NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الطاووس الأبيض | السلسلة الرابعة | ـ واحد وسبعون جزء 4/11/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,834
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
14,982
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
➤السابقة





1
تهادت في خطواتها وهي تواصل التقدم للأمام، إلى حيث أشار لها عند الطاولة المستديرة المقاربة للشاطئ، قبيل المغرب، سبقها بخطوتين ليتمكن من إزاحة مقعدها قليلاً كنوعٍ من اللباقة حتى تجلس عليه، فابتسمت في رقةٍ لتهذيبه، تحرك بعدها وجلس إلى مقابلها. دقيقة من الصمت سادت بينهما قبل أن تقطعها ريم متسائلة:
, -مش هاتقولي جايبني هنا ليه يا ماهر بيه؟
,
, أسند الأخير متعلقاته على سطح الطاولة، وقال بوجهٍ تزينه ابتسامة عذبة:
, -عشان نتكلم على راحتنا.
, ثم طلب منها بجدية:
, -وأتمنى نشيل الرسميات بينا.
, لم تبدُ مرحبة بتلك الفكرة، فاكتفت بالصمت لبعض الوقت، وتطلعت بعيدًا عن وجهه، نحو زرقة المياه الداكنة. حاول ماهر تجاذب أطراف الحديث معها فاستطرد مجددًا:
, -إنتي عارفة إن أمر فيروزة يهمني، باعتبرها زي أختي علا، واللي مرت بيه مكانش هين، وخصوصًا إن صاحبنا كان آ٣ نقطة
,
, ملّت من تكراره لنفس الحجج المستهلكة كلما طلب الالتقاء بها، لذا تلك المرة لم تتحمل تبريره لرؤيتها، وقاطعته بصوتٍ ثابت، وتعابير وجه كانت تميل للرسمية:.
,
, - ماهر بيه حضرتك وضحتلي الأسباب كلها قبل كده، وأنا كتبتها في المفكرة بتاعتي، وحقيقي مقدرش أفاتح المريضة بتاعتي في أسرارها بدون ما تكون هي مستعدة لده، وفي نفس الوقت مقدرش أطلع أسرارها لحضرتك لمجرد إنك عايز تطمن عليها، وإن كنت حضرتك مش واثق فيا، وحاسس إنيي مقصرة معاها يبقى تقدر تشوف بديل.
, شعر بالحرج لانكشاف أمره، وحمحم محاولاً تلطيف الموقف:
, -مش كده خالص، بالعكس أنا مبسوط إنها معاكي.
,
, حملقت فيه بنظراتٍ مشككة وهي تسأله:
, -طيب، أومال في إيه؟
, أخبرها دون احترازٍ، وبتجريد اسمها من أي لقب يمكن أن يبقى الحاجز الوهمي بينهما قائمًا:
, - ريم بصراحة كده أنا باستريح للكلام معاكي، وجايز موضوع فيروزة ده حجتي عشان أعرف أشوفك، بدل ما ترفضي.
, تفاجأت من اعترافه، واحتفظت بملامح وجهٍ غير مقروءة حينما ردت متسائلة بهدوءٍ:
, -وإيه اللي يخليني أرفض؟
, قال مبتسمًا في بلاهة:
, -مش عارف.
,
, اكتفت بتلك الابتسامة الحمقاء، ولم تلاحقه بأسئلتها، ثم نظرت حولها في غير وجهة محددة، إلى أن توقفت عيناها على الأمواج، كأنما تتأمل حركتها المتتابعة، شتت نظراتها عنها حينما أردف يسألها:
, -تحبي تشربي إيه؟
, اعتذرت بلباقةٍ:
, -مش عايزة، شكرًا.
, ألح عليها بلطفٍ:
, -يبقى إنتي زعلانة مني.
, صارحته بما يختلج صدرها الآن من مشاعر مزعوجة:
, -لأ، بس محبش أحس إن في حدد مقلل مني.
, من تلقاء نفسه اعتذر منها بشدةٍ:.
,
, -وأنا استحالة أعمل كده، وحقك عليا لو كنت ضايقتك من غير قصد.
, التوت شفتاها ببسمةٍ صغيرة، وقالت وهي تومئ برأسها:
, -اعتذارك مقبول.
, استرخى في جلسته، وأصر عليها بسؤاله؛ ولكن تلك المرة بعينين لامعتين في اهتمامٍ كبير:
, -طب تمام، ها تشربي إيه بقى؟
,
, لليوم الرابع على التوالي تأتي في نفس موعدها، وتسير في نفس الشارع بثيابها السوداء لتتجه إلى دكانها، حينها فقط يشعر وكأن يومه قد بدأ بوجودها، فيزداد نشاطًا، ولا تفارق البسمة محياه. اضطر تميم أن يرضخ لتعليمات أبيه، وألا يبارح مكانه سوى عند الضرورة القصوى، منعًا للقيل والقال، في مجتمع يستسهل نشر الشائعات بدلاً من تحري الدقة، وإيقاف النميمة. بصوته الجهوري نادى على أحد عماله، ومستخدمًا يده في الإشارة أيضًا:.
,
, -خد ياض هنا.
, امتثل لأمره، وقال صاغرًا:
, -نعم يا معلم.
, لف تميم ذراعه حول كتفي العامل، ومال على أذنه يُحادثه، بصوتٍ تعمد خفضه:
, -هتعدي على دكان الأبلة، بتاع لوازم السبوع، وتاخد واد معاك، تشوفوا طلبتها، إن كان في حاجة تتروق ولا تتنقل، وتقولها الحاج بدير هو اللي باعتني.
, أومأ برأسه في طاعة، وغمغم بجدية:
, -ماشي الكلام.
, ربت على جانب ذراعه بضعة مرات هاتفًا بلهجةٍ احتفظت بصرامتها، دون أن يرخي ذراعه عن كتفيه:.
,
, -وماتخلوهاش تعمل قشاية، مفهوم؟
, لم يعارضه العامل، بل أظهر له انصياعه الكامل:
, -أوامرك يا ريسنا.
, ربتة أخرى خفيفة على جانب ذراعه قبل أن يحرره وهو يوصيه:
, -يالا أوام، وماتسيبوهاش إلا لما تقفل.
, همَّ العامل بالركض في اتجاه الطريق المؤدي إليها وهو يردد:
, -عينيا.
, فرك تميم كفيه معًا في انتشاء، وعيناه معلقتان في الطريق أمامه، ليهمهم مع نفسه وهو يدور بنظراته في المكان متتبعًا خطوات العامل:.
,
, -على الأقل كده أطمن عليكي، ولو حتى من بعيد لبعيد.
, حاد بنظراته عنه، ليلتفت نحو أبيه الذي ناداه:
, - تميم!
, هلل معلنًا استجابته له:
, -جايلك يا حاج.
, توجس من احتمالية ملاحظته لاهتمامه الزائد بمتابعة ما يدور في دكانها، فجاهد ألا يبدو مرتبكًا أمامه، لذا دنا منه حتى وقف قبالته، وانتظر سؤاله التالي له، متوقعًا أن يكون عنها؛ لكن لحسن حظه سأله:
, -إيه الأخبار عندك يا تميم؟ الرجالة جهزوا النقلة؟
, هز رأسه قائلاً بارتياحٍ:.
,
, -كله تمام يا حاج.
, استحسن بدير اجتهاده في عمله، وتابع متسائلاً:
, -حلو، عملت إيه في دكان العجلاتي؟
, بعد لحظة من التفكير، استخدم تميم يده في التوضيح حينما جاوبه:
, -كلمنا المهندس، وخد المقاسات وهيعرض على هيثم الرسمة.
, زم شفتيه هاتفًا وهو يستدير ليجلس على مقعده الخشبي:
, -خير.
, سبقه تميم في خطواته ليقربه منه، فربت والده على جانب كتفه امتنانًا من صنيعه، انتظر ريثما جلس الأخير، وسحب كرسيه إلى جواره مستطردًا:.
,
, -صحيح، كنت عايزك في موضوع يا حاج.
, تحولت كامل أنظار بدير إليه، قبل أن يستقيم بكتفيه سامحًا له بالكلام:
, -قول.
, تنحنح ممهدًا لموضوعه:
, -دلوقتي هيثم فاتحني من مده قريبة، في موضوع شرا شقتي القديمة.
, تعقدت ملامحه متسائلاً بدهشة:
, -شقتك؟!
, أعاد سرد الموقف بصورة أخرى مُبسطة:
, -هو مش شرا على أد ما نقول عليه إنه بدل!
, طالعه بنظراتٍ جادة وهو يكرر عليه في صيغة تساؤلية:
, -أنا مش فاهم حاجة، يعني مالها شقتك؟ عايزها منك ليه؟
,
, ببساطةٍ علل له الأسباب التي قصها عليه ابن خالته:
, -هو عاوز ينقل فيها مع مراته، ويبع بيت أمه، مش عايز يفضل فيه، وأنا اقترحت عليه نبدل.
, استغرب بدير كثيرًا مما سمعه، ولسان حاله يتساءل:
, -ليه كده؟
, جاوبه كذلك في حيرة:
, -معرفش دماغه فيها إيه.
, بهزات متعاقبة من رأسه أردف في صوتٍ جاد:
, -عمومًا أنا هتكلم معاه بعدين، ويالا عشان نشوف ورانا إيه، الشغل مابيستناش حد.
, نهض تميم من على كرسيه أولاً وهو يرد، ليحمله بعدها بكفه:.
,
, -حاضر يا حاج.
,
, تأكدت من ضبط الأكمام معًا، قبل أن تطوي القميص النظيف، وتضعه فوق كومة الملابس المرتبة، تلك التي انتهت من طيها وتنظيمها. أدارت همسة رأسها في اتجاه زوجها الجالس على الطرف الآخر من الفراش، يتطلع إلى التلفاز بنظراتٍ شاردة، مدت يدها وأمسكت بقطعة أخرى من الثياب، وسألته بحذرٍ:
, -برضوه مش عايز تروح تشوفها؟
, فهم أنها تقصد والدته دون أن تفسر ذلك علنًا، فقال بتعابيرٍ جامدة:
, -لأ.
, تنهدت تخبره بما يُقارب الرجاء:.
,
, -يا هيثم مهما كان دي أمك، وأكيد زيارتك ليها هتفرحها.
, التفت يحدجها بنظرة منذرة وهو يشدد عليها:
, -قفلي على الموضوع ده يا همسة، مش عايز أتكلم فيه تاني.
, تأملت وجهه المتجهم، فأدركت أنه لا يمزح، لذا لم تستمر في محاولتها اليائسة لإقناعها بالعكس، وهسهست في استسلام:
, -براحتك.
, غيَّر زوجها من مجرى الحوار متسائلاً بصوتٍ لان قليلاً:
, -ميعادك إمتى مع الدكتور؟
, بعد زفيرٍ سريع أجابته مستفيضة في التوضيح:.
,
, -بكرة على المغرب، اتفقت مع فيروزة تعدي عليا ونروح سوا.
, لم تتبدل ملامحه المتجهمة عندما علق:
, -اعتذريلها.
, سألته باسترابةٍ:
, -ليه؟ في حاجة؟
, جاوبها بتعابيرٍ حاول أن تكون مسترخية قليلاً:
, -هاجي معاكي، فمالوش لازمة نخليها تيجي.
, ابتسمت لاهتمامه، وقالت في استحسان:
, -ماشي يا حبيبي، أنا هاعرفها الصبح، عشان برضوه لو وراها تخلصها، افتتاح محلها قرب.
, قال وهو يعاود التحديق في شاشة التلفاز:
, -**** معاها.
,
, بمنديلها الورقي مسحت العرق المتجمع عند مقدمة رأسها، بعد أن أغلقت الباب خلفها، لتتجه بعدها نحو غرفتها، وتضع آخر مجموعة من الأكياس الممتلئة بالنواقص أرضًا، تبعتها والدتها وهي تجفف كلتا يديها بمنشفة المطبخ القديمة، ألقت عليها نظرة ماسحة، وسألتها بنبرة مهتمة:
, -عملتي إيه النهاردة؟
, ابتسمت رغم التعب، وأجابتها:
, -الحمد****، هانت، معدتش إلا حاجة بسيطة.
, سألتها بحاجبين معقودين:
, -هتنزلي تاني؟
,
, فركت فيروزة جبينها بيدها، وحللت من عقدة حجابها الأسود قائلة بزفيرٍ مرهق:
, -لأ، مش مستاهلة.
, ردت في حبورٍ:
, -على خيرة ****، كمان أختك اتصلت.
, أخرجت فيروزة منامتها من الرف الأوسط بضلفة الدولاب، ووجهت أنظارها نحو والدتها تسألها:
, -هي كويسة؟
, هزت آمنة رأسها إيجابًا وهي ترد:
, -أيوه، بتقولك هاتروح مع جوزها عند الدكتور بكرة، فمافيش داعي تعطلي نفسك.
, ردت بعد زفير متعب:.
,
, -أوكي، طالما مش هتبقى لواحدها، وأنا كمان هاستغل الوقت ده، واشتري الكام حاجة اللي نقصاني، بحيث أبقى قفلت المحل من كل حاجة.
, ابتسمت والدتها معقبة:
, -**** يعينك يا بنتي، وأنا من بدري هاخد خالك ونطلع على دكتور العلاج الطبيعي، الصراحة الراجل مش متأخر علينا، عامل كل اللي في وسعه عشان خالك يرجع يقف على رجليه.
, دعت له بصدقٍ:
, -**** يجيب الشفا من عنده.
, أمنت عليها مرددة:
, -يا رب.
,
, تساءلت فيروزة وهي تحمل أشيائها لتتجه إلى الحمام:
, -أومال كوكي فين؟
, جاوبتها وهي تشير بيدها نحو الخارج:
, -أكلت ونامت جمب أبوها.
, حررت شعرها المعقود ليتنفس الهواء، وأخبرتها:
, -عايزة أبقى أشوف يوم كده أفسحها فيه، حرام هي بقالها كتير محبوسة، ويوم ما بتخرج بندويها يا عند دكتور، يا عند مركز العلاج الطبيعي.
, أشفقت عليها عمتها، ورددت في عطفٍ:
, -أه و****، غلبانة أوي البت دي٣ نقطة
,
, لكن سرعان ما تبدلت نبرتها للتفاؤل وهي تختتم جملتها:
, -بس **** عوضها خير بيكي، ما إنتي أختها الكبيرة.
, ظهرت ابتسامة صغيرة على ثغرها عندما ردت:
, -**** يخليكي لينا يا ماما.
, تحركت والدتها خلفها، وأضافت:
, -صحيح سمعت في التلفزيون إن احتمال الجو يقلب آخر النهار، مش فاهمة كانوا بيتكلموا عن منخفض كده جاي.
, علقت عليها بتهكمٍ:.
,
, -هو حد يصدق بتوع الأرصاد يا ماما، ما هو على طول بيقولوا هتطلع برد، نلاقيه حر، هتمطر، منلاقيش ولا نقطة نزلت، سبيها على ****.
, رغم عدم اقتناع ابنتها بهذا التحذير إلا أنها أكدت عليها:
, -إنتي خلصي بس بدري، وخدي بالك.
, قالت كنوعٍ من الواجب:
, -ماشي.
, أكملت بعدها سيرها نحو الحمام لتغتسل من عناء يومٍ آخر كان مشحونًا بالكثير من المهام، انقضت غالبيتها على خير، وأكسبتها المزيد من الثقة، والشعور بالقدرة على الإنجاز.
,
, هدهدت رضيعها في لطفٍ حذر، حتى يستغرق في نومه الهانئ، بعد أن انتهت من إطعامه. تطلعت إليه هاجر بعينين تعكسان حزنًا عميقًا، لم ترغب أن ينشأ صغيرها على ماضٍ غير مشرف خلفه له والده المُخادع، ربما قد يعايره به أحدهم عندما يشتد عوده، ويعي ما يدور حوله. أرجأت التفكير في مستقبله المجهول مؤقتًا لتحملق في وجه والدتها التي أطلت عليها متسائلة في محبة عظيمة:
, -حبيب قلبي نام؟
, ردت بابتسامة هادئة:
, -أه الحمد****.
,
, أراحت نصفها السفلي على الفراش، لتبدو في مواجهة ابنتها، ثم استطردت تسألها، وهي تشملها بنظراتها المهتمة:
, -فكرتي يا حبيبتي في الموضوع إياه؟
, من البادرة الأولى لم يتفقه ذهنها لمقصدها، فردت متسائلة:
, -موضوع إيه؟
, أجابت بابتسامة عريضة، وهي تربت على ركبتها، كنوعٍ من إظهار الألفة لها:
, - سراج العريس، أرد على أبوكي وأقوله إيه؟
, اكتسبت ملامحها طابعًا منزعجًا، وقالت في ضيقٍ لم تخفه:
, -لسه بفكر يامه٣ نقطة
,
, ما لبث أن فقدت انضباط أعصابها، وسألتها بألمٍ محسوس في صوتها، وهي بالكاد على وشك الانخراط في البكاء:
, -هو إنتو مستعجلين على إيه؟ للدرجادي أعدتي معاكو مضيقاكم؟ فعايزين تجوزوني؟
, استنكرت ونيسة محدودية تفكيرها، وهتفت مبررة دوافعها:
, -حاشا لله، ده بيتك يا هبلة، وقسمًا ب**** أبوكي ما نطق بكلمة، ده أنا من نفسي اللي جتلك، وقولت أزن عليكي عشان تاخدي الموضوع بجدية٣ نقطة
,
, ثم مدت يدها لتمسح عبراتها المنسابة على خدها، وتابعت بحنوٍ أمومي:
, -ده إن كان على أبوكي عايزك ماتفرقيش حضنه لثانية، ده احنا اتعلقنا ب سلطان الصغير أكتر منك.
, سحبت هاجر نفسًا عميقًا لتثبط به نوبة البكاء التي هاجمتها، ربما بسبب وضعها الحرج، فأصبحت أكثر حساسية عن ذي قبل، مدت ذراعها قليلاً لتلتقط منشفة ورقية من علبة المناديل الموضوعة على الكومود، نفخت فيها أنفها، واقتضبت قائلة:
, -**** ييسر.
,
, استمرت ونيسة في تهوين الأمر عليها بترديدها:
, -وإنتي بكرة لما ابنك يكبر هيبقى نفسك تفرحي بيه، وتجوزيه النهاردة قبل بكرة، وقتها هتحسي بيا، وتفتكريني، ما هو فرحتنا بعيالنا ماتتصوفش.
, نظرت إليها في صمتٍ، فأتمت والدتها كلامها بحذرٍ:
, -بصي أنا مش هضغط عليكي، لما توصلي لرأي ابقي عرفيني، المهم عندي تبقي مرتاحة ومتهنية في حياتك.
, حررت زفرة خانقة من صدرها وهي تعقب عليها:
, -إن شاء****.
,
, غادرت بعدها ونيسة الغرفة، وعينا هاجر تتابعاها في وجومٍ، لن تنكر أنها ترغب في تذوق طعم السعادة، في استعادة ما كانت تتنعم به من دلالٍ وغنج؛ لكنها في نفس الوقت تخشى من التجربة، خاصة مع رواسب العداوة القديمة؛ وإن كانت ترى –على الرغم من غرابة الوضع- مدى الانسجام والألفة بين شقيقها و سراج، وذاك أكثر ما يثير الحيرة والتساؤل في عقلها المزدحم بمخاوفه!
,
, بضغطة شبه قوية من ركبته على الحقيبة الجلدية العتيقة، الموضوعة على أرضية غرفة جده، تمكن تميم من جر السحَّاب في مجراه بعد أن علِق لأكثر من مرة، وغلقها. استقام بعدها واقفًا، وزحزح الحقيبة –الثقيلة نسبيًا- من طريقه ليتركها إلى جوار الدولاب الخشبي، ثم استدار ناظرًا إلى جده مخاطبًا إياه:
, -كده أنا عبيت كل الحاجات اللي إنت مش محتاجها في الشنطة دي، عايزني أوديها فين بعد كده؟
,
, حرك سلطان حبات مسبحته بحركة ثابتة بكلتا يديه، ورد على مهلٍ:
, -طلعهم بقى لله.
, ارتفع حاجبا حفيده للأعلى في دهشة وهو ينطق بتلقائية:
, -كلهم؟
, دون إعادة تفكير أكد عليه:
, -أه، هاعمل بيهم إيه؟ مش جايز يكون حد محتاجهم أكتر مني؟
, بدا مبتسمًا في رضا وهو يكمل باقي كلامه:
, -وبعدين خليني أخد ثواب إدخال البهجة على مؤمن.
,
, أحس تميم بالفخر من نزعته الدينية المترسخة فيه، دومًا ينشد في جلوسه معه اكتساب أو تجديد عادة طيبة قد غفل عنها، لالتهائه الدائم بالعمل ومشكلاته. تقدم ناحيته، وانحنى على أعلى رأسه ليقبله منها قائلاً في حبورٍ شديد:
, -**** يباركلنا في عمرك يا جدي.
, تطلع إليه سلطان بمحبةٍ كبيرة، وسأله وهو يمسح برفقٍ على جانب ذراعه:
, -قولي إنت أحوالك إيه؟
, اعتدل واقفًا، وأخبره:
, -أنا تمام الحمد****.
,
, لثانية من الزمن صمت دون أن تحيد نظراته عنه، ثم سأله موجزًا، وبابتسامةٍ صغيرة ذات مغزى على محياه:
, -وبنتنا؟
, وكأن مارد الحب قد انتفض من مصباحه السحري ليستفيض في التعبير عن مشاعرها، فباح له دون ترددٍ أو خوف، وبريق يشع بالأمل يتراقص في حدقتيه:
, -ياه! مش متخيل لما بشوفها قصاد عيني بيحصلي إيه..
, تنهيدات –ويالها من تنهيدات- خرجت من صدره خلال وصفه العميق:.
,
, -بحس إن الدنيا كلها بتضحك، وقلبي من جوايا عايز يطير، ويروح لحد عندها.
, قهقه الجد ضاحكًا قبل أن يعلق بمرحٍ:
, -إنت حالتك بقت صعب أوي.
, شاركه بالابتسام وهو يرجوه بما بدا مزاحًا:
, -أه و**** يا جدي، ما تكثف الدعاء كده عشان **** يكرمني بسرعة.
, بثقةٍ تامة ردد عليه:
, -قولتلك قبل كده، كل شيء بأوان إلى أن يأذن ****.
, دون تشكيكٍ صدّق قائلاً:
, -ونعم ب****.
,
, سعلة خفيفة خرجت من جوف سلطان، تبعها نهوضه من مقعده، ليمشي بتؤدة متجهًا نحو فراشه، استلقى عليه، وحفيده من خلفه يدثره بالغطاء، أدار جده وجهه ناحيته، وقال له:
, -روح مدد في فرشتك، وراك من بكرة هم كبير، أبوك قالي على النقلة الجديدة.
, حك تميم مؤخرة عنقه بأصابعه، ليخفف من التيبس العالق في فقراته، وهو يُحادثه بتذمرٍ ظاهر كذلك على قسماته:.
,
, -أيوه، رحلة بحرية، والقبطان بتاعها حنبلي أوي، ده ناقص يعمل كشف هيئة للخضار والفاكهة، بس لو ظبطنا معاه الحاجة على الشعرة، هنرزق من وسع.
, بدا المجهود المبذول في عملهم شاقًا، لذا دعا له بصدقٍ:
, -**** يوسع عليكم من رزقه.
, اعترض عليه تميم بعبوسٍ، وهو يلقي عليه نظرة تحمل مدلولاً بعينه:
, -بس كده؟
, كان مستمتعًا بما يعايشه من مشاعر نقية، فراح يتذاكى عليه قائلاً:
, -ويكرمك يا واد ببنت الحلال.
,
, أشار تميم بيديه في الهواء وهو يُلح عليه:
, -الأبلة يا جدي، خلي الدعاء واضح ومباشر.
, بصعوبة كتم سلطان ضحكته السعيدة، وزجره بحدةٍ كان يعلم جيدًا أن حفيده لن يسيء فهمها:
, -إنت هتتأمر كمان؟ طفي النور، وخليني أنام.
, نكس تميم رأسه في حزنٍ مفتعل، وقال في طاعة:
, -ماشي يا جدي، تصبح على خير.
, تثاءب الجد قائلاً بنبرة انخفضت بشكلٍ ملحوظ:
, -وإنت من أهله٣ نقطة
,
, مشى تميم ناحية باب الغرفة ليتفاجأ بجده يضيف من خلفه بصوتٍ كان مسموعًا إليه:
, -ويجعلها من نصيبك يا رب.
, ابتهجت أساريره، وقفز قلبه في فرحةٍ، تتضاعف لأقصاها كلما نبضت الرغبة بداخله.
,
, ظل مرابطًا أمام باب الدكان الأمامي، مركزًا بصره على المارة، ومنتظرًا عودة أحد أصحابه ليسلم إليهم الأمانة التي تركها المحامي لديه، فالأخير قد أكمل الناقص من الأوراق القانونية الخاصة بدكان فيروزة، من أجل استخراج ترخيص مزاولة المهنة، السجل التجاري، وأيضًا البطاقة الضريبية. كانت حركة المارة شبه محدودة، نظرًا لسوء الأحوال الجوية، وبالتالي سعت الغالبية لترك الشارع، والمكوث في المنازل من أجل الاحتماء من الهواء الشديد.
,
, هب العامل واقفًا على قدميه، وأسرع نحو سيارة تميم حينما رأه يصفها في الزقاق الضيق، توقف أمام مقدمتها، وبأنفاس شبه لاهثة ناداه:
, -يا معلم! يا معلم.
, ترجل تميم من سيارته، ونظر إليه باسترابةٍ وهو يسأله:
, -في إيه؟
, للحظة انتابه هاجسًا بحدوث أمر خطير، خاصة مع الاضطراب الحادث في الطقس، لهذا لاحقه متسائلاً في جزعٍ انعكس على ملامحه:
, -حد حصله حاجة؟
, رد نافيًا ليطمئنه على الفور:.
,
, -لا يا معلم، كله تمام، واحنا مأمنين على البضاعة.
, هتف به بخشونةٍ:
, -أومال في إيه؟
, امتدت يده الممسكة بالحافظة البلاستيكية إليه، وواصل إخباره:
, -المحامي جاب الورق ده، ووصاني أسلمه بالإيد ليك أو للحاج بدير.
, أخذه منه تميم، وتفقد محتواه على عجالة قبل أن يقول في هدوء:
, -كويس٣ نقطة
, لم ترتخِ ملامحه وهو يتابع إلقاء أوامره على العامل:
, -قفل الدكان وهاتلي المفاتيح، وخلي باقي العمال تروح، النهاردة أجازة على حسابي.
,
, وكأنه منحه جائزة استثنائية بكلامه التلقائي، فافترت شفتا العامل عن ابتسامة عريضة وهو يمتدح كرمه:
, -تعيشلنا يا معلم، **** يخليك لينا.
, انصرف بعدها نحو الدكان، وبقي تميم في مكانه حائرًا، أدار رأسه ناحية الطريق الآخر المؤدي لدكانها، وتطلع للفراغ الممدود على مرمى بصره مخاطبًا نفسه:
, -أنا باصص على محلها من الصبح كان مقفول، معتقدش هتفتح في الجو ده.
,
, راوده للحظة فكرة استحسنها للغاية، بل وأراد بالفعل تحقيقها في التو، لما لا يزورها ويُقدم لها الأوراق؟ أليست حجة مناسبة ومنطقية، وفي نفس الآن لا تدعو للاسترابة؟ لم يفكر مرتين، كان قد حسم أمره، واستقر خلف عجلة القيادة، وتعابير وجهه زاخرة بعلامات الحب.
,
, بمهارة قيادية عالية، تمكن تميم من تفادي بعض السائقين المسرعين في الشارع الرئيسي، رغم عدم عمل المكابح بكامل طاقتها، جراء تجمع مياه الأمطار في برك عميقة، زادت كذلك من صعوبة سير المارة في الطرقات. بحث عن بقعة شاغرة على مقربة من بيتها ليوقف سيارته؛ لكن للأسف تعذر عليه هذا وسط تواجد عشرات السيارات المصفوفة. ركز نظراته جيدًا فوجد مساحة بالكاد ستكون كافية لإيقاف سيارته، أسرع في اتجاهها ليبلغها قبل أن يصل أحدهم إليها قبله، ابتسامة انتصارٍ ظهرت على ثغره عندما نجح في ركنها.
,
, استدار محدقًا في البيت الذي أصبح يبعد عنه بعشرات الأمتار بنظرة العاشق الواله، كان من المحمود أنه تواجد على مسافة بعيدة، وإلا لافتضح أمره! استطاع أن يلمح من زاويته حينما أخفض رأسه خليل وشقيقته، وتلك الصغيرة رقية يترجلون من سيارة أجرة، حقًا رؤية شخص ما من طرف من يحب تطرب النفس بقدرٍ جميل؛ كأنما قد التقى بشيء منه! جعل خطواته سريعة إلى حدٍ ما ليلحق بهم، كان سائق العربة قد أنزل المقعد المدولب من الصندوق الخلفي. تدخل تميم قائلاً:.
,
, -الجماعة تبعي، تسلم يا اسطا.
, ابتسمت آمنة لرؤيته، ورحبت به وهي تخرج من حافظة نقودها الأجرة:
, -إيه الصدفة الحلوة دي؟
, رد مجاملاً:
, -ده من حظي الحلو إني أقابلكم.
, وقبل أن تفكر آمنة في إعطاء السائق أجرته، تولى عنها هذا، مانحًا إياه أكثر مما يستحق، ليظهر الأخير امتنانه الكبير بسخائه:
, -متشكر يا باشا.
, شكرته في حرجٍ بادي عليها:
, -تعبت نفسك ليه بس يا ابني؟ ده أنا كنت بأطلع الفلوس وأحاسبه.
, رد مبتسمًا:.
,
, -دي حاجة بسيطة، مش قضية يعني.
, التفت تميم بعدها لينظر للصغيرة التي حاوطته من خصره قائلة بسعادة:
, -عمو.
, ربت على كتفها، ومسد بحنوٍ على رأسها وهو يبادلها الترحيب الودود:
, -إزيك يا حلوة؟ عاملة إيه؟
, هتفت في مرح وهي تنظر إليه ببراءة:
, -الحمد**** كويسة.
, حول تميم أنظاره في اتجاه أبيها يسأله في اهتمامٍ:
, -أخبارك إيه يا عم خليل؟
, بتلعثمٍ حاول التغلب عليه أجابه:
, -الحم، د لله.
,
, رد عليه تميم وهو يتجه إليه ليعاونه على الاستقرار في مقعده:
, -يستاهل الحمد، شايف حالتك أفضل بكتير.
, علقت آمنة في حبورٍ:
, -لأ ولسه، لما نواظب على العلاج، مش هيحتاج الكرسي إلا قليل أوي.
,
, دفع تميم المقعد إلى مدخل البيت الطويل، ومنه اتجه إلى ما قبل الدرج بمسافة خطوة، ليجد بعدها خليل يشير إليه، فحدق فيه بغرابةٍ قبل أن يرى آمنة تتقدم في خطواتها لتمنحه عكازًا طبيًا لم يكن قد لاحظه سابقًا، ناولته لشقيقها، ليتعاونا معًا في مساعدته على الوقوف على قدميه. من جديد تدخل تميم لمد يد العون له وهو يوجه ذراع خليل نحو الدرابزون ليقبض عليه، كوسيلة مدعمة لتثبيته خلال صعوده:
, -اسند عليا، أنا هطلعك.
,
, لم يضجر من تباطؤ خطواته أثناء محاولة خليل تعويد قدميه شبه العاجزتين على استعادة قدرتهما على المشي، ليدرك أن هناك نعمة أساسية قد يغفل المرء عن شكر المولى عليها، استمر في دعمه لئلا تلفت ساقه حول الأخرى ويتعثر، فينكفئ على وجهه حتى بلغ الدور الأول، هناك وجد آمنة تنتظرها ولسانها يلهج بعبارات الشكر:
, -كتر خيرك يا ابني، جمايلك دايمًا مغرقانا.
, بعتابٍ ودود خاطبها تميم:.
,
, -مافيش بين الأهل جمايل يا حاجة، واحنا عيلة واحدة.
, ردت مؤكدة بمحبةٍ:
, -طبعًا، ده احنا نتشرف بيكم.
, ركز تميم نظره على خليل الذي أوشك على بلوغ عتبة المنزل، وسأله في اهتمامٍ:
, -إنت كويس يا عم خليل؟ معلش ضغطنا عليك النهاردة.
, هز رأسه قائلاً بأنفاس متعبة، وبصوتٍ كان متقطعًا:
, -أه، الحم، د لله، أدي، ني بت، عود.
, شد من أزره قائلاً:
, -**** يقويك، إنت أدها وإدود.
,
, تأكد من إدخاله المنزل، حينئذ قربت آمنة الكرسي المدولب منه، ليجلس وهو يزفر مطولاً نتيجة المجهود المضاعف الذي بذله، بعدها ضغط خليل على زر تحريك مقعده ليتجه إلى الداخل، في حين اختطف تميم نظرة سريعة باحثة عن طاووسه بالبهو المتسع؛ لكن لسوء حظه لم تكن في الأرجاء. عاد ليحملق في وجه والدتها التي سألتها:
, -أجيبلك تشرب إيه؟
, رفض بتهذيبٍ:
, -تسلمي يا حاجة مالوش لزوم تتعبي نفسك٣ نقطة
,
, ثم مد يده بالحافظة المطوية، وتابع معللاً سبب وجوده:
, -ده أنا كنت جايب الورق ده للأبلة.
, سألته في استغرابٍ وهي تأخذه منه:
, -ورق إيه؟
, أشار بيده موضحًا:
, -تراخيص المحل بتاعها، المحامي جابها الدكان عندنا من شوية، وخوفت تتبهدل.
, راحت تشكره في امتنانٍ يستحقه:
, -و**** ما عارفين نقولك إيه، داوشينكم معانا وآ٣ نقطة
, قاطعها بطريقته المعاتبة قبل أن تُنهي جملتها:
, -تاني يا حاجة؟ قولنا إيه؟
, ابتسمت وهي ترد:.
,
, -خلاص مش هتكلم، بس لازمًا تشرب حاجة، مسافة ما ترتاح من السلم هاكون عملالك عصير طازة.
, كنوعٍ من المجاملة، وربما لرغبة خفية في نفسه، استطرد موافقًا:
, -مش هكسفك.
, انتقى أريكة عند الركن، وعلى مقربة من باب المنزل ليجلس عليها، حل الإحباط على ملامحه عندما تأكد من عدم وجودها بالمنزل، تصنع الابتسام وقد رأى رقية تُقبل عليه متسائلة:
, -عمو، إنت مش بتيجي تزورنا ليه؟
, أجابها بعفويةٍ:
, -ما أنا موجود أهوو.
,
, جلست على الأريكة المجاورة له، واسترسلت بتلقائية طفولية وهي تشير بكفيها:
, -عارف، بكرة هيجيلنا بيبي صغنن أد كده.
, برزت عيناه في صدمةٍ، وردد بخوفٍ دب في قلبه:
, -بيبي؟
, لوهلةٍ اعتقد أنها تتحدث عن وجود جنين ينمو في أحشاء فيروزة، مما قد يربك كافة الحسابات، كادت الهواجس تتفشى في رأسه لولا أن أوضحت له الصغيرة:
, -أه، همسة هاتيجب واحد ألعب بيه.
, تنفس الصعداء بارتياحٍ، وهسهس مع نفسه:
, -يا شيخة خضتيني.
,
, لم ينكر أن قلبه اطمئن للنبأ الصحيح؛ لكن ذلك لا يعني كرهه لرؤيتها تحظى بمولود تختبر معه أعظم إحساسٍ خلقت به الأنثى، ما كان يدور في رأسه في هذه اللحظة أن الجديد من العقبات قد يرجئ شروعه في خطبها، ويؤخره لبعض الوقت. انتبه تميم للصغيرة التي كانت ما تزال تنظر إليه؛ وكأنها تنتظر تعليقه، فأردف قائلاً:
, -وماله يا حلوة، إنتي تاخدي بالك منه.
, ردت عليه بمرحٍ وهي تشير إلى فمها:
, -هاكله في بؤه، كدهون.
,
, تحولت أنظارهما نحو الباب الذي فتح، وأطلت منه فيروزة مُلقية بالتحية:
, -السلام عليكم.
, خفق الفؤاد لرؤيتها بكامل الوجاهة، والنعومة، والجمال المميز الذي انحصر في شخصها؛ كأنما لا تبصر عيناه سواها من النساء، قفز واقفًا من مقعده، ورد عليها مبتسمًا ابتسامة بلهاء:
, -وعليكم السلام، إزيك يا أبلة؟
, دنت منه فيروزة ترمقه بنظرة غريبة، قبل أن تسأله بلهجةٍ مالت للرسمية قليلاً:
, -خير يا معلم في حاجة؟
,
, كانت تخاطبه بثباتٍ وهي تنظر في عينيه، ومع هذا كان مرتبكًا، متخبطًا، يبحث عن الكلمات المناسبة لينطق بها، بدا وكأنه بحاجة لفسحة من الزمن ليستجمع شتات نفسه أمام سحر النظرات الفيروزية الآسرة. قطع تواصلهما البصري الذي دام لثوانٍ صوت آمنة الهاتف بفزعٍ:
, -كويس إنك رجعتي يا فيروزة، ده الجو قلب هوا جامد.
, استدارت ناظرة إلى والدتها التي تابعت وهي تقدم المشروب للضيف:
, -اتفضل يا ابني.
, رد وهو يتناوله منها:.
,
, -شكرًا يا حاجة.
, سحبت آمنة ابنتها للجانب لتهمس لها بقلقٍ:
, -عايزين نلم الغسيل بدل ما يطير، ونقفل الشبابيك كلها.
, ردت بإيماءة من رأسها:
, -حاضر يا ماما.
, اعتذرت آمنة من تميم، وهي تحاول الابتسام رغم التوتر الظاهر على محياها:
, -متأخذناش يا ابني، خد راحتك، احنا بس بنأمن على البيت بدل ما الهوا والمطرة يبهدلوا الدنيا.
, قال في تفهمٍ:
, -ولا يهمك.
,
, انسحبت من أمامه لتتجه نحو الشرفة القريبة حتى تجمع الثياب المعلقة على الحبال قبل أن تنتزعها الرياح العاصفة، بينما توجهت فيروزة نحو النافذة الموجودة في نهاية البهو لتغلقها؛ لكن لشدة الهواء، عجزت عن جمع الضلفتين معًا، بل فقدت القدرة على الإمساك بإحداهما، وظنت أنها ستنخلع لولا أن رأت ذراعًا قويًا –تأتي من ورائها- قد امتدت لتسحبها عكس حركة الرياح العاتية، وبالأخرى ثبت الضلفة الخشبية. سمعت فيروزة صوت تميم من خلفها يردد:.
,
, -دي نوة أكيد.
, لم تترك الضلفة كذلك، وتشبثت هي الأخرى بها لتضمها إلى مثيلتها وهي ترد:
, -فعلاً نبهوا عليها من إمبارح.
,
, الحق يُقال أنه لولا دعمه لما تمكنت أبدًا من استعادة الضلفة وغلق النافذة دون خسائر. من منظور حسه المرهف في تلك اللحظة، وبعيدًا عن أي أمنيات مؤجلة؛ كانت أقرب ما يكون إليه وهي في كامل وعيها، وإن أولته ظهرها. ففي أقصى أحلامه المستبعد حدوثها الآن، رجا أن يراها مبتسمة، تغازل الضحكة شفتيها، ويداعب البهاء المغري صفحة وجهها؛ لكن أن تحتويها أحضانه، أن يشعر بها بين ذراعيه، كان حقًا يفوق كافة ما اشتاق تحقيقه. تراجع عنها سريعًا، قبل أن تدرك مدى الحرج الذي يُمكن أن تشعر به، إن اكتشفت أنها كانت محاصرة بين ذراعيه، دون أن يلمسها، لم يرغب في إشعارها بالسوء. ترك مسافة خطوتين، وغض بصره عنها رغم اشتياقه للظفر بنظرة أخرى من لؤلؤتيها، فقط لو تسمع صوت القلب الصارخ بحبها٣ نقطة!
 
٢

هناك نوع من الدفء المغري، تشعر به يسحبك إلي محيطه، بطواعية تامة منك، لا تقدر على مقاومته، ولا تطمح في الاستغناء عنه، هكذا استشعرت للحظات هذا الشعور الغريب خلال محاولتها غلق النافذة بمساعدته. التفتت فيروزة لتواجه تميم فوجدته يدور بعينيه في المكان، وليست كما توقعت يحدق بها، تحركت لتبدو قريبة منه، واعترفت في لطفٍ:
, -تسلم، مكونتش هاعرف أقفله لوحدي.
,
, قابل اعترافها العادي بآخر نزق وهو يتجرأ على إدارة وجهه للنظر إليها:
, -أنا موجود عشانك٣ نقطة
, تدارك زلة لسانه، وصحح بتلعثم لا يعلم كيف يصيبه في وجودها:
, -قصدي عشان لو احتاجتوا هنا حاجة.
, ابتسمت وهي ترد:
, -شكرًا ليك، دايمًا تعبينك معانا.
, قال في حماسٍ دون أن يحيد بنظراته الوالهة عنها:
, -إنتي أؤمري بس.
,
, هذه النظرات التي يمنحها لها كانت من نوعٍ خاص، ليست عابرة، ولا شهوانية جائعة، بها شيء ما دومًا ينفذ إليها بغرابة، فيضاعف من إحساسها بصدق ما يتلفظ به دومًا. تحولت أنظارهما نحو الشرفة عندما نادت آمنة عاليًا:
, -يا فيروزة، التندة شكلها هتطير.
, تلقائيًا اندفع تميم نحو البلكون ليسبقها قبل أن تصل إلى والدتها، وطلب منها في صرامة:
, -ارجعي لورا شوية يا حاجة.
,
, كومة من الغسيل المبتل تكونت على الأرضية الزلقة، بعد أن نجحت في جمع الثياب قبل أن تفقدها، انحنت لتلملم ما تناثر بمعاونة فيروزة و رقية، في حين قام تميم بسحب المظلة للأعلى وجمعها بقوةٍ واضحة كانت حقًا لتعجز الاثنتان عن فعل ذلك مثله.
, دقائق وأصبح الوضع بداخل المنزل على ما يرام، حقًا كان وجوده في مثل هذا التوقيت الحرج ذي فائدة كبيرة لأهل المنزل. أصرت آمنة على إكرام ضيفها بسخاءٍ، فألحت عليه قائلة:.
,
, -لازم تفضل معانا للغدا، مايصحش تنزل كده بعد التعب ده كله.
, اعتذر بتهذيبٍ:
, -تعب إيه بس، دي حاجة بسيطة، أنا معملتش حاجة، نخليها مرة تانية.
, مع كلماته الأخيرة كان ينظر في اتجاه فيروزة، ولحسن حظه كانت تتطلع إليه، فجعلت داخله يخفق في ربكةٍ لذيذة. باعد أنظاره عنها ليحدق في وجه آمنة عندما خاطبته:
, -أنا عارفة إن أكلي مش زي الحاجة والدكت، بس هيعجبك إن شاء****.
, رد تميم بحرجٍ:.
,
, -ماتقوليش كده، ده على عيني وراسي، بس معلش عشان مش عامل حسابي، وورايا شوية أشغال..
, ادعى تطلعه في شاشة هاتفه المحمول لينظر إلى الوقت، واختتم جملته:
, -ده أنا يدوب أمشي.
, اعترضت آمنة في حزنٍ طفيف:
, -على طول كده؟
, هتف مجاملاً:
, -**** يجعله عامر بحسكم٣ نقطة
, تشجع لينظر من جديد في وجه فيروزته، وسألها:
, -مش عايزة حاجة يا أبلة؟ الورق كله بتاع المحل عندك، لو نقص عليكي حاجة عرفيني، واحنا نكلم المحامي يخلصه.
,
, اتضح سبب مجيئه لزيارتهم في المنزل، والذي لم تتمكن من معرفته في البداية نظرًا لانشغال الجميع في تأمين البيت من تبعات حالة عدم استقرار الطقس. لم تكذب عيناه حينما رأها تبتسم في رقةٍ وهي تشكره:
, -تعبناك معانا، إن شاء**** ترتاح مننا الفترة الجاية.
, رغم عفوية جملتها إلا أنها أشعرته بالضيق، وهتف محتجًا باندفاعٍ طفيف:
, -لأ متقوليش كده، إنتي بس شاوري واللي نفسك فيه هيحصل.
,
, حافظت على ثبات بسمتها الطبيعية، وأومأت له برأسها في خفة، فتابع مخاطبًا آمنة بعد نحنحنة بسيطة:
, -عن إذنك بقى يا حاجة.
, بدأ يتحرك في اتجاه الباب، وعبارات الدعاء تسبقه، توقف لمرة أخيرة عند أعتابه يُلقي نظرة على من تزيد من نبض الفؤاد، وتنعش فيه الرغبة في الحياة، رفع يده ملوحًا بالوداع، ووجهها المبتسم لا يفارق مخيلته.
, -و**** ما في زيه في الزمن ده.
,
, رددت آمنة تلك العبارة المادحة وهي تعاود أدراجها تجاه كومة الثياب التي وضعتها على الأريكة، وافقتها فيروزة الرأي، وزادت عليها في تلقائية جعلتها تتعجب من نفسها:
, -ده حقيقي، مافيش مرة اتأخر عن الواحد فيها سواء قال كده أو لأ.
,
, تصلبت قليلاً باندهاش بعد أن انتبهت لما تلفظت به من وصفٍ لصفاتٍ طيبة متأصلة به، وتطلعت إلى والدتها تراقب ردة فعلها، توقعت أن تسألها عنه؛ لكن على ما يبدو كانت مشغولة بتقسيم الثياب ما بين جافة، وشبه مبتلة، ومبتلة. سحبت شهيقًا عميقًا، وقالت وهي تنسحب:
, -أنا هبص على الورق اللي بعته المحامي، وأشوف كوكي بتعمل إيه في الأوضة.
, علقت عليها آمنة بوجهٍ منكب على ما في يدها:
, -ماشي يا حبيبتي.
,
, وسيلة مناسبة للهروب من التفكير الغريب الذي شَاب عقلها، والالتهاء بشيء غير استحضار مواقفه الشهمة في ذهنها.
,
, للحب صنوف وأصناف، تظهر حينما يهيم العاشق على وجهه في وادي الغرام، يبحث عن الوَجْد بين طيات الفؤاد، وحين يجده، لا يجعله يبارح ما بين يديه مهما كانت الصعاب. ظل قلبه يخفق في حماسٍ متقد طوال هبوطه على الدرجات، أمنيته البسيطة تحولت لذكرى عظيمة، آثارها ستلازمه كنوعٍ من السلوى لبضعة أيام. خرج تميم من البناية، وسار على الرصيف وقد بدأت الأمطار بالهطول، أخفض رأسه ليحتمي من الزخزات الهابطة عليها، ودار بعينيه يمينًا ويسارًا يتفقد المارة.
,
, لمح سيدة كبيرة، تقف على الرصيف في منتصف الطريق بين الضفتين، تحاول العبور مع كم الأكياس التي تحملها، لم يتردد في مساعدتها، وأسرع ناحيتها يسألها:
, -عايزة مساعدة يا حاجة؟
, أجابته بأنفاسٍ شبه لاهثة:
, -يخليك يا ابني ساعدني أروح الناحية التانية، الشنط تقيلة وآ٣ نقطة
,
, لم تكمل طلبها، حيث تناول عنها كل الأكياس، وطلب منها التأبط على ذراعه لتستند عليه، ورغم خطواتها البطيئة إلا أنه بدا صبورًا للغاية، ولم يتعجل سيرها، تأكد من إيصالها لوجهتها المنشودة، فدعت له في صدقٍ:
, -**** يجازيك خير يا ابني ويعوضك بالحلال.
, -تسلمي يا حاجة.
,
, قالها وهو يومئ برأسه عائدًا إلى الجهة المقابلة، لا يعلم أن جزاء معروفه الطيب كان النجاة من لوح معدني سقط بغتةٍ على بُعد عدة خطوات منه، إن لم يكن قد ذهب وساعد تلك السيدة، لربما هشم رأسه. تسمر في مكانه مذهولاً، وحملق في التدمير الذي أحدثه في البلاطات الحجرية مرددًا:
, -لطفك يا رب.
, التفت برأسه للجانب، حيث ترك السيدة، لم يجدها، فعاد للتحديق مجددًا في اللوح المكسور هاتفًا بقلب ينبض بقوةٍ:.
,
, -إنت المنجي يا رب.
, جاء من خلفه أحد الغرباء يسأله:
, -حصلك حاجة؟
, هز رأسه بالنفي، فتابع الغريب كلامه:
, -إنت فلت بأعجوبة الحمد****.
, لهج لسان تميم بالشكر دون انقطاعٍ حتى ركب سيارته، وتحرك بها وهو يكاد لا يصدق ما حدث لتوه!
,
, استغل تجمع العائلة على مائدة الطعام ليقص عليهم ما وقع معه من حادث غريب، نجا منه بفضل **** ورعايته. انقبض قلب ونيسة ونهضت عن مقعدها لتلف حول الطاولة، وتنظر إلى ابنها بعينين فاحصتين كأنما تضعه تحت جهاز الأشعة لتتفقد ما لحق به من ضرر، استنكر ما تفعله قائلاً بحرجٍ متذمر:
, -يامه أنا كويس و****.
, شملته بنظراتها أكثر، وعاتبته بغريزة أمومية:
, -مكانش ليه لازمة النزول من أول اليوم وهو وحش كده.
,
, علق عليها الجد قبل أن يضع ملعقة الطعام في جوفه:
, -لا يمنع حذر من قدر، سبيها على ****، احنا ندعي إن **** يحفظه.
, أومأ تميم إيجابًا مستحسنًا رأيه وهو يرد:
, -صح يا جدي.
, بينما أضاف بدير مُشيدًا بحُسن أخلاقه:
, -ما هو اللي يعمل خير يلاقي خير.
, التفت نحو أبيه مؤيدًا إياه كذلك:
, -مظبوط.
, رجعت ونيسة إلى مقعدها ولسانها يدعو له:
, -**** يوقفلك ولاد الحلال زي ما بتقف مع الغريب قبل القريب.
, ضحكت هاجر قائلة وهي تهدهد رضيعها:.
,
, -أيوه يامه ادعيله وباب السما مفتوح دلوقتي.
, احتج عليها سلطان بنوعٍ من الدعابة:
, -ليه هي كانت قافلة قبل كده؟ ادعوا **** في أي وقت، وهو –سبحانه- عليه الاستجابة.
, قال تميم مبتسمًا:
, -ونعم بالله٣ نقطة
, ثم أخفض صوته مكملاً باقي عبارته، وتلك اللمعة الخفيفة تتراقص في عينيه:
, -أنا عارف كويس هدعي بإيه.
,
, عمَّ الصمت من جديد إلا من أصوات ملامسة المعالق للصحون. لفت ونيسة الانتباه إليها عندما تشدقت قائلة بترددٍ طفيف، مخاطبة زوجها:
, -يا حاج، ممكن بعد إذنك، آ، تخلي سراج يجي يتكلم مع بنتنا الأول، ده لو ميضايقكش.
, اختلج وجه هاجر حمرة حرجة للغاية من نزق حديثها، وكزت على أسنانها تلوم والدتها في خجلٍ منزعج:
, -يامه! هو احنا اتفقنا على كده؟ مش قولتي هتكلميه على جمب؟
, استدارت تنظر إليها، وبررت تصرفها:.
,
, -ما مسير الكل يعرف، هي دي حاجة تستخبى؟
, أنهى بدير جدالهما قبل أن يبدأ بقوله الحاسم:
, -حاضر، هخليه يجي عندنا في الصالون، و هاجر تكلم معاه وتشوف دماغه، وبأقولك من تاني اعملي اللي يريحك، مش مفروض عليكي حاجة.
, حاولت أن تبتسم لتخفي حرجها، وقالت بتعجلٍ:
, -متشكرة يابا.
, هتفت ونيسة برجاءٍ، وعيناها تنظران للأعلى:
, -**** يجعل الفرح يدق بابنا.
, أمن عليها الجد سلطان وهو يدير وجهه ناحية حفيده:
, -يا رب.
,
, بدا وكأنه المقصود بدعائه، فحمحم تميم متسائلاً بتلبكٍ خفيف:
, -بتبصلي ليه يا جدي؟
, رد عليه سلطان بتعابير جادة، وبنبرة جمعت بين الحزم والمرح:
, -عاجبني أبحلق هنا، عندك مانع؟
, أحنى حفيده رأسه على جانبه من الطاولة، وقال وهو يسحب بمعلقته قدرًا من الأرز:
, -براحتك يا سيد الناس.
,
, في غفلة منه، سرق المفتاح الاحتياطي لمنزل عمه، ليتمكن من التسلل إليه، في أول فرصة سنحت له بعد تعافيه قليلاً من آثار الاعتداء الأخير أمام باحة منزله. تجول فضل بخطواتٍ شبه عرجاء في البهو المعتم، لم ينر أي مصابيح حتى لا يثير الريبة، استعان بالإضاءة المنبعثة من هاتفه المحمول ليرى على أثرها. ما زالت ذاكرته تحتفظ بوصفٍ للمنزل من الداخل رغم قلة عدد مرات زيارته، اتجه نحو الردهة التي احتوت ثلاث غرف نوم؛ واحدة للأبوين، وأخرى للابنتين، وثالثة لمن يأتي من الضيوف. وضع يده على مقبض غرفة النوم، تلك التي يعلم أنها تخصها، كانت غير موصودة، فولج إليها دون عناءِ وهو يُحادث نفسه:.
,
, -شكلها متسهلة.
,
, مرر ضوء الهاتف على الأثاث القديم برويةٍ، إلى أن توقف عند الدولاب المجاور للنافذة؛ كان مكونًا من ضلفتين صغيرتين على الجانب، يفصل بينهما ضلفة كبيرة نسبيًا، تلك التي تتدلى فيها الثياب المعلقة. تحرك في اتجاهه قاصدًا فتحه، نظر في محتويات الضلفة الأولى الصغيرة، كانت تضم بعض الأغطية، والملاءات النظيفة، بالإضافة إلى عددٍ من المناشف القطنية المرتبة في صفين متجاورين، دقق النظر في الصورة المثبتة من الخلف، كانت ل همسة، لوى ثغره قائلاً بامتعاضٍ:.
,
, -إنتي متلزمنيش.
, انتقل للضلفة الأخرى الموجودة في المنتصف، ضمت بعض المعاطف الثقيلة، والمزيد من أغطية الوسائد، غمغم في سخطٍ:
, -حاطين هلاهيل هنا؟ إيه القرف ده.
,
, أغلق الضلفة، وعيناه تحدق في الأخيرة، فتحها ونظر بتفحصٍ لما احتوته، تأكد أولاً من أنها تعود ل فيروزة، فصورتها القديمة وهي في سنٍ أصغر كانت مثبتة بشريط لاصق على ظهر الضلفة، انتزعها من مكانها، وطواها ليضعها في جيبه، ثم أكمل تفتيشه الوقح بتأنٍ. وجد على الرف العلوي ضالته المنشودة، قطعة مهملة من ثيابها الداخلية، والمصنوعة من قماش الدانتيل، ربما قد تركتها لعدم حاجتها إليها؛ لكنها كانت غايته لتنفيذ مطلب ذلك المشعوذ الذي لجأ إليه. ابتسامة خبيثة برزت على ثغره وهو يرفعها نصب عينيه ليتأمل لونها الأخضر، توعدها بعينين تتوهجان بطريقة شيطانية:.
,
, -استني الخراب اللي هيحل على دماغك٣ نقطة!
 
