NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول المحترم البربري (للكاتبة منال سالم) ـ خمسون جزء 15/11/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,837
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
15,205
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
١

على غير المتوقع والمعتاد في مثل تلك النوعية من الحفلات عالية التنظيم، رفضت الخروج للسير على الممر الرخامي ضمن باقي العارضات المستعدات لأداء عرضهن المميز قبل أن تتلقى باقي أجرها وكاملاً، مدت آسيا يدها نحو الراعي الرسمي لذلك الحفل وهي ترفع رأسها للأعلى في إباء وكبرياء واضح، تأملها الأخير بنظرات مطولة دارسة لكل تفصيلة في وجهها المتوهج بمساحيق التجميل التي ضاعفت من جمالها ومن إشراقها المغري، أخفض أعينه ليتابع تأمل جسدها المثير الذي بدا منحوتًا كالتماثيل الإغريقية من أسفل ثوبها الأسود، ناولها الشيك النقدي قائلاً:.
,
, -وماله، تستاهلي!
, ردت عليه بقسوة وهي تنظر له باستعلاء من عينيها الفيروزتين: -حقي!
, اختطفت منه الشيك بإصبعيها ثم رفعته نصب عينيها لتقرأ ما دونه فيه من أرقام خيالية، التوى ثغرها بابتسامة صغيرة ساحرة شاعرة بالانتشاء لحصولها على مبتغاها، أبعدته عن أنظارها لتحدق في وجه الراعي مكملة حديثها معه ببرود:
, -اعمل حسابك دي أخر مرة هاشتغل فيها هنا
, رد محتجًا باندهاش صادم: -مش معقول، ده احنا عندنا ديفيلهات تانية و..
,
, قاطعته مشيرة بإصبعها: -خلاص، كفاية عليا كده، أنا راجعة مصر!
, رفعت يدها لتتلمس شعرها المعقود كعكة لتتأكد من تناسقه، ثم التفتت نحو المرأة متأملة مظهرها الفاتن بدلال يليق بها، تسمر الراعي في مكانه للحظاتٍ محاولاً استيعاب قرارها الصادم بترك كل شيء والسفر هكذا دون سابق إنذار، هتف متسائلاً وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
, -وتسيبي دبي، بلد الموضة والجمال؟
,
, حدقت آسيا عبر النافذة الزجاجية - والتي كانت تحتل مكان الجدار بأكمله - في شكل المباني الشاهقة متأملة تصميمهم الإبداعي اللافت للأنظار، تنهدت بعمق لترد باقتضاب حاسم:
, -أيوه
, وقف خلفها يسألها بجدية عله ينجح في إقناعها بالعدول عن رأيها: -طب ليه؟ كل طلباتك مجابة، وكل أوامرك بتتنفذ أول بأول، يعني..
, التفتت برأسها للجانب قليلاً لتلمحه من طرف عينها لتقاطعه بعبوس: -زهقت!
,
, تحرك خطوة أخرى نحوها ليصبح في نفس مستواها، نظر لها بتوسل مقروء في عينيه وهو يستعطفها:
, -طيب إيه رأيك لو نزلتي في سيزون الصيف، احنا لسه عندنا شغل كتير اليومين دول، وبصراحة مقدرش أستغنى عن واحدة زيك معروفة، اطلبي اللي إنتي عاوزاه، وأنا تحت أمرك
, تجمدت أعينها المحدقة بشرودٍ على نقطة في الفراغ لترد بجمود جليدي: -ده أخر ما عندي.
,
, هز رأسه بأسف، فشل في مسعاه معها، ضغط على شفتيه وهو يسير مبتعدًا عنها محدثًا نفسه
, -خسارة بجد الجمال ده مايكملش هنا!
