش كده يا أستاذ دياب!
, زاد عبوس الصغير حتى كاد يبكي عفويًا، فهمس بنبرة مختنقة:
, -مش تزعقلي بابي، الكلب ده٣ نقطة
, ضمته بسمة أكثر إليها ماسحة على كتفه برفق وهي تقول برقة:
, -خلاص يا حبيبي، بابا لما الجنونة بتمسك فيه مش بيشوف قدامه!
, انزعج من سخريتها منه محذرًا:
, -ها، هنغلط؟
, ضغطت على شفتيها محدقة فيه بنظرات قوية، واكتفت بعدم الرد عليه تجنبًا لافتعال أي مشاكل معه، انحنت برأسها نحو الصغير هامسة له بحنو:
, -متزعلش يا يحيى
, اشرأب الصغير بعنقه طابعًا على وجنتها قبلة وهو يقول ببراءة:
, -أنا بأحبك انتي!
, راقب دياب اندماجهما العفوي بنظرات حالمة، تمنى لو فقط أبدت موافقتها على ارتباطهما سويًا وأصبحت زوجته، لظفر بها كحبيبة عشقها، ونال ابنه أمًا حنونًا ترعاه بلا تكلف أو ضغينة، أفاق من شروده فاركًا مؤخرة رأسه مرددًا بهدوء:
, -طب يالا بينا، مالهاش لازمة الواقفة هنا في الحتة المقطوعة دي!
, وافقته الرأي في تلك النقطة تحديدًا، وتحركت معه عائدة من حيث أتت وهي قابضة بكفها على يد الصغير الذي فضل أن يمسك بها دون أبيه، لمحت بطرف عينها شيئًا أثار ريبتها بين عيدان القصب الطويلة، دققت النظر أكثر في ذلك الدخان المنبعث هاتفة بقلق:
, -انت شايف الدخان اللي هناك ده؟
, سألها دياب بعدم اكتراث:
, -فين بالظبط؟ أنا مش شايف حاجة!
, ابتلعت ريقها وهي تجيبه بخفوت:
, -اللي طالع من وسط القصب!
, حرك أنظاره نحو ما أشارت بعينيها فرأى خيطًا رفيعًا من الدخان يندفع بطريقة مخيفة إلى حد ما من بين الحقول، توتر قليلاً، ولكنه جاهد ليحفظ على ثبات انفعالاته، فابتسم قائلاً بحذر:
, -تلاقيها شابورة!
, تعقدت تعبيراتها من رده الغير منطقي، وهتفت مستنكرة سذاجته:
, -شابورة ايه دي اللي هاتطلع في حتة واحدة بس!
, فرك طرف ذقنه بيده متابعًا بجمود:
, -متحطيش في بالك!
, نظر الصغير إلى ذلك الدخان فشعر بالهلع، فمد يده الأخرى ليلتقط كف والده هامسًا بفزع:
, -أنا خايف يا بابي!
, رد عليه مداعبًا:
, -ومين سمعك يا بني، جايز الحتة دي مليانة عفاريت، أنا سمعت إنهم بيطلعوا في الميعاد ده!
, شخصت أبصار بسمة على الأخير بعد عبارته تلك، وتدفق إلى عقلها الكثير من مشاهد أفلام الرعب الخاصة بالمناطق المهجورة والمظلمة وما تحمله من نهايات مأساوية مهلكة، جف حلقها بصورة كبيرة، وشعرت بتسارع دقات قلبها خوفًا، فالتفتت نحو دياب متوسلة بنبرة شبه مرتجفة:
, -بلاش الكلام لو سمحت!
, تعجب من تبدل حالها من العبوس والغضب إلى الذعر الملحوظ، ارتفع حاجباه بدهشة قليلة، وسألها مهتمًا وقد تشكل على ثغره ابتسامة عابثة:
, -هو إنتي بتخافي؟
, أجابته بخفوت شديد وهي تزدري ريقها:
, -أنا هاموت في جلدي!
, صدح صوتًا متحشرجًا قويًا من بين عيدان القصب متسائلاً بنبرة أخافت الجميع:
, -إنتو مين؟
, صرخت بسمة لا إراديًا من بين شفتيها:
, -عـفريت!
, فزع يحيى هو الأخر من صوته، وأرخى قبضته عن أبيه ليحتضنها صائحًا بهلع أكبر:
, -ماما، ماما!
, انتفض دياب في مكانه مفزوعًا من ذلك الشخص المريب الذي ظهر لهم من العدم، لكنه تمالك نفسه سريعًا حينما أمعن النظر في تفاصيله الدقيقة، كان رجلاً عاديًا يرتدي جلبابًا داكنًا وممسكًا في يده سلاحه المرخص الذي وجه فوهته نحوهم، بالإضافة إلى سيجارة عالقة بين شفتيه المشققتين، رمقه بنظرات محتقنة إلى حد ما مستنكرة طريقة ظهوره، وهتف مغتاظًا:
, -يخربيتك، قطعت خلفنا، إنت مين؟
, رد عليه الرجل متسائلاً بنبرة خشنة وهو يخفض سلاحه للأسفل:
, -إنتو اللي مين وبتعملوا ايه هنا؟
, وضعت بسمة يدها على صدرها تتحسس قلبها الذي بدأت نبضاته تخبو بعد تداركها للموقف، لكن جسدها المرتعش لم يسكن بعد، صاح دياب بحدة:
, -في حد يستخبى كده وسط القصب
, رد عليه الرجل بجمود وهو يجوب بأنظاره عليهم متفحصًا هيئتهم بدقة:
, -أنا غفير الأرض، مقولتوش إنتو مين؟
, أجابه دياب بامتعاض:
, -أنا أخو الأستاذ منذر حرب اللي ٥ نقطة
, قاطعه الرجل قائلاً بفتور:
, -ايوه العريس، مبروك!
, رد عليه دياب ساخرًا وهو ينظر نحوه بغيظ:
, -بعد جو الرعب ده مبروك، مالهاش لازمة
, سلط الرجل أنظاره على بسمة متسائلاً بنبرة أكثر خشونة:
, -وانتي مين يا أبلة؟
, رمقته بنظرات مزعوجة من أسلوبه الفج، وقبل أن تجيبه تعلق الصغير يحيى بها أكثر هاتفًا بخوف وهو يدفن وجهه في أحضانها:
, -مامي، شكله يخوف!
, اعتقد الرجل أن تلك الشابة هي والدة ذلك الطفل، فسألها بصوت آجش:
, -إنتي المدام؟
, أجابه دياب بنبرة قوية متعمدًا صرف انتباهه عنها:
, -كلمني أنا، أه هي المدام، وده ابني يحيى وكنت بأفرجهم على البلد! عندك اعتراض ولا حاجة؟
, رد الرجل ببرود:
, -شوفوها بالنهار، الدنيا ليل، والعتمة وحشة!
, علق سلاحه على كتفه مضيفًا بتحذير:
, -وجايز يطلع عليكم حد واد حرام كده ولا كده!
, نفخ دياب قائلاً:
, -ايوه، عندك حق!
, تابع الرجل بصوته المتحشرج:
, -سلملنا على العريس وباركله، بنت المرحوم رياض زينة البنات و****، فعلاً عرف يختار الأصل الطيب!
, هز دياب رأسه قائلاً:
, -**** يبارك فيك! يوصل حاضر!
, ثم أومأ بعينيه إلى بسمة مرددًا بنبرة ذات مغزى:
, -يالا يا مدام!
, احتدت نظراتها نحوه واضطرت مجبرة ألا تعلق عليه ريثما يبتعد ثلاثتهم عن المكان، وما إن اطمأنت من عدم ملاحقة ذلك الرجل لهما حتى عنفته بغيظ مكتوم:
, -مين دي اللي مدام؟
, رد عليها دياب مبررًا:
, -مش أحسن ما يغتالنا!
, زاد انعقاد ما بين حاجبيها بانزعاج واضح من طريقته في إعطاء نفسه الأسباب للتصرف كيفما يشاء في أمورها الخاصة، لاحظ الوجوم البادي عليها، فابتسم مازحًا:
, -اللي زي ده مخه مقفل، ومش هايستوعب أي حاجة تانية!
, تقوس فمه أكثر وهو يضيف بطريقة تهكمية مقلدًا صوت الرجل المتحشرج:
, -نتخانق في النور مش هنا، دي العتمة وحشة يا أبلة!
, انفجرت ضاحكة من طريقته الساخرة المحاكية للرجل، ولم تستطع ضبط نفسها، فواصلت ضحكاتها اللاهية، نظر لها بأعين لامعة محاولاً حفر تلك الصورة المشرقة لوجهها في مخيلته علها تهدأ من لوعة قلبه الذي يهواها بجنون ٦ نقطة!!
 
٧٥
أوشكت الأجواء الاحتفالية بالسرادق على الانتهاء بعد تلقي العروسين مجاملات مادية من كبار رجال البلدة الريفية كنوع من التعبير عن فرحتهم بتلك الزيجة الطيبة، وبالطبع لم يستطع أي من العروسين الاعتراض على التقاليد السائدة والمتبعة بينهم.
, مد منذر يده أمام العروس فأخفضت نظراتها نحوه متسائلة بعدم فهم:
, -في حاجة؟
, ابتسم لها وهو يجيبها بهدوء:
, -مش المفروض نقوم!
, تحرجت كثيرًا من رده رغم كونه طبيعيًا، إلا أنها باتت تخجل من أبسط الأمور معه، وبأنامل مرتجفة مدت يدها نحوه ليمسك بها برفق، ثم نهض واقفًا بهدوء تبعته هي راسمة على محياها ابتسامة مهذبة، تأبطت في ذراعه، وحدقت أمامها رامشة بعينيها لعدة مرات قبل أن تسير إلى الخارج، تعالت من حولهما أصوات الزغاريد المصحوبة بدقات الطبول والمزامير.
, هتف الحاج إسماعيل بنبرة عالية:
, -ما لسه بدري، ده احنا ناويين على عشا و٤ نقطة
, قاطعه طه قائلاً بجدية:
, -يدوم العز يا رب، بس احنا ورانا طريق سفر طويل
, أصر على بقائهم مرددًا:
, -ما تخليكوا بايتين هنا و٣ نقطة
, أشار بيده موضحًا:
, -يا ريت كان ينفع، بس الجماعة كلهم وراهم مصلحة متعطلة أديلها كام يوم، وإنت عارف ده بيقف علينا بخسارة!
, هز الحاج إسماعيل رأسه متفهمًا وهو يرد:
, -**** ييسرلكم الأمور!
, مد يده لمصافحة طه قبل أن يتحرك في اتجاه منذر مضيفًا بترحاب:
, -شرفتنا يا أستاذ منذر، ومش هانوصيك على عروستنا بقى
, لم يكن بحاجة إلى مثل تلك العبارات المؤكدة لأنه بالفعل حريص على أقل شيء يخصها، فالتفت نحو وجهها، وأطال النظر نحو قسماته المتوردة مبتسمًا وهو يقول:
, -انت بتوصيني على حتة غالية مني!
, زاد احمرار وجنتيها من غزله المتواري أمام أقربائها، فنكست رأسها بحياء ظاهر، بينما ربت الحاج إسماعيل على ذراعه قائلاً بهدوء:
, -**** يحميك لشبابك ويكتر من أمثالك
, تابع منذر مرددًا بامتنان وهو يشير بيده:
, -تسلم، أنا مش عارف أشكركم على الواجب اللي عملتوه معانا و٣ نقطة
, قاطعه قائلاً بعتاب لطيف:
, -دي أسيف بنتنا متقولش كده، و**** نزعل منك، وكل واحد في البلد هنا فرحانلها وعاوز يعمل معاها أحلى واجب
, -**** يخليكم ليها، أهل كرم! نشوف وشكم على خير
,
, وجه الحاج إسماعيل حديثه إليها بجدية مشيرًا بسبابته:
, -خدي بالك من جوزك يا بنتي، تحطيه في عينك، سمعاني؟
, رفعت وجهها في عينيه المحدقتين بها قائلة بخفوت خجل:
, -حاضر!
, لمحه منذر من على بعد بوجهه المتجهم وهو يرمقه بنظراته المغتاظة، فأراد أن ينبهه أنه متابع جيد لإيماءاته المزعوجة، فرفع من نبرة صوته وهو يناديه:
, -ايه يا حاج فتحي؟ مش ناوي تسلم علينا؟!
, امتعض وجهه على الأخير، فمنذر ليس بالخصم اليسير، وعرف كيف يأخذ منه ما يريد، لذا دنا منه هاتفًا بعبوس:
, -ودي تيجي!
, صافحه بفتور، ثم وضع يده على كتف أسيف مضيفًا:
, -مع السلامة، لو عوزتي حاجة انتي عارفة رقمي
, هزت رأسها بالإيجاب قائلة:
, -ماشي يا خالي
, أضاف منذر محذرًا بكلمات غامضة للجميع لكنها كانت مفهومة جيدًا بالنسبة له:
, -ماتنساش يا حاج فتحي تتابع موضوع بيت المرحوم، عاوزين نشوف مين ابن الحرام اللي حرقه!
, قوس فمه للجانب وهو يرد باقتضاب متجهم:
, -**** يسهل
, لوح منذر بيده عاليًا وهو يهتف بحماس:
, -نشوف وشكم على خير جميعًا
, رد عليه الحاج إسماعيل بود:
, -في رعاية ****، **** معاكو ويسلم طريقكم، شرفتونا!
, أحضر دياب السيارة أمام مدخل السرادق ليتمكن العروسين من ركوبها، وترجل منها هاتفًا بحماس:
, -يالا يا جماعة!
, ركض الصغير يحيى نحو أبيه قائلاً ببراءة وهو يجذبه من بنطاله:
, -بابي أنا عاوز أركب معاكو
, ابتسم له ماسحًا على رأسه، وعابثًا بوجهه مرددًا بحنو:
, -ماشي يا حبيبي!
, لحقت به أروى، وابتسم لأخيها هاتفة بإصرار:
, -وأنا كمان يا أبيه؟
, نظر لها بحيرة، فمقاعد السيارة لن تتحمل كثرة العدد الراغب في استقلالها، فرك رأسه مترددًا في الرد عليها، لكن حسم أخيه منذر الأمر قائلاً بجدية:
, -هاتهوم يا دياب معانا!
, هز رأسه وهو يمط فمه:
, -ماشي يا منذر!
, أشــار الصغير يحيى بيده نحو بسمة هاتفًا بمرح وقد زادت ابتسامته:
, -والمس كمان يا بابي!
, ارتفعت أنظاره تلقائيًا نحوها، فالتوى ثغره بابتسامة عابثة للغاية مرددًا لنفسه بصوت خفيض:
, -و**** لو ينفع أخدها في حضني، بس هي ترضى!
, انتبهت بسمة لإلحاح الصغير على ركوبها معه السيارة، فاعتذرت قائلة:
, -مافيش مكان يا حبيبي، أنا هاركب في الباص ده!
, ركل يحيى الأرضية بقدمه بعصبية واضحة عليه، وعبس بوجهه هاتفًا:
, -لأ أنا عاوزك معايا ماليش دعوة!
, يئست من محاولة إقناعه من صعوبة الأمر، لكنها تفاجأت بدياب يدعمه قائلاً:
, -خلاص هي تركب جمب العروسة، واحنا هنتصرف سوا!
, جمدت أنظارها عليه، فابتسم لها بمكر مشيرًا بيديه في الهواء وكأن الأمر قد صار مفروغًا منه، فلا حاجة بها للاعتراض الآن، اعتبرته نوعًا من التحدي، فلوت ثغرها مرددة بقوة:
, -وماله، هاقعد جمب بنت خالي!
, بدأ الجميع بعدها في اتخاذ أماكنهم بالسيارة، وبالفعلت جلست بسمة بجوار العروس التي احتلت منتصف المقعد الخلفي، وإلى جوارها جلس منذر مستمتعًا بقربها الملاصق له، أصر الصغير يحيى على الجلوس في حجر معلمته التي تعلق بها، ولم ترفض تحقيق أمنيته فضمته إليها، اتخذت جليلة المقعد الأمامي كمكان طبيعي لها، وجلست ابنتها في حضنها، مرر دياب عينيه على أوجه الجميع هامسًا بمزاح:
, -دي العربية قلبت مكروباص، ناقص أركب على السقف وألم الأجرة!
, ضرب كفًا بالأخر، واستعد لإدارة محرك السيارة مانعًا نفسه من الضحك أمامهم كي لا يعطي أي تبريرات لهم، وتولى طه المهمة الأخرى في التأكد من استقلال باقي المدعوين الحافلة التي استأجرها ليعود معهم من حيث أتوا.
, كانت كمن يجلس على مقعد مشتعل بالجمرات بجوار والدتها، فنظرت لها الأخيرة بتعجب وهي تسألها:
, -مالك يا بنتي، دايمًا كده لاوية بوزك ولا ٣ نقطة
, نظرت لها من طرف عينها مرددة بتبرم ساخط:
, -بأتحسر على ميلة بختي!
, انزعجت من طريقتها التهكمية في الإشارة إلى حياتها السابقة، فردت عليها بحذر:
, -كل واحد ونصيبه
, سألتها نيرمين بحدة طفيفة وقد استشاطت نظراتها:
, -واشمعنى أنا نصيبي يطلع كده؟
, -مقدر ومكتوب
, استاءت من والدتها لاستخدامها نفس العبارات المبررة لأي شيء، فصاحت بنقم صريح:
, -أهوو الكلام ده اللي بيفور دمي!
, شهقت عواطف مصدومة من سخطها على كل شيء، فحذرتها بوجه مكفهر:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، بلاش كده يا بنتي، ارضي بنصيبك وربنا هيراضيكي!
, ردت عليها بتهكم:
, -مافيش حاجة بتتغير، هافضل زي ما أنا!
, وضعت يدها على فخذ ابنتها ضاربة إياه عدة مرات بخفة وهي تقول:
, -**** يهديكي يا بنتي، فرجه قريب! ده كفاية إنه رزقك ببنتك، ورزق البنات واسع و٣ نقطة
, قاطعتها مرددة بإحباط:
, -افضلي ثبتي فيا بالكلام ده، وفي الأخر مش بأشوف غير الهم والغم!
, يئست من إقناعها بالتوقف عن إظهار سخطها، هي دومًا تصل معها إلى طريق مسدود، فأشاحت بوجهها بعيدًا عنها قائلة:
, -بأقولك ايه يا نيرمين السكة لسه طويلة، اذكري **** أحسن!
, حدقت في الفراغ أمامها بنظرات حقودة متمتمة من بين شفتيها بصوت خفيض:
, -كَلتها والعة بنت الإيه!
, ٤١ نقطة
,
, بدت متحرجة للغاية من التصاق جسدها به رغمًا عنها، وحاولت قدر الإمكان اختلاق مسافة ما بينهما لكن لا مجال لذلك، فالمقعد الخلفي بات ضيقًا، وأكثر ازدحامًا، وحركات الصغير يحيى مع بسمة تجبرها على الميل بجسدها للجانب لتفاديه، راقب ما تفعله بهدوء مزعوجًا من خجلها الزائد، فالأمر لا يستحق كل تلك التصرفات الحذرة معه، اعتقد في نفسه أنها مازالت مكروهة على تلك الزيجة رغم استشعاره العكس، فتوترت تعبيراته قليلاً، أدار وجهه للجانب ليحدق في الطريق المظلم بنظرات شاردة، حدث نفسه بتوجس:
, -**** يستر! أنا مش عاوز أخسرك يا أسيف!
, ضغط على شفتيه بقوة، فالخوف قد بدأ يتسرب إليه لمجرد التفكير في احتمالية انتهاء تلك الزيجة، تنهد بعمق مخرجًا من صدره زفيرًا مشحونًا مليئًا بالكثير من الأفكار المحبطة التي حاول عدم التفكير فيها مؤقتًا.
, وزع أنظاره عليها بين الحين والأخر وهو يقود السيارة بحذر، ظلت صورتها المبهجة وضحكاتها المرحة مع ابنه تخترق حواسه وتلهب مشاعره أكثر نحوها، يومًا بعد يوم تزداد رغبته فيها، هو ينتظر على أحر من الجمر استسلامها وإعلانها موافقتها على الارتباط بها، حلم تمنى حدوثه، وينتظر بترقب شغوف تحقيقه.
, شعرت بسمة بنظراته المختلسة نحوها، وتحاشت قدر الإمكان عدم التحديق فيه ولو مصادفة، لكن رغمًا عنها بحثت عيناها عن عينيه لتختطف نظرة عابرة منه، عاتبت نفسها لأنها تعطي لشخصه مساحة أكبر بعد رفضها الصريح له، لكن مواقفه معها تحرك فيها شيء ما لم تفسره بعد.
, ٤٢ نقطة
,
, استغرقهم الأمر عدة ساعات ليصلوا إلى وجهتهم النهائية، وعَمِد منذر إلى رؤية عروسه بمنزل عمتها لينفرد معها في حديث خاص، سبقته هي للأعلى بصحبة بسمة لتعاونها في رفع ثوبها على الدرجات، وانتظر هو بالأسفل لبرهة مع أخيه ريثما يتأكد من صعودها، حدثه دياب متسائلاً باهتمام:
, -هو في حاجة جدت؟
, هز رأسه نافيًا وهو يجيبه بغموض:
, -لأ، بس عاوز أتأكد كده من موضوع في دماغي!
, فرك دياب ذقنه قائلاً:
, -ماشي
, تابع منذر مضيفًا:
, -وصل انت باقي العيلة للبيت، وأنا هاحصلكم كمان شوية
, -تمام!
, ودع عائلته ملوحًا لهم بذراعه، ثم استدار بجسده للخلف ليحدق في الشرفة الخاصة بمنزل عمتها، سحب نفسًا مطولاً في صدره، حرره بعد لحظات ليدلف بعدها إلى مدخل البناية، أكمل صعوده بتريث حتى وصل إلى باب المنزل الذي كان مفتوحًا من أجله، رحبت به عواطف هاتفة بسعادة:
, -اتفضل يا بني، ده بيتك ومطرحك
, ابتسم هاتفًا بحرج طفيف:
, -شكرًا يا ست عواطف، معلش اعذريني ان كنت ٥ نقطة
, قاطعته صائحة بعتاب عابس:
, -أعذرك ايه، براحتك، دي أسيف مراتك وتقدر تكلم معاها، اتفضل ياا بني هي مستنياك جوا
, -متشكر
,
, جلست منزوية على نفسها بالأريكة البعيدة محاولة ضبط أنفاسها المضطربة، هو يريد الالتقاء بها منفردًا، وهي متوترة من مجرد التفكير في حديثهما بعد عقد القران، سمعت صوته المصحوب بوقع خطواته فزاد ارتباكها المترقب منه، أخفضت نظراتها وواصلت فرك أصابعها بتوتر كبير، ولج إلى الداخل مسلطًا أنظاره عليها، رغمًا عنه خفق قلبه بقوة لوجوده معها، تحققت رغبته واختلى بها أخيرًا في غرفة الضيوف، لكنه كان مزعوجًا نوعًا ما، حك مؤخرة رأسه مستصعبًا كيفية البدء في حديثه معها، أراد أن تنتهي تلك الليلة على خير، لكن لا مفر من وضع الأمور في نصابها الصحيح، فعاجلاً أو أجلاً سيخوض معها ذلك الأمر.
, استرسل متسائلاً بحذر كنوع من التمهيد لما يريد البوح به:
, -أخبارك ايه؟
, تنحنحت مجيبة بخفوت:
, -الحمد****
, دنا منها متابعًا:
, -اليوم كان طويل ومتعب
, ابتسم هامسة برقة:
, -ايوه، بس حلو!
, سلط عينيه اللامعتين عليها معمقًا نظراته نحوها، تجرأت هي الأخرى وبادلته نظرات مطولة، أليس من حقها الآن النظر إليه بعد أن صار زوجها؟ عفويًا تشكل على شفتيها ابتسامة صغيرة خجلة، لكنها كانت كافية لتحريك مشاعره، زاد الأمر صعوبة عليه، فتنهد بصوت مسموع مكملاً بانزعاج واضح:
, -أسيف أنا كنت ٤ نقطة
, استشعرت وجود خطب ما به، خاصة أن تعبيراته أصبحت أكثر تشنجًا، ونظراته صارت حادة بدرجة ملحوظة، فقاطعته قائلة بهدوء:
, -قبل ما تتكلم ممكن أقولك حاجة!
, تجمدت تعابيره وهو يرد بريبة:
, -اتفضلي
, أسبلت عينيها نحوه ضاغطة على شفتيها بخجل وهو يرد:
, -أنا عاوزة أشكرك على اللي عملته النهاردة
, استمع إلى ما تردده باهتمام كبير، فأضافت مبتسمة بامتنان حرج:
, -بجد انت حققتلي حلم اتمنيته، كنت مفكرة إنه مش هايحصل، بس.. انت عوضتني كتير عن غياب بابا وماما!
, مدت يدها لتمسك بكفه، فتفاجأ من حركتها تلك، وحدق فيها مدهوشًا بصورة كبيرة، رسمت على ثغرها ابتسامة أكثر صفاءً وهي تقول:
, -النهاردة حسيت إن أنا مش لوحدي، معايا عيلة كبيرة، الكل بيحبني وفرحان عشاني، إنت رجعتلي الإحساس ده تاني بعد ما فكرت إني خسرت كل حاجة! أنا مش عارفة أقولك ايه!