٣

كيسًا بلاستيكيًا أخرجه من جيبه ليدس فيه قطعة الثياب التحتية، ثم أمسك باللفافة بيده، وأغلق الضلفة، وشعوره بالانتشاء مضاعف عن ذي قبل. خرج فضل مثلما جاء كاللصوص، تلفت حوله ليضمن عدم رؤية أحدهم له، ومشى مشية العَرَج عائدًا إلى منزله لئلا يثير الريبة. استوقفه رنين هاتفه المحمول، فتطلع إلى شاشته بعد أن استله من جيب قميصه، قرأ اسم والدته عليه، فأجاب على اتصالها ببرود:
, -عايزة إيه يامه؟
,
, سمع صوتها عصبيًا إلى حد ما وهي تسأله:
, -إنت اختفيت فين يا فضل؟ روحت أطل عليك في الأوضة ملاقتكش.
, علق عليها بفظاظةٍ:
, -هو أنا لازم أديكي خط سيري قبل ما أخرج؟ عيل بريالة عشان تقلقي عليا؟
, أخبرته باستياءٍ سمعه في نبرتها:
, -ما إنت عارف أبوك منبه علينا بعد اللي حصل، ماتتحركش إلا بأمره.
, أحكم قبضته على اللفافة، وكذب في ادعائه:
, -اطمني، أنا خرجت أجيب عيش من الطابونة.
, سألته بإيجازٍ:
, -ولاقيت؟
,
, التوى ثغره مكملاً باقي كذبه السريع:
, -لأ، شطبوا.
, ردت عليه في ضيقٍ:
, -طب تعالى أوام، قبل ما الجو يقلب بزيادة، دي غير إني مش ناقصة أخد كلمتين في جنابي بسببك.
, نفخ قبل أن يقول منهيًا المكالمة:
, -طيب، جاي.
, أغلق معها الاتصال، وأجرى آخرًا أكثر أهمية، بدا حذرًا خافت الصوت وهو يتساءل:
, -أيوه يا شيخ، المطلوب جبته، أعمل إيه تاني؟
, جاءه هسيس صوت يطلب منه:
, -عدي عليا بكرة آخر النهار، وماتنساش المعلوم عشان تاخد نتيجة مضمونة.
,
, اعترض بتبرمٍ:
, -هو الأسياد لازمًا يقبضوا غالي كده؟ ماتخليهم يحنوا عليا حبتين، ده أنا على باب ****.
, رد عليه الطرف الآخر بوضوحٍ:
, -خلاص ماترجعش تزعل لو العمل مجابش مفعوله.
, على مضضٍ غمغم:
, -ماشي، هاجيبلك الفلوس مش ناقصة مليم.
, قطع الاتصال، وواصل تذمره الساخط بوقاحةٍ أكبر:
, -حار ونار في جتت أهلك إنت كمان!
,
, حل المساء، وأصبحت الطرقات شبه خاوية من المارة تقريبًا، لكون الطقس ما زال سيئًا، أما الأمطار فلم تتوقف إلا لدقائق، وتعود إلى ما كانت عليه متوسطة الحدة، وغزيرة في بعض الأحيان. تحدثت همسة هاتفيًا مع والدتها، وقالت وهي تجفف الأرضية المبتلة بخرقة قديمة تجرها بقدمها:
, -لأ يا ماما مش هنزل، هيثم مش راضي.
, استحسنت آمنة بقائها في المنزل بترديدها:.
,
, -كده أحسن، إنتي مش ناقصة بهدلة، ولا يجيلك دور برد تتعبي بزيادة.
, قالت وهي تنحني بحذرٍ لتأتي بالخرقة المبتلة:
, -معاكي حق، **** يكملها بالخير.
, أوصتها والدتها كالعادة:
, -يا رب يا حبيبتي، قفلي الشبابيك كويس، وحطي حتت قديمة تشرب مياه لو حاجة سربت.
, ابتسمت وهي ترد:
, -ما أنا عملت كده.
, امتدحت حرصها على القيام بواجباتها المنزلية على أكمل وجه:
, -ناصحة طول عمرك يا ضنايا.
,
, رفعت همسة أنظارها فرأت زوجها يتأهب للنزول، تعجبت من حاله، وخابرت أمها بتلقائية لتنهي الاتصال معها:
, -طيب يا ماما، أنا هاقفل عشان أشوف هيثم.
, ردت عليه تدعوها:
, -سلميلي عليه أوي، وأبقي هاتيه وتعالوا قضوا يوم معانا، بقالكوا كتير مجتوش عندنا.
, لم تعطها وعدًا، وقالت بحيادية:
, -إن شاء****، حاضر، هسأله وأعرفك.
, -مع السلامة.
,
, مع توديعها لوالدتها تحركت همسة نحو الأمام، إلى حيث يقف زوجها أمام المرآة المثبتة إلى جوار باب البيت، سألته في استغرابٍ:
, -إنت نازل يا حبيبي؟
, أجاب وهو يدس قدميه في حذائه:
, -أه، تميم كلمني ورايحين الدكان نبص على الحاجة اللي فيه.
, لاحقته بسؤالها التالي، وبتعابير تبدو قلقة:
, -مش إنتو مأمنين على البضاعة؟
, التفت ناظرًا إليها، وأجاب بعد زفيرٍ سريع:
, -أيوه، بس المطر شديد، والحرص واجب.
, كان محقًا في تصرفه الحذر، فأوصته:.
,
, -خلي بالك من نفسك، وسوق على مهلك، الأرض مزحلقة، والفرامل هتلاقيها مش أد كده.
, ابتسم في حنوٍ، وداعب وجنتها بيده وهو يقول:
, -بقيتي شاطرة وبتفهمي في العربيات.
, قالت بوجهٍ مرتخي التعبيرات:
, -لأ دي معلومات على أدي من اللي بقراه على النت.
, انخفضت يده لتمسح على بطنها المنتفخ، وقال بنوعٍ من التوصية:
, -ماشي يا هموس، خدوا بالكم من بعض.
, أومأت برأسها قائلة قبل أن تشب على قدميها لتطبع قبلة لطيفة على خده:
, -حاضر.
,
, سحبت آمنة طرف الملاءة غير المشدود، وحشرته في جانب الفراش لتجعله مستويًا، واستدارت برأسها تخاطب ابنتها التي كانت تحدق في النافذة الموصودة من خلف الزجاج:
, -أختك عملت طيب لما أجلت ميعاد الكشف بتاعها.
, قالت وهي تنقر بأناملها على الزجاج:
, -كانت هتنزل إزاي؟ تبقى تروح في وقت تاني.
, علقت عليها آمنة وهي تطوي الغطاء السميك:
, -أيوه، **** يفكها، الحبسة وحشة على الناس.
,
, بنفس التعابير المتوترة، والنظرات المسلطة على الطريق الغارق ببرك المياه المتفاوتة في عمقها، استطردت فيروزة تكلمها:
, -أنا شاغل بالي لو فضلت تمطر كده، إن المياه تسحب جوا المحل، وتبهدل الحاجة اللي رصاها.
, سألتها والدتها بحاجبين معقودين:
, -هو إنتي مش حطاها على رف عالي؟
, أدارت رأسها ناحيتها، وجاوبتها:
, -أه، بس مافيش حاجة مضمونة في الجو ده.
, لعقت شفتيها، وردت:
, -**** يستر.
,
, تنفست فيروزة في عمقٍ، وتابعت تخبر والدتها بنبرة عازمة:
, -بأقولك إيه يا ماما، أنا هروح أنقل الحاجات لفوق وأرجع بسرعة.
, بدت مدهوشة للغاية من قرارها، وسألتها في استهجانٍ مال للرفض:
, -يعني هتنزلي في الجو ده؟
, أجابت وهي تتحرك في اتجاه الدولاب لتخرج ملابسها منه:
, -مضطرية، وبعدين مش هتأخر، هارجع على طول.
, احتجت عليها بخوفٍ طبيعي:
, -يا فيروزة في خطر عليكي وآ..
, قاطعتها بحسمٍ معللة أسبابها:.
,
, -اطمني، مسافة السكة، مافيش حد هيخاف على مصلحتي أدي.
, جاءت من خلفها توصيها:
, -مش عارفة أقولك إيه، خلي بالك، وامشي بعيد عن عمدان النور.
, ألقت فيروزة بثيابها على الفراش، وردت بهزة بسيطة من رأسها:
, -تمام.
,
, سلط كشاف هاتفه المحمول على تلك البقعة المعتمة من الدكان، ليتأكد من عدم تسرب المياه عبر الشقوق إلى مفاتيح الكهرباء الخاصة بثلاجة الفاكهة الكبيرة، الموجودة في مؤخرة المكان، تأكد من سلامة الوصلات، ومن جفاف الحائط قبل أن يعاود أدراجه نحو تميم الذي كان مشغولاً بإزاحة المياه التي تسلل لمنتصف الدكان، نتيجة انسداد معظم بالوعات الشارع وامتلائها بمياه الأمطار. سأله الأخير بملامحه الجادة:.
,
, -بصيت على لوحة الكهربا؟ مافيش عليها مياه؟
, رد هيثم مؤكدًا وهو يضع الهاتف في جيبه:
, -أيوه شوفتها، مافيش فيها حاجة.
, قال وهو لا يزال يجرف المياه للمدخل:
, -زي الفل، بدل ما يحصل ماس وتعملنا قفلة، وساعتها لا قدر **** هتقلب بكارثة.
, رد عليه مستخدمًا يده في الإشارة نحو الخلف:
, -**** يستر، بس الحتة اللي ورا عاوزة تتوضب، البوهية قشرت في ساعتها.
, أعطاه السبب المنطقي لحدوث ذلك عندما علق عليه:.
,
, -من الرطوبة، ما إنت عارف، هنكلم النقاش يشوفلنا علاج ليها.
, أحضر هيثم ممسحة من الجانب، وقال وهو يمد يد العون:
, -يكون أحسن.
, تابع ابن خالته يأمره في جديةٍ وهو يشير نحو كومة من الأخشاب:
, -سيبك إنت من ده، وحط ألواح الخشب دي هنا، خليها تحجز المياه شوية، بدل ما تسرق جوا الدكان أكتر.
, ظهر التردد على محياه وهو يشاوره في الأمر:
, -تفتكر هتنفع؟ البلاعات مسدودة، والبحر كمان عالي، مش ملاحقين.
, رد دون تفكيرٍ:.
,
, -محدش كان عامل حسابه إنه هيحصل كده، خلينا نأمن على حاجتنا.
, لم يجادله كثيرًا، واتجه إلى حيث توجد الأخشاب مرددًا:
, -ماشي الكلام.
,
, ما يزيد عن الساعة -تقريبًا- من العمل المتواصل لبناء سدٍ مؤقت من الأخشاب عند منتصف المسافة من مدخل الدكان وحتى نهايته، لضمان احتجاز المياه قبل أن تمتد لبقية المكان، حيث تتراص أقفاص البضاعة المليئة بالثمار. نجح كلاهما في نزح المياه حتى المدخل، وتشكيل حاجز أولي كزيادة في التأمين. اعتدل هيثم واقفًا، وقال وهو يضع يديه أعلى منتصف خصره:.
,
, -لو فضل الوضع كده الحتة كلها هتتبهدل، محدش هيعرف لا يطلع ولا ينزل.
, مسح تميم المنطقة المحيطة بدكانه، وقال بتعابيرٍ منهكة قليلاً:
, -**** أعلم ببقية الدكاكين والمحلات، بس احنا عملنا اللي علينا.
, علق هيثم مازحًا:
, -كويس إنها مابتمطرش كل يوم، كان زمانا رايحين الشغل بفلوكة.
, استساغ استظرافه، وشاركه قائلاً:
, -لأ وبالعوامات الكاوتش، هايبقى شكلنا مهزق أوي.
, قهقه ضاحكًا قبل أن يضيف:
, -عايمين في بحر الغدر.
,
, أشار له تميم بيده قائلاً بصيغة شبه آمرة:
, -طب يالا بينا، خلينا نلحق نروح.
, رد عليه وهو يخرج من جيبه هاتفه الذي بدأ في الرنين:
, -ماشي الكلام٣ نقطة
, أجاب هيثم على اتصال زوجته يُعلمها:
, -أيوه يا همسة، احنا خلصنا، وراجعين في الطريق.
, صمت للحظاتٍ ليصغي إليها قبل أن يرد بتعابيرٍ لم تكن مرتخية:
, -ماشي حاضر، هاشوفها.
,
, انتظره تميم في السيارة حتى يُنهي مكالمته دون مقاطعة منه، وما إن استقر إلى جواره حتى طلب منه هيثم بتعابيرٍ شبه متذمرة:
, -معلش يا تميم عايزين نطلع على محل أخت همسة نبص عليها هناك.
, تلقائيًا ردد لسانه في لهفةٍ، وذلك الوميض المهتم يلمع في حدقتيه:
, -الأبلة، مالها؟
, أجابه بزفيرٍ منهك:
, -موجودة هناك، بتعمل زي ما احنا عملنا في الدكان٣ نقطة
, وليضمن هيثم عدم اعتراضه لاحق بالقول:
, -معلش فيها شوية عطلة لينا.
,
, لم يكن ممانعًا على الإطلاق من فعل أي شيء يخصها، بل على العكس ظهرت آثار سعادته لرؤيتها -لمرة ثانية في نفس اليوم- على تعابير وجهه؛ كأنما أشرقت وتوهجت بفعل تأثير الحب. تصنع تميم الجدية، وأخبره بعد نحنحة خشنة وهو يقود سيارته في اتجاه دكانها:
, -لأ يا سيدي عادي، هو احنا ورانا حاجة.
,
, بعض المساعدة قد تفيد كثيرًا في مواقف بعينها، خاصة تلك التي تتطلب مجهودًا عضليًا زائدًا. كانت فيروزة بين الفنية والأخرى تتوقف لتستريح بعد أن قامت بمفردها بنقل معظم ما رصته على الأرفف السفلى، وجمعه في مكانٍ واحد بترتيبٍ متسق، ليسهل عليها إعادته لاحقًا في مكانه بعد أن تنتهي تلك الأزمة. انتفضت في فزعٍ عندما سمعت صوتًا يُلقي عليها التحية:
, -سلام عليكم.
,
, التفتت دفعة واحدة لتجد هيثم عند الأعتاب، لم تتوقع وجوده في هذا التوقيت، وضعت يدها على صدرها الناهج لتهدئه من تأثير الخضة المباغتة، ثم خاطبته بعد أن سحبت شهيقًا عميقًا:
, -هو إنت، إزيك يا هيثم؟ و همسة عاملة إيه؟
, سألها وهو يدور بنظراته في دكانها؛ كأنما يتفقد الضرر الواقع عليها:
, -الحمد**** هي بخير، إيه الأخبار عندك؟
, أخبرته ببساطة وهي تشير بيديها للرفوف الخاوية:.
,
, -زي ما إنت شايف، كل حاجة متبهدلة، والخشب شرب مياه لما قال يا بس.
, تحولت أنظارها عنه لتحدق في ذاك الذي جاء من خلفه يُحييها بحرجٍ وهو ينظر إليها ملء عينيه:
, -مساءك فل يا أبلة.
, تفاجأت من وجوده هو الآخر، وردت بتعابيرٍ ما زالت تعكس دهشتها:
, -مساء النور يا معلم.
, تقدم ناحيتها محاولاً أن يبدو غير مهتز الصوت وهو يُكلمها:
, -لو أعرف إنك هنا..
, عدَّل سريعًا من كلامه ليتابع بحذرٍ وهو يدير أنظاره في اتجاه ابن خالته:.
,
, -قصدي عندنا خبر إنك موجودة كنا جينا وساعدناكي من بدري.
, امتدت يدها لتضبط مقدمة **** رأسها، وردت بعفوية:
, -أنا مقولتش لحد، أكيد ماما كلمت همسة، وعرفتها، صح؟
, كانت تنظر وهي تختتم جملتها بصيغة تساؤلية في اتجاه هيثم الذي أكد صحة تخمينها بقوله:
, -أيوه.
, حمحم تميم معقبًا وهو يوزع نظراته بتساوٍ بين الاثنين، لئلا يرتاب ابن خالته في أمر اهتمامه الزائد بها:
, -معظم الناس هتلاقيها نزلت تطل على محلاتها، زيك كده.
,
, تحركت فيروزة عائدة إلى المسند الزجاجي، ووضعت عليه قطعتين من مستلزمات السبوع، وتحدثت إليهما في جدية:
, -عمومًا أنا قربت أخلص.
, لحق بخطواتها ليلح عليها:
, -ارتاحي إنتي، شوفي عايزانا نعمل إيه.
,
, استدارتها كانت سريعة وفي مواجهته، بمسافة لا تتجاوز خطوة، التقت فيها نظراته التي تفيض عشقًا بها، بعينيها اللاتين تتطالعانه في اهتمامٍ تعجبت منه؛ كأنما تحاول رؤيته من منظور آخر غير المعتادة عليه، سرعان ما تداركت تحديقها فيه، وتحرجت من اقترابها غير المقصود منه، لذا تراجعت مشتتة نظراتها عنه وهي تقول:
, -أنا مش عايزاكم تلخبطوا اللي عملته.
,
, مثلها تراجعت لبضعة خطوات؛ مخفضًا نظراته في ارتباكٍ محبب إليه، وقال وهو ينظر بتمعن للأرفف، كأنما يفتش عن شيءٍ نسيت حمله:
, -ماشي يا أبلة.
, انتفضت فيروزة في ارتعابٍ مع الصوت القوي الذي انتشر في الأجواء، كدويٍ عظيم، من تلقاء نفسه فسر هيثم سبب حدوثه:
, -السما بترعد برا جامد.
, ردت وهي ترتجف قليلاً:
, -**** يعديها على خير.
, دنا تميم من ابن خالته رافعًا بصره للأعلى وهو يغمغم:
, -شكلها ليلة فل.
,
, تحدث هيثم في لهجة سريعة متوجسة، وهو يشير بيده للأمام:
, -ألحق يا تميم، لوحة الكهربا اللي جمب دكان الحاج هنداوي بتطقطق.
, اتجهت أنظاره إلى حيث أشار، وهتف على الفور وقد رأى شرارات متتابعة مصحوبة بصوتٍ متقطع تنبعث من اللوح الكهربي:
, -ده كده فيها ماس، معاك رقمه نكلمه؟
, رد وهو يعبث بأزرار هاتفه:
, -أيوه.
, التفت تميم برأسه يأمر فيروزة التي وقفت إلى جواره لتنظر بفضولٍ إلى ما يحدث:
, -أفصلي الكهربا عن محلك احتياطي.
,
, همت بالاعتراض عليه:
, -بس كده آ٣ نقطة
, قاطعها في صرامة:
, -اسمعي الكلام، فين مكانه عندك؟
, هزت رأسها في طاعة، واتجهت إلى الحائط الموجود به اللوح، لتفصل القابس المغزي للكهرباء في دكانها؛ لكنه سبقها في خطواته، وامتدت يده قبلها لتقوم بتلك المهمة، تطلعت إليه في غرابةٍ؛ لكنها زادت مع سؤاله:
, -في لوح خشب هنا عندك؟
, هزت كتفيها متسائلة:
, -مش عارفة، بس إنت عايزه ليه؟
,
, أجابها وهو يدور بعينيه باحثًا بين الأرفف عن قطعة يسهل استخدامها:
, -هننزل بيه سكينة العمومي بتاعه، لحد ما يتصرف.
, وجد ضالته، وأسرع للخارج؛ لكنها استوقفته بخوفٍ كان طبيعيًا:
, -خلي بالك، الكهربا مافيهاش هزار.
, أدار رأسه لينظر إليها بوجهٍ بشوش، وقال بدلالة معينة لم يتفقه لها ذهنها بعد:
, -الأعمار بيد ****، ولو الواحد قابل وجه كريم دلوقتي هيبقى راضي ومبسوط.
, أوصته رغم ذلك:
, -خد بالك برضوه، الحرص واجب.
,
, اتسعت ابتسامته بعذوبةٍ شديدة -كأنما فاز بكامل حظ الدنيا- مع تلك الوصية الغالية، وقال بقلبٍ يرفرف في سرور وابتهاجٍ:
, -ماشي كلامك يا أبلة٣ نقطة!
 
٤

فعل الخيرات، لا يحتاج إلى لحظة من التردد للإقدام عليه، وإنما هي سمة متأصلة غرزت في النفس منذ الصغر، تعوَّد صاحبها على القيام بها أينما تطلب منه هذا دون أن يشعر بالندم، كما أنه لا ينتظر عبارات الثناء عليها. تحرك تميم باللوح الخشبي الجاف –بخطواتٍ سريعة- متجهًا إلى حيث تنبعث شرارات الكهرباء من الأسلاك العارية، ومن خلفه جاء هيثم، وعلى مسافة لا تبعد نسبيًا عنهما وقفت فيروزة تراقب المشهد بقلبٍ شبه وجل، فإظهار البطولة في بعض المواقف قد تودي بحياتك في الأخير، فكيف له أن يضحي بحياته هكذا ببساطة لأناس لا تجمهم به أدنى صلة؟!
,
, كتلة من اللهب اندفعت مرة واحدة جعلت تميم يتراجع تلقائيًا للخلف لينأى بنفسه من الخطر، ويحمي وجهه من الشرارات الحارقة، حذره هيثم بتوجسٍ، وهو يضع يده على كتفه:
, -خد بالك.
, رد في قلقٍ لم يخفه:
, -**** يستر٣ نقطة
, حاول مد اللوح الخشبي نحو مفاتيح الكهرباء لفصل التيار عنها وهو يتساءل:
, -كلمت الحاج هنداوي؟
, أجابه ابن خالته، وعيناه تركزان على ما يفعله:
, -أه، ونازل من فوق.
,
, طقطقات أكثر حدة أجبرتهما على اتخاذ خطوتين للخلف، صاح خلالها هيثم محذرًا بجزعٍ:
, -حاسب.
, بكفين مضمومين إلى صدرها، اشرأبت فيروزة بعنقها محاولة رؤية ما يحدث في الأمام، شعرت بخوفٍ غريزي يتسرب إلى بدنها كلما ارتفع صوت الطقطقات المخيف؛ فمتابعة الموقف وهي في قلب الحدث، يختلف كليًا عن سماعه كقصة عابرة وسط ثرثرة عادية. ركزت كامل انتباهه عليه، وانزلق لسانها يدعو له سرًا:
, -**** يسترها عليه.
,
, بالكاد نجح تميم في إخفاض أول مفتاح ليفصل عنه التيار الكهربي، وخاطب ابن خالته:
, -لسه السكينة التانية.
, حذره ابن خالته من جديد وهو يضغط بيده على كتفه:
, -خلي بالك.
, نظر إليه تميم قائلاً بتبرمٍ:
, -إنت موترني على فكرة.
, أبعد هيثم يده عنه، ورفعها للأعلى كتعبيرٍ عن عدم إزعاجه له، فواصل الأول عمله بحرصٍ شديد، ونجح في إخفاض المفتاح الآخر ليصبح اللوح بلا أي خطورة. تنهد تميم في ارتياح، ولهج لسانه شاكرًا:.
,
, -الحمد****، **** سترها، ولحقناها.
, وضع هيثم يده على صدره قائلاً بزفيرٍ طويب:
, -**** كريم.
, تساءلت فيروزة من خلفهما في توترٍ:
, -إيه الأخبار؟
, استدار تميم برأسه ليواجهه، وقال وبين شفتيه ابتسامة عذبة:
, -اطمني، عدت على خير.
, رأى البسمة تزين محياها وهي تطرد الهواء من رئتيها في ارتياحٍ مرددة بصوت مرتخي سمعه:
, -الحمد****.
,
, تحولت الأنظار نحو الرجل الخمسيني الذي خرج من باب جانبي للبناية القصيرة يتساءل في لهفةٍ قلقة، وهو يلف جسده بقفطانه البني:
, -خير يا ولاد؟ حصل إيه؟
, أجابه هيثم أولاً بوجهٍ متقلص في عضلاته:
, -كان في ماس هيحصل لولا ستر ****.
, جحظت عينا الرجل، فحاول تميم طمأنته:
, -اطمن يا حاج هنداوي، فصلنا الكهربا خلاص، والدنيا أمان.
, تنفس الأخير الصعداء، وشكره بتعابيرٍ عبرت عن امتنانه العظيم:.
,
, -ده من لطف **** إنك موجود، ب**** كان زمان النار قادت في الحتة كلها، ما هو معظم البيوت هنا خشب، ولا كان حد هيدرى ولا يحس إلا بعد خراب مالطة.
, علق تميم في سرورٍ:
, -ده من رحمة **** بينا.
, ربت الحاج هنداوي على جانب ذراعه مرددًا بحبورٍ:
, -**** يجازيك خير عننا.
, خاطبه هيثم بلهجةٍ مالت للجدية:
, -هاتوا كهربائي يظبط اللوح ويقفله بدل ما هو مكشوف كده.
, استدار برأسه ناحيته ليوجه كلامه إليه:.
,
, -من زمان وأنا عايز أعمله، بس بأتلبخ في حاجات كتير، وأنسى.
, أضاف تميم بابتسامة صغيرة:
, -أهوو جت الفرصة اللي يتعمل فيها.
, هتف يؤكد عليه دون إعادة تفكير:
, -من النجمة بأمر **** هيحصل.
,
, لحظات وكان بعض الجيران قد هبطوا من منازلهم لرؤية ما يحدث بعد أن استقرت الأوضاع، وخف تساقط الأمطار. تركهم تميم مع ابن خالته يحكي لهم بإيجازٍ عن بطولتهم في نجدة الزقاق بمن فيه، وعاد إلى مهجة الفؤاد التي لم تتوقف عن منحه ابتسامةٍ أقل ما يُقال عنها أنها كالبدر في تمامه، امتدحت سرعة بديهيته ومهاراته العضلية قائلة:
, -برافو عليك، بتعرف تتصرف في المواقف اللي زي دي.
,
, بإشراقة كانت لتراها عظيمة على وجهه لولا العتمة السائدة في المكان حادثها بحماسٍ:
, -الواحد ياما شاف، وخد خبرة من اللي سبقوه.
, تنحت للجانب ليتمكن من العودة إلى داخل دكانها، وإعادة اللوح الخشبي الذي اقترضه في مكانه، تبعته في هدوءٍ، وسألته بفضولٍ ما زال يراودها من حين لآخر:
, -إنت بتعمل ليه كده؟
, التفت ببطءٍ ليتطلع إليها مليًا بنظراتٍ جاهد ألا تكون كاشفة لأمره، قبل أن يرد عليها متسائلاً:
, -بعمل إيه؟
,
, أجابته بعد زفيرٍ سريع:
, -بتساعد غيرك قبل ما يطلب حتى ده منك.
, ابتسم وهو يجاوبها:
, -عشان بحب كده.
, انقشعت المسافة ما بين حاجبيها، وقالت بما يشبه الاستهجان؛ كأنما تستحضر في ذهنها مواقف عشوائية من انعدام الرجولة معها:
, -مش كل الناس زيك.
, نظر إليها بغرابةٍ، فأكملت موضحة:
, -إنت حالة فريدة.
, سألها بتوجسٍ طفيف:
, -وده حلو ولا وحش؟
, جاءه ردها محايدًا عندما ردت:
, -يعني أفتكر إنه على حسب تقدير اللي قصادك.
,
, لم ينكر تميم أنه كان في قمة استمتاعه بحديثه المطول معها، بدا وكأنه يجالسها في جلسة رومانسية على أضواء الشموع الخافتة، ووسط بتلات الزهور الناضجة، ودَّ لو دام الحال لفترة من الزمن دون أن يقاطعهما أحد. انتبه لإطالته في نظراته الشاردة على معالم وجهها، وعلق عليها على مهلٍ:
, -مش مهم عندي يقدر ولا لأ، كل اللي بيبقى فارق معايا إني أعمل الصح واللي مقتنع بيه.
, شعر بلمحة من الاستنكار في صوتها وهي تعقب:.
,
, -بس اعذرني اللي زيك بقوا قليلين أوي.
, كان تعليقه تلقائيًا ومندفعًا:
, -كفاية إني فريد في نظرك..
, رفعت حاجبها للأعلى في دهشةٍ، ورأى تأثير كلامه العفوي على توتر ملامحها، ثم عدَّل من مقصده قائلاً:
, -يعني بتعامل بأخلاقي الحلوة دي مع الكل.
, اكتفت بالإيماء برأسها، فحاول أن يغطي على هفوات لسانه المتكررة بتغيير مجرى الحوار، فاستطرد يخبرها:
, -وعلى فكرة محلك بقى شكله عظمة أوي، إن شاء**** يكون فاتحة خير عليكي وعلينا٣ نقطة
,
, خشي أن يُساء تفسير فلتة غادرة من لسانه الأهوج، لذا صحح لها من جديد:
, -وعلى الكل أقصد.
, تنحنح بعدها بصوتٍ خشن ليسألها:
, -إنتي خلصتي؟ ولا إيه نظامك؟
, أجابته بهزة مؤكدة من رأسها:
, -أيوه..
, أشار لها بيده وهو يتحرك نحو الخارج قائلاً بلهجةٍ بدت آمرة:
, -طيب تعالي معانا نرجعك البيت، مايصحش تمشي والطريق متبهدل كله.
, اعتذرت منه بملامح جادة:
, -مالوش لازمة، دي الحكاية كلها خطوتين.
,
, التفت يرمقها بنظرة جمعت بين الرجاء واللطافة قبل أن يصر عليها:
, -مش هاقبل ترفضي، أنا مستني برا.
, تحرك مجددًا فاستوقفته بندائها:
, -معلم تميم!
, صوتها الناعم المنادي باسمه هكذا في لهفة، جعل الدماء تتدفق في شرايينه ليخفق قلبه، كأنما تهلل في سعادة لأنها اختصته بذاته بمنحة ميزة فريدة بنطق حروف اسمه. التفت كليًا ليواجهها بتعابير يغلفها مسحات من السرور، حمحم متسائلاً:
, -أيوه.
,
, دنت منه حتى أصبحت على بعد خطوة، عند أعتاب باب محلها. وقف كلاهما يتطلعان إلى بعضهما البعض في صمتٍ لحظي، قطعته بإخباره بابتسامة منمقة، مصحوبة بنظرة كانت واثقًا أنها دافئة، بل ورجا من **** أن تدوم للأبد:
, -شكرًا على كل حاجة.
,
, عجز عن الرد، كأن الكلمات فرت من بين شفتيه، أمام هالة البهاء التي تخدر بها حواسه، كلما أصبح قريبًا منها، وبات في محيط تأثيرها القوي. غادرت المكان ولم تغادر فؤاده، وإنما تربعت منذ اللحظة الأولى لانطلاق جذوة الحب على عرشه، واستقرت في قرارٍ مكين.
,
, جلس ثلاثتهم في السيارة، وبدأ تميم يشق طريقه متقدمًا نحو الشارع الرئيسي بسرعة شبه بطيئة، لكون المنطقة غارقة في بركٍ غير ضحلة من تراكم مياه الأمطار. أخفضت فيروزة نظراتها لتحدق فيما تسرب من مياه إلى داخل السيارة، وهتفت تخاطبهما في انزعاجٍ:
, -مش معقول المياه عالية للدرجادي.
, بادر تميم بالرد عليها قبل زوج توأمتها مفسرًا سبب تلك الأزمة:.
,
, -ما هو النوة المرادي شديدة، والبلاعات مش قادرة تقاوم، ده غير منسوب المد بتاع البحر.
, علق هيثم ساخرًا:
, -الناس مش محتاجة تروح البحر، احنا جبناه لحد عندهم، توصيل للمنازل.
, ضحكت على طرفته، ورأها تميم من انعكاس مرآته الأمامية، فتضاعفت النبضات الولهة طالبة بالمزيد من الضحكات النضرة. سرعان ما لاحظ تبدل تعبيراتها المسترخية لأخرى شبه حادة وهي تستطرد متسائلة وهي تشير بيدها عبر الزجاج:.
,
, -هو مين اللي متشعبط هناك كده؟
, سألها محاولاً النظر إلى حيث أشارت مع متابعته لقيادة السيارة:
, -فين؟
, أوضحت أكثر بقولها:
, -هناك، ناحية المواسير دي.
, بدت زاوية الرؤية جيدة من ناحية هيثم الجالس أمامها، فأطل برأسه مسلطًا نظراته على البقعة المشار إليها، وأردف قائلاً بتخمينٍ:
, -شكله حرامي.
, شهقت فيروزة مرددة في صدمةٍ:
, -معقولة؟
,
, ركز تميم بصره نحو منطقة أخرى، لاحظ وجود ما يدعو للريبة، فقد وجد أحدهم يدور بعينيه في المكان، وهو يرتكن بظهره على دراجة بخارية؛ كأنما تم تكليفه بمراقبة المنطقة وتأمينها، احتدت نظراته نحوه، وأشار ناحيته بسبابته قائلاً:
, -ده في واد ناضورجي مستنيه قدام أهوو.
, ردد هيثم وهو يفرك كفيه معًا:
, -كمان، طب هدي العربية شوية.
, ابتسم له تميم ابتسامة مغترة وهو يغمز له:
, -شكل الليلة النهاردة فل على الآخر.
,
, بادله الابتسام ورد:
, -متوصي بينا.
, لم تفهم فيروزة ما الذي يدور بينهما من حوارٍ غامض، وسألتهما:
, -هنعمل إيه؟
, تهادت سرعة السيارة بشكلٍ ملحوظ حتى توقفت تمامًا، والتفت تميم برأسه ليخاطبها بلهجته الآمرة:
, -خليكي في العربية ماتنزليش، احنا هنتعامل.
, اتسعت عيناها مذهولة؛ لكنه تابع أوامره وهو يفتح الباب:
, -اقفلي بالقفل من جوا.
, هتفت مقترحة من تلقاء نفسها:
, -ما نبلغ البوليس.
, أجاب عنه هيثم بانتشاء متحمس طغى عليه:.
,
, -هنكلمهم لما يتروق عليهم الأول عشان يلموا الجثث.
, برزت عيناها أكثر في محجريهما من مجرد تخيل المشهد الدموي في رأسها، لم يكن بمقدورها شيء لمنع هذا العنف الوشيك، فقط تقدمت بجسدها للأمام لترى من داخل السيارة ما يحدث بالخارج.
,
, سار الاثنان متجاورين إلى بعضهما البعض، بأكتاف منتصبة، وخطوات ثابتة، تنم عن شموخ وقوة ظاهرة على جسديهما، أجلى تميم أحبال صوته بنحنحة خشنة، ليستطرد بعدها قائلاً:
, -عايزين نشوف أخبار عضلاتنا إيه؟
, وافقه هيثم الرأي وهو يشمر عن ساعديه:
, -بالظبط.
, بصوتٍ جهوري رن صداه في جنبات البنايات صاح تميم:
, -إنت يالا، بتعمل إيه عندك؟
,
, انتفض الشخص المخول بمراقبة المكان من على الدراجة البخارية المستند عليها، وقد بدا متفاجئًا برؤية أحدهم يكشف أمره، بينما تجمد الآخر المعلق في الهواء مدهوشًا بتسليط كشاف الهاتف المحمول عليه لتبين مكانه وسط الظلمة التي تعم زاويته، ارتفع نداء هيثم لافتًا الانتباه:
, -حرامي يا جدعان في المنطقة ناحية بيت سويلم.
,
, بدأت أصوات فتح النوافذ، وصخب متداخل يسود في الأرجاء، كدلالة ملموسة عن تجاوب السكان مع ما سمعوه من تحذير شفهي. أسرع القائم بوظيفة (الناضورجي) بركوب دراجته للفرار، وكاد يدهس في طريقه تميم لولا أن أزاحه هيثم عن مساره الأهوج وسط صراخه المرتفع:
, -حاسب يا تميم.
,
, بأعجوبة تفاداه؛ لكنه كان سريع الحركة في التقاط حجرٍ قريبٍ منه ليقذفه في اتجاه اللص، ارتطم برأسه في عنفٍ، وجعله يترنح من الألم، ومن ثم يفقد توازنه، ليُطرح أرضًا. أناسٍ غير معلوم من أين جاءوا تحديدًا التفوا حوله للإحاطة به، وضربه، وصوت التهليل ما زال يرن من مختلف الحاضرين:
, -حرااااامي.
,
, بمجرد أن هبط اللص الآخر عن ماسورة المياه التي استغلها في الصعود، حتى قبض عليه بقية المتواجدين بالشارع، وأبرحوه ضربًا حتى لم يعد في جسده عظمة سليمة. زم هيثم شفتيه معترضًا:
, -احنا ملحقناش نعمل حاجة.
, قال وهو يهز كتفيه في هدوءٍ:
, -حظه بقى.
,
, بأعصابٍ ما زالت مشدودة، ظلت فيروزة حبيسة السيارة، تتلهف في خوفٍ وقلق لمعرفة ما الذي آلت إليه الأمور، خاصة بعد ازدحام المنطقة، وتعذر الرؤية من الحشد الذي تجمع في لمح البصر. تنفست الصعداء بمجرد أن رأت الاثنين يخترقان الصفوف ويقبلان عليها، بقيت عيناها على تميم تفحصه بتلقائية؛ كأنما تتفقد إن كان مصابًا من عدمه، طمأنها بابتسامةٍ جعلتها ترتبك، وتستعيد إحساسًا كانت تتعمد دفنه في أعماقها، فتح الباب وجلس خلف المقود يخاطبها قبل أن تشرع في سؤاله:.
,
, -الناس قاموا بالواجب قبلنا.
, استقر هيثم في مكانه مضيفًا عليه:
, -كنتي هاتشوفي مفرمة، بس يا خسارة.
, ابتسم تميم وهو يتابع مازحًا:
, -الخناقات جاية كتير، ماتستعجلش.
, على عكس ما توقع استنكرت فيروزة ميول كليهما للعنف البدني، وصاحت معبرة عن رأيها في استهجانٍ:
, -هو إنت بتتبسطوا من الحاجات دي؟
, اندهش تميم من ردة فعلها الحادة، وأدار رأسه ليتطلع إليها عن كثبٍ، والحيرة تملأ عقله، خاطبته مباشرة كأنما تنذره:.
,
, -أخرتها ممكن تكون وحشة.
, لم يستسغ هيثم كلامها، لذا رد عليها بنبرة غير مبالية:
, -**** بيكملها معانا بالستر.
, اتجهت أنظارها إليه، وقالت بشيءٍ من العصبيةٍ:
, -أنا مش بحب كده.
, لاحظ مدى التوتر الذي صارت عليه، فاعتذر منها على الفور:
, -خلاص يا أبلة حقك علينا، احنا أكيد مش بنبقى نازلين نتخانق، في ورانا شغل ومصالح بنسعى عليها.
, في حين هسهس هيثم ساخرًا منها:
, -طرية.
, حذره تميم بوجه اشتد على الأخير، ونظراتٍ أكثر صرامة:.
,
, - هيثم!
, كز على أسنانه مبرطمًا:
, -أديني ساكت.
, قاومت فيروزة ذكريات العنف التي بدأت في مناوشتها، وجعل بدنها يرتجف من تذكر قساوة الضربات الوحشية التي نالت منها في لحظات قوتها، وأوقات ضعفها. طرأ ببالها أن تكون توأمتها تعامل بالمثل من زوجها، وتخشى البوح بهذا، لهذا دون ترددٍ سألته بلهجةٍ شابها التهديد:
, -أوعى تكون بتتعامل كده مع همسة، و**** ما هسكتلك.
, أدار رأسه للخلف لينظر إليها بضيقٍ، ثم سألها في انزعاجٍ:.
,
, -وإيه اللي دخلها دلوقتي في الخناقة اللي ماتمتش دي؟
, كانت إجابتها مباشرة ومنطقية:
, -طالما ده أسلوبك وارد لو زعلتك في حاجة تمد إيدك عليها وآ٣ نقطة
, قاطعها نافيًا في حدةٍ، وقد وجمت قسماته:
, -ماحصلش٣ نقطة
, وأضاف عليه تميم مؤكدًا بجديةٍ تامة:
, -ولا هيحصل!
, بدت غير مقتنعة بما يقولان، فأعاد عليها تميم خطابه بتريثٍ:
, -احنا مش كده يا أبلة، بنعرف امتى نتعامل ومع مين.
, رمقته بتلك النظرة المتشككة فكرر عليها:.
,
, -واستحالة نمد إيدنا على واحدة ست مهما حصل.
, أشاحت بوجهها بعيدًا عن نظراته المثبتة عليها، رافضة تقبل أي عذر يبرر العنف الجسدي. سحبت فيروزة حقيبتها من جوارها، وضمت إلى صدرها، ثم كتفت ساعديها حولها؛ كأنما تشكل بها درعًا يقيها شرورًا لم تتعافَ كليًا منها بعد، لتغمغم في سخطٍ بوجهٍ قد انقلب بكامله من أثر الذكرى:
, -كلام!
,
, رأى تميم الوجوم الذي استبد بملامحها، والتعاسة التي احتلت نظراتها، حز ذلك في قلبه بشكلٍ كبير، نمَّت قسماتها عن انعدامٍ واضح في عدم تصديق ما تفوه به من حقيقة التزم به على مدار سنوات عمره، التفت يطالع الطريق بعينين غائمتين، وخاطب نفسه قائلاً بعزمٍ:
, -دي حقيقة، ومسيرك هتتأكدي٣ نقطة!
 