,
, التقطت أذنيها ما قاله فأغمضت عينيها نافضة عن عقلها ما تكبدته من مشاق ومصاعب لتصل إلى تلك المكانة المميزة، وتغدو من أشهر عارضات الأزياء في الوطن العربي، اعتدلت في وقفتها لتبدو أكثر شموخًا وإغراءً، استدارت للخلف لتبدأ في السير بخطواتها الواثقة، فقد حان الوقت لتقديم أخر عروضها هنا قبل أن يحين موعد إقلاع طائرتها العائدة إلى أرض الوطن.
,
, شدَّ كم قميصه – ذو اللون الأبيض –من أسفل سترته الكُحلية للخارج قليلاً ليغلق الزر الذهبي، انتصب ذاك الشاب الذي قارب على بلوغ العقد الرابع من عمره في وقفته ليزداد عُرض منكبيه ويبرز طوله الفاره أكثر، مسح البائع على كتفيه برفق ليتأكد من ضبط السترة عليه، ابتسم له بتباهٍ يعكس إعجابه بتفرده المعروف في بيع تلك النوعية من الثياب الفاخرة، حدق معتصم في المرآة مطولاً متفحصًا تفاصيل البدلة عليه، كانت مناسبة له وكأنها صممت خصيصًا من أجل ذوقه الرفيع فأظهرت تناسق جسده الرياضي ببراعة، وأبرزت عضلاته المشدودة، مط فمه مستطردًا حديثه بصوته الخشن:.
,
, -تمام، هاخدها!
, اتسعت ابتسامة البائع على الأخير، فبيع قطعة كتلك ستزيد من ربحه خاصة إن كان المشتري الرجل الأكثر ثراءً في عالم البناء والمقاولات، رد بلا تفكير:
, -تحت أمرك يا معتصم بيه!
,
, لم يكن بحاجة لتبديل ثيابه من جديد، حسم أمره بارتداء الحلة الجديدة بعد نزع الملصق الذي يحوي ماركتها التجارية الشهيرة وسعرها الباهظ، انحنى قليلاً بجذعه ليلتقط حافظة نقوده، أخر منها الكارت البنكي ليسدد ثمنها فورًا، ثم دس في جيبه مفاتيحه وهاتفه المحمول، اقترب منه أحد العاملين بالمحل التجاري يحمل في يده حقيبة وضعت بها بدلته القديمة، أشار له ليتبعه إلى سيارته، وما إن رأه سائقه الخاص حتى أسرع بفتح باب المقعد الخلفي له ليستقر بداخلها، تناول من العامل الحقيبة ووضعها بصندوق السيارة ثم أسرع في خطاه ليجلس خلف المقود، تساءل السائق بنبرة رسمية:.
,
, -على المكتب يا معتصم بيه؟
, رد باقتضاب وهو يضع نظارته الداكنة على عينيه: -لأ، اطلع على البيت، ده ميعاد الغدا!
, -حاضر يا فندم.
,
, قالها وهو يدير السيارة بتريث نحو الطريق الرئيسي لينحرف منه إلى طريق أخر جانبي حيث يؤدي في نهايته إلى المجمع السكني الذي يقطن به رب عمله، أمسك معتصم بهاتفه المحمول ليتابع أخر المستجدات عبر الصفحات الإخبارية، لمح مصادفة خبرًا صغيرًا عن أجر خيالي لإحدى العارضات العربيات والذي فاق نظيراتها الأجنبيات، لم يتوقف عنده كثيرًا فقد بدا مشمئزًا من تلك المهنة التي تخفي الكثير خلفها من العبث واللهو الماجن، ناهيك عن الفضائح المتعلقة ببعضهن، رن الهاتف فأضاءت شاشته العريضة بصورة أية ابنة عمه الصغرى، تقوس فمه بابتسامة صغيرة وهو يجيبها متحمسًا:.
,
, -برينسيس العيلة
, ردت عليه بتوسلٍ مغرٍ: - معتصم، بليز عاوزة منك خدمة
, تلاشت بسمته وهو يتابع بجدية: -على طول كده، من غير سلامات وتحيات، ها، قولي!