, كان مصدومًا من فعلتها تلك رغم كونها عادية، هي ممسكة بيده، أناملها تطبع بصماتها على كفه، ظن أنه يتوهم ما يراه، فأردف قائلاً بعدم تصديق:
, -انتي..!
, لمعت عيناها أكثر متابعة بنعومة:
, -انت وجودك فرق كتير معايا!
, باغتته بالاقتراب أكثر منه تاركة يده لتحاوطه بذراعيها محتضنة إياه برفق، فانفرجت شفتاه بذهول مصدوم، أسندت رأسها عليه لتستمع إلى دقات قلبه التي تسابقت بسرعة رهيبة من فرط الأدرينالين المتدفق بقوة إلى شرايينه، برقت عيناه في عدم تصديق، حتمًا ليس ما يحدث الآن حلمًا، إنه واقع حقيقي ملموس، هي تضمه، وتضع رأسها على صدره، بل تهمس له بعذب الكلام وأطيبه.
, أغمضت أسيف عينيها للحظة، وابتسمت بدلال هامسة:
, -شكرًا على إنك ظهرت في حياتي!
, نهج صدره أكثر من جملتها تلك، هو اعتراف ضمني أنها تحمل نحوه مشاعرًا ما، هو أحدث فارقًا معها بوجوده إلى جوارها، بدا في حالة انتشاء عجيبة، اكتملت سعادته اليوم، عاتب نفسه أنه استسلم للحظة لهواجسه التي لم يكن لها أساس من الصحة، وفسر بصورة خاطئة تصرفاتها الخجلة على كونه رغبة في الابتعاد عنه، وما الأمر إلى حياء مقترن بها.
, تحرك ذراعاه عفويًا حولها ليضمها هو الأخر إليه بقوة، وأسند طرف ذقنه على رأسها هامسًا لها بمشاعره التي ذابت في بوتقة حبها اللا محدود:
, -بأحبك يا أسيف!
, استجمعت شجاعتها لتبوح له بما أحسته، آن الأوان ليعرف مشاعرها نحوه، لا وقت أفضل من ذلك لتخبره بما ترددت في قوله مسبقًا، وخجلت من الاعتراف به قبل ذلك، ردت عليه بنبرة هامسة التقطتها أذنيه لتصيب سهام الحب قلبه في مقتل:
, -وأنا كمان ٧ نقطة !
 
٧٦
تصلب في مكانه محاوطًا إياها بذراعيه لبرهة غير مصدق أنها اعترفت له توًا بحبها له، سيل رهيب من المشاعر المتأججة تدفق في عروقه ليزيد من تمسكه بها، كبح بصعوبة مهلكة تلك الرغبة التي سيطرت عليه لأخذها معه، وباستياء كبير تنازل عن ذلك المطلب الجامح حتى يحين الموعد، تحسس ظهرها برفق، وتنهد بحرارة كبيرة محتفظًا بالصمت الذي بدا مناسبًا في ذلك الموقف الأسر.
, شعرت بما يختلج صدره من أحاسيس متنوعة، أهمها خفقان قلبه المتواصل الذي أكد لها حبه الشغوف بها، ابتسمت بارتياح مطمئن، حان الوقت لتترك العنان لفؤادها ليحلق في سماء الحب متحررًا وبلا قيود، أرخى منذر ساعديه عنها لتبتعد برأسها عن صدره محدقة فيها بأعينها المتوهجة بوميض الحب، رمقها بنظرة متيمة مليئة بالكثير قبل أن يحرك شفتيه ناطقًا:
, -**** يقدرني وأسعدك!
, حرك ذراعيه برفق ليلامس كتفيها ثم وضع قبضتيه عليهما ليخفضهما حتى أمسك بكفيها، رفعهما إلى فمه، وانحنى برأسه عليهما ليقبلهما قبلة طويلة متعمقة بث فيها أشواقه، ارتجفت أوصالها من فعلته تلك، مشاعر غريبة انتابتها أحدثت فيها ارتباكًا محببًا إليها، أسبل عيناه نحوها متابعًا بصوت العشاق الهامس:
, -بأحبك يا بنت رياض!
, اصطبغ وجهها بحمرة عظيمة جعلتها تستشعر تلك السخونة المتدفقة من وجنتيها، ابتسم أكثر لتأثرها بكلماته، وأضاف بنبرة جادة نوعًا ما:
, -ودلوقتي لازم تاخدي مهرك!
, قطبت جبينها مدهوشة من جملته الغامضة تلك، ورددت متسائلة بنبرة مرتابة:
, -مهري؟ بس أنا مطلبتش حاجة و٣ نقطة
, قاطعها قائلاً بإصرار وهو يعتدل في وقفته:
, -ده حقك الشرعي
, أرخى قبضتيه عن يديها ليدس يده في جيب سترته مخرجًا منه مظروفًا صغيرًا مغلفًا، تعقدت تعبيرات وجهها باستغراب حينما ناولها إياه، وبحيرة واضحة عليها قامت بفتحه لتقرأ ما فيه بتأنٍ، انفرجت شفتاها للأسفل معلنة عن دهشة عظيمة، كما ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة بيّنة، حدقت فيه متسائلة بعدم تصديق:
, -ده ايه ده؟
, أجابها بهدوء واثق وقد تقوس فمه للجانب لتبرز ابتسامة مغترة عليه:
, -ده حقك يا أسيف!
, زاد بريق عيناها وهي تسأله:
, -انت.. ازاي عملت كده؟
, أجابها بثبات:
, -طبيعي أردلك اللي ضاع منك
, تلعثمت الحروف في جوفها، وخرجت الكلمات من بين شفتيها بارتعاش وهي ترد
, -بس.. ده كتير و٣ نقطة
, قاطعها قائلاً بهدوءٍ حانٍ:
, -مافيش حاجة تغلى عليكي، المهم إنك معايا، ده كفاية عندي!
, أدمعت عيناها تأثرًا، لقد وهبها بصدق ما عجزت عن استرجاعه، انهارت مقاومتها سريعًا وبكت عفويًا، فانزعج من ذلك قائلاً:
, -ليه بس بتعيطي؟
, أجابته بصوت متهدج:
, -مش.. قادرة أصدق إن ده بجد!
, حاوط وجهها براحتيه، ومسح بإبهاميه دمعاتها المنهمرة على وجنتيها قائلاً:
, -لأ صدقي، أحلامك أوامر!
, قرب رأسها إليه منحنيًا عليه ليطبع قبلة على جبينها شعرت فيها بأنفاسها الحارة المتلهفة إليها، هي ظفرت بعد عنان وقسوة بما سيعوضها عن تلك الفترة التعيسة في حياتها.
,
, راقبتهما عواطف بنظرات حنونة شاكرة نعم **** على ابنة أخيها اليتيمة، كانت تخشى من مصيرها المجهول إن حدث لها شيء وبقيت هي بمفردها، تنهدت بارتياك كبير فقد رزقها **** بزوج محب سيحميها من تلك الشوكة التي يمكن أن تؤذيها، وعلى النقيض تمامًا كانت أعينها المحتقنة تكاد تحرقها كليًا لمجرد التطلع إليهما، كظمت غضبها في نفسها منتظرة رحيله لتثور في وجهها متيقنة أنها السارقة التي سلبته منها بقناع براءتها المزيف.
, مسح منذر على وجهها برفق مضيفًا بجدية لطيفة:
, -بيتهيألي الوقت كده اتأخر، ومايصحش أفضل هنا
, هزت رأسها هامسة بخجل:
, -أها
, تابع قائلاً بابتسامة عذبة:
, -إن شاء **** نظبط الأمور كلها، ونتجمع في بيت واحد قريب!
, خجلت أكثر من عبارته تلك، فأخفضت نظراتها متحرجة منه، فرك مؤخرة عنقه بتوتر طفيف، ثم مال عليها برأسه هامسًا:
, -تصبحي على خير
, عضت على شفتها السفلى قائلة بصوت خافت:
, -وانت من أهله يا أستاذ منذر!
, عقد ما بين حاجبيه مستنكرًا ردها الرسمي وهو يقول:
, -أستاذ منذر! بعد ده كله أستاذ، ينفع كده
, ارتكبت أكثر من عتابه اللطيف، وتعللت قائلة بتوتر عجيب:
, -ماهو أصل.. يعني٤ نقطة
, رد عليها بهدوء جاد:
, -مايصحش، شلي التكليف، احنا خلاص مرتبطين ببعض، يعني ينفع أناديكي آنسة أسيف؟
, حركت رأسها بالنفي هامسة:
, -لأ
, غمز لها مرددًا بمرح:
, -اشمعنى أنا بقى
, همست بخجل وهي ترمش بعينيها:
, -ماشي
, سألها عابثًا باستمتاع:
, -ماشي ايه؟
, أخفضت نبرتها على الأخير وهي تجيبه:
, -ماشي يا منذر
, فرك مقدمة رأسه مازحًا:
, -ماسمعتش حاجة، جايز الدوشة ملغوشة شويتين!
, ابتسمت له وهي تبادله نظرات دافئة، فتابع مؤكداً:
, -عاوزك تحافظي على الفستان ده لحد ليلة دخلتنا ماشي؟
, خجلت كثيرًا من تلميحه الصريح، ونكست رأسها بحياء من مجرد التفكير في أمر كهذا، تفهم موقفها قائلاً بابتسامة عذبة:
, -أشوفك على خير يا حبيبتي، سلامو عليكم!
, أمسك بكف يدها مجددًا، ورفعه إلى فمه ليودعها بقبلة صغيرة عليه، ثم أولاها ظهره منصرفًا من الغرفة، بقيت أعينها متعلقة به، مستشعرة تلك الدقات العنيفة التي تكاد تخرج قلبها من موضعه، تحرك في اتجاه عمتها متنحنحًا بخشونة وهو يقول:
, -متشكر يا ست عواطف، تصبحوا على خير!
, حانت منه التفاتة سريعة على وجه نيرمين المتشنج، فرأى عبوسًا واضحًا عليه، ورغم ذلك تجاهلها متحركًا نحو باب المنزل، اصطحبته عواطف مودعة إياه بود:
, -نورتنا يا ابني، مع السلامة!
, أغلقت الباب برفق خلفه واستدارت باحثة بعينيها عن ابنتها فلم تجدها، لكن صوتها الحاد المنفعل اخترق أذنيها لينقبض قلبها توجسًا مما سيحدث من شجار متوقع مع ابنة أخيها، أسرعت في خطواتها لتجدها قد اقتحمت غرفة الضيوف هادرة بصراخ متعصب:
, -عرفتي تلعبيها صح، ووقعتيه، طلعتي داهية!
, اغتاظت أسيف من أسلوبها الهجومي الغير مبرر عليها، فدافعت عن نفسها صائحة:
, -احترمي نفسك، ومتكلميش كده عني!
, لوحت نيرمين بذراعها في الهواء صارخة بتهكم:
, -الشويتين دول تقدري تضحكي بيهم على أي حد إلا أنا!
, تدخلت عواطف بينهما قائلة بتوسل:
, -خلاص يا بنات، اهدوا كده!
, صرخت فيها نيرمين بتشنج حاد:
, -لأ مش خلاص!
, دفعت والدتها بذراعها لتصبح في مواجهة أسيف مواصلة صراخها العنيف:
, -اشمعنى هي تاخد كل حاجة وأنا لأ؟!
, تحدتها أسيف بعصبية مدافعة عن نفسها:
, -وأنا خدت منك ايه؟
, استجمعت قوتها لتضيف عن عمد:
, -أنا بأحبه! سمعاني يا نيرمين!
, كركرت نيرمين ضاحكة بطريقة مستفزة لتتوقف فجأة عن الضحك هاتفة باستنكار ساخط:
, -بتحبيه؟ وده من امتى؟
, نظرت لها شزرًا قبل أن تكمل بوضاعة:
, -تلاقيكي بس بعتي نفسك بالرخيص، ماهو دفع فيكي كتير!
, لم تتحمل أسيف المزيد من عباراتها اللاذعة المسيئة إلى شخصها، فصرخت بها بانفعال كبير:
, -اخرسي!
, وضعت عواطف يديها على أذنيها صائحة بنفاذ صبر :
, -بس كفاية انتو الاتنين!
, هجمت نيرمين عليها محاولة انتزاع ثوب عرسها منها جبرًا وهي تصرخ بجنون:
, -الفستان ده كان لازم أنا اللي ألبسه مش انتي!
, تفاجأت من فعلتها المباغتة ومن هجومها الضاري عليها ورغبتها العارمة في تمزيقه عنوة، فجاهدت لإبعاد يديها عنها مرددة بصراخ:
, -سبيه، شيلي ايدك من عليه!
, تشبثت أكثر به منتوية نزعه غارزة أظافرها فيه وهي تقول بجموح:
, -انتي سرقتيه مني، ده بتاعي يا خطافة الرجالة!
, دفعتها أسيف بكل قوتها بعيدًا عنها صارخة فيها:
, -لمي نفسك!
, لكن لم تتركها الأخيرة بسهولة، بل استمرت في هجومها الضاري عليها، اقتحمت بسمة الغرفة على إثر صراخهما العنيف، فاندهشت من تلاحمهما الجسدي الشرس، فاندفعت بلا وعي نحوهما محاولة بيأس التفريق بينهما هادرة:
, -نيرمين كفاية كده!
, توجست أسيف من تلك الشراسة المنبعثة منها، وخافت كثيرًا من التمزق الوشيك لثوبها من شدة جذبه، فصاحت بهلع:
, -الفستان هيتقطع!
, انهالت نيرمين بسباب لاذع عليها مواصلة انتزاع أطرافه منها:
, -انتي حرامية، زبالة ٧ نقطة!
, التفت عواطف حول ابنتها واضعة يديها على كتفيها محاولة إبعادها عنها وهي تتوسلها:
, -كفاية يا نيرمين، مايصحش كده!
, لم يصمد الثوب كثيرًا أمام تلك الشراسة العنيفة فتمزقت بعض أجزائه وتشوهت معالمه الرقيقة، صرخت أسيف بهلع مصدوم مما حدث له، وهوى قلبها في قدميها صارخة ببكاء:
, -فستاني
, قبضت نيرمين على البقايا المقطعة بأناملها مرددة بحنق مغلول وهي تحدجها بنظراتها العدائية:
, -**** يحرق قلبك زي ما حرقتي قلبي ووجعتيني!
, انهارت قدمي أسيف، فجثت على ركبتيها مجهشة ببكاء مرير وهي تهتف بلا وعي:
, -أنا معملتش حاجة، معملتش حاجة!
, احتضنتها بسمة بذراعيها محاولة تهدئتها، ورمقت أختها بنظرات حقودة مستنكرة فعلتها الهوجاء معها غير عابئة بما خلفته من أثار نفسية سيئة عليها،
, تقطعت أنفاس أسيف وهي تردد متسائلة بحسرة متأملة ثوبها الممزق:
, -ليه مستكترة عليا أفرح؟ ليه؟
, أسندت بسمة رأسها عليها وهي تضمها أكثر مضيفة برجاء مستعطف:
, -اهدي يا حبيبتي، كله هايتصلح!
, قبلتها من رأسها متابعة بتبرير مزعوج:
, -هي كده أنانية! بتكره تلاقي حد غيرها فرحان!
, لم تعلق عليها أسيف وواصلت بكائها المحترق على ثوبها الذي فسدت، لم يكن بتلك الأهمية إلا عندما أوصاها منذر عليه وكأنه كنزه الغالي، ها قد خذلته في أول وعد طلبه منها، فبماذا ستبرر له تمزيقه؟ زاد بكائها المتحسر، وتحول وجهها من الإشراق للقهر والانكسار.
, ٤٤ نقطة
, اندفعت كالثور الهائج إلى داخل غرفتها واضعة يديها بقوة على رأسها الذي كاد ينفجر من شدة الألم المسيطر عليه بفعل ثورتها المهتاجة، أرادت أن تفتك بها، أن تنبش بلحمها كي تمزقها إربًا، كزت على أسنانها صارخة:
, -اشمعنى هي؟ نافوخي هاينفجر منها؟!
, أخرجت صرخة عنيفة من صدرها متابعة بصوتها الهادر:
, -اشمعنى أنا اللي أفضل طول عمري في القرف ومحدش يحبني؟ ليه هو حبها وأنا لأ؟
, فزعت الرضيعة من صراخها المتواصل، فبكت عفويًا من خوفها لكنها لم تكترث بها، أهملتها، وتحركت بانفعال في أرجاء غرفتها، تبعتها والدتها معنفة إياها بنبرة محتدة:
, -ايه اللي عملتيه ده؟
, التفتت ناحيتها صارخة باهتياج:
, -محدش يكلمني السعادي! سبوني في حالي!
, نظرت عواطف إليها باشمئزاز منفر، ثم تحركت أعينها نحو الرضيعة التي انفطر قلبها من البكاء الخائف، فخطت نحوها تضمها إلى صدرها وهي تقول بعتاب:
, -منك لله يا شيخة، عكننتي علينا كلنا!!
, قذفت نيرمين بكل ماهو موضوع على تسريحتها الخاصة ليتحطم أغلبه وهي تردد:
, -سيبوني لوحدي، سيبوني!
, نظرت لها عواطف بازدراء متمتمة:
, -حسبي **** ونعم الوكيل!
, خرجت من الغرفة تهدهد الرضيعة بعيدًا عن صياحها المرعب لها، فاندفعت نيرمين خلفها صافقة الباب بعنف لتستند بظهرها عليه لاطمة على صدغيها ووجهها بتحسر أكبر، فقدت أعصابها كليًا، فلتت زمام الأمور من يديها، ولم يعد باستطاعتها السيطرة على حالها، تحولت للشراسة والهياج، وبدا وجود الرضيعة معها منذرًا بخطر كبير، فكان تصرف والدتها هو الأسلم حاليًا.
, ٤٦ نقطة
,
, قضت أهم ليلة في حياتها تبكي على ذنب لم تقترفه كما اتهمتها علنًا، تسرب حبه إليها رويدًا رويدًا حتى تشبع قلبها به، ولم تجرؤ على الاعتراف به إلا حينما تأكدت من مشاعرها نحوه وبعد أن بات ارتباطهما رسميًا، فأصبح له مذاقه الخاص، لكن تلك المقيتة الجاحدة أفسدت يومها بكم الشتائم والافتراءات الباطلة متهمة إياها بجرم لم ترتكبه لتتحول ذكراها الحلوة إلى ليلة تعيسة تضاف إلى قاموس حزنها.
, حاولت بسمة التهوين عليها معللة أسباب تهورها المتعصب، لكنها رفضت الإصغاء لها، فأكثر ما قهرها هو تمزيق ثوب زفافها الذي أهداها إياه، لملمت بقاياه المقطعة معًا ووضعتهم في حقيبة بلاستيكية أسندتها في حضنها رافضة تركه، أشفقت عليها ابنة عمتها قائلة برجاء:
, -إن شاء **** هايرجع زي الأول وأحسن، احنا هاندويه عند الخياط و٣ نقطة
, قاطعتها أسيف بصوت متهدج باكٍ:
, -مش هايتصلح خلاص! ممكن تسيبني لو سمحتي!
, زاد نحيبها المتحسر عليه، أتعب قلبها شعورها بالخذلان لتفريطها في وعدها الأول له، بينما اعتقدت بسمة أنه نذير شؤوم حدوث ذلك الأمر عمدًا، لم يكن بيدها أي حيلة، فاكتفت بالصمت علها تهدأ وتستكين لحالها، رفعت عينيها المتورمتين من كثرة البكاء نحوها متسائلة بعجز:
, -ليه تكسر قلبي؟ أنا عملتلها ايه؟
, ضغطت بسمة على شفتيها غير قادرة على الرد بشفافية عليها، فأختها مخطئة بكل المقاييس، وتجاوزت حدود المقبول بكثير، هي وضعت الجميع في موقف محرج بدون داعٍ، وغلفت الأجواء الاحتفالية السعيدة بسحب الحزن الكثيفة.
, ضمت أسيف الحقيبة أكثر إلى صدرها، وأغمضت عينيها رافضة تركها من أحضانها، دثرتها ابنة عمتها بالغطاء محاولة التفكير في حل ما لتلك المسألة، أضاء عقلها بفكرة ما، ترددت للحظة في تنفيذها فعليًا لكونها شبه جريئة، لكنها ستساعدها لو قليلاً في التهوين عليها.
, خرجت من الغرفة بهدوء حذر موصدة الباب خلفها بعد أن رمقتها بنظرة أخيرة أسفة عليها، اتجهت إلى المطبخ ومعها هاتفها المحمول، ثم تلفتت حولها لتتأكد من هدوء الأجواء المحيطة بها، أخفضت نظراتها نحو شاشة هاتفها عابثة بأزراره، ووضعته على أذنها منتظرة بترقب الرد عليها، همست بصوت خفيض حذر:
, -ألو.. ديـــاب ٣٥ نقطة !!
,
, كان محدقًا في سقفية غرفته حاضنًا لابنه الصغير الذي غفا من الإرهاق على صدره، فأبى أن ينقله للغرفة الأخرى وبقى معه، تنهد بتعب لكن تأهبت حواسه بالكامل حينما صدح اسمها على شاشة هاتفه المحمول، انتفض فزعًا من نومته المريحة ليجيب على اتصالها قائلاً بتوجس:
, -بسمة!
, ردت عليه بهمس حذر:
, -انت صاحي؟
, سألها متلهفًا دون أن يترك لها مساحة للرد:
, -خير في حاجة حصلت؟ كلكم كويسين؟ في حد ٤ نقطة
, قاطعته مرددة بخفوت آمر:
, -ممكن تسكت لحظة وتسمعني!
, صمت مجبرًا ليعرف سبب اتصالها المريب في تلك الساعة المتأخرة قائلاً باقتضاب:
, -ماشي!
, سمع صوت زفيرها وهي تقول بهدوء:
, -أنا محتاجة منك خدمة
, رد عليها بلا تردد:
, -خير، قولي اللي عاوزاه على طول
, واصلت حديثها قائلة بغموض:
, -بص أنا عاوزاك تسأل أخوك كده بشطارتك عن المحل اللي جاب منه فستان الفرح
, عقد ما بين حاجبيه متسائلاً باهتمام:
, -ليه؟
, بدت نبرتها مضطربة نوعًا ما وهي تجيبه:
, -يعني، في مشكلة حصلت معاه واحنا محتاجين نشوف واحد شبهه بالملي
, -ممممم
, سألته بجدية حينما لاحظت صمته:
, -ها هاتعرف تعمل ده من غير ما يحس؟
, رد عليها مضيفًا بفضول:
, -مش أما أفهم بالظبط ايه اللي حصل عشان أعرف هاخشله من أنهو دخلة!
, أجابته بامتعاض وكأنها تستخف بقدراته:
, -مش هاتفرق يعني معاك، إنت بس٤ نقطة
, انزعج من طريقتها المستهونة به مرددًا:
, -لأ معايا جايز تفرق، منذر ممكن يشك من سؤالي و٣ نقطة
, لم يكن أمامها وقتًا للمجادلة، فردت مقاطعة على مضض:
, -بص هي نيرمين شدت مع أسيف والفستان اتقطع ساعة الخناقة!
, وضع دياب يده على رأسه مصدومًا مما قالته هاتفًا بذهول:
, -أوبا!
, تابعت قائلة بضيق:
, -وأسيف طبعًا زعلت عليه، وجايز تكون انهارت بسبب اللي حصل، أنا مش قادرة أوصفلك شكلها عامل ازاي دلوقتي، فأنا بأحاول أشوفلها بديل قبل ما الموضوع يكبر أكتر من كده!
, هز رأسه متفهمًا وهو يعبث بخصلات شعره:
, -أها، تمام!
, سألته بجدية متصلبة:
, -المهم هاتعرف تتصرف ولا لأ؟
, تردد لوهلة في إيجاد طريقة ملائمة لحل تلك المعضلة في أسرع وقت، لذا أجابها بحيرة طفيفة فاركًا طرف ذقنه:
, -هاجرب
, شعرت باحتمالية رفضه لمساعدتها فأردفت قائلة:
, -لو مش هاتقدر قول وأنا٤ نقطة
, قاطعها منزعجًا من تسرعها الدائم:
, -يا ستي اصبري على رزقك شوية!
, نفخت بصوت مسموع مرددة:
, -ماشي، بس يا ريت في أسرع وقت!
, رد عليها بامتعاض مستنكر:
, -النهار له عينين، مش معقول هاروح أصحيه دلوقتي وأسأله عليه، ده أنا كده بأقوله شك براحتك!
, هتفت قائلة بتنهيدة:
, -في دي عندك حق!
, ابتسم لنفسه بغرور مضيفًا بنبرة موحية:
, -أنا طول عمري عندي حق بس اللي يحس!
, استشعرت المغزى من كلماته المتوارية، فتنحنحت بخفوت مكملة بجمود زائف:
, -احم.. عمومًا ابقى عرفني على طول أول ما يقولك
, -أكيد طبعًا
, -كمان اعرفلي المقاس وسعره، اوكي؟
, هز رأسه بالإيجاب وهو يسألها بمداعبة طفيفة:
, -طيب، حاجة تانية يا جميل؟!
, ردت بجمود مانعة إياه من مواصلة طريقتها تلك في الحديث معها:
, -لأ، وسوري إن كنت عطلتك، شوف وراك ايه
, أراد المماطلة معها عله يستميل عقلها ناحيته فيرق قلبها إليه، لذلك توسلها برجاء مهذب:
, -ماتخلينا سوا نحكي فـ٤ نقطة
, قطعت عليه أحلامه الوردية هاتفة باقتضاب صارم:
, -سلام!