٥


الإيذاء النفسي يبقى أثره عالقًا في الذهن، لا يمحى من الذاكرة بعد بضعة أيام، دومًا يطفو على السطح كلما تعرض الشخص لمواقف شبيهة، تضغط على أعصابه، وتحفز خلايا عقله على استعادة ما مضى. حاولت فيروزة تخطي تلك العقبة، والتأقلم مع تبعاتها؛ لكن إحساس الألم والضرب الموجع انتشر في أوصالها؛ كأنما قد تلقت للتو نفس التعنيف الشرس في كل مرة أبدت فيها مقاومتها لما يُفرض عليها جبرًا.
,
, نظرة تعيسة سددتها لذاك الذي ادعى لتوه أنه لم يمس امرأة بسوء، جال بمخيلتها ذكرى تطاوله على زوجته في حضرتها، كأسلوبٍ صارمٍ منه لإيقاف اتهاماتها المخزية آنذاك تجاه توأمتها، لقد لجأ لنفس الأسلوب القاسي لإخراسها، عاملها بخشونةٍ، وهذا أكثر ما تخشاه في منح ثقتها له أو لغيره؛ لكن ما لبث أن عادت لتتذكر أنها منحته صفعة قاسية أحرجته بها أمام الغرباء، انتقامًا منه على شيء لم يفعله عند دكانه، ومع هذا لم يُعاملها بالمثل رغم المناوشات اللفظية بينهما في أول الأول، وإيحاءه برغبته في إيذائها إن كانت خاصته.
,
, الكثير من التخبط والحيرة عصف بعقلها فأصبحت صافنة الذهن، غير منتبهة لتوقف السيارة عند بيتها، صوته المنادي جعلها تلتفت إليه بتعابيرها الواجمة:
, -احنا وصلنا يا أبلة.
, استدارت ناظرة من نافذتها إلى مدخل البناية، وقالت بقليلٍ من الحرج:
, -آ، شكرًا.
, على الفور ترجلت من السيارة دون أن تنبس بالمزيد، وبقيت أنظار تميم عليها، والذي سرعان ما لكز بقبضته ذراع ابن خالته يأمره:
, -انزل معاها وصلها، مايصحش.
,
, كان الضيق ما زال مستبدًا ب هيثم، فعلق معترضًا بتبرمٍ:
, -ليه هي قاصر؟
, رمقه بتلك النظرة القوية وهو يخبره:
, -خلي عندك ذوق، وبعدين بدل ما يكون في حد مستخبي كده في الضلمة يطلعلها، وقولها تقفل باب المدخل وراها.
, كان محقًا في حرصه الزائد، خاصة بعد تجربة صدامهم مع اللصوص، لذا قال على مضضٍ وهو يفتح الباب:
, -طيب، أما نشوف أخرتها
, تابعهما بنظراتٍ مهتمة وهما يختفيان بالداخل، ولسانه يردد بصوتٍ خفيض:.
,
, -**** يقرب البعيد وتعرفي إنك مهما عملتي عمري ما هزعل منك.
, رفع تميم يده ليضعها على جانبه الأيسر متابعًا بزفير طويل:
, -إنتي موجودة جوا ده.
, دقائق وخرج هيثم قادمًا نحوه، استقر من جديد إلى جواره، فاستطرد يسأله:
, -كله تمام؟
, -أيوه، خلاص وصلتها٣ نقطة
, لم يحاول تميم الاستفسار عنها أكثر من هذا، يكفيه أن يجدها في مأمن من أي أذى ليطمئن ولو بقدرٍ بسيط، عاد ليقود السيارة وابن خالته يعلق في فتورٍ:.
,
, -العربية محتاجة تتنضف وإلا هتعمل ريحة.
, ألقى نظرة شبه فاحصة على المياه المتسربة للداخل بسبب ارتفاعها بالشوارع، وقال في لهجة جادة:
, -بكرة هوديها المغسلة، بس إدعي **** يبقى الجو عدل.
, حرك هيثم رأسه متمتمًا:
, -يا رب.
,
, تأكدت من وضع آخر طبق قامت بغسله في مكانه، قبل أن تخرج من المطبخ وتغلق الإضاءة خلفها، كانت والدتها ما زالت مستيقظة وتجلس أمام التلفاز تتابع أحد الأفلام العربية القديمة في البهو المتسع، جلست فيروزة إلى جوارها، وترددت للحظاتٍ قبل أن تستطرد قائلة بوجهٍ غامض في تعبيراته:
, -عايزة أسألك في حاجة يا ماما.
, لم تنظر ناحيتها، وردت بآذان صاغية:
, -قولي يا حبيبتي، أنا سمعاكي.
, فركت أصابع كفها معًا، وتشجعت لتقول:.
,
, -هو هيثم مد إيده على همسة قبل كده؟
, ارتفع حاجبا آمنة للأعلى في استنكارٍ مصدوم، وهتفت تلومها:
, -إيه الكلام ده يا بنتي؟
, بتعابيرٍ ما زالت غير مقروءة أجابتها:
, -ده مجرد سؤال عادي.
, نفت والدتها على الفور وهي تشير بيدها:
, -ماحصلش أبدًا، ده بالعكس على طول بتشكر فيه.
, باعدت فيروزة أنظارها عنها، وطلبت منها بما يشبه الرجاء:
, -برضوه ابقي اسأليها بينك وبينها، اطمني منها، مش هنخسر حاجة.
, علقت عليها آمنة بتوجسٍ قلق:.
,
, -إيه اللي خلاكي تقولي كده؟ هو في حاجة حصلت؟
, بالكاد خنقت غصة علقت في حلقها قبل أن تبرر لها:
, -لأ، مافيش، أنا بس بطمن على أحوالها، معدتش في حد مضمون في الزمن ده.
, ابتسمت أمها وهي تخبرها بحسن نية كعادتها:
, -مش كل الناس مؤذية يا بنتي، في ولاد حلال موجودين حوالينا.
, ظلت فيروزة تتطلع أمامها بعينين واجمتين، ظهر فيهما الألم، وخاطبت نفسها بصوت بقي حبيس أعماقها:
, -أنا معرفتش غير المؤذيين وبس.
,
, قاوم على قدر المستطاع إشعال سيجارة أخرى للتنفيس عما يستعر بداخله من احتراقٍ لا يعرف سبباه؛ لكنه كان يزداد قوة كلما تذكر علامات الأسى المرسومة على ملامحها، وتلك النظرة المليئة بهمومٍ لا يعرف كيف تحويها بداخلها، كم تمنى أن ينفذ إلى روحها، ليزيح عنها ما يؤلمها! استند تميم بمرفقيه على حافة سور شرفته، محدقًا في الفراغ بنظراتٍ لا ترى سوى طيفها، تصلب جسده مع اللمسة الحنون على ظهره، فاستدار برأسه للجانب ليجد والدته تقف إلى جواره وهي تسأله:.
,
, -سرحان في إيه يا حبيبي؟
, ادعى الابتسام وهو يرد:
, -مافيش حاجة يامه.
, سألته ونيسة في اهتمامٍ:
, -الشغل ماشي معاك كويس؟ ولا فيه مشاكل؟
, قال بعد زفيرٍ بطيء:
, -من ده على ده، بس كله بيعدي الحمد****.
, ربتت على كتفه تدعو له بحنوٍ:
, -**** يصلح حالك يا حبيبي، ويسرلك كل عسير.
, ابتسم لها وهو يحني وجهه على مقدمة رأسها ليقبلها:
, -يا رب.
, عمَّ الصمت بينهما للحظات، قطعته ونيسة هاتفة بترددٍ ملحوظٍ عليها:.
,
, -بأقولك إيه يا ضنايا، إنت كنت كلمت سراج صاحبك عشان أختك؟
, فرك طرف ذقنه بيده، وقال:
, -اتلبخت و****، بس بكرة الصبح هاطلبه، وأبلغه باللي هي عايزاه.
, أشرقت الابتسامة على تعبيراتها، واستمرت تدعو له في عاطفة:
, -**** يفرحني بيك إنت وأختك ويعوضكم كل خير يا رب.
, بادلها الابتسام، ولف ذراعه حول كتفيها مرددًا:
, -**** كريم.
, سألته مجددًا في نبرة مهتمة:
, -مش عايز حاجة قبل ما أنام؟
, أخفض ذراعه، وقال:
, -تسلمي يا أمي.
,
, غادرت ونيسة الغرفة، وتبعها تميم بنظراته إلى أن أغلقت الباب خلفها، فتابع تحديقه الشارد هامسًا بأنين:
, -يا ريتني أقدر أعرف اللي جواكي!
,
, أمسكت بالمقشة اليدوية، وقامت بجمع وكنس بقايا اللب الذي بصقه ابنها على السجادة، لتعيد الغرفة إلى ما كانت عليه من نظافة وترتيب قبل أن يأتي ويفسد عليها مجهودها. تسمرت سعاد في مكانها مشدوهة بعد أن قذف بقنبلته في وجهها، وصاحت تلومه في استهجانٍ:
, -عروسة إيه دي اللي أشوفهالك؟ يا ابني ده احنا لسه مش عارفين نحل مشكلتك مع أم عيالك وآ٣ نقطة
, قاطعها فضل في حدةٍ بعد أن تجشأ بصوتٍ مقزز:.
,
, -بوز الإخص دي ماتجبيش سيرتها، هي السبب في النحس اللي أنا فيه.
, رمقته بتلك النظرة غير الراضية؛ لكنه تابع بوعيدٍ صريح:
, -اصبري عليا بس أفوق من اللي أنا فيه، وهحاسبها هي والبأف اللي جابته يعلم عليا هنا وياخدني على خوانة.
, واصلت سعاد توبيخها اللائم له وهي تنحني لتزيل ما جمعته من أوساخ بالجاروف والفرشاة:
, -إنت مش ملاحق تعادي مين ولا مين؟ ما تخليك في حالك، وتشوف أكل عيشك، ده الأبقى ليك ولعيالك من بعدك.
,
, صاح في سخطٍ، وتلك النظرة الكريهة تطل من عينيه:
, -وأحرم نفسي من متع الدنيا ليه؟ ده من حقي.
, اعتدلت في وقفتها، وأوشكت على متابعة تحذيرها له؛ لكنه أسكتها قبل أن تبدأ بترديده الفظ:
, -بأقولك إيه يامه، روحي نامي، الكلام معاكي زي قلته، لا هيودي ولا هيجيب.
, نظرت إليه في استياءٍ، واستدارت منصرفة من غرفته قائلة:
, -**** يهديك لحالك.
,
, صدق فيما أخبره به بالأمس، حيث اشتم تميم رائحة عطن بسيارته جراء امتلاء بدنها بالمياه غير النظيفة، لذا كان أول ما قام به بعد نزوله من البيت هو الاتجاه بها إلى مغسلة السيارات. أعطى المفاتيح لأحد العاملين بالمكان، وأوصاه مشددًا:
, -روق عليها، عايزها تبقى فلة من جوا.
, قال العامل في حماسٍ واثق:
, -هخليهالك على الفبريكا يا سيد المعلمين، كأنها عروسة.
,
, رفع تميم ذراعه، ووضعه على كتفه ليربت عليه بقوةٍ طفيفة وهو يتحداه:
, -أما نشوف كلام جد ولا أونطة.
, هز رأسه مؤكدًا عليه:
, -يا باشا ده المغسلة كلها تحت أمرك، ولو الشغل معجبكش نعيده تاني٣ نقطة
, ثم أشار له ليجلس وهو يدعوه:
, -مسافة بس ما تشرب الشاي هتكون خلصانة.
, عقب في استحسانٍ:
, -ماشي يا سيدي.
,
, سحب تميم مقعدًا، وجلس بعيدًا عن الضجيج المحاوط به، وإذ بذلك العامل يأتي إليه بعد بضعة دقائق وفي يده حافظة نقود حمراء اللون، ناوله إياها قائلاً:
, -معلم تميم لاقيت البوك الحريمي ده واقع تحت الكنبة اللي ورانا.
,
, نظر إليه في دهشةٍ قبل أن يأخذها من يده، بينما انصرف العامل ليكمل مهمته دون الحاجة للحصول على أي تفسيرٍ منه. تفقد تميم الحافظة بنظراتٍ فاحصة مستريبة، سرعان ما تبددت حيرته إلى نوعٍ من الصدمة اللذيذة، خاصة وقد رأى نقشة لريشة الطاووس المميزة تزين حوافه الجانبية؛ وكأنه حاز على قطعة تلامسها، وجد نفسه يضمها إلى صدره بابتسامة بلهاء لا يعرف أنها تشكلت على ثغره.
,
, تدارك نفسه، وأخفى في لحظة ملامح الوله التي تباغته ليبدو جاد التعبيرات، تردد كثيرًا في فتحها والتأكد من امتلاكها لها، برر لنفسه تصرفه في عزمٍ:
, -ما جايز تكون مش بتاعتها.
,
, رغم يقينه بأنها تعود إليها، إلا أن رغبة الفضول التي استحوذت عليها كانت لها الغلبة، ألقى نظرة خاطفة على من حوله ليتأكد من عدم تركيز أحدهم معه، تسلل إليه شعور الارتياح لانشغال الأغلب، فتشجع لفتح حافظتها، اضطربت دقات قلبه بخفقان متتابع أصاب كافة حواسه بنوعٍ من الشعور المتقد، مع رؤيته لصورتها الشخصية الموضوعة على الجانب خلف غلاف شفاف، سرت رجفة طفيفة في كامل بدنه وهو يتأملها بنظراته المتيمة عشقًا بها، دومًا تثير فيه كتلة من الأحاسيس التي لا يشعر بها سوى معها، تلقائيًا تحرك إصبعه ليلمس وجهها في بطءٍ كأنما يريد أن ينسخ ملامحها في وجدانه، وقبل أن تفيض به عواطفه الجياشة، وتطغى على إدراكه العقلاني، أغلق الحافظة، وأطبق عليها كفه مستشعرًا بقوة هذا الشعور المشتاق المضطرم في فؤاده. هب واقفًا من مكانه، وصاح بلهجةٍ جاهد ليخفي ارتباكه فيها وهو يخاطب عامل المغسلة:.
,
, -أنا رايح مشوار وراجعلك تاني.
, رد عليه الرجل وهو منكفئ على مقدمة سيارته:
, -براحتك يا معلم.
, بخطواتٍ أقرب إلى القفز، عبر الطريق في خفةٍ وهو يدور بنظراته سريعًا على الجانبين. في الظاهر أراد إعادة ما فقدته دون قصدٍ منها؛ لكن في الباطن أراد ملء الروح بنظرة من جوهرتيها، لعَّل النفس تهدأ، والقلب يسكن!
,
, جثت على ركبتيها لتنظر أسفل الفراش، قبل أن تستقيم واقفة لتفتش في نفس الأدراج التي بحثت فيها منذ لحظاتٍ، تحركت والدتها على خطوتها، وأخبرتها في حيرة:
, -دوري يا بنتي كويس، جايز شيلتيها هنا ولا هنا.
, ردت فيروزة في عصبيةٍ وهي تشير بيدها نحو حقيبتها:
, -أنا متأكدة إنها كانت جوا الشنطة.
, سألتها والدتها بشكٍ:
, -مش يمكن نستيها في المحل؟
, قالت وهي تتجه نحو التسريحة في يأسٍ حائر:
, -احتمال برضوه، هاروح أدور هناك.
,
, لفت حجابها حول رأسها، وأكملت حوارها معها في ضيقٍ:
, -**** يستر وما تكونش ضاعت.
, عادت آمنة لتسألها من جديد:
, -هي كان فيها فلوس كتير؟
, نظرت لها من طرف عينها، وأخبرتها وهي تحكم غلق طرفي ال**** معًا بدبوسٍ صغير:
, -مش أوي، بس هايبقى موال عقبال ما أطلع بطاقة تانية.
, حاولت بث الأمل فيها، فرددت في تفاؤلٍ:
, -إن شاء **** **** هيعترك فيها.
, رغم عدم اعتقادها في عثورها عليها إن كانت فُقدت حقًا غمغمت في تعجلٍ:
, -يا رب.
,
, خرجت من الغرفة لتتجه إلى باب المنزل، وهناك التقطت حذائها من دولاب الأحذية، انتبهت لصوت قرع الجرس، فتساءلت فيروزة وهي تكمل ارتداء الفردة الأخرى:
, -مين جاي السعادي؟
, ردت عليها والدتها وهي تسير ناحيته:
, -مش عارفة.
, كانت فيروزة الأسبق في فتحه، تفاجأت من وجوده أمامها، فهتف في استغراب يشوبه الدهشة:
, -معلم تميم!
,
, الأحلام بعيدة المنال أصبحت قيد التحقيق الآن، وكأن وقت استجابة الدعوات قد أزف، وها قد لمس بوادر ذلك. أخفض تميم رأسه بعد نظرة سريعة إليها، ثم استطرد مرحبًا:
, -صباح الخير.
, تحرجت من وقاحتها غير المقصودة، وردت بعد أن ضغطت على شفتيها للحظة:
, -صباح النور.
, مد يده ناحيتها بحافظتها قائلاً:
, -اتفضلي.
, أخذتها منه بتعابير ابتهجت في سرورٍ، ورددت بنبرة أكدت له سعادتها بعثوره عليها:.
,
, -إيه ده؟ إنت لاقيتها، ده أنا قلبت الدنيا عليها.
, لم يقاوم رغبته القوية في النظر إليها في تلك اللحظة، ويا ليته ما فعل! فملامحها المشرقة سلبته عقله، فشرد يطالعها بإمعانٍ، كأنما يريد أن تبقى صورتها عالقة في ذهنه إن فارقها وذهب مضطرًا هكذا للأبد. لم تكن منتبهة لطريقة تحديقه بها، مما منحه الفرصة لضبط انفعالاته قبل أن تستريب في أمره، تنحنح يخبرها بعد ذلك:
, -كانت واقعة في العربية.
,
, انضمت إليهما آمنة، وهتفت مرحبة به بودٍ شديد:
, -اتفضل يا معلم تميم، مش عيب يا فيروزة تسبيه واقف على الباب كده؟
, على الفور اعتذرت منه ببسمة زادت من قسماتها نضارة:
, -أنا أسفة مخدتش بالي..
, تنحت للجانب، وأشارت له بيدها:
, -اتفضل.
, قال وهو يوزع نظراته بينهما:
, -لا مافيش داعي، أنا كنت جاي أرجع الأمانة، خوفت لا ماتلقيهاش وتقلقي.
, كررت عليه آمنة شكرها على صنيعه الطيب:.
,
, -و**** كتر خيرك يا ابن الأصول، يا عيني دي كانت شايلة هم إنها تكون ضاعت.
, تلقائيًا تحولت أنظاره نحوها مجددًا، فوجدها تتفحص ما بداخلها، لهذا سألها:
, -في حاجة ناقصة فيها؟
, أجابته وهي تخرج هويتها لترفعها نصب عينيه:
, -لأ، مافيش، ده أنا بتأكد من البطاقة.
, شقت ابتسامة عذبة طريقها على شفتيه مع رؤيتها تبتسم في نعومة، واستطرد يكلمها:
, -معاكي حق يا أبلة٣ نقطة
,
, السعادة بكافة معانيها حلت عليه في تلك اللحظات العابرة، ودَّ لو استمرت لساعات وساعات؛ لكن ما باليد حيلة، أبعد عينيه عنها، وقال في حرجٍ:
, -احم، لا مؤاخذة يعني، أنا بس كنت، فتحتها عشان أشوف بتاعة مين، ولما لاقيت صورتك آ٣ نقطة
, جاهد ألا ينظر إليها وهو يتم جملته:
, -اتأكدت إنها تخصك.
, كانت مشغولة بإعادة ترتيب محتويات حافظتها وهي ترد:
, -تمام، تسلم يا معلم تميم، أنا مش عارفة أشكرك على إيه ولا إيه؟
,
, تجرأ مرة أخرى لينظر إليها بتلك النظرة الساهمة، قبل أن يرد في لطفٍ:
, -مافيش بينا شُكر، أنا تحت أمرك يا أبلة في أي حاجة.
, أحست آمنة بعدم تقديرها لضيفها الذي أغرق عائلتها بالكثير من المجاملات، فأصرت عليه تستضيفه:
, -يا معلم مايصحش كده، اتفضل عندنا شوية، تشرب شاي، وآ٣ نقطة
, قاطعها معتذرًا بلباقةٍ:
, -وقت تاني، المهم عم خليل بخير؟
, ردت بإيماءة من رأسها:
, -أه الحمد****.
, استأذن بعدها في تهذيبٍ:.
,
, -دايمًا يا رب، عن إذنكم، وأشوفكم على خير.
, تقدمت آمنة خطوة لتودعه بمزيدٍ من الحرارة:
, -تسلملنا يا ابني، شرفت وأنست، ده بيتك في أي وقت تشرف فيه.
, وقفت فيروزة في مكانها تخاطب والدتها بحيرة:
, -هو لسه في ناس كده؟
, استدارت آمنة لتواجهها وهي ترد مادحة:
, -بصراحة ما شوفتش في شهامته ولا جدعنته.
, تحركت ابنتها خطوتين لتتجاوزها، وقالت بعد تنهيدة سريعة:
, -ده حقيقي٣ نقطة
, سرعان ما سيطر على نبرتها حزنًا خفيًا حين تابعت:.
,
, -يا رب يفضل كده، ومايجيش يوم واتصدم فيه زي غيره!
, لم تعلم أنه ما زال واقفًا على السلم يرهف السمع إلى حديثهما العابر عنه بحماسٍ متقد، خفقة قابضة آلمت صدره مع جملتها الأخيرة، فجعلته يزداد تخبطًا وريبة في أمرها، ما زال ذلك السؤال الحائر يدور في رأسه وهو يكمل هبوطه على الدرج:
, -إيه اللي حصلها وأنا معرفوش٣ نقطة!
 
٦

طلبت تغيير مكان لقائهما المعتاد إلى آخر، لانشغالها معظم اليوم في متابعة الحالات المرضية هناك، وبالرغم من ترددها إلا أنها شعرت بالسوء لرؤية هؤلاء المسنين في حالة إهمال وهجر بعد أن تخلى عنهم ذويهم. أحست فيروزة بالضيق يستبد بصدرها، خاصة مع سماعها لمقتطفات عابرة عن كيف انتهى بهم المطاف هنا، لا يعانون من أعراض التقدم في السن والعجر فقط، وإنما قساوة الإهمال، وقلة الاهتمام. استدارت تنظر في اتجاه ريم التي لوحت لها بيدها وهي تقبل عليها أثناء هتافها:.
,
, -تعالي يا فيروزة، هنقعد هناك.
,
, في معظم مقابلاتهما دومًا تحبذ ريم اختيار الأماكن المفتوحة، والمتخمة بدرجات مختلفة ومتفاوتة من الخضرة لتلتقي بها، ولم تكن فيروزة ممانعة، فقد كانت بحاجة لبعض التغيير في نمط حياتها الذي أصبح شبه روتيني، ورؤية أماكن جديدة ربما لم تكن لتأتي إليها من تلقاء نفسها. انفردت الاثنتان ببعضهما البعض، وجلستا عند بعض الأرائك الشاغرة في نهاية الحديقة. استطردت ريم تسألها عن المستجد في أوضاعها المعيشية، وأصغت إلى ردودها بانتباهٍ تام قبل أن تقول مباشرة:.
,
, -في جزئية دايمًا احنا بنلف وندور حواليها من يوم ما بدأنا مشوارنا سوا.
, قطبت جبينها متسائلة بتحفظٍ:
, -إيه هي؟
, بأسلوبها الهادئ أجابتها:
, -إنتي عارفاها كويس، وبتتجنبي الكلام عنها، مع إني حابة إنك تتخطي العقبة دي، وتواجهيها، اعتبريها زي تحدي جديد ليكي.
, ظلت ملامح فيروزة متجهمة قليلاً، وقد فطنت إلى ما تحاول فعله، وتأكدت من مسعاها عندما أضافت:.
,
, -يمكن أنا عندي لمحة بسيطة عن اللي شوفتيه في تجربتك مع آسر، وده من كلام ماهر، بس أنا عاوزاكي إنتي اللي تحكي، تتكلمي، تطلعي اللي جواكي٣ نقطة
, حل المزيد من الوجوم على تعبيراتها، حتى نظراتها تبدلت من الاسترخاء للتحفز، بينما استمرت ريم تُحادثها:
, -صدقيني ده هيفيدك أوي.
,
, ما تريد معرفته ليس بهذا القدر من اليسر لتفصح عنه بسهولة، فقد احتاجت لكل شجاعتها لتطمره في أعماق أعماقها، لذا قررت الانسحاب من هذا اللقاء دون تفكيرٍ، هبت فيروزة واقفة، وعلقت حقيبتها على كتفها، لتقول بوجهٍ جامد كالحجر:
, -سامحيني يا دكتورة، أنا مضطرية أمشي، عندي شغل.
, وقفت ريم بدورها، وخاطبتها بلين الكلام وهي تتحرك ناحيتها:
, - فيروزة، الهروب مش هو الحل٣ نقطة
, وضع يدها على ذراعها وأكملت:.
,
, -أحيانًا بنبقى مضطرين نواجه أكتر حاجة بنخاف منها عشان نعدي، ونكمل طريقنا صح.
, سحبت ذراعها من قبضتها، وقالت بصوتٍ أجوف:
, -دي صفحة وقفلتها.
, ردت عليها بإيماءة سريعة من رأسها:
, -صح، بس رواسبها لسه عايشة جواكي..
, وقبل أن تعارضها استمرت في التوضيح لها:
, -وأنا دوري أساعدك تتخطي العقبة دي وإنتي بكامل قوتك، وشجاعتك، بحيث مافيش حاجة ترجعك لورا، تمنعك من إنك تحققي اللي بتحلمي بيه.
, ثم ابتسمت لها قائلة بتأكيد:.
,
, -كمان أنا حاسة إنك هتعملي ده من نفسك قريب.
, بطريقة ما نجحت في إثنائها عن عنادها قليلاً، فجذبتها ريم من مرفقها، وطلبت منها الجلوس بتهذيبٍ:
, -مش معقول هنفضل واقفين، ده احنا لسه يدوب بنتكلم، ممكن تتفضلي لحد ما أجيب حاجة ناكلها سوا؟
,
, تنفست فيروزة بعمقٍ قبل أن تعاود الجلوس على مقعدها، في حين انصرفت ريم لدقائق، لتأتي وفي يدها وعاءً يحوي ثمار الفاكهة الطازجة. أسندته على الطاولة، وجلست في الجهة المقابلة لتستأنف بعدها كلامها:
, -إيه رأيك النهاردة نتكلم عن حد ليه أثر طيب وإيجابي معاكي؟
, هزت كتفيها مرددة في فتور:
, -عادي.
, اشترطت عليها وهي تشير بإصبعها نحوها:
, -بس حد يكون خارج دايرة الأسرة.
, نظرت إليها في غرابةٍ، لتسألها بعدها:
, -زي مين مثلاً؟
,
, فكرت ريم قليلاً قبل أن تسهل عليها:
, -ممكن من الجيران، أصدقاء في الشغل.
,
, شردت فيروزة لبرهةٍ تحاول اختيار أحدهم لتتحدث عنه، بدت حائرة بعض الشيء، إلى أن وقعت أنظارها على ثمرة التفاح، حينها فقط تجلت صورته في ذهنها وهو يبتسم لها بابتسامة غريبة، كأنما يخصها بها، ارتفع حاجباها للأعلى، وقد ازدحم عقلها بالمزيد من الذكريات عنه، أصبحت ملامحها شاردة بشكلٍ ملحوظ. راقبتها ريم عن كثب، إلى أن قطعت استغراقها في التفكير لتسألها:
, -الظاهر في حد معين في دماغك، صح ولا أنا استنتجت غلط؟
,
, عادت إلى وعيها، وأجابت بردٍ شبه مائع:
, -يعني.
, ابتسمت ريم لتجاوبها، وتابعت أسئلتها لها:
, -تقدري تكلميني عنه شوية؟
, تحفزت دفاعاتها من جديد لترد بإنكارٍ:
, -وليه ماتكونش واحدة؟
, اعتمدت على هدوء نبرتها وهي تبرر لها:
, -ده مجرد تخمين، مش فارق إن كان واحد ولا واحدة، المهم يكون ليه تأثير إيجابي على حياتك الفترة اللي فاتت.
, أطلقت فيروزة زفرة طويلة محملة بالتردد، لتخبرها بعدها وهي ترمش بعينيها:
, -عمومًا هو واحد.
,
, علقت بإيجازٍ دون أن تفتر بسمتها الرقيقة:
, -تمام.
, من أسفل الطاولة فركت فيروزة أصابعها معًا في توترٍ، كأنها تنشد بتلك الحركة الحصول على بعض القوة والثبات وهي تبوح لها بشيء اعتبرت مجرد تطرقها إليه أمر حرج:
, -مش قادرة أحدد طبيعة شخصيته إيه، ساعات كتير بحس إنه شهم أوي، فريد من نوعه، وساعات تانية بأقلق منه، وأخاف.
, حافظت ريم على نعومة بسمتها وهي تنتقل لسؤالها التالي:
, -طيب نسأل كده ليه ممكن تخافي منه؟
,
, تجرأت وهي تجيبها:
, -عشانه مش مفهوم بالنسبالي.
, سألتها في هدوءٍ:
, -من ناحية إيه؟
, بعد لحظة من السكوت قالت وهي تستحضر في مخيلتها مواقف متداخلة له معها:
, -تصرفاته، طريقته معايا مختلفة.
, تساءلت في نبرة مهتمة:
, -مختلفة إزاي؟
, انتشر التردد على تعابير فيروزة، فاستطردت ريم توضح لها بلباقةٍ:
, -أنا أسفة إني بسألك ورا بعض بالشكل ده، بس عايزة من كلامك ده عنه أكون صورة ليه بوضوح.
,
, ضغطت على شفتيها في ربكةٍ، وتحاشت النظر ناحيتها كليًا، لتركز بصرها على ثمرة التفاح وهي تخبرها:
, -حساه مهتم بيا بزيادة أوي، زي ما يكون مستني أطلب منه أي حاجة عشان يعملها بسرعة.
, صمتت ريم لهنيهة قبل أن تعلق عليها:
, -ما يمكن تكون دي طبيعته مع كل الناس.
, أكدت عليها بأنفاسٍ مالت للاضطراب:
, -ده حقيقي، بس معايا أكتر، وأنا حاسة بكده.
, نقرت ريم بإصبعيها على الطاولة، ثم تشدقت قائلة:
, -ما يمكن يكون اهتمام من نوع تاني.
,
, زوت ما بين حاجبيها مرددة في استهجانٍ:
, -نوع تاني، مش فاهمة!
, اتسعت بسمتها قليلاً وهي تجيبها:
, -حب مثلاً.
, جحظت عيناها في صدمةٍ، ما لبث أن تحولت لحالة من الهجوم وهي تصيح في عصبيةٍ:
, -لالالا، استحالة، إيه الهبل ده؟ حب إيه؟ مش معقول، مافيش حاجة من دي، أنا مش قادرة أستوعب إن آ٣ نقطة
, قاطعتها ريم بتريثٍ:
, -اهدي، أنا مقولتش حاجة غلط، وارد يحصل إن الشخص ده يكون بيحبك.
, صاحت بنفس الحدةٍ، وقد اِربد وجهها بتعابير غاضبة:.
,
, -أنا محدش بيحبني، ده مجرد اهتمام عادي، ليه بتقولي كده؟
, حاولت امتصاص نوبة انفعالها وتثبيطها بإخبارها بهدوءٍ واضح:
, -بالراحة يا فيروزة، أنا مقولتش إنك بتحبيه، بس طبيعي إن مشاعرنا تتحرك وتنجذب ناحية حد تاني، ومش شرط الحد ده يبادلنا نفس الشعور، ده توقعي.
, ردت عليها تسألها في حدةٍ:
, -دكتورة ريم ممكن نتكلم عن حاجة تانية؟ ولا أمشي؟
, أشارت لها بيدها قائلة دون أن تتبدل قسماتها الهادئة:
, -حاضر..
,
, تركتها للحظات تستعيد انضباط نفسه قبل أن تستطرد مرة أخرى:
, -صحيح احنا ناويين نعمل حفلة هنا نحتفل بيها بالمسنين، ونرفه عنهم، إيه رأيك لو تعملي الديكور بتاعها؟
, نظرت إليها متسائلة في دهشةٍ:
, -أنا؟
, أكدت عليها ببساطة:
, -أيوه، ليه لأ؟
, ظهر التردد على محياها وهي تخبرها:
, -بس أنا لسه ببتدي، خبرتي قليلة في تجهيز الحفلات، مافيش داعي، ممكن أبوظ الدنيا.
, قالت عن ثقةٍ:.
,
, -بالعكس أنا متوقعة إنك هتعملي أقصى جهدك عشان تنجحي، وده هيساعدك تنطلقي أكتر٣ نقطة
, أوشكت على الاحتجاج والرفض؛ لكنها أصرت عليها:
, -مش هاقبل بالرفض، يالا منتظرة منك حاجة رقيقة زيك.
, لم تنكر أن إحساسًا قويًا بالحماس انتابها، كأن تلك الطبيبة تعرف كيف تعيد إليها ما افتقدته، نظرت إليها في امتنانٍ، وقالت:
, -شكرًا يا دكتورة ريم.
, بطريقتها الناعمة في الحوار أكدت عليها:.
,
, -لسه فاضل في مشوارنا سوا شوية خطوات، وأنا واثقة إنك هتقدري تتجاوزي أي تجربة٣ نقطة
, عمدت إلى بث المزيد من الثقة إليها فأضافت:
, -قليل أوي اللي عنده قوتك يا فيروزة، ماتستقليش بده، واوعي تخلي حد يحبطك أو يمنعك عن أحلامك.
, هزت رأسها وهي ترد باقتضابٍ:
, -حاضر.
, منذ اللحظة التي لجأت فيها للعلاج، بدأت فيروزة في ترميم الشروخ العميقة في روحها واحدًا تلو الآخر؛ لكن ظل واحد بعينه يحتاج لمعجزة لمداواته.
,
, بناءً على مكالمة هاتفية منه، جاء على وجه السرعة إلى دكانه ليقابله، والقلق مسيطر عليه. وجود والده كذلك عزز الشعور بالخوف داخله، خشي سراج أن يكون طلبه قد قوبل بالرفض، حبس أنفاسه، واضعًا يده على قلبه –مجازًا- وهو يستمع إلى الشرط الذي أدلت به هاجر، تنفس الصعداء بعد أن عرف ماهيته، وقال مبتسمًا في سرور:
, -أنا تحت أمر ست البنات.
, علق عليه تميم وهو يقرب كوب شايه من فمه ليرتشف منه:.
,
, -معلش بنتقل عليك، بس ده شرطها.
, هتف نافيًا وجود أدنى شكوى بشأن ما تريد:
, -يا معلم اللي تؤمر بيه، أنا موافق على طول.
, أضاف بدير قائلاً بصوته الرخيم:
, -وأنا بقترح تكون الست الحاجة معاك، ويبقى في مكان برا.
, هز سراج رأسه موافقًا:
, -وماله، شوفوا اللي يريحكم وأنا راضي بيه.
, خاطبه تميم بملامح جادة:
, -يبقى نخلي المقابلة على بكرة العشا بأمر****، وأنا هتصل أكد عليك.
, ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه سراج الذي هلل في رضا:.
,
, -على بركة ****.
, ربت بدير بيده على كتف ضيفه، وقال:
, -مش هنعطلك أكتر من كده يا سراج، قوم شوف مصالحك.
, رد عليه بنفس التعابير المبتهجة:
, -متقولش كده يا حاج، أنا في الخدمة.
, منحه ربتة أخرى على كتفه وهو يردد:
, -تسلم.
, نهض سراج من كرسيه الخشبي، واستأذن بالذهاب:
, -سلامي للحاج الكبير.
, رد تميم وهو يقوم من مكانه ليودعه:
, -**** يسلمك.
,
, ألقى عليهما التحية مجددًا قبل أن يغادر الدكان، تبعه تميم بنظراته حتى استقل سيارته وابتعد عن مرمى بصره، ليقول بعدها في ضيقٍ:
, -الواحد مش مصدق إن عمره ضاع على كدبة.
, تنهد والده وهو يهون عليه الأمر:
, -كله مقدر ومكتوب يا ابني، وده كان نصيبك.
, سحب شهيقًا عميقًا ملأ به رئتيه، قبل أن يلفظه بعدها مرددًا:
, -الحمد****.
,
, قصد بدير تغيير مجرى تفكيره لشيء آخر، فاستطرد يخبره بابتسامة ماكرة، وتلك النظرة المتسلية ظاهرة على وجهه:
, -عرفت إن أبلتك هتفتح الدكان بتاعها كمان يومين.
, جلس تميم على المقعد بعد أن قربه من أبيه، وسأله في لهفة مراهقٍ حديث العهد بالحب:
, -إيه ده بجد؟ هي جت هنا؟
, كان سعيدًا لنجاحه في صرف أحزانه بالتطرق إلى ذكرها، تأمل ردة فعله المتشوقة، وجاوبه:
, -أيوه، عدت عليا النهاردة عشان تعرفني، وتعزمني.
,
, لعن سوء حظه لعدم تواجده معظم اليوم في الدكان بسبب انشغاله في إتمام بعض التوريدات، ومع هذا أخفى استيائه الطفيف ليقول في حماسٍ:
, -لازم نوجب معاها يابا، نعملها حاجة محصلتش.
, رد عليه قائلاً مع هزة صغيرة من رأسه:
, -من الناحية دي متقلقش٣ نقطة
, ثم شدد عليه بلهجةٍ غير مازحة:
, -بس مش عايزك تظهر في الصورة، أنا هتكفل بكل حاجة، ما إنت فاهم مش عايزين كلام يتنتور على الفاضي يمسها ولا يضايقها.
,
, ورغم عدم اقتناعه إلا أنه قال على مضضٍ:
, -ماشي يا حاج، اللي تعوزه٣ نقطة
, احتفظت عيناه بتلك الومضة المثيرة وهو يتم جملته:
, -المهم هي تكون مبسوطة.
,
, في الشعور بالألم الجميع يتساوى، أما في الفرح فتتباين ردات الفعل! بقلبٍ يدق في ترقبٍ وخوف، تطلع هيثم إلى شاشة التلفاز بعينين تلمعان بعبراتهما السعيدة، حيث أبصر ما ينمو في أحشاء زوجته، بينما نظرت إليه همسة في محبةٍ عظيمة، لم تتوقع أن تنتابه تلك المشاعر الجميلة لمجرد رؤية مبهمة، بدا في أوج سعادته وهو يتابع الحركات غير المفهومة للجنين، لم يحد بنظراته عنه والطبيب يخاطبه:.
,
, -ما شاء ****، أنا شايف كل حاجة تمام، النمو طبيعي، والسائل الأمينوسي كويس.
, ردد في سعادةٍ أكبر:
, -الحمد**** يا رب.
, أخبرهما الطبيب في هدوء وهو يكمل فحصه الروتيني على بطنها المنتفخ بجهاز السونار:
, -والعضو الذكري كمان باين أهوو.
, اتسعت عينا همسة في ذهول، وسألته بأنفاسٍ مرتبكة:
, -هو، ولد؟
, أكد عليها بثقةٍ:
, -أيوه.
, التفتت تنظر إلى زوجها المصدوم لتكرر على مسامعه:
, -أنا حامل، في ولد.
, ضحك الطبيب قبل أن يؤكد لها مرة أخرى:.
,
, -أيوه يا مدام، ولا إنتو كنتو عايزين بنت؟
, تكلم هيثم في فرحةٍ شديدة:
, -أي حاجة، أنا راضي، المهم يجي بالسلامة٣ نقطة
, احتضن كف زوجته بين راحتيه، وهنأها:
, -مبروك يا هموسة.
, ردت بوجهٍ مبتسم على الأخير:
, -**** يبارك فيك يا حبيبي، إن شاء**** يكون سندك وضهرك.
, نهض الطبيب من مقعده المجاور لسريرها الطبي، واتجه إلى الجانب الآخر من الغرفة ليوصيها بنبرة مرتفعة:.
,
, -عايزيك يا مدام الفترة الجاية تهتمي بالأكل الصحي، ويكون فيه حديد وكالسيوم، ده مهم جدًا كل ما اتقدمنا في الحمل.
, تلك المرة رد عليه هيثم
, -حاضر يا دكتور أنا هتابع معاها.
, ابتسم له الطبيب، وحادثه بلطافةٍ:
, -وإنت بقى تفكر في اسم حلو للمولود وماتتعبش المدام معاك.
, قال وأنظاره بالكامل مسلطة على حبيبته:
, -ده أنا هاشيلها على كفوف الراحة.
,
, لم تستطع تأجيل تلك الزيارة لتهنئة ابنتها على تأكيد نبأ حملها في جنين ذكر، وكأنها قد حازت على كأس بطولة دولية، جاءتها آمنة في نفس اليوم بالمساء مع توأمتها وابنة خالهما الصغيرة، مكثن جميعًا في غرفة نومها حول فراشها، قالت فيروزة أولاً وهي تمسح برفقٍ على ذراعها:
, -إن شاء **** تبقي أم جميلة لأحلى حزومبل.
, نهرتها آمنة في حدةٍ غريبة:
, -بس متقوليش كده لأختك، **** يكملها اللي فاضل على خير.
,
, مالت فيروزة على شقيقتها لتهمس لها بمزاحٍ:
, -أمك من أنصار الذكور ولا إيه؟
, أخفت ضحكتها بيدها، وردت بصوتٍ خفيض:
, -مش عارفة.
, هتفت رقية بمرحٍ وهي تقفز على الفراش:
, -أنا عاوزة ألعب بالنونو.
, وبختها آمنة هي الأخرى بصرامةٍ:
, -بطلي تنطيط يا كوكي، واقعدي، بلاش الخايلة دي.
, اعترضت عليها همسة بعبوسٍ صغيرة:
, -سبيها يا ماما على راحتها.
, قفزت الصغيرة مرة أخرى وهي تسألها:
, -هتديني النونو؟
, قهقهت ضاحكة وهي ترد:
, -هاسيبهولك يا قلبي.
,
, وضعت آمنة قبضتها على ذراع ابنتها تستحثها:
, -اسمعي كلام الدكتور أهم حاجة، عايزينك تقوميلنا بالسلامة.
, بالطبع لم يكن في مقدورها مجادلتها، فقالت في طاعة:
, -حاضر يا ماما.
, أمسكت رقية بعباءة عمتها، وطلبت منها وهي تتلوى بجسدها:
, -عمتو، عاوزة أروح التويلت؟
, نهضت من مكانها لتصحبها وهي ترد:
, -تعالي.
, جاءتها فرصة على طبقٍ من فضة لتستفرد بتوأمتها، وتسألها عما شغل بالها بشأنها، لهذا لم تضع الوقت، واستطرد قائلة بغموضٍ:.
,
, -بأقولك يا همسة، عاوزاكي تكوني صريحة معايا في حاجة كده.
, نظرت لها بغرابة، وأخبرتها في قلقٍ:
, -في إيه يا فيرو؟
, لعقت شفتيها، ثم سألتها بحذرٍ، وكامل نظراتها المتفرسة عليها:
, -محصلش كده في مرة، إن آ، هيثم مد إيده عليكي؟
, استنكرت ما قالته بوجهٍ ممتقع:
, -إيه الكلام ده؟
, ألحت عليها بلهجة جادة للغاية:
, -معلش ريحيني.
, رغم الحيرة المسيطرة عليها لتفكيرها في ذلك إلا أنها أكدت عليها بما لا يدع أدنى مجالٍ للشك في عقلها:.
,
, -أبدًا و****، بالعكس ده أنا مبحسش بالأمان غير وأنا معاه.
, في تلك الأثناء كان هيثم قد انتهى لتوه من إحضار المشروبات لضيوفه، استرق السمع دون قصدٍ منه للحوار الصادم بين الشقيقتين، غامت ملامحه كليًا، وشعر بالغضب يتصاعد في صدره لتشكيكها المتكرر في معاملته لزوجته. زفر الهواء ببطءٍ ليكبح غيظه، أراحه إلى حد كبير ردود همسة عليها، فهدأ ذلك من الاحتقان المتزايد بداخله، سمعها تضيف أيضًا:.
,
, -وعلى فكرة أي حاجة عملها زمان قبل ما نتجوز مش فارقة معايا حتى أعرفها، يهمني هو بقى إيه دلوقتي.
, قبل أن تلعب برأسها قرر هيثم الدخول وهو ينظر إلى فيروزة في حدةٍ، رحب بها بسخافةٍ، وبتعابيرٍ عبرت عن انزعاجه منها:
, -منورة يا أبلة.
, بادلته نفس الرد السمج:
, -أهلاً بيك يا جوز أختي.
,
, سحابة من الدخان الكثيف انطلقت دفعة واحدة من المبخرة الكبيرة الموضوعة أمامه بعد أن وضع بها حفنة من البخور، ولسانه ينطق بعبارات متلاحقة بصوتٍ خافت للغاية. تراجع فضل برأسه للخلف، وسعل باختناقٍ لعدة مرات، قبل أن يطلب من الرجل –الخمسيني- الجالس إلى جواره على المصطبة العريضة:
, -كفاية يا شيخ، هاموت.
,
, ضم الرجل طرفي قفطانه الأسود ليخفي بدلته السوداء القديمة، وتطلع إليه من طرف عينه بنظرة ساخطة، ثم ألقى المزيد في المبخرة، كأنما لا يعبأ برغبته، وبيده الأخرى أدار حبات مسبحته مغمغمًا بكلماتٍ غير مفهومة. تنحنح فضل بصوتٍ متحشرج ليجلي أحبال صوته، وعلى غير استساغة منه أخرج رزمة من النقود، ليناوله إياه، وهو يقول بغير رضا:
, -خد يا شيخ.
,
, بمجرد أن أخذها بدأ في عدها سريعًا، ثم حدجه بنظرة أشد نقمًا على وجوده وهو يخاطبه:
, -دول ألف جنية بس!
, بلزاجته غير المقبولة علق عليه قائلاً:
, -حلوين يا شيخ، لفهم أوام بدل ما يتقل بركتهم.
, ألقى بالرزمة في حجره، وهدر به في عصبيةٍ:
, -إنت بتستعبط يا جدع إنت، دول حق الأسياد، فين أجرتي أنا؟
, احتج عليه فضل بوجهٍ منقلب:
, -ما إنت طالب كتير يا شيخ، هاجيبلك منين؟
, أشاح الرجل بوجهه الحانق عنه، وهدر في غيظٍ:.
,
, -خلاص بناقص منه ده عمل، إنت اللي عايزني مش أنا.
, دمدم فضل بتزمتٍ وهو يخرج من جيب قميصه بعض الأوراق النقدية:
, -خلاص خد ال 500 دول كمان.
, خطفهم الرجل من يده، ونعته علنًا:
, -أعوذ ب**** منك، بخيل.
, اشتاط فضل من تهكمه الصريح عليه، وقال بتعابير مستاءة للغاية:
, -ليه الغلط بس يا شيخ؟!
, نظر له شزرًا قبل أن يرد:
, -هو إنت خليت فيها شيخ؟
, أشار فضل بيده وهو يخبره:
, -طب انجز كده، واعملنا عمل يطلع من نافوخها.
,
, بعد زفيرٍ سريع التفت ينظر إليه متسائلاً:
, -جبت حاجة من قطرها؟
, برزت ابتسامة عريضة على محياه وهو يرد:
, -أيوه، وصورتها كمان.
, هز الرجل رأسه متمتمًا:
, -حلو..
, دس فضل يده في جيب سرواله القماشي ليخرج لفافة بلاستيكية سوداء، أعطاه للرجل الذي فتحه لينظر بداخله، تلمس قماش الدانتيل للثوب الداخلي بيده وهو يسأله:
, -كانت لبساه؟
, حك مؤخرة عنقه قائلاً بنظرات استغراب:
, -مش عارف، هي تفرق يعني؟
,
, اختلج وجه الرجل بعلامات السخط، وقال في قنوط:
, -أه طبعًا، أومال هيجيب مفعول إزاي؟!
, فكر فضل قليلاً، ثم أخبره بعد نحنحة سريعة:
, -هو أنا لاقيته في الدولاب.
, تفحص الرجل اللباس التحتي بعينين كالمجهر قبل أن يتكلم:
, -شكله مش ملبوس.
, بنظرة عبثية خبيثة سأله فضل بوقاحةٍ:
, -هو إنت خبرة في الحاجات دي يا شيخ ولا إيه؟
, رمقه بتلك النظرة الدونية وهو يرد:
, -لأ بيبان عليه يا فالح.
, ضحك فضل في لؤمٍ وهو يستظرف:
, -خبرة إنت يا شيخ.
,
, لم يعلق عليه الرجل، واكتفى بمنحه نظرة احتقارية، قبل أن يعاود التحديق في الصورة الفوتوغرافية ليضيف بعدها:
, -أنا هعملك على الصورة، وأدفنه في قبر لسه مفتوح.
, توهجت عيناه بشراسةٍ وهو يعقب في انتشاءٍ:
, -حلو الكلام، بس ده هيخلص امتى؟
, فرك الرجل ذقنه الطويلة كأنما يهذبها، ثم قال:
, -هكلمك، بس الأسياد هيحتاجوا آ٣ نقطة
, قاطعه قبل أن ينهي عبارته محتجًا في تنمرٍ صارخ:
, -هما أسيادك دول مفاجيع ولا إيه؟
,
, زجره الرجل صائحًا في عصبية رافضة لتطاوله غير المقبول:
, -مش ليا، للأسياد يا ابن الأصول!
, نهض فضل من مقعده غير المريح، وأخبره ببرود سمج وهو يلوح بيده في الهواء:
, -أما أشوفك خلصت العمل نبقى نراضي الأسياد.
, سدد له الرجل نظرة حاقدة للغاية ظلت تتبعه وهو يتحرك نحو باب غرفته المعتمة قبل أن يسبه في غلٍ:
, -واحد بخيل وجعان٣ نقطة!
 
٧

بالكاد تحامل على نفسه ليتجنب النظر إليها طوال الدقائق التالية، لم يرغب في افتعال المشاجرات معها؛ لكنها استثارت عصبيته بشكوكه غير الصحيحة، ربما لم يكن منذ البداية يسير على خطٍ مستقيم، ومع هذا سعى جاهدًا لئلا يعود إلى ما كان عليه سابقًا من الاستهتار والرعونة. اتجهت أنظار هيثم نحو آمنة التي هتفت تشكره بامتنانٍ واضح:
, -دايمًا عامر يا حبيبي.
, أومأ برأسه معقبًا:
, -تسلمي يا حماتي.
,
, جمعت الكؤوس الفارغة في الصينية، وأوشكت على الخروج من الغرفة لوضعهم في أماكنهم بالمطبخ بعد تنظيفهم؛ لكن اعترضت فيروزة طريقها قائلة بإصرارٍ:
, -هاتيهم يا ماما، أنا هوديهم المطبخ
, شعور الكره والنفور كان متبادلاً مع زوج شقيقتها، لم تحبذ البقاء معه في نفس المكان، وهي تكن له قدرًا لا بأس به من الضيق، اعتمادًا على خبرتها السابقة معه، وإن كانت تسعى للنظر إليه من منظور مختلف.
,
, سحبت نفسًا عميقًا، وأدت مهمة تنظيف الكؤوس على وجه السرعة، ثم أعادت ترتيب الفوضى الحادثة في المطبخ، قبل أن تلتفت لتجده واقفًا عند أعتابه يرمقه بتلك النظرة الحادة. أبعدت فيروزة عينيها عنه، وبدت إلى حد ما عصبية في حركتها، تقدم هيثم منها متسائلاً بحنقٍ رغم انخفاض نبرته وهو يغلق باب المطبخ خلفه قاصدًا الانفراد بها:
, -إنتي عايزة مني إيه؟
,
, قطبت جبينها مرددة في جديةٍ شبه حائرة، وقد تعلقت أنظارها بالباب المغلق:
, -أفندم.
, سألها مباشرة، ووجهه يعكس استيائه العظيم منها:
, -بتلعبي في دماغ مراتي ليه؟
, تفقه ذهنها إلى سبب طرحه هذا السؤال تحديدًا، على الأغلب تلصص عليهما، وسمع حوارها مع توأمتها. بشجاعةٍ لحظية رفعت رأسها إليه، نظرت له بتحدٍ وهي ترد:
, -و**** أنا من حقي أطمن على أختي، وأتأكد إنها كويسة.
,
, بدا وكأن وجهه يفح نارًا من غضبه، فهتف بنبرة مالت للارتفاعِ قليلاً:
, -إنتي خايفة عليها مني؟
, أجابته بنزقٍ دون أن تهتز منها شعرة:
, -طبيعي أخاف وأقلق من واحد زيك معروف هو كان إيه، وعمل إيه زمان، ده لو كنت ناسي.
, لم يكن هيثم من ذوي القدرة على ضبط انفعالاتهم، خاصة حينما يتم استدراجه نحو منطقة الغضب، زادت وتيرة التوتر بينهما، وصاح بها بغلظةٍ:
, -أنا مقولتش إني ملاك، بس مراعي **** في مراتي، فماتجيش إنتي وتخربيها.
,
, رددت في تهكمٍ، وهي تنظر إليه في عدم تصديقٍ:
, -أخربها؟ إنت عارف كويس إنت اتجوزتها إزاي.
, بادلها نظرة بغيضة قبل أن يدمدم قائلاً:
, -مظبوط، بس حبيتها، ومستعد أعمل أي حاجة عشان تبقى مبسوطة معايا، وهي ماشتكتش.
, هزت كتفيها قائلة بنصف ابتسامة، كأنما تسخر منه:
, -أتمنى تفضل كده.
, بلغ غضبه مبلغه، فهدر بها في تشنجٍ، وقد اشتعلت نظراته نحوها:
, -في إيه؟ إنتي بتتعاملي معايا كده ليه؟
,
, توترت من عصبيته الزائدة، خاصة أنها نشطت ذاكرتها بمشاهدٍ حملت نفس الأوجه القميئة الغاضبة التي ألحقت بها الأذى وبشدة. عفويًا تراجعت خطوتين للخلف لتنأى بنفسها منه، بينما استمر هيثم في الصياح بحدةٍ وهو يلوح بذراعه أمام وجهها:
, -عمري ما جيت جمبك، ولا أذيتك، وعارف إنك مش طيقاني، ولا أنا بقبلك كمان٣ نقطة
,
, تفاجأت من اعترافه الفظ هكذا علنًا، وحملقت فيه بصدمةٍ لجرأته على الإفصاح عن ذلك بسهولة، كأنما كان يتحين الفرصة للنطق بهذا دون ندمٍ أو خجل، استمرت في الابتعاد عن محيطه، في حين أنه واصل هديره بها مهددًا:
, -بس متقلبيش عليا مراتي وتخليها تكرهني، عشان مش هسكت!
, لم تظهر إحساسها بالخوف في تلك الحظة، فنفس التعابير الحانقة جعلت بدنها يقشعر، وهتفت في شجاعة غير حقيقية:
, -أنا بحذرك!
,
, انتفض يلوح بذراعه بعدائيةٍ أمام وجهها وهو يكز على أسنانه:
, -وأنا قولتلك مليون مرة أنا بحبها، ليه مش مصدقة؟
, ثم التقط بيده أحد الأطباق الصغيرة، وقذفه أرضًا ليتحطم في عنفٍ جعلها تنتفض خوفًا، وهو مستمر في صياحه الذي ارتفع على الأخير:
, -عاوزاني أعملك إيه عشان أثبت إن نيتي صادقة؟
,
, اتسعت عيناها رهبة منه، وتراجعت بظهرها للخلف حتى التصقت بحافة الحوض وهي ترتجف كليًا من طريقته، رغمًا عنها استحضرت في عقلها وجه آسر وتصرفاته العنيفة معها، فأصبحت تراه متجسدًا أمامها بدلاً من منه، متذكرة كيف استحقرها، وعاملها بدونية قبل أن تتحول معاملته لطريقة بدائية ووحشية ترسخت معالمها العنيفة في الذاكرة قبل الجسد، وظلت آثارها ملازمة لها إلى الآن. تسمر الأخير في مكانه متابعًا لومه الصارخ بها:.
,
, -إنتي إيه؟ معندكيش ددمم؟ ابعدي عننا بقى، وسبينا نعيش كويسين.
, انتصبت شعيرات جسدها أكثر، وأصابتها انتفاضة أخرى مصحوبة بوخزات حسية جعلتها غير قادرة على الصمود، بالكاد نجحت في التمالك حينما جاءت آمنة على إثر صراخه، لتتساءل بعد أن فتحت الباب ووزعت نظراتها الحائرة بينهما:
, -في إيه يا هيثم؟
,
, كانت والدتها تظن في البداية أن الصياح قادمًا من الخارج لكونه غير واضح؛ لكن ما إن أرهفت السمع وتأكدت أنه يأتي من داخل المنزل، حتى أسرعت ناحية المطبخ لتفقد الأمر، بقيت نظراتها تتجول على الاثنين في تخبط وهي تتساءل:
, -في إيه يا ولاد؟ حصل إيه؟
, لعن هيثم من بين أسنانه بصوتٍ خفيض؛ لكن بدت أصابع الاتهام تشير إلى فيروزة من طريقته العصبية، قالت الأخيرة فجأة بصوتها المهتز:
, -أنا، هامشي يا ماما.
,
, رمقتها والدتها بنظرة مليئة بالشك وهي تسألها:
, -تمشي؟
, بلعت ريقها وادعت كاذبة بتلعثم:
, -عندي مشوار، مش هتأخر.
, تقلصت تعابير وجهها، وهتفت مستنكرة ذهابها المريب:
, -مشوار إيه السعادي؟ في إيه يا فيروزة؟
, لم تنظر ناحيتها وهي تواصل الكذب:
, -حاجات خاصة بالمحل، عن إذنك.
,
, كانت بحاجة للهروب من هذا الجو المطبق على صدرها قبل أن تنهار، وتكسب شفقة ليست بحاجة إليها ممن يكن لها الكراهية، فرت بخطوات راكضة نحو الخارج صافقة باب المنزل خلفها. اعترضت آمنة طريق هيثم وسألته بتوجسٍ:
, -حصل إيه يا ابني؟ وكنتو قافلين الباب عليكم ليه؟
, زفر سريعًا قبل أن يجاوبها:
, -مافيش يا حماتي، دي كانت بتوصيني على همسة عشان ماتعبهاش في الحمل.
, برقت عينيها في خيفة وهي تخبره:.
,
, -أوعى تكون ضايقتك بكلامها، أنا عارفة بنتي، بس هي و**** طيبة.
, صمت ولم يجبها، فأظهرت قسماته امتعاضًا صريحًا، عادت تسأله وهي تتأمل البقايا المتناثرة للطبق المهشم
, -طب وإيه البهدلة دي؟
, قال في جمود:
, -الطبق وقع مني.
, ربتت على كتفه في رفقٍ، وطلبت منه وهي تشير برأسها:
, -**** يسترها معاكو، روح لمراتك وأنا هنضف الأرضية.
,
, انسحب مغادرًا المطبخ وهو ما زال على حالته الحانقة، اتجه إلى الشرفة ليبقى بها للحظاتٍ حتى يهدأ تمامًا قبل أن يعود إلى زوجته مدعيًا أن شيئًا لم يكن.
,
, ترجل من سيارته بعد أن أوقف المحرك، ثم استقام واقفًا، وأوصد بابها ليستند بمرفقه بعد ذلك على سقفها المعدني، أطلق تميم ضحكة سريعة، وأكمل الحديث في هاتفه المحمول مع أقرب رفاقه بمرحٍ:
, -ده إنت هتلاقينا فوق دماغك يا صاحبي، بارك للحاج والحاجة، وإن شاء **** نقوم بالواجب وزيادة.
, قهقه ضاحكًا من جديد قبل أن ينطق وسط ضحكاته القصيرة:
, -هيطلع زي أبوه أكيد، عصب شديد زي كل رجالة عيلة حرب.
,
, لف ميدالية مفاتيحه حول إصبعه وهو يتابع كلامه:
, -هاجيبك بنفسي أبارك طبعًا، هو التليفون ده ينفع.
, احتفظ وجهه بابتسامته العذبة وهو ينهي المكالمة:
, -**** يسلمك.
,
, أعاد تميم الهاتف إلى جيب بنطاله الجينز، وسار على مهل متجهًا إلى مدخل بنايته، بدا وكأن الحظ قد أعطاه منحة أخرى من عطاياه، فبهيته الساحرة أطلت عليه من وسط العتمة كقبسٍ ينير الظلام؛ لكنها لم تكن ككل مرة مبتسمة مشرقة، كانت محنية الرأس، تسير في عجالةٍ، فلم تره، واصطدمت بكتفه خلال اندفاعها الأهوج للأمام، ارتدت تلقائيًا للخلف، واعتذرت ممن صدمته وهي ترفع رأسها إليه:
, -أسفة.
,
, وقف تميم قبالتها يمنعها من المرور، وتأملها عن كثبٍ بدقة، نظراتها الكسيرة حزت في قلبه، وأشعرته بانقباضةٍ غير مريحة في صدره، سألها على الفور وهو يتفرس في معالم وجهها بنظرة شمولية:
, -إزيك يا أبلة؟ إنتي بخير؟
, لم تتجرأ على إطالة النظر إليه، أخفضت عينيها الدامعتين، تقاوم الشعور بالخوف والمذلة، ازداد إحساسه بأنها ليست على ما يرام، سألها مرة أخرى بإلحاحٍ ملتاع:
, -في حاجة حصلت؟
,
, ارتجافة يدها الممسكة بحقيبتها تضاعفت، ومع هذا قالت بوجومٍ تعيس:
, -لأ، ومن فضلك حاسب.
, لم تنتظر رده، بل تجاوزته لتخرج من المدخل وهي تمسح بظهر كفها دمعة نفرت من طرفها، التفت يتبعها بعينيه مرددًا بتعابيرٍ مبهوتة:
, -شكلها مش طبيعي.
,
, لم يستطع الصعود للأعلى وتركها ترحل هكذا، حسم أمره وقرر الذهاب خلفها، للغرابة كانت كمن يركب الريح، تطير لا تسير، مما اضطره لاستقلال سيارته للحاق بها، بقيت نظراته مرتكزة عليها خلال قيادته، ولسانه يتساءل بقلقٍ:
, -هي رايحة فين كده؟
,
, قادتها قدماها إلى تلك البقعة التي احترق عندها أول أحلامها، وجدت فيروزة نفسها تجلس على الكورنيش تحدق في الفراغ بعينين تسبحان في الدموع المفعمة بكل الألم، استجدائها لتعاطف الغير لم يكن من خياراتها المطروحة؛ لكن أن تعايش إحساس البغض، المصحوب بالانتقاص من النفس كان كافيًا لإعادتها للمنطقة المظلمة في أعماقها، تلك الذكريات التي أرادت تحصينها بعشرات الأسوار الوهمية لتمنع حتى نفسها من العودة إليها. تصلبت في مكانها غير عابئة بالنظرات الفضولية المتطلعة إليها وهي تبكي في صمتٍ مرير.
,
, بالرغم من وجود تحذيرٍ صريح بعدم صف المركبات هنا، إلا أنه لم يهتم بالمخالفة التي سيتلقاها، وأوقف سيارته بمحاذاة رصيف الكورنيش، هبط تميم منها متجهًا إلى حيث يجلس طاووسه الحزين، رأى الدموع تغرق وجهها، كان من رابع المستحيلات أن يتركها هكذا، دون أن يكون إلى جوارها، حتى وإن نبذته، جلس إلى جوارها تاركًا مسافة متر بينهما، وقلبه يعتصره الألم، كور قبضته ضاغطًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصله، واستطرد فارضًا نفسه عليها في الحديث:.
,
, -أنا عارف إني مش من حقي أدخل في شئونك، بس مش همشي من هنا إلا لما ترجعي بيتك.
, كان قد التفت إليها مع ختام جملته، لم تنظر ناحيته مطلقًا، ولم تنطق بكلمة، بدا وكأنه يخاطب نفسه، لولا رؤيته لعبراتها المنهمرة على خدها -من زاويته- لظن أن وجهها تحول لقطعة جامدة من الحجر، استبدت به هواجسه الخائفة عليها، وسألها في قلقٍ كبير:
, -إنتي كويسة؟
,
, استطاع سماع شهقاتها المكتومة رغم إطباقها على شفتيها بقوةٍ، لتمنع انفلاتها من بينهما. نهاج صدرها، وتشنج جسدها الملحوظ أكد له احتمالية تعرضها لنوبة أخرى، اقترب منها يناديها بنبرة خائفة:
, -إنتي سمعاني يا أبلة.
, تجرأ على تحريك يده ناحية قبضتها المتشنجة على الكتلة الحجرية الجالسة عليها، حاول لمسها، فانتفضت قابضة على كفه بقوةٍ متصلبة جعلته يدرك مدى سوء حالتها، حينها ناداها باسمها مجردًا:
, - فيروزة!
,
, وقف قبالتها يخاطبها؛ لكنها لم تسمعه، بدا صوته بعيدًا للغاية، بل ويزداد تباعدًا، كأن أحدهم يشوش صوته ليصبح غير واضح، رمقته بنظرة غريبة رأت فيها لهفة حقيقية مطلة من عينيه، وخوف صادق لم يكن بحاجة لتزييفه، ابتسمت في سخرية مريرة، وسط الهلاوس التي تخوضها الآن أيعقل أن تكون طبيبتها محقة بشأن ما أخبرتها به في وقت سابق؟!
,
, كانت غير فاقدة لقدرتها على التفكير والاستنتاج، استنزفت مقاومتها، ونفذت آخر ذرات صمودها لهذا اليوم، لهذا أغمضت عينيها مستقبلة غيمة الظلام التي حاوطتها بترحاب شديد، فتراخى جسدها، وكادت تفترش الأرضية الصلبة لولا أن تلقفها بذراعيه.
, حملها تميم بحذرٍ وسط دهشة المارة، ليسرع في خطاه متجهًا إلى سيارته، أحدهم كان يلحقه متسائلاً:
, -هي مالها؟
, لم ينظر لهذا المتطفل، واكتفى بمنحه ردًا يرضيه:
, -المدام تعبانة شوية.
,
, ظن الرجل أنه يتحدث عن زوجته، فقال في تفهمٍ:
, -**** يشفي عنها، ألف سلامة.
, تجاهله ليهبط بها عن الكورنيش، وعاد إلى سيارته ليمددها في المقعد الأمامي وهو حريص كل الحرص على الانتباه لها. لف حول سيارته، ليجلس خلف المقود وغمغم راجيًا وهو ينظر إلى وجهها الشاحب نظرة مرعوبة:
, -استر يا رب، عديها على خير يا كريم٣ نقطة!
 