, أكملت موضحة: -أنا وصحابي مش عارفين نحجز في كافيه (، )، تقدر تكلم صاحبه يظبطلنا الحكاية دي
, وضع إصبعه تحت ذقنه يفركه بحركة بسيطة قائلاً: -ممممم، عشانه صاحبي!
, زادت من استعطافها المصطنع قائلة: -بليز. بليز، ده إنت حبيبي!
,
, التوى ثغره للجانب ليقول مستسلمًا لرقتها التي تجبره على الخضوع لها وتنفيذ رغباتها دون نقاشٍ:
, -أوامرك يا جميلة
, هللت بحماس استطاع تخمينه: -ميرسي خالص، مش هنسالك ده أبدًا، أشوفك بعدين، وسلم على أنكل وأنطي
, -أوكي، باي.
,
, انتهت من تنسيق الزهور في المزهرية الرفيعة قبل أن تضعها في مكانها بجوار النافذة المفتوحة لتتسرب إليها أشعة الشمس الذهبية، ابتسمت لجمالها الطبيعي الذي يشعرها بالارتياح، التفتت نادية بجسدها للخلف لتسير بخطوات متهادية ورزينة نحو المقعد الوثير الموضوع بجوار مكتبة الحائط الضخمة، أتت إليها الخادمة تسألها بروتينية معتادة:
, -أجهز الغدا يا هانم؟
,
, أجابتها بابتسامة صغيرة: -شوفي معتصم الأول، لو كان هايجي خلاص حضريه، لو عنده شغل مافيش داعي
, تابعت الخادمة متسائلة: -والباشا وحيد؟
, أجابتها بنفس الهدوء الناعم: -الدكتور قال النهاردة يقدر ياكل مشوي، وأنا بنفسي هاشرف على أكله بس لما يرجع من عنده
, -تؤمري بحاجة تانية يا هانم
, -لأ، شكرًا، تقدري تتفضلي
, -عن إذنك.
,
, قالتها الخادمة وهي تومئ برأسها قبل أن تنصرف من غرفة المكتبة لتترك سيدة المنزل بمفردها، سحبت نادية ذلك الكتاب من على الطاولة الصغيرة المستديرة، ثم جلست على المقعد لتشرع في استكمال قراءته، فقد عزفت عن متابعته لأيام بسبب انشغالها بمراعاة زوجها الذي عانى من وعكة صحية لكنه تماثل للشفاء، للحظة شردت في ذكرى بعيدة وهي تقلب صفحات الكتاب، تلك الذكرى التي دومًا تنغص عليها هدوئها وتشعرها بالذنب والأسف، ارتعشت أناملها وتوترت أنفاسها وهي تقاتل لاستبعادها عن عقلها، هي عمدت إلى دفن كل ما يخصها كي لا تتألم، لم يكن الأمر بيدها، كانت مضطرة للتخلي عن أي شيء يربطها به، حتى هي، ابنتها.
,
, علق حقيبته الرياضية على كتفه وهو يتجه نحو المصعد بعد أن أوصله رفيقه المقارب له في عمره إلى المجمع السكني، فأصحبت عادة ممارسة الرياضة مع الرفقاء القدامى من اهتماماته مؤخرًا خاصة بعد اعتقاده أنها ستعيد إليه شبابه المفقود، ضغط وحيد على زر استدعاء المصعد مترقبًا نزوله، اعتلى وجهه ابتسامة هادئة حينما رأى إحدى الشابات الصغيرات تقف إلى جواره، بادلته الشابة الابتسامة قائلة بنعومة:
, -هاي أنكل وحيد.
,
, امتعض وجهه من تذكيرها للفارق العمري بينهما بدعوته إياه بذلك اللقب المقيت، فقد كان يحب مناداته باسمه مجردًا إن لم يكن مصحوبًا بكلمة السيد وحيد، اضطر أن يرد