, تفاجأ بها تنهي المكالمة معه دون أي مقدمات، فأبعد الهاتف عن أذنه ليحدق في شاشته مذهولاً من أسلوبها الفظ، امتعض وجهه باستنكار واضح مرددًا لنفسه:
, -في كده!
, ٤٧ نقطة
, تنفست الصعداء لعدم اكتشاف أمرها وهي تحدثه سرًا، وتسللت على أطراف أصابعها عائدة إلى الغرفة لتطمئن على أسيف هامسة لنفسها بنبرة متفائلة:
, -يا رب تظبط معايا!
, ولجت بسمة بحذر للداخل مسلطة أنظارها على أسيف التي بقيت على وضعيتها تلك لا تحرك ساكنًا، اقتربت أكثر منها لتتفقدها، فوجدتها قد غفت وعبراتها تبلل وجنتيها، مسحت على وجهها برفق هامسة:
, -كل حاجة هاتبقى كويسة إن شاء ****!
, انحنت على جبينها لتقبلها بنعومة قبل أن تزيح بحذر ما علق من دمعات موجوعة بأناملها.
, ٣٨ نقطة
,
, فكر طوال الليل في طريقة تمكنه من استدراج أخيه في الحديث دون أن يثير ريبته ليعرف منه اسم المتجر الذي اشترى الثوب منه، فقد اعتبر المسألة أمرًا هامًا، فإن نجح في إنجازها سيحظى بفرصة طيبة عند حبيبته، ستتأكد حينها أنها يمكنها الاعتماد عليه في أصعب الأمور وأيسرها، بإرهاق واضح غفا قليلاً مستصعبًا النوم وقد أنهك عقله من كثرة التفكير، ومع إشراقة شمس اليوم نهض باكرًا مستعدًا لسؤاله.
, استغرب جليلة من وجود ابنها بالصالة في تلك الساعة المبكرة، فاقتربت منه مدققة النظر في وجهه المرهق قائلة:
, -حبيبي يا ابني! هو انت لسه صاحي؟
, أجابها بصوت شبه متحشرج:
, -لأ يا امي، نمت وقومت
, أمعنت النظر في تلك الهالات السوداء المتشكلة أسفل جفنيه، وكذلك في علامات التعب البادية على ملامحه، فردت بتوجس:
, -بس وشك تعبان وعينيك حمرا، أوعى يكون فيك حاجة ومش عاوز تقولي!
, هز رأسه نافيًا وهو يقول:
, -لأ يا ستي، أنا كويس
, -يا رب دايمًا يا حبيبي،
, دفعتها غريزتها الأمومية للسؤال بفضول:
, -طب ايه اللي مصحيك كده؟
, رد مقتضبًا في الحديث:
, -مافيش
, غمزت له قائلة بمكر:
, -يا واد، ده أنا أمك وعارفاك!
, تأكد أنه لن يسلم من إلحاحها المتواصل لمعرفة الأسباب التي جعلته يظل مستيقظًا في ساعة مبكرة كتلك، هي والدته، وهو يحفظ تصرفاتها عن ظهر قلب، فتنهد قائلاً باستسلام:
, -كنت عاوز أسأل منذر في حاجة كده، إن فلحت معاه جايز قلبها يرق!
, تابعت متسائلة بابتسامة عابثة:
, -مين دي؟
, أجابها بعبوس:
, -اللي دماغها أنشف من الحجر!
, أخفت جليلة ضحكة متسلية مرسومة على ثغرها بوضع يدها أمام فمها وهي ترد:
, -أها، بسمة!
, -ايوه
, سألته بفضول أكبر:
, -هي عاوزة ايه؟
, رد باقتضاب غامض:
, -حاجة عادية
, أصرت على معرفة الرد على سؤالها مضيفة بإلحاح أكبر:
, -اللي هي ايه؟
, رد عليها مستنكرًا أسلوبها الفضولي المكشوف:
, -مش مريحة نفسك يا حاجة جليلة
, هتفت مبررة:
, -مش بأطمن عليك، جايز ٣ نقطة
, قاطعها بجدية قبل أن تستنتج أمورًا وهمية من مخيلتها:
, -ماتقلقيش، دي بس عاوزة تعرف اسم المحل اللي منذر جاب منه فستان مراته!
, هتفت مبدية إعجابها بالثوب:
, -أخوك طلع ذوقه حلو، الفستان كان جميل عليها و****!
, أراد صرف انتباهها عنه كي يركز مع أخيه الذي أوشك على الخروج من غرفته بين لحظة وأخرى، فابتسم لها طالبًا بود:
, -ماتكسبي فيا ثواب يا أمي وتعمليلي فنجان قهوة أظبط بيه دماغي
, ربتت على كتفه مرددة بحنو:
, -من عينيا يا ابني!
, -**** يباركلي فيكي!
, تابعها بأنظاره وهي تتجه نحو المطبخ، فاسترخى في جلسته مكملاً تحديقه في باب غرفة أخيه، بعد برهة ولج منذر خــارج غرفته متجهًا نحو المرحاض فتفاجأ بدياب مستيقظًا على غير عادته، دنا منه متسائلاً بغرابة:
, -مش مصدق عيني، دياب صاحي بدري كده، أخيرًا عشت وشوفت اللحظة دي!
, ابتسم له ابتسامة باهتة وهو يرد:
, -الحمد****
, تابع منذر قائلاً وهو يلف المنشفة حول عنقه:
, -يا رب تداوم على كده
, حك دياب رأسه مترددًا في مفاتحته، فأخيه ليس بالساذج لتنطلي عليه مثل تلك الأسئلة دون أن تثير في نفسه شكوكًا ما، وبفرض نجاحه عليه أن يبدو عقلانيًا متأنيًا في حديثه، تنفس بعمق عاقدًا العزم على سؤاله، صاح قائلاً بجدية:
, -بأقولك يا منذر
, انتبه له الأخير فالتفت ناحيته هاتفًا باقتضاب:
, -ايوه!
, تمط بذراعيه مدعيًا التثاؤب وهو يسأله بفتور زائف:
, -هو فستان مراتك ده جبته منين؟
, أثارت جملته تلك فضوله بدرجة كبيرة، خاصة أنه لم يهتم مسبقًا بالسؤال عما له علاقة بثياب النساء، لذلك رد متسائلاً وهو يتفرس في وجهه بنظرات قوية:
, -بتسأل ليه؟
, لوهلة بدا مرتبكًا أمامه من طريقته تلك، فخرج صوته مضطربًا بصورة خفيفة وهو يقول:
, -هه، يعني عاجبني شكله وبأفكر أبقى أجيب من نفس المحل لما أخطب إن شاء ****!
, بدا غير مقتنع بإجابته المريبة تلك، فرد بجمود:
, -لما **** يسهلك أنا هاجي معاك!
, ألح عليه دياب مبتسمًا بسخافة:
, -يا سيدي قولي، مش هايخسر حاجة معاك، أهوو تفيد أخوك برضوه!
, -ماشي
, التوى ثغره بابتسامة متباهية لكونه قد نجح مؤقتًا في تنفيذ خطته، ردد بين نفسه بتفاخر مغتر:
, -اشطا، كده بسمة هاتفرح، ده العملية طلعت سهلة أوي!
,
, في تلك اللحظة خرجت والدته من المطبخ حاملة صينية صغيرة وضعت بها فنجان القهوة الخاص به، سارت نحوه متسائلة باهتمام:
, -ها يا دياب عرفت منه اسم المحل والمقاس بتاعها ولا لسه؟
, نظر لها مصدومًا من عبارتها الأخيرة التي جعلت منذر يرتاب سريعًا من سؤالها الغير مريح، ضاقت أعين دياب مضيفًا باستنكار:
, -متشكر يامه، فعلاً الأم ما بتسترش!
, وضع منذر يده على كتف أخيه هاتفًا بصرامة:
, -في ايه يا دياب؟
, ابتسم ببلاهة وهو يجيبه:
, -ولا حاجة خالص!
, ضغط على كتفه بقبضته متابعًا بحدة طفيفة:
, -دياب، شكلك مش مريحني!
, فرك مؤخرة عنقه قائلاً بتوجس:
, -يا عم ماتحطش في بالك، ده كله تمام و٤ نقطة
, صاح به الأخير بنفاذ صبر وقد قست ملامحه كليًا:
, -ماتلفش عليا، خشلي دوغري!
, تيقن أن أخيه لن يكف أبدًا عن سؤاله حتى يحصل منه على الجواب الكافي له، فرد عليه متوسلاً:
, -طيب، بس أمانة عليك ما تجيب سيرتي في الليلة دي، أنا كنت عاوز أخدم و٣ نقطة
, هدر بانفعال آمر:
, -انجز!
, ضغط على شفتيه مرددًا باستسلام:
, -ماشي!
, تبلدت تعبيرات منذر حينما عرف السبب الحقيقي وراء تساؤلات أخيه الغامضة، وزادت قسوة نظراته عندما علم أن وراء تلك المشكلة نيرمين، أغضبه تعمدها إفساد ليلة زوجته المميزة، خاصة أنه يعرف مدى حساسية أسيف تجاهها، صاح هاتفًا بحدة:
, -ملكش دعوة بالموضوع ده خالص، أنا هاتصرف فيه!
, انتاب دياب القلق من نبرته المهددة، فاعترض عليه بتوجس:
, -بس يا منذر ٤ نقطة
, قاطعه بصرامة أشد وقد أظلمت نظراته:
, -سمعتني! ده يخص مراتي
, لم يضف المزيد، بل تركه واقفًا في مكانه متجهًا نحو المرحاض وهو يبرطم بكلمات مزعجة نازعًا عن عنقه المنشفة القطنية، وضع دياب يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة وهو يردد لنفسه بإحباط:
, -كده الموضوع فكس معايا!
, ٤٢ نقطة
, كانت تتصرف بصورة طبيعية كمن لم ينتزع فرحة أحدهم عمدًا بالأمس، فأثارت انزعاج بسمة التي ظلت ترمقها بنظرات مزدرية متجنبة الحديث معها علها تشعر بفداحة خطئها، ولكن خاب أملها، فنيرمين لم تكترث بها، وبدت سعيدة بتنغيص ليلة تلك البائسة وتكديرها خاصة حينما رفضت أسيف الخروج من الغرفة أو تناول الإفطار.
, تمنت لو امتلكت أختها قلبًا لينًا لشعرت بمعاناة غيرها، تحركت من مكانها مبتعدة عنها، فوجودها معها في مكان واحد يثير رغبتها في المشاجرة، لذلك الأفضل لها حاليًا تجاهلها علها تصفو منها، قرع الجرس فانتبهت له نيرمين، ضبطت حجابها على رأسها وهي تخطو نحو باب المنزل قائلة ببرود:
, -ثواني يا اللي بتخبط، أنا جاية أهوو!
, ارتفع حاجباها للأعلى حينما فتحته ورأت منذر بشموخه المهيب أمامها، انفرجت شفتاها مرددة:
, -سي منذر!
, استشاطت نظراتها منها تلك المقيتة غليظة القلب التي تتعامل ببرود وكأنها لم تتسبب في تعاسة حبيبته، زاد إظلام عينيه من طريقتها المستفزة خاصة حينما ابتسمت له متعمدة إثارة أعصابه التي كانت تشتعل غيظًا منها، أخرجته من تفكيره الانتقامي عندما رددت بدلال:
, -منورنا يا سي منذر، خطوتك بقت ٤ نقطة
, وقبل أن تكمل جملتها للنهاية صاح بها بنبرة أجفلت جسدها:
, -عملتي ايه في مراتي؟!
, شحب لون وجهها سريعًا من صوته المخيف، وتراجعت مسرعة للداخل رغم بقاء عينيها مثبتة عليه، تحرك بثبات نحوها متابعًا بنبرته الغاضبة وهو يشير بيده مهددًا:
, -مش أنا حذرتك مالكيش دعوة بيها!
, ازدردت ريقها بخوف بائن، وقبل أن تفكر في الهرب منه، قبض على ذراعها بيده، شهقت مرعوبة منه، سببت نظراته المهددة بإحراقها حية الرعب لها، شعرت بقوة قبضته المعتصرة لذراعها، فتألمت وهي تجيبه بتلعثم :
, -أنا.. أنا
, هزها بعنف كبير صارخًا بها:
, -انطقي، ليه عملتي كده؟
, فهمت على الفور أنه لم يأتِ في زيارة ودية بحكم كونه زوجًا لابنة خالها، لكنه جاء للانتقام منها بسبب ما فعلته معها بالأمس، ارتعش جسدها فزعًا منه، وجف حلقها تمامًا من مجرد التفكير فيما سيفعله بها.
, أنقذها من انتقامه المهلك صوت والدتها المرحب:
, -أهلاً يا بني، نورتنا
, أرخى قبضته مضطرًا دافعًا إياها بغضب بعيدًا عنه، ثم استدار بجسدته ناحيتها متسائلاً بتشنج:
, -فين أسيف؟
, لاحظت حدته معها، فاستشفت سريعًا سبب غضبه دون حاجتها للتخمين، لذا أجابته بلا تردد:
, -نايمة جوا يا ابني!
, رد عليها بنبرة آمرة:
, -ناديلها يا ست عواطف، عاوز أتكلم معاها دلوقتي!
, هزت رأسها بالإيجاب قائلة بتوتر:
, -حــ..حاضر
, التفت برأسه ناحية نيرمين التي كانت تفرك ذراعها مخففة حدة الألم المسيطرة عليه، صاح بها مهددًا بعدوانية مهلكة:
, -اخفي من وشي أحسنلك، لأني قسمًا عظمًا لو اتسابت عليكي ما هخلي فيكي حتة سليمة، يالا غوري!
, انتفضت في مكانها مذعورة من عدائيته المخيفة، فأدارت جسدها مهرولة بقدميها لتختفي من أمامه قبل أن يتهور عليها وينفذ تهديده بها.
, راقبته بسمة من المطبخ رافضة التدخل في هذه المسألة، فأختها تستحق ذلك عن جدارة، هي علمت على الفور مما رأته أن دياب فشل في مهمته التي طلبتها منه، وقدوم أخيه في تلك الساعة دليل صريح على معرفته بكل شيء، هزت رأسها نادمة على لجوئها إليه في وقت الضيق، خاب رجاؤها معه مرة أخرى.
, ٤٣ نقطة
,
, مالت عليها عمتها محاولة إقناعها بالنهوض من الفراش لمقابلته لكنها رفضت بشدة، كيف تقابله وقد أخلت في أول وعودها معه رغم بساطته؟ كيف تبرر له فشلها في الحفاظ على ثوب زفافها؟ أجهشت بالبكاء الحارق مغمضة عينيها بقوة وهي ترد:
, -لأ، قوليله مش طالعة، مش عاوزة أقابله!
, زاد تمسكها بالحقيبة البلاستيكة رافضة حتى تركها من أحضانها، نظرت لها عواطف بإشفاق مرددة بتوسل:
, -معلش يا بنتي، هو مصمم يشوفك
, أولتها أسيف ظهرها هاتفة بنواح:
, -خليه يمشي يا عمتي، عشان خاطري خليه يمشي!
, يئست من إقناعها بالعكس، فهزت رأسها مستسلمة لبكائها الذي يحرك القلوب، وخطت نحو الخارج محاولة التفكير سريعًا في حجة مقنعة لتبرر له سبب رفضها.
, لم يكن بحاجة إلى تفسير تعابيرها المتوترة حينما جاءت إليه تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، هتف بصرامة غير قابلة للنقاش:
, -أنا عاوز أشوف مراتي، تسمحيلي ادخلها الأوضة!
, شهقت مصدومة من طلبه المفاجئ مرددة بذهول:
, -تـ.. تدخل عندها؟
, عقد ما بين حاجبيه بشدة قائلاً بنبرة قوية ذات مغزى:
, -هي مراتي ومن حقي أخدها دلوقتي وامشي! بس أنا ماشي بالأصول للأخر
, تفهمت مقصده الحذر، والذي كان يتضمن نوعًا من التهديد بين طياته، فردت بحذر:
, -ايوه، بس هي ممكن آ٣ نقطة
, قاطعها بصلابة جامدة دون أن تتبدل تعبيرات وجهه المشدودة:
, -أنا هاتصرف معاها!
, كانت مضطرة للقبول بطلبه المشروع، فهي لن تستطيع منعه عما يريد خاصة أنها ترى بوضوح انفعاله المهدد إن أظهرت العكس، تقوس ثغرها بابتسامة باهتة قائلة:
, -وماله يا ابني، اتفضل..
, أشار لها بكفه مرددًا بشراسة خفيفة:
, -أنا عارف السكة كويس! خليكي مرتاحة!
, ابتلعت عواطف ريقها هامسة بتوجس كبير:
, -استر يا رب!
, ٤١ نقطة
,
, ابتلت الوسادة بعبراتها الغزيرة بعد أن انخرطت في البكاء مجددًا معاتبة نفسها بقسوة لتراخيها في الحفاظ على أمانته، استدارت للجانب مولية ظهرها للباب وهي تئن بحسرة، زادت شهقاتها مع انهمار دموعها وهي تتشبث أكثر بالحقيبة البلاستيكة، استمع إلى صوتها وهو يدنو من غرفتها فاعتصر قلبه ألمًا عليها، وقف عند العتبة محاولاً ضبط انفعالاته قبل أن يلج إليها، هو مزعوج لتلك الحالة التي وصلت إليها، لا يعبأ بكون الثوب قد تمزق من عدمه، المهم عنده ألا تتألم أو تبكي مهما حدث، دق الباب الموارب بخفة مستئذنًا بالدخول، لكنها لم تنتبه له، فتجرأ وفتحه ليجدها على تلك الوضعية.
, سحب نفسًا مطولاً حبسه لثوانٍ قليلة في صدره مانعًا نفسه من التهور والعودة للفتك بتلك التي جعلتها تعاني بقسوة، لفظه دفعة واحدة وهو يتحرك بخطوات شبه متعجلة نحو فراشها، بدا صوت بكائها واضحًا، لكن كلماتها المتقطعة كانت مبهمة بالنسبة له حينما قالت:
, -ضاع مني.. معرفتش أحافظ عليه٣ نقطة هو.. كان٣ نقطة ده..
, دار حول الفراش ليصبح في مواجهتها، جمد أنظاره المحتقنة على وجهها الباكي، فرأى ذلك الحزن الكبير الذي يسيطر على كل قسماتها، كانت أعينها متورمة، وأنفها منتفخًا وملتهبًا من كثرة البكاء، زاد ألم قلبه من رؤيتها هكذا، تحركت عيناه نحو تلك الحقيبة القابضة عليه، ولمح أطراف الثوب تتدلى من فتحته، خمن سريعًا ماهيته.
, لم يطرأ بباله مطلقًا أن تنهار هكذا لمجرد تمزق الثوب، أدرك مدى أهميته عندها لكونه أوصاها فقط عليه، لم يكن في نيته حينما طلب منها ذلك الأمر سوى التلميح برغبته في التعجيل بزفافهما ليقينه بأنها ستخجل منه وتتعلل بأي أعذار لتؤجل الأمر إن أعلن مقصده صراحةً.
, وخزة عنيفة ضربت صدره بقوة لمشاركته بصورة غير مباشرة في إيلامها، لو كان يعرف بنوايا نيرمين الدنيئة لما فكر في ذلك، جثى على ركبته أمامها، ومد يده نحو كفها ليضعها عليه هامسًا لها:
, -حقك عليا
, توهمت أنها تسمع صوته، فردت معتذرة:
, -معرفتش أحميه منها، غصب عني ٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بحدة:
, -محروق أبوه ده فستان اللي يعمل فيكي كده!
, تأكدت من نبرته القوية، لم تكن تخيلات اختلقها عقلها من شدة إحباطها كوسيلة هروبية للاعتذار منه، فتحت عينيها ببطء لتحدق فيه، رأت نظراته قريبة للغاية منها، نظرات طمئنتها، وبثت في روحها المزعوجة الأمل من جديد، شعرت بلمسات أصابعه الحنونة على كفها، رمشت بعينيها مزيحة تلك العبرات التي تغرق مقلتيها مرددة بصوت باكٍ:
, -إنت هنا؟
, مسح دمعاتها بيده الأخرى عن وجنتها قائلاً بصوت خفيض وهو يبتسم لها:
, -ايوه يا أسيف، أنا جمبك!
, ارتجفت يداها وهي تتابع بأنين:
, -الفستان ٣ نقطة
, وضع إصبعه على فمها مانعًا إياها من مواصلة الحديث هامسًا بصرامة:
, -انسيه، مش عاوزه خالص!
, ارتعشت شفتاها أكثر وهي تبرر له بحزن:
, -هي.. كانت٣ نقطة
, أمرها بصلابة رغم خفوت صوته:
, -خلاص، اللي حصل حصل!
, اعتدل واقفًا في مكانه محدقًا فيها بنظرات مطولة، جلس إلى جوارها على طرف الفراش، وحرك يديه على ذراعيها ليجذبها منهما نحوه، ضمها إلى صدره، فاتكأت برأسها على كتفه دافنة وجهها فيه، لف ذراعيه حول جسدها لتشعر بقوة ضمته لها، مسح بيده على شعرها المكشوف قائلاً بجدية:
, -جهزي نفسك يا حبيبتي، أنا هاظبط الوضع عندي!
, استكانت أنفاسها المتهدجة معه، فتابع بثبات عاقدًا العزم على إنهاء ما بدأه:
, -أنا عارف إن لسه قدامنا وقت عشان أخلص شقتي وحاجتي، بس كل ده مش مهم، احنا خلال كام يوم هنتجوز عند أهلي، والشقة تجهز على مهلها!
, ضاقت نظراته أكثر حتى باتت حادة للغاية وهو يكمل بصرامة:
, -بس استحالة تفضلي هنا معاها ٩ نقطة !!
 
٧٧
انهيارات متعاقبة شهدها معها ووقف فيها إلى جوارها حتى تستعيد ثباتها وتعاود النهوض على قدميها من جديد، أصعبهم كان رحيل أمها، وأقساهم كان الطعن في سمعتها، وأكثرهم وجعًا تمزيق ثوب عرسها، كل تلك العلامات الفارقة في حياتها أعطته هو مكانة خاصة في قلبها، تلك المكانة التي لم ولن يطأها أحد من قبله ولا بعده، تمكن بمواقفه الرجولية المختلفة الاستحواذ على كيانها، تغلغل في خلايا عقلها فتشبعت به حتى بات مسكنها لأي أوجاع محتمل أن تؤذيها، وباتت الشوكة بالنسبة له تشكل عقبة خطيرة عليه إزاحتها قبل أن توخزها مصادفة فتتألم.
, حب ولد بين صدامات جدلية وصراعات فكرية، بين عناد مُلح وتحدٍ مستمر، حب اشتعلت جذوته في قلبيهما معًا حتى تحولت إلى شرارة أضاءت درب سعادتهما، فلم تكتمل فرحته إلا بها ومعها.
, أبعد رأسها عن صدره ليحدق بعمق في عينيها الدامعتين قائلاً بثبات جاد:
, -أنا عارف إن الوقت مش هيسعفنا نخلص فيه كل حاجة، بس كوضع مؤقت أنا هاطلب منك٤ نقطة
, صمت متعمدًا ليثير انتباهها أكثر، ثم أكمل بتأنٍ:
, -نتجوز في بيت أهلي!
, تعقدت ملامح وجهها من طلبه المفاجئ، وحدقت فيه بنظرات جامدة مشدوهة بما تفوه به، لاحظ التغيرات الطارئة عليها، فطمئنها مضيفًا بهدوء:
, -أنا مش عاوزك تخافي، وأوعدك خلال شهرين تلاتة بالكتير هايكون بيتك جاهز بكل حاجة نقصاه، ولو عاوزة ضمانات بده معنديش مانع!
, أخفضت أعينها بعيدًا عن نظراته المتخللة لها مرددة بارتباك:
, -هــاه، مش كده٣ نقطة
, أحاط وجهها براحتيه ماسحًا ما تبقى من عبرات مبللة لوجنتيها هاتفًا بنبرة صادقة:
, -محدش هيضايقك ولا هيدوسلك على طرف، إنتي هاتفضلي معززة مكرمة عندي، خديها مني كلمة!
, ارتعش جسدها من لمساته الحنون على بشرتها، فأغمضت جفنيها هامسة بحرج كبير:
, -بس أنا٣ نقطة
, رد مقاطعًا بصوت رخيم:
, -وافقي انتي بس وأنا هاعمل كل حاجة عشان ماتحسيش بالفرق!
, تجمدت أنظارها على أطراف ثوبها الممزق المتدلية من الحقيبة، فحدق فيما شردت فيه، أرخى يده عن صدغها ليمسك به قائلاً بنبرة مزعوجة:
, -والفستان ده ارميه
, قبضت عليه أكثر، ثم رفعت عينيها في وجهه قائلة باعتراض:
, -أنا وعدتك أحافظ عليه، و٣ نقطة
, جذبه بقوة من يدها موضحًا بجدية:
, -أنا مايهمنيش الفستان على أد ما يهمني سعادتك، واللي يخليكي تنزلي دمعة واحدة من عينك مالوش لازمة عندي!
, ظلت أنظارها مثبتة على وجهه، فابتسم لها مضيفًا بتنهيدة تحمل الكثير من الأشواق والرغبة:
, -أسيف أنا بأحبك ومش مستحمل حاجة عليكي!