٨




من أجرم هكذا في حقها لتغدو هشة من الداخل والخارج؟ حالها تبدل، وأحوالها تغيرت، لم تعد تلك القوية المعتدة بنفسها، بل كانت تذبل يومًا بعد يوم؛ وكأن رصيدها من الكفاح قد انتهى! وحين أفاقت من دوامتها، وبدأت تستعيد ما افتقده، عادت لنقطة الصفر خالية الوفاض، كأنما لم تحرز شيئًا. تطلع تميم إلى وجه فيروزة الغائب عن الوعي بقلقٍ بالغ، أظهرت ملامحه مدى خوفه عليها، قاد سيارته إلى أقرب مشفى وسط تركيزٍ شبه ضائع، كان ينظر إليها بين الفنية والأخرى، آملاً ألا تتدهور حالتها للأسوأ، خاصة أنه اختبر معها لأكثر من مرة شعور السقوط في بئر ظلامها.
,
, بالكاد بلغ المشفى بأعصابٍ شبه متلفة، صاح عندما عبر البوابة الرئيسية مناديًا بصوته الجهوري:
, -عايز دكتور.
, أوقف سيارته عند المدخل الرئيسي، وترجل منها مناديًا بنفس الصوت الهادر:
, -حد يساعدني أوام.
,
, رفع أنظاره للأعلى بعد أن فتح الباب الملاصق ل فيروزة ليجد بضعة ممرضين يهرولون في اتجاهه بحاملٍ طبي، امتدت ذراعاه خلف ظهرها، وأسفل ركبتيها، ثم حملها من على مقعدها، وعاونهم في تمديدها على الحامل، قاموا بدفعها وإدخالها إلى الطوارئ في الحال، أسرع في خطواته ليلحقهم؛ لكن استوقفه أحد الموظفين طالبًا منه:
, -مش هينفع يا أستاذ، حضرتك تعالى معايا عشان تملى البيانات بتاعتها.
,
, على غير إرادته اضطر أن يتراجع ليسير مع الموظف؛ لكن ظل قلبه –ووجدانه- معلقًا بها!
,
, لا يعرف بالظبط كم مرة نظر فيها إلى ساعة هاتفه المحمول، ليحسب الوقت الذي مر عليها منذ أن اختفت بالداخل، احترقت أعصابه من الانتظار، وكاد يصل لحافة الانهيار من شدة خوفه عليها، تنفس بعمقٍ لمرات عديدة، ليثبط ما يعتري صدره من مشاعر مستعرة، أراد المساعدة فمنح الطبيب المكلف بتفقد حالتها لمحات غير مرتبة عن طبيعة ما شهده في حالته، ليساعده على التشخيص الصحيح. جال بخاطره أن يهاتف هيثم ليستعلم منه عن الأسباب التي أدت لوصولها لتلك الحالة السيئة، لم يفكر مرتين، وضغط على زر الاتصال به، حياه في اقتضابٍ، ثم سأله بلا تمهيد:.
,
, -هي الأبلة كانت عندكم يا هيثم؟
, تردد صوته قبل أن يجاوبه:
, -أيوه، بس مشت من بدري.
, احتدت نبرة تميم وهو يعقب عليه بتعابيرٍ غائمة:
, -ما أنا شوفتها، وحالتها زي الزفت.
, ما كان من ابن خالته إلا أن قال له دون تجميلٍ:
, -بصراحة أسلوبها يحرق الدم، ما إنت عارف طريقتها معايا.
, بدأت معالم الصورة تتضح في ذهنه، فسأله بعد زفيرٍ ثقيل:
, -إنتو شديتوا مع بعض؟
, تنحنح في خفوتٍ ليجيبه بحذرٍ:
, -حاجة زي كده.
,
, انفجر صائحًا فيه دون أن ينتبه لتواجده في رواق المشفى الهادئ:
, -مش أنا منبه عليك يا هيثم؟!
, رمقته ممرضة ما تسير على مقربة منه بنظرة محذرة، فرفع يده كنوع من الاعتذار غير الشفهي، ركز مع رد هيثم المبرر له:
, -هي اللي مستفزة اقسم ب****.
, كز على أسنانه مانعًا نفسه من شتمه، وسأله على مهلٍ كأنما بهذا يحاول ضبط أعصابه:
, -احكيلي على اللي حصل بالظبط.
,
, بعبارات موجزة سرد له ما حدث من مشادة كلامية انتهت سريعًا دون أضرار فعلية من وجهة نظره. اشتاطت نظراته بشكلٍ واضح، وتفشى في وجهه حمى الغضب، يكاد يُجزم من يتطلع إليه في تلك اللحظة أن ملامحه تبدو كقنبلة موقوتة، صوت أنفاسه كان مسموعًا وهو يخبره:
, -طيب، خليك عارف بقى إن جالتها الحالة إياها في الشارع، ووقعت من طولها، وأنا نقلتها على المستشفى.
, هتف مصدومًا:
, -إيه ده، معقولة؟!
, عنفه تميم بزجرة شبه مسموعة:.
,
, -يا ريت تكون مرتاح دلوقتي.
, حاول التبرير فقال بتلعثمٍ:
, - تميم أنا٣ نقطة
, لم يعطه الفرصة لإيضاح موقفه، وقاطعه بلهجةٍ صارمة تحمل في طياتها الإنذار المهدد:
, -اسمعني، وماتقطعنيش تاني، اللي حصل حصل خلاص، بس من هنا ورايح مافيش أي صدام معاها، ماشي؟
, رد دون نقاشٍ:
, -طيب.
, استطرد يكمل بعدها:
, -تاني حاجة، ماتبلغش حد من أهلها لحد ما أطمن الأول، وأشوف إن كان الوضع يستاهل يعرفوا ولا لأ، مافيش داعي للشوشرة على الفاضي.
,
, بالطبع لم يكن ابن خالته في وضعٍ يخوله بالجدال معه، فأبدى طاعته قائلاً:
, -ماشي.
, ضغط على زر إنهاء المكالمة وهو يبرطم في غيظٍ متزايد:
, -هي كانت نقصاك يا هيثم!
, دس هاتفه في جيبه، وانحنى بجذعه قليلاً للأمام، ليستند بمرفقيه على ركبتيه، وواضعًا وجهه بين كفيه منتظرًا بأعصابٍ متلفة سماع ما يطمئنه.
,
, وجد في قربه منها كل السعادة الممكنة، وفي بعده عنها كل التعاسة المروعة، لما لا تريح قلبه المشتاق، ويحدث بينهما الوصال؟ أم تراها تتركه على جمر العشق يقتات؟ بعد برهةٍ من انخراطه وسط حزمة لا بأس بها من الأفكار السوداوية غير المبشرة بالمرة، حل ظل طويل عليه، فرفع رأسه ببطءٍ لينظر لصاحبه؛ لكن سرعان ما قفز واقفًا ليسأله:
, -خير يا دكتور؟
, ابتسم الطبيب وهو يُبلغه بصوته الهادئ:.
,
, -فاقت والحمدلله، كويس إنك ادتني فكرة عن حالتها.
, سأله في لهفةٍ، وكامل نظراته عليه:
, -يعني بقت أحسن؟
, هز رأسه قائلاً بتردد بائن على وجهه قبل نبرته:
, -ده على حسب٣ نقطة
, حملق فيه تميم بوجومٍ شديد، بينما استمر الطبيب في سؤاله:
, -هي بتاخد أدوية؟
, أجاب بعد تفكيرٍ سريع:
, -أيوه، أنا كنت جبته ليها قبل كده.
, تساءل الطبيب وهو ينظر مليًا إليه:
, -بانتظام؟
, انعكست الحيرة على قسماته، وأجابه:
, -مش عارف.
, أخبره الطبيب كنوعٍ من التحذير:.
,
, -ضروري تتأكد، بحيث الحالة دي متكررش تاني ليها، ونصيحتي ليها تبعد عن أي ضغوط نفسية الفترة الجاية.
, أومأ برأسه هاتفًا:
, -حاضر، اللي تشوفه يا دكتور.
, مد الطبيب يده ناحيته بوصفة طبية دونها سابقًا، ثم قال:
, -دي شوية مهدئات مافيش منها ضرر عليها، تقدر تصرفها من الصيدلية اللي هنا.
, أخذها منه وهو يشكره:
, -ماشي يا دكتور، تعبناك.
,
, تأكد من إحضار ما يلزمها من أدوية قبل أن يتجه إلى الفراش الطبي المستلقية عليه بغرفة الطوارئ بالمشفى، لم يتم نقلها لغرفة خاصة بسبب إصرارها على المغادرة، كما أن حالتها لم تكن تستدعي البقاء تحت الملاحظة. اجتاح دوار مؤلم رأسها وهي تنزل ساقيها عن طرف الفراش الضيق، مما اضطرها للتشبث بحافته للحظاتٍ حتى تستعيد اتزانها، أقبل عليها تميم بعد أن حددت له الممرضة مكانها بين بقية المرضى المفصولين عنها بحواجز قماشية بيضاء اللون، نظر إليها في خوفٍ وسألها بجزعٍ:.
,
, -إنتي كويسة؟ أناديلك حد من الدكاترة يشوفك؟
, رفعت يدها لتشير له قبل أن تتكلم بصوتٍ نم عن تعبها:
, -لأ، مافيش داعي.
, تطلع إليها بنفس الخوف، لكنه تنهد بارتياح مخاطبًا إياها بعفوية تامة:
, -خضتيني عليكي.
,
, رفعت فيروزة عينيها الحزينتين لتحدق فيه باستغرابٍ، لم يندم لاعترافه النزق، رغب في أن تعلم بأهميتها الشديدة عنه، أن ما تعانيه بمفردها يؤثر عليه بقوة، قرأت في تعابيره اهتمامًا مبالغ فيه، فضاعف من شكوكها، بل إنه أوشك على تأكيد ما ناقشته في وقت سابق مع طبيبتها، أخفضت رأسها وهي تشعر بالارتباك والتخبط، لم ترغب في استنباط أمور وهي في تلك الحالة. استجمعت قوتها لتنهض بحذرٍ، فتقدم منها تميم خطوة مقترحًا في تهذيبٍ:.
,
, -عايزة مساعدة؟
, لف دوار آخر سريع برأسها مما جعلها تترنح، ومع هذا نجحت في التماسك، والاستناد بقبضتها دون قصدٍ على ذراعه الممدودة إليها، سحبتها على مهلٍ وهي تعتذر منه:
, -سوري.
, حمحم بخفوتٍ:
, -ولا يهمك، أنا موجود معاكي لحد ما أوصلك البيت.
, ثم أشار لها نحو طريق الخروج متابعًا كلامه ببسمة صغيرة:
, -اتفضلي يا أبلة.
,
, تباطأت في سيرها لئلا تدع الدوار المزعج يعصف برأسها، ولم يتعجل تميم ذهابها، كان متمهلاً في خطاه ونظراته تراقبها بحرصٍ واضح. لن ينكر أن الحزن الذي احتل قلبه خف بقدرٍ كبير بعد أن عادت إلى وعيها، وبادلته الحديث، وإن كان بكلماتٍ مقتضبة؛ لكنها تكفيه ليرضى.
,
, تردد للحظاتٍ قبل أن يفتح لها الباب الملاصق للمقعد الأمامي لسيارته لتجلس فيه، توقع أن يُقابل عرضه بالرفض، وربما تطلب استئجار سيارة أجرة؛ لكن على غير المعتاد استقرت به في صمتٍ، وكان في أوج فرحته، غير مصدق أنها اختارت أن تكون إلى جواره مجازًا. أغلق الباب بهدوء وهو يخبرها بابتسامةٍ عريضة:
, -حمدلله على سلامتك.
,
, دار حول مقدمة سيارته، وجلس بسعادةٍ لا توصف خلف المقود لينطلق بعدها بسرعة بطيئة نسبيًا، في حين أراحت فيروزة رأسها على الجانب، تتطلع إلى معالم الطريق بنظرات جمعت مختلف درجات التعاسة. ما زال التردد ممسكًا ب تميم وهو يحاول جذب أطراف الحديث معها، بدت له فرصة لا تعوض، ليس فقط للحوار معها، وإنما أيضًا لانتشال الحزن من نفسها الكسيرة. أجلى صوته، واستطرد يخاطبها وهو يختلس النظرات ناحيتها:.
,
, -الفترة اللي فاتت إنتي كنتي مضغوطة في تجهيز كل حاجة في محلك لواحدك، ده تلاقيه تعبك٣ نقطة
, لم تنظر نحوه، واستمرت في تحديقها الشارد للطريق، فتابع مقترحًا:
, -أما **** يفتحها عليكي شوفيلك بنت ولا اتنين يقفوا معاكي يساعدوكي ويخففوا الحِمل شوية.
, كانت نظراته مشتتة، ونبرتها إلى حد كبير معذبة وهي تتساءل:
, -هو أنا للدرجادي وحشة؟
, تعجب من سؤالها الغريب، وأجاب نافيًا بما ظهر وكأنه تغزل بها:.
,
, -إنتي أحلى من البدر في تمامه، أجمل ما شافت عيني.
, انخفضت نبرته مع اختتام جملته الأخيرة متوقعًا أن تنهال عليه بتأنيب عنيف؛ لكنها بقيت صامتة، لا تنظر في اتجاهه، تألم قلبه في حرقةٍ، وأخبرها بعد زفيرٍ سريع:
, -إنتي جدعة أوي، مافيش زيك، ماتخليش حاجة تكسرك.
,
, لدهشته التفت تنظر إليه في حزنٍ عميق، بدت غير مقتنعة بما يحاول بثه في نفسٍ تهشمت مرة بعد مرة، فلم يبقَ إلا الفتات ليدعس كذلك تحت الأقدام! بادلها نظرة صامتة محملة بما يضمره قلبه لها، رجا أن تنفذ تلك النظرة العميقة إليها، لترى داخل روحه الذائبة عشقًا فيها. قطعت تواصلهما البصري لتعاود التحديق في المعالم المتداخلة من الطريق.
,
, بعد بضعة دقائق كان يصف سيارته أسفل بيتها، انتظر أن تتحرك من مكانها وتخرج؛ لكنها ظلت جالسة، غير مدركة أنه أوقف المحرك، ناداها بصوتٍ شبه هامس وهو يشملها بنظراتها الحانية
, -يا أبلة!
, استدارت ناظرة إليه في غرابةٍ، فأخبرها ببسمة لطيفة وهو يشير بسبابته:
, -ده البيت.
,
, كأنما قد أفاقت لتوها من سرحانٍ مريب، دققت النظر حولها، واستوعبت ما قاله لتضع يدها على قفل الباب وتترجل من السيارة، تبعها قائلاً في توجسٍ تسرب إليه:
, -أنا هستنى هنا شوية لحد ما أطمن إنك طلعت.
, هزت كتفيها قائلة بعدم مبالاة:
, -اللي إنت عايزه.
, أولته ظهرها وتحركت بنفس الخطوات البطيئة، فهتف يوصيها بقلبٍ يحزه الألم:
, -خدي بالك من نفسك٣ نقطة
, انزلق لسانه متابعًا بحذرٍ تلك المرة:
, -إنتي غالية عند الكل٣ نقطة
,
, أطبق على شفتيه ليحبس الحروف في جوفه وهو يكمل في لوعةٍ:
, -وأولهم أنا.
,
, برزت عيناها في استنكارٍ حانق بعد أن رأتها من الشرفة تترجل من سيارته، وعلى الرغم من علمها الجيد بأن صاحبها لا غبار على أخلاقه، إلا أن ألسنة البشر لا تعرف التمييز، يميلون لاختلاق الأكاذيب، وترويج الشائعات من بضعة كلمات ملفقة. اختلجت تعبيرات آمنة بحمرة مستاءة، دارت بنظراتها في المكان لتتأكد من عدم رؤية أحدهم لابنتها قبل أن تنسحب من مكانها لتتجه إلى باب المنزل، والضيق يتزايد في صدرها. انتظرت بصبرٍ فارغ صعودها على الدرج، لتخرج إليها تسحبها من ذراعها من على أول البسطة، ثم دفعتها بعصبيةٍ إلى الداخل، أغلقت الباب وسألتها بصوتٍ محموم:.
,
, -كنتي فين يا فيروزة؟
, طاقتها المستخدمة للتبرير لم تكن متوفرة بالقدر الكافي، فأثرت الصمت، وواصلت سيرها المتخاذل نحو غرفتها، مشيت آمنة ورائها تسألها في نبرة شبه متعصبة:
, -مش دي عربية المعلم تميم اللي إنتي نازلها منها؟ هو إنتي كنتي معاه؟
, تنهدت فيروزة بعمقٍ، وسألتها بصوتٍ خافت وهي تجرجر ساقيها الهزيلتين:
, -هتفرق؟
, استبد بها ضيقها، وبلغت عصبيتها أقصاها فصاحت بها تؤنبها:
, -يا بنتي ردي عليا، بدل ما الناس تاكل وشي!
,
, وكأنها انتزعت فتيل لغمٍ دفن في حقبة سالفة دون أن تعي خطورته، احتدت نظرات فيروزة، واشتاطت وهي تلومها:
, -الناس؟ هو ده اللي يهمك الناس هاتقول إيه؟ مش فارق معاكي أنا؟!
, أخبرتها ببساطة:
, -أيوه، ما احنا مش عايشين لوحدنا٣ نقطة
, ثم رمقتها بتلك النظرة اللائمة وهي تتابع في قساوة لا تخلو من الاستفزاز:
, -ده غير إنك أرملة، وأصحاب النوايا السوء ممكن يفكروا إن السِكة سالكة، وإنك آ٣ نقطة
,
, لم تتحمل سماع هذا الافتراء الظالم وتسكت عنه، قاطعتها في عصبيةٍ ارتفعت وتيرتها في لمح البصر:
, -نعم؟ إيه الكلام ده؟
, ردت عليها والدتها بنفس الحدة:
, -أنا بوعيكي باللي ممكن يتفهم غلط، الناس مش بتسيب حد في حالة.
, اهتاجت فيروزة صارخة في وجهها، ومشاهد غير سارة تصارع بضراوة لاقتحام عقلها:
, -الناس، الناس، الناس!
, لم تحتوِ آمنة ابنتها، واستمرت في الضغط عليها:.
,
, -أيوه الناس، لازم نعملهم اعتبار، إنتي مش عايشة لوحدك على جزيرة مقطوعة.
, ارتعشت أطراف فيروزة في عصبيةٍ مخيفة، وهدرت بكل ما اعتراها سابقًا من حرقة مؤلمة:
, -عشان خاطر الناس دول أنا اتهنت واتبهدلت٣ نقطة
, كانت والدتها على وشك الرد؛ لكن أخرسها صياح فيروزة الرهيب:
, -عشان كلام الناس اللي خايفة عليهم اترميت في الغربة لوحدي من غير سند ولا ضهر يحميني.
, استمرت في رفع نبرة صراخها وهي تخبرها بألمٍ لا يزال نابضًا بها:.
,
, -عايزة تعرفي حصلي إيه هناك؟
, رمشت آمنة بعينيها في ارتعاب فزعٍ، فتعابير ابنتها، وحركاتها الانفعالية أخبرتها أنها في وضع سيء، دنت منها لتهدئها؛ لكنها نبذت ذراعها وتراجعت مبتعدة عنها لتتابع في حنقٍ:
, -هاقولك، خدت على دماغي، وبقيت أضرب كل يوم، وأتذل وأتهان بأبشع الطرق، ومش قادرة أفتح بؤي ولا اشتكي.
, نهج صدرها، وهدرت أنفاسها مع قولها:
, -أنا كنت بين الحياة والموت، مرمية في المستشفى، محدش دريان بيا.
,
, انتزعت حجابها عنها، وأدارت رأسها للجانب وهي تُحدث فرقًا في شعرها، لتنطق بعد ذلك بنفس الصوت الصائح:
, -بصي شوفي كويس الغرز اللي مدرياها دي، من آسر بيه سليل العائلات المحترمة، اللي بتدعيله بالرحمة على طول٣ نقطة
, هبطت الصدمة عليها كصاعقة بعد أن رأت ما ترك من أثر في فروة رأسها، وبدأت عيناها تحتجزان العبرات فيهما، في حين أرخت فيروزة يديها، واستقامت واقفة لتخبرها باعتزازٍ مخلخل:.
,
, -هو اللي عمل كده فيا، عشان الشجاعة خدتني ووقفت قصاده وقولت لأ، كفاية ذل واستعباد وآ٣ نقطة
, عجزت عن إخبارها بما اختبرته، وعاشته من معاناة بشعة أودت بها للحضيض. انخفضت نبرتها نسبيًا، وتهدل كتفاها في انكسارٍ واضح عندما قالت بصوتٍ مهزوم:
, -كمل على اللي فاضل فيا٣ نقطة
, سرعان ما عاد الهياج ليستبد بنبرتها وهي تضيف:
, -أنا كنت هموت على إيده لولا إن **** كتبلي عُمر جديد.
,
, رجتها والدتها في خوفٍ وقد فاضت عيناها بالدمع تأثرًا:
, -اهدي يا فيروزة.
, صياحها الصارخ أجبر الصغيرة رقية على الاستيقاظ من نومها بفزعٍ، خرجت متسللة على أطراف أصابعها من غرفة أبيها النائم بعمق بسبب تأثير الأدوية الثقيل، فركت عينيها الناعستين، وتقدمت للأمام، وجدت ابنة عمتها تتشاحن مع أمها في عصبيةٍ هوجاء، وقفت عند باب غرفتها، تتشبث بحافته، أو الأحرى أنها تختبئ ورائه خوفًا مما يحدث بينهما.
,
, أمسكت فيروزة بمزهرية صغيرة، التفت أناملها حولها بقوةٍ، وصاحت بنظراتٍ عكست ظلامًا مخيفًا:
, -طالما الناس هيتحكموا في حياتي، أنا مش عايزاها، ولا عايزة الناس.
, تحركت آمنة في عشوائية تحاول منعها من التصرف برعونةٍ وهي تستعطفها:
, -استني يا بنتي، اسمعيني بس.
,
, نفضت يديها اللاتين تحاولان إيقافها، وقذفت بالمزهرية في عنفٍ مفرط نحو التسريحة، فسقطت مرآتها الكبيرة مهشمة بدويٍ مفزع، شهقت آمنة في رعبٍ، وصرخت رقية بخوفٍ، بينما امتدت قبضة فيروزة لتمسك بقطعة من الزجاج الحاد، وتطلعت إلى والدتها بنظراتٍ جوفاء خالية من الحياة وهي تخبرها:
, -أنا خلاص تعبت من كل حاجة، بعمل اللي يريح الناس، لكن أنا فين من ده كله؟!
, لطمت آمنة على صدغيها مستغيثة:.
,
, -يا لهوي، الحقوني يا ناس، غتوني!
, اشتدت قبضة فيروزة على نصل الزجاج القاطع، غير عابئة بالجروح التي نتجت عنها، ولا بالدماء التي نزفت منها، تخشب جسدها، وهدرت بأنفاسٍ منفعلة، وقد كست عيناها قساوة مخيفة:
, -أنا هريحكم كلكم مني٣ نقطة!
 
٩



باسترخاءٍ ظاهر عليه وهو مستلقي على فراشه، ضم ساقه فوق الأخرى، وأراح ظهره للخلف مستندًا على وسادتين تحتاجان لإعادة نفض القطن المحشو بداخلهما، نظرة سريعة سددها نحو باب غرفته الموصود، قبل أن يتجرأ على إخراج قطعة الثياب التحتية المحتفظ بها أسفل إحدى الوسادتين للنظر إليها عن كثب. رفعها فضل إلى مستوى نظره وهو يتحسس ملمس قماشها الدانتيل، مستحضرًا في ذهنه لحظة عودته إلى المشعوذ -مدعي المعرفة والعلم- ليأخذها منه عنوة، بعد أن انتهى لقائه به بدقائق وهو يقول بتهكمٍ مستفز:.
,
, -ماظنش إنها هتفيدك في حاجة.
, ضاقت عينا الرجل في استنكارٍ، وهتف يوبخه:
, -يا ساتر عليك.
, دسها في جيب بنطاله، وأشار بإصبعه مشددًا:
, -ماتنساش اتوصى بالعمل.
, بوجهٍ منقلب أخبره وهو يضع حفنة من البخور على مبخرته:
, -قولتلك لما هخلصه هعرفك.
, علق عليه في سخرية مليئة بالصلف:
, -ماشي يا، بركة.
, أفاق من شروده السريع وهو يفرك بإبهامه الملمس القماشي، ثم قال بابتسامة بغيضة:
, -هاتروحي مني فين يا بنت عمي؟
,
, اسودت نظراته، وعكست شرًا دفينًا وهو يتابع وعيده:
, -ده أنا هاطلع كل البلى الأزرق على جتتك.
, -يا فضل!
, نداء والدته القادم من الخارج أجبره على إخفاض ذراعه، وإخفاء قطعة الثياب أسفل وسادته ليصيح بعدها بصوتٍ خشن:
, -أيوه يامه.
, أخبرته بصوتها المرتفع:
, -تعالى شيل صينية الأكل عشان تتعشى.
, وسد ذراعه خلف رأسه، وادعى بالكذب:
, -هاتيهالي يامه، مش قادر أقوم من مكاني.
,
, لحظات وأتت إليه حاملة صينية الطعام، بدت غير قادرة على الوقوف باستقامة، ولم يكلف نفسه عناء النهوض لتناولها عنها، انتظر حتى وضعتها على طرف الفراش، تأمل ما حضرته له، وقال بتعابيرٍ غير مبتسمة:
, -إنتي محطتيش البيض المقلي على الفول؟
, نظرت له قائلة بحاجبين معقودين:
, -الزبدة خلصت، بكرة الصبح أبقى أشتري.
, اعتدل في رقدته، وقال وهو يقطع رغيف الخبز إلى أجزاءٍ صغيرة:
, -طب اعمليلي شاي في الخمسينة يظبط دماغي قبل ما أنام.
,
, قالت وهي تزفر في ضيق:
, -حاضر يا فضل، إياكش تبطل طلبات وتريحني.
, ملأ فمه بالطعام، يبلعه دون مضغه جيدًا، كان يأكل بنهمٍ شديد، وكأن رغبته في الانتقام قد أصابته بجوعٍ غريب.
,
, التدخين، عادة سيئة كان بحاجة للإقلاع عنها كليًا، وها هو يجتهد في مسعاه لأن يدخن أقل من المعتاد بكثير، حتى يتوقف عن فعل ذلك تمامًا، ومع هذا كانت في بعض الأحيان وسيلته المتاحة لطرد الشحنة المشتعلة بداخله، فإن بقت كما هي لربما جعلته يتصرف بغير حكمة؛ لكن في كل الأحوال البقاء على تلك العادة ليس بالمحمود على المدى الطويل. انتظر تميم مرتكنًا على جانب السيارة يهز ساقه في عصبية، ومكتفًا لساعديه أمام صدره، وعيناه تتطلعان إلى الأعلى، دعته الحاجة للإمساك بشيءٍ ما يفركه ليخفف من التوتر، ففضل البحث عن ولاعته، لم تكن بجيبي بنطاله، فانحنى يفتش عنها من النافذة؛ لكنه رأى كيس الدواء الذي ابتاعه موضوعًا كما هو على الكرسي الخلفي، غمغم يؤنب نفسه في انزعاجٍ:.
,
, -إزاي نسيته!
,
, التقطه بيده، وأوصد سيارته عاقدًا العزم على توصيله لها، لكونه يعلم مدى حاجتها لتناول أدويتها في هذا الظرف المرضي الحرج. سحب شهيقًا عميقًا، وأسرع في خطاه متجهًا للداخل. بدأ في الصعود بخطواتٍ سريعة على السلم، فاسترعى انتباهه الصراخ القادم من عند طابقها، تهادى في سيره، وأرهف السمع لما قيل بوضوحٍ، حلت الصدمة على رأسه فأصيب بوخزات قابضة في صدره، جعلت أصابعه تشتد على حافة الدرابزين، بدا وكأنه سيسقط من هول ما سمعه مصادفة، بل وجسد عقله تلقائيًا مشاهدًا تخيلية لما يمكن أن تكون ذاقته من ويلاتٍ قاسية بمفردها دون دعمٍ أو مساعدة، أو حتى قدرة على إيقاف بطش ذلك الوغد الحقير. استشاطت نظراته، واصطبغت بشرته بحمرة حانقة صعدت إلى وجهه، مشاعره المدافعة عنها جعلته في تلك اللحظة راغبًا في الثأر لها، في تمني عودة الزمن إلى الوراء من أجل قتل هذا القميء قبل أن تمسها يداه بسوءٍ. ثقلت أنفاسه، وظهر بوضوح محاولته المضنية لتحجيم ما يستعر بداخله حاليًا. انتفض مع صراخ آمنة المستغيث:.
,
, -الحقوني يا ناس!
, تحرك سريعًا نحو باب المنزل يقرع جرسه، ويدق على بابه في عصبية امتزجت بالخوف، كاد يجن وهو واقف بالخارج عاجز عن اقتحام المنزل، أوشك أن يحطم الباب لولا أن فتحت الصغيرة رقية له لتخبره وهي ترتعش:
, -الحقنا يا عمو.
, ظهرت علامات الرعب على كل تفصيلة من وجهها، سألها تميم في جزعٍ:
, -فين عمتك والأبلة؟
, أجابت ببكاءٍ وهي تشير بيدها:
, -جوا.
,
, كان يعرف الطريق جيدًا إلى غرفتها، لم ينتظر الإذن للسماح له بالدخول، اقتحم البيت قاصدًا نجدتها من أي ضرر قررت إقحام نفسها فيه، بسبب إتلاف أعصابها وإيصالها لحافة الانهيار.
, جحظت عيناه فزعًا وقد رأى يدها القابضة على قطعة من الزجاج مخضبة بالدماء الغزيرة، ووالدتها جاثية قبالتها تتوسلها في حرقة:
, - فيروزة، حرام عليكي يا بنتي.
, نفضت ذراعها الممدودة إليها بقسوةٍ، وهدرت في غير وعي:.
,
, -سيبوني بقى، خلوني أموت وأرتاح.
, لم يقف متجمدًا كالمشاهد كثيرًا، بل اندفع ناحيتها جاثيًا على ركبته، بعد أن ألقى بكيس الدواء جانبًا، ثم قبض على معصمها، ونظر إليها راجيًا:
, -عشان خاطري أنا سبيه.
, تطلعت إليه بعينين غائرتين، بها نظرات خاوية، ليست كتلك النظرات المعتاد عليها منها، وإن كانت في كثير من الأحيان فاترة. صرخت به فيروزة في شراسةٍ وقد اشتدت قبضتها على القطعة الزجاجية:.
,
, -ابعدوا عني، أنا تعبت من كل حاجة، كفاية بقى، عايزين إيه مني؟!
, نظرت آمنة في عجزٍ أولاً إلى تميم تستجدي به، قبل أن تحملق في ابنتها تستعطفها ببكاءٍ:
, -حقك عليا يا بنتي.
,
, أشار تميم بعينين صارمتين لأمها لتفسح له المجال ليتمكن من التعامل معها بروية، فتراجعت زاحفة للخلف وكامل نظراتها على وجه ابنتها، وضعت يديها على فمها تكتم شهقاتها المذعورة، في حين استطاع تميم الانتقال من موضعه ليغدو في مواجهة طاووسه الجريح، حاول تخلل أناملها المحكمة بشدة على قطعة الزجاج بيده الطليقة وهو يطلب منها بصوتٍ خفيض لكنه آمر:
, -سبيه.
,
, وكأنها تخاطب طيفًا وهميًا لا وجود له، واصلت فيروزة الصراخ باهتياجٍ:
, -كفاية بقى تعزييب فيا.
, حافظ على ثبات نبرته رغم الألم الذي يجتاحه عندما قال:
, -محدش هيجي جمبك.
,
, جُرحت أصابعه وهو يمررها في فراغٍ حاول إيجاده بين أناملها والنصل الحاد، بقوةٍ ذكورية كانت مضاهية لها في قوتها الناجمة عن انفعالها العصبي، لم يأبه للجروح التي نالت منه، ولم يكترث لو تقطع جلده واهترئ، يكفيه ألا تصاب بالأذى، بقيت عيناه عليها، لا يرى سواها، بالرغم من كونه متيقنًا أنها لا تراه فعليًا، غضبها المتفجر حجب عنها الصواب، رمقها بنظرة دافئة بث فيها كل ما اعتمر كيانه منذ لحظة إدراكه لحبه لها، أرادها وسط غياهب الظلام المستبد بها حاليًا أن تبصر نقاء مشاعره، وقد كان له ما رجا، النظرات المشتاطة بدأت تسترخي، تتطلع إليه في حدةٍ أقل عما مضى، شاركها الألم ظاهريًا وباطنيًا، حاول احتواء غضبها الأعمى بصبره الحليم، وبعد مثابرة حذرة كانت قبضته تحمي كل يدها الجريحة من النصل، انتزعها منها وهو يبادلها نفس النظرات الحانية. في تلك اللحظة تحديدًا كانت آمنة ممتنة لوجده، شاكرة لحضوره معها، وإلا لكانت خسرتها للأبد. هتفت من ورائه قائلة بنهنهاتٍ باكية:.
,
, -أنا هاطلب الدكتورة بتاعتها تلحقها.
, صوتها أجج من جديد الغضب في ابنتها، فصرخت عاليًا:
, -كفاية.
, وقبل أن تفكر في التقاط أي قطع زجاجية أخرى، قبض تميم على معصميها بكفيه مثبتًا إياها في مكانها، ليمنعها من تكرار المحاولة أو الإقدام على شيء أكثر تهورًا. قاومت فيروزة تحجيمه لقواها الغاضبة، وواصلت الصراخ الهيستري، فما كان منه إلا هتف:
, -بسرعة يا حاجة **** يكرمك.
,
, دنت رقية منهما، وتساءلت في ارتعاشٍ لا يزال مسيطرًا عليها:
, -هي مالها؟
, سلط تميم أنظاره عليها، وأمرها بحزمٍ:
, -خليكي واقفة بعيد٣ نقطة
, هزت رأسها في طاعة، وتراجعت إلى البقعة التي كانت تختبئ بها، حاول كذلك طمأنتها، فتصنع الابتسام وقال:
, -متقلقيش عليها هاتبقى كويسة.
, عادت عيناه تتأمل وجه فيروزة الغاضب، هزها في رفقٍ لتستجيب لكلامه وهو يخاطبها:
, -إنتي أقوى حد عرفته، ماتستسلميش!
,
, ضاقت عيناها في شراسةٍ تخللها القليل من الدهشة، وكأنها تبحث وسط ما تجابهه عن منفذ للخروج؛ لكن انفعالاتها الثائرة أبت أن تتركها بعد أن تفجرت بداخلها، هاجت وماجت وصرخت بألمٍ حتى خارت قواها، وسكنت في جمود مريب. تضاعف خوف تميم عليها، وصاح في حنقٍ وهو يدير رأسه نحو الباب:
, -الدكتورة ردت ولا لأ؟!
,
, حينما عاود التحديق ناحيتها كان منكسة لرأسها، شعر بارتخاء تشنج معصميها أسفل قبضتيه، رأى كتفيها وهما يتهدلان، وأنفاسها المنفعلة تخبت، فاستطرد يخبرها بصوتٍ مال للخفوت؛ لكنه كان صادقًا للغاية:
, -أنا جمبك، على طول.
,
, انتهى الطبيب الذي استدعاه من تضميد جروح يدها قبل أن يعالج جروحه هو الآخر، بالطبع أعطاه نصائح إرشادية بضرورة عرض المريضة على طبيب نفسي، فتقبل نصائحه بصمتٍ، وأوصله إلى الخارج مع نفحة مالية سخية. استدار ناظرًا إلى الصغيرة رقية، كانت جالسة على الأريكة منكمشة على نفسها، تضم ركبتيها إلى صدرها، تحرك ناحيتها، وجلس إلى جوارها يسألها بإرهاقٍ:
, -إنتي عاملة إيه؟
, بعينين حمراوين من البكاء سألته في براءة:.
,
, -هي، فيروزة هتموت؟
, انقبض قلبه من مجرد الفكرة، ازدرد ريقه، ثم لف يده حول كتفيها نافيًا بوجهٍ متقلص العضلات:
, -لأ بعد الشر عليها، هي بس كانت مضايقة شوية٣ نقطة
, تصنع الابتسام وهو يكمل:
, -ودلوقتي هتبقى كويسة.
, بدت غير مقتنعة بكلامه، ولم يكن في حالة مزاجية رائقة تجعله قادرًا على اختلاق الحجج لها لتبديد مخاوفها، مسد تميم بيده على شعرها كأنه يمشطه، وسألها في لطفٍ:
, -إنتي كده مش اتأخرتي على ميعاد نومك؟ بابا هيزعل منك.
,
, اعترفت له بنفس البراءة وهي تنظر إليه:
, -أنا خايفة.
, ربت على كتفها في تعاطفٍ متفهم، ثم أخبرها ببسمة صغيرة تشكلت على زاوية فمه:
, -حد يخاف والمعلم تميم معاه؟
, ما كان من الصغيرة إلا أن حلت ساعديها، وارتمت في أحضانه قائلة بعفوية الأطفال:
, -أنا بحبك.
, مسح على ظهرها في رفقٍ، وهو يتطلع إليها مليًا، قبل أن ينطق:
, -إنتي كل الناس بتحبك.
,
, نهضت من جواره مبتسمة، لتختفي بالداخل، وعيناه تتبعاها، تنهيدة بطيئة خرجت من بين شفتيه يلاحقها اعترافه الهامس:
, -أنا بقى بحب بنت خالك، أوي.
, قرع الجرس فقام تميم متجهًا إلى الباب ليفتحه متوقعًا الزائر المتأخر؛ كانت الطبيبة ريم، نظرت إليه بتفحصٍ وهي تتساءل:
, -ده بيت فيروزة أبو المكارم؟
, بادلها السؤال بآخر وهو ينظر إليها نظرة شمولية متشككة:
, -حضرتك الدكتورة بتاعتها؟
, أجابت في هدوءٍ:
, -أيوه.
,
, تنحى للجانب وتابع فيما يشبه الرجاء وهو يشير بيده:
, -اتفضلي حضرتك، احنا مستنينك من بدري.
, هزت رأسها في تفهمٍ، واتجهت إلى حيث أرشدها لتقوم بمهمتها وهي تعلم تمام العلم أن ما ينتظرها بالداخل ليس بالجيد.
,
, جلوسه بالخارج أصبح غير ضروري، لا معنى له، وربما غير مقبولٍ؛ لكنه كان مستعدًا لتحمل كل اللوم والتوبيخ في سبيل سماع ما يسره من أخبار. جاءت آمنة بوجهها الباكي إليه، حيث يجلس بمفرده بالبهو، وبالقرب من باب المنزل، أعدت له فنجان قهوة، واعتذرت منه وهي تنظر إلى يده الملتفة بالشاش الأبيض:
, -أسفة يا معلم على اللي حصلك.
, أخذه منها بيده الأخرى غير المصابة، وقال في هدوءٍ:
, -المهم نطمن على الأبلة.
,
, وكأنه ضغط على زر البكاء لديها، فراحت تنوح له شاكية في حسرةٍ:
, -أنا معرفش إيه جرالها، احنا يدوب كنا بنتكلم..
, نظرت إليه من طرف عينها، وهي تتابع بحذرٍ:
, -ومتأخذنيش يعني أنا بوعيها للصح.
, فهم أنه المقصود من تلميحها المبطن، وحمحم قائلاً:
, -أكيد، حقك طبعًا يا حاجة، محدش يزعل من كده٣ نقطة
, ثم عَمِد إلى تبرير موقفه موضحًا:
, -بس بنتك كانت في المستشفى.
,
, لطمت على صدرها بتعابير وجهٍ ذاهلة جعلتها تتوقف لحظيًا عن البكاء والنواح، فرغت فمها للحظة لتلعق شفتيها بعدها وتسأله في جزعٍ:
, -حصلها إيه؟
, لم يمنحها الجواب بسبب رؤيته للطبيبة وهي تعود إليهما، تعلقت أنظاره القلقة بها، وبادر بسؤالها:
, -ها يا دكتورة؟ بقيت عاملة إيه دلوقتي؟
, وزعت نظراتها المستهجنة بين الاثنين، وخاطبتهما بما يشبه التأنيب:.
,
, -حضراتكم ببساطة كده هديتوا كل اللي تعبنا فيه الفترة اللي فاتت، ووصلتوها للانهيار.
, دافعت آمنة عن نفسها قائلة:
, -أنا ملحقتش أقولها حاجة.
, ركزت ريم نظرها عليها، ونطقت بتعابيرٍ مستاءة:
, -مش لازم تكون من النهاردة بس، دي تراكمات على فترات طويلة.
, استطرد تميم يخبرها هو الآخر:
, -أنا كنت جايبها لسه من المستشفى، وكانت حالتها آ٣ نقطة
, قاطعته قائلة بلهجة غلفتها الرسمية:.
,
, -ما أنا شوفت الدواء الموجود جوا، وده أكدلي إنها مكانتش في حالة طبيعية.
, عادت آمنة للعويل مجددًا، فقالت:
, -وأنا كنت أعرف منين إنها تعبانة؟
, انخرطت في بكاءٍ سهل استدعائه وهي تكمل:
, -و**** كل الحكاية إني خايفة عليها وعلى سمعتها، كنت بفضفض معاها وآ٣ نقطة
, لم تستسغ ريم ما تحاول تبريره من أعذارٍ ألحقت الأذى الجسيم بمريضتها المكافحة، فقاطعتها بلومٍ واضح:.
,
, -يا مدام بنتك مثال للأخلاق والأدب، إزاي تظني فيها حاجة وحشة لمجرد إنها بتعافر عشان تقف من تاني على رجليها؟!
, سألتها آمنة وهي تبكي في حزنٍ:
, -يعني أنا السبب؟
, تنفست بعمقٍ، ثم ردت كنوعٍ من التوجيه الناصح:
, -مافيش داعي نرمي اللوم على بعض، المهم كلنا نتوحد في سبيل إنها تكمل علاجها وتتخطى المرحلة دي.
, من تلقاء نفسه هتف تميم مؤيدًا إياها:
, -كل اللي هاتقوليه هيتنفذ بالحرف يا دكتورة.
,
, بنفس الطريقة المليئة بالغباء أردفت آمنة قائلة؛ كأنما تتجنب الهجوم والاتهام على شيءٍ لم يحدث من الأساس:
, -و**** كلامي كان نابع من خوفي على سمعتها، الناس مابترحمش حد، وخصوصًا لو واحدة كانت متجوزة ولا أرملة.
, اشتاط تميم غضبًا من كلامها، والتفت يحدجها بنظرة قاسية قبل أن ينطق مهددًا:
, -قطع لسانهم، وأنا كفيل أخرسهم كلهم، وإنتي عرفاني.
, رمشت بعينيها رهبة منه، ثم ردت عليه في توترٍ:.
,
, -يا معلم إنت راجل، مافيش لوم عليك.
, نفس أسلوب الإدانة المبتذل لشخص حبيبته، وهذا ما لم يقبل به أبدًا، ثارت ثائرته، وهتف بصوتٍ متشنج رغم عدم ارتفاعه:
, -يا حاجة لولا إن الظرف غير مناسب كنت جبت أهلي واتقدمت لخطوبة بنتك.
, اتسعت عينيها مذهولة من عرضه غير المتوقع، بينما عنفته ريم في إنكارٍ واضح على ملامحها قبل نبرتها:
, -إيه الكلام ده؟
, هسهست آمنة مكررة في عدم تصديق، كأنما لم تستوعب حقًا ما صرح به:
, -ت، تخطبها؟
,
, كان على وشك الرد عليها؛ لكن قاطعتهما ريم بعصبيةٍ طفيفة:
, -كلمني من فضلك، جواز إيه اللي بتتكلم عنه دلوقتي؟
, نظر إليها بتحفزٍ شبه غاضب، فأكملت مبررة اعتراضها:
, -دي إنسانة محطمة من جواها، عايزها تخوض تجربة جديدة مانعرفش أثارها هاتكون عاملة إزاي عليها؟!
, أصغى للمنطق العلمي البارز في كلامها، ولم يعقب، فاستمرت تشرح له:
, -المفروض الأول نعالج اللي فات قبل ما نزود همومها بحاجة هي مش مستعدية ليها.
,
, أطلق تميم زفرة ثقيلة من صدره، وقال بنظراتٍ ثابتة:
, -وأنا عايز اللي فيه مصلحتها.
, تنفست الصعداء لعقلانيته، وردت عليه بتمهلٍ:
, -يبقى الأفضل نتجنب الكلام عن المواضيع دي دلوقتي، ولو بشكل مؤقت.
, هز رأسه مرددًا في تفهم:
, -ماشي.
, استدارت ريم لتنظر إلى آمنة قبل أن تقترح بحذر:
, -كمان أنا أفضل الفترة الجاية تكمل العلاج تحت ملاحظتي.
, سألها تميم في لهفةٍ يشوبها كل الخوف:
, -يعني إيه؟
, حولت أنظارها نحوه، وأجابته:.
,
, -أنا عايزة أنقلها لمكان مناسب تستجم فيه بعيد عن أي توتر.
, صاحت آمنة متسائلة في حسرةٍ وهي تضرب على صدرها:
, -هو بنتي ضاعت خلاص؟
, ضجر تميم من تشاؤمها المستثير للأعصاب، ونهرها بخشونةٍ:
, -يا حاجة ب**** عليكي تهدي وتخلينا نفهم.
, هزت رأسها في طاعةٍ، فعاود النظر إلى ريم التي أخبرته بتريثٍ:.
,
, -أنا بأروح زيارات يومية لدار مسنين مستواها معقول، فيها قسم للحالات النفسية، فاقترح إن فيروزة تتواجد هناك لكام يوم تحت متابعتي المباشرة.
, رحب تميم بالفكرة، وقال دون ترددٍ:
, -اعملي الصح يا دكتورة، واحنا موافقين.
, همت آمنة كعادتها بالاحتجاج على طلبها:
, -بس كده الناس هتفتكر إنها الشر برا وبعيد بقت آ٣ نقطة
, أخرسها تميم بنظرة قاسية محذرة:
, -محدش ليه دخل، الناس هتنفعنا بإيه؟ مصلحة الأبلة فوق أي اعتبار.
,
, خشيت من جموح غضبه نحوها إن استمرت في الجدال معه، فلاذت بالصمت مهابةً منه، بينما استمر في قوله:
, -الدكتورة تعرف أكتر مننا يا حاجة.
, دمدمت في خنوعٍ:
, -أكيد٣ نقطة
, ثم وجهت كلامها إلى ريم قائلة:
, -لا مؤاخذة الكلام خدني وماجبتلكيش حاجة تشربيها.
, ردت الأخيرة في تهذيبٍ:
, -مافيش داعي.
, أصرت عليها بصوتٍ ما زال مختنقًا:
, -لأ ما يصحش.
,
, غادرت وهي تكفكف العبرات المنسابة من عينيها، في حين حملقت ريم بفضول لهذا الشخص الماثل أمامها تسأله دون حرجٍ:
, -أنا أسفة في السؤال، بس ممكن أعرف إنت مين؟ يعني صلة القرابة إيه مع العيلة؟
, سهل لها إجابته قائلاً:
, -ابن خالتي متجوز أختها..
, رمقته بنظرة حائرة قبل أن تتساءل مرة أخرى:
, -هو إنت على طول متواجد في محيط الأسرة؟
, نظر لها في استغراب وهو يقول:
, -مش فاهمك.
, رتبت أفكارها في رأسها سريعًا لتنطق بعدها بوضوحٍ:.
,
, -أقصد هل ليك تعامل مباشر مع فيروزة؟
, تردد بشكلٍ شبه ملحوظ وهو يخبرها:
, -آ، يعني.
, هزت رأسها دون أن تعقب مما دفعه لسؤالها بفضولٍ:
, -بتسألي ليه يا دكتورة؟
, تطلعت إليه مليًا، وأصابه ذلك بالضيق، لهذا تكلم بقنوطٍ:
, -مش معنى إني مش من العيلة إني ماخدش موقف يخدم الأبلة، لأ أنا بفهم كويس وآ..
, قاطعته برفع يدها أمام وجهه:
, -لأ عادي، أنا بس بتأكد كده من حاجة.
, زاد الفضول الحائر بداخله، وسألها في صبرٍ شبه نافذ:
, -حاجة إيه؟
,
, حاولت تبرير موقفها بشكلٍ عملي لا يفشي أسرار مريضتها:
, -يمكن ماتفهمنيش، بس ده أسلوب بتبعه مع فيروزة كمريضة إننا نتكلم عن الأشخاص اللي ليهم دور إيجابي في حياتها، وجايز تكون واحد منهم.
, سألها مباشرة، ونظراته ضاقت بشكٍ مستريب:
, -هي قالت عني حاجة مخصوص؟
, بملامح غير مقروءة أجابته برد دبلوماسي:
, -دي مجرد تخمينات عادية، ماتشغلش بالك.
,
, بدا غير مقتنعٍ بردها العائم، ومع هذا لم يناقشها كثيرًا، فأنهى الكلام معها بانسحابه:
, -ماشي يا دكتورة.
,
, ربما كانت عالقة في هذيانها المضلل، لا تعي غالبية ما يحدث معها؛ لكن فور أن سرى مفعول المهدئات في شرايينها، بدأت في الاسترخاء مستسلمة للاستكانة الإجبارية المقدمة لها، ومع هذا بدا عقلها شبه متيقظ لما يدور بالخارج، فالتقطت أذناها كلماته المدافعة باستماتةٍ عنها، شعرت بالأمان يتخللها، بسكينة غريبة تنتشر في أوصالها، إلى أن نطق بعرضه المفاجئ، ففتحت عينيها مصدومة٣ نقطة!
 