, داعب وجنتها بإبهامه بحركة ثابتة ابتسمت بحياء على إثرها، عاد تورد بشرتها من جديد، ولمعت عيناها ببريق مشرق، تنهد بحرارة مقاومًا مشاعره التي تحثه على التودد أكثر معها، وقبل أن يعبث هوى نفسه بعقله انتبه لصوت عواطف الصائح:
, -**** يسعدك يا ابني!
, أبعد يده برفق عن وجهها ملتفتًا نحوها وهي تتابع بامتنان:
, -مش عارفة أقولك ايه، الحمد**** إنها قامت واتكلمت معاك!
, نهض واقفًا من على طرف الفراش موجهًا حديثه لها بجدية:
, -ست عواطف أنا بأطلب منك رسمي وقصاد مراتي إننا نتجوز في أقرب وقت!
, اتسعت عيناها مرددة بصدمة:
, -تتجوزوا؟!
, هز رأسه بالإيجاب وهو يقول موضحًا:
, -ايوه، كوضع مؤقت عند أهلي لحد ما شقتنا تخلص، وأنا هاجيبلها أوضة نوم جديدة وهوضبلها المكان، ومستعد أقدم ضمانات عشان تطمن!
, استنكرت كلماته الأخيرة التي تشير إلى عدم ثقتها به، فعاتبته قائلة:
, -ضمانات ايه، متقولش كده يا سي منذر، ده انت أبو الرجالة والشهامة كلها!
, ثم ابتسمت متابعة بنبرة ذات مغزى وهي تشير نحو ابنة أخيها:
, -بس القرار في الأول وفي الأخر راجع ليها، فلو وافقت يبقى على بركة ****!
, استدار برأسه نحو حبيبته التي كانت تطالعه بنظرات خجلة متسائلاً:
, -ها يا أسيف؟ قولتي ايه؟
, بقيت شفتاها مطبقتين لا تنبس بأي كلمة، فظن أنها ربما تكون مترددة من القبول والمجازفة بالبقاء مع أهله في بيت مليء بالكثير من الأفراد، فلن تحظى بخصوصيتها كغيرها من الفتيات خاصة أنها عروس جديد ولم يسبق لها الزواج، جمد أنظاره عليها مؤكدًا:
, -لو خايفة حد يتعرضلك هناك، فصدقيني هما مش كده، أهلي بيحبوكي، وهيحاولوا يسعدوكي زيي، وانتي دخلتي عندنا أكتر من مرة وشوفتي الدنيا ماشية ازاي هناك
, أكدت عواطف على حديثه قائلة:
, -دي الست جليلة تتحط على الجرح يطيب، ولا الحاج طه حاجة كده٤ نقطة
, لم تلتفت أسيف نحو عمتها، وبقيت عيناها عليه هو فقط وهي تسأله بهدوء مريب:
, -انت هاتكون معايا؟
, احنى نفسه قليلاً نحوها ليضع أنامله على طرف ذقنها قائلاً بثبات:
, -مش هاسيبك للحظة!
, لم ترمش بعينيها، وشردت في نظراته المتأملة لخلجاتها، شعرت بصدقه، بيقينها بحفاظه على وعده الذي لن يحنثه أبدًا، فهمست بابتسامة باهتة:
, -أنا موافقة!
, اضطربت أنفاسه مرددًا بعدم تصديق:
, -موافقة؟٣ علامة التعجب
, أومــأت برأسها إيجابًا ليزداد مع حركتها تلك خفقات قلبه المحب لها، لم يشعر بنفسه وهو يضم رأسها إليه، وحاوطها بذراعيه شاعرًا بتلك السعادة الغامرة التي تحررت أخيرًا من مرقدها لتغلفهما بسحرها الدائم، همس لها باشتياق راغب:
, -بأحبك يا بنت رياض!
, أطلقت عواطف زغرودة مدوية معبرة عن فرحتها بموافقة ابنة أخيها، فهي ستنعم أخيرًا بما حُرمت منه، ركضت بسمة نحو والدتها بعد سماعها لأصوات الزغاريد المتعاقبة لتقف إلى جوارها متأملة ذلك المشهد العاطفي بابتسامة خجلة، لفت ذراعها حول كتف والدتها ناظرة لها بأعين متوهجة فرحًا لابنة خالها، بينما ظلت نيرمين في الخارج تحترق كمدًا بنيرانها حتى غص صدرها بالبكاء المرير، لم تخفِ عبراتها المنهمرة بغزارة، فقلبها قد انفطر على حب مستحيل بقهر مؤلم.
, ٤٩ نقطة
,
, مر يومان فشل خلالهما في الوصول إليها، فلم تجب على اتصالاته المتكررة متعمدة تجاهله، فتأكد من انزعاجها منه بسبب سوء حظه مع أخيه الذي كشف خطته ببساطة، وما ذنبه إن كان يمتلك فراسة حادة؟ بدا شبه متعصب مع أغلب من يتعامل معه خاصة أن الساعات تمر ثقيلة عليه، أراد أن ينهك نفسه في العمل عله يلهي عقله عن التفكير فيها، لكن لا يستمر الأمر طويلاً، فما يلبث أن تقتحم مخيلته بضراوة لتعذبه أكثر.
, زفر دياب بإرهاق مرجعًا رأسه للخلف وهو يجلس خلف مكتبه محدثًا نفسه بتبرم:
, -امتى تحني عليا بس؟
, ولج إليه أحد العمال قائلاً بتردد حرج:
, -ريس دياب.. آآ.. في واحدة مصممة تقابلك برا
, عقد ما بين حاجبيه متسائلاً باندهاش غريب:
, -واحدة! مين دي؟
, أجابه العامل وهو يشير بيده بتوتر ظاهر عليه:
, -دي الست ٤ نقطة
, اعتقد دياب للحظة أنها ربما تكون حبيبته قد جاءت إليه لتعنفه وجههًا لوجه، لم يهمه الأمر على قدر رؤيته لها، المهم أنها متواجدة عنده، لم يدع فرصة للعامل لإتمام جملته فقاطعه قائلاً بحماس:
, -أنا طالع أشوفها بنفسي!
, توجس العامل خيفة مما سيراه، فحتمًا سيتلاشى ذلك الاهتمام ليحل الوجوم كبديل عنه إن عرف هوية المتواجدة بالخارج.
, ٤٣ نقطة
,
, قررت ألا تستسلم وتتودد إليه على طريقتها الخاصة رغم جفائه وغلظته معاها، أرادت أن تثير أعصابه نحوها وتحفزها للتفكير فيها حتى لو في الأمر مجازفة كبيرة، لذلك استقلت ولاء سيارتها وصفتها أمام وكالته متأنقة بثيابها الفاضحة لتحرك فيه حمية الرجال حينما يراها هكذا، لا ترتدي سوى بنطالاً مثيرًا لشهوات الرجال ومن فوقه كنزة قصيرة تكاد تصل إلى خصرها مكشوفة الصدر وبدون حمالات، بالطبع هي وسيلة رخيصة لكنها واثقة من نجاحها معه.
, وحدث ما توقعته اختفت بسمته المتسعة من على ثغره ليكسو تعابيره الاكفهرار والنفور، احتدت نظراته وقست تعبيراته بشدة وهو يندفع نحوها بخطوات متعصبة، حافظت على ثباتها أمامه، وتمايلت بجسدها مستندة بمرفقها على جانب سيارتها هاتفة بدلال:
, -هاي دياب!
, قبض على ذراعها جاذبًا إياها بعنف لتعتدل في وقفتها المائعة مجبرة، وهدر فيها بصوت متشنج وعيناها تطلقان شررًا نحوها:
, -انتي اتجنني؟ ازاي تجيلي هنا عند الوكالة، لأ وبالمنظر ده؟٤ علامة التعجب
, مرر أنظاره المتقدة سريعًا على ثيابها الضيقة التي كانت تبرز منحنيات جسدها بطريقة فجة مهلكة للأعصاب، وبتأويهة مصطنعة همست له بعتاب:
, -آي، بالراحة يا دياب إنت بتوجعني كده!
, هزها بعنف صارخًا بها بشراسة من بين أسنانه المضغوطة بقوة:
, -اتكلمي عدل، بلاش طريقة الـ٧ نقطة معايا!
, ارتفع حاجباها للأعلى من سبابه الحاد لكنها لم تكترث به، فخطتها لابد أن تكتمل، لذا تجاهلت كلماته النابية المسيئة لها قائلة بنعومة:
, -دياب، أنا محتاجة أتكلم معاك لوحدنا!
, هدر بها بانفعال مهتاج:
, -مافيش كلام بينا نهائي، إنتي مابتفهميش
, أسبلت عينيها نحوه مبررة:
, -ماهو كله عشان مصلحة يحيى!
, أرخى قبضته عن ذراعها مظهرًا تأففًا صريحًا منها، ابتسمت متابعة بعبث:
, -أنا أمه ومحتاجاه معايا كام يوم، ولازم نتفاهم على ده ودي من غير ما نلجأ للأقسام، صح ولا أنا غلطانة؟
, نظر لها باحتقار وهو يجيبها بازدراء مهين:
, -ده منظر أم، طب اتكسفي على دمك والبسي حاجة تسترك بدل ما انتي معرية لحمك لكل الناس!
, تنهدت في وجهه بتنهيدة حارة متسائلة بصوت خفيض مثير:
, -لسه بتغير عليا؟
, زادت نظراته نفورًا من أسلوبها المبتذل معه صائحًا باستنكار مزدري:
, -بأغير! انتي شكلك مبلبعة حاجة!
, تجرأت أكثر معه فمدت يدها لتضعها على صدره متحسسة إياه برفق وهي تضيف بعبث:
, -لأ يا دياب، بس طريقتك بتقول كده، انت لسه بتغير، عينيك فضحاك!
,
, في تلك الأثناء كانت بسمة قد ترجلت من سيارة الأجرة على مقربة من الوكالة، فرفعت عينيها عفويًا نحو مكانها، تجمدت أنظارها على ذلك المشهد الحميمي الملتهب في وضح النهار وأمام الجميع، رمشت بجفنيها غير مصدقة أنه يقف مع طليقته تداعبه وتلامسه بوقاحة وكأن شيئًا لم يكن بينهما، شعرت بدمائها تغلي بداخلها، واستعادت في ذاكرتها مشاهدًا سريعة من حديثه المعسول معها، وغزله المتواري لها، وأخيرًا عرضه بالزواج منها.
, ورغم رفضها الصريح للارتباط به إلا أن وخزة قوية عصفت بقلبها جعلتها تصل إلى ذروة غضبها في أقل من ثوانٍ، كونها قد رأته على تلك الوضعية مع غيرها أصابها بالجنون.
, وقفت مكتوفة الأيدي، عاجزة عن تحريك قدميها حتى لتبتعد، أجبرتها عيناها على متابعة المشهد للحظات حتى اكتفت مما رأته، رمقت الاثنين بنظرات مشتعلة، واستدارت بظهرها مبتعدة عن المكان برمته، فأي تصرف أهوج في تلك اللحظة سيحسب عليها وليس لها.
, تفاجأ من حركتها المتهورة تلك على صدره، ونظراتها الماكرة التي تحاول استدراجه إلى فخها، فامتعض وجهه بشدة، وغرز أظافره في قبضتها نازعًا إياها عنه وهو يصيح بها بسباب قاسٍ:
, -حاسبي ايدك الـ٥ نقطة عني!
, شهقت مصدومة من إهانته الجارحة لها، ومن أسلوبه العنيف في التعامل معها، تعمد إيلامها أكثر وهو يضيف باحتقار أشد:
, -إياكي تفكري تلمسيني بقذارتك دي!
, ظلت على وضعها المشدوه لثوانٍ محاولة استيعاب ذلك الكم الهائل من الإهانات الموجهة لشخصها، بدا أكثر اشمئزازًا منها، متقززًا من أسلوبها الرخيص في جذله نحوها، أكمل بعبوس نافر:
, -أنا مايشرفنيش إن ابني أمه تكون بالمنظر ده!
, دفعها بقبضته بعنف في كتفها مضيفًا بحدة:
, -**** ياخدك ونرتاح من فضايحك
, ردت مستنكرة قسوته اللامحدودة محاولة استعطافه:
, -دياب!
, فتح باب سيارتها ليجبرها على الدخول فيها قائلاً بشراسة:
, -امشي من هنا بدل ما أسيب عليكي كلاب الحتة، وصدقني مش هايفرق معايا اللي هايتعمل فيكي!
, استشعرت قوة تهديده المصحوب بألم قبضته التي اعتصرت ذراعها، فتأوهت صارخة:
, -آآآآه، طب ابني؟
, أجابها بجمود وهو يصفق باب السيارة عليها:
, -هاتشوفيه بس مع أمي!
, ترقرقت العبرات في مقلتيها، فأزاحتهم سريعًا بأناملها قائلة بصوت شبه مختنق:
, -أعمل اللي انت عاوزه فيا، احنا هنفضل مربوطين ببعض، وجايز في يوم نكون سوا و٣ نقطة
, قاطعها بسخرية متهكمة قاصدًا شتمها:
, -عشم ابليس في الجنة يا ٩ نقطة!
, اختنق صوتها أكثر مرددة بانكسار:
, -انت بتشتمني؟
, أشار لها بيده هاتفًا باحتقار:
, -أقل واجب معاكي، طرأينا من هنا!
, ضرب على سقفية سيارتها بقوة بكفه لتدير محركها وتتحرك بها من أمامه بنظرات محبطة خاسرة ذرة أخيرة في كرامتها المهدرة، تابعها بأنظاره المحتقنة حتى وصلت إلى ناصية الطريق فوقعت عيناه مصادفة على طيفها الذي يخفق قلبه معه، هتف مندهشًا:
, -بسمة!
, تحرك من مكانه بخطى سريعة مقلصًا المسافات ليتأكد من صدق ما رأته عيناه، ارتسم على ثغره ابتسامة عريضة تلاشى معها غضبه المبرر من تلك المعيبة التي أفسدت نهاره، أسرع في خطواته ليلحق بها صائحًا بلهفة مضاعفة:
, -أنا حظي حلو إني شوفتك!
, لم تنظر نحوه مطلقًا، فهي على وشك الانفجار فيه إن تركت لنفسها العنان لفعل ذلك ردًا لظنها الخاطئ في إساءته لشخصها، صاحت به متسائلة بوجوم صريح دون أن توقف سيرها:
, -جاي ورايا ليه؟
, استشعر من نبرتها وجود خطب ما بها، فسألها بحذر رغم معرفته إجابتها مسبقًا:
, -انتي كنتي هنا؟
, تألمت قدمها من كثرة الضغط عليها حتى أنهكها الألم وأوجعها بدرجة ملحوظة، فتوقفت عن السير مجبرة لتلتفت نحوه بوجهها العابس المتشنج، نظرت له باحتقان وهي تجيبه بتهكم يحمل السخرية والاستهزاء:
, -اه وشوفتك مع المدام، **** يخليكم لبعض!
, كور قبضته متفهمًا سبب عصبيتها، هو تعيس الحظ معها، دومًا تضعفه الظروف في مواقف لا تخدمه أبدًا، استشعر تعقد الأمور، فهتف موضحًا بقلق:
, -انتي فاهمة غلط، الموضوع فيه سوء فهم و٤ نقطة
, رفعت يدها أمام وجهه ليقطم عبارته مضطرًا وهي ترد بجمود:
, -مش عاوزة أفهم حاجة، عن إذنك أنا متأخرة!
, توسلها أن تبقى قليلاً ليزيل سوء الفهم الحادث، فهمس باسمها بنبرة مؤثرة
, -بسمة
, أشاحت بوجهها بعيدًا عنه هاتفة ببرود جامد:
, -أستاذ دياب عيب كده!
, التفتت التفاتة صغيرة لتنظر له بطرف عينها وهي تضيف بتساؤل ذو مغزى:
, -ترضاها لأختك إن حد يقف يضايقها كده؟
, نكس رأسه حرجًا منها، ووضع يده على شعره عابثًا به وهو يرد بضيق:
, -لأ، بس ترضي انك تظلميني؟
, تحرك قبالتها محدقًا في عينيها بقوة وهو يقول:
, -انتي بنفسك عارفة أنا بأكرها أد ايه! استحالة أفكر فيها تاني!
, أخفض نبرته متابعًا بتنهيدة تحمل الكثير:
, -مافيش إلا واحدة بس جوا قلبي ونفسي تحن عليا، وإنتي عارفة هي مين!
, تأثرت لثانية بنبرته المتوسلة لها، أكد لها حدسها نظراته المستعطفة لقلبها لكي ترفق به وتعطيه فرصة أخيرة، خشيت من افتضاح أمرها فعمدت إلى تجميد ملامحها، وردت ببرود متأهبة للتحرك:
, -أنا متأخرة وتعبانة، فمن فضلك شوية!
, يئس من إقناعها، فتنحى جانبًا لكي تمر من جواره زافرًا بصوت مختنق من فساد يومه بالكامل، ركل الأرضية بقدمه قائلاً بحنق:
, -**** يحرقك يا ولاء! جيتك بالخراب عليا!
,
, تابعت سيرها المتعجل كاتمة كم المشاعر الغاضبة المشحونة بداخلها بصعوبة بالغة، ما أزعجها وجعل همومها تطبق على صدرها تسلله إلى حياتها ليصبح جزءًا من يومها رغمًا عنها، لا تنكر أنها باتت تفكر فيه مؤخرًا، نعم ليس بالقدر الكبير في البداية، لكن مع الوقت نال قدرًا أكبر من اهتماماتها وترسخ وجوده في وجدانها فمنحته ما لا يستحق.
, أخرجت من صدرها تنهيدة تحمل الكثير من الأثقال التي تكتم على روحها، ذهلت حينما رأت العبرات تخونها وتنساب برقة على وجنتيها، وضعت يدها على صدغها تتحسسه بصدمة، تساءلت بعدم تصديق:
, -هو في ايه؟ أنا بأعيط ليه؟
, كفكفت دمعاتها سريعًا قبل أن تراها الأعين الفضولية المدققة بأوجه المارة، تنفست بعمق لتضبط مشاعرها الثائرة، خشيت أن يكون حدث ما لم ترغب فيه، وهو وجود نبتة للحب شقت طريقها في قلبها نحوه، وإلا لما تأثرت هكذا بما رأته وانفعلت أحاسيسها، أصبح غضبها مبررًا مفهومًا بصورة كبيرة رغم إنكارها، هي تكن له شيء ما، وسيظهر مع مرور الأيام.
, ٥٦ نقطة
,
, تجنبتها على قدر المستطاع بناءً على طلبه الخاص حتى يحين موعد زفافهما، وانشغلت مع عمتها في شراء ما ينقصها من احتياجات ولوازم العروس، سعدت الأخيرة بتجاوب ابنة أخيها مع مستجدات الأمور بصورة طيبة مطمئنة أراحت قلبها كثيرًا، وعمدت إلى تسخير جهدها بالكامل من أجلها هي فقط علها تعوضها عن غياب أبويها.
, أفرغت أسيف على الفراش ما قامت بشرائه من ثياب جديدة لترتبها في حقيبة سفرها، شردت في الحقيبة الأخرى الخاصة بوالدتها الراحلة متذكرة كيف بدأت رحلتها من بلدتها الريفية حتى انتهى بها المطاف عروسًا تستعد ليلة زفافها، أطالت النظر نحوها فلم تشعر بعمتها وهي تلج إلى داخل الغرفة لتتفقدها، رأت ما تنظر إليه، فتفهمت سبب هدوئها الحزين، وضعت يدها برفق على كتفها قائلة بحنو:
, -ادعيلها بالرحمة والمغفرة، هي زمانتها مرتاحة عشان انتي مبسوطة!
, أدارت رأسها نحوها متسائلة بصوت مرهق:
, -تفتكري يا عمتي؟
, ردت مؤكدة بابتسامتها الصافية وهي تربت على ظهرها برفق:
, -طبعًا، أي أم في الدنيا نفسها تشوف عيالها في أحسن حال، والحمدلله **** كرمك بمنذر اللي بيحبك!
, تورد وجهها من ذكر اسمه، فحضوره القوي بمواقفه الرجولية المختلفة يؤثر عليها بشكل ملحوظ، ناهيك عن حبه الجارف لها، ضمتها عواطف إلى صدرها متابعة بود:
, -انسي الماضي وركزي في اللي جاي يا بنتي!
, هزت رأسها بتفهم، فلا حاجة بها للبقاء حبيسة أحزانها، عليها أن تمضي قدمًا في حياتها.
, ٣٨ نقطة
, لاحظت حالة التجاهل المسيطرة على من معها بالمنزل، وفهمت أسبابه ببساطة، باتت كالمنبوذة وهي تعيش بينهن، عقدت حجابها كعصابة لفتها حول رأسها كمحاولة بدائية لوقف ذلك الصداع المهلك الي يكاد يفتك بعقلها، أجلست ابنتها على حجرها تهزها بتوتر وهي تقول:
, -تقول بقيت جربة وسطهم!
, حكت طرف ذقنها بخشونة وهي تضيف:
, -ده ولا واحدة عاوزة تعبرني ولا تقولي في ايه، وكل شوية ينزلوا مشاوير هنا ومشاوير هناك!
, ضربت بيدها على فخذها متابعة:
, -ايوه، ما هو أنا بنت البطة السودة المغضوب عليها!
, رفعت كفيها للسماء هاتفة بحنق:
, -إلهي ليلتك تبوظ عشان أفرح فيكي!
, ولجت أختها إلى الداخل واجمة الملامح عابسة النظرات، لم تلقِ عليها التحية، واتجهت مباشرة نحو خزانة الملابس، أمعنت نيرمين النظر فيها متسائلة بفضول:
, -خير، مش فرحانة ليه زي الشملولة اللي برا؟!
, نظرت لها بحدة وهي تجيبها بانفعال:
, -ملكيش دعوة بيا يا نيرمين، أنا جاية أخد هدومي وأطلع، مش ناقصة سين وجيم!
, لوحت لها بيدها هاتفة بازدراء:
, -طلعي غلبك فيا انتي التانية، ماهو كل هم في البلد يجي عندي ويتسند!
, نفخت بسمة صائحة بنفاذ صبر:
, -يووه، أنا مش نقصاكي، أديني سيبالك الأوضة وطالعة!
, سحبت أول ما التقطه يدها من على الرف صافقة ضلفة الخزانة بعصبية، ثم اندفعت للخارج مبرطمة بكلمات مزعوجة، ردت عليها نيرمين بغل:
, -غوري ياختي، بلا هم!
, وضعت يديها على رأسها ضاغطة عليه وهي تقول بتبرم:
, -آه يا نافوخي، إلهي يجيلك صداع ماتعرفي تقومي منه!
, ٤٣ نقطة
,
, تجول في أروقة مدرسته الجديدة بعد أن استقر بها متباهيًا بمآثره، فقد تمكن من ملامسة عدد لا بأس به من ضحاياه من صغار السن عديمي الخبرة في تلك الأمور الشاذة المشينة التي يرتكبها في حقهم، لكنه كان أكثر حرصًا على عدم افتضاح أمره بانتقاء السذج منهم والأصغر عمرًا ليلاطفهم ويداعبهم بعيدًا عن الأعين الكاشفة له.
, وقع في يده ضحية أخرى؛ طفلة بريئة من الصف الأول الابتدائي، استدرجها ببراعة محنكة إلى غرفته الخاصة، فلم تنجو من لمساته المخجلة على جسدها الهزيل، عجزت عن النطق معتقدة أن ما يفعله بها شيء عابر سيزول مع الوقت، كانت ترتعد بشدة وهي تطالعه بنظراتها الخائفة، انحنى ناصر ليحملها من خصرها بيديه، ثم أجلسها على مكتبه، وأمال رأسه على وجهها طابعًا قبلة صغيرة على وجنتها هامسًا لها:
, -ده أنا زي بابا يا كتكوتة!
, بدت ارتعاشتها واضحة في نبرتها وهي ترد مستنكرة ببراءة:
, -بس بابي مش بيعمل كده
, لامس خصلات شعرها بعبث موضحًا لها بدهاء ماكر:
, -عشان مش بيحبك، لكن أنا بأحبك أوي!
, أخرج من جيبه قطعة حلوة مغلفة، ثم ناولها لها متابعًا بلطف:
, -خدي البسكوتة دي عشان انتي شاطرة وبتسمعي الكلام
, هزت رأسها نافية وهي تقول:
, -مش عاوزة
, وضع يده على فخذها الذي برزت من أسفل تنورتها القصيرة معمقًا لمساته نحو الداخل وهو يسألها:
, -طب نفسك في ايه؟ أجيبلك كيس شيبسي؟
, حركت رأسها بالنفي وهي ترد:
, -لأ!
, وضعت قبضتها الصغيرة عفويًا على يده لتبعدها عن مناطق جسدها المحظورة متابعة بنبرة مرتجفة:
, -أنا عاوزة أروح الكلاس بتاعي
, تقوس فمه للجانب مبرزًا ابتسامة شيطانية مهلكة وهو يرد:
, -ماشي يا كتكوتة! بس أنا هاساويلك هدومك زي ماما!
, توهجت نظراته بوميض جعل الصغيرة ترتعش أكثر منه خاصة حينما تجاوز الأمر مخيلتها الضئيلة، هو بلغ ذروته ووصل إلى حالة من الانتشاء استصعب فيها السيطرة على نفسه.
,
, في تلك الأثناء، أراد يحيى الدخول إلى المرحاض لكن تعذر على الصغار المتواجدين بطابق رياض الأطفال استخدامه لوجود صيانة حالية به نتيجة انسداد المواسير، فلجأت العاملات لاستخدام المراحيض المتواجدة بالطابق الأرضي، والقريبة من غرفة تدريس مادة الصيانة والترميمات، توجه بصحبة إحداهن نحو المرحاض، هتفت العاملة متسائلة:
, -عاوزين التواليت
, ردت عليها أخرى:
, -خليه يستنى، في 3 جوا، وبتاع البنات مشغول
, -طيب
, التفتت العاملة نحو يحيى قائلة بجدية:
, -معلش يا حبيبي امسك نفسك شوية لحد ما يفضى واحد
, هز رأسه بالإيجاب قائلاً:
, -طيب
, تلفت حوله متأملاً ذلك المكان الواسع بنظرات شمولية، انشغلت العاملة عنه بمعاونة طفلة أخرى في ارتداء ثيابها الداخلية، فدفعه فضوله لاكتشاف المكان من حوله ريثما يصبح المرحاض شاغرًا، وببراءة الصغار تجول في المكان مشبعًا فضوله البسيط، ضل طريقه ولم يعرف كيف يعود، دار حول نفسه بحيرة، ودلف إلى رواق منزوي مقارب للحديقة معتقدًا أنه طريق العودة، لمح تلك الغرفة البعيدة فاتجه نحوها راكضًا، كان الباب موصدًا فلم يرَ شيئًا ، لكنه استمع إلى أصوات مبهمة تأتي من الداخل، فألصق جسده بالنافذة الزجاجية الداكنة، اشرأب بعنقه للأعلى محاولاً رؤية ما يدور بالداخل من ذلك الشق الزجاجي الصغير.
, ارتجفت أطرافه بقوة حينما رأى ما يحدث للصغيرة التي تقبل بطريقة مريبة من وجهها وشفتيها، تجمد في مكانه مذعورًا حينما رأى من ذلك الشرخ شبح الشخص يستدير نحوه، أخرج صرخة مفزوعة من فمه متراجعًا للخلف، لكنه تعثر في خطواته المرتبكة فسقط على ظهره.
, فتح ناصر الباب على مصراعيه ليجد ذلك الطفل محدقًا به، اغتاظ من كونه قد أفسد متعته في نهاية المطاف، والأهم من هذا هو احتمالية تشكيله خطرًا عليه، فإن باح بما رأه لأي شخص لانتهى أمره فورًا، بالإضافة إلى كشف المستور عن كل ما قام به، صرف الطفلة بهدوء وهو يبتسم لها:
, -يالا يا حلوة على الكلاس!
, ركضت الصغيرة مسرعة وهي ترتجف مما مرت به، نظرت إلى ما في كفها الصغير من حلوى بعبوس، ثم ألقتها على الأرضية لتدهسها بقدمها وهي تختفي من المكان برمته، دار في رأسه الشيطاني عشرات وعشرات من النهايات المخيفة له إن فضح ذلك الجرذ الفضولي أمره.
, وبلا لحظة تأخير انحنى عليه ليمسك به من ياقة قميصه المدرسي رافعًا إياه نحوه، ركل يحيى بقدميه في الهواء مذعورًا، وفزع من نظراته المهددة بدرجة جعلته يبلل سرواله من شدة خوفه منه، صرخ به ناصر بحنق من بين شفتيه المضغوطتين:
, -إنت بتعمل ايه هنا؟
, بكى الصغير خائفًا:
, -مامي!
, كظم غضبه بصعوبة كي لا يلفت الأنظار إليه، ثم أنزله على قدميه دون أن يحرره، تفحص ثيابه المختلفة نسبيًا عن المعتاد واستشف سريعًا أنه من ***** قسم الرياض الملحق بالمدرسة، تنفس الصعداء لتيقنه من نجاته من كارثة وشيكة، ولكن مازال عليه أن يكون أكثر صرامة كي يضمن صمته الإجباري إن فكر في التفوه بأي حماقات لأحد أبويه كعادة الصغار حينما يسترسلون في حديثهم مع أفراد عائلتهم بالمنزل، قست ملامحه وباتت أكثر تهديدًا عن ذي قبل،جثى على ركبتيه ليصبح وجهه في مواجهة يحيى الذي كان على وشك الصراخ لكن يد ناصر كانت الأسرع في تكميمه، هزه بعنف وهو يهدده بنبرة أقرب لفحيح الأفعى:
, -شوف يا وله، انت مش عارف أنا مين، بس أنا العوو اللي هايطلعلك في كل حتة لو فكرت تفتح بؤك وتقول حاجة!
, شعر بانتفاضة جسده بين ذراعيه المقيدين له، فتيقن من وصول رسالته إليه، تابع مضيفًا بهمس شرس:
, -حتى وانت نايم هاجيلك على سريرك أخد روحك! فأحسنلك تنساني!
, هزه بعنف وهو يسأله:
, -فهمتني ولا تحب أكل رجلك و٤ نقطة
, حرك يحيى رأسه بالإيجاب خوفًا منه، فقد نجح ببراعة في بث الرعب في نفسه حتى كاد يموت من فرط الهلع الذي عاشه خلال تلك الدقائق العصيبة، أزاح يده عن فمه ليمسح على رأسه قائلاً بابتسامة مهددة:
, -انت كده شاطر!
, دقق ناصر النظر في بطاقة الهوية المعلقة حول عنقه مرددًا بهدوء:
, -مممم.. اسمك يحيى دياب!
, غمز له بعينه اليسرى متابعًا بتسلية:
, -شوفت أنا عرفت اسمك لوحدي ازاي، يعني هاجيبك هاجيبك لو اتكلمت!
, رد عليه يحيى بصوت مختنق من بين بكائه:
, -أنا عاوز مامي!
, قهقه ضاحكًا من براءته التي يستلذها في الصغار، ثم اعتدل في وقفته قابضًا على رسغه ليسحبه خلفه وهو يقول:
, -وأنا عاوز اللي زيك!
, ظن الصغير أنه سيضربه أو ما شابه خاصة أن أصابعه كانت تعتصره معصمه بشدة، فصرخ عاليًا مستنجدًا بأي أحد:
, -مامي، أنا عاوز مــــامي! عاوز أروح، مامي!
, جرجره خلفه بسهولة رغم تعمد يحيى إلقاء ثقل جسده للخلف عله يشكل عائقًا أمام قوته، لكن ما يفعله لا يشكل فارقًا معه، لمحتهما العاملة من على بعد، فركضت ناحيتهما مرددة بخوف:
, -الحمد**** إنك لاقيته يا أستاذ ناصر، ده أنا دوخت عليه
, جذب الصغير إلى حضنه بذراعه قائلاً بضجر زائف:
, -أه ماهو تايه وعمال يعيط وأنا مش عارف أفهم منه حاجة!
, أشارت بيدها للأعلى مبررة سبب تواجده هنا:
, -ده من الحضانة فوق
, قطب جبينه مهتمًا، وتساءل بمكر ليبعد أي شبهات عنه:
, -وإيه اللي جابه تحت؟
, أجابته العاملة بامتعاض مرهق:
, -التواليتات بايظة
, هز رأسه متفهمًا وهو يضيف محذرًا:
, -أها قولتلي، طب خدوا بالكم كويس، مش كل مرة هتعدي على خير، جايز عيل يجري كده ولا كده وتحصل مشكلة!
, لوت العاملة ثغرها مرددة بتوجس:
, -**** يستر، كتر خيرك يا أستاذ ناصر!
, مدت يدها لتمسك بالصغير، فرأت سرواله المبتل، زاد تجهم تعبيراتها وهي توبخه بلطف:
, -كده بليت هدومك يا يحيى!
, انفجر الصغير باكيًا وهو يصرخ بخوف:
, -أنا عاوز مامي!
, ظنت العاملة أنه يبكي لإفساده ثيابه، ولم يأتِ في مخيلتها مطلقًا أنه لسبب أخر، أمسكت به من قبضة يده مرددة:
, -استنى أما نشوف عند المس في غيار زيادة ليك ولا لأ، مش هاتفضل كده مبلول!
, تنحى ناصر جانبًا مسلطًا أنظاره الشيطانية عليه، ثم لوح له بأصابعه قائلاً بثبات وقد برزت ابتسامته المخيفة على ثغره:
, -باي باي يا يحيى ٥ نقطة ٣ علامة التعجب
 
٧٨
رغم تبرمها من تعجله في تلك الخطوة تحديدًا لكن فرحته الواضحة عليه جعلتها تتقبل الأمر بعاطفة أمومية صادقة من أجل سعادته هو فقط، راقبت باهتمام تصرفاته المليئة بالحيوية والنشاط لإنجاز ماهو مطلوب في أقل وقت ممكن، نعم مر وقت طويل منذ أن رأته متحمسًا لأمر ما، أدركت عن ظهر قلب أن الحب يفعل المستحيل، تنهدت بعمق مبدية ندمها في نفسها لسعيها الدؤوب على إجباره على زيجة لم تكن لتحقق له الهناء والسرور مثلما تراه اليوم، واجتهدت هي الأخرى في تجهيز ما يلزم لتصبح غرفته جاهزة لاستقبال العروس.
, أشرفت بنفسها على ترتيب الأثاث الجديد بالغرفة محذرة بجدية:
, -حاسبوا التسريحة مش عاوزين حاجة تتبهدل!
, استدار منذر ناحية والدته متسائلاً:
, -ها يا أمي ايه رأيك؟
, أبدت إعجابها بالأثاث الحديث – ذو اللون البني الداكن – قائلة بابتسامة عريضة:
, -ماشاء ****، حاجة حلوة على الأخر!
, ربتت على كتف ابنها مضيفة:
, -تتهنى فيها يا رب
, أمسك بكفها بين راحتيه ليربت عليه برفق كنوع من الامتنان لدعمها له، ثم سألها بقلق طفيف:
, -تفتكري ذوقي هايعجبها؟
, حرر قبضتها من يديه مكملاً بامتعاض:
, -هي مرضتش تنزل معايا تختار، وده مضايقني شوية و٣ نقطة!
, قاطعته مبررة بهدوء:
, -بكرة تفرشوا بيتكم براحتكم، وتناقوا كل حاجة على ذوقكم!
, هز رأسه موافقًا رأيها، فأضافت بجدية:
, -المهم إن **** يبعد عنكم أي شر
, -يا رب أمين
, تابعت جليلة وهي تشير بسبابتها:
, -أول ما العمال ينزلوا أنا هابخرهالك وهاشغل قرآن في الأوضة عشان الحسد!
, اتسعت ابتسامته الودودة قائلاً:
, -ماشي يا أمي، اللي يريحك!
, ربتت على ظهره مجددًا وهي تدير رأسها في اتجاه العمال لتتابعهم عن كثب، بينما شرد هو في أحلامه المستقبلية مع حبيبته.
, ٤٦ نقطة
, استندت برأسها على مرفقها شـاردة في ذلك المشهد الحميمي بينهما رغم نفيه لأكثر من مرة عدم وجود أي رابط يجمعهما سوى ابنه، أزعجها تكراره في مخيلتها وكأنه عقاب خاص بها لتعذيبها، تنهدت بمرارة زافرة عن صدرها همًا أخرًا يطبق على روحها، لم تشعر بأسيف التي كانت تحدثها للحظات حتى هتفت باسمها بنبرة شبه مرتفعة:
, -بسمة انتي مش معايا خالص!
, انتبهت لصوتها فأفاقت من سرحانها المؤقت قائلة بصوت شبه متحشرج:
, -معلش!
, حاولت أن تبتسم لتبدو أكثر إقناعًا وهي تتابع بتردد:
, -تـ.. تلاقيني مصدعة شوية
, اقتربت منها أسيف أكثر لتتفرس في ملامح وجهها الذابل، رأت عينيها الملتهبتين بحمرة واضحة فخمنت على الفور سبب حمرتهما، سألتها بنزق:
, -انتي كنتي بتعيطي؟
, انتفضت في مكانها خيفة من كشف أمرها، وهزت رأسها نافية بقوة هاتفة:
, -لأ أبدًا، ده بس..
, بدت طريقتها غير منطقية بالمرة ومتنافية مع تعبيراتها المنكسرة، فأصرت على رأيها قائلة بجدية:
, -بسمة في ايه مضايقك؟ اتكلمي بصراحة!
, انزعجت من تضييق الحصار عليها، فهبت واقفة من مكانها قائلة بخفوت حزين:
, -ولا حاجة!
, أولتها ظهرها كي لا تفضحها عيناها علنًا، وبدأت في فرك أصابعها بتوتر كبير، استشعرت أسيف وجود خطب ما بها، فلم تقتنع بردها لذا تابعت مضيفة بحذر علها تعلم ما بها:
, -بس أنا مش حاسة كده، إنتي٤ نقطة
, قطمت عبارتها مجبرة حينما هربت من أمامها فجأة، ارتفع حاجباها للأعلى باندهاش كبير، وركضت ورائها مرددة بصدمة:
, -استني رايحة فين!
,
, لم تتحمل المزيد من الضغوطات والأسئلة المحاصرة لها، هي اكتفت من كتم كل ما تشعر به في صدرها حتى اختنق على الأخير، فرت من أمامها كي لا تنهار، لكن لم تتركها بمفردها، حدسها ينبؤها بسوء حالتها النفسية، وقسمات وجهها تؤكد لها الأمر، لذلك تساءلت بتلهف:
, -مالك يا بسمة؟ طمنيني؟
, وضعت يدها على كتفها وأدارتها نحوها متابعة باهتمام قلق:
, -في حاجة حصلت؟ حد ضايقك؟
, تشنجت نبرتها وهي تجيبها:
, -أنا مخنوقة يا أسيف، مخنوقة ومش قادرة خلاص!
, لاحظت عصبيتها الزائدة وحالتها الثائرة فجاهدت لامتصاصهما هاتفة بتوجس:
, -طب اهدي، في ايه لكل ده؟
, انهارت باكية وهي تجيبها بصوتها المختنق:
, -أنا مش عارفة مالي!
, تراجعت للخلف لتجلس على طرف الفراش دافنة وجهها بين راحتيها وهي تكمل بصعوبة:
, -مضايقة جدًا، حاسة زي ما يكون في حاجة كاتمة على نفسي!
, جلست أسيف إلى جوارها محاوطة إياها بذراعها، ظلت تمسح على ظهرها برفق ودود، ثم همست لها:
, -احكيلي يا حبيبتي، أنا مستعدة أسمعك
, ظلت مخبئة لوجهها متحرجة من كشفه، ردت بلا وعي بنبرة متقطعة:
, -أنا.. خايفة أكون ٤ نقطة
, لم تسمع بوضوح ما الذي تردده، لكن قطعًا الأمر مزعج بدرجة كبيرة معها، سألتها بتلهف مهتم وهي مستمرة في المسح على ظهرها:
, -تكوني ايه؟
, أجابتها من بين بكائها المكتوم:
, -اتعلقت بيه!
, ضاقت عيني أسيف باهتمام كبير من جملتها المقتضبة المثيرة للفضول متسائلة:
, -مين ده؟!
,
, راقبت حديثهما العابر دون أن تدخل فيه علها تعرف ما الذي أصاب ابنتها لتبدو على تلك الحالة الشاردة الحزينة، هي أمها وتشعر بها وبحزنها الملموس، ومنذ عودتها من الخارج وهي تراها واجمة يعكس وجهها الكثير، لكنها لم ترغب في إجبارها على الحديث لتيقنها من رفضها الإفصاح لها عما يجيش في صدرها، فتركت تلك المهمة لابنة أخيها التي لم تتأخر عنها، واهتمت بها على الفور.
, باحت بسمة بما تكنه في صدرها مزيحة تلك الأثقال عنها، فقد فاض بها الكيل، وامتلأت روحها على الأخير حتى خبت قواها واستسلمت، علمت منها اعتراف دياب بحبه لها، برغبته في الزواج بها، برفضها لتلك الزيجة، وإحساسها بالاختناق والضيق لرؤيته مع غيرها، خشيت أن تعترف لنفسها بحقيقة مشاعرها، بوجود بذرة لشيء ما في قلبها نحوه، شيء أرادت ودأه منذ البداية كي لا يتحول إلى عبء كاسح لها.
, أشفقت عليها أسيف كثيرًا، وابتسمت لها محاولة إزالة ذلك التوتر المشحون مرددة بلطف:
, -طب ليه مافضفتيش معايا من الأول؟
, تهدل كتفيها بانكسار وهي تجيبها:
, -مش عارفة، جايز لأني مش عاوزة الموضوع ده!
, -محدش هايجبرك على حاجة!
, -أنا عارفة، بس.. اللي بيحصلي ده و٣ نقطة
, -وايه؟
, سردت لها تلك المشادة الكلامية الحامية مع زوجة الجزار أثناء سفرهما للبلدة الريفية، وما تبعها من حضور دياب للمنزل وإصراره على الارتباط، خافت أن يكون إلحاحه نابعًا من كونه مجرد مساعدة منه لإيقاف تلك الألسن التي تطاولت عليها، انزعجت أسيف من تفكيرها المحدود مرددة بعتاب رقيق:
, -غلطانة يا بسمة، دياب مش كده، وإنتي أكتر حد شوفتي مواقفه، ده نسخة من منذر!
, هزت رأسها بأسف وهي ترد بنبرة محبطة:
, -بس للأسف في حاجة هتفضل بينا
, قطبت جبينها متسائلة باهتمام:
, -ايه هي؟!!
, سحبت نفسًا مطولاً لفظته ببطء وهي تجيبها:
, -ابنه يحيى وطليقته!
, ردت عليها أسيف بحماس طفيف:
, -طب و**** ابنه بيحبك جدًا، بالعكس أنا بأشوفه متعلق بيكي جدًا، يمكن أكتر من أبوه وأمه!
, ارتجفت نبرتها وزاد ترقرق العبرات في مقلتيها حتى بدت على وشك البكاء مرة أخرى وهي تقول:
, -أنا بأحبه أوي، بس خايفة من التجربة، خايفة يحصل معايا زي نيرمين!
, امتعضت تعبيرات أسيف بانزعاج بائن لم تخفيه، فأختها تثير الأعصاب بتصرفاتها المستفزة، وبالتالي تأثر بسمة بمواقفها لا مفر منه، هي نفسها عانت من قسوتها وجحود قلبها في أحلك الظروف، لذلك ردت بجدية:
, -ماتحطيش نفسك دايمًا في مقارنة مع غيرك، وخصوصًا نيرمين!
, شعرت عواطف برجفة قوية تضرب جسدها بعد سماعها لتلك الاعترافات المثيرة، ابنتها تحت وطأة ضغوط مهلكة للأعصاب وتجاهد للبقاء قوية صلبة وصلدة أمام الجميع، كذلك كانت الظروف والأوضاع مختلفة تمامًا بين الأختين، فكلتاهما تعاصر وتعايش تجارب لا علاقة لها بالأخرى، لذلك من المجحف المقارنة بينهما وتوقع نفس النتائج.
, ٤٤ نقطة
, لم يتوقف عن البكاء رغم انتهاء اليوم الدراسي حتى أصبحت معلمته مزعوجة من صمته المريب ورفضه الحديث عما أصابه ليبدو على تلك الحالة المقلقة، كان كل شيء طبيعيًا حتى عاد مجددًا إلى الفصل، ظنت في البداية أن للأمر علاقة بثيابه المبتلة، فتحرج الصغير من الموقف بين أقرانه، لكن مع استمرار نحيبه وبحكم خبرتها نشأ عندها اعتقادًا أن المسألة أعمق من هذا، حاولت تهدئته والحنو عليه لكنه رفض الاستجابة لها، وظل ينوح قائلاً:
, -عاوز مامي، عاوز أمشي من هنا!
, سئمت من عناده المستمر، فأرسلت في طلب المشرفة لتتولى متابعته حتى تتمكن من الانتباه لباقي الأطفال، اصطحبته الأخيرة معها إلى غرفتها محاولة فهم ما حدث له، لكن كانت كلماته مبهمة ومكررة، اضطرت في النهاية إلى الاتصال بوالده للحضور، وبالفعل لم يتأخر عن ابنه فأتى لمدرسته على عجالة، واتجه إلى غرفة الناظرة ليقابلها متسائلاً بانزعاج كبير:
, -ماله يحيى؟
, أجابته بنبرة رزينة وهي مشبكة لكفيها معًا:
, -الطفل مش عاوز يتكلم، ورافض يتجاوب مع أي حد حتى المس بتاعته!
, رد دياب متعجبًا وهو يشير بيده:
, -ماهو كان كويس طول اليوم
, تابعت مضيفة بهدوء:
, -جايز في مشكلة في البيت مأثرة عليه
, هتف معترضًا بانفعال طفيف:
, -مشكلة ايه؟ ما هو نازل معايا كويس!
, أوضحت له الناظرة قائلة:
, -ابنك مابطلش ينادي على مامته!
, عبس وجهه بصورة واضحة من جملته، فلاحظت تجهم تعبيراته وسألته بجدية شديدة:
, -هي فين أصلاً؟ احنا طلبناها معاك!
, ضغط على شفتيها قائلاً بزفير مزعوج:
, -احنا منفصلين!
, -ممممم
, -بس برضوه مافهمتش ابني ماله؟
, أخذت الناظرة شهيقًا عميقًا، ثم حررته بتمهل وهي ترد بتريث عقلاني:
, -أستاذ دياب، اعذرني إن كنت هتدخل في أمورك الشخصية، بس أنا كمربية قبل ما أكون مديرة للمكان ده يهمني نفسية الأطفال جدًا
, سألها متعجبًا وقد رفع حاجبه للأعلى:
, -وده ايه علاقته بيا؟
, أجابته بحذر:
, -اللي فهمته من كلامك إن يحيى قاعد معاك انت، صح؟
, -أيوه
, -طب هل بيشوف والدته بانتظام؟
, لوى ثغره للجانب وهو يجيبها بامتعاض:
, -مش دايمًا
, تابعت مبررة تصرفه:
, -جايز يكون محتاجلها وخايف يقولك ده لأحسن ترفض
, رد معترضًا بعصبية على اتهامها الضمني بكونه يسبب نوع من الهلع لصغيره:
, -ماعمروش طلب مني إنه يشوفها وأنا قولتله لأ، بلاش الطريقة دي معايا!
, لاحظت انفعاله الظاهر في نبرته وإيماءاته فردت بإصرار:
, -ممكن لأنك مش بتديله فرصة يعبر عن اللي جواه!
, زفر بصوت مسموع رافضًا تلميحاتها الصريحة فأكملت بجدية:
, -أرجوك لازم تراعي نفسية ابنك، لأن أحيانًا تصرفات الكبار بتأثر على الأطفال بدون ما ياخدوا بالهم
, هب من مكانه واقفًا معلنًا عن انتهاء مقابلته معها وهو يرد باقتضاب:
, -**** يسهل
, نهضت هي الأخرى من مقعدها متابعة:
, -واحنا مع حضرتك في أي مساعدة، في النهاية يحيى ابننا كلنا
, -إن شاء ****
, كانت نظراتها الموجهة إليه تشير إلى اعتقادها بأنه السبب في حالة ابنه، واستنكر هو تلك الاتهامات لكونه لا يبخل عنه بشيء، أشارت له بكفها نحو باب غرفتها مكملة بنبرة رسمية:
, -حضرتك تقدر تستلم الطفل من المشرفة برا
, نظر لها بانزعاج وهو يرد بعبوس:
, -متشكر!
, للحظة طرأ في باله اعتقاد ما، ظن أن طليقته تقف خلف ما حدث لابنه بصورة خفية، ربما جاءت من ورائه لمدرسته الخاصة وقامت بمقابلته وتلقينه تلك العبارات كجزء مكمل لخطتها الدنيئة في التودد إليه من جديد، اشتدت قسماته، واشتعلت نظراته من مجرد التفكير في ذلك الاعتقاد المثير للأعصاب، توقف مضطرًا عن شحن غضبه داخله حينما رأى صغيره يدنو منه مع المشرفة، انحنى ليحمله مقبلاً وجنته بحنو وهو يسأله:
, -مالك يا بطل؟
, طوق يحيى عنقه بذراعيه مخبئًا وجهه فيه وهو يرد بصوت مبحوح:
, -بابي!
, أبعد دياب رأسه المختبيء عنه ليحدق في عينيه مرددًا بجدية:
, -بطل تعيط بقى، أنا هاخدك البيت!
, تعلق يحيى أكثر به، وهمس بصوته المرتجف:
, -عاوز مامي!
, رد بامتعاض:
, -حاضر هاخليك تشوفها!
, تحرك به حاملاً إياه إلى خــارج مبنى المدرسة كاظمًا ضيقه في صدره ومداعبًا له بود محبب كي يخفف من حدة بكائه.
, ٥٤ نقطة
, كاد يفتك بها ألم رأسها رغم تناولها العديد من الوصفات الطبية المسكنة للأوجاع، لكن لا نتيجة طيبة معها، فاضطرت أن ترتدي عباءتها لتذهب إلى أقرب مستوصف طبي وتصحب رضيعتها معها للخارج، سألتها عواطف باهتمام:
, -لابسة ورايحة على فين كده؟
, ردت بتذمر وهي تنظر لها بامتعاض:
, -كويس إن في حد معبرني في البيت ده!
, استنكرت أسلوبها التهكمي قائلة:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، مش لازم كل ما نسألك تردي علينا بالطريقة دي!
, صاحت بحدة واضحة مشيرة بيدها:
, -أنا كده ومش هاتغير، واللي مش عاجبه يشرب من البحر!