١٠

الزواج، التطرق إلى هذا الأمر بدا كالقشة التي قسمت ظهر البعير، جلبت لها تلك الكلمة العفوية أسوأ الذكريات على الإطلاق، فاستحضرت بقوة عجزت عن مقاومتها لمحات مؤلمة لما خاضته، ما بذلت أقصى طاقاتها، وسعت إلى تجنبه، ونكرانه للأبد كأنه لم يكن أصبح واقعًا محسوسًا تعايشه الآن، حيث طغت أبشع ذكرى على عقلها، وغطت بكفاءة على كل ما عانته سابقًا.
,
, تجسدت صورة الكائن المشوه المدعو آسر نصب عينيها، بوجهه المستفز، وتعابيره الكارهة، رأته حيا في كامل الوقاحة، والدناءة، والخسة وهو يملي عليها مساوئها كأنثى لا تصلح لإغراء أي رجل بسبب بشاعتها، المسخ الموجودة عليه في جسد منفر يدعو المتطلع إليه للتقزز والاشمئزاز، تألمت للذكرى، وعجزت عن نفضها من مخيلتها، اقتحمت واحدة أخرى أشد وطأة عقلها، بما اكتشفته لاحقًا من مساوئ وضيعة بعد أن أزيح الستار، وظهرت حقيقته لها.
,
, أنين مكتوم بدأ يخرج من بين شفتيها على صوت نحيبٍ خافت، وعيناها تبكيان بغزارة، لمسة لم تكن مستعدة لها شعرت بها على كتفها، فانتفضت رغم القيد الوهمي الذي تشعر به يكبل كل جسدها، فيجعلها غير قادرة على الحركة، ارتفعت نهنهات بكائها، والصوت الرقيق الخافت يناديها:
, - فيروزة.
,
, سيطر عليها هذيانها، وتداخل الصوت مع أصواتٍ وهمية حاضرة في ذهنها المشوش، لتبدو وكأنها تخوص صراعًا قاسيًا بمفردها. هزة أخرى على كتفها وهذا الصوت يكرر:
, - فيروزة، فيروزة!
, تشنجت مع اللمسة، وكانت أكثر نفورًا لأي تقارب جسدي، لأي لمسة بريئة على أطرافها، كزت على أسنانها، وأصدرت أنينًا مختنقًا مما جعل اليد تبتعد عنها؛ لكن الذكرى لم ترحل، ازدادت قساوة، إطباقًا على صدرها، إيلامًا لقلبها.
,
, في خضم جدالهم الطويل، فشلت الصغيرة رقية في النوم، كانت رهبة ما رأته اليوم ما يزال مسيطرًا عليها، تقلبت على الفراش بجوار أبيها، وضمت دميتها إليها، استحثها فضولها على النهوض والاطمئنان على ابنة عمتها، فقامت بحذرٍ لتتطلع إلى أبيها، كان غارقًا في النوم العميق، فهبطت عن الفراش، وتسللت خارجة من الغرفة لتتجه إلى فيروزة. أرادت رؤيتها دون أن يمنعها أحد، وساعدها تواجد عمتها والبقية بالخارج، ركضت بخفة نحو غرفتها، وقفت عند الباب تستند على إطاره، وتسترق النظرات للغرفة المظلمة، حين سمعت أنينها تشجعت للذهاب إليها. صعدت على الفراش ووضعت يدها على كتفها تناديها:.
,
, - فيروزة.
, ارتجفت مع الرعشة التي شعرت بها منها، سمعتها تئن بما يشبه النحيب، فزاد خوفها، وضعت يدها تهزها ونادتها مجددًا
, - فيروزة، فيروزة!
, لكن الصوت المختنق لم يتوقف، فزادت رعبها، وابتعدت عنها لتطلب المساعدة من البالغين القادرين على فهم ما بها.
,
, قدمت لها مشروبًا باردًا لترتشفه بعد انتهائها من مهمتها العاجلة، حاولت آمنة أن تقوم بواجب الضيافة كما اعتدت رغم المحنة التي تمر بها أسرتها، اعتذرت من ريم للمرة الرابعة في نفس الثلاث دقائق التي وقفت تتحدث فيها إليها، وقالت:
, -عطلناكي يا دكتورة، ونزلناكي من بيتك في الوقت ده.
, أخبرتها بهدوءٍ وهي تحاول الابتسام بلطف:
, -ده واجبي، بس يا ريت من الصبح بدري تجيبوها على المستشفى٣ نقطة
,
, مدت يدها داخل حقيبتها لتخرج منها بطاقة ورقية صغيرة، وتابعت وهي تمررها إليها:
, -عنوانها في ضهر الكارت ده.
, أخذتها منها آمنة، وهزت رأسها في امتنانٍ. استدارت كافة الرؤوس فجأة نحو زاوية بعينها، عندما سمعوا النداء المرتعش:
, -عمتو..
, تحركت آمنة نحو الصغيرة تعاتبها بوجهٍ شبه حانق:
, -إنتي لسه صاحية يا كوكي؟
, تمسكت بدميتها، وضمتها بذراعها إلى صدرها؛ كأنما تحتمي بها، قبل أن تقول بشفاه مقلوبة:
, - فيروزة بتعيط جامد جوا.
,
, صاحت عمتها بتعابيرٍ مدهوشة:
, -إيه؟
, بينما رددت ريم في صدمة متعجبة:
, -إزاي؟
, تساءل تميم على الفور في وجه صعدت فيه تعابير الخوف المختلطة بالغضب:
, -إنتي يا دكتورة مش مدياها مهدئات؟
, أجابته في حيرةٍ قلقة:
, -أيوه، بس جرعة بسيطة، لأني معرفش خدت أد إيه في المستشفى.
, دون إضاعة للوقت في البحث عن تفسير يوضح سبب إفاقتها، اندفع ثلاثتهم للداخل، تاركين الصغيرة خلفهم؛ لكن تميم عاود أدراجه، وطلب منها في صوتٍ جاهد ليبدو هادئًا:.
,
, -هي هتبقى بخير، متخافيش.
, لا يعلم إن كان يطمئنها بتلك الكلمات أم يطمئن نفسه؛ لكنه رغب حقًا في إخراجها من دوامة المآسي التي تقضي على روحها وتمزقها بالبطيء. أمسك التردد بخطواته وهو يتحرك في الردهة عاجزًا ما بين التدخل ومساعدتها، وبين التراجع والانتظار في مكانه احترامًا لخصوصيتها؛ لكن أي خصوصية منشودة لمريضٍ على شفا خطوة من الموت؟!
,
, بمجرد أن ولجت إلى غرفتها، دارت ريم حول فراشها لتكون في مواجهة وجهها، نظرت إلى عينيها الزائغتين، وألقت نظرة شاملة على حالتها تقيم بها وضعها ظاهريًا، أدركت أنها في حالة غير جيدة، تحتاج للتعامل الفوري معها، وإلا لساءت كثيرًا. مدت يدها لتمسح على وجنتها برفقٍ وهي تناديها:
, - فيروزة، سمعاني.
, كأنما تُحادث الفراغ، لا استجابة منها، تنظر إلى ما لا تراه إلا في ذهنها، كررت ندائها، وهي تخفض يدها نحو كتفها:.
,
, - فيروزة، ردي عليا، إنتي عارفة أنا مين؟
, مع لمستها العادية لها تشنجت بالكامل، وتخشبت بشكلٍ يدعو للخوف، كما زاد الأنين المنتحب ليصبح صرخة متحشرجة، اعتدلت ريم في وقفتها وهتفت في جدية شديدة:
, -لازم تتنقل فورًا المستشفى عندي، ماينفعش يتسكت أبدًا عن الحالة دي.
,
, اضطر أن يتجاوز عن التقاليد الملزمة ليقف عند أعتاب غرفتها ينظر إليها في خوفٍ يفوق جميع المتواجدين حولها، كان جسد فيروزة ما يزال يهتز بعصبيةٍ، شعرها محلول، ومهوش، ومطروح على الوسادة. لم يكن في استطاعته الوقوف مكتوف الأيدي ينتظر هلاكها، صاح آمرًا والدتها:
, -يالا يا حاجة، أنا خدها في عربيتي، حطي عليكي أي عباية بسرعة.
, نظرت إليه آمنة بنظراتٍ تائهة وهي تسألها:.
,
, -طب و كوكي، هاعمل فيها إيه؟ مش معقول أسيبها لوحدها وآ٣ نقطة
, قاطعها قائلاً بحسمٍ:
, -هاتيها معانا بهدومها كده.
, هزت رأسها في انصياعٍ:
, -طيب، على طول.
, ثم أسرعت باحثة عما ترتديه على ثيابها المنزلية، نظرة شمولية فاحصة ألقاها تميم على غرفتها باحثًا عن وشاح رأسها، وجده ملقى على الأرض بجوار الدولاب، اتجه ناحيته، وانحنى ليلتقطه، ثم أعطاه ل ريم قائلاً بنفس اللهجة الآمرة:
, -غطي دماغها بيه.
,
, رمقته الأخيرة بنظرة غامضة؛ كأنما تحاول النفاذ إلى عقله، وشكوكها حوله تزداد لحظة بعد أخرى. فور أن عادت آمنة إلى الغرفة، تحرك تميم صوب الفراش، مرر ذراعيه أسفل جسد فيروزة، وحملها وهي ما زالت تنتفض في ألمٍ جعل ما بين ضلوعه ينقبض بقسوة، التصقت رأسها بصدره، وشعر بكل الرجفات تضربه؛ كما لو كانت تبث له معاناتها، ارتفع الغليل بداخله، واستعر الغضب في جوارحه لاعنًا اللحظة التي لم يتخذ فيها موقفًا صارمًا تجاه شبيه الرجال هذا حين اكتشف ماهيته الخسيسة! سار بها بخطواتٍ شبه سريعة إلى الخارج، تتبعه ريم، ومن ورائها هرولت آمنة والصغيرة رقية بعد أن أغلقت الباب، من موقعها ألقت نظرة حرجة على تميم وابنتها التي يحملها، لتدمدم مع نفسها بهسيسٍ مزعوج:.
,
, -الناس هتقول إيه علينا لو شافونا كده!
,
, استقر الجميع في سيارته فيما عدا ريم، بالمقعد الخلفي تمددت فيروزة، ووالدتها إلى جوارها تحتويها في أحضانها، وفي الأمام جلست رقية بدميتها، انتظر لهنيهةٍ ريثما تتحرك الطبيبة بسيارتها ليتبعها، بقيت نظراته تتوزع ما بين الطريق تارة، وبين الوجه الأشبه بالموتى الماكث بالخلف، اشتدت أصابعه على المقود، وبدت ملامحه أقرب لحجرٍ متصلب من القساوة التي ملأته. إحساسه بالذنب يتضاعف مع كل لحظة يراها تتألم فيها، صمته عن حقيقته جعله بشكلٍ غير مباشر متورطًا في إيذاء أكثر من أحب وعشق.
,
, حاول التركيز في القيادة، وإرجاء مشاعر الغضب واللوم إلى أن يطمئن عليها، بضعة دقائق وكان يعبر بسيارته حديقة متسعة، في نهايتها ظهر ثلاثة من المباني. عند البقعة المخصصة للركن، أوقف سيارته، ثم ترجل من مكانه، والتفت فاتحًا الباب المجاور ل فيروزة، انحنى من جديد يمرر ذراعيه خلف ظهرها، وأسفل ركبتيها ليحملها، وصوت الطبيبة يوجهه:
, -تعالى من هنا يا أستاذ.
,
, ألقى نظرة خاطفة نحو المبني المتجه إليه، كانت واجهته زجاجية، على ميمنته يوجد مبنى آخر يماثله في الحجم والشكل؛ لكنه أكثر ارتفاعًا، لم يهتم بدراسة محيطه الآن، واتجه إلى البوابة الخاصة بهذا المبنى، انحرف منها نحو ردهة متوسطة المسافة، في نهايتها رأى سلمًا طويلاً، التفتت ريم لتخبره بملامح شبه حرجة:
, -معلش مافيش أسانسير في الناحية دي.
, وكأنه اشتكى لها وزن ما يحمله، لم يكترث للأمر وهتف في وجوم:.
,
, -قوليلي بس هنوديها فين.
, أشارت بيدها للأعلى وهي تتكلم:
, -الدور التاني.
, غمغم من بين أسنانه بنفس التعابير المتجهمة:
, -إن شاء **** العاشر، المهم نلحقها.
,
, لجأ إلى الصبر كوسيلته المتوفرة حاليًا للتماسك وسط ما يمر به معها من أحداث غير مبشرة، شعر بأن سكينًا يشق قلبه وهو يحاول فقط تخيل ما جابهته بمفردها وهو يستعيد ذكرى اعترافاتها النزقة في عقله، كان كمن حُبست الدماء في عروقه فأصبح شبه عاجز عن الحركة، يجلس متقوقعًا في مكانه، وعيناه تتحركان في توترٍ، لم يتبقَ أمامه سوى الدعاء سرًا بقلبٍ يتمزق ويحترق من الألم:
, -نجيها يا رب.
,
, أحبها بالقدر الذي جعله غير قادر على تخيل الحياة بدون وجودها شريكة إلى جواره، تشاطره كل لحظة فيها صغيرة كانت أم كبيرة، رغمًا عنه زحفت دموعه الخائنة إلى حدقتيه، تنفس بعمقٍ ليقضي عليهم؛ لكنها أبت إلا النزول في صمت، مسحهم قبل أن يلحظه المتواجدون من حوله، وحول أنظاره نحو الصغيرة رقية، تلك التي افترشت الأريكة الجلدية بجسدها الضئيل ومنامتها الوردية الظريفة لتنام عليها، أشفق على حالها، وأدار رأسه في اتجاه آمنة التي أغلقت مصحفها الصغير لتمسك به وهو ينظر إليها، حمحم قائلاً في صوتٍ شبه متحشرج:.
,
, -إن شاء **** نطمن عليها.
, رأى التردد على قسمات وجهها، وأيضًا في نظراتها الحذرة نحوه، وهي تخبره متلعثمة في صيغة كانت تساؤلية:
, -معلم تميم ، إنت جاد في اللي قولته٣ نقطة؟!
 
١١

الكلمة الشفهية في عرفهم تعني الالتزام، إن نطق بها علنًا أصبحت واجبة النفاذ. رغم ما به من مشاعر مختلطة احتوت على الخوف، الضيق، القلق، والندم، إلا أنه كان بارعًا في إخفاء هذا الصراع، وتطلع بنظراتٍ قوية ناقمة إلى آمنة التي كانت على عكسه تظهر ارتعابها، ليس لأنها تخشى من تدهور حالة ابنتها، وإنما لخوفها مما قد تتجرأ الألسن على قوله بهتانًا وبالزور، وهذا ما لم تكن لتقبله به أو تتحمله مطلقًا. طرد الهواء بثقلٍ من رئتيه، وأخبرها مؤكدًا بصوتٍ خشن رخيم:.
,
, -أيوه يا حاجة٣ نقطة
, استرخت تعبيراتها لحظيًا قبل أن تتبدل للتوتر بعد أن وبخها بجمودٍ:
, -بس ماظنش لا ده المكان، ولا الوقت اللي ينفع نتكلم فيه.
, رددت بحرجٍ وهي ترمش بعينيها:
, -أنا معاك في كده، أنا قصدي، إنه مش آ٣ نقطة
, قاطعها بلهجته الجامدة الجافة، وتلك النظرة المحذرة تطل من عينيه الحادتين:
, -حاجة آمنة صحة بنتك دلوقتي أهم، نطمن عليها وإن شاء **** خير.
, حاولت أن تجبر شفتيها على الابتسام وهي ترد:
, -طول عمرك ابن أصول.
,
, شعر بضربٍ من الاستياء يصيبه من تعليقها السقيم، وقال مصححًا في غلظةٍ ملحوظة:
, -أنا مش بعمل معروف فيكي، ولا ده جميل محتاج شكر عليه٣ نقطة
, حملقت فيه بعينين متسعتين، فأكمل بصوتٍ غلفته رنة من الألم:
, -أنا لو بتقدم لبنتك لأنها إنسانة مميزة، تستحق تعيش حياة أحسن من اللي كانت فيها.
, وقبل أن تفكر في التعقيب عليه، رفع يده المُضمَّدة أمام وجهها يأمرها بلهجةٍ غير قابلة للنقاش:
, -ويا ريت نخلي الكلام في ده بعدين.
,
, بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وردت برأسٍ شبه ذليل:
, -اللي تشوفه يا معلم.
,
, لم يكن بحاجة لسماع أي تملقٍ كاذب لأمر لطالما رغب بحدوثه؛ لكن ليس بأي طريقة تجعل طاووسه يشعر بالمهانة والانتقاص. ابتعدت أنظاره المزعوجة عنها ليحدق مجددًا في الصغيرة النائمة على الأريكة، لا ذنب لها لتقضي ليلها خارج الفراش، وترى ما لن يجعلها تهنأ بأحلامٍ سعيدة لفترة من الوقت. حادت عيناه المحتقنتين عنها لتنظر إلى الطبيبة القادمة من على بعدٍ، نهض على الفور من مكانه، وانتظر قدومها بتوترٍ غطى كافة وجهه، وقفت آمنة هي الأخرى، وتحركت مقتربة من الطبيبة، لتشرع في سؤالها:.
,
, -هي بقت عاملة إيه دلوقتي؟
, أجابتهما ريم وهي تنظر إليهما بتساوٍ:
, -لسه مش قادرة أحدد، هي تحت تأثير المهدئات.
, دمدم تميم بضيقٍ وهو يضع يده أعلى رأسه:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****.
, بينما تساءلت آمنة في حيرة لا تخلو من خوفها:
, -وهتفضل على الحالة دي كتير؟
, مطت شفتيها للحظةٍ قبل أن ترد:
, -ده يعتمد على مدى تجاوبها للعلاج، وحاليًا مقدرش أجزم بأي حاجة، وخصوصًا بعد اللي شوفته.
, تساءل تميم بلهفةٍ، وقد غزاه القلق الشديد:.
,
, -يعني رأيك إيه يا دكتورة غير إنها تفضل هنا؟
, على ما يبدو لم تفهم مقصده من هذا السؤال، فاتجهت أنظارها إليه لتسأله بتحفزٍ:
, -هو حضرتك معترض على وجودها؟
, نفى على الفور مبررًا غرضه:
, -لأ بالعكس، أنا بأحاول أفكر معاكي إزاي أساعدها.
, لانت نظراتها إليه، وقالت بعد تنهيدة سريعة:
, -هشوف المناسب، يا ريت تديني رقم تليفونك.
, قال بإيماءة موافقة من رأسه وهو يخرج هاتفه من جيبه:
, -تحت أمرك.
,
, تبادل سريعًا معها أرقام الهواتف المحمولة، لتشير ريم بعد ذلك بيدها وهي تخاطبهما:
, -وجودكم مالوش داعي، تقدروا تتفضلوا.
, تحركت آمنة خطوة في اتجاه الطبيبة التي بدأت بالسير، وتساءلت:
, -بكرة الصبح أنا هاجي وأجيب لها هدوم، في حاجة تانية أوضبها مع حاجتها؟
, دعكت ريم جبينها بإصبعيها، وأخبرتها:
, -لأ، بس أفضل إن حضرتك تجيبي حاجات فيها ألوان فاتحة ومبهجة، مافيش داعي للألوان الغامقة.
, قالت دون نقاشٍ:
, -ماشي يا دكتورة.
,
, أعاد تميم الهاتف إلى جيب بنطاله الأمامي، واتجه إلى الأريكة ليحمل الصغيرة النائمة، بينما سارت آمنة من خلفه تتبعه وهي تدعو **** بصوتٍ كان مسموعًا إليه:
, -يا رب عديها على خير، واسترها معاها.
, هسهس مؤمنًا عليها بخفوت شديد:
, -يا رب.
,
, ما الذي يمكن إطلاقه على ليلة بائسة كتلك؟ رأى واختبر معها جزءًا من الجانب الآخر المخفي في شخصيتها، هذا الجزء الهش الذي تحاولت تغطيته تحت قناع صلب. كلما تذكر ما مرت به، شعر بالألم يمزق قلبه، بشيءٍ قاسٍ ينخر بداخله ولا يعلم كيف يوقفه، تلمس بيده ضماده الطبي، ورغم الوخزات المتكررة من آن لآخر إلا أنه لم يكترث، شاغله الأكبر كان هي. زحفت العبرات إلى حدقتيه، ولم يقاومها، كان مخنوقًا للحد الذي جعله راغبًا في البكاء، لم ينتبه للطرقات الخفيفة على باب غرفته، لذا حلت عليه الدهشة المصحوبة بالتوتر حين رأى شقيقته تطل برأسها من فُرجة مواربة وهي تسأله:.
,
, -إنت صاحي يا تميم؟
, أولاها ظهره، وحاول مسح ما بلل وجهه بظهر كفه، ثم أخبرها بصوت كان مختلفًا بعض الشيء:
, -أيوه يا هاجر، عايزة إيه؟
, تقدمت نحوه، وسألته باسترابة:
, -إنت كويس؟
, أجابها بعد شهيق عميق وهو يدعي الابتسام:
, -أه يا أم سلطان، ناقصك حاجة أجيبهالك؟
, انخفضت نظراتها نحو يده، ورأت اللفافة الطبية حوله، فسألته في لهفةٍ قلقة:
, -إيه اللي حصل لإيدك؟ إنت بخير؟
,
, حاول تخبئة يده خلف ظهره، وقال وهو مستمر في الحفاظ على ابتسامته المخادعة:
, -اطمني، دي حاجة بسيطة، يومين وهتخف.
, ربتت على ظهره قائلة:
, -سلامتك يا خويا.
, نظر إليها في عطفٍ، وتمتم:
, -**** يسلمك..
, جلست إلى جواره على طرف الفراش، ولاذت بالصمت لبعض الوقت، مما دفع تميم لسؤالها بزفيرٍ أوضح إرهاقه:
, -قوليلي عايزة إيه؟
, خفضت رأسها، وتحاشت النظر إليه وهي تخبره بتلعثمٍ كبير:
, -بصراحة كده، أنا، جاية اسألك، عن سراج.
,
, قطب جبينه متسائلاً بتعابيرٍ ظهرت جادة للغاية:
, -ماله؟
, لعقت هاجر شفتيها، وقالت:
, -يعني، أقصد اللي كان بينكم زمان، والحبس، وآ٣ نقطة
, قاطعها في هدوءٍ:
, - هاجر ده كان نصيب، ماتحطيش ده حجة، المهم إنتي رأيك يكون إيه.
, فركت أصابع كفيها معًا، وتابعت بنفس التردد:
, -أنا متلخبطة، ومش عارفة أخد قرار..
, تأملها في صمتٍ، فاستجمعت جأشها لتعترف له:
, -مخبيش عليك خايفة من اللي جاي، وابني حطاه فوق أي اعتبار.
,
, رفع تميم ذراعه، ولفه حول كتفيها، ثم خاطبها بلين الكلام:
, -بصي، اسمعيه الأول، وبعد كده قولي رأيك، بس صدقيني سراج مش زي ما كان الواحد مفكر زمان، مسيرك تعرفيه كويس.
, نظرت إليه بنفس النظرات الحائرة، فطمأنها بقوله:
, -وبرضوه بأكد عليكي من تاني، أيًا كان اختيارك إيه، فاحنا معاكي فيه.
, ابتسمت وهي ترد:
, -**** يخليك ليا، إنت أحسن أخ في الدنيا.
, نهضت من جواره، وأخبرته وهي تتجه نحو باب الغرفة:.
,
, -ويا رب يقدرني وأعملك كل حاجة تسعدك زي ما بتسعدنا.
, حانت منه نظرة ممتنة لدعمها المعنوي، وقال:
, -يا رب.
, انسحبت في هدوء، تاركة إياه بمفرده، فاستلقى على ظهره، والحزن ما زال مخيمًا عليه، غطى تميم عينيه بمرفقه، وقد تمكن التعب منه، ليس الجسدي فقط، بل فاقه النفسي في ألمه غير المرئي، دعا **** كثيرًا من أجلها، آملاً أن يصبح الغد أفضل لها قبل أن يكون له.
,
, -أهوم يامه جوم.
,
, نطق سراج بتلك العبارة بابتسامة عريضة ملأت محياه وهو ينهض من مقعده، ليبدو في مرمى البصر، رفرف قلبه طربًا لحضور حبيبته، وسريعًا هندم من ياقة قميصه، ثم أخفض عينيه ليتأكد من ترتيب باقي ثيابه، فتلك المرة استبدل الجلباب بما يجعله يلاقي استحسانًا من العروس المرتقبة، عاود التحديق في وجه هاجر المتورد خجلاً، كم أسعده رؤيتها بعد طول انتظار! رددت والدته الجالسة على يساره بنبرة متمنية لتشتت انتباهه عنها:.
,
, -**** يجعل في وشك القبول يا ابني.
, هتف في شوقٍ يسوده الرجاء وهو يحملق فيها مجددًا:
, -يا رب، يا رب.
, تقدمت ونيسة أولاً، وصاحت مرحبة بلطفٍ:
, -السلام عليكم.
, أقبل عليها سراج وهتف مبتسمًا في سرورٍ كبير:
, -وعليكم السلام، إزيك يا حاجة؟ شرفتينا، مجيتك النهاردة على راسي و****.
, ردت مجاملة:
, -تسلم يا رب.
,
, نهضت والدة سراج من مكانها، وامتدت يدها لتصافحها أولاً، قبل أن تنهال عليها بالأحضان والقبلات الحارة وهي تبادلها الترحيب الحميمي:
, -يا مراحب بالناس الغالية، عاملة إيه يا حاجة ونيسة؟
, قالت بتعابيرٍ هادئة:
, -بخير والحمدلله.
,
, ظهرت هاجر من خلفها وهي تحمل رضيعها، أرادت القدوم به اليوم لتؤكد على أنه يحتل قائمة أولوياتها، مهما كانت عروض الزواج المقدمة لها، تحاشت النظر إلى وجه سراج، والتفتت محدقة في وجه والدتها التي استطردت قائلة بودٍ أليف:
, -أهلاً بعروستنا الجميلة، هما اللي بيقعدوا في البيت بيحلوا بزيادة.
, خجلت من مجاملتها، وردت:
, -تسلمي على ذوقك.
, أضافت مؤكدة بضحكة مرحة:
, -دي الحقيقة، وابني عارف إني مش بجامل.
,
, تلقائيًا أبصرت سراج من طرف بصرها، وهمهمت في حياءٍ:
, -شكرًا ليكي.
, امتد ذراعا سراج قاصدًا حمل الرضيع وهو يداعبه:
, -يانهاري على العسل٣ نقطة
, أعطته له في ارتباكٍ ملحوظ، واختلست النظرات إليه، فوجدته ينظر لها بغرابةٍ نمت عن مشاعرٍ ما، رفضت التصديق بها في البداية. استمر سراج في ملاطفة الصغير قائلاً:
, -شوفتي يامه الطعامة.
, تعلقت أنظار والدته بالرضيع سلطان، وقالت بابتسامة لا تقل عن ابتسامة ابنها حماسًا:.
,
, -ماشاء****، **** يباركلك فيه.
, أردف سراج مضيفًا وهو يشير برأسه لتجلسا:
, -اتفضلوا يا جماعة، تحبوا تشربوا إيه؟
, عاتبته والدته في لطفٍ:
, -بالراحة يا سراج، خليهم ياخدوا نفسهم الأول، ماتبقاش كده مستعجل.
, اكتفى بالصمت، وجلس في مقابل هاجر ليملي عينيه من رؤياها، وأجلس طفلها على حجره، وظل يهدهده في محبة أبوية لم تكن مكتسبة بالمرة. نطقت والدته بعد لحظات من الصمت الحرج:
, -عاملة إيه يا هاجر؟
, التفت ناظرة إليها وهي ترد:.
,
, -الحمد****.
, عمَّ الصمت مجددًا إلا من بعض أسئلة روتينية مقتضبة، تولت فيها الوالدتان التعليق لكسر الحرج الملحوظ بين الطرفين، استدارت أم سراج برأسها نحو ابنها تطلب منه بمرحٍ:
, -بأقولك إيه سبيلنا الكتكوت الحلو ده معانا شوية، وقوم فرج عروستنا الحلوة على منظر البحر، ده حتى هواه يشرح القلب.
, وكأنها منحته الإذن بقولها الصريح، لم يعارضها، ونهض من مقعده، ثم أعطاها الرضيع مرددًا بنحنحةٍ خفيفة:
, -احم، حاضر.
,
, أضافت عليها ونيسة ضاحكة؛ كأنها تشاركها الرأي:
, -واحنا هنطلب المشاريب لحد ما ترجعوا.
, نظرت هاجر إلى والدتها بترددٍ، فاستحثتها على التحرك، فقامت بتكاسلٍ من مقعدها، ليتبعها سراج قائلاً بنوعٍ من التوجيه وهو يشير بيده:
, -اتفضلي يا ست البنات.
, رمقته بنظرة سريعة من طرف عينها وهي ترد موجزة:
, -شكرًا.
, تابعتهما الأنظار وهما يغادران المكان نحو الشاطئ الرملي ليحظيا ببعض الخصوصية، فاستطردت ونيسة تخاطب مُضيفتها:.
,
, -كان نفسي أشوفك من زمان يا حاجة و****، بس الظروف.
, ردت بتعابيرٍ بشوشة وهي تلاعب الرضيع بيدها:
, -القلوب عند بعضيها، منهم لله اللي كانوا السبب.
, أطلقت زفرة مهمومة قبل أن تقول بملامح شبه تعيسة:
, -**** خلص، وارتاحنا.
, لم تخبت ابتسامة أم سراج وهي تخبرها:
, -شوفي يا حاجة المثل بيقول ما محبة إلا بعد عداوة.
, ابتسمت وهي تعلق:
, -مظبوط، **** ما عاد يرجع الأيام دي تاني.
, أضافت مؤكدة عليها بنفس التعابير الهادئة:.
,
, -يا رب، وأنا مش محتاجة أمدح في ابني، بس **** وحده اللي عالم أنا ربيته إزاي، ولو شاء المولى وبقى في نصيب، مش عايزاكي تقلقي، بنتك هي بنتي، هعاملها بما يرضي ****.
, نظرت إليها بمحبةٍ، وعلقت:
, -الأصل الطيب حقيقي بيبان.
, دعت أم سراج بصدقٍ وعيناها تلمعان في سعادة:
, -**** يديم المعروف بينا، ويجعلها جوازة الهنا عليهم يا رب.
, هتفت مبتسمة في رضا:
, -يا رب.
,
, الحق يُقال أن ونيسة لم تتوقع مثل هذا الترحاب الشديد، دار بخلدها أن تكون مقابلة عادية روتينية، بها بعض التحفظات، والاشتراطات، كما يحدث بالعادة، خاصة مع من تزوجت سابقًا، لا أن تكون على هذا القدر الكبير من التقدير والاحترام؛ وكأن ما مضى فترة تم محوها من الزمن، ليبدأ بهذا اللقاء عهدًا جديدًا يسوده السلام، الألفة، وأيضًا الحب العميق٣ نقطة!
 
١٢

إن أخبرها أحدهم أنها بعد تلك السنوات ستسير على الرمال بصحبة غريب، وبعلم أهلها لم تكن لتصدق هذا مطلقًا، وتدعوه بالمجنون؛ لكن ها هو يحدث الآن، تتهادى في خطواتها مع من تقدم لخطبتها؛ وكأنهما مراهقان عاشقان يقضيان وقتًا مميزًا مع بعضهما البعض. نظرت هاجر إلى أي شيء حولها ما عداه، بدت مشوشة الأفكار، مضطربة المشاعر. تنحنح سراج في خفوت ليلفت انتباهها إليه بعد أن طال صمتها، وحين يئس من تجاوبها هتف قائلاً وهو يشير بيده:.
,
, -البحر رايق النهاردة، حتى مراكب الصيد كتير.
, نظرت إلى حيث أشار، وأومأت برأسها قائلة باقتضابٍ:
, -أيوه.
, تابع متشجعًا بعد سماع صوتها؛ وإن كان محدودًا:
, -الواحد من وقت للتاني بيحب يجي يتمشى عليه.
, بدت هاجر متخبطة للغاية، لا تجد من الكلمات ما يسعفاه للتجاوب معه، ليس لأنها معترضة على تواجدها بقربه؛ وإنما للموقف الحرج برمته، فهي غير معتادة على مثل تلك الأمور، غالبت حيائها، وقالت بإيجازٍ:
, -تمام.
,
, لم يفقد الأمل في إزالة الحاجز الرسمي بينهما، واستأنف قائلاً بنوعٍ من الغزل المستتر:
, -هو في أحلى من كده، المياه والهواء و، الوجه الحسن.
, ضغطت هاجر على أناملها في توترٍ، وحاولت التغاضي عما سمعته لتسأله بتلعثمٍ دون أن تنظر إليه:
, -هو أنا ممكن أسألك سؤال؟
, بدا مرحبًا للغاية، فقال:
, -اتفضلي يا ست البنات، أنا تحت أمرك.
, تنفست بعمقٍ، وخاطبته بصوتٍ غلفه الضيق والحرج معًا:.
,
, -يعني، اشمعنى اخترتني أنا؟ كان قدامك أحسن مني وظروفهم غيري، ده طبعًا بعيد عن اللي كان حاصل بينك وبين تميم أخويا.
, تجاوز ما قالته أولاً، ليوضح لها ببطءٍ، كما لو أنه يؤكد على قوله:
, -موضوع أخوكي كان فيلم واتحبك علينا كلنا.
, نطقت في تهكمٍ، شاعرة بغصة مريرة تضرب في حلقها:
, -من جوزي طبعًا.
, رد عليه بتعابيرٍ شبه منزعجة للتطرق إلى سيرته:
, -هو مايستهلكيش من الأول.
, زفرت زفرة عالية، وغمغمت بحنقٍ:
, -**** ينتقم منه.
,
, إفساد لحظته معها لم يكن بالأمر المطروح، لهذا قال سراج مبتسمًا بغير تصنع:
, -سيبك من اللي فات، وخلينا نبص للي جاي من حياتنا.
, توجست خيفة من خوض التجربة، وما يتبعها من أقاويل محتملة قد تنغص عليها حياتها معه، خاصة أنه لم يسبق له الزواج، وزيجتها المنقضية ليست حسنة السمعة، فالكل عَلِم بمساوئ محرز وجرائره المشينة، أرادت إثنائه عن رأيه، والتفكير بمنطقية وهي تعلق عليه:.
,
, -يا معلم سراج ليه تربط نفسك بواحدة معاها عيل، وتشيل هم مش همك؟ إنت في غنى عن ده كله، وآ٣ نقطة
, قاطعها في تجهم:
, -متكمليش لو سمحتي.
, التفتت نحوه لتعارضه بعنادٍ؛ لكنه كان الأسبق في التكلم، وهو يرمقها بتلك النظرة العميقة:
, -من غير حلفان، أنا عاوز كده، ده غير إني أول مرة أشيل فيها ابنك حسيت إنه حتة مني، كأنه ابني، والمفروض كان يبقى كده.
,
, حتى في ألطف أوقاتها مع زوجها لم تحظَ بمعسول الكلام العذب، فقط يستخدمه وقت الحاجة من أجل إسداء خدمة ما له عن طريق والدها، لم تكن نواياه محبة صافية كما ظلت توهم نفسها، قاومت ما يعتريها من ضيق، وحادت بنظراتها المتوترة عنه، لتنظر إلى الأمواج المتكسرة على الشاطئ بوجوم، سمعت سراج يخبرها:.
,
, -صحيح مكانش عندي أمل إن ده ممكن يحصل في يوم من الأيام، وبصراحة مكونتش عاوز أتجوز، ولا ليا لي الرغبة، بس سبحان ****، كل شيء نصيب، وليه وقته.
,
, مع تلك الكلمات تذكرت أيضًا ما كانت تبذله من جهدٍ للاستحواذ على مشاعره، وإسعاده بالدلال والغنج رغم ما كان بها من إرهاق نفسي لمعاملته الجافة –وأحيانًا العنيفة- معها، لم تشتكِ يومًا قساوته عندما تستبد به رغباته الذكورية ويطلبها إلى الفراش، بل كانت تمتدح حسن معاشرته لها، رغم عدم حدوث ذلك، قلما كان في وعيه وهو يمنحها نوبة من الحب العاصف، كان في الأغلب راجعًا لتأثير ما يتعاطاه من الحشيش، وبعض أقراص الهلوسة حين يخرج ويجلس مع رفاقه لوقت متأخر. بمرور الوقت، والاعتياد أصبح ما بينهما روتينيًا، لا تحبذ حتى حدوثه، وتتذرع بالحجج والأعذار لتهرب من ندائه. أفاقت من الذكرى التعيسة على كلام سراج القائل:.
,
, -والناس مصدقت تطلع عليا كلام مش ولابد، بس ولا فرق معايا.
, تشجعت لتنظر إليه مرة أخرى في حرجٍ، فابتسم وهو يؤكد عليها:
, -يا ست البنات أنا مش عايزك تقلقي، أنا هشيلك فوق راسي، وابنك غلاوته من غلاوتك٣ نقطة
, استمرت تحملق فيه بنظراتٍ مترددة عبرت عن خوفها، فاعترف لها عن قصدٍ:
, -وإنتي غلاوتك عندي من زمان.
, تورد وجهها خجلاً من كلامه، فتابع بجراءةٍ وهو يحتويها بنظراته الهائمة:.
,
, -أنا عارف إنه مايصحش أقولك كده، بس عايزك تعرفي إن عيني ماشفتش أحلى منك، ولا كان نفسي أتجوز غيرك.
, أحست بتلاحق دقات قلبها من فرط الحرج والارتباك، بدت كمن عاد بها الزمن للوراء لتسمع ما تمنت سماعه في فترة المراهقة، وربما أيام زواجها الأولى، من تلك الملاطفات الجميلة. جف حلقها، ورمشت بعينيها محاولة الابتعاد عن محيط نظراته المتعلقة بها، في حين واصل سراج الاسترسال في التعبير عن مشاعره بصدقٍ:.
,
, -من أول لحظة شوفتك فيها حسيت إن قلبي اتخطف، وقولت هي دي اللي هاتكون مراتي.
,
, لم تعرف هاجر ما الذي أصابها لتبدو بتلك الربكة أمام سيل الأحاسيس الفياضة التي غرقت فيها، كأنما افتقرت لهذا الشعور طوال ما عاشته من حياتها، ركزت نظرها على حركة الأمواج، علها تتماسك في حضوره، مستشعرة ارتفاع نبضات قلبها المتأثر بحديثه، وربما احمرار بشرتها لعذوبته، لن تنكر أنها شعرت بنفسها كأنثى قادرة على جذب الرجال؛ ولدهشتها استلذت بهذا الشعور. أسبل سراج عينيه نحوها يرمقها بمحبةٍ وهيام وهو يملي على أذنيها بالمزيد:.
,
, -دفنت مشاعري جوايا، وقفلت عليها بعد ما بقى نصيبك مع محرز، لأ وال، كان عارف إني ناوي أخطبك، وراح لعب لعبته عشان ياخدك ليه، بس شوفي حكمة ****، بعد ما اتفرقنا **** أراد إنه يجمعنا من تاني.
,
, أغمضت عينيها للحظة شاعرة بالحقد يتكون داخلها، بل ويتصاعد ضد هذا المخادع الذي عرف كيف بحيله المُحكمة أن يوهم الجميع بأنه الزوج الصالح، وكانت هي أول ضحاياه، وبقيت هكذا حتى آخر لحظة، عندما تكشفت كل الحقائق. توقفت هاجر عن السير، واستدارت تخبره بوجهٍ شبه متوتر في تعبيراته:
, -احنا بعدنا عن الجماعة.
, كأنه لم يسمع ما قالته، ونظر لها ملء عينيه متسائلاً في لهفة:
, -رأيك إيه؟ موافقة؟
,
, طالعته بنظرة ما زالت مترددة، فأكدت عليها:
, -كل طلباتك أوامر، إن شاء تطلبي لبن العصفور، إنتي بس وافقي، وهتشوفي الهنا كله معايا.
, شعرت بأن حالها تبدل للأحسن مع ما يمليه عليها من وعود لم يتخللها الزيف، لوهلةٍ عقد عقلها –بديهيًا- مقارنة سريعة بين ما كان يعدها به محرز ولم يحرز منه شيئًا، وبين ما تسمعه الآن ويبدو فيه كل العزم، لم ترغب في التعجل، وقالت متهربة من الرد:
, -شكل سلطان تعبهم، هاروح أشوفه.
,
, اعترض طريقها وهي تستدير ليقول مبتسمًا:
, -خدي كل الوقت اللي عايزاه في التفكير، المهم ما ترفضيش.
, تمسكه بها أعجبها بشكلٍ ما، أرضى بها غرور الأنثى لسعي الرجل ورائها، وجدت نفسها تمنحه ابتسامة رقيقة وهي تتجاوزه لتمر. مع تلك الإشارة المبطنة منها أحس سراج بأن أحلامه على وشك التحقيق، فرددت في حماسٍ:
, -يا رب، هانت.
,
, عند إحدى الزوايا بالسوق الشعبي، جلست على صندوقٍ بلاستيكي قديم يخص المشروبات الغازية، وأخذت تفرز ثمار الكوسة بيدها، واحدة تلو الأخرى في المِشَنّة الموضوعة قبالتها، لتنتقي منها الأصغر حجمًا، ثم أشارت نحو مِشَنة أخرى قائلة بصيغة آمرة:
, -هاتي كوسة من الصغيرة دي.
, ناولتها البائعة بعض الثمار وهي ترد صاغرة:
, -ماشي يا حاجة.
, أعادت إليها سعاد واحدة كبيرة إلى حدٍ ما وهي تقول:
, -بلاش دي، مش هتتحشى.
,
, تابعت عملية الفحص الدقيق والانتقاء للثمار حتى ضجرت البائعة مما تفعله، فأخبرتها على مضضٍ:
, -يا حاجة ده إنتي فرزتي كل الموجود عندي في الفَرشة.
, عاتبتها سعاد ضاحكة:
, -يا ولية ما كله بتمنه، وهحسبك زيادة حبتين.
,
, ارتضت البائعة بهذا الاتفاق، وتركتها تفعل ما يحلو لها ببضاعتها، انضمت إليهما امرأة ثالثة، أخذت تقلب في ثمار الطماطم بدقةٍ، ثم رفعت عينيها لتتطلع مدهوشة إلى سعاد الجالسة بجوار البائعة، أسرعت ناحيتها ترحب بها في ودٍ شديد:
, -إزيك يا ست أم فضل؟
, نظرت سعاد إلى من تخاطبها، وقالت وهي ترفع حاجبها للأعلى:
, - أم الهنا، إزيك يا بت، عاملة إيه؟
, أجابتها بابتسامةٍ عريضة:.
,
, -بخير يا حاجة، عاش من شافك، قليل أما بتيجي نواحي السوق.
, مصمصمت شفتيها، وقالت:
, -الحاج إسماعيل **** يديه الصحة بيقضيلي كل طلباتي.
, امتدحت صنيعه بترديدها:
, -**** يبارك في عمره٣ نقطة
, ثم ما لبث أن دنت منها لتسألها في خبثٍ؛ وكأنها تتعمد استفزازها بشكلٍ مستتر:
, -ألا صحيح، سمعتي عن دخلة سها، أم عيال ابنك فضل؟!
, تناقصت المسافة ما بين حاجبيها بشدة، ورددت بتعابيرٍ مصدومة:
, -دخلتها؟
, أصابت المرأة هدفها، فقالت بتفاخرٍ لتغيظها:.
,
, -أيوه على زينة شباب عيلة عبد المنعم، ده حتى دايرين في البلد يقولوا إنها على الأسبوع الجاي، والكل معزوم، هايوزعوا دبايح، وإيشي محمر ومشمر.
, زمت شفتيها قائلة بتبرمٍ وهي توليها وجهها:
, -**** يسهلها.
, مالت أم الهنا عليها، لتهمس لها في أذنها بلؤمٍ:
, -بيني وبينك يا حاجة، في كلام تاني بيتقال عن إن لا مؤاخذة سي فضل جاب ورا، ومعدتش ينفع بحاجة لما اتضارب مع رشيد أيام العركة الأولى.
,
, انتفضت سعاد ثائرة، وهتفت مدافعة عن ابنها باستماتةٍ؛ وإن كان ما تنطق به مزينًا بالزيف:
, -قطع لسان اللي يقول كده، ابني زي الفل وصاغ سليم، ولولا عياله وحلفانات أبوه عليه مكانتش عدا اللي حصل ده على خير، ده اتاخد غدر يا أم الهنا!
, حكت المرأة جبينها، وعلقت:
, -إيوه صح، ده كانت المضاربة عند داركم.
, أضافت سعاد بعصبيةٍ وقد تلون وجهها بحمرة منفعلة:.
,
, -غير ياختي ما احنا بنفهم في الأصول كويس، واللي يجي عند باب بيتنا حتى لو غلط فينا، جاب الحق علينا، ولازمًا نعامله بالحسنى!
, ردت عليها في تقديرٍ:
, -أنا قولت كده برضوه، سي فضل لا ممكن يسكت أبدًا عن حد هانه.
, حاولت سعاد تجنب الحديث مع تلك الفضولية، والتفتت تخاطب البائعة بحدةٍ بائنة في نبرتها:
, -اوزني دول، مش هاخد أكتر من كده.
, ردت البائعة بوجهٍ فاتر:
, -عينيا ليكي يا حاجة.
,
, ادعت أم الهنا انشغالها بتفقد ثمار البطاطس، ثم استطردت قائلة من جديد:
, -طب وسي فضل هيعمل إيه في عياله؟ هتسيبوهم للغريب يربوهم؟
, نهضت بثقلٍ وهي تشعر بالألم يضرب ركبتيها، ثم نظرت إليها بنظراتٍ حانقة قبل أن تجيبها:
, -احنا مابنرميش عيالنا، سها أمهم وهتربيهم كويس، بس هيفضلوا عايشين في خير أبوهم، وإن كان سايبهم فعشان طيبة قلبه.
, اقترحت عليها في عبثيةٍ:.
,
, -مظبوط، ما تجوزيه يا حاجة، ده لسه شاب، وأكيد عايز واحدة تدلعه وتناغشه، وبالمرة تاخد العيال تربيهمله.
, سددت لها نظرة امتلأت بالحنق قبل أن تشيح بوجهها الممتقع عنها وهي تغمغم:
, -هيحصل قريب..
, وجهت سعاد كلامها للبائع بلهجة لاذعة قليلاً:
, -خلصتي الميزان يا ولية؟
, أومأت برأسها وهي تناولها الكيس:
, -أه يا حاجة.
,
, فتحت سعاد حافظة نقودها الموضوعة داخل كيس قماشي صغير تلفه بها، ثم أخرجت منها ثمن ما اشترته، وأعطته لها قائلة بقسماتِ وجهٍ غائمة:
, -خدي حسابك.
, ربتت بيدها القابضة على الحافظة على كتف المرأة وهي تودعها بنفس اللهجة المزعوجة:
, -فوتك بالعافية يا أم الهنا.
, ابتسمت لها وهي ترد في عشمٍ بدا مفتعلاً:
, -يعافيكي يا حاجة، وأمانة السلام يوصل لأبا الحاج إسماعيل.
, لم تنظر ناحيتها وردت في جمودٍ:
, -إن شاء****.
,
, تأرجحت الأكياس في يدها وهي تسير بخطواتٍ متعجلة لتبتعد عنها، وعن السوق برمته، ولسانها يردد في استياءٍ حانق:
, -هنسلم من كلام الناس ده دلوقتي إزاي؟!
,
, بعد اتصالٍ موجز وغامض معها، وافق على مقابلتها في مكانٍ عام من أجل الاتفاق على بعض القواعد الهامة لترسيخها كمبادئ أولية في علاج فيروزة، لم يكن ليتأخر أبدًا عن أي شيء يخصها، لذا كان على الموعد يبحث عن ريم بين الجالسين في المقهى الحديث، أشارت له بيدها ليلمحها، فسار ناحية طاولتها، ابتسمت قائلة وهي تشير له بالجلوس:
, -في ميعادك مظبوط يا أستاذ تميم.
,
, جر المقعد للأمام، وسألها بتعابير توزعت ما بين قلقة وجادة:
, -أؤمري يا دكتورة، إنتي طلبتي تشوفيني ليه؟ في حاجة حصلت للأبلة تاني؟
, ردت نافية بنبرتها الهادئة:
, -لأ اطمن، هي حاليًا أحسن شوية بالعلاج المهدئ، بس الزيارة هتفضل ممنوعة عنها لفترة.
, زفر مليًا قبل أن يردد وهو يضغط على شفتيه؛ مستحضرًا في ذهنه آخر ما كانت عليه معه من انهيار عصبي مؤلم له قبل أن يكون لها:.
,
, -مش هنقول غير الحمد****، بإذن **** تقوم من اللي هي فيه قريب.
, علقت بنفس الأسلوب الهادئ:
, -إن شاء ****، بس ده مش هيحصل من غير دعم اللي حواليها.
, رد بإيماءة من رأسه:
, -أكيد.
, أراحت ريم مرفقيها على الطاولة، وراحت تحادثه بملامح جادة:
, - فيروزة عانت تجربة قاسية من كل النواحي، مخلياها في وضع رافض لأي تجاوب.
, أضاف عليها تميم بسخطٍ صريح:
, -وطبعًا ال (، ) أسر كان ليه يد في كده؟
,
, تفاجأت من معرفته بهويته، مع ما صاحبه من وصفٍ مهين لشخصه، ولذا انزلقت تسأله في صدمةٍ انعكست آثارها على تعبيرات وجهها:
, -إنت تعرفه؟
, أخبرها بشفاه مقلوبة:
, -حصل بيني وبينه كلام على السريع قريت فيه شخصيه ال (، ).
, تحرجت من استخدامه لوصفٍ جارح، وطلبت منه:
, -مافيش داعي للإهانة دي يا أستاذ تميم.
, رمقها بنظرة عبرت عن نوايا غير محمودة نحو هذا البغيض، إن كان لا يزال على قيد الحياة، وهو يعقب في حقدٍ متنامي بداخله:.
,
, -يا ريتها تيجي على أد كده، ده أنا كان نفسي آ٣ نقطة
, بتر عبارته عن عمدٍ لينهيها بتعابيرٍ ناقمة:
, -ولا بلاش، هو فلت!
, حاولت تجاوز نقطة الاحتدام تلك بقولها الجاد:
, -المهم أنا غرضي من كلامي معاك إننا نختار ناس معينة يكون ليها تأثير إيجابي في حياتها.
, نظر إليها في اهتمامٍ، فأكملت على مهلٍ، مؤكدة على ما تنطق به:.
,
, -وأنا هنا بتكلم عن تأثير قوي، مش مجرد حاجة عابرة والسلام، وخصوصًا إن وجودهم هيحسن من حالتها المعنوية والنفسية.
, تعذر عليه استنباط غرضها مما سردته، فقال في صبرٍ بدا نافذًا:
, -أنا مش فاهمك يا دكتورة.
, أدركت أن المواربة في الحديث معه لن تجدي نفعًا، لهذا لجأت للحديث بوضوح متجاوزة عن حرجها:
, -أستاذ تميم حضرتك قولت إنك عاوز تتجوز فيروزة، بس مايكونش فرض عليها.
, هز رأسه قائلاً دون لحظة ترددٍ:
, -أيوه.
,
, انتقلت لسؤالها التاني وقد كانت متحفظة بعض الشيء:
, -اسمحلي أسألك من غير لف ودوران، إنت بتحبها؟
, قبل أن يمحنها الجواب، رجته في لباقةٍ:
, -أتمنى يكون ردك عليا واضح وصريح.
, قال بعد زفيرٍ سريع:
, -أيوه يا دكتورة.
, أعادت عليه تساؤلها بنوعٍ من المراوغة:
, -أيوه إيه بالظبط؟
, كرر سريعًا بتعابيرٍ جعلها غير مقروءة لها:
, -أنا بحبها.
, حاصرته بسؤالٍ آخر أكثر جراءة:
, -هي تعرف بده؟
, هز رأسه نافيًا:
, -لأ.
, ابتسمت وهي تعقب:
, -قولت كده برضوه.
,
, سدد لها نظرة منزعجة تعبر عن عدم ارتياحه لتطرقه للحديث معها عن مشاعره المقدسة؛ وكأنه لا يحق لغير طاووسه مشاركته هذا الشعور. تقلصت عضلات وجهه بشكلٍ واضح مع سؤالها التالي:
, -طيب هل أسرتك عندها مانع في الارتباط بيها؟
, قال بحدةٍ طفيفة رافضًا ما تفعله من تدخل غير مقبول في شؤونه:
, -مافيش كلام رسمي يا دكتورة.
, ردت بعمليةٍ:
, -أنا بتكلم في العموم.
, تحامل على نفسه وأخبرها بتعابيره المتجهمة:.
,
, -ماظنش في مشكلة، أبويا عارف وموافق، وأمي مرحبة بفكرة إني اتجوز تاني، مش فارق معاها مين٣ نقطة
, نظرت إليه بنظرة غريبة كأنما تدرسه، ليسألها بعدها بنفاذ صبرٍ:
, -بس لحد دلوقتي أنا مفهمتش غرضك إيه من الأسئلة دي كلها؟ يعني أكيد إنتي مش جاية تعملي معايا تحقيق.
, جاوبته بابتسامة مهذبة رسمتها على ثغرها:.
,
, -اهدى يا أستاذ تميم، أنا كل غرضي إني عايزة فيروزة تتعامل مع ناس بيحبوها من غير ما يتصنعوا ده، ويكونوا بُعاد عن محيط أهلها، لأن من الطبيعي إن الأهل بيحبوا ولادهم، فهيكون في اختلاف في ردة الفعل.
, ضاقت نظراته المتشككة نحوها، فتابعت بلطفٍ:
, -حابة إنها تحس إنها مهمة عند ناس تانيين، وجودها فارق معاهم، وأكيد كلامهم هيأثر فيها.
, لانت تعابيره قليلاً، فواصلت على نفس المنوال بأسلوبها الذكي:.
,
, -وخصوصًا إنها اتكلمت معايا عن شخص مجهول بيأثر فيها بشكل معين.
, شعر بخفقة عنيفة تقصف قلبه، جمعت ما بين الرهبة والخوف، انعكس تأثير حديثها عليه، فتحفز في جلسته، وسألها بتوجسٍ:
, -مين ده؟
, أجابته وهي تهز كتفيها:
, -ما أنا قولتلك هي محددتش هو مين!
, سرعان ما استبد به الخوف المقلق؛ لكنه تبدد إلى حد كبير مع نطقها النزق:
, -وتخميني إنه جايز يكون إنت..
, فغر فمه مرددًا:
, -أنا؟
, حافظت على رقة بسمتها وهي توضح له:.
,
, -في حاجات حصلت قصادي أوحيت بده، وأنا مش هاقول إني لماحة وذكية عشان أقدر أخمن؛ لكني بفهم كويس جدًا في شغلي، وبلاحظ اللي بيحصل من حواليا وأجمع أطراف الخيوط ببعضها، ولو ربطته باللي دار بيني وبينها من كلام، فالاحتمالات كلها بتدور حواليك.
,
, شعر بنشوة فرحة تتخلل أوصاله، بشيءٍ ممتع يطرب آذانه، فإن كانت فيروزة قد تحدثت عنه، فإنه حتمًا استحوذ على قدر من تفكيرها، ويا له من محظوظ لينال هذا التقدير الغالي منها! رأت ريم ما بدر على ملامحه من سعادة خفية، واتسعت ابتسامتها قائلة:
, -أنا دوري هنا أوجه فيروزة ناحية الجانب الإيجابي اللي يخدم في علاجها.
, زاد الحماس على وجهه، ولمعت عيناه بوميضٍ متحمس، انتصبت بكتفها مُفصحة له عما يدور في ذهنها:.
,
, -وبدرجة كبيرة إنت هايكون ليك دور معايا.
, بلا لحظة واحدة من التردد، ودون أن يرتد له جفن، نطق بكل ما يجيش في صدره، ويستعمر جوارحه من حبٍ جارف لأي آلام:
, -أنا جاهز يا دكتورة لأي حاجة ترجعها أحسن من الأول٣ نقطة!
 