, -ده سؤال عادي يا نيرمين، لازمتها ايه المندبة دي
, -رايحة أطعم البت!
, سألتها باهتمام:
, -هو ميعاد تطعيمها جه؟
, أجابتها نيرمين بإيجاز:
, -اه!
, أشارت لها بيدها متابعة:
, -طيب استني ألبس وأجي معاكي و٣ نقطة
, قاطعتها مرددة بوجوم:
, -لأ خليكي مرتاحة، كفاية عليكي الهانم اللي واكلة الجو كله!
, مطت عواطف شفتيها بضيق بائن على محياها، وتنهدت قائلة:
, -روحي يا بنتي **** يسهلك طريقك!
, اتجهت ناحية باب المنزل صافقة إياه بقوة خلفها، فخرجت بسمة من الغرفة متسائلة بفضول:
, -هو مين نزل؟
, أجابتها بضجر مشيرة بعينيها:
, -دي نيرمين هاتطعم رنا
, هزت رأسها بعدم اكتراث وهي تضيف:
, -أها، طيب يا ماما في حاجات ناقصة لأسيف و٤ نقطة
, لم تكمل جملتها بسبب إحاطة والدتها لها وضمها لصدرها بحنو زائد عن المعهود، تفاجأت مما فعلته متسائلة:
, -****! بتحضنيني ليه؟!
, رفعت عواطف يديها على وجه ابنتها، ومسحت عليه برفق وهي تجيبها بعاطفة ظاهرة في نبرتها:
, -اوعي يا بنتي تخلي حاجة تقهرك ولا تجبرك تكوني زي أختك، انتي غيرها، وربنا ليه حكمة في اللي بيحصل لكل واحد!
, صدمت مما تفوهت به، فرمشت بعينيها باضطراب، وارتبكت لوهلة من كلماتها الموحية، سألتها بتوتر:
, -هاه.. ليه بتقولي كده؟
, ابتسمت لها مبررة:
, -أنا سمعت كل حاجة، وعرفت بموضوع دياب واللي حصل في غيابنا!
, نكست بسمة رأسها حرجًا من والدتها، وأخرجت تنهيدة عميقة من صدرها رافضة الحديث، تابعت عواطف هاتفة بتمهل مطمئن:
, -أنا مش هعاتبك وأقولك ليه ماحكتيش معايا، بس هانصحك تختاري اللي قلبك يرتاحه!
, رفعت عينيها في وجهها محدقة فيها بارتباك، فواصلت أمها مؤكدة:
, -اختاري البني آدم اللي تحسي معاه إنه راجلك، سندك في الدنيا، يقدر يحميكي ويصونك، وأوعي تفكري إن كل الرجالة زي بعض، نيرمين نصيبها كان كده، بس انتي أعقل واشتغلتي وشوفتي ناس كتير، واللي شاريكي يا بنتي عمره ما هيفرط فيكي!
, لعبت عباراتها المنتقاة بحسن نية دورًا في التأثير على نفسها المضطربة، ربما ليس كبيرًا، لكنها كانت بحاجة إلى مثل ذلك الدعم الإيجابي المشجع لتفكر بذهن صافٍ في اختياراتها المستقبلية.
, ٥٣ نقطة
, لاحقًا، عاد به إلى المنزل قبل أن يذهب للوكالة، وحاول أن يستشف منه ما حدث له ليبدو عنيدًا بتلك الطريقة الغريبة لكنه رفض التجاوب معه، اعتقد أنه أسلوب جديد يلجأ إليه بإيعاذ من والدته للضغط عليه، فعنفه بعصبية:
, -يا ابني انطق مالك!!
, صرخ الصغير مفزوعًا منه مستعيدًا في مخيلته نظرات ناصر المهلكة، زادت رجفته من صياح أبيه المخيف، وركض ناحية جده ليحتمي به، أشفق طه على حفيده، وأحاطه بذراعه قائلاً بهدوء رزين:
, -بس يا يحيى، مافيش راجل بيعيط!
, حاوط الصغير خصر جده بذراعيه مخبئًا رأسه فيه وهو يقول ببكاء مختنق:
, -أنا عاوز مامي!
, مسح طه على رأسه وظهره برفق عله يهدأ قليلاً خاصة أنه استشعر تلك الرعشة المريبة المسيطرة عليه، وهتف قائلاً بصرامة:
, -هنجيبهالك، بس اسكت الأول!
, اغتاظ دياب من دلاله الزائد مع والده، وكأنه يستعطفه ببكائه ليرضخ له مستسلمًا، لم يتحمل تماديه في الأمر أكثر من ذلك، لذا هدر به بانفعال واضح:
, -شايف طريقته، طبعًا بنت الـ٦ نقطة قلبت الواد عليا!
, ارتجف يحيى من أسلوب والده الهجومي، فالتصق أكثر بجده صائحًا بفزع:
, -جدو أنا خايف!
, حدج طه ابنه بنظرات نارية مستنكرة انفعاله الغير مبرر على طفله، ورد بصلابة ليطمئنه:
, -متخافش، محدش هايعملك حاجة
, أشار دياب بسبابته مهددًا:
, -قسمًا ب**** لو ما سكت لهأقوم أعجنه!
, تدخلت جليلة في الحوار على إثر صراخه الهادر قائلة بتحذير:
, -بالراحة يا دياب مش كده!
, لوح بذراعه في الهواء هاتفًا بنفاذ صبر وقد استشاطت نظراته:
, -أنا مش ناقص نكد وقرف!
, بررت والدته سبب بكائه قائلة:
, -ما تصبر جايز في حاجة تعباه!
, رفض تصديق اعتقادها قائلاً باحتجاج قوي:
, -بيخيل عليكي الكلام ده، يا أماه هي أكيد قابلته من ورايا، ماهو مش هايتقلب كده من الباب للطاق!
, زمت فمها قليلاً، ثم تابعت:
, -خلاص أنا هاكلم أمه أخليها تيجي تشوفه هنا
, هنا خرج طه عن صمته الهاديء صائحًا بصلابة مهددة وهو يضرب بعكازه الأرضية:
, -أنا قايل رجلها ماتعتبش هنا يا جليلة!
, التفتت ناحيته قائلة بتوجس:
, -حاضر يا حاج، هانشوف حتة نقعد فيها برا!
, زفر دياب بصوت مسموع، ثم تحرك صوب باب المنزل هادرًا بزمجرة:
, -اصرفوا، بس أنا مش عاوز أشوف خلقة أمها! سيرتها بتحرق الدم!
, ردت قائلة باستياء:
, -ماشي، الواد معايا، اهدوا بس وهاتصرف!
, ٤٤ نقطة
, جرجرت ساقيها نحو المقعد الشاغر في الزاوية بعد أن حجزت موعدًا مع الطبيب المتواجد بالمستوصف الطبي، مررت أنظارها الحادة على أوجه الجالسين حولها مبدية نفورها من كل شيء، بكت رضيعتها فهدهدتها بعصبية مما جعل المرأة الجالسة بجوارها تهتف محذرة:
, -حاسبي البت، مش هاتسكت كده!
, ردت نيرمين بضجر وهي ترفعها على كتفها:
, -قلبي اتنهى معاها، ومش بتبطل عياط!
, أضافت المرأة قائلة:
, -جايز بطنها منفوخة!
, هزت رأسها مرددة باستياء:
, -و**** أنا اللي دماغي هتنفجر مني من أم الصداع اللي مش عاوز يسيبه
, -بيقولوا الضاكتور هنا شاطر، وكل اللي بيجي عنده بيطيب بفضل ****
, -يسمع منك ****!
, انتبهت لصوت الممرضة الصائح بنبرة عالية:
, -اتفضلي يا مدام نيرمين، ده دورك!
, نهضت من مقعدها بتثاقل قائلة بفتور:
, -شكرًا!
,
, ولجت إلى داخل غرفة الكشف بصحبة ممرضة أخرى، وألقت بثقل جسدها المتعب على المقعد متنهدة بإرهاق واضح، تفرس الطبيب في وجهها متسائلاً بجمود:
, -خير، إيه اللي تاعب حضرتك؟
, وضعت يدها على رأسها موضحة:
, -صداع أديله فترة يروح ويجي، بس بقاله يومين مش سايب دماغي!
, سألها الطبيب مستفهمًا:
, -هو إنتي عندك جيوب أنفية؟
, قطبت جبينها مرددة بتساؤل حائر:
, -دي ايه دي؟
, أجابها الطبيب مفسرًا:
, -نوع من أنواع الحساسية بتسبب التهابات و٤ نقطة
, قاطعته متنهدة بتذمر:
, -يا دكتور أنا مش عاوزة رغي كتير، أنا عاوزة دوا وعلاج، جبت أخري خلاص وتعبت!
, رد عليها معترضًا:
, -ماهو ماينفعش اكتبلك دوا من غير ما أشخص صح!
, -وايه المطلوب؟
, -عاوز إشاعة مقطعية على المخ، في مركز في ضهرنا متخصص في الأشعة، والأسعار معقولة فيه!
, -ماشي
, أضاف مؤكدًا بشدة:
, -وقت ما تطلع يا ريت تجيبهالي أطلع عليها
, سألته بإلحاح وهي تربت على ظهر رضيعتها:
, -طيب والصداع؟
, رد الطبيب بنبرة رسمية وهو يدون شيء ما في الورق الموضوع أمامه:
, -هاكتبلك على مسكن مؤقت، بس بأكد عليكي تجيلي وقت ما الأشعة تظهر
, -ماشي
, -شرفتينا، وألف سلامة
, -كتر خيرك!
, خرجت بعدها من غرفة كشفه محدقة في الوصفة الطبية التي أعطاها لها، طوتها لتضعها في حافظة نقودها، وهتفت محدثة نفسها:
, -أما أشوف بالمرة موضوع الأشعة ده! خليني أخلص!
, ٤٤ نقطة
, بدا متوترًا تلك المرة بشكل كبير رغم اعتياده على تنفيذ تلك المهام الغير قانونية، لكن تلك المرة مختلفة، فالمبلغ المعروض عليه نظير إتمامها مغري للغاية، تسلل بحذر نحو المنفذ الجمركي مترقبًا بأعين كالصقر اللحظة المناسبة للتحرك والخروج منه، تنفس بصوت مسموع ماسحًا حبات العرق الغزيرة من على جبينه.
, تأكد حاتم من هدوء الأجواء فاستعد للتحرك بحرص لكنه شعر بألم موجع على كتفه مصحوبًا بصوت آجش خشن:
, -على فين؟
, التفت برأسه للجانب متسائلاً بنبرة مذعورة:
, -انت مين؟
, نظر له الضابط بقوة متسائلاً بجمود متهكم:
, -معاك ايه بقى؟
, خمن هويته سريعًا بعدما جاب بأنظاره ثيابه الرسمية، بالإضافة إلى هؤلاء الرجال المحيطين به، ارتجفت نبرته للغاية وهو يجيبه بتلعثم:
, -أنا.. مش معايا حاجة، ده أنا طالع أركب مكروباص و٤ نقطة
, قاطعه الضابط ساخرًا:
, -علينا يا حاتم
, صدم من معرفته لهويته، فسأله بنزق:
, -انت عرفت اسمي منين؟
, أجابه مبتسمًا ابتسامة انتصار وهو ينظر له بتفاخر:
, -ده انت متوصي عليك جامد!
, انفرجت شفتاه للأسفل بهلع كبير، فتابع الضابط متسائلاً:
, -ورينا مهرب إيه المرادي يا نجم!
, اهتز جسده من فرط الخوف، باتت نهايته وشيكة إن اكتشف ما معه، جاهد ليخفي توتره الكبير لكنه فشل كليًا، أكمل الضابط بتشفٍ:
, -ماهو كله اتكشف خلاص، واللي مشغلينك اتمسكوا معاك!
, هنا أدرك الحقيقة المريرة، مصير مظلم خلف القضبان الموحشة في انتظاره، فتمتم مع نفسه مصدومًا:
, -روحت في داهية يا حاتم!
, ٤٣ نقطة
,
, رفض الخروج من الغرفة لرؤية والدته بعد ترتيب مقابلة معها في أحد المطاعم القريبة من المنزل، وظل يبكي بصورة هيسترية أصابت جدته بالاستياء، مال تفكيرها نحو اعتقاد ابنها بأنها بالفعل طريقة مفتعلة من ولاء للضغط عليهم لكي تأتي إلى المنزل بنفسها، تنهدت يائسة من إجباره على النهوض وتركته في فراشه بصحبة أروى التي كانت تضمه إليها وتلاعبه بلطف.
, سألها دياب مغتاظًا وهي تلج من الغرفة:
, -لسه الواد ده بيعيط؟
, أجابته بصوت حزين مستاء وهي تضم كفيها إلى صدرها:
, -قلبه انفطر يا حبة عيني من العياط!
, صاح بعصبية:
, -مش بأقولك أمه معبية دماغه!
, تساءلت بحيرة وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:
, -بس امتى عملت ده؟ أنا مراقبة يحيى كويس و٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بحدة:
, -جايز قابلته في المدرسة من ورانا واتفقت معاه على كده
, اندهشت من تفكيرها قائلة باستغراب كبير:
, -بس هو ده ينفع؟
, رد بتجهم شرس:
, -مين هايمنعها، ماهي أمه ومن حقها تشوفه، وهاتلعب على الحتة دي!
, -بنت الإيه!
, صاح دياب مهددًا بنبرة شرسة:
, -طب يمين على يمين اللي خلفوها ماهتشوف ضافره ولا هتدخل هنا!
, توجست جليلة خيفة من تهور ابنها خلال عصبيته الزائدة، فاستعطفته بحذر:
, -وطي صوتك، الواد مش مستحمل صريخ!
, رد عليها باهتياج جامح ملوحًا بذراعه في الهواء:
, -يتنيل على عينه وهو طالع لأمه كده
, استنكرت إساءته للصغير الذي لا ذنب له في خلافات والديه، وعنفته بعتاب صريح:
, -حرام عليك! ماتقولش كده عنه، ده حتت سكرة، **** يحميه ويحافظ عليه!
, انزعج من نفسه لتجاوزه في انفعالاته مع ابنه، فانسحب من المكان قبل أن يتمادى ويفعل ما لا يحمد عقباه في لحظة غضب طائشة.
, ٤٤ نقطة
,
, علقت حقيبة يدها على كتفها وهي تهبط الدرج مشغولة البال في ترتيب أولويات ما تحتاج لشرائه، لم تنتبه لشخصه الذي كان يصعد في نفس الوقت الدرجات ليقابلها، فقد اشتاقت لها عيناه وأراد إشباع شغفه بها ولو بالقليل حتى يحين موعد زفافهما، حدق فيها متعجبًا شرودها الذي جعلها لا تلاحظه معتقدة أنه شخص غريب، سد عليها الطريق متسائلاً بعتاب:
, -للدرجادي مش شيفاني!
, انتفضت في مكانها مصدومة من رؤيته أمامها، واصبطغ وجهها بحمرة كبيرة متحرجة من نظراته المعاتبة لها، ردت مدافعة بذهول:
, -منذر! أنا.. و**** ماشوفتك
, ارتفع حاجباه للأعلى هامسًا بابتسامة لطيفة:
, -قولتي ايه؟
, خشيت أن تكون قد أحرجته بعدم انتباهها له، فتابعت معللة بتوتر:
, -أنا دماغي فيها حاجات كتير، وملبوخة و٣ نقطة
, أمسك بيدها لتتوقف عن الكلام محدقة فيه بخجل، طالعها بنظرات عاشقة متشوقة إليها، داعب أصابعها بأنامله وهو يهمس لها بتوسل متيم :
, -أمانة عليكي تقولي اسمي تاني، ده أنا ريقي نشف عقبال ما أخد منك كلمة حلوة!
, حاولت سحب يدها منه هامسة بارتباك كبير:
, -احنا على السلم!
, سألها بتسلية:
, -وده يمنع؟
, ردت بخجل مشوق:
, -الجيران يشوفونا و٣ نقطة
, أمسك بيدها الأخرى لتصبح أسيرة كفيه، وسألها بهدوء:
, -وده ايه علاقة بالاسم؟ اكسبي فيا ثواب!
, توترت من غزله المهلك لأعصابها فهمست بخوف وهي تتلفت حولها:
, -منذر!
, تنهد بحرارة متابعًا باشتياق:
, -هو فاضل أد ايه عشان نتجوز؟
, سحبت يديها منه لتضمها معًا وهي ترمش بعينيها، بينما حك هو رأسه ومؤخرة عنقه مضيفًا بتساؤل:
, -نازلة لوحدك؟
, أجابته ببساطة:
, -لأ عمتي جاية ورايا، أنا بس سبقتها!
, -طيب استني أوصلك
, -مالوش لزوم، احنا مش هنتأخر
, تعجب من عدم انتباهها للأمر جيدًا، فقد أتى خصيصًا من أجلها، وهي تتركه هكذا دون أن يرتوي من حبها الذي يتوق إليه، فعاتبها بامتعاض قليل:
, -طب ده أنا جايلك على فكرة!
, شهقت مصدومة من تصرفها الفظ معترفة بمحدودية تفكيرها، لقد انشغلت بصورة كبيرة لدرجة جعلتها تغفل عن أبسط الأمور، شعرت بخطئها فاعتذرت بتلهف متوسلة السماح منه:
, -أسفة و****، مخدتش بالي خالص!
, عضت على شفتها السفلى مبدية ندمها الشديد، لكنه لم يتمادى أكثر في عتابه، هو أراد فقط لفت أنظارها لوجوده، لذلك ابتسم لها بود وهو يقول:
, -خلاص محصلش حاجة يا حبيبتي، اهدي!
, أرادت أن تعوضه عن غفلتها المؤقتة، فدار ببالها شيء متهور، لكنها واثقة من نتائجه الفعالة التي ستمحو أثر أي شيء، وبلا تردد حسمت أمرها وتجرأت أكثر، شعرت أسيف بدقات قلبها تتسابق حتى بات صوتها مسموعًا وهي تنحني برأسها على صدغه لتضع قبلة رقيقة عليه أصابته بالذهول التام، همست له بنعومة مغرية:
, -أسفة!
, تجمد في مكانه مشدوهًا من حركتها تلك محدقًا فيها بأعينه اللامعة ببريق الحب، بينما انسلت من أمامه سريعًا لتكمل هبوطها على الدرج هاربة منه، هي تركه على أعتاب أبواب الاشتياق المتلهف لها مُضاعفة رغبته أكثر فيها، تعلقت أنظاره بها وتدريجيًا زادت ابتسامته المشوقة من تصرفاتها المحفزة لمشاعره
 
٧٩
لا تعرف ما الذي أصابها لترتكب مثل ذلك التصرف الجامح معه وتعطيه لمحة سريعة من سعادة مضاعفة سينغمس عما قريب في أنهرها، فهو يستحق ذلك بعد مواقفه الرجولية معها، هبطت الدرج سريعًا لكنها تسمرت في مكانها حينما رأت وجهها المتجهم أمامها وأعينها المحتقنة تطالعها بنظراتٍ محتدة للغاية، ازدردت ريقها بتوتر، حتمًا هي رأتهما معًا، وبالطبع لن تفوت الفرصة لتثير مشكلة ما، وحدث ما كانت تخشاه، هدرت نيرمين بصوت مرتفع يحمل الغل:
, -**** ****! ده القوالب نامت والإنصاص قامت!
, ضيقت عينيها أكثر لتصبح أكثر شراسة وهي تكمل:
, -طب اعملي اعتبار للناس اللي لموكي في بيتهم!
, انكمشت أسيف على نفسها خوفًا من الفضائح التي ستنال من سمعتها على يد تلك الحقودة، كانت كلماتها الموحية ونظراتها المظلمة تؤكد نيتها في إحداث كارثة بكافة المقاييس، ندمت على تهورها وتماديها في تصرفاتها في لحظة جنون جامحة فقدمت لها فرصة على طبق من ذهب لتنهش فيها، رغمًا عنها ارتجف جسدها مما سيصير لها، كما بدأت العبرات بالتجمع والتراقص في مقلتيها، وقبل أن تضيف بلسانها اللاذع اتهامات أخرى مسيئة ظهر أمامها منذر الذي هدر بها بقوة متصلبة:
, -عنــــدك! كلمة زيادة وهاقص لسانك!
, وضع قبضته على ذراع أسيف ليجذبها خلفه ليشكل بجسده المهيب درعًا يحميها من أي إساءة قد تطالها منها، حبست نيرمين كلماتها المغلولة في جوفها مرتعدة من تهديده الصريح ضامة لرضيعتها بذراعيها متخذة إياها وسيلة للذود عنها، استمر هو في الدفاع عن زوجته قائلاً:
, -مراتي وأنا حر معاها، وأي حد يفكر بس يجيب سيرتها بكلمة أدبحه!
, رمقها بنظرات احتقارية وهو يتابع بازدراء:
, -وخصوصًا لو كانت انتي!
, استشعرت الإهانة من جملته الأخيرة، فزاد حنقها منه، ردت عليه بغضب:
, -بس مش كده، ولا انت نسيت الأصول يا ابن الحاج طه؟!
, وقف قبالتها يطالعها بنظرات مشتعلة على الأخير وهو يرد بتشنج:
, -أنا عارف حدودي كويس، وكلها كام يوم وأسيف هتبقى في بيتي!
, ضغط على جرح قلبها الذي لم يندمل بعد بتكراره تلك الحقيقة المريرة، أنها زوجته، وأنه فضلها عليها، فحاولت أن تلملم كرامتها المبعثرة صائحة بتهكم مسيء:
, -ولما ده يحصل يبقى نحفظ أدبنا يا ابن الأصول، بس اللوم مش عليك، ماهو التفاحة المعطوبة بتبوظ القفص كله!
, كتمت أسيف شهقاتها الباكية عاجزة عن الرد عليها، هي أعطتها الوسيلة لتفعل بها ما تشاء، رفع منذر كفه عاليًا في الهواء مهددًا بصفعها وهو يقول بانفعال هائج:
, -اخرسي بدل ما ٥ نقطة
, خشيت أسيف أن يضربها فيعقد الأمور أكثر، فانقبض قلبها بدقات عنيفة واندفعت بلا تردد نحوه ممسكة بكفه المرتفع في الهواء هاتفة بتوسلٍ باكٍ مقاطعة جملته:
, -منذر!
, تراجعت نيرمين خطوة للخلف مصدومة من ردة فعله، كانت تتخيل أي شيء إلا أن يهددها علنًا بالصفع، أعادت تلك الحركة ذكريات مشاهد مؤلمة في حياتها الماضية، ذكرتها بطليقها ووحشيته معها، انتفضت في مكانها وهي تسأله بذهول:
, -هاتمد ايدك عليا يا سي منذر؟
, تشبثت أسيف أكثر في ذراعه مانعة إياه من تحريكه بكل ما أوتيت بقوة قبل أن يتهور عليها، بينما حرك هو جسده نحو تلك المقيتة هادرًا بشراسة قاسية:
, -وأقطم رقبتك لو غلطتي!
, توسلته أسيف باستعطاف راجٍ:
, -عشان خاطري بلاش، الناس هتتفرج علينا و٣ نقطة!
, قاطعها ساحبًا يده بعنف من قبضتيها صائحًا بصرامة آمرة:
, -ماتكلميش يا أسيف، واطلعي فوق!
, ظنت نيرمين أنه سيتطاول باليد عليها، فزاد احتماؤها برضيعتها التي انفجرت في البكاء بفعل الصراخ الحاد، ورد إلى ذهنها تصورًا مرعبًا بأنه مثل طليقها سيذيقها ألوانًا من العنف والشراسة المهلكة، فتصرفاته كلها تشير إلى ذلك، نفس الانفعالات، والنظرات، والتهديدات، ارتفعت نسبة الأدرينالين المتدفق في عروقها أضعافًا مضاعفة حتى لم يعد عقلها قادرًا على استيعاب تلك الكمية المندفعة في خلاياه، تأججت حدة صداعها، وتشوشت الرؤية في عينيها، ترنح جسدها من كم الضغط الزائد عليها، وجاهدت لتحافظ على ثباتها رغم حالة الوهن التي غلفت خلاياها بالكامل.
, سألته أسيف بتوجس مذعور:
, -ناوي تعمل فيها ايه؟
, استخدمت كلتا يديها لتدير وجهه ناحيتها لتصرف تركيزه عنها متوسلة بأنين:
, -عشان خاطري اهدى، هي ماتقصدش!
, رد عليها بعصبية:
, -أنا أقسمت ب**** و٣ نقطة
, لمحت من طرف عينها اختلال توازن نيرمين، وتراخي ذراعيها عن رضيعتها، فانقبض قلبها بقوة كبيرة حتى ظنت أنه سيقتلع من مكانه من شدة رجفتها، صاحت بهلع:
, -حاسبي يا نيرمين!
, تركت قبضتيها عن منذر مسرعة نحوها كي تمسك بها قبل أن يتهاوى جسدها وتسقط عن الدرج مع الرضيعة، انتفض هو الأخر في مكانه متحركًا صوبها كي يمد لها يد العون ممسكًا بالصغيرة وهو يردد:
, -البت هاتقع!
, تثاقل جسدها وخارت قواها فمادت بالأرض رغم محاولات أسيف عدم تركها، بينما حمل منذر الرضيعة قائلاً بامتعاض:
, -حركة مفقوسة منك، فيلم هابط مفضوح، بس مش هتفلت مني!
, أحست بتلك البرودة التي كست بشرتها، وبالشحوب المريب الذي سيطر على وجهها فصاحت بفزع:
, -لالالا، ده ايديها متلجة خالص!
, ضربت على وجنتها برفق محاولة إفاقتها بعد أن غابت عن الوعي مرددة بخوف كبير:
, -ردي عليا يا نيرمين، سمعاني، نيرمين فوقي، محدش هايعملك حاجة!
, نظر لها شزرًا غير مقتنع بكل ما تفعله، وتمسك بكونها تمثيلية مصطنعة للهروب من عقابه المحذر لها، أولاها ظهرها محاولاً تهدئة الرضيعة التي لم تتوقف عن الصراخ مطلقًا مبرطمًا بكلمات ساخطة من بين شفتيه، هتفت فيه أسيف بذعر:
, -الحقها يا منذر، مش بترد خالص!
, في تلك الأثناء هبطت عواطف الدرج بتريث فتفاجأت بتمدد ابنتها على الأرضية فاقدة للوعي، شخصت أبصارها وجزع فؤادها خوفًا عليها لمجرد رؤيتها على تلك الوضعية، أكملت هبوطها هاتفة بنبرة مرتعدة:
, -نيرمين بنتي! ايه اللي حصلك؟
, أسرعت نحو ابنتها تضمها إلى أحضانها بعد أن جثت أمامها على الأرضية تحدثها بقلب أمومي مذعور، زفر منذر بصوت مسموع، وجمد أنظاره المغتاظة عليها، تيقن أنها لا تدعي ذلك بالباطل، بل هناك خطب ما بها، وبامتعاض واضح عليه صاح بصيغة آمرة:
, -خدي البنت، حاسبي يا أسيف!
, رفعت رأسها نحوه متسائلة بتخوف:
, -هاتعمل ايه؟
, أجابها بصلابة وهو يميل نحوها بالرضيعة الباكية:
, -هاطلعها لفوق!
, نهضت من مكانها محتضنة الصغيرة بذراعيها محاولة تهدئتها برفق، بينما انحنى للأسفل حاملاً نيرمين بين ذراعيه ليتجه بها إلى الطابق العلوي حيث منزلها، تساءلت عواطف بخوف:
, -مالها؟ جرالها ايه؟
, أجابتها أسيف بتردد:
, -وقعت ٣ نقطةعلى السلم وكنا بنحاول نفوقها
, ردت عليها عمتها بتلهف مذعور وهي تربت على صدرها بحركات متكررة:
, -استرها يارب، قومها بالسلامة عشان خاطر بنتها!
, ٤٤ نقطة
, -خلاص! غلبت وجبت أخري معاه!
, هتفت جليلة بتلك العبارة وهي تضرب فخذيها بانفعال طفيف بعد فشلها في إجبار الصغير على الذهاب معها لرؤية والدته كما كان يلح طوال اليوم، نظر لها زوجها بجمود قائلاً بحيرة:
, -الواد ده مش طبيعي!
, وضعت إصبعيها على طرف ذقنها متابعة بتوجس:
, -أنا خايفة أقول لأبوه يتهبل عليه، ده ممكن يموته في ايده لو٣ نقطة
, قاطعها طه هاتفًا بصوته الخشن:
, -لأ، مافيش داعي!
, سألته بحيرة واضحة على محياها:
, -طب والعمل؟ هانخلي المحروسة تجيله هنا؟!
, زفر مستاءً من ذكر اسم تلك اللعينة التي أفسدت حياة ابنه، ثم رد بحدة صارمة:
, -استغفر **** العظيم يا رب، أنا قولت ايه؟
, أشارت بيدها قائلة بقلة حيلة:
, -طب ماهو على يدك؟ أنا عمالة أتحايل عليه من صباحية **** وهو راكب دماغه وهاري نفسه من العياط لحد ما في الأخر تعب ونام!
, أشفق على حاله البائس، ثم استند بكفيه على رأس عكازه متسائلاً باهتمام:
, -والبت أروى لسه معاه؟
, أجابته بتنهيدة حزينة:
, -مش عاوزة تسيبه، وهو متشعبط في رقبتها، أهي تاخد بالها منه!
, نهض طه من مكانه واقفًا ثم أومأ بعينيه متابعًا بنبرة رزينة:
, -عمومًا أنا هاشوف الموضوع ده مع دياب، أكيد هايكون ليه حل!
, زادت نبرته صرامة وهو يكمل محذرًا:
, -بس البت دي مش هاتعتب هنا يا جليلة، سمعاني! مش هاتدخل هنا في غيابي!
, هزت رأسها ممتثلة لأمره وهي تقول:
, -أوامرك يا حاج! هو أنا أقدر أعصيلك كلمة؟!
, مط فمه مكملاً بجمود:
, -أما أشوف، أنا نازل الوكالة!
, نهضت من مكانها بتثاقل لتتبعه بخطى متريثة وهي تردد:
, -**** معاك ويعينك يا حاج طه!
, ٤١ نقطة
,
, أسندها برفق على الفراش واضعًا رأسها على الوسادة، ورغم انزعاجها من أسلوبها الفظ والفج في الإساءة إليها إلا أنها أرادت الاطمئنان على حالها، خاصة أن إغماءتها كانت مقلقة نوعًا ما، تراجع منذر بحذر للخلف ليترك المجال لأختها لتدثرها بالغطاء كي لا ينكشف جسدها، أبعد عينيه عنها، ووقف بالخلف قائلاً بثبات واثق:
, -دلوقتي تفوق وتبقى كويسة!
, هدهدت أسيف الرضيعة حتى سكنت تمامًا وغفت في أحضانها، بينما تساءلت بسمة باستغراب كبير وهي توزع أنظارها بينهم:
, -هو حصلها ايه؟
, أجابها منذر بهدوء حذر:
, -غميت على السلم
, هتفت عواطف بامتنان وهي تمسح على جبين ابنتها الغافية:
, -الحمد**** إنكم كنتم موجودين ولحقتوها!
, ثبتت أنظارها على ابنة أخيها متابعة بود حنون:
, -**** أعلم كان ممكن يحصل ايه لو محدش شافها، ولا بنتها رنا، مش قادرة أتخيل!
, عجزت أسيف عن الرد عليها، شعرت أنها لا تستحق ذلك الشكر والعرفان بالجميل، بل على العكس هي كانت المتسببة في إيذائها بصورة غير مباشرة، نكست رأسها خجلاً منها شاعرة بالخزي لكونها قد لجأت للكذب، وأخفت حقيقة الأمر عنها، حينما طال صمتها ردت بسمة بجدية:
, -قدر ولطف يا ماما!
,
, ناولت أسيف الرضيعة لابنة عمتها برفق، ثم أسرعت هاربة من أمام عمتها التي خذلتها شاعرة باختناق كبير في صدرها، استشعر منذر ما بها، فلحق بها بخطوات متمهلة، رأها تلقي بجسدها على أقرب أريكة مخبئة وجهها بين راحتيها، وقف خلفها واضعًا كفه على كتفها متسائلاً بقلق:
, -مالك يا حبيبتي؟
, أجابته بصوت خفيض لكنه كان مختنقًا بشدة:
, -أنا وحشة أوي، أنا اللي عملت فيها كده، أنا لو٣ نقطة
, وضع يده الأخرى على كتفها، ثم بدأ في تدليكه برفق كمحاولة منه لتهدئة أعصابها المشدودة، وقاطعها بهدوء:
, -ماتكمليش، هي اللي غلطت، ومش من حقها تكلم بالباطل عن حد
, شعرت بأنامله القوية تفرقع فقراتها المتيبسة فاسترخى كتفيها إلى حد ما، لكن بقيت أعصابها متوترة، ردت عليه بارتباك:
, -بس كان ممكن ٤ نقطة
, مال عليها برأسه ليهمس لها بجدية مجبرًا إياها على قطم عبارتها:
, -خلاص، اللي حصل حصل!
, شعرت بأنفاسه الساخنة تلفح أذنها، فاقشعر بدنها من تأثيره القوي عليها، خاصة أنه لم يتوقف عن تدليك كتفيها، أكمل منذر بهدوء:
, -ارمي ورا ضهرك يا حبيبتي وماتفكريش فيها كتير!
, أغمضت عينيها مستسلمة لذلك الشعور الرهيب الذي اجتاح خلاياها ليصيبها بالسكينة، وزاد تأثيره مع كلماته المتغزلة بها حينما قال:
, -أسيف، إنتي طيبة وحنية، ومش كل الناس تفكيرها زيك، ولا قلبهم حنين، فاهدي وفكري في نفسك شوية!
, أخرجت تنهيدة عميقة من صدرها أراحتها قليلاً، يكفيها حاليًا ذلك الإحساس المخدر لتوترها المتشنج، ابتسم لتجاوبها معه ولنجاحه في إزالة حزنها تاركًا أثرًا مشوقًا بداخلها، همس لها بتسلية:
, -مافيش تصبيرة كده، أنا تعبت جامد وطالع وشايل و٣ نقطة
, فهمت مقصده على الفور فتورد وجهها كليًا بحمرة طاغية، هبت واقفة من مكانها مبتعدة عنه وهي تهز رأسها نافية:
, -تاني! لالالا، أنا حرمت!
, نظر لها عاقدًا ما بين حاجبيه بعتاب وهو يقول:
, -بقى كده؟
, هزت رأسها مؤكدة رفضها تكرار ما حدث قائلة باقتضاب عابس:
, -ايوه
, وضع منذر يده على رأسه يحكه بضيق، ثم هتف ممتعضًا:
, -يعني الحكاية وقفت عليا بخسارة!
, ابتسمت بخجل وهي تطالعه بأعين لامعة ببريق العشق، ثم أسرعت مبتعدة عنه قبل أن يتهور معها بأفعال أخرى قد تورطها من جديد.
, ٥٣ نقطة
, أفاقت من إغماءتها لتجد والدتها جالسة إلى جوارها على الفراش تحاول إطعامها ذلك الحساء الساخن لكي تستعيد دمويتها من جديد، ملت نيرمين من ارتشافه، فأزاحت الصحن بعيدًا عنها وهي تقول بصوت شبه متحشرج:
, -أنا بقيت كويسة! كفاية!
, أصرت عواطف على إنهاء الحساء كي تنعم بفائدته الكلية هاتفة:
, -طب كملي الشوربة دي و٣ نقطة
, ردت مقاطعة بتذمر:
, -يا أمي مش عاوزة خلاص، شبعت!
, أسندت الصحن في الصينية جامعة بواقي الطعام فيه، تنهدت بتعب وهي تضيف:
, -الحمد**** إنها عدت على خير، ده أنا قلبي كان موجوع عليكي إنتي وبنتك!
, لوت نيرمين ثغرها مرددة على مضض:
, -أنا بقيت زي الجن أهوو!
, أراحت جسدها للجانب متسائلة باهتمام قليل:
, -بس مين جابني هنا؟
, أجابتها عواطف بحماس واضح وهي تشير بيدها موضحة:
, -**** يباركله سي منذر، هو اللي شالك وجابك و٣ نقطة
, انفرجت شفتاها للأسفل في صدمة، كما اتسعت حدقتيها مذهولة من تصرفه، هي لم تتوقع أن يفعل هذا معها، ورددت بعدم تصديق:
, -بتقولي مين!
, أكدت على ما قالته مضيفة بامتنان:
, -ايوه، مخلصوش تتمرمطي على السلالم قدام اللي طالع واللي نازل! طول عمره شهم وابن أصول!
, اكتست عيناها بحزن كبير وهي تهمس باستياء محبط من بين شفتيها العابستين:
, -كان فين ده من زمان، بعد ايه بقى!
, لم تفهم والدتها كلماتها الخفيضة، فسألتها مهتمة:
, -بتقولي ايه يا نيرمين؟
, ردت عليها بامتعاض مخرجة تنهيدة ثقيلة من صدرها:
, -ولا حاجة! خليني أريح شوية، عاوزة أنام!
, -ماشي، وأختك أكلت رنا وغيرتلها وهي نايمة
, -طيب
, سحبت عواطف الصينية من على الفراش قائلة:
,
, -هاننزل احنا نكمل حاجات أسيف، مش عاوزة حاجة من تحت؟
, أجابتها باقتضاب وهي تغمض عينيها بيأس جلي:
, -لأ!
, شردت في محاولة تخيل كيف كانت بين ذراعيه، كم تمنت تلك اللحظة ألاف المرات وفي كل مرة كانت تتوهم موقفًا مختلفًا يقرب بينهما، لكن لا جدوى الآن من كل ذلك، هو كسر قلبها، وحطم حلمها، وأباد عن عمد ما تبقى من رفات أحلامها، انسابت من طرف عينها عبرة خائنة تحمل الكثير من أحزانها.
, ٤٦ نقطة
, تجولت ثلاثتهن بذلك السوق الشعبي المليء بالكثير من المنتجات محلية الصنع وأخرى مستوردة من بلدان عدة، لم تعرف أسيف عنه مطلقًا، تفاجأت بكم البضائع المنوعة المتواجدة به، وأبدت إعجابها بأغلب ما رأته، هتفت بسمة بحماس:
, -السوق ده بيقولوا في حاجات حلوة وبالجملة كمان؟
, زاد انبهارها وهي تسألها بفضول كبير:
, -وانتي عرفتيه منين؟
, أجابتها بنبرة عادية وهي تهز كتفيها:
, -زمايلي في الشغل كانوا بيحكوا عنه!
, حدقت أسيف في واجهات المحال التجارية المختلفة محاولة اكتشاف بضائعهم المعروضة، وأغرتها التصميمات الجميلة الموضوعة على "موديلات" العرض، أكملت بسمة باهتمام:
, -ده غير إن في محلات فيها بواقي التصدير، وماركات أخر موديل، وحاجات مقولكيش تهبل!
, -كل ده!
, -طبعًا!
, ردت عواطف بابتسامة عريضة:
, -يا ماشاء ****! ده أنا أول مرة أجي هنا!
,
, على مسافة قريبة منهن، سارت متتبعة أثرهن وهي تنتوي شرًا، لقد عاهدت نفسها أن ترد الصاع صاعين لطليقة ابنها نظير ما اجترته من أفعال مع ابنتها، لم تبرد نارها بعد، وتأججت أكثر بإلقاء القبض على ابنها، أنبئها حدسها أنها تقف وراء ذلك، فحان وقت الانتقام من عائلتها، لذلك استأجرت عدة نساء ممن عرف عنهن القيام بأعمال البلطجة والعنف للاعتداء عليهن، وأتت فرصتها الثمينة.
, تساءلت امرأة ما بصوت خشن مقلق:
, -هما دول؟
, كزت لبنى على أسنانها بغيظ وهي ترد:
, -أيوه، شوفتيهم!
, هزت المرأة رأسها كعلامة تأكيدية على جوابها، فتابعت مضيفة بنبرة عدائية:
, -عاوزة عضمهم يتكسر، متقوملهومش قومة! خدوا بتارنا منهم!
, ردت المرأة قائلة بابتسامة خبيثة:
, -عينينا يا أم حاتم، دي شغلتنا!
, لوحت بإصبعيها لمن معها لتتبعها وهي تقول بصيغة آمرة:
, -يالا يا ولية منك ليها
,
, تحركن سريعًا خلفهن، وسبقتهن إحداهن لترتطم بجسدها عن عمد ببسمة، مما أجبر الأخيرة على التوقف من شدة الألم الذي أصاب كتفها، وقبل أن تعنفها على تصرفها الأهوج، تفاجأت بتلك المرأة تصيح بها بصوت متعصب يحمل الإهانة:
, -مش تفتحي وإنتي ماشية، ولا اتعميتي!
, اندهشت أسيف من طريقتها الهجومية المتطاولة عليها، في حين فغرت بسمة شفتيها هاتفة باستنكار مزعوج:
, -هو أنا جيت جمبك؟ ولا ده جر شكل؟!
, لكزتها المرأة من كتفها قائلة بحدة وقد قست نظراتها على الأخير:
, -لأ بقى إنتي قاصدة تجري شكلي
, تدخلت عواطف بتوجس محاولة تهدئة الأجواء بينهما قبل أن تشتعل بمشادة كلامية، فهي أدرى الناس بابنتها حينما تتهور، لذلك ردت قائلة:
, -معلش يا بنتي، الدنيا زحمة، والناس ماشية تخبط في بعض!
, نظرت المرأة شزرًا لها هاتفة بسخط:
, -يبقى تاخدي بالك بدل ما نقل أدبنا عليكي!
, صدمت عواطف من وقاحتها وعدم مراعاتها لفارق السن العمري بينهما، اغتاظت بسمة من طريقة تعاملها مع والدتها فردت بتهكم:
, -شكلها تلأيح جتت!
,
, لم تنتبه ثلاثتهن لتلك الدائرة التي تشكلت حولهن من هؤلاء النسوة ليتمكن من التطاول باليد عليهن حينما يتلقين الإشارة المناسبة، هتفت المرأة بصياح جهوري ملوحة بذراعيها في الهواء:
, -كمان بتغلطي فيا، أنا مش سيباكي النهاردة!
, أعطت إشارة الهجوم لتبدأ النساء في الاعتداء عليهن من كل الاتجاهات، تفاجئن بما يصير معهن، وحاولن الدفاع عن أنفسهن على قدر المستطاع، تأزم الوضع، وزاد الصراخ المصحوب بالضربات الموجعة، استنجدت عواطف بمن حولها عل أحدهم يتدخل ويفض ذلك الاشتباك المفتعل، فصاحت بصوت متألم:
, -يالهوي، الحقونا يا ناس!
, تلقت أسيف ضربة مؤلمة على رأسها وأخرى عنيفة على ظهرها فتأوهت بألم شديد، وحاولت حماية وجهها من الخدوش الناجمة عن أظافر إحداهن صارخة بفزع:
, -ساعدونا، آآه!
, صرخت بسمة مستغيثة:
, -يا ناس حوشوهم عنا
, صاحت المرأة هادرة وهي تجذب **** بسمة عن رأسها محاولة كشف شعرها:
, -يا بنت الـ ٧ نقطة، أنا هاربيكي يا ٧ نقطة!
, قاومتها الأخيرة قدر المستطاع كي لا تظفر بحجابها هاتفة بصوت متألم:
, -سيبي طرحتي يا ٦ نقطة!
,
, انتبهت إحداهن لصوت الصراخ الصادر على مقربة من محلها، فاشرأبت بعنقها لترى أطرافه، ارتفع حاجباها للأعلى باندهاش عجيب حينما وقعت أعينها على معلمة ابنها، هتفت مصدومة:
, -****! ست الأبلة!
, لم تتردد أم منصور في الركض نحوها لمساعدتها توًا، هي قدمت لها خدمة من قبل وساعدت ابنها، وحان الوقت لرد الجميل أيًا كان سببه، اندفعت وسطهن مقتحمة بجسدها أجسادهن المتكالبة عليهن لتتمكن من الولوج بينهن وهي تصيح بصوتها الرنان:
, -عندك يا مَرَة منك ليها، الستات دول تبعي!
, رفعت بسمة عينيها للأعلى لتجد أم منصور، نجدتها التي أتت من السماء لتزود عنها بطشهن الظالم، فتوسلتها بصوت مختنق للغاية:
, -الحقيني **** يكرمك!
, أحاطتها بذراعها مانعة تلك النساء من الاستمرار في اعتدائهن هادرة بثقة جلية:
, -ماتخافيش، إنتي في منطقتي هنا!
, نجحت في فض الاشتباك بينهن بصياحات قوية مهددة للجميع، وبالطبع امتثلت النساء لها، فهن يعرفن إياها حق المعرفة، هي ذات سطوة في ذلك السوق الشعبي الكبير، والأغلب يعرف قدرها وقوتها، ومن يتجرأ عليها ويتحداها ينل عقابه منها، وقفت في المنتصف مشمرة عن ساعديها ومسلطة أنظارها على هؤلاء النسوة، هتفت المرأة بنبرة حادة:
, -لينا عندهم حق يا أم منصور!
, هدرت فيها بنبرة قوية لا تحمل إلا الصرامة:
, -ولا حق ولا دياوله، بأقولك يا ولية الأبلة دي وجماعتها تبعي! فهمتي ولا مخك تخين؟
, فهمت من طريقتها المهددة تلميحًا صريحًا بعد المساس بها، ومخالفة أمرها يعني مشكلة جادة معها، ضغطت المرأة على شفتيها متمتمة بامتعاض:
, -ماشي يا أم منصور، مش هنردلك كلمة!
, تأوهت عواطف بأنين موجوع متحسسة جسدها الذي تورم بفعل الضربات العنيفة قائلة بخفوت وهي تمرر أنظارها على أوجه تلك النساء المخيفات:
, -اه يا عضمي، منهم لله، ورموا جسمي
, تحسست أسيف كتفيها الموجوع برفق وهي تتساءل بعدم فهم:
, -مين دول أصلاً؟
, أجابتها بسمة بحيرة وهي تعيد ضبط حجابها على رأسها بعد أن كان شبه منتزعًا:
, -أنا مش عارفة هما مين، دي أول مرة أشوفهم!
, التفتت أم منصور نحوها، وردت عليها بجدية شديدة:
, -يا ست الأبلة النسوان دول شلأ، ولبش وحاجة تيييت، يعني شكلهم متسلطين عليكم!
, قطبت بسمة جبينها باستغراب كبير عقب عبارتها المريبة تلك، هي لم تفتعل أي عداوات مؤخرًا ليتم التدبير لتلك المشاجرة الحادة، حدقت أمامها في الفراغ بنظرات ضائقة متسائلة بحيرة كبيرة:
, -بس يا ترى مين وزهم علينا ٣٧ نقطة ؟!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨٠
ظل تفكيرها مشغولاً بمحاولة تخمين هوية من يقف وراء تدبير حادثة الاعتداء عليهن، ليس الأمر عابرًا كما ظنت في البداية، لكن هناك شخص خفي أراد إلحاق الأذى الجسيم بهن، وهذا الشخص على معرفة وطيدة بهن، وتربص بتأنٍ وجودهن في السوق الشعبي لينفذ خطته الماكرة، هداها تفكيرها المتعمق إلى زوجة الجزار، فقد توعدتها بالانتقام الشرس قبل فترة، وربما هي من لجأت إلى هؤلاء النسوة لتلقنها درسًا عنيفًا، لم يخطر ببالها مُطلقًا أن تكون الجانية هي حماة أختها السابقة، انتهى مشوارهن التسوقي قبل أن يبدأ ليعاودن أدراجهن إلى المنزل منهكين على الأخير.
, تعجبت نيرمين من عودتهن باكرًا، فتساءلت باستخفاف ساخر:
, -خير إن شاء ****، السوق شطب بدري، ولا جبته ضلفه!
, تنهدت عواطف بانهاك وهي تجيبها بضجر:
, -لأ يا فالحة، ده احنا اتمرمطنا هناك!
, لوت ثغرها متسائلة بعبوس قوي:
, -ليه؟
, أجابتها بإرهاق وهي تدلك عظام كتفها:
, -احنا اتكتبلنا عمر جديد، شوية ستات منعرفش مين جوم هجموا علينا!
, بدا الفضول واضحًا عليها لمعرفة التفاصيل أكثر، فسألتها باهتمام:
, -وبعدين؟ كملي!
, التقطت والدتها أنفاسها متابعة:
, -ولولا ستر **** والست معرفة أختك بسمة كان زمانا روحنا في دوكة!
, -أنا مش فاهمة حاجة!
, قالتها نيرمين بامتعاض ظاهر عليها، ثم هتفت قائلة وهي تجذبها من ذراعها نحو الأريكة لتجلسها إلى جوارها:
, -اقعدي كده وفهميني بالراحة إيه اللي حصل!
, سردت لها مستخدمة ذراعيها كوسيلة للتوضيح ما دار بالسوق الشعبي، واستطاعت هي سريعًا أن تربط بين ما سمعته من تهديدات سابقة متوعدة بالاعتداء الشرس على عائلتها من حماتها اللعينة وبين ما حدث اليوم، هبت واقفة من مكانها هاتفة بلا وعي:
, -بنت اللذينة عملتها؟
, نظرت لها عواطف بغرابة متعجبة من تبدل أحوالها للانزعاج ونظراتها للحدة، فسألتها مستفهمة:
, -قصدك مين؟
, أجابتها بغموض وقد قست نظراتها على الأخير:
, -مافيش غيرها، كانت ناوية على كده
, ضجرت والدتها من الحصول على إجابة واضحة منها، فهتفت بنفاذ صبر وهي تربت على فخذيها بتعب:
, -يا بت قولي مين؟!
, تقوس فمها للجانب، وقطبت جبينها مبدية اشمئزازها الصريح قبل أن تنطق بنفور:
, -الحيزبونة أم البأف اللي كنت متجوزاه!
, لطمت أمها على صدرها هاتفة بصدمة:
, -يانصيبتي!
, -وربنا ما أنا سيباها
, وقفت عواطف على قدميها لتمسك بابنتها من ذراعها، أدارتها نحوها قائلة بجدية وهي تحذرها:
, -خلاص يا بنتي، اللي حصل حصل، مش هانفضل نعيد ونزيد معاها، هي ولية شر، **** يسهلها بعيد عننا، كفاية مشاكل بقى، احنا معدناش مستحملين!
, -يا أماه دي٤ نقطة
, -كفاية يا نيرمين!
, اضطرت أن تستسلم لإلحاح والدتها، فزفرت قائلة باستياء رغم شراسة نظراتها:
, -ماشي.. هي ليها يومها بردك!