١٣

أزاحت الستائر البيضاء الحاجبة لضوء الشمس للجانب، لتتمكن من فتح باب البلكون الواسع، وتدلف للداخل وهي تسحب شهيقًا عميقًا ملأت به رئتيها بالهواء المنعش الذي غزاها بترحيب استحبته، مشت حتى بلغت حافة السور الحجري، ومدت ذراعيها على طوله لتستند عليه. كانت فيروزة محظوظة لوجدها في تلك الغرفة المطلة على هذا المشهد الخلاب الجامع بين الخضرة النضرة لحديقة الدار، والزرقة المبهجة لمياه البحر. ربما نجح تأثير الطبيعة في منحها قدرًا من السلام النفسي الداخلي، فأصبحت إلى حد كبير هادئة الانفعالات بعد مرور بضعة أيام، وحين انقضى على وجودها ما يقرب من ثلاثة أسابيع كانت متوازنة، متماسكة، وقادرة على الكلام.
,
, التفتت برأسها للخلف لتتطلع إلى القادمة من ورائها وهي تسألها في نبرة مهتمة:
, -عاملة إيه النهاردة؟
, ابتسمت لها، فتابعت ريم بلطفٍ:
, -أحسن؟
, أومأت برأسها وهي ترد:
, -الحمد****.
, طردت دفعة من الهواء ونظرت إلى ثوبها الأبيض الطويل الذي امتدحته ريم كذلك:
, -اللون ده عليكي حلو، كان عندي حق إني أصمم تغيري الألوان الغامقة.
, ردت بتهذيب:
, -شكرًا ليكي.
, ثم سألتها وهي تشير بيدها نحو باب البلكون:
, -هننزل تحت ولا..؟
,
, قاطعتها حاسمة الأمر دون أن تفتر ابتسامتها:
, -لأ خلينا نتكلم في التراس، حتى المنظر من عندك تحفة.
, تشكل على ثغرها بسمة لطيفة وهي ترد:
, -ده حقيقي.
, تحركت الاثنتان معًا لتجلسا على المقاعد المريحة الموضوعة في الركن أسفل تعريشة خشبية لحجب الشمس قليلاً، خاصة حين تكون في ذروة وهجها،.
,
, لم تتعجل فيروزة الكلام، بل مسحت بنظراتها المتأنية التفاصيل الآسرة لنظراتها، مانحة لنفسها الفرصة للاستمتاع بالمزيد من نقاء الطبيعة، استطردت ريم مهمتها تناديها بهدوءٍ بعد مرور لحظات من السكوت الغريب:
, - فيروزة.
, خرجت من شرود لا تعرف كيف توصفه؛ لكنه حتمًا يريحها بشكلٍ كبير، وردت باقتضابٍ:
, -نعم.
, تشجعت لتطلب منها في صيغة تساؤلية بهدوءٍ حذر:
, -مجاش الوقت اللي تتكلمي فيه؟
,
, تحفزت فيروزة في جلستها، فتابعت موضحة لها؛ كأنما تستحث نزعة المقاومة بداخلها، بنفس الحرص:
, -أنا عارفة إنه مش بالساهل نطلع اللي جوانا، بس طول ما إنتي رافضة تتجاوبي معايا، ولا مليون علاج هينفع، هنفضل واقفين عند نقطة البداية، بنلف وندور حواليها؛ لكن مش بنتقدم.
,
, اشتدت قبضتا فيروزة المستريحتين على مسندي مقعدها، وظهر التشنج على تعبيرات وجهها، ومع هذا استمرت ريم في مخاطبتها بنبرة لم تتبدل، وبوجود ابتسامتها الرقيقة:
, -عاوزاكي تطمني، وبأقولك من تاني، اللحظة اللي هتقرري تتكلمي فيها، هي دي اليوم اللي بترمي فيها الماضي ورا ضهرك.
, اتسعت بسمتها أكثر حين أكدت عليها:
, -وبرضوه مش هضغط عليكي، هسيبك براحتك، وكله راجع لاختيارك، وأنا معاكي في أي.
,
, ثم توقفت عن الحديث تتأمل تعابيرها الجامدة؛ لكن عيناها نطقت عن حزنٍ عميق وراسخ، بعد ما يزيد عن دقيقتين نطقت فيروزة أخيرًا بنبرة غلفها الألم:
, -هو أنا وحشة؟
, تفاجأت ريم من تجاوبها، ولم تظهر تعبيراتها أدنى تغير، بل ارتدت قناع الثبات وهي تسألها بهدوءٍ شديد:
, -مين قالك كده؟
, اختنق صوتها، وبدأت الدموع في التجمع في مقلتيها وهي تتابع بصعوبة بائنة عليها:
, -هو أنا، ماينفعش أكون س، ست؟
,
, مالت ريم نحوها، ووضعت يدها على قبضتها لتربت عليها بحنوٍ، ثم أخبرتها بنفس التعابير المبتسمة:
, -إنتي جميلة جدًا، وآ..
, قاطعتها بنهنهة شاهقة وهي تنفض يدها عنها لتضم ذراعيها إلى صدرها:
, -أنا مسخ من جوايا، مشوهة.
, لاحظت ريم عدم انتظام أنفاسها، وتلاحقها بشكلٍ أقلقها، فنهضت من مكانها تقول في جدية:
, -خدي نفسك.
,
, وقفت قباله مقعدها، وأخذت تمسح على جانبي ذراعيها في رفقٍ صعودًا وهبوطًا، بحركة متكررة، لتشعرها بالأمان. استمرت على ذلك تهدئ من روعها لدقيقة أو أكثر قبل أن تدعمها لفظيًا:
, -إنتي في كل حالاتك حلوة، شعلة من النشاط، والقوة، والمثابرة.
, بكت فيروزة في أنينٍ موجوعٍ وهي تعترف لها:
, -قتلني بكلامه، قضى على كل حاجة كنت مفكراها حلوة، خلاني شوفت عيوبي الحقيقية.
,
, من وجهة نظرها إفصاحها عما تكبته في أعماق أعماقها كان الخطوة المنشودة، السبيل لإخراجها من بئر الظلام الغارقة فيه، عليها فقط أن تكون حذرة في سحبها إلى النور. تراجعت عنها لتجلس من جديد في مقعدها، وسألتها دون تغير في رنة صوتها:
, -وإيه هي عيوبك؟
, أطبقت فيروزة على عينيها بقوةٍ، مقاومة ألم إحياء الذكرى، وألم معايشة التخيل، ارتفع صوت شهقاتها عندما تابعت:
, -مسخ، نص ست، ماينفعش حد يقرب مني.
,
, كانت ريم تملك من المعلومات، ولديها من الفطنة والذكاء، ما يخولها لربط أطراف الخيوط معًا، استنبطت أن لانتكاستها الصادمة ارتباطًا وثيقًا بسفرها غير الآمن خارج البلاد، خاصة في فترة زيجتها، تلك التي أخبرها عنها ماهر بتفاصيل مسهبة تعتمد على ما جمعه من معلومات أمنية متنوعة المصادر؛ لكنها كانت منقوصة لديها، اكتمل جزء كبير من الأحجية الناقصة، وأصبحت ترى بوضوح ما قد بدا محجوبًا عنها منذ بدء خطة العلاج الطويلة مع مريضتها. علمت أنها مجازفة غير محمودة العواقب، ومع هذا سألتها بنزقٍ، كمن يضغط على بثرة للتخلص من صديدها حتى تلتئم:.
,
, -ده كلام آسر ليكي؟
, علا الشهيق الباكي، وزادت الانتفاضات، فطلبت منها بصوتٍ جاد:
, -اهدي، خلاص.
, لكنها لم تستجب لها، مما دفعها للنهوض مجددًا، والمسح على جانب ذراعها بنفس الحنو وهي تردد في أذنها بصوتٍ قوي ثابت باعث على الأمان:
, - فيروزة، متخافيش، اللي قالك كده مش موجود معانا، مش هيعملك حاجة، وكلامه ده كله مالوش قيمة.
, رفضت الإصغاء لها، وهتفت في حرقةٍ موجوعة:
, -دي الحقيقة أنا وحشة من جوايا، أنا آ٣ نقطة
,
, صاحت بها ريم في صوتٍ بدا مرتفعًا نسبيًا:
, -ماتخليش كلام إنسان مريض زي ده يحطمك.
, فتحت عينيها لتنظر إليها من بين دموعها، وكررت باختناقٍ عبر عن مدى الألم المستبد بها:
, -أنا مشوهة يا دكتورة، مشوهة، ومن زمان أوي٣ نقطة
, تلك المرة لم تقاطعها، تركتها تستفيض في إخراج ما يؤذيها، فباحت لها:
, -من وقت الحريقة، اتحرقت من برا، وبعد كلامه بقيت من جوا كمان.
,
, استرعى انتباهها الغموض المغلف لحديثها، فقالت بهدوءٍ، وفضولها يزداد بداخلها لمعرفة تفاصيل بزوغ المشكلة:
, -طيب ممكن تحكيلي ظروف الحريقة دي.
,
, لا مهرب الآن من تعرية نفسها المهشمة، وروحها الممزقة، لطالما أرادت فعل هذا، التخلص من العبء الثقيل على كتفيها، علَّها تنشد بذلك راحتها الضائعة، بدأت في سرد ما خاضته من معاناة لازمتها منذ اللحظة التي اختبرت فيها موت أحدهم حرقًا نصب عينيها، بكل ما اعتراها من ألم وأذى، جسدت هذا بحركات جسدها المرتعشة، بلمساتها المرتجفة لبقعة من كتفها، كأن الألم اختزل في هذا الجزء، تلك المرة تركتها دون مقاطعة، لم تسألها، ولم تستحثها على الهدوء، تركتها تفرغ مكنونات صدرها حتى سكنت وسكتت. حينئذ جاء دورها المهني لتعالج تلك الشروخ العميقة، وترأب الصدع في روحها المنهزمة. تكلمت ريم بصوتٍ لا يحمل الشفقة؛ وإنما أظهر الاعتزاز:.
,
, - فيروزة هو قال كده عشان يهز ثقتك في نفسك، إنتي لو اتأذيتي زمان، والأثر فضل معاكي، فده لأنك عملتي حاجة بطولية، حاجة تخليكي تفخري بنفسك٣ نقطة
, من وسط أنهار دموعها تطلعت إليها في قهرٍ عاجز، فأكملت ريم على نفس الشاكلة:
, -طبيعي طفلة في السن ده تكون مرعوبة، خايفة، مش عارفة تتصرف، بس إنتي كنتي شجاعة، تصرفك أكبر من سنك، ضحيتي بنفسك عشان تنقذي غيرك، ده الأهم هنا.
,
, للغرابة لاحظت خبوت شهقات بكائها، فواصلت القول وهي تشير بيدها إلى كتفها الذي كانت تضغط عليه بيدها:
, -الأثر موجود عشان يفكرك أد إيه إنتي قوية، شجاعة، مختلفة.
, ارتخت أصابعها المتشنجة عن كتفها، وبدأ ذراعها في الهبوط حتى استقر في حجرها، بينما استأنفت ريم حوارها معها:
, -وياما ناس كانت حلوة ومزوءة من برا، ولما سقط القناع عنهم طلعوا أسوأ ما يكون.
,
, لاذت فيروزة بالصمت، إلا من صوت بكائها، فبكل تهكمٍ ناقم أعلنتها ريم لها:
, -ده وصف آسر، شياكة، لباقة، مظهر مخادع، أما على الحقيقة ففيه كل الموبقات.
, رأت تبدل ملامحها للدهشة والاستغراب، فأوضحت لها بابتسامة ما زالت ساخرة:
, -ماتستغربيش إني بقولك كده، أنا عارفة كل حاجة عنه من ماهر، ولأنه مهتم جدًا بيكي، مابخلش عني بأي معلومة تساعدك تتجاوزي أزمتك.
,
, ارتفع حاجبا فيروزة للأعلى في صدمةٍ؛ لكن ريم تجاوزت تلك النقطة لتمتدح شجاعتها في تفاخرٍ شديد:
, -النهاردة بس أقدر أقول إنك البطلة الحقيقية.
, ثم نهضت من مكانها، وقالت بوجهٍ بدا أكثر إشراقًا عما مضى:
, -كفاية كلام، وتعالي معايا.
, هزت فيروزة رأسها بالرفض وهي ترد:
, -مش عاوزة.
, أمسكت بكف يدها، وحاولت إجبارها على النهوض وهي تخبرها:
, -لأ، ده احنا عاملين يوم رياضي على البحر، خلينا نطلع الطاقة السلبية من جواكي.
,
, ما زالت باقية على عنادها؛ لكنها ألحت بما يشبه النصيحة:
, -يالا يا فيروزة، صدقيني ده هيفرق معاكي، إنتي هتحسي بده.
, طاقتها للمقاومة والاحتجاج نفذت مع آخر اعترافاتها الخطيرة، لهذا بضغطٍ لطيف استطاعت إقناعها، فنهضت مستسلمة للطاقة الأخرى التي تحاول إحلالها بداخلها كبديلٍ للانكسار والألم.
,
, في جنح الليل، حين خفت حركة الأرجل بهذا الطريق المؤدي للمقابر، كان يسير متسللاً وهو يتلفت حوله؛ كأن هناك من يتربص به في الظلام، الاهتزازة المزعجة في هاتفه الموضوع بجيب بنطاله جعلته يبطئ السير، وينزوي خلف أحد الأشجار ليجيب على هذا الاتصال المنفر، بمجرد أن نطق بالتحية، جاءه صوت فضل المقيت يهزأ به:
, -إيه يا عم الشيخ، كل ده عشان تخلص العمل؟ هما الأسياد غضبانين عليك ولا إيه؟
,
, خرج صوته كهسيس الأفعى وهو يخبره:
, -مش كنت مستني أما حد يموت ويدفن وتبقى تربته مفتوحة طازة.
, سأله بسخريةٍ واضحة في نبرته:
, -ها ولاقيت؟
, بعد زفيرٍ مسموعٍ له أجابه:
, -أيوه، مجمع كام عمل ورايح أدفنهم فيه.
, علق في تهكمٍ سافر:
, -كمان، يعني مش رايح مخصوص عشاني، أومال قابض مني شيء وشويات ليه؟!
, كاد الرجل أن يخرج عن شعوره، فارتفعت حدة الغضب في صوته وهو ينذره:
, - فضل، احنا فيها، نفكنا من العمل ده وآ٣ نقطة
, قاطعه متراجعًا:.
,
, -لأ خلاص، هي جت على دي..
, شتمه الرجل بصوتٍ خفيض للغاية، و فضل ما زال يكلمه:
, -كمل يا شيخ، وطمني لما تدفنه.
, بصبرٍ نافذ قال:
, -طيب.
,
, ثم ضغط على زر إنهاء المكالمة ليتابع سيره الحثيث وسط المزروعات حتى بلغ وجهته، مقابر البلدة. من جديد نظر حوله بنظراتٍ سريعة متوترة، قبل أن يتعجل في خطواته متجهًا نحو وجهةٍ بعينها، رأى أحدهم في انتظاره يلوح له بيده من مسافة بعيدة، وبالذراع الآخر يرفع مصباحًا لينير به الظلمة المنتشرة في المكان، أقبل عليه وهو يومئ برأسه. ما إن بات على بُعد بضعة خطواتٍ منه، حتى شعر بثقلٍ يجثم على كتفه؛ كأن أحدهم قد ضربه بعنفٍ عليه، تأوه في ألمٍ يخالطه الفزع الشديد، والتفت برأسه لينظر في هلعٍ إلى من تسبب في هذا، معتقدًا أن أشباحه لها كامل الدور في إرعابه، انتفض مرة أخرى مع الصوت الجهوري القائل:.
,
, -وقعت يا حلو.
, بدأ وعيه في استيعاب ما يحدث، واختطف نظرات شاملة على من ظهروا أمامه، تساءل سريعًا وهو يحاول تبين ملامحهم القاسية:
, -إنتو مين؟
, ابتسم صاحب الصوت الأجش، وأخبره وهو يزيد من قبضته على كتفه:
, -احنا الحكومة يا سيدي، وجايين نوجب معاك إنت والأسياد.
, جف حلقه كليًا، وابتلع ريقه قائلاً بكذب:
, -يا باشا أنا معملتش حاجة، جاي أقرى الفاتحة على روح حد قريبي.
, رفع الضابط حاجبه للأعلى هاتفًا في استهجان متهكم:.
,
, -السعادي؟
, رد عليه بتوترٍ:
, -هو في مانع؟
, أكد عليه بلمحةٍ من السخرية:
, -أه طبعًا، وخصوصًا لما يكون معاك البلاوي دي.
, ألقى بالكيس الصغير من يده، وتلعثم مدعيًا:
, -دول مش، آ٣ نقطة
, دفعه الضابط بغلظةٍ قاسية من كتفه، ليرتد تلقائيًا للأمام وهو يخبره:
, -بقولك إيه، احنا هنزعج الأموات؟ لينا قسم نتكلم فيه!
, وقبل أن يبادر بالاعتراض أتاه صوت الضابط آمرًا:
, -خدوه على البوكس.
,
, حذره الرجل بصوتٍ مرتعش وهو يقاوم الاعتقال من القبضة الأمنية:
, -اللي عملتوه ده مش هيعدي على خير.
, أشار الضابط بيده لأفراد قوته بالتحرك وهو ما زال يخبره بسخريةٍ هازئة منه:
, -وماله، خلي عفاريتك توكلك محامي من عندهم عشان يطلعوك.
, دمدم الرجل في غيظٍ وهو يسير مكبلاً بالأصفاد، ومنكس الرأس:
, -منك لله يا فضل، عملك فقر زيك٣ نقطة!
 
١٤

بجسدٍ بدا متحفزًا للغاية، ونظراتٍ تعبر عن قلقٍ بالغ، جلس سراج في حضور بدير عند دكانه بمفردهما، بعد أن طلب منه القدوم لإطلاعه على أمر هام، لم يقم الأخير بتفسير ما يريد البوح به في المكالمة، وفضل الحديث معه وجهًا لوجه. لم يرتشف سراج أي رشفة من كوب شايه، وتساءل بتعابيره المتوترة، وساقه اليسرى تهتز في عصبيةٍ من أسفل جلبابه
, -خير يا حاج بدير؟
,
, استند مُضيفه بكفيه على رأس عكازه، ونظر في عينيه قائلاً باستهلالٍ غامض:
, -شوف يا سراج يا ابني، اللي عايز أقولهولك ده بعيد عن أي مواضيع اتكلمنا فيها سابق.
, ضاعفت كلماته الشكوك بداخله، وتوقع حدوث ما قد ينغص عليه يومه، ازدرد ريقه، وأنصت إليه وهو يتابع:
, -إنت ابن حلال وجدع، ومهما مرينا بتجارب، لازمًا تيجي حاجات نتعلم منها، هو الإنسان مخلوق عشان كده، يغلط ويتعلم، ويفيد غيره.
, علق بتوترٍ متزايد:
, -معاك حق.
,
, أضاف بدير بابتسامةٍ منمقة:
, -إنت إنسان معدنك طيب، وأصيل.
, ربت سراج على صدره كتعبيرٍ عن امتنانه، بينما أكمل بدير بنفس النبرة الرزينة:
, -والظروف خليتنا نشوفك من حتة تانية خالص غير اللي كانت متصورالنا.
, أتاه تعقيبه مناسبًا:
, -ما محبة إلا بعد عداوة يا حاج، وربنا يديم الحب بينا.
, أومأ برأسه مرددًا:
, -مظبوط، بس الأهم من كلامي ده كله، احنا مش عايزين النفوس تبقى شايلة من بعض.
, أكد عليه عن ثقة تامة:.
,
, -لا يا حاج متقولش كده، أنا برضوه كنت زيي زيكم، والحمدلله إن الغُمة انزاحت.
, همهم في اقتضابٍ:
, -**** كريم٣ نقطة
, انتظر لهنيهة مراقبًا ردات فعل سراج لينطق بعدها مبتسمًا في حبور:
, -المهم يا ابني، تقدر تشرفنا في أي وقت يناسبك البيت، احنا منتظرينك.
, وكأنه لم يستوعب ما قاله بعد، هبطت عليه صدمة الأنباء السعيدة لتشل تفكيره لحظيًا، بعد بضعة ثوانٍ هتف متسائلاً في غير تصديق:
, -بجد؟ هي، ست البنات، وافقت؟
,
, نظر له بدير بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى، وأردف مازحًا:
, -أومال يعني هاجي اتفق معاك كده من نفسي؟
, اعتذر في تلبكٍ:
, -سامحني يا حاج، مقصدش.
, حافظ بدير على صفاء ابتسامته، وأكمل:
, -الحاجة أمها بلغتني، وأنا بعرفك.
, هلل في سعادة كبيرة لا يمكن للرائي إنكارها:
, -يا فرج ****، أنا مش عارف أقول إيه، أجيب شربات للحتة كلها.
, رد عليه حماه المستقبلي:
, -في الليلة الكبيرة هنعمل الحلو كله.
, اعترض عليه في جديةٍ يشوبها كل التهذيب:.
,
, -لأ يا حاج، لو مافيهاش إساءة أدب ليك، أنا متكلف بكل حاجة.
, أخبره ببساطةٍ وقد فترت ابتسامته قليلاً:
, -الأمور دي هنتفق فيها بعدين.
, علق عليه بإصرارٍ أشد:
, -معلش يا حاج، إنتو على عيني وراسي، أنا مش عايز من ست البنات إلا شنطة هدومها وبس، وكافة شيء هي هتختاره بمعرفتها وعلى ذوقها، اللي تشاور عليه هيجي إن شاء**** يكون إيه.
, بوجهٍ مسترخي في التعبيرات خاطبه:
, -**** يزيدك من فضله، ظبط مع الحاجة والدتك، واحنا مستنينك.
,
, قفز واقفًا من مقعده ليرد بابتهاجٍ مضاعف:
, -ده أنا رايحلها مخصوص أقولها، ما هو كلام التليفونات ده ماينفعش.
, ضحك على تلهفه المتحمس، وقال:
, -وماله.
, استأذن بالانصراف مرددًا:
, -تسلم يا حاج على ذوقك، عن إذنك بقى.
, أشار له بيده مودعًا إياه، ولسانه يتمتم في رضا:
, -صبرتي ونولتي يا هاجر، **** يعوضك خير.
,
, لم يكن مولعًا بمواقع التواصل الاجتماعي، ولا من هواة متابعة أخبار الآخرين على شبكة الإنترنت؛ لكنه وجد نفسه ينشئ حسابًا على موقع الفيس بوك، لينضم لمن سبقوه بالاشتراك عليه، ليس لأجل غرضٍ ما سوى رؤيتها، فكانت أول الاقتراحات المُقدمة له؛ وكأن الذكاء الاصطناعي قد أدرك مدى حبه العميق لها، فيسر له السبيل إلى ما يخصها. انتفض حين قرأ اسمها، ورأى صورتها التي بدت وكأنها تضحك له. أحس بدوي قصف غير قابل للسيطرة انتشر في قلبه، فأصبح عاجزًا عن العودة إلى حالة السكون التي كان عليها منذ دقائق.
,
, اعتدل في رقدته على الفراش، وأخذ يتفقد محتويات ما أظهرته في حسابها الشخصي، لم يجد الكثير، بعض المنشورات البسيطة، وبتواريخ قديمة، ومع هذا بدا متحمسًا لمتابعة ما كتبته، كان في أوج استمتاعه وهو يتأمل صورة نشرتها مع توأمتها في سن الطفولة، ووالدهما الراحل في المنتصف مبتسمًا، يحمل كل واحدة على ذراعٍ، وجد نفسه يدعو له:
, -**** يرحمك يا عم علي، ويرحم موتانا جميعًا.
,
, مضى عليه جزءًا كبيرًا من الليل وهو يدور بداخل حسابها مرارًا وتكرارًا، عاجز عن استدعاء النوم بسبب نوبة الحماس الجديدة التي تفشت في وجدانه، تنهد عميقًا وأغمض عينيه مناجيًا:
, -يا رب قرب البعيد، وصبرني على اللي فاضل.
, كان آخر ما أبصرته عيناه صورتها الضاحكة قبل أن يزحف النوم إلى جفنيه، فلازمه طيفها في منامٍ لم يذكر منه شيئًا سوى أنها كانت معه.
,
, تنقلت عيناها ما بين صفحات المجلة المليئة بأفكارٍ قد تعزز من الحس الفني لديها، فأخذت تقرأ بتركيز النصائح المقدمة من أصحاب تلك الأفكار علها تستفيد في نهاية المطاف، وساعدها على ذلك مساحة الهدوء المدعمة بالمناظر الخلابة التي يطل عليها بلكون غرفتها الواسع، توقفت عما تفعل لتنظر إلى الجانب حين ناداتها ريم:
, -فاضية شوية يا فيروزة؟
, أغلقت المجلة، ووضعتها على حجرها قبل أن ترد بملامح جادة:
, -أيوه.
,
, تقدمت ناحيتها قائلة بابتسامتها اللطيفة:
, -في ناس جايين مخصوص عشانك.
, عقدت حاجبيها متسائلة في استغرابٍ:
, -مين؟ دي ماما كانت عندي الصبح ومعاها همسة وخالي و رقية، هما رجعوا تاني؟
, أجابتها بنفس الوجه المبتسم:
, -لأ، دول مجموعة تانية بتحبك أوي.
, كررت سؤالها بعلامات حائرة تكسو كامل قسماتها:
, -مين؟
, اتسعت ابتسامتها الليطفة وهي تخبرها بنظراتٍ احتوت على مكرٍ غير ضار:
, -هتعرفيهم أول ما تشوفيهم، جاهزة أناديهم؟
,
, هزت كتفيها قائلة، وهي تحكم ربط طرفي **** رأسها الأبيض حول وجهها:
, -أوكي.
, تأهبت في جلستها، وثبتت أنظارها على مدخل البلكون تنتظر بنوعٍ من التحفز الضيوف الغامضين، وفي ذهنها يدور تخمينًا أقرب للصح بأن القادم رفيقتها علا مع شقيقها، خابت توقعاتها مع رؤية بدير يلج للبلكون الشاسع بعكازه، نهضت واقفة لتردد في ذهول لا يخلو من الفرحة:
, -حاج بدير، مش معقول.
, دنا منها متسائلاً باهتمامٍ وحنو:
, -إزيك يا بنتي؟
,
, ردت على الفور وهي تبتسم لرؤيته:
, -الحمد**** تمام.
, لم تكن قد أفاقت بعد من صدمتها الفرحة لتجد سلطان قادمًا من الخلف يمشي على مهلٍ ويهتف بصوته الأجش:
, -هو مش جاي لوحده، جدك سلطان معاه.
, تضاعفت فرحتها كثيرًا، وتقدمت ناحيته تخاطبها بتعابير مبتهجة:
, -إزي حضرتك؟ عامل إيه؟ أنا مش مصدقة و****.
, أجابها بعد تنهيدة مرهقة:
, -الحمد****، طمنينا عليكي إنتي.
, خاطبته بصوتٍ ما زال مسرورًا:
, -أنا بقيت أحسن.
, ربت على كتفها، وقال:.
,
, -دايمًا يا رب٣ نقطة
, ثم جال ببصره على مزيج المناظر الطبيعية الآسرة للأنظار، وتابع في إعجابٍ:
, -هي الأعدة هنا فعلاً ترد الروح.
, أشارت لهما بالجلوس وهي تسرع نحو الأرائك التي يفترش بها المكان:
, -اتفضلوا ارتاحوا.
, قبل أن يجلس سلطان خاطبها بصوتٍ تحول للجدية:
, -في واحد جاي مخصوص يقولك كلمتين.
, تعقدت تعابيرها متسائلة:
, -مين ده؟
,
, خفقة مباغتة أصابت قلبها عندما رأته يطل عليها بابتسامة غريبة أشعرتها أن سعادته لرؤيتها تفوق ما قد رأته هي في مجمل حياتها، رمشت بعينيها في ارتباكٍ حرج، شعرت فيروزة بانبعاث حرارة طفيفة من وجنتيها، واستنكرت الاضطراب الذي يعتريها عند رؤيته بعد أن باحت بكل شيء، شتت أنظارها عن تميم لتجد زوج توأمتها واقفًا إلى جواره، رمقته بنظرة مزعوجة، وهي تقاوم ذكرى آخر لقاء جمع بينهما، ظهر الامتعاض على محياها، وتنحت للجانب وهي تزفر ببطء. صاح الجد مناديًا:.
,
, -تعالى يا هيثم.
, حمحم تميم بضيقٍ ملحوظ وهو يدفعه من ظهره للأمام:
, -اتفضل.
, أمسك التردد بخطوات ابن خالته وهو يغمغم في صوتٍ خفيض:
, -ما بلاش..
, دفعه تميم بخشونة أكبر وهو يحدجه بتلك النظرة الصارمة قبل أن يقول:
, -يالا خلينا نخلص.
,
, سحب شهيقًا عميقًا طرده على الفور، وواصل التقدم للأمام حتى بلغ مقعدها الذي استقرت جالسة عليه، ظل واقفًا، ووزع نظراته المترددة على زوج خالته، والجد سلطان، ومن قبلهما تميم، تنحنح بصوتٍ خافت قبل أن يخاطبها باقتضابٍ:
, -إزيك؟
, أدارت وجهها للناحية الأخرى، وقالت بوجوم:
, -الحمد****.
, تابع بما بدا وكأنه سخافة غير مستحبة:
, -مبنكرش إني كنت بتضايق لما بشوف نظراتك ليا، عشان اتجوزت أختك، بس آ..
,
, توقف عن الكلام للحظاتٍ ليفرك وجهه نازحًا أي تردد مسيطر عليه، ثم تابع:
, -بس ده مايدنيش الحق إني أعمل اللي عملته المرة اللي فاتت.
, حانت منها التفاتة سريعة لترد في اقتضابٍ:
, -حصل خير.
, بلع ريقه، وأكمل:
, -حقك عليا، أنا، أسف.
, كانت فيروزة على وشك الرد عليه، لكنه رفع يده أمام وجهها ليمنعها عن الكلام، واستأنف موضحًا سبب اعتذاره التالي، بما عكس الصدمة على ملامحها:.
,
, -مش على المرة اللي فاتت، أنا بتأسف عن اللي عملته زمان، وإنتي، متكلمتيش عنه٣ نقطة
, انقبض قلبها بشدة، وبدأت ملامحها في الشحوب، حاولت إيقافه قبل أن يكشف السر قائلة بلعثمة سادت نبرتها:
, -مافيش داعي.
, لم يكن هيثم جيدًا في قراءة تعبيرات وجهها، ولم يملك من الفراسة ما يخوله لفهم بواطن الأمور من مجرد إيماءة أو نظرة مستترة، لهذا استمر ناطقًا بما أزاح الستار عن الماضي المدفون:
, -يوم حريقة دكان أبويا **** يرحمه٣ نقطة!
 
١٥

بحركةٍ رتيبة متكررة ظل يمرر يده أعلى رأسه الذي حلقه مؤخرًا ليفركها كأنما قد استغرق في التفكير في أمرٍ ما، خاصة بعد أن نما إلى مسامعه إلقاء القبض على المشعوذ الذي لجأ إليه على أمل فعل شيء خارق لإيذاء فيروزة. آنذاك تخلص من شريحة الهاتف غير المسجلة وألقى بها في المصرف ليقطع أي صلة قد تدينه، وبفرض أن انتشرت بعض الشائعات والأقاويل سينكرها تمامًا كعهده مع الكذب.
,
, لم يسلم فضل من التفكير في هذا الموضوع حتى استحوذ على عقله ذكرى رؤيته لطليقته السابقة وهي تزف إلى غيره في حفل زفاف لم تشهده بلدتهم من قبل، وكأنها تُزوج للمرة الأولى، ف رشيد لم يدخر وسعه في دعوة كل المعارف والأقارب والأصدقاء للحضور، وأنفق بسخاء على هذا الحفل.
,
, وقتها أراد أن يفتعل فضيحة مُحرجة للجميع، أن يفسد على المدعوين فرحتهم الواضحة، خاصة سها، فيصيبها الكدر، وتصبح نذير شؤم لزوجها السمج –كما ينعته، لهذا دون إعادة تفكير اقتحم السرادق المقام فيه العُرس، وصاح مهللاً:
, -فين عيالي؟ أنا مش هاسيبهم لغريب يربيهم.
, وكأنها رأت شبحًا للتو، تصلبت سها في مكانها تتطالع بعينين مذعورتين وجه فضل الحانق، ورددت في توترٍ وهي تهم بالنهوض:
, -إنت جاي آ..
,
, أمسك رشيد بيدها ليجبرها على الجلوس، وقاطعها في صوتٍ خفيض مسموعٍ لها؛ لكنه في نفس الوقت صارم:
, -استني!
, هتف فيه أحد المدعوين ينهره عن تصرفه الفظ:
, -عيب اللي بتعمله يا فضل، مايصحش كده.
, زأر عاليًا بصوته المزعج وهو يلوح بذراعه:
, -محدش يقولي عيب، أنا عاوز عيالي، أنا مش نطع عشان أسيبهم لواحد زي ده!
, هنا نهض رشيد من مقعده يهدده بوجهٍ غائم التعبيرات، وصوت جهوري مرعب:.
,
, -غلط هنا ماسمحلكش، وإلا هبهدلك قصاد أهل البلد كلهم، مش هاخليك تعرف ترفع عينك في أصغر عيل هنا!
, أحس فضل بالحرج من تذكيره علنًا بواقعة إهانته، وهدر في غيظٍ وقد برزت عروق وجهه المحتقنة:
, -إنت بتقول إيه؟
, توسلت سها لزوجها ترجوه:
, -عشان خاطري يا رشيد، مش عايزين فضايح.
, التفت ناظرًا إليها ليخاطبها بلهجة قوية:
, -الفضايح ليه هو٣ نقطة
, ثم استدار ناحيته ليكمل كلامه بنبرة متهكمة:
, -ولا نسى العلقة اللي كانت قصاد داره.
,
, همهمات جانبية ارتفعت في الأرجاء، أعقبها صياح فضل المتذمر، وهو يشير بسبابته نحوه، كنوعٍ من حفظ ماء الوجه أمام هذا الملأ:
, -إنت خدتني غدر.
, تحفز رشيد في وقفته، وابتسم من زاوية فمه قائلاً:
, -أنا فيها، هعدمك العافية قدام الكل، وأرجع أقعد جمب مراتي، ولا كأن حاجة حصلت.
,
, تلون وجهه بحمرة متوترة، واشتاطت نظراته على الأخير، كان يعلم جيدًا أنه إذا تورط معه في شجار –ولو بالأيدي- لهُزم شر هزيمة، وأريق ماء وجهه وأصبح علكة في ألسن الجميع. ظهر الاضطراب على محياه، وأصبح كالتائه للحظاتٍ، لولا أن جاءته نجدة من السماء حين تدخل أحد أهالي البلدة يسأله في عقلانية:
, -هو حد منعك عنهم يا فضل؟
, ادعى انشغاله بالنظر إليه، وحول أنظاره نحو آخر يخاطبه:
, -خدهم يا فضل وامشي، دول لحمك.
,
, أصعب ما اختبرته الآن هو ابتعاد صغارها عنها، فغمغمت سها ترجوه في ألمٍ:
, - رشيد، عيالي.
, إن كان الأمر بيده لمنعه من أخذهم؛ لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن خطة هذا الدنيء الظهور بمظهر الشهامة والرجولة أمام الجميع لاكتساب بضعة نقاط يحسن بها من موقفه المتخاذل، لهذا مال رشيد على زوجته وأخبرها بهدوءٍ:
, -اصبري، هاجيبهملك بالعقل.
,
, ولأنها تثق في قراراته التزمت الصمت، وهزت رأسها بالإيجاب، لتشير بعدها لصغارها بالتحرك. صعد فضل على المسرح الخشبي ليختطف أولاده وهو يدعي محبة أبوية زائدة عن الحد:
, -تعالوا يا عيال، تعالوا يا حبايبي.
, قالت واحدة من الصغار ببراءة:
, -عاوزة ماما.
, وكأنها رمته بالشرر فصراخ بها وهو يدفعها:
, -بس يا بت، ويالا انجروا كلكم قدامي.
,
, لم يعجب رشيد معاملته غير الآدمية مع الصغار، وكور قبضة يده بتحفزٍ، استطاع أن يلمح الدموع الرقراقة في عيني زوجته، قبل أن تسأله بقلبٍ موجوع:
, -هتسيبهم ياخدهم؟
, امتدت يده لتمسك بيدها، ضغط برفقٍ بإبهامه على ظهر كفها، ثم نظر إليها قائلاً وهو يجلس مجددًا في مقعده:
, -اللي زي ده مش هيستحملهم، هيبعتهملك تاني، اسمعي مني.
, دمدمت في حرقةٍ ودموعها تنفر من طرفيها:
, -حسبي **** ونعم الوكيل فيه.
,
, صاح رشيد عاليًا بنوعٍ من التفاخر، كأنما يقصد استفزازه:
, -اطمنت عليهم، نكمل بقى فرحتنا الكبيرة، عشان ألحق أخد عروستي ونتفسح.
, من بين أسنانه هتف لاعنًا:
, -**** يحرقكم، إياكش تتقلب بيكم العربية!
, أفاق من الذكرى على صياح أطفاله وهم في غمرة لعبهم الحماسي، اِربد وجهه بالغضب، وهدر في خشونة أرعبتهم:
, -ما كفاية دوشة بقى، خوتوا دماغي.
, جاءت والدته على صوت صراخه تسأله في استنكارٍ:.
,
, -في إيه يا فضل؟ مالك مش طايق نفسك ولا العيال ليه؟
, هدر في صبر نافذ وهو يضرب مقدمة رأسه:
, -صدعت يامه.
, أشارت سعاد لأحفادها تأمرهم بنبرة حانية لكنها في نفس الوقت حازمة:
, -خشوا يا عيال العبوا جوا.
, انتظرت ذهابهم لتعاتب ابنها:
, -بالراحة عليهم شوية.
, لم يكترث بما قالته، واشتاطت نظراته مغمغمًا في غيظٍ:
, -هي مفكرة كده إنها ارتاحت لما رميتهم عندي.
, صححت له من تلقاء نفسها:
, -يا ابني ده إنت اللي جبتهم وآ٣ نقطة
, قاطعها في عصبيةٍ:.
,
, -كنت بأكيد فيها، بأحرق دمها٣ نقطة
, نظرت له في ضيقٍ، فأكمل متوعدًا:
, -بس و**** ما سايبها، ده أنا هقرفها قرف الليمون على الشجر.
, وقبل أن يكمل وصلة وعيده الأهوج جاء إسماعيل من الخارج بتعابيرٍ ناقمة للغاية، ضرب بعكازه على الأرضية، وصاح فيه بزمجرةٍ غير مبشرة بخير:
, -واد يا فضل.
, اعتدل في جلسته، ولم ينهض، ثم تساءل بسماجةٍ:
, -أيوه يابا.
, لكزه بطرف عكازه متسائلاً بوجهٍ مشدود، ونظراتٍ مشتعلة:.
,
, -إنت ليك علاقة بالدجال إياه اللي اتمسك من كام يوم؟
, لطمت سعاد على صدرها قائلة:
, -دجال، يا ساتر يا رب!
, ادعى الغباء، وتساءل في سخافةٍ:
, -إنت بتكلم على مين يابا؟
, هدر أباه في نفاذ صبرٍ:
, -يا واد ماتستعبطش عليا، الحكومة ناشرة صور الحاجات اللي لاقوها معاه بعد ما قبضوا عليه، وكان فيهم صورة بنت عمك، واللي قابلني من أهل البلد عرفني بالحكاية دي.
, تمسك بكذبه، وأنكر معرفته به بانفعالٍ مفتعل:.
,
, -وأنا مالي، هو كل بلوى تحصلها يبقى فضل السبب؟ ما أنا أهوو كافي غيري شري وقاعد في حالي.
, لم يبدُ والده مقتنعًا بهذا الاستعراض الهزلي، وعلق في نقمٍ:
, -أنا حاسس إن الموضوع ده مخرجش براك.
, حاد بنظراته عنه، ونطق في نفورٍ:
, -أنا مش فاضي للعب العيال ده!
, لكزه إسماعيل مجددًا في ساقه وهو يعنفه:
, -أومال فاضي لإيه؟ ده إنت ليل نهار قاعد زي الحريم كده في البيت، لا شغلة ولا مشغلة.
, هب واقفًا، واحتج في سقمٍ:.
,
, -ما بلاش قلة قيمة يابا.
, تدخلت سعاد للتلطيف بينهما، فقالت برجاءٍ وهو تضع يدها على كتف زوجها:
, -بالراحة عليه يا حاج.
, نفض يدها عنه، وقال في يأسٍ:
, -أنا استعوضت **** فيك.
, انصرف وهو يبرطم في سخطٍ، فتبعته نظرات فضل الحانقة، ليهتف بعدها متذمرًا؛ كأنما يشكو شدته:
, -هو ماله حاطط نقره من نقري ليه؟ ما يسيبني في حالي!
, ردت عليه سعاد قائلة وهي تربت على صدره:
, -أبوك بيتفك معاك بكلمتين، اسمعله وإنت ساكت.
, تشنج ملوحًا بذراعيه:.
,
, -يامه أنا زهقت، محدش حاسس بيا.
, -يا حبيبي بكرة **** يرزقك ببنت الحلال، ويعوضك خير، ده إنت لسه شباب، وفي عزك٣ نقطة
, أصدر صوتًا محتجًا كتعبير عن عدم اقتناعه، فأخبرته بنظراتٍ ثعلبية:
, -إيه مش مصدقني، طب شاور على أي واحدة وأنا أجوزهالك.
, نطق فيما يشبه التحدي:
, -هتقدري؟
, قالت عن ثقة:
, -جرب.
, عاود الجلوس على الأريكة الخشبية، وثني ساقه للأعلى ليستند بمرفقه على ركبته، ثم قال مبتسمًا في ازدراء:
, -طب أنا عاوز فيروزة.
,
, صمتت مليًا، فرمقها بنظرة ساخرة منها؛ لكنها عادت لتسأله بتعابيرٍ غامضة:
, -هي دي اللي هتريحك؟
, رفع حاجبه قائلاً:
, -أيوه.
, قالت عن يقين مريب دون أن تفكر:
, -خلاص، هجوزهالك.
, أخفض ساقه، واعتدل مرددًا في ذهول مصدوم:
, -إيه ده بجد؟
, ابتسمت وهي ترد بعد أن مسحت برفقٍ على جانب ذراعه:
, -أيوه، طالما هي دي اللي هتريحك، وعلى رأي المثل الضفر عمره ما يطلع من اللحم.
,
, تجدد الأمل بداخله للانتقام من شخصها بهذا العرض غير المتوقع من قِبل والدته، فأصابته نشوة غريبة، جعلته في قمة غروره الواهي.
,
, اعتبرته –مجازًا- سرًا من الأسرار الكونية، والذي لا يجب الإطلاع عليه مُطلقًا، أو حتى التطرق إلى تفاصيله، ليس لأنها تخشى من إفشائه، وإنما لرهبتها من إحساس تسببها في إيذاء غيرها دون قصدٍ، وإلا لكانت نطقت منذ البداية بما عرفته. نظرت فيروزة إلى هيثم بنظرات غلفها القلق والخوف، لعقت شفتيها، وطلبت منه بأنفاسٍ شبه مضطربة:
, -مافيش داعي، خلاص آ٣ نقطة
, قاطعها بإصرارٍ:
, -أنا عايز الكل يعرف عشان أرتاح.
,
, ردت رافضة بعنادٍ، وبؤبؤاها يتحركان في عصبيةٍ:
, -مالوش لازمة ننبش في الماضي.
, قال بعندٍ يفوقها:
, -لأ لازم، أنا مش هافضل عايش كده.
,
, فشل مسعاها لمنعه من الكلام، وانطلق يسرد تفاصيل جريمته في الصغر، متجاهلاً توسلاتها الصامتة، تطلع إلى الأوجه المحدقة به قبل أن يخفض رأسه نادمًا، بينما تهاوت فيروزة جالسة في مكانها ودقات قلبها ترتفع في صخبٍ. كانت ريم واقفة بالخلف تراقب وتسجل ردات الفعل المتباينة، أرادت لمريضتها أن تتخلص من كافة ما يثقل كاهليها، أن تتجاوز كل البقاع المظلمة القابعة بها، لتتحرر من كل القيود التي تعيقها عن المضي قدمًا في طريق شفائها، وها قد بدأت خطتها العلاجية تؤتي بثمارها عن طريق المواجهة المحتومة.
,
, رغمًا عنها تدفقت العبرات من عينيها بغزارة، لم تعرف سبب هذا البكاء، هل لتعرية الماضي الأليم؟ أم إشفاقًا على شخص بات في نظر المحيطين به مدانًا؟ وللمفاجأة وجدت دعمًا غريبًا لشخصه، حيث قال سلطان أولاً:
, -يا ابني محدش معصوم من الخطأ، وإنت كنت عيل، مش لاقي اللي يوجهك صح.
, نطق هيثم بصوت ظهر فيه اختناقه:
, -أنا بتعذب كل ما افتكر اللي عملته.
, رد عليه الجد في هدوءٍ:.
,
, -**** غفور رحيم، هو مكتوبله يكون شهيد، ولعل ده يشفعله زلاته زمان.
, أكد عليه بدير بنفس النبرة الهادئة:
, -صح يابا، **** ليه حكمة في كل حاجة بتحصلنا.
,
, لم يشارك تميم في التعليق، اكتفى بالإصغاء لاعترافات ابن خالته، وعيناه مثبتتان عليها، أراد بكل جوارحه حين رأها تبكي أن يحتضنها، أن يحتويها بين ذراعيه ويهون عليها الأمر، أن يهمس في أذنها بكلماتٍ مطمئنة تبث لها الأمان، وتطيب من روحها المعذبة، بدت في عينيه رقيقة للغاية، هشة ككعكة لذيذة المذاق، أطال النظر متناسيًا كافة الوعود، ومتجاوزًا عن الأعراف، ويا ليته ما أطال! فقد أحرجه والده عمدًا:.
,
, -ما تقول حاجة يا تميم، ولا إنت مش معانا؟!
, حمحم مرددًا بتحرجٍ، وقد أمسكت به فيروزة ينظر إليها بتلك النظرة الحانية:
, -لا إزاي يا حاج، كل اللي بتقولوه تمام.
, سأله في تحدٍ:
, -طب احنا قولنا إيه؟
, وضع يده على مؤخرة عنقه هاتفًا بتلعثمٍ:
, -آ، كلام، كبير.
, استطرد سلطان ملطفًا من الأمر وبابتسامته الوقورة:
, -ابنك مايحبش يكرر كلامك يا بدير، بيسمعه وينفذ من أول مرة.
, ثم وجه أنظاره إليه متسائلاً:
, -مش صح؟
, على الفور أيده حفيده:.
,
, -أيوه طبعًا.
, تقدمت ريم في خطواتها لتقف إلى جوار فيروزة خلال حوار أربعتهم معًا، وضعت كلتا يديها على كتفيها، وأخبرتها بصوت شبه خافت:
, -أنا عايزاكي ترمي الماضي ورا ضهرك، معدتش في حاجة تقلقك.
, انكشاف أمرها أمامهم لم يكن من السهل عليها، خاصة صاحب النظرات النافذة إليها، تصدع الحاجز الأخير بينهما جعلها في موقفٍ متردد وحرج، همست بصوتٍ بالكاد وصل إليه:
, -أنا خايفة.
, حملق فيها بلهفةٍ، وتأملها وهي تعترف لطبيبتها:.
,
, -مش عايزة أتأذى من حد تاني، تعبت.
, وجد تميم نفسه يرد بتلقائيةٍ، وقد اتخذ وضعية دفاعية عنها:
, -محدش هيسمح بكده.
, اتجهت الأنظار إليه، فتابع بجرأة غريبة وهو يشير بيده:
, -بصي شوفي اللي حواليكي دول بيحبوكي أد إيه، مش محتاجين سبب لده.
, وافقه الجد الرأي، وأضاف عليه:.
,
, -مظبوط، وبعدين يا بنتي كل حاجة بتحصل في حياتنا لسبب، واللي بنمر بيه مهما كان صعب ده ابتلاء واختبار من ****، يا يشوفنا هنصبر ونقول الحمد****، يا إما نعترض وساعتها مش هنلاقي إلا السخط وزوال النعمة.
, مسحت فيروزة دموعها التي تبلل خديها، بينما استمر سلطان في مخاطبتها بابتسامة اعتزازٍ:
, -إنتي حبك اتحط جوا قلوبنا كده من عند ****، غلاوتك في غلاوة عيالنا٣ نقطة
, ثم تحولت أنظاره نحو تميم وهو يكمل بنبرة ذات مغزى:.
,
, -ويا عالم بكرة تلاقي عوض **** ليكي إزاي، مش كده يا تميم؟
, تنحنح قائلاً بتحرجٍ:
, -أه، طبعًا.
, رددت ريم على مسامعها من جديد قائلة بتفاؤلٍ:
, -سمعتي يا فيروزة؟ حبهم ليكي تلقائي.
, وزعت نظراتها بينهم، وقالت في ترددٍ:
, -أنا٣ نقطة
, قاطعها الجد قائلاً بنبرة جمعت بين اللين والحسم:
, -احنا عاوزينك تخرجي من هنا قريب، الدكان موحشكيش، كفاية كده.
, صحح له تميم بابتسامةٍ عريضة:
, -اسمه محل يا جدي.
, هتف معاندًا، وبنوعٍ من التهديد المبطن:.
,
, -لأ هو دكان، ولا آ٣ نقطة
, تراجع قائلاً في طاعة أضحكت من حوله:
, -ماشي يا جدي، اللي تقوله يمشي علينا كلنا.
, انتقلت الأعين نحو هيثم بعد أن صرح بدير بهدوءٍ:
, -قولها يا هيثم على المفاجأة اللي محضرها لمراتك.
, رمقته فيروزة بنظرة متسائلة وهي تكرر:
, -مفاجأة؟!
, أكد عليها بدير بإيماءة من رأسه:
, -حاجة بقاله فترة بيجهزها.
, توقف عن الكلام ليشير بعينيه إلى هيثم، فقال الأخير بترددٍ ملحوظ:.
,
, -أنا مكونتش عايز أجيب سيرة إلا لما كل حاجة تخلص٣ نقطة
, وقبل أن يساء فهمه تابع:
, -بس إنتي مش غريبة، وهتحفظي السر.
, تلك الكلمات المنتقاة بعناية أشعرتها بالتقدير المعنوي، وبأن هناك بادرة احترام طيبة ستسود بينهما في المستقبل. عفويًا تحولت عيناها نحو تميم الذي صاح يمتدحها بكلمة بدت كغزلٍ أكثر منها لقبًا:
, -طبعًا دي الأبلة.
, توردت وجنتاها في ربكةٍ، وحاولت تجاوز هذا التلبك الحرج بالتركيز مع هيثم حين أردف موضحًا:.
,
, -أنا جبت شقة تانية ل همسة، هي مش جديدة أوي، بس اتفقت مع تميم أخد بيته القديم وهو ياخد بيت أمي، وأدفعله الفرق، وأوضبه عشان تسكن فيه.
, ارتفع حاجباها في دهشةٍ وهي تقول:
, -معقولة!
, استأنف مكملاً الإفصاح عن باقي مفاجآته السارة:
, -ده غير المحل اللي اشتريته عشان أقف فيه لوحدي، وكلها كام يوم ويشتغل، ويجيلنا منه رزق حلو.
,
, أدركت مع عزمه الواضح نواياه الطيبة لتأسيس حياة أسرية مستقرة تختلف عما تهيأت له سابقًا، لكونها بكده، وتعبه، واجتهاده الشخصي، ابتسمت لسعيه الدؤوب في تحقيق هذا، وهتفت تهنئه في حبورٍ:
, -مبروك، **** يوفقك.
, حك طرف ذقنه، وهو يضيف:
, -أنا مش عايز حد يقول بعد كده إني اعتمدت على غيري عشان الجوازة دي تكمل.
, أصغت إليه فيروزة باهتمامٍ يتخلله الإعجاب، خاصة وهو يعترف بصدقٍ:.
,
, - همسة **** بعتهالي نعمة في وقت أنا كنت ضايع فيه، خدت بإيدي، وطلعتني من القرف، وربنا يقدرني وأسعدها بالحلال.
, رد عليه سلطان يدعمه عن ثقةٍ:
, -هتقدر طالما نويت، واستعنت ب****.
, حمحم بدير هاتفًا وهو يجمع طرفي قفطانه:
, -احنا طولنا عليكي النهاردة.
, نظرت إليه، وقالت بابتسامةٍ صغيرة ناعمة:
, -أنا فرحانة بوجودكم.
, تنهد الجد معقبًا بمكرٍ، وعيناه تتحولان عن قصد نحو حفيده:
, -واحنا أكتر يا بنتي، بس لو تعرفي.
,
, يا لسعادته! جده بشحمه ولحمه يمهد له السبل لترى عِظم الحب في عينيه، فقط لو تفتح الباب لقلبها وتتأمل ما يحويه من عشقها. أضاف بدير مبتسمًا:
, -عايزين المرة الجاية نيجي نشوفك في بيتك.
, هزت رأسها بالإيجاب، بينما استطرد الجد متابعًا بما بدا له وكأنه استمتاع من نوع مختلف:.
,
, -بالمناسبة، تميم كل يوم بيروح الدكان بتاعك يقف على إيد العمال ينضفوه، ويخلوه زي الفل، عشان ترجعي تنوريه، الزباين مستنينك، وأولهم بنتنا هاجر، حلفانة لتعملي الزواء عندنا في البيت، واحنا مابنكسرش لبناتنا كلمة.
, تلقائيًا عرفت عيناها الطريق إلى وجهه، فنظرت إلى تعابيره المبتهجة بتأمل، ورأت ذلك الوهج الفرح الذي يزداد وضوحًا في عينيه كلما تطرق أحدهم إلى سيرتها، رمشت بجفنيها، وهتفت معترضة بخجلٍ:.
,
, -بس أنا أصلاً الفترة اللي جاية مش مرتبة أموري ولا آ٣ نقطة
, قاطعها سلطان رافعًا يده أمام وجهها، وبتعابير شبه عابسة:
, -إنتي برضوه بنتنا، هتزعليني؟ ودي أول حاجة أطلبها منك.
, ابتسمت في نعومة وهي ترد نافية:
, -لأ.
, بادلها الابتسام ملمحًا بلؤمٍ:
, -ومش هاتبقى آخر حاجة.
, التفت سلطان برأسه نحو حفيده يسأله بصيغة آمرة:
, -فين مفتاح الدكان يا تميم؟
, امتدت يده داخل جيب قميصه الأزرق، وأخرجه منه ليناوله إياه قائلاً:
, -أهوو يا جدي.
,
, كان المفتاح معلقًا في ميدالية الطاووس التي أهداها لها، بريقها الفضي انعكس في نظرات فيروزة، وزاد لمعانًا عندما تابع الجد سلطان عن قصدٍ وهو يغمز له:
, -أيوه كده خليك حاطه جمب قلبك عشان ما يضعش، ما هو اللي متشال في القلب دايمًا متصان.
,
, أحست فيروزة بأن الكلام موجه لها، وإن كان مستترًا، فوجدت نفسها ترتبك، وشعرت بتشعب حمرة دافئة في بشرتها، على الأغلب كانت ملحوظة للمتواجدين، حاولت الحفاظ على ثبات تعبيرات وجهها، ونظرت إلى الجد عندما قال وهو يمد راحته بالمفتاح:
, -اتفضلي، **** يجعله فاتحة الخير عليكي وعلينا.
, أخذته منه متمتمة بصوتٍ أظهر حرجها:
, -يا رب.
, هتف سلطان قائلاً وهو يوزع أنظاره عليهم:
, -مش يالا بينا، ولا الأعدة هنا عجبتكم؟
,
, رد عليه تميم مبتسمًا بابتسامةٍ عريضة:
, -أعدة الأبلة مايتشبعش منها.
, غازلها الجد عن عمدٍ وهو مسلط كل أنظاره عليها:
, -هي كلها على بعضها حلوة وزي القمر.
, تحرجت للغاية من عذب كلماته، وأخفضت رأسها متحاشية النظرات المتجهة إليها، بينما قالت ريم في تهذيبٍ وهي تشير بيدها:
, -اتفضلوا يا جماعة.
, شدد سلطان بلهجةٍ مزجت بين العطف والجدية:
, -خلي بالك من نفسك.
, ردت بإيماءة من رأسها:
, -حاضر يا جدي.
,
, وضع يده على كتفها متابعًا بنفس اللهجة المؤكدة:
, -ومن غير ما تقولي إنك عايزة حاجة، احنا معاكي، وجمبك، وفي ضهرك، هنفضل على طول وياكي لحد ما نقابل وجه كريم.
,
, لم تستطع كبح مشاعرها ولا منع نفسها من الارتماء في حضنه الدافي بعد كل ما قيل، وكل ما شعرت به في حضرتهم؛ وكأنهم أعادوا لها ما ظنت أنها أضاعته للأبد! ألقت فيروزة برأسها على صدر الجد سلطان، ورددت بصوتٍ كان متأثرًا للغاية، وعيناها تلك المرة تحتويان على دموع الفرحة:
, -**** يخليكوا ليا٣ نقطة!
 