, لاحقًا اتفق جميع من في المنزل على تناسي تلك الحادثة وعدم ذكرها مطلقًا كي لا تتسبب في افتعال مشاجرات حامية من جديد.
, ٣٧ نقطة
, مرت عدة أيام انشغلت فيها أسيف بالتحضيرات النهائية لزفافها الوشيك، وعاونتها بسمة بكل حيوية ونشاط مستمتعة معها بدور وصيفة العروس، سعدت عمتها للتقارب الودي القوي بين الاثنتين، وتمنت لو كانت ابنتها الكبرى تشاركهن الفرحة، لكنها انعزلت عنهن و انخرطت – دون علمهن - في دوامة التحاليل الطبية والأشعة المختلفة لمعرفة أسباب مرضها المجهول، ومع ذلك لم تحصل على جواب كافٍ من طبيبها الذي كان يشك في مسألة ما.
, تبقى لها وضع النواقص الشخصية في حقيبة سفرها لتصبح جاهزة، تنهدت بتعب بعد أن وضبطت كافة متعلقاتها الخاصة، وقعت عيناها على أشياء والدتها الراحلة، فمدت يدها لتمسك بكل منهم على حدا، تحسست حافظة نقودها وقربتها إليها لتشتم رائحتها الجلدية، حدقت في هاتفها القديم، كم اشتاقت لسماع صوتها الذي كان يبعث على الدفء والراحة، نظرت إلى ما تبقى من أدويتها المسكنة، لم تتخلَ عنهم، بل احتفظت بهم لتذكرها بها، تحرك بؤبؤاها نحو مسبحة والدها، فتلمستها برفق وأغمضت عينيها لتستعيد صورته في مخيلتها، باتت ذكراهما بعيدة عنها رغم رحيلهما القريب، تجمعت العبرات في مقلتيها متأثرة بتفكيرها المشتاق لهما.
, ولجت إليها بسمة مستغربة حالتها الواجمة تلك، فمررت نظراتها سريعًا على ما معها، تفهمت الأمر دون الحاجة إلى سؤالها، جلست إلى جوارها على طرف الفراش قائلة بهدوء:
, -هما في مكان أحسن دلوقتي، ادعيلهم بالرحمة
, مسحت تلك العبرات التي علقت بأهدابها وهي ترد:
, -**** يجمعني بيهم في الجنة
, ابتسمت بسمة مازحة محاولة تلطيف الأجواء:
, -يارب، وبعدين في عروسة تعيط قبل فرحها، ده حتى فال وحش!
, ردت عليها مبتسمة ابتسامة باهتة قائلة:
, -حبيبتي يا بسمة، أنا مكونتش متخيلة إن احنا هنبقى قريبين أوي كده بعد المشاكل والخلافات اللي كانت بينا
, -سبحان ****، ما محبة إلا بعد عداوة
, -**** ييسرلك كل أمورك يا بسمة!
, تبادلت الاثنتان أحضانًا ودودة للحظات، ثم تراجعت أسيف للخلف متسائلة باهتمام:
, -المهم إنتي فكرتي في اللي عاوزاه؟
, أجابتها ابنة عمتها بتنهيدة مطولة:
, -لسه محتارة! مش قادرة أخد قرار، خايفة أوافق وأرجع أندم إني اتسرعت
, ردت عليها أسيف بهدوء:
, -خدي وقتك يا حبيبتي، وكلنا معاكي!
, هي مدركة لحالة التخبط الشديد في أفكارها، لتلك الصراعات الدائرة بين عقلها وقلبها، وأي قرار متعجل قد يأتي بنتائج عكسية، لذلك من الأسلم حاليًا التأني في التفكير حتى تصل إلى قرارها الأخير.
, ٥١ نقطة
, حالة من الخوف المستمر سيطرت على إداركه الحسي بصورة مقلقة حتى انعكست على أحلامه والتي ضمت الكوابيس المفزعة فأرقت ليله الطويل بصراخ خائف، ناهيك عن نهاره الباكي المفعم بالهلع والرعب، لم يتجاوب مع والده وظل في حالة رهبة دائمة منه مما اضطره لتجنبه كي لا يثور عليه بعد أن فقد أعصابه لأكثر من مرة معه، ورفض الصغير الحديث مطلقًا عما يخيفه.
, اعتقدت جدته أن للأمر علاقة بأعمال السحر، وساورتها الشكوك حول وجود مسٍّ سفلي به، باحت بهواجسها لزوجها الذي نهرها بتعنيف صارم:
, -بطلي تخاريف يا ولية، جن ايه ده اللي هيركب الواد؟!
, ردت موضحة بنبرة مرتعدة:
, -يا حاج ده السحر مذكور في القرآن، وناس كتير حصلهم كده!
, عبست قسماته بشدة، وهدر بها بانفعال طفيف:
, -بأقولك ايه، بلاش جنان
, أصرت على اعتقادها مضيفة بدلائل محسوسة:
, -طب ماهو على يدك احنا جبناله الضاكتور وقال زي الفل، إنت مش شايف عامل إزاي، ده زي ما يكون اتلمس من اللهم احفظنا و٣ نقطة
, قاطعها طه بصلابة:
, -جليلة! مش عاوز كلام في الموضوع ده، الواد هيبقى كويس
, مصمصت شفتيها قائلة بيأس:
, -يا ريت، هو أنا أكره!
,
, استمع إلى جدالهما بانزعاج ظاهر على تعبيراته، فرك فروة رأسه بحيرة وهو يتنهد بصوت مسموع، التفت برأسه للجانب قائلاً بإحباط:
, -استغفر **** العظيم، أنا احترت ومش عارف أعمل ايه معاه!
, احتدت نظراته أكثر وهو يكمل بغضب بائن في نبرته:
, -بنت الـ٨ نقطة زنقتني مع ابني، الواد خايف يبص في وشي، وأنا خلاص زهقت وقرفت!
, رد عليه منذر بجدية مشيرًا إلى لحظات تهوره المعروفة:
, -ما انت اتجنيت عليه أكتر من مرة!
, برر دياب موقفه المتعصب قائلاً باستياء:
, -من غلبي، هو مش مريحني
, فرك منذر طرف ذقنه مضيفًا بريبة أزعجته هو الأخر:
, -الغريبة إن ابنك رافض يشوف أمه!
, رد عليه دياب بحدة:
, -وده هيطير برج من نافوخي، منين هي وحته عليا ومنين هو مش عاوز حتى يخرج من الأوضة؟!
, صمت الاثنان للحظات يفكران في حل لتلك المعضلة التي تجاوزت الحدود، طرأ ببال منذر فكرة ما، ظن أنها مناسبة إلى حد كبير، لذلك اقترح بلا تردد:
, -طب أنا عندي حل جايز ينفعك
, -ايه هو؟
, -ما تكلم الأبلة بتاعته!
, انعقد ما بين حاجبي دياب باندهاش وهو يتساءل:
, -قصدك مين؟
, غمز له منذر من طرف عينه مبتسمًا بعبث:
, -بسمة!
, ارتفع حاجبي الأخير للأعلى مبديًا اندهاشه من ذلك الاقتراح المثير، ربما لوجوده في وسط المشاكل لم يستطع التفكير بذهنٍ صافٍ، وحجب عن عقله الكثير من الحلول الميسرة التي تضمنتها بالطبع، غفل عنها غير متعمد، تابع منذر موضحًا بجدية:
, -ابنك بيحبها ومتعلق بيها، وهي شاطرة مع العيال جايز تفهم منه ماله وترتاح!
, تشكلت ابتسامة راضية على محياه هاتفًا:
, -تصدق فكرة حلوة!
, أضاف منذر بهدوء وهو يشير بيده:
, -أنا رايح عند أسيف دلوقتي أجيب شنطها من هناك لهنا، تعالى معايا وكلمها!
, -ماشي، هاغير هدومي على طول!
, -وأنا مستنيك تحت!
, وكأن الدنيا قد ابتسمت له من جديد بمجرد ترديد اسمها، شعر دياب ببريق الأمل يلوح في الأفق لكونها ستساعده بطريقة أو بأخرى، بالإضافة لكونها فرصة طيبة لتبادل الحديث معها بعد أن عزفت عنه لأيام عدة، فباتت لياليه طويلة جافة.
, ٤٠ نقطة
, ألقت بهاتفها المحمول على الفراش بعد تلقيها موعدًا جديدًا من الطبيب المتابع لحالتها المرضية المجهولة، استاءت من كثرة طلباته ومن عدم جدوى علاجه المؤقت، لم يفارقها الصداع، بل على العكس كان يتزايد باستمرار حتى بات يؤثر على إبصارها، استمعت والدتها إلى صراخها المحتد، فولجت إلى الغرفة متسائلة بتوجس:
, -مالك يا نيرمين
, لم تجبها بل بدأت تنوح بصوت مسموع مما جعل قلق والدتها يزداد عليها، اقتربت منها متفرسة ذلك التبدل المريب في أحوالها، لفت أنظارها تلك التحاليل الطبية الموضوعة على الفراش، فسألتها بعدم فهم وهي تطالعهم بنظرات حائرة:
, -دول ايه يا بنتي؟
, أجابتها بنبرة مختنقة وهي تدفن وجهها بين راحتيها:
, -أنا تعبانة ومحدش دريان بيا، خلاص قرفت من كل حاجة!
, انقبض قلبها بقوة من جملتها تلك، وسألتها بتلهف:
, -تعبانة، بتشتكي من ايه؟
, أبعدت يديها لتكشف عن وجهها الباكي، ثم أجابتها بتذمر:
, -مش عارفة لسه، وخلاص زهقت
, احتضنت عواطف وجه ابنتها بكفها قائلة بعتاب:
, -طب مقولتيش ليه؟ هو أنا مش أمك؟!
, أشفقت على حالها كثيرًا، وحاولت احتوائها لكن نبذت ابنتها عاطفتها هاتفة بسخط:
, -هو في حد فاضيلي، ما كلكم ملبوخين مع الهانم اللي خدت كل حاجة مني حتى انتو!
, أغمضت عواطف جفنيها للحظة محبطة من قسوتها المستمرة، لم يرق قلبها بعد نحو ابنة خالها الوحيدة رغم مرور الأيام، تنهدت مطولاً، ثم تابعت على مضض:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، طب استهدي ب**** وشوفي عاوزة ايه وأنا أعملهولك!
, أجابتها بغضب:
, -عاوزة أخلص من الهم اللي وقعت فيه
, سألتها والدتها باهتمام وهي تنظر نحوها:
, -طب انتي المفروض هتروحي للضاكتور امتى؟
, أجابتها بفتور مكفكفة عبراتها:
, -كلموني من العيادة وقالولي النهاردة!
, هزت عواطف رأسها هاتفة بجدية:
, -خلاص هاجي معاكي
, لوت ثغرها مرددة بامتعاض:
, -مالوش لازمة، شوفي المحروسة اللي برا
, أصرت أمها على الذهاب معها قائلة:
, -انتي بنتي، ومش هاسيبك!
, لم تعلق عليها بل اكتفت بالتحديق فيها بنظرات غامضة تحمل الحنق والسخط، هي مؤمنة بكونها تعيسة الحظ لم تنل من الحياة إلا القليل.
, ٤١ نقطة
,
, تعرقت من كثرة المجهود الذي بذلته فقررت أن تستحم لتنعش جسدها من جديد، لم يخطر ببال بسمة مجيئه في تلك اللحظة تحديدًا، ولذا لم تتخذ حذرها حينما ولجت للمرحاض حاملة معها فقط مناشفها القطنية، قرع جرس الباب فتوجهت أسيف لفتحه، ابتسمت بخجل حينما رأته أمامها يطالعها بنظراته المتلهفة لها، أردف قائلاً بصوت خفيض متعمدًا مدحها:
, -القمر بنفسه بيفتحلي!
, رمشت بعينيها بحياء، وانتبهت لوجود أخيه خلفه فتجمدت الكلمات على شفتيها، شعرت بالحرج الشديد من غزله الصريح أمامه، وعضت على شفتها السفلى متحاشية النظر إليه، سألها منذر بهدوء دون أن يحيد بعينيه عنها:
, -أخبارك ايه؟
, تورد وجهها بخجل أكبر وهي ترد:
, -الحمد****، أنا خلاص جهزت كل حاجة، بس هابلغ عمتي إنك موجود
, هز رأسه قائلاً:
, -تمام!
, استمر في التحديق بها بنظرات شغوفة متناسيًا العالم من حوله حتى شعر بلكزة خفيفة في جانبه، فتذكر حضوره معه، تنحنح بخشونة متسائلاً:
, -بالمناسبة بسمة هنا؟ دياب كان عاوزها في خدمة!
, استغربت من طلبه ذلك وهي ترد بإيجاز:
, -اه، اتفضلوا!
, تنحت جانبًا لتسمح لهما بالمرور وهي تشير بيدها للداخل، أسرع منذر في خطواته نحو غرفة الضيوف ليجلس بالداخل، بينما تباطأ دياب في سيره محاولاً التطلع خلسة حوله عله يلمح طيفها، لكن خاب أمله، كان المكان خاويًا منها، لم ينتبه لطرف السجادة فتعثر بها، وكاد يهيم على وجهه لولا تداركه الموقف، حلت عقدة رباط حذائه نتيجة تلك الحركة المباغتة، فانحنى للأسفل ليربطها.
, في نفس التوقيت خرجت من المرحاض ملتفة بمناشفها لا يبرز منها إلا جزء من ساقيها، تنبهت حواسه لصوتها المدندن فرفع أبصاره في اتجاهها، خفق قلبه بدقات فرحة لرؤيتها، وزادت سعادته بانعكاس صورتها في عينيه، على عكسه تسمرت في مكانها مدهوشة حينما رأته محنيًا على الأرضية أمامها مبتسمًا لها ابتسامة عريضة.
, اتسعت حدقتاها بصدمة، وشعرت بتلك السخونة المتدفقة إلى وجهها، هتفت بنزق:
, -انت؟!
, انتبه لكونها على أريحيتها، فأخفض بصره متحرجًا، ثم اعتدل في وقفته ليوليها ظهره وهو يقول بارتباك مشيرًا بيده:
, -احم.. انتي شكلك كنتي مشغولة!
, حدقت في نفسها فتفاجأت بخروجها على تلك الحالة المتجاوزة، خرج من جوفها شهقة مصدومة، ثم اختفت راكضة من أمامه شاعرة بحرج كبير للغاية،
, جاهد دياب ليخفي ضحكاته الغبطة بخجلها، فقد تصادف دومًا رؤيته لها في مواقف عجيبة تشعرها بالحياء والحرج، وهو مثلها يتحاشى قدر المستطاع التطلع إليها في تلك الظروف رغم رغبته فيها، أراد ألا يتجاوز معها حتى بالنظرات في أبسط الأمور محافظًا عليها، رغم كون الموقف غير مقصود إلا أنه أخرجه من حالة الضجر التي كان يعايشها، استمتع لثوانٍ بعفوية أنعشت روحه المنهكة، تنفس بعمق، وولج إلى داخل غرفة الضيوف ليلحق بأخيه.
, ٤٩ نقطة
, ضربت جبينها بكفيها معاتبة نفسها على عدم اتخاذها حذرها أثناء استحمامها، وإلا لما وضعت في ذلك الموقف المخجل أمامه ليتكرر مشهد جديد يضاف إلى ذلك الذي عاصرته من قبل، لامت نفسها مرددة بحنق:
, -غبية! ازاي تخليه يشوفك كده!
, أسرعت بارتداء ثيابها مكملة عتابها القاسي لنفسها:
, -دلوقتي يقول عني ايه؟ ولا يفكر فيا ازاي! متخلفة!
, كورت قبضتي يدها بحدة ضاغطة على أصابعها بقوة مستشعرة الحرج الشديد منه، التهب وجهها بحمرة صريحة مستعيدة نفس المشهد في عقلها، انتفضت في مكانها بخضة حينما أطلت أسيف برأسها من باب الموارب هامسة:
, -دياب عاوزك برا!
, تضاعف ارتباكها وهي ترد بتجهم:
, -اه ما أنا شوفته
, سألتها أسيف باهتمام وهي تشير بعينيها نحو الخارج:
, -طيب هاتطلعي تكلميه
, هزت رأسها بالإيجاب مرددة:
, -ايوه جاية!
, ابتلعت ريقها مضيفة بجمود زائف:
, -اديني دقيقتين بس أظبط نفسي
, ابتسمت لها ابنة خالها قائلة برقة:
, -براحتك!
, استشعرت الأخيرة خجلها، واعتقدت أن ترددها الظاهر عليها يرجع لوجوده بالخارج، فأعطتها مساحة من الحرية لتختلي بنفسها وتستعد نفسيًا للحديث معه، فربما قد جاء لمفاتحتها من جديد في مسألة الارتباط الرسمي، بدت بسمة في حيرة واضحة بعد انصرافها، دق قلبها بعنف كبير حتى توجست خيفة من أن يكون قد أصابها مكروه ما، توترت أكثر للقائها به رغم كونه عاديًا، لكن مؤخرًا تغيرت كثيرًا، وصارت أكثر تحسسًا من وجوده حولها، تساءلت مع نفسها بتوتر:
, -طب أطلع أقوله ايه؟ لالالا، أرفض، طب ما أنا قولتلها جاية!
, زفرت بصوت مسموع قبل أن تكمل حديث نفسها المرتبك:
, -خدي نفس يا بسمة واهدي، محصلش حاجة، وماشفش حاجة منك، عادي ياما بيحصل!
, تنفست عدة مرات بعمق لتضبط انفعالاتها، لكن ما لم تستطع السيطرة عليه هي تلك الحمرة التي تصبغ وجهها، يئست من إخفائها فاضطرت أسفة أن تخرج من الغرفة على تلك الحالة.
, ٤٩ نقطة
,
, على قدر المستطاع تعمد أن يكون هادئًا جديًا معها كي لا يشعرها بالحرج، لكن عصفت بداخله حربًا هوجاء أرادتها بشدة، فرائحتها الزكية تثير أنفه وحواسه مما شتت تركيزه لأكثر من مرة، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو ثابتًا أمامها، ابتسم قائلاً بحذر:
, -أنا محتاج منك خدمة لو مكانش ده يضايقك
, ردت بسمة بارتباك طفيف وهي تتعمد التحديق في أي شيء إلا وجهه:
, -اتفضل، أنا سمعاك!
, قص لها باختصار ما ألم بابنه فاستغربت كثيرًا لكون يحيى طفلاً طبيعيًا واجتماعيًا مع الأخرين، لذلك اعتبرت تبدل أحواله للنقيض أمرًا خطيرًا ومقلقًا خاصة حينما علمت أنه مصحوبًا بالصراخ والبكاء المتواصل، هزت رأسها قائلة بجدية:
, -أنا هاتكلم معاه، وهاحاول أعرف ماله، يا رب بس يقولي!
, تنهد قائلاً بتلهف:
, -يا ريت!
, استشعرت ذلك بقوة حينما التقت عيناها بعينيه وهو يضيف:
, -أنا بجد محتاجلك!
, رمشت بعينيها قائلة بتردد:
, -بس.. ده عشان خاطر يحيى وبس
, حافظ على ابتسامته رغم انزعاجه من جملتها تلك، وردد قائلاً:
, -تمام، وأنا هاكون شاكر جدًا لتعبك ده
, ابتسمت مجاملة وهي تقول:
, -عادي
, احنى رأسه نحوها ليحدق مباشرة في حدقتيها هامسًا بنبرة ذات مغزى:
, -بس مش عادي بالنسبالي!
, ارتجف بدنها من كلماته الموحية والمصحوبة بتنهيداته المعبرة عن حبٍ نمى بداخله، ربما طبع أثره في نفسها وسيزداد وضوحًا إن أعطته الفرصة للبروز.
,
, راقبهما الاثنان من خارج الغرفة بعدما انسحبا منها ليتمكنا من الحديث على انفراد، ظلت أسيف صامتة، مقتضبة في حديثها مما دفع منذر للاسترسال معها، لكنها أعطته إجابات مختصرة، لاحظ تحديقها المستمر ببسمة، فاستشف معرفتها بأمر أخيه، لذا هتف قائلاً بمكر:
, -و**** لايقين على بعض، صح؟
, التفتت نحوه هامسة وهي تهز كتفيها:
, -يعني، **** يكتبلهم الخير!
, تحرك خطوة للجانب ليحجب عنها الرؤية قاصدًا الحصول على انتباهها الكلي وهو يضيف بعبث:
, -بس مش زينا بردك
, مد كفه ليتلمس يدها المسنودة إلى جانبها، فسحبتها للخلف متجرحة من احتمالية رؤية عمتها لها، غمز لها عن قصد، فنظرت له محذرة، وقبل أن يتمادى معها سألته بجدية مصطنعة محاولة تشتيت انتباهه:
, -منذر، ممكن أسألك في حاجة؟
, وضع إصبعه على طرف أنفها ليداعب أرنبته قائلاً بهدوء وهو يرمقها بنظراته الحنونة:
, -انتي تطلبي على طول
, أرجعت رأسها للخلف قائلة بجدية:
, -الدكان!
, سحب يده إلى جواره متسائلاً بجمود مريب قد حل عليه من كلمتها المقتضبة تلك:
, -ماله؟
, تابعت موضحة باهتمام:
, -هايفضل مقفول، أنا كان نفسي أوضبه وأعمل فيه مشروع صغير
, ضغط على شفتيه بقوة بعد أن تنهد بصوت مسموع قائلاً:
, -بعدين نتكلم في ده، دلوقتي احنا ورانا فرح وجواز وحاجات تانية أهم
, ظنت أنه يتهرب من الإجابة عليها لرفضه العمل به من الأساس، فاحتجت على طريقته بحدة طفيفة:
, -يعني إنت مش عاوزني ٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بتريث عقلاني:
, -يا حبيبتي قبل ما تظني السوء، نتجوز وبعد كده نتكلم في ده، مش وقته خالص
, رمقته بنظرات مزعوجه من مماطلته، وقبل أن تواصل استرسالها جاءت إليها عمتها قائلة بحرج ظاهر في نبرتها:
, -معلش يا ابني، ممكن نطلب منك خدمة!
, استدار منذر ناحيتها هاتفًا بوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
, -اتفضلي يا ست عواطف
, بدت مترددة بدرجة ملحوظة وهي تسأله بلطف:
, -تودينا في سكتك عند عيادة الضاكتور ((١٢ نقطة))
, سألها مهتمًا:
, -ليه؟ انتي تعبانة ولا حاجة؟ بتشتكي من..
, قاطعته أسيف متسائلة بخوف:
, -عمتي مالك؟
, رأت الهلع في نظراتهما فقالت بهدوء لتبعث الطمأنينة عليهما:
, -مش أنا، دي نيرمين بنتي، هي محروجة تطلب مساعدة من حد، وأنا مش هاسيبها لوحدها، قلبي مش جايبني أشوفها كده وأفضل أتفرج عليها
, هتفت أسيف بلا تأخير:
, -مش لازم نستنى، احنا نوديها على طول، ده شيء واجب
, استجاب منذر هو الأخر لرجائها رغم امتعاضه من اصطحاب تلك السمجة معه حينما رأى عدم وجود أي معارضة من زوجته لها، فأضاف قائلاً بفتور:
, -مافيش مشكلة، أنا هانزل استناكم تحت لحد ما تجهزوا
, ردت عليه عواطف بامتنان كبير:
, -كتر خيرك يا ابني، جميلك ده مش هننساه!
, لوح لها بإصبعيه مكملاً بجمود:
, -ولا يهمك! سلامو عليكم!
, حدقت أسيف في عمتها بعد انصرافه قائلة:
, -رغم اللي بتعمله معايا، والغل اللي بأشوفه في عينيها ليا بس أنا مش بأكرهها و****، دايمًا بأدعيلها، جايز تتغير معايا!
, يومًا بعد يوم تثبت لها ابنة أخيها أنها ابنة بارة بأهلها وأقاربها، فربتت على ظهرها قائلة بود:
, - تسلمي يا بنتي، **** يحنن قلبك دايمًا على عبيده!
,
, خرجت بسمة من غرفة الضيوف صائحة بنبرة شبه مرتفعة لتلفت الانتباه نحوها:
, -ماما، أنا هاروح مع دياب عند طنط جليلة!
, نظرت لها الاثنتان بغرابة، فتابعت موضحة:
, -ابنه في مشكلة ومحتاجين مساعدتي ضروري
, سألته عواطف بتوجس:
, -خير ماله؟
, أجابها دياب قائلاً بابتسامة باهتة:
, -اطمنوا مش حاجة خطيرة، بس هو عنده مشكلة في الكلام معانا، وجايز الأبلة تعرف تحلها
, هزت عواطف رأسها بتفهم ومع ذلك ردت بحرج قليل:
, -بس احنا كنا رايحين مع نيرمين للضاكتور
, أدارت بسمة رأسها في اتجاه دياب الذي كان يرمقها بنظرات تحمل الرجاء، أخرجت تنهيدة قوية من صدرها مبدية حيرتها الطفيفة، لكن سريعًا ما لبث أن حسمت أمرها قائلة:
, -طيب خدوا وقتكم معاها وأنا هاسبقكم على هناك!
, تنفس الصعداء لاستجابتها لرجائه، وشعر بتقديرها الكبير للموقف مما عمق من مكانتها في قلبه، حتمًا هي تملك قلب أم حنون، تمنى لو قبلت بعرض زيجته لقدم لها الدنيا على طبق من ذهب فقط ليحظى بابتسامة صافية من على شفتيها ٣٦ نقطة !!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%