١٦



مع تلك الضمة، المليئة بالحنان والمحبة، والمصحوبة بالعبارات الأبوية الصادقة، لملمت شتاتها المبعثر، وتطيبت نفسها الجريحة، حتى أن كلمة النهاية قد وُضعت لتعلن انقضاء تلك الفترة البائسة التي امتدت لسنوات في حياتها، لتبدأ بعدها عهدًا مليئًا بكل الأماني، التطلعات، والأحلام قابلة التحقيق. استلت فيروزة نفسها من حضن الجد سلطان، ونظرت إليه قائلة وهي تمسح دموعها بظهر كفها:
, -لولا وجودكم في حياتي كنت آ٣ نقطة
,
, قبل أن تتم عبارتها قاطعها مؤكدًا ببسمة وقورة:
, -احنا معاكي على طول.
, أضاف عليه بدير وهو يشير بيده:
, -هنستناكي ترجعي بيتك يا غالية.
, علق عليه سلطان مازحًا:
, -صحيح الأعدة هنا حلوة، بس البيت والشارع كله مضلم من غيرك.
, ابتسمت للطافتهما الواضحة، وأومأت برأسها مرددة:
, -حاضر.
,
, من خلفهم وقف تميم يتأمل كل ما يصدر عنها؛ كأنما يأمر عقله بتسجيل تلك اللحظات في ذاكرته، فلا تُمحى بمرور الوقت، أراد أن تدوم ابتسامتها، أن تزاح همومها، ألا يوجد للحزن مكانًا في حياتها. نطق لسانه بنزق العذب من الكلام:
, -هستناكي، متطوليش الغيبة.
, التفتت ناظرة إليه بنظرة غريبة حائرة، في حين حدجه بدير بنظرات متوعدة غير راضية عن تجاوزه، وقال مصححًا عنه بصوتٍ أجش:
, -علينا كلنا، هو يقصد كده.
,
, تراجع تميم أمام نظرات أبيه الصارمة، وأخفض رأسه ليأمره الأخير بلهجته الجافة:
, -اسبقنا إنت و هيثم.
, حمحم قائلاً وهو يهز رأسه:
, -حاضر يا حاج.
, انتظر سلطان ذهابه ليعاتب ابنه في لينٍ:
, -بالراحة عليه يا بدير، ما إنت عارف ابنك حنين، وقلبه رهيف مع الغالي.
,
, وكأنه أراد بهذا أن يُريها ما قد تغض البصر عنه طواعية منها لرفضها تكرار التجربة، لهذا مهد لها السبيل لتنظر عن كثبٍ إلى محبته غير الزائفة، لعلها تنفذ إلى قلبها، وتزيل ذلك الصدأ عنه. عاد سلطان ليخاطب فيروزة بأسلوبه الحاني:
, -مش هوصيكي يا بنتي، يومين بالكتير ونلاقيكي منورة حتتك.
, أظهرت امتثالها له، وقالت في رقة:
, -حاضر يا جدي.
,
, في البهو المتسع الخاص بدار الرعاية، اجتمعت ريم بعائلة سلطان بعد أن انتهت زيارتهم الودية لمريضتها، ظهر الامتنان، والعرفان بالجميل في نظراتها قبل أن تسترسل بلطفٍ شديد:
, -حقيقي اللي عملتوه النهاردة حاجة عظيمة، وأكيد هتساهم بشكل كبير في شفائها وخروجها بسرعة من هنا.
, رد عليها بدير بتعابيره الجادة:
, -احنا منقدرش نتأخر عنها، ومش محتاجين ندعي حاجة مش فينا.
, استدارت ناحيته تشكره:
, -**** يكتر من أمثالكم.
,
, ثم أكمل وهي تشير بكلتا يديها:
, -الحافز الإيجابي، والدعم القوي مهم جدًا في الوقت ده، و فيروزة لو اتحسنت هايكون طبعًا بعد فضل **** بسبب دوركم.
, دعا لها الجد سلطان وهو يبتسم:
, -**** يكمل شفاها على خير، ويحسن ما بين إيديكي.
, بادلته الابتسام، وعلقت في تهذيبٍ:
, -شكرًا لذوقكم.
, تحركت ريم نحو تميم، وتنحنحت تستأذنه:
, -ممكن كلمتين يا أستاذ بعد إذنك.
, التفت مخاطبًا والده، وجده في احترامٍ:
, -ثواني وهارجع على طول.
,
, قال بدير وهو يومئ برأسه:
, -احنا أعدين منتظرينك هنا.
, هتف هيثم وهو ينهض من مقعده:
, -أنا هاسبقكم على الدكان.
, هز الجد رأسه في استحسانٍ قبل أن يودعه:
, -**** يفتح عليك وعلينا أبواب الرزق.
, بتعابيره القلقة، تحرك تميم في خطوات سريعة ليتبع الطبيبة التي توقفت عند الحاجز الرخامي الخاص بموظفي الاستقبال، سألها في توجسٍ:
, -خير يا دكتورة؟ في حاجة؟
, أجابته بملامح مسترخية:.
,
, -لأ، اطمن، أنا بس حبيت أشكرك على جمب على مساعدتك ليا، إنت أثبتلي إن الحب ممكن يعمل المعجزات.
, لم يعرف إن كان يضحك أم يشعر بالغرور من حاله؛ لكن كل ما يخصه من مشاعر لا يحق لغيرها التمتع بها، لهذا حافظ على جمود تعابيرها، وأخبرها ببساطة:
, -إنتي عارفة كويس إني مقدرش أتأخر عن أي حاجة تخصها، ولو حكمت إن أرمي نفسي في النار عشانها مش هتردد للحظة.
, جاءه تعليقها صريحًا:
, -زي ما هي رمت نفسها عشانك زمان.
,
, أوضح لها بنفس التعابير الجادة:
, -هي مكانتش تعرفي، ولحد النهاردة كانت بتنكر إني نفس الشخص، لولا بس إن هيثم اتكلم.
, تنفست بعمقٍ قبل أن تطلب منه بنبرة عملية:
, -أستاذ تميم، لو **** أراد وعلاقتكم اتطورت للجواز تكون صبور معاها، فيروزة على أد ما تبان قوية؛ لكن من جواها متدمر، وحتى لو اتعالجت وبقت أحسن، لسه في شروخ محتاجة إنها تتلئم.
, قال كأنما يقطع وعدًا على نفسه دون أن يبتسم:.
,
, -اطمني يا دكتورة، يأذن بس **** ويجعلها من نصيبي، وأنا مش هاخلي حاجة تمسها.
, افترت شفتاها عن بسمة لطيفة وهي تردد:
, -أنا مطمنة عليها معاك، وربنا يجمعكم على خير.
, هزة خفيفة من رأسه أعقبها قوله الجاد أيضًا:
, -متشكر يا دكتورة.
, حبه العذب المنزه عن أي أطماع كان ملء كل قلبه، وعينيه، وكيانه، من يُدركه هم العاشقون، ومن يُصدق به هم المرتشفون من رحيقه المُسكر.
,
, انتفاضة غير موفقة من على الفراش قامت بها، وهي تستمع هاتفيًا إلى ما أخبرتها به إحدى صديقاتها حول انتشار منشورٍ ما خاص بقيام أحد الدجالين بالسحر لإضرار بعض الأشخاص، ومن بين الصور المعروضة كانت صورة توأمتها. حل الذهول على قسمات همسة واختلط بالخوف الشديد، بلعت بصعوبةٍ ريقها، وصاحت متسائلة في جزعٍ، ويدها موضوعة على صدرها الناهج في انفعالٍ:
, -إنتي متأكدة من الكلام ده؟
, أكدت عليها رفيقتها مرة أخرى:.
,
, -أيوه، و**** هي صورتها.
, حاولت التماسك، وطلبت منها وهي ترتجف قليلاً:
, -طب ابعتيلي البوست كده أشوفها.
, ردت قائلة:
, -حاضر، هاقفل معاكي وأجيبهولك.
, شكرتها بصوتٍ ما زال قلقًا:
, -تمام يا حبيبتي، هتعبك معايا معلش.
, رددت في تفهمٍ:
, -لأ عادي، أشوفك على خير.
, -إن شاء****
, قالتها وهي تنهي المخابرة الهاتفية معها لتنظر بعينين جاحظتين إلى الرسائل ولسانها يردد في صدمة محملة بالارتياع:
, -أعمال! هي فيروزة ناقصة!
,
, شهقة مسموعة انطلقت من بين شفتيها حين رأت ما تم إرساله لها، وصرخت في استنكارٍ مذعور:
, -دي فعلاً هي!
, شحب لون وجهها، وأحست بتسارع دقات قلبها، مع دوار خفيف برأسها، عاودت الجلوس على الفراش، وتساءلت في هلعٍ:
, -مين عاوز يأذيها بالشكل البشع ده؟!
, ظلت تردد في لوعةٍ:
, -استر يا رب، عديها على خير، احفظها من كل شر.
,
, نظرت همسة إلى كفيها المرتعشين، وضمتهما معًا محاولة إيقاف تلك الرجفة التي استبدت بها، وجدت نفسها تتساءل في خوفٍ أكبر:
, -دي لو عرفت ممكن تتنكس تاني، طب اتصرف إزاي؟!
, سيطرت عليها حيرتها، وأكملت معبرة عن الصخب المنتشر في رأسها:
, -واستحالة أقول لماما، هي لو عرفت مش هتخبي حاجة عنها، وبكده أنا بضرها.
, بالكاد سعت لضبط أعصابها قبل أن تتلف من الارتعاب، وظلت تردد لنفسها:.
,
, -إن شاء **** يومين والبوست ده يختفي من على النت، والناس هتنسى.
, واصلت التنفس بعمقٍ لتستعيد انضباط أنفاسها وهي ما زالت تدعو في تضرعٍ:
, -يا رب احفظها وماتضرناش فيها أبدًا.
,
, اسودت ملامحه، وأظلمت نظراته بشكلٍ واضح عندما عرضت عليه زوجته اقتراحها بطريقتها السلسة؛ وكأن الأمور بين العائلتين على وفاق تام، ولم ينشب بينهما أي صراع، خاصة ذلك الأخير الذي نجا منه ابنه بأعجوبة من الموت. على حين غرة، هب إسماعيل واقفًا، وضرب برأس عكازه على الأرضية في عصبيةٍ قبل أن يصيح آمرًا:
, -مش عايز سيرة في الموضوع ده تاني.
, قطبت سعاد جبينها، ونظرت إليه نظرة غبية وهي ترد متسائلة:
, -ليه يا حاج؟
,
, تجاهل الرد عليها، وخاطب ابنه بغلظةٍ، ووجهه ينتفض بعلامات الغضب:
, -إنت ناسي اتعمل فيك إيه يا فضل؟ ولا وصل الأمانة اللي عليك؟!
, ادعى بالكذب بعينين كسيرتين:
, -يابا بحبها، ودي لحمي وعرضي، ومهما عملت فأنا مسامح.
, التوى ثغره في تهكمٍ صارخ قبل أن ينطق:
, -طب خلي حد غيرك يقول كلام غير ده، جايز ساعتها أصدق.
, قبل أن يعلق عليه ابنها، هتفت سعاد تدعم اقتراحها بتفاؤلٍ كبير:.
,
, -سيبلي الموضوع ده يا حاج، وأنا هتصرف فيه، الحاجات دي الحريم بتخلصها وآ٣ نقطة
, قاطعها هي الأخرى بصبرٍ نافذ:
, - سعاد، أنا معدتش فيا حيل ألم ورا ابنك، شيلي الحكاية دي من مخك.
, حركت شفتيها لتعترض؛ لكنه أخرسها صائحًا:
, -مش هاعيده تاني، مافيش نقاش ولا رجوع في كلامي، سامعين.
, ضغطت على شفتيها في تبرمٍ غير مقتنعة به، ورمقته بتلك النظرة المحتجة، في حين لاذ فضل بالصمت ريثما انصرف والده، ثم انفجر شاكيًا إياه لها:.
,
, -شايفة يامه؟ أهوو على طول مكسر مأديفي.
, ابتسمت له في حنوٍ، وقالت:
, -ماتشلش هم، أنا هحلهالك.
, ألح عليها بسماجةٍ:
, -أه يامه، حليها..
, ثم استرق قلبها بادعاء الحزن وهو يكمل:
, -اجبري بخاطري بدل ما أنا مقهور في نفسي كده.
, هتفت متعهدة له وهي ترفع يدها لتربت على صدغه:
, -متقلقش يا ضنايا، أمك هتعملك كل اللي نفسك فيه.
,
, استرخى فضل في جلسته، وإحساسه بالانتشاء يزداد بداخله، ربما يبتسم له الحظ، وتفعل والدته ما عجز عن فعله، وتأتي له بها، ليذيقها من صنوف الانتقام أشكالاً وأنواعًا، سرعان ما أخفى فرحته الخبيثة ليأمرها:
, -بقولك إيه، ودي العيال دول عند البومة أمهم، كفاية كده عليهم، وخليني أفوق لنفسي.
, دون جدال أظهرت طاعتها الكاملة له، فقالت مبتسمة في سرور؛ وكأنها أَمَته التي تسترضيه لا أمه:
, -طالما إنت عايز كده ماشي.
,
, كل خاطرات نفسه عنها، وأمنياته بالاجتماع بها منذ إدراكه ببزوغ برعم الحب بداخله احتفظ بها في سراديب عقله، إلى أن يشاء المولى، ويجمع بينهما برباط الزواج المقدس، حينها فقط سيطلق العنان لشرارات الحب، والمشاعر، وكافة الأحاسيس لتبوح بما يطرب الفؤاد ويرويه. بعد تنبيهاتٍ شديدة اللهجة، ووعود تلك المرة نافذة اضطر تميم أن يبتعد مرغمًا عن محيط طاووسه، نأى عنها بروحه المشتاقة لرؤية بصيص منها اتباعًا لأمر والده الصارم بعد تجاوزاته غير المقبولة خلال زيارته لها. كان صارمًا في هذا الشأن، وكان محقًا في غضبه منه؛ لكن للقلب أهواء يتعذر على المُحب مغالبتها.
,
, استعان بالصبر وتشبث به لما يقرب من عشرة أيام، بعد عودتها السالمة إلى منزلها، كان لا يظهر في الدكان إلا في مراتٍ معدودة، بعد أن يستأذن والده بالحضور، ويتأكد من عدم تواجدها، حيث كُلف بمتابعة العمل مع هيثم، وأيضًا بالتوريد لإحدى سفن الرحلات الماكثة بالميناء البحري، مما استحوذ على غالبية وقته، وأصبح الكد والشقاء رفيقاه مؤخرًا، ومع ذلك بقي القلب قبل العقل مشغولاً بها.
,
, كان تميم مرهقًا للحد الذي جعله عاجزًا عن النوم بأريحية، بمجرد أن يستلقي على الفراش، يسقط في سبات سريع ليستيقظ بعد بضعة ساعات وهو ما زال يشعر بالتعب، ربما كان ذلك يساعده في الالتهاء عن التفكير فيها ليلاً؛ لكن مع النهار تراوده خلسة أحلام اليقضة، فيقاومها بأقصى ما يستطيع، وإن كان يسمح لقدرٍ منها بتسليته، وتهوين بعدها عنه.
,
, ذلك النهار، عاد إلى منزله مبكرًا، بعد أن تأخر وصول إحدى شاحنات نقل الفاكهة، فعرِج إلى المطبخ، وهناك استرق السمع لحديث هاجر مع والدته دون اكتراثٍ، خلال إحضاره لكوبٍ ليملأه بالماء البارد. قالت شقيقته ضاحكة:
, -ده أنا دوختها معايا، وهي الصراحة عندها أفكار حلوة، خلت الدنيا بسيطة.
, دعت لها ونيسة في ابتهاجٍ:
, -**** يسعدك يا حبيبتي، ويتمملك على خير.
,
, ضمت هاجر حاجبيها معًا في عبوسٍ مفتعل، وتساءلت وهي تضع يدها أعلى خاصرتها:
, -مش المفروض العروسة اللي زيي تريحلها يومين كده قبل كتب الكتاب؟
, أخبرتها والدتها وهي تكمل تقشير ثمرة البطاطس:
, -ليكي عليا يومها مخليكيش تحطي إيدك في قشاية.
, زمت شفتيها هاتفة في تذمرٍ:
, -و**** أنا حاسة إن سراج هيجي يلاقيني بأسيق الأرض.
, أتاها تعقيب والدتها ساخرًا:
, -وماله، عشان يعرف إنه متجوز ست بيت نضيفة وزي الفل.
, احتجت هاجر بتدللٍ:.
,
, -هو إنتي هتاخدي صفه من دلوقتي؟
, كتمت والدتها ضحكتها المازحة معها، فاشتاطت غيظًا، ووجهت حديثها إلى شقيقها:
, -ما تتكلم يا تميم؟ يرضيك كده.
, سحب تميم قطعة من الجزر المقشر، وقطمها بأسنانه، قبل أن يرد وهو يلكوها:
, -بصي لو فكر يزعلك في يوم هاخلصلك عليه.
, هتفت تدافع عنه في استنكارٍ:
, -بعد الشر.
, وضعت ونيسة إصبعيها على طرف ذقنها، ورددت بنظراتٍ ماكرة:
, -شوف البت!
, تساءل تميم بعد أن ابتلع ما في جوفه:
, -طبخالنا إيه يامه؟
,
, أشارت نحو الموقد، وأخبرته بابتسامة عريضة:
, -عملالك أنارب بالملوخية إنما إيه حكاية، هتاكل صوابع وراها.
, علق في استحسانٍ:
, -تسلمي يا ست الكل.
, سألته ونيسة في اهتمامٍ:
, -إنت نازل دلوقتي؟
, أجابها وهو يقرب باقي الجزرة من فمه:
, -كمان ساعة، مستني تليفون من الحاج عوف.
, ردت عليه بإيماءة من رأسها:
, -كويس أكون حضرت السفرة عشان تاكل.
,
, وضع تميم يده على كتف والدته ليربت عليه في حنوٍ، بينما استطردت هاجر قائلة بمكرٍ، وكل عينيها على وجه شقيقها:
, - فيروزة عزمانا على افتتاح المحل بتاعها، هتحضر يا تميم؟
, لم ينظر ناحيتها، وقال متهربًا من الرد:
, -عندي شغل.
, تساءلت هاجر في تعجبٍ:
, -غريبة، يعني إنت عارف ومش هتحضر؟
, جمع تميم البقايا التي انتهت والدته من تقشيرها بيديه، ووضعها في سلة القمامة خلال كلامه الجاف تقريبًا معها:.
,
, -أيوه، أبوكي قالي، باركولها بالنيابة عني.
, ابتسمت في لؤمٍ وهي تحاصره بسؤالها العبثي:
, -وبرضوه مش هتيجي؟ هيجيلك قلب؟
, كعادته لم يحبذ أبدًا استباحة غيره لما يخصه، فقال بتعابير جادة للغاية:
, -شوفي يا هاجر وراكي إيه.
, ثم انصرف من المطبخ وهو يزفر بصوتٍ مسموع، استغربت شقيقته من ردة فعله الجافة، ونظرت إلى والدتها متسائلة بصوتٍ خفيض:
, -هو ماله؟
,
, لم تبدُ ونيسة مهتمة بتفرس ملامحه لمعرفة ما الذي يؤرق باله، كان الرد حاضرًا ومنطقيًا، فهتفت تأمر ابنتها:
, -سيبي أخوكي في حاله، وهاتي كام لمونة من التلاجة أما أعملهم ليمون خلاط يروق بيها دمه، ده مهدود حيله ليل نهار.
, ردت بعد زفير ممتعض:
, -حاضر.
,
, اتجهت إلى الثلاجة لتفتش في واحدٍ من الرفوف عن الليمون؛ لكن صوت قرع الجرس جعلها تتوقف عن البحث، اعتدلت في وقفتها، والتفت إلى والدتها التي أشارت لها قائلة بصيغة بدت آمرة:
, -روحي شوفي مين على الباب الأول.
, تهدل كتفاها وهي تخطو نحو الخارج؛ لكن تميم رفع يده أمام وجهها يخبرها:
, -خليكي أنا هفتحه.
, -طيب.
,
, قالتها وهي تتراجع عائدة إلى المطبخ، ليكمل بعدها سيره نحو الباب بتكاسلٍ متعب. أدار المقبض ليفتحه، وآخر ما جال بخاطره أن تكون فيروزته حاضرة أمامه بشحمها ولحمها! أبصرت عيناه البهاء الساحر الذي ملأ الفراغ من حولها، فجعله عاجزًا عن النظر إلى ما سواها، تركزت كامل حواسه معها، وانفرجت شفتاه عن بسمة نقية عذبة، ليس لأنها تتطلع إليه في اهتمامٍ غير اعتيادي منها، وإنما لتلك الابتسامة الرقيقة المتشكلة على ثغرها وهي تهمهم مرحبة:.
,
, -مساء الخير عليك٣ نقطة!
 
١٧

عشرة أيام ثقال، عجاف، مروا عليه بغير يسرٍ، لمحة منها جعلته يرتوي بعد لوعة واشتياق، كان كمن يسير في قيظ الصحراء، يبحث عن ماء يطفئ به اللهيب المستعر في صدره، ويبلل جوفه الذي أصابه القحط، فجاءت هي بنسماتها العليلة، ورياحها اللطيفة، لتشيع في روحه السكينة والهناء، ارتوى بعد عطش، امتلأ بعد جوع، ويا له من شعور!
, انتبه من شروده المتطلع في حُسن غير متكلف، في جمال غير مبهرج، حين نطقت بابتسامة صغيرة:.
,
, -أنا أسفة لو كنت جيت من غير ميعاد٣ نقطة
, وكأن الحروف فرت من على لسانه، حملق فيها بنظراته الهائمة الدافئة، وأصغى بقلب يخفق في سعادة لباقي كلامها:
, -بس كنت اشتريت ل هاجر الحاجات اللي طلبتها، وخوفت تتبهدل مني، فقولت أجيبها وأسيبها هنا لحد ما أجهزها للحفلة.
, بادلها الابتسام وهو يرد مرحبًا بحرارة لا تعبر عن قدرٍ بسيط عما يسود بداخله:
, -إنتي تيجي في أي وقت، ده بيتك يا أبلة.
,
, النظرات التي يمنحها لها كانت إلى حد كبير تشعرها بالألفة، بشيءٍ يتخطى المجاملة بكثير، تغاضت عما تفكر فيه الآن، وردت في تهذيبٍ وهي تخفض رأسها:
, -شكرًا ليك.
, امتدت يداه لتلتقط عنها الأكياس وهو يستأذنها:
, -عنك.
, اهتمامه البسيط بها ضاعف من الإحساس الغريب –واللذيذ- المتنامي بداخلها، قالت في حرجٍ وهي ترفع رأسها لتنظر إليه بوجهٍ شبه متورد:
, -عشان ماتعبكش.
, أصر عليها بتعابيرٍ شاعت فيها المرح:.
,
, -ودي تيجي، عيب و****.
, قدمت يديها للأمام، فتناول عنها الأكياس وهو حريص كل الحرص ألا يلمس أناملها، رغم ازدياد المشاعر الحسية وانطلاقها في وجدانه، ظل باقيًا في مكانه؛ لكنه تنحى للجانب ليفسح لها بالمرور وهو يدعوها للدخول:
, -اتفضلي يا أبلة.
, أطرقت رأسها قائلة بصوتٍ شبه منخفض:
, -شكرًا.
, جاء صوت هاجر متسائلاً وهي تشد ال**** على رأسها:
, -مين يا تميم؟
,
, أجابها بنبرة عالية إلى حد ما؛ كأنما يؤكد على الرابط العزيز بين الاثنتين:
, -صاحبتك الغالية يا هاجر.
, أتت على الفور وهي تهتف مرحبة بوجه مبتسم للغالية:
, -وأنا عمالة أقول البيت نور.
, دون انتظارٍ احتضنتها وضمتها بكلتا ذراعيها في حميمية عميقة، لتدل على مدى سعادتها برؤيتها، اندهشت فيروزة من هذا الاستقبال الحار، وانسلت من أحضانها قائلة بابتسامةٍ لطيفة:
, -شكرًا على ذوقك.
,
, جففت ونيسة يديها في منشفة صغيرة، وانضمت إليهم متسائلة:
, -هو احنا عندنا ضيوف؟
, صححت لها هاجر بضحكة مسموعة:
, -ضيوف مين، دي فيروزة.
, مثل ابنتها انطلقت الأم ترحب بها بنفس الحرارة وأشد، قبلتها من وجنتيها بعشرات القبلات، بعد أحضانٍ أمومية دافئة، وهي تردد:
, -يا 300 مرحبا، نورتي يا غالية، ده احنا لازمًا نفرش الأرض ورد..
, تراجعت عنها فيروزة، بينما استمرت ونيسة في ترحابها وهي تسحبها من ذراعها نحو غرفة المعيشة:.
,
, -تعالي يا حبيبتي، اتفضلي، مش هتفضلي واقفة كده على الباب.
, حاولت التملص من تلك الدعوات المغرية، واعتذرت بلباقة:
, -مافيش داعي، شكرًا ليكم على كرمك٣ نقطة
, ثم وجهت باقي حديثها ل هاجر، ويدها تشير إلى تميم:
, -دي حاجتك اللي كنتي عايزاها.
, تهللت أساريرها في سعادة كبيرة، وركضت نحوه لتأخذ أشيائها قائلة:
, -****، بجد؟ ده أنا لسه بأحكي لأمي، وبأقولها دوختها معايا.
, علقت عليها فيروزة مبتسمة في رقة:
, -ده شغلي، مافيش فيه تعب.
,
, صاحت ونيسة قائلة بإصرارٍ وهي تشير بيدها نحو الأريكة:
, -هتتكلمي على الواقف كده، تعالي ارتاحي من المشوار.
, بنفس الأسلوب اللطيف اللبق قالت:
, -مافيش داعي، أنا كنت بجيب الحاجة وآ٣ نقطة
, قاطعتها في عبوسٍ رافضة التنازل عن دعوتها:
, -و**** ما ينفع أبدًا، ده أنا لسه عاملة لمون فريش بالنعناع، اسألي تميم عنه.
, ردت عليها ابنتها تمتدح صنيع يديها:
, -ولا أجدعها معصرة، لما تدوقيه هتعرفي.
,
, تلقائيًا اتجهت أنظار فيروزة نحو تميم الذي أخفض نظراته عنها حين أمسكت به يتطلع إليها، ثم سرعان ما عاودت النظر إلى ونيسة التي هتفت تأمر ابنتها:
, -هاتيه بسرعة لحبيبتنا.
, قالت هاجر وهي تومئ برأسها قبل أن تختفي بالداخل ومعها متعلقاتها:
, -على طول أهوو.
,
, جلست فيروزة على الأريكة، وإلى جوارها ونيسة التي ظلت تمنحها من الابتسامة الودودة ما جعلها يشعر بالمزيد من الألفة والمحبة الصافية، في حين ظل تميم باقيًا على مسافة بينهما، بالكاد تحرك من مكانه، ربتت والدته على ذراع ضيفتها لتتنبه لها قبل أن تضيف:
, -مسافة ما تشربي اللمون يكون الأكل استوى، عشان أجهز السفرة، وتتغدي بقى معانا.
, اعترضت عليها بشدةٍ، وقد ظهر الارتباك عليها:.
,
, -لالالا، مش هاينفع و****، ده أنا يدوب أنزل.
, ارتفع إصبعاها نحو طرف ذقنها، وضعتهما عليها كتعبيرٍ عن انزعاجها، وعاتبتها في تذمرٍ:
, -يادي العيبة؟ تنزلي كده من غير ما نقوم معاكي بواجب، و**** عمك الحاج يزعل مني.
, عضت على شفتها للحظةٍ قبل أن تنطق:
, -وقت تاني معلش.
,
, عادت هاجر إليهم وهي تحمل صينية تضم كوبين زجاجين من عصير الليمون الطازج، قدمت الكوب الأول للضيفة العزيزة، قبل أن تقدم الآخر لشقيقها الذي رمقها بنظرة غامضة غير راضية عن هذا التصرف العبثي المقصود منها، بطرف عينه التقط التفات رأس فيروزة نحوه، حتمًا كانت تتابع خطوات شقيقته، وربما أحرجها ذلك بشكلٍ ما، شتت تميم نظراته عن شقيقته لينظر إلى والدته التي هتفت في استنكارٍ:.
,
, -شوفي صاحبتك يا هاجر، عايزة تنزل كده من غير ما نضايفها!
, بررت لها فيروزة سبب رفضها على الفور:
, -و**** عشان الحاجة متتبهدلش أنا جبتها على طول على هنا، مرة تانية.
, أمام إصرارها اضطرت ونيسة ألا تضغط عليها، وسألتها في تجهمٍ:
, -طب اشربي اللمون، ولا ده كمان لأ؟
, قالت مبتسمة في رقةٍ:
, -حاضر.
,
, ثم رفعت الكوب إلى شفتيها لتتذوق أشهى عصير ليمون لم تتذوق في حلاوته من قبل، لم تنكر أنه جاء في وقته فجعلها تنتعش، عفويًا اتجهت عيناها نحو تميم وشقيقته تخاطبه:
, -ما تتفضل يا تميم، ده اللمون اللي إنت بتحبه.
, هتف في رسميةٍ وهو يرمقها بتلك النظرة المحذرة:
, -متشكر يا هاجر.
, لم تستطع هاجر منع نفسها من القول؛ لكن بصوت خفيض، وتلك النظرة المتسلية على وجهها، خاصة أن كان يقف مستندًا إلى جوار شجرة صناعية تزين الركن:.
,
, -لمون وشجر أهوو.
, أعطاها الكوب بعد أن ارتشف منه مقدارٍ قليل، وقال في لهجةٍ رسمية بحتة:
, -طيب يامه أنا نازل.
, سألته ونيسة في دهشةٍ لا تخلو من الاستنكار:
, -مش هتتغدى إنت كمان؟
, أخرج هاتفه من جيبه، وقال بتعابيرٍ شبه جامدة:
, -الحاج عوف بيرن عليا، تلاقيه في الدكان دلوقتي، أنا هاروحله.
, لاحقته والدته بسؤالها الأمومي المهتم:
, -هتنزل على لحم بطنك؟
,
, هز رأسه قائلاً بصوتٍ جاف، ودون أن ينظر في اتجاه فيروزة التي كانت تتطلع إليه بتعجبٍ:
, -هخلص معاه على طول، وأرجع، مش هتأخر.
, اعترضت عليه هاجر وهي تومئ بحاجبها:
, -بس الأكل هيبرد.
, سدد لها نظرة قوية قبل أن يرد:
, -هاكله لو كان طوبة٣ نقطة
, لم تبدُ تعابيره لينة وهو يكمل مخاطبًا والدته:
, -ده كفاية تعبك في عمايله يا ست الكل.
, دعت له الأخيرة بملامح ممتنة للغاية:
, -**** يوقفلك ولاد الحلال ويراضيك زي ما بتراضيني دايمًا.
,
, في تلك اللحظة تحديدًا، تمنت فيروزة أن تحظى بنظرة مهتمة منه، لا تعرف ما الذي أصابها لترغب في هذا، واندفعت تلوم نفسها للتفكير في شأنه أمام عائلته الوقورة، ومع هذا لم تتحقق أمنيتها البسيطة، ولم ينظر إليها، بل انطلق متجهًا إلى الباب ليخرج من المنزل دون أن يودعها مثلما اعتادت أن يفعل، وهذا ما أثار حفيظتها. تبدد ضيقها مثلما تشكل في لمح البصر عندما جلست هاجر على الأريكة الجانبية، واستطردت تكلمها:.
,
, -فرصة يا فيروزة تشوفي المكان وتقولي هنعمل إيه هنا.
, تنحنحت مرددة باقتضابٍ وهي تشدد من قبضتها الممسكة بالكوب:
, -أوكي.
,
, عند مدخل البناية وجد والده يترجل من سيارة ربع النقل المملوكة لهم، دقق النظر فيه، فوجده يودع السائق بعد أن أعطاه ورقة نقدية زائدة عن أجرته اليومية جراء تعبه طوال اليوم معه، ابتسم لإحسانه غير المنقطع مع الجميع دون تمييز، وانتظر متواريًا عن الأنظار ريثما يذهب السائق ثم تابع التقدم نحوه. اندهش بدير من وجوده، وسأله بملامح يملأها الاستغراب:
, -رايح فين كده؟
, أجاب بعد زفيرٍ سريع:.
,
, -الدكان، هستنى الحاج عوف هناك.
, علق عليه بنفس التعابير الحائرة:
, -ما تنزل أما يطلبك، ده لسه في سوق الجملة، أنا كنت مكلمه من 10 دقايق.
, ضغط تميم على شفتيه مرددًا في حرجٍ:
, -معلش، ده لازم.
, تفرس بدير في وجه ابنه الواجم، وتساءل مستفهمًا:
, -هو في حاجة؟
, تردد قبل أن يجيبه بنظرة سريعة للأعلى:
, -أصل، الأبلة فوق عندنا.
, لم يستمر بدير في طرح أسئلته، وقال بابتسامة رضا تعلو ثغره وهو يربت على كتفه عدة مراتٍ:.
,
, -فهمتك، **** يكرمك.
, أطلق زفرة طويلة يائسة قبل أن يقول بعدها بتعابير يكسوها السأم:
, -يا رب.
, نصحه والده بوجه ما زال رائق التعبيرات:
, -استحمل، فاضل حاجة بسيطة، ماتبوظشهاش عشان قلة الصبر.
, قال في تبرمٍ:
, -هو أنا عندي إلا هو.
, من جديد ربت بدير على كتفه يستحثه:
, -اتوكل على ****، وربنا يوفقك.
,
, ودّع أبيه، وانطلق سائرًا نحو سيارته المصفوفة في الناحية المقابلة، حانت منه نظرة للأعلى آسفة على الابتعاد عنها؛ لكنه كان مضطرًا احترامًا لما قطعه من وعود، وقلبه ينبئه تلك المرة أن القُرب منها أصبح وشيكًا!
,
, خلال العشر دقائق التالية انشغلت فيروزة بتدوين بعض الملحوظات الأساسية في مفكرة ورقية صغيرة عن كيفية إعادة تنسيق المكان بالشكل الذي يسمح لوضع لمسة جمالية فيه، مع توسيعه، ليستقبل عددًا لا بأس به من المدعوين، التفت برأسها للخلف ناظرة نحو الجد سلطان الذي هتف مرحبًا بها:
, -البدر نزل من السما وموجود عندنا.
, أقبلت عليه تسأله:
, -إزي حضرتك؟
, أجابها مبتسمًا في حبور:
, -بقيت أحسن لما شوفتك.
,
, أحست بالمزيد من الدفء والسرور يغمرها، بجوٍ أسري مستقر لطالما رغبت في التنعم به، وجدت نفسها تنحني لتمسك بكفه، وترفعه لفمها لتقبله وهي تردد:
, -**** يباركلنا فيك.
, مسح بحنوٍ على جانب ذراعها، وسألها:
, -وإزي الست والدتك وأختك؟ بخير؟
, أومأت برأسها وهي تجيبه:
, -أه الحمد**** في نعمة.
, علق بنفس الوجه المبتسم:
, -يدوم يا رب٣ نقطة
, ثم أشار بيده نحو غرفته متابعًا:
, -هاخش أكمل قراية في المصحف، أنا قولت أجي بنفسي أسلم لما سمعت صوتك.
,
, شعرت بالغبطة بعد تصريحه، وقالت بابتسامة أشرقت ملامحها:
, -**** يخليك ليا يا جدي.
, رد عليها داعيًا بصدقٍ:
, -ويحسن ما بين إيديكي يا بنتي.
,
, بخطواتٍ شبه متهادية، سارت متأبطة ذراعه، وباليد الآخرى تناولت آخر قطعة في الحلوى التي ابتاعها لها، استلت ذراعها منه، لتقترب من إحدى حاويات النفاية، وألقت بالورقة بداخلها، ثم عادت إليها متابعة مشيها في صمتٍ يدعو للريبة. نظر هيثم إليها بإمعانٍ، قسماتها أوحت أنها تخفي شيئًا ما عنه، قرر عدم تجاهل هذا الشعور المزعج الذي يراوده، لهذا سألها مباشرة:
, -مالك يا هموسة؟ بقالك كام يوم متغيرة.
,
, أجابت بعد زفيرٍ بطيءٍ:
, -مافيش يا هيثم.
, كان غير مقتنعٍ بردها، فلاحقها بالسؤال التالي:
, -إنتي مخبية عني حاجة؟
, نفت في هدوءٍ، وملامحها ما زالت تعبر عن وجود همٍ ثقيل:
, -لا عادي.
, ضاقت نظراته متشككًا، واستطرد يخبرها:
, -شكلك بيقول غير كده، هو إنتي مضايقة مني؟
, نظرت إليه قائلة دون تفكيرٍ:
, -لأ يا حبيبي
, رد في صبرٍ بدا شبه نافذ:
, -أومال في إيه بس؟
, وقبل أن تسيء تفسير ضيقه، بادر بالتوضيح:
, -مش احنا اتفقنا مانخبيش على بعض حاجة؟
,
, حركت رأسها قائلة وهي تنظر في عينيه:
, -أيوه.
, رمقها بتلك النظرة اللطيفة وهو يخاطبها:
, -ها، أنا مستني.
, ترددت وهي تحاول إجبار نفسها على البوح بسبب انزعاجها:
, -بصراحة كده آ، من كام يوم آ..
, لم تجد بدًا من إخفاء الأمر، وألقت ما في جعبتها قائلة:
, -حصل إني اتبعتلي منشور على الفيس بوك.
, زاد الفضول بداخله، وسألها بلا تعجلٍ:
, -ماله يعني؟
, تابعت بنظراتٍ ساد فيها القلق:
, -عن حد عملها عمل.
, هتف في صدمة مستنكرة:
, -نعم، عمل؟!
, أكدت عليه:.
,
, -أيوه.
, علق في عدم فهمٍ:
, -إزاي يعني.
, تنفست بعمقٍ، ثم طردت الهواء من صدرها، لتقص عليه بالتفصيل ما علمته من صديقتها، بل إنها جعلته يرى ما تم إرساله لها عبر هاتفها، ليتأكد من سبب مخاوفها المبررة. خنقت همسة غصة علقت بحلقها تأثرًا بالأمر، وأيضًا بسبب تأثير هرمونات الحمل عليها. مرة أخرى سحبت شهيقًا عميقًا، ولفظته على مهلٍ وهي تخبره:.
,
, -وخايفة بقى لأحسن فيروزة تشوفه بالصدفة على أي جروب، اللي مطمني إنها بقالها فترة مش بتتابع حاجة عليه، بس وارد تعرف عنه.
, حك مقدمة رأسه متسائلاً، وعيناه تحاولان فحص ملامح الوجه غير الواضح نظرًا لوجود عبارات غريبة عليه تفسد إظهار تفاصيله:
, -إنتي متأكدة إنها هي؟
, ردت بعينين تلمع فيهما العبرات:
, -أيوه، هو أنا مش هعرف أختي؟ ده غير إن نفس اللبس كان عندي بس بلون مختلف.
, أعاد إليها الهاتف، وتساءل في غيظٍ:.
,
, -تفتكري مين ابن ال (، ) اللي ممكن يعمل كده؟
, هزت كتفيها قائلة وهي تضع الهاتف في حقيبتها:
, -معرفش، أصل احنا مالناش عدوات مع حد يعني، ولا علاقتنا بالناس هناك أد كده، يدوب على أد زيارات سنوية كل فين وفين.
, التوى ثغره مغمغمًا بسخطٍ:
, -ما جايز يكون البغل قريبك.
, برقت عيناها في ذهولٍ، وردت عليه بقلبٍ يدب في خوفٍ:
, -احتمال برضوه، بس إيه اللي يخليه يعمل حاجة زي كده؟ ده يبقى ندل أوي.
, بنفس النبرة الساخطة علق عليها:.
,
, -أنا مستبعدش عنه حاجة، يعني أنا مش عايز أشتمه قصادك.
, أراحت همسة يدها على صدرها، ودعت في تضرعٍ بصوتٍ خافت:
, -**** يستر، ويحفظها من كل شر، هي مش ناقصة.
, انتبهت لزوجها وهو يقول فجأة مشيرًا بيده نحو إحدى البنايات:
, -احنا وصلنا.
, دارت بعينيها في المكان، وسألته في حيرة:
, -وصلنا فين؟
, شبك يده في كفها، وقال وهو يدفعها للسير نحو المدخل:
, -تعالي، دلوقتي هتعرفي.
,
, لم يتعجل صعودها السلم، وتحلى بالصبر رغم الحماس المسيطر عليه، والذي يدفعه لرؤية ردة فعلها حينما تعلم عن المفاجأة التي أعدها لها. بمجرد أن وصل إلى الطابق المنشود، أشار بيده نحو أحد الأبواب الخشبية، نظرت إليه همسة نظرة متسائلة، فلم يجبها، وحافظ على عنصر التشويق في مفاجأته، أخرج من يده المفتاح ليضعه في القفل الخاص به ويفتح الباب، ما زال الفضول الممزوج بالحيرة مسيطرًا على زوجته، وألحت عليه:.
,
, -ما تقولي يا هيثم، احنا جايين هنا ليه؟
, دفع الباب بيده، ودعاها للدخول بابتسامة عريضة أبرزت صفي أسنانه:
, -سمي ب**** كده وإنتي داخلة.
, رددت بحاجبين معقودين:
, -إيه ده؟
,
, وطأت داخل البهو المعتم كليًا إلا من إنارة البسطة المنتشرة بشكلٍ غير متكافئ، فمد هيثم يده ليضغط على المفاتيح الجانبية فأنارته برمته. مسحت بعينيها تفاصيله سريعًا، حيث وجدت بعض أدلاء الطلاء، والعدة المستخدمة معه، بالإضافة لأوراق متناثرة هنا وهناك، ارتفع بصرها نحو الحوائط فوجدت ألوانها فاتحة تبعث البهجة على النفس، استمرت في تقدمها هاتفة بإعجابٍ:
, -ماشاء****، ده إيه المكان ده؟
,
, أغلق باب المنزل، وأخبرها وهو مسلط كل عينيه عليها:
, -بيتك يا هموسة.
, التفت كليًا لتنظر إليه بتلك التعابير المصدومة، ورددت في عدم تصديقٍ:
, -بيتي؟
, دنا منها موضحًا:
, -أيوه، ما دي المفاجأة اللي كنت بجهزهالك بقالي فترة.
, وضع كلتا قبضتيه على ذراعيها، واستكمل توضيحه بابتهاجٍ لا يمكن إنكاره:
, -هي لسه قدامها شوية عقبال ما نخلص الدهان، ونغير كام حاجة، وتكون جاهزة.
, قفز قلبها طربًا، وسألته بابتسامة سعيدة للغاية:.
,
, -أنا مش مصدقة، بس إنت عملت كده إزاي؟
, ما زالت يداه تتحركان صعودًا وهبوطًا على جانبي ذراعها وهو يقول معترفًا:
, -الحمد**** القرشين اللي معايا على كام مصلحة قومت بيهم، وربنا بيكرم، ومانكرش جوز خالتي قايم بالواجب معايا، ده غير تميم مقصرش الصراحة.
, عقبت في امتنانٍ:
, -**** يبارك فيهم، ناس أصيلة.
, عادت لتتأمل أرجاء المنزل مجددًا وهي تخبره:
, -بس الشقة أصلاً باين عليها متوضبة.
, أجابها بعد لحظة من التردد:.
,
, -ما هي كانت شقة خلود القديمة، اللي اتجوزت فيها، وآ٣ نقطة
, حملقت فيه بقليلٍ من الدهشة، بينما تابع هيثم كلامه بحرجٍ:
, -بدلتها معاه بيتي القديم، ودفعت فرق بسيط.
, لاحظ أمارات الوجوم التي ظهرت على محياها، فسألها في توجسٍ:
, -مالك؟
, ضمت شفتيها للحظاتٍ وهي تنظر إلى ما حولها، بدت إلى حدٍ ما متحفظة عندما تحدثت أخيرًا:
, -مش عارفة، بس مش جايز جوز أختك يكون زعلان إنه باعها، وخصوصًا إنها كانت بيتهم، وآ٣ نقطة
,
, قاطعها موضحًا الأمر ببساطة:
, -لا بالعكس، كان مرحب جدًا، لأنها مش ساكن فيها، ومركونة على الفاضي، ده غير إن عنده شقة تانية فوقنا.
, تفاجأت من كلماته الأخيرة، ورددت:
, -ماشاء****، **** يزيد ويبارك.
, لم يرغب هيثم في إثارة الماضي بآلامه وذكرياته، خاصة ما يتعلق بشقيقته الراحلة، أراد التركيز على الحاضر، والتطلع إلى المستقبل بكل قوة وإرادة، لهذا تجاوز عن تلك الأحزان، ليسألها مجددًا في ترقبٍ:.
,
, -ها إيه رأيك في بيتك المتواضع؟
, في البداية كانت ملامحها هادئة، غير مقروءة له، جعلته يشعر بالخوف من احتمالية رفضها؛ لكنها فاجأته حين تبدلت للابتسام والرضا وهي تجيبه:
, -دي جنتنا يا حبيبي، أنا وإنت و٣ نقطة
, وضعت يدها على بطنها المنتفخ تتحسسه في رفقٍ وهي تكمل:
, -والنونو اللي جاي.
,
, وجد نفسه ينحني على بطنها، وكلتا يداه تدوران في حركة دائرية عليها، طبع قبلة حانية عليها، ثم أسبل عينيه نحو زوجته قائلاً بكل ما يعتمر قلبه من فرحةٍ وسرور:
, -**** يحفظكم ليا٣ نقطة!
 
١٨

أخرج ورقة نقدية من حافظته أعطاها لعامل المقهى الذي أمده بكوبٍ آخر من الشاي، بعد أن منح جميع العاملين بداخل دكان ابن خالته ما ينقصهم من مشروباتٍ ساخنة. فرك تميم جبينه براحة يده لبضعة مراتٍ، ثم نظر بشرود إلى المارة قبل أن يتطلع إلى ساعة هاتفه المحمول. ما زال ماكثًا بالخارج كعادته، لا يعود إلا عند اللزوم، أو في وقت النوم، تجنبًا لأي محاولات للقاء بها ولو مصادفة، خاصة بعد أن عرف بتوليها مهمة تزيين المنزل من أجل مراسم عقد قران شقيقته به.
,
, كان يقتله الشوق، ويعذبه البُعد عنها؛ لكن لا مهرب من الوفاء بعهوده، تحتم عليه إبقاء تلك المسافة إلى أن يشاء المولى، ويجمعهما سقف واحد. التفت برأسه نحو الجانب حين سمع صوت هيثم يناديه من مسافة شبه قريبة:
, - تميم!
, أشار له بيده وهو يرد:
, -تعالى.
, سحب مقعدًا وجلس إلى جواره متسائلاً بصوتٍ لاهث:
, -إيه الأخبار؟
, أجابه مستخدمًا يده في التوضيح:
, -اتعملت توصيلات التلاجة، واتقفلت علبة الكهربا، يعنيي فاضل كام حاجة ونخلص.
,
, ردد مبتسمًا في سعادةٍ:
, -طب كويس، كتر خيرك يا ابن خالتي، ليل نهار متابع مكاني.
, لوى ثغره متحدثًا بعد زفيرٍ بطيء:
, -وأنا ورايا إلا كده.
, حمحم تميم بعدها يسأله وهو يعقد ساعديه أمام صدره:
, -وإنت الدنيا تمام معاك؟
, أومأ هيثم برأسه قائلاً:
, -أيوه.
, سأله بنظراتٍ مترقبة:
, -وريت جماعتك الشقة؟
, كانت تعابيره مسترخية على الأخير وهو يجيبه:
, -أه، الحمد**** عدت على خير.
, امتدت يده لتربت على فخذه بربتة قوية معلقًا بابتسامة صغيرة:.
,
, -**** يباركلكم فيها، ويجعلها عتبة خير عليكم.
, أمن عليه داعيًا:
, -يا رب.
, جاء عامل المقهى مرة أخرى ومعه كوب الشاي، وضعه أمام هيثم قائلاً بنبرة أليفة:
, -شاي في الخمسينة للمعلم.
, رد يشكره في ودٍ:
, -تسلم يا رزق.
, انتظر ذهابه ليبدأ بعدها في توجيه الحديث إلى تميم بملامح مالت للوجوم:
, -صحيح كان في حاجة عايز أقولهالك بخصوص الطاعون الأزلي قريب مراتي.
, وكأن تعابيره قد حل عليها السواد، فبدا أكثر نفورًا وهو يتساءل:.
,
, -ماله البغل ده؟
, ارتشف قدرًا من شايه، وأجابه بتأففٍ لا يخلو من الانزعاج:
, -هو أنا مش متأكد، بس مراتي شاكة إنه يكون عامل لأختها عمل.
, انتفضت كافة حواسه كأن عقربًا لدغه، وهتف بصوت أقرب للزئير من شدة غضبه:
, -نعم! اتجن في عقله ده ولا إيه؟
, لم يندهش هيثم من الثورة العارمة المستبدة بابن خالته، فهو مثله يمقته مقتًا شديدًا، وقد يتفق الاثنان معًا في ازدياد كراهيتهما له، أخرج هاتفه من جيب بنطاله، وعبث به قائلاً:.
,
, -استنى أوريك المنشور، ما أنا بعته ليا.
, كور تميم قبضة يده ضاغطًا على أصابعه بغيظٍ مكبوت حتى ابيضت مفاصله، وما إن أمسك بالهاتف، ورأى ما احتل الشاشة حتى انفلتت منه سبة نابية يلعنه بها:
, -ابن ال٣ نقطة!
, ظن هيثم من فرط انفعال ابن خالته المرئي أنه سيحطم الهاتف في يده، فاستعاده منه، وقال بتحفزٍ واضح عليه:
, -والصراحة أنا مش عاوز أفوتهاله.
,
, بكل ما يستعر في صدره من غضب، وحقد، وغل، هب تميم واقفًا ليخبره بنظراتٍ مرعبة لا تبشر إلا بكل ما هو مخيف:
, -ومين قالك إني هعديها.
, انتبه ابن خالته في جلسته، يراقب ما يفعله وهو يخابر أحدهم، أنصت إليه عندما استطرد آمرًا:
, -عايزك يا ناجي تجهزلي الرجالة في طلعة كده، تفضيهم لو مش فاضيين، سامعني.
, بقيت أنظاره مسلطة عليه، و تميم يتابع مكالمته بنفس اللهجة الصارمة:
, -استنى مني مكالمة تانية هاقولك تعمل إيه.
,
, لم يلقِ التحية، وأغلق الخط ليشرع في الاتصال بأحدٍ آخر، تساءل هيثم في فضولٍ متحمس:
, -إنت ناوي على إيه؟
, اكتفى بالإشارة له بسبابته قبل أن يتحدث هاتفيًا بغموضٍ:
, -أيوه يا أستاذ، عايزك في خدمة على السريع، بس ضروري تتقضى النهاردة.
, جاءه صوت المحامي مُطيعًا:
, -تحت أمرك.
, انخفضت نبرته إلى حد كبير وهو يكمل:
, -شوف يا أستاذنا٣ نقطة
, في حين ردد هيثم مع نفسه بفضولٍ ما زال يتضاعف بداخله:
, -شكلك هتولعها يا تميم!
,
, حتى لا تتكبد مشقة الذهاب والعودة، أقامت فيروزة عند شقيقتها خلال اليومين التاليين في غرفة الأطفال، ولم تمانع والدتها في المكوث أيضًا، وجاءت مع رقية لتقديم المساعدة للعروس المرتقبة. أصبح الجميع كخلية نحلٍ يتعاونون معًا من أجل تنظيف المكان، وإعداده للحفل العائلي الذي أصرت عليه هاجر عند عقد قرانها، بينما تمسك سراج برأيه في إقامة ليلة عرس كبيرة وقت زفافهما.
,
, نهضت آمنة من على الأريكة بعد أن أنهت تطريز منديل عقد القران، وعرضته على العروس متسائلة:
, -ها يا حبيبتي، أزود حاجة عن كده؟
, تأملت ما صنعته يدها من إعادة تجميل المنديل القماشي السادة الذي ابتاعته فيروزة بشكلٍ رقيق وجذاب، ثم هتفت تشكرها في حبورٍ ممتن:
, -****، حلو أوي، تسلم إيدك يا طنط، دي حاجة حلوة أوي، أنا تعبتك معايا.
, علقت قائلة بلطافةٍ:
, -على إيه يا حبيبتي، دي حاجة بسيطة، أطلبي وأنا أعملك الحلو كله.
,
, نظرت إليها بعينين مشرقتين وهي ترد:
, -**** يخليكي.
, طوت آمنة المنديل، وأكملت موضحة لها:
, -ناقص بس يكوى عشان الكرمشة، وتثبيت الفصوص، هاطلع أفرده فوق عند همسة، وبالمرة أنيم كوكي، عينيها نعوست.
, مع كلماتها الأخيرة كانت تنظر نحو الصغيرة رقية التي واصلت التثاؤب مرة بعد مرة، قبل أن تميل برأسها على مسند الأريكة العريض لتستريح عليه. ركزت هاجر نظرها عليها، وقالت في تعاطفٍ:
, -حبيبتي، طول اليوم أعدة ب سلطان.
,
, قالت آمنة ضاحكة، وهي تستحث الصغيرة على النهوض:
, -دي فكراه لعبتها.
, ردت عليها هاجر مبتسمة ابتسامة صغيرة:
, -**** يبارك فيهم.
, أومأت برأسها مرددة:
, -يا رب.
, ثم استدارت نحو ابنتها المنهمكة في تثبيت قماش الستان الأبيض المطعم بوردات بيضاء حول عمود الجرانيت الجانبي، وسألتها في اهتمامٍ:
, -إيه الأخبار عندك يا فيروزة؟
, كانت الأخيرة منحنية عليه وهي تجاوبها:
, -أنا قربت أخلص، فاضل الحتة دي، ويبقى كله تمام.
,
, هتفت آمنة قائلة في سرورٍ:
, -على بركة ****.
, ثم أتبعت كلامها بإطلاق بضعة زغاريد عالية ابتهاجًا بالمناسبة السارة، لتتوقف بعدها وهي تدعو:
, -**** يتمم على خير.
, جاءت إليها ونيسة وهي تحمل كومة من الثياب المطوية بعد أن انتهت من جمعها، لتهتف بضحكاتٍ قصيرة:
, -أيوه بقى الزغاريط الحلوة.
,
, تسابقت معها في ملء المكان بعشرات الزغاريد؛ وكأنهما تريدان للعالم بأسره أن يشاركهما الفرحة العارمة. غادرت آمنة المنزل، وبقيت ابنتها عاكفة على أداء عملها بكل إتقانٍ ودقة، بالإضافة إلى محبة خالصة؛ كأنما وجدت متعتها في إسعاد غيرها. انبهرت ونيسة بما تفعله، وأثنت عليها قائلة:
, -نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا قمراية.
, علقت عليها بتلقائية:
, -أنا خدت حظي خلاص.
, عبست ونيسة معاتبة إياها برفقٍ:.
,
, -ماتقوليش كده، كل حاجة ليها وقتها، وبعدين اقرصي هاجر في ركبتها عشان تحصليها في جمعتها.
, علقت عليها هاجر بمكرٍ، وتلك الابتسامة العابثة تتراقص على محياها:
, -من غير قرص يامه، **** هيعدلهلها مع حد يستاهلها بجد، وهتشوفي.
,
, كانت الإيحاءات المبطنة، والتلميحات المتوارية تعزز ما راود عقلها مؤخرًا بشأنه تحديدًا، وإن جاهدت لإنكار شعورها المتزايد بداخلها؛ لكن هذا الإحساس العجيب الذي يغمرها ينبئها أنه المقصود، ولم تكن ممانعة، بل بدت مرحبة به بصورة استغربت منها، كأن ال**** الحاجز الذي فصلها عن رؤية ما يضمره القلب لها قد تفتت، وأصبحت مشاعرها قابلة للتأثير. رسمت تعابير جامدة على وجهها، وقالت بلهجةٍ أرادت أن تكون جادة:.
,
, -طيب نسيبنا من حكاية جوازي دلوقتي، ونركز في الديكور.
, بنفس الابتسامة العابثة ردت عليها هاجر:
, -ماشي يا حبيبتي.
, انحنت ونيسة لجمع بعض البقايا غير الضرورية من على الأرض، ووضعتها بداخل صندوق صغير للمهملات كانت تستعين به فيروزة طوال عملها، حتى لا تسبب الفوضى في المكان، ثم اعتدلت واقفة لتقول بعدها:
, -أنا هاروح أشوف جدك يا هاجر، ولو في حاجة نادي عليا.
, رفعت رأسها إليها وقالت سريعًا:
, -حاضر.
,
, ثم أخفضتها مجددًا لتواصل لصق الورود الصغيرة، أعلى الهدايا المغلفة بورق السلوفان، حيث تُعدها لإعطائها للمدعوين بدلاً من الحلوى التقليدية. استطردت فيروزة متسائلة فجأة:
, -بأقولك يا هاجر أنا عاوزة إبرة وخيط، محتاجة أتقل على الطرف ده، أخاف يفك.
, دققت هاجر النظر في المفرش الذي تمسكه، وسألتها في توجسٍ:
, -هو اللزق مش ماسك؟
, حركت التطريز الموجود على الأطراف بخشونةٍ طفيفة وهي تخبرها:
, -كويس، بس مضمنش يحصل إيه!
,
, بحثت هاجر بعينيها سريعًا عنهما بين الأشياء الكثيرة الموضوعة قبالتها على الطاولة، ثم خاطبتها بعد لحظاتٍ:
, -هما مش قصادي، يبقى أنا سيباهم على التسريحة في أوضة تميم.
,
, ذكر اسمه عفويًا أمامها جعل قلبها يقصف كأن الحرب اندلعت به، لم تكن هكذا من قبل! شعرت باندفاع الدماء إلى وجهها، حتمًا ظهر التورد في بشرتها، لم ترغب فيروزة بإظهار ربكتها الغريبة، وادعت انشغالها بضبط طرف المفرش؛ لكنها في نفس الآن اختلست النظرات نحو هاجر، تنفست الصعداء لكونها لم تلحظ تلبكها، وسمعتها وهي تقول ناهضة من مكانها:
, -هاروح أجيبهم من الأوضة.
,
, تقدمت بضعة خطوات نحو الردهة؛ لكن ما لبث أن توقفت فجأة عن السير، حينما سمعت صراخ رضيعها قادمًا من غرفتها، ليعلن عن استيقاظه بعد غفلة معقولة، غيرت في اتجاهها هاتفة في لوعة:
, -يا حبيبي.
, راحت تهدهده، ومع هذا لم يتوقف عن البكاء، فتساءلت في عبوسٍ مصطنع:
, -إنت جعان يا قلبي؟
, اتخذت مكانها على الفراش لتبدأ في إرضاعه، وصاحت بصوتٍ شبه مرتفع:.
,
, -معلش يا فيروزة هاتيهم إنتي، الأوضة إنتي عارفاها، أنا مشغولة مع سلطان شوية.
, أتاها صوتها من الخارج محتجًا:
, -بس أصل آ٣ نقطة
, قاطعتها بنبرة حاسمة:
, -مافيهاش حاجة، البيت فاضي، متقلقيش، بس عشان معطلكيش عقبال ما يرضع، هو مش هيسكت خالص.
, لم تجد فيروزة بدًا من الرفض، وهتفت قائلة في استسلامٍ:
, -طيب.
,
, على مِشنَّة من الخوص، فردت سعاد أرغفة العيش التي ابتاعتها عليها لتبرد، بعد أن أمضت ما يقرب من الساعة أمام المخبز تنتظر دورها لتحصل على حصتها منه، التفت برأسها نحو ابنها المنشغل بمشاهدة التلفاز وهو يستلقي واضعًا ركبته أمام صدره، تنهدت بزفيرٍ متهمل، وسألته بوجهٍ متعب:
, -مش هتبعت قرشين لعيالك؟ قابلت جدتهم في الطابونة، وسألتني عن ده، الشهرية فاتت يجيلها مدة.
,
, انتفض صارخًا بها بعصبيةٍ بعد أن أخفض ساقه:
, -كمان، ده أنا أبقى مَرَة، وألبس طرحة على راسي لو عملت كده.
, حملقت فيه مدهوشة، وعاتبته في استهجانٍ:
, -ليه بس يا فضل؟ ده حقهم!
, أصر على رفضه هاتفًا بتشنجٍ:
, -ماليش فيه، وأخلى خيري لغيري ليه؟ يتفلقوا.
, استنكرت قساوة قلبه، وعنفته دون أن ترتفع نبرتها:
, -مش دول عيالك بردك؟ ده واجب عليك تصرف عليهم.
, هدر فيها بخشونةٍ غير مراعٍ لمنزلتها:
, -بمزاجي مش لوي دراع.
,
, خاطبته بنفس النبرة غير المحتدة:
, -وفين اللوي بس؟
, أخبرها بحمئةٍ، وقد اشتاطت قسماته:
, -لما الولية تكلمك ببجاحة كده وسط الناس عشان تكسفني، وتبقى عايزاني أدفع بالغصب، وأنا مش هعمل كده، ومش دافع.
, ردت متسائلة في استنكارٍ أكبر:
, -يعني عايز الناس تاكل وشنا؟
, بسماجةٍ غير مبالية قال، وبصوتٍ غير منخفض:
, -وياكلوا قفانا كمان٣ نقطة
, ثم استخدم يديه في الإشارة عندما تابع بسخطٍ:
, -ما هما معاهم أد كده، ولا لقمة العيال هتضلعهم.
,
, نظرت إليه في غير رضا؛ لكنه لم يكترث، وتابع تهكمه الساخر:
, -ولا أقولك خلي عريس الغفلة يدفع هو؟ طالما شال، يبقى ياخد الشيلة كلها، ده على قلبه أد كده مكنزهم رزم فوق رزم.
, قبل أن تهم سعاد بالاعتراض عليه أخرسها بترقيق نبرته ليبدو كالمغلوب على أمره:
, -وبعدين يامه أنا محتاج كل قرش دلوقتي عشان أتجوز بيه، يعني لازمًا أمسك إيدي في المصاريف حبتين.
, نكست والدته رأسها، وقالت في ضيقٍ:.
,
, -أنا مش عايزة حد يقول عنك بخيل يا ابني، الناس هنا لسانها وحش.
, استفزه ذلك اللقب، فاهتاج مدافعًا عن نفسه:
, -بخيل، فشرت عينهم، ما أنا بنزه نفسي أهوو ومش بستخسر فيها حاجة.
, كان محقًا في اعترافه هذا، فدومًا يغدق على ملذاته، ومساراته بكل ما يوجد في جيبه؛ لكن مع غيره كان شحيحًا بدرجة واضحة. غير فضل مجرى الحديث، وانحنى نحو والدته يستميل رأسها بزيف الكلام المعسول:.
,
, -سيبك منهم، وشوفي هتخطبيلي فيروزة امتى يا حجوجة، ده إنتي الخير والبركة!
, ردت في اقتضابٍ لم يشعره بالارتياح:
, -**** يسهل.
,
, نشوة عجيبة متحمسة أصابت بدنها كليًا حين وطأت غرفته، شعرت برائحته المميزة عالقة في جوها، كأنما تؤكد لها بشكلٍ غير مباشر أنها مملوكة له، ولدهشتها أحبت هذا الشعور، كانت مترددة بعض الشيء، تخشى التقدم داخلها، وقفت لهنيهة مستندة بيدها على إطار الباب، متحرجة من الإمساك بها وهي تتجول بأرجائها، وإن حازت –رغم هذا- على التصريح بدخولها، والتفتيش مجازًا في محتوياتها. تنفست بعمقٍ وملأت رئتيها بتلك الرائحة الندية، ثم أغمضت عينيها ليكتمل هذا الشعور الغريب –والمستحب- الذي استحوذ عليها.
,
, خلال اليومين الماضيين كانت تتوق لرؤيته ولو مصادفة؛ لكنه كان كالغائب الحاضر، تتكرر سيرته أمامها، ومع هذا لا يظهر في محيطها، كم رغبت في التطلع إليه وهو يرمقها بتلك النظرات التي تحتويها وتدفعها لاختبار هذا النوع الجديد من الشعور، ذاك الذي أصبح يروقها. تلك المرة تأملت فيروزة محتويات غرفته على مهلٍ، كأنما تريد حفظ تفاصيلها، لم يكن إحساس الرهبة مسيطرًا عليها، وإنما كتلة من الأحاسيس الغريبة التي تدعوها لتذكر ما يخصه جبرًا، وأيضًا لم تكن ممانعة! استلذت هذه الرغبة النابعة منها.
,
, وقعت عيناها على الكومود، وتحديدًا الدرج الذي اكتشفت فيه احتفاظه بمتعلقاته، واربت الباب إلا من فرجة صغيرة بعد أن ألقت نظرة سريعة نحو الخارج، وجدت ساقيها تتحركان من تلقاء نفسيهما نحو الكومود، امتدت يدها لتفتحه؛ لكنها تجمدت للحظاتٍ، ترددت في فعل هذا، وكأن ضميرها يعاتبها لاقتحام خصوصيته دون إذنٍ منه، غالب ترددها الفضول المستبد بها، لذا تشجعت وسحبت الدرج للخارج، فبرقت عيناها في صدمة جعلت حواسها تنتفض فرحةٍ، ما زالت مشابكها موجودة، ومنديل رأسها كذلك.
,
, أحست ببهجة سارة للنفس تتفشى في أوصالها، وبخفقات طربة تصيب قلبها، ويا لهذا التماوج في المشاعر الرقراقة الجميلة التي بدأت تغلف كيانها! أعادت فيروزة غلق الدرج وهي غير مدركة أنها تبتسم ابتسامة أضاءت وجهها، وأضفت البهاء على نظراتها اللامعة. قررت ألا تزيد من فترة بقائها، يكفيها ما ظفرت به من شعور مريح وممتع، اتجهت نحو مرآة التسريحة لتفتش عن صندوق الخياطة الصغير. وجدته إلى جانب إطار صورة صغيرة تخصه، تلقائيًا أمسكت به، ورفعته نصب عينيها لتتأمل ملامحه المبتسمة بتدقيقٍ، مسحت بإبهامها على وجهه، وتساءلت مع نفسها بحيرةٍ:.
,
, -فيك إيه بيشدني ليك؟
, سرعان ما انفلت الإطار من يدها بغتة وسقط على الأرض حين انفتح باب الغرفة على مصراعيه لتجده واقفًا عند عتبته مرددًا في صدمة تفوقها:
, -إنتي٣ نقطة!
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
١٩

أشرق يومه الكئيب، وازداد وجهه سطوعًا وتوهجًا حينما وجدها –على حين غرة- في غرفته، يا لحظ الأرض التي تقف عليها بقدميها! نالت شرف استقبالها، أما جدران حجرته فظفرت باحتواء بهائها بينها، على عكسه هو التعيس البائس الذي لم ينل إلا لمحة خاطفة منها. تأمل تميم ما كانت عليه من ارتباكٍ محرج بنظراته المدهوشة الفرحة، سرعان ما تقلصت عضلات وجهه للتوتر عندما بادرت معتذرة:
, -أنا، أسفة، أنا كنت آ٣ نقطة
,
, دون أن يعبأ للحظة بسبب ذلك قاطعها مشددًا:
, -بتعتذري على إيه، ده مكانك..
, سرعان ما تحولت نبرته للخفوت وهي يتابع:
, -ده أنا اللي أسف اللي دخلت بالشكل ده.
, رأها تنحني لتمسك بإطار صورته، فهتف يأمرها في لهفةٍ رافعًا يده أمام وجهها:
, -لالا ماتوطيش.
,
, اندهشت من حمئته الغريبة، ورمقته بتلك النظرة غير المفهومة؛ لكن ما دار في خلده كان واضحًا، لم يرغب لطاووسه المعتد بنفسه أن يركع أو ينحني لأي شيء، خاصة أمامه، أرادها شامخة، مرفوعة الرأس، لا تحني رأسها إلا لبارئها. تلقائيًا التقطت فيروزة الإطار، ووضعته في مكانه وهي تقول بوجهٍ ما زال مرتبكًا:
, -البرواز سليم، ماتكسرش.
,
, ظل متجمدًا في مكانه، لم يتحرك قيد أنملة، وكأن مجالاً مغناطيسيًا يمنعه من التقدم، والسبب كان معلومًا إلا لها! تخبطت فيروزة حين وجدت صندوق الخياطة الصغير، واصطدمت يدها ببعض متعلقاته من توترها، فتبعثرت هنا وهناك، ومع هذا طلب منها بلطفٍ مهذب:
, -سيبي كل حاجة في مكانها، ماتسويهاش.
,
, أحست بالمزيد من الحرج لتصرفها الأخرق، ما الذي أصابها لتبدو بلهاء هكذا؟ أولته ظهرها محاولة إعادة ترتيب أشيائه بشكلٍ متعجل وهي تكرر في خجلٍ:
, -مقصدش و****، أنا كنت عايزة علبة الخيطان وآ٣ نقطة
, قاطعها مؤكدًا من جديد في هدوءٍ:
, -خدي اللي يعجبك، ده مكانك٣ نقطة
, ثم ابتعد خارجًا من الغرفة لينادي:
, -يا هاجر..
, لم يسمع ردها، فكرر النداء:
, -يا هاجر، إنتي فين؟
, جاءه صوتها من خلف باب غرفتها يخبره:
, -ثواني يا تميم، برضع سلطان.
,
, ألصق كتفه بالباب الموصود، وسألها في صوتٍ جعله شبه خفيض:
, -طب أمك فين؟
, سمع صوتها يجيبه سريعًا:
, -مع جدي، أنا خلاص خلصت، وجاية.
, انتظر تميم في مكانه مرتكنًا على الحائط، ودقات قلبه تنتفض بشدة، كان في تلك اللحظة بين نارين، نار الحب المتأججة، ونار التزامه بوعده، فرجح كفة الأخير إيفاءً بما تعهد به، وإن كان فيه عذابه.
,
, بخفةٍ وسرعة أعادت تنسيق ما أفسدته على التسريحة، ويداها ترتعشان في توترٍ، سحبت فيروزة أنفاسًا سريعة محاولة استعادة انضباطها، وهي في حيرة من أمرها، كيف لها أن تصبح على تلك الساذجة والبلاهة في وجوده، رغم أنها كانت تناطحه الند بالند في أشد المواقف تأزمًا وصعوبة، هناك شيء ما به يجعلها كمن أصيب بلعنته، خفق قلبها من هذا التفكير السريع، وحاولت نفضه عن عقلها لتركز فيما تفعله، ما إن انتهت حتى أمسكت بصندوق الخياطة بيدها، واستدارت لتواجهه؛ لكنها تفاجأت بعدم وجوده، انعقد حاجباها بشدةٍ، وتساءلت في انزعاجٍ احتل كامل ملامحها:.
,
, -هو فينه؟
, تقدمت بخطواتٍ سريعة نحو باب الغرفة، ولم تشعر بنفسها تتساءل عاليًا:
, -ماله؟ مش طايقني ولا إيه؟
, شهقة مباغتة انفلتت من بين شفتيها، وقد وجدته يظهر قبالتها عند الباب، ارتدت عفويًا للخلف لتظل بداخل غرفته، حاولت الحفاظ على ثباتها، وإبقاء ملامحها هادئة، بالطبع رأى تلبكها الأهوج، وربما احمرار بشرتها؛ لكن قبل أن تنطق بعصبيةٍ، صُدمت به يقول مبررًا:
, -أنا و**** ما عايزك تفهمي حاجة غلط.
,
, حملقت فيه بنظراتٍ متحفزة، فتابع بابتسامةٍ لطيفة، وتلك النظرة الدافئة المطلة من عينيه تشملها:
, -إن كان عليا ماخلكيش تطلعي من هنا..
,
, أحست بجفافٍ يصيب حلقها، واستمرت في التحديق به بنظراتها التي تأرجحت بين الذهول والارتياح، لن تنكر أنها تمنت في قرارة نفسها أن تحظى بهذه النظرة المميزة التي تشعرها بأنها خاصة بها وحدها، لا يمنحها لأحدٍ غيرها، خبت عصبيتها، وارتخت قسماتها، خاصة حين بدا صوته هادئًا عذبًا، مخدرًا لحواسها وهو يغمغم قائلاً بغموض ضاعف من توترها اللذيذ:
, -بس لسه الوقت مأزفش.
,
, تطلعت إليه مليًا بغرابةٍ، تحاول سبر أغوار عقله، لكن تلك النظرة التي رمقها بها نفذت إلى داخلها؛ كأنما نجحت في اختراق حصونها، وجعلتها تشعر بشيءٍ عميق، أنها غير منبوذة، ومرغوبة بشدة كأنثى. قطع تواصلها البصري مجيء هاجر التي وزعت نظراتها بين الاثنين وخاطبتهما بابتسامتها العبثية:
, -أنا خلصت يا تميم، في إيه يا فيروزة؟ ملاقتيش العلبة يا حبيبتي؟
, أجابتها فيروزة أولاً وهي ترفع يدها للأعلى:
, -معايا أهي.
,
, بينما ردد تميم وهو يتنحى جانبًا:
, -أنا أصلي دخلت فجأة الأوضة ولبختها.
, رفعت هاجر حاجبها متسائلة في مكرٍ:
, -طب أحضرلك تاكل؟
, تحولت تعابيره للجدية وهو يرد:
, -تسلم إيدك، بعدين، أنا نازل تاني..
, تدلى فك فيروزة السفلي في استغرابٍ لذهابه المفاجئ، وحاولت عدم النظر في اتجاهه؛ لكنه أجبر عينيها على التطلع إليه وهو يكمل إملاء أوامره على شقيقته ليشعرها بأهميتها الكبيرة:.
,
, -بس شوفي الأبلة عايزة إيه وساعديها، أوعي تقصري معاها.
, أمسك بها وهي تنظر إليه، وبدت ملامحه غير مقروءة؛ لكنه ودعها بنفس النبرة الهادئة:
, -نورتينا يا أبلة، السلام عليكم.
, انتظرت للحظة حتى ابتعد مع شقيقته للخارج، لتتبعهما وهي في قمة حرجها، دارت برأسها المزيد من الهواجس عندما عادت إليها هاجر مرددة:
, -معرفش و**** إيه اللي حصله.
, ضاقت عينا فيروزة بشكٍ، فتابعت هاجر تفسير كلامها الغامض:.
,
, -ده بقى مابيقعدش في البيت ساعتين على بعض.
, توهمت أنها السبب في عزوفه عن المكوث به بسبب تواجدها الزائد مؤخرًا، خاصة مع تعاظم هذا الشعور المُلح بداخلها بمطاردة ما كان يمنحه لها سابقًا في غفلةٍ منها، ورغبتها في التمتع بذلك الإحساس بدرجة ربما كانت منفرة له، وغير مريحة. نكست رأسها في خزيٍ، واعترفت لها بغصةٍ تؤلم حلقها:
, -يمكن مضايق من وجودي وآ٣ نقطة
, قبل أن تلعب برأسها الظنون المخادعة ضحكت هاجر مقاطعة إياها:.
,
, - تميم! يضايق منك، استحالة!
, نظرت إليها مدهوشة، وبقلبٍ يدق في توترٍ غريب، بينما واصلت شقيقته البوح مع ضحكاتها القصيرة المرحة:
, -إنتي متعرفيهوش كويس، تميم غير أي حد، بكرة لما آ٣ نقطة
, بترت باقي جملتها عند سماعها نداء والدتها الجاد:
, -يا هاجر!
, التفت برأسها للجانب لترد:
, -أيوه يامه.
, أجابتها وهي تغلق باب غرفة الجد بعد أن خرجت منها:
, -اتصلي بأبوكي شوفيه هيرجع أمتى، عشان أسخنه الأكل.
, هزت رأسها في طاعة وهي ترد:
, -ماشي.
,
, انسحبت هاجر باحثة عن هاتفها المحمول، في حين وقفت ونيسة إلى جوارها تسألها:
, -ناقصك إيه بنتي وأساعدك فيه؟
, بعد ذلك الكم من الحرج والاعترافات الغامضة المثيرة للفضول، والتفكير، لم تعد فيروزة قادرة على التركيز، كان الحل الأسلم حاليًا الاختلاء بنفسها، ولملمة شتات فكرها المبعثر، لهذا جمعت متعلقاتها، وطوت المفرش قائلة:
, -لأ، أنا كده تمام، دي حاجة بسيطة هنجزها على طول فوق مع ماما.
, اعترضت عليها في ودٍ:.
,
, -طب أخلصها أنا، ده إنتي طول اليوم طالع عينك معانا.
, ردت في إصرارٍ مصحوب بابتسامةٍ منمقة:
, -ده شغلي، وأنا مبسوطة بيه.
, ربتت ونيسة على كتفها تشكرها في امتنانٍ كبير:
, -نتعبلك كده يا رب نهار فرحتنا بيكي إنتي وابني تميم.
,
, جملتها كانت عفوية للغاية، غير متبوعة بأي نوايا أو استباقٍ لما يمكن حدوثه، ومع هذا برقت عيناها مصدومة، واكتست بشرتها بحمرة غريبة جعلتها تشعر وكأنها في أوج حرجها، وهي التي لم تختبر مثل تلك المشاعر المربكة طوال سنوات عمرها. تصنعت الابتسام، وقالت في تلعثمٍ طفيف:
, -عن إذنك يا طنط.
, سارت معها ونيسة تصحبها لباب المنزل وهي تدعو لها بصدقٍ:
, -**** يبارك فيكي ويصلح حالك، ويفرحنا بيكي قريب.
,
, لوهلةٍ شعرت فيروزة كما لو كانت ساقاها تستثقلان الابتعاد عن هذا المكان المتخم بكافة المشاعر الأسرية الدافئة، بل الأحرى أنها خشيت الابتعاد عنه تحديدًا، استحضر ذهنها صورته، وصدمها تفكيرها الجري فيه هكذا أمام والدته، خفقة أخرى عصفت بقلبها، وجعلتها راغبة في الاختباء من نظراتها العادية التي يمكن أن تفضح أمرها، تحاشت النظر إليها، وهتفت مودعة إياها بابتسامة شبه مضطربة:
, -تصبحوا على خير٣ نقطة!
 
٢٠

ألا تدري ما صنع الهوى بقلوب العاشقين؟ جعل في انتظارهم نعيمًا يستحق التقدير. حين عاد تميم متأخرًا من تسكعه غير المحدد اتجاهه، رفع رأسه لينظر عاليًا، عندها خفق قلبه بشدة، فقد رأها تقف في الشرفة التي تعلو شرفته، تُريح مرفقيها على حافة السور، وتتطلع إلى الفضاء بنظراتٍ على ما يبدو شاردة، يا لحظه السعيد ما زالت حبيبته مستيقظة، ربما لا تنتظره عن قصدٍ؛ لكنه حظى مجددًا بنظرة إليها، ومع ذلك ضميره ما زال يؤنبه لعدم التزامه الكامل بوعده لأبيه، دومًا يخالف أوامره، ويختلس النظرات إليها، بل ويُطيلها أحيانًا حينما تسمح له الفرصة بهذا.
,
, في تلك الأثناء، انخفضت رأس فيروزة نحو الأسفل لتتفاجأ بوجوده، والأكثر إحراجًا ودهشة لها تحديقه بها، تراجعت تلقائيًا للخلف لتختفي من أمام نظراته، وتلك الدقات السريعة تقصف في قلبها، كيف لنظرة واحدة أن تفعل بها هذا؟ ازدردت ريقها، وحفزت نفسها بصوتٍ لم يفارق جوفها:
, -مالك في إيه؟ إجمدي كده، مافيش حاجة أصلاً.
,
, سحبت نفسًا عميقًا، وطردته من رئتيها على مهلٍ لتستعيد هدوئها، ثم تقدمت نحو حافة الشرفة لتنظر ببطءٍ إلى كل الزوايا ما عدا المكان القابع فيه، بطرف عينها حاولت رؤيته؛ لكن لسوء حظها لم يعد متواجدًا، سلطت كل أنظارها على المدخل، وشبت على قدميها تفتش عنه في العتمة السائدة بالأسفل، ورغم ذلك لم تجد له أثرًا، حلت التعاسة على محياها، ورددت في استياءٍ منزعج:
, -يا خسارة!
, نفخت في ضيقٍ، وتساءلت بنفس الوجه العابس:.
,
, -طب إيه اللي خلاه يمشي؟
, ما لبث أن لكزت جبينها بباطن كفها وهي تردد:
, -إنتي غبية ولا إيه؟ ما هو لازم يطلع بيته، هيفضل واقف في الشارع كده.
, استندت من جديد على الحافة، وتذمر مقروء على تعبيراتها، خفقة أخرى نالت من قلبها عندما سمعت صوته يأتي من الأسفل مرددًا بصوتٍ شبه مرتفع:
, -تسلمي يامه، هتعبك شوية معايا.
,
, أبعدت رأسها للخلف، ورفعت يدها لتضعها على صدرها، تتحسس ذلك الخافق بقوة، حين سمعته يتكلم مجددًا بصوتٍ بدا قريبًا للغاية منها:
, -كتير على الواحد إنه يبقى جار القمر.
,
, لا تعرف إن كان يقصدها بهذا العزل الصريح، أم أنه يُحادث إحداهن عبر الهاتف؛ لكن كيف يتحدث فيه وقد جاء لتوه؟ حتمًا هي مخطئة، استبعدت على الفور ذلك الهاجس الضعيف، بل ولامت نفسها على التفكير فيه بهذا الشكل السافر؛ وكأنه استحوذ على عقلها، قبضت على الحافة بيديها، وأرهفت السمع مرة أخرى، وهذا الشعور الجميل بالنشوة يتسلل تحت جلدها، التقطت أذناها دعائه:
, -يا رب هون، واجعل البعيد قريب.
,
, شعرت بشفتيها تتقوسان لتعلن عن ابتسامة رقيقة فرحة، لم تنكر أن مثل تلك العبارات الموحية ترضيها كأنثى، تُشعرها بما افتقدت الإحساس به، بالكاد منعت شهقة عالية من الإفلات من ثغرها وقد سمعت تميم يردد بصوتٍ خافت لكنه ودود للغاية:
, -تصبح على خير يا اللي في بالي لو كنت سامعني.
,
, كالخرقاء فرت من البلكون لتعود إلى الداخل وهي تشعر بمدى غبائها لاكتشاف أمر وجودها، ارتمت على الفراش، ووضعت الوسادة فوق رأسها لتختبئ خلفها وهي تغمغم بهمسٍ مغتاظ:
, -مبسوطة دلوقتي؟ هيقول عني إيه؟!
, ضربت وجهها لبضعة مراتٍ بالوسادة، إلى أن توقفت عن تلك الحركة الموبخة لنفسها بعد سماع والدتها تسألها في تعجبٍ:
, -إنتي بتعملي إيه يا فيروزة؟
, اعتدلت في رقدتها على الفراش، وردت في تلعثمٍ وهي تتطلع نحوها:.
,
, -ولا حاجة، ده أنا بفكر مع نفسي.
, تقدمت نحو الفراش الآخر، واستلقت عليها معلقة في استغرابٍ:
, -كده إنتي بتفكري؟ **** يهديكي.
, لم تجد ما تنطق به لتبرر تصرفها الأحمق، ولاذت بالصمت، في حين أكملت والدتها قائلة بتثاؤبٍ مسموعٍ لها:
, -اطفي النور عشان ننام، لسه ورانا مشاغل كتير الصبح.
, امتدت يدها لتغلق المصباح الصغير المجاور لفراشها وهي ترد:
, -حاضر.
,
, أراحت ظهرها على الفراش، ووسدت ذراعها خلف رأسها، لتحملق بعينين يقظتين في سقف الغرفة وسط العتمة السائدة في أركانها، شيء واحد كان مسيطرًا على عقلها، تفكيرها العميق فيه.
,
, على مسافة غير بعيدة من مركز الشرطة التابع لتلك البلدة، ضغط شيكاغو على مكابح عربة الربع نقل ليوقفها، ترجل من السيارة عقب نزول رفيقه حمص، ثم ألقى بسيجارته التي فرغ منها أسفل قدمه، دعسها وهو يتقدم للأمام باحثًا عن قالبٍ من الحجارة وسط هذا الركام، ثم دار حول مقدمة السيارة، وركز أنظاره على صديقه متسائلاً:
, -جاهز؟
, فرك حمص رأسه مرددًا:
, -أيوه٣ نقطة
,
, وقبل أن يرفع الحجارة للأعلى ليصوبها نحوه حذره بنظرة غير مازحة:
, -خلي إيدك خفيفة.
, التوى ثغر شيكاغو بابتسامة عبثية، وأخبره باستمتاعٍ:
, -أومال هظبط الشغل إزاي؟ عشان تخش عليهم بدل ما نتكشف.
,
, الخطة الموضوعة كانت بسيطة للغاية، اعتمدت على افتعال مشاجرة غير حقيقية بين اثنين من رجاله، بعد أن تأكد محامي تميم من المعلومات التي أعطاها له ليتحرى عن مدى صدقها، أخبره لاحقًا عن بقاء هذا المشعوذ المقبوض عليه في مركز الشرطة محبوسًا على ذمة التحقيقات، وبالتالي تبقى فقط تنفيذ الخطة، فعلى إثر نشوب هذا الشجار سيتوجهان لداخل المركز، ثم يحتدم الجدال بينهما من مجرد تراشق بالألفاظ لتطاول غير مقبول، ليتم الزج بهما داخل الحجز، وهناك تستكمل باقي الخطة لاستخراج المعلومات المطلوب معرفتها من هذا الحقير، قبل أن يرتضيا بالتصالح ويخرجا بسلام.
,
, زفر حمص الهواء عاليًا، وصاح مشيرًا بيده في تحفزٍ:
, -اتكل على ****.
, ضربه شيكاغو بقساوة في جانب رأسه لتتفجر خيوط الدماء بغزارة من جرحه، صرخ الأخير متأوهًا من الألم وهو يعنفه:
, -إيه ده يا جدع، مرزبة؟
, رد منتشيًا:
, -أصول الشغل.
,
, فما كان من حمص إلا أن سدد لكمة مباغتة وعنيفة إلى وجهه، لتصيب أسفل عينه وتلهب حدقته، نعته الأول في غيظٍ، وكان على وشك ضربه مجددًا؛ لكنه تمالك نفسه واكتفى بشتمه. تخضبت يد الأخير بالدماء، وهتف يخبر رفيقه:
, -بينا بدل ما دمي يتصفى من غير ما نعمل حاجة.
, هرول الاثنان ينعتان بعضهما البعض بألفاظ نابية، لحبك تمثيليتهما الهزلية على المتواجدين. كان حمص الأسبق في الولوج، وصوت صياحه المستغيث يجلجل:.
,
, -إلحقنا يا شاويش، فتح نافوخي يا حكومة.
, رد عليه شيكاغو وهو يخفي عينه المصابة:
, -هو اللي بدأ، ضربني بالعتلة، وكسر فانوس العربية، وأنا مش هاسيب حقي، هاطلع آ٣ نقطة
, قاطعه حمص متوعدًا في غلٍ متزايد ليبدو أكثر إقناعًا:
, -شايفين يا حكومة؟ طب مش سايبك النهاردة يا (، ).
, على الفور ناطحه شيكاغو الرأس بالرأس، وكال له من السباب والوعيد:
, -أما إنت ابن (، ) صحيح، و**** لأقطعك.
,
, ثم تشابك الاثنان بالإيدي وسط محاولة فاشلة للفض بينهما من العساكر المتواجدين، على إثر صوتهما المرتفع، خرج الضابط المسئول عن تلك الوردية من مكتبه ليتفقد الأمر، وهو يصيح بصرامة حاسمة:
, -بس إنت وهو، هي سويقة؟
, استمر حمص في الترديد بوعيد:
, -مش سايبك النهاردة.
, بينما علق عليه شيكاغو متحديًا:
, -طب وريني هتعمل إيه يا (، ).
, زجرهما الضابط بغلظةٍ شديدة:.
,
, -هو أنا مش عاجبكم؟ هتمسكوا في خناق بعض قصادي، خدوهم على الحجز لحد ما أشوف حكايتهم إيه.
, استجاب أفراد الأمن لأمره الصريح، واقتادوا طرفي النزاع إلى الردهة الطويلة التي تفضي في نهايتها إلى غرفة (الحجز)، ابتسامة ماكرة لاحت على ثغر شيكاغو لنجاح الخدعة، وتحرك كالذليل وهو ينظر بطرف عينه إلى شريكه الذي أومأ برأسه في خفةٍ ليحييه على انتصارهما الخفي.
,
, استخدم ما اعتبرها قواه الخارقة لإرهاب من معه في الحبس، ليحصل على الحماية من مضايقات الغير أولاً، وكذلك ليضمن عدم إزعاج أحدهم له، أو محاولة تحقيره، كما كانت البقعة الأفضل في حجرة الاحتجاز من نصيبه، بل وقام اثنان من الخارجين عن القانون بالعمل على خدمته بحجة التبرك به.
,
, فُتح الباب على مصراعيه، ودفع المستجدان إلى الداخل مع بعض الترحيب الحار من التوبيخ اللاذع، والضربات القاسية قبل أن يغلق الباب المعدني وصوت الفرد الأمني يحذر بتهديدٍ مباشر:
, -أي شغب ولا قلق هيحصل جوا مش هيطلع عليكم نهار.
,
, تجاهل الاثنان تحذيره، وبحثا بنظراتهما المدققة عن هدفهما، وجداه بسهولة، فتبادل نظراتٍ ذات مغزى، انخفضت يد شيكاغو عن عينه ليسير نحو هذا الكذوب مُدعي القدرة السحرية، واستطرد يخاطبه دون تمهيد:
, -هو سؤال تدينا جوابه دوغري يا عم ال، شيخ.
, حملت نبرته وهو ينطق بهذا اللقب تهكمًا صريحًا، فارتفعت أنظار الأخير نحوه يسأله بوجومٍ شديد:
, -إنت مين؟
,
, استمر في تقدمه نحوه، وقد أخرج من فمه شفرة حادة لينطق بعدها بملامح غير مبشرة بأي خيرٍ على الإطلاق:
, -أنا واحد جاي بأوامر يا ياخد روحك، يا سيبك تعيش.
, انكمش المشعوذ على نفسه، وسأله بنبرة مذبذبة، وحدقتاه تتحركان في توترٍ خائف:
, -إنت مفكر نفسك مين؟
, ثم خاطب من معه بذعرٍ؛ يريد الاستغاثة بدعمهم له:
, -يا رجالة حوشه، وامنعوه يقرب مني وإلا الأسياد آ٣ نقطة
,
, تلك المرة قاطعه حمص وهو يخرج من نعل حذائه مدية صغيرة، مخبأة بعناية بداخله:
, -أسيادك دول احنا واكلين شاربين معاهم٣ نقطة
, أشهرها أمام وجهه، وتابع كلامه باستحقارٍ:
, -مش هيخيل علينا شغل الأونطة، فبلاش تخلينا نقل منك.
, هم أحدهم بالتحرك لإيقافه؛ لكن كانت يد شيكاغو الأسرع في إبعاده مع جُرح مؤلم، مما أرهب البقية، حينئذ خاطبه مجددًا بتهديد مرعب:
, -إنت متعرفناش، احنا بلطجية على قديمه.
, هتف حمص مضيفًا عليه بلهجةٍ منذرة:.
,
, -كله يركن على جمب، بدل ما تبقى العركة مع الكل، وفي الآخر هنلبسهالكم.
, لم يجد المشعوذ بدًا من إظهار العداء لهما، من أجل شيء لا يعلمه بعد، خاصة أن هذه المعركة لن تنفعه أكثر من إلحاق الضرر به، وتقليل هيبته، لذا أثر التراجع، وقال في استسلامٍ:
, -قولوا عايزين إيه وخلصوني.
, نظرة ذات دلالة معينة تبادلها الاثنان معًا، قبل أن يستأنف شيكاغو الكلام بسؤالٍ كان مباشرًا ومحددًا:.
,
, -راس العجل فضل طلب منك تعمله عمل لقريبته٣ نقطة؟!
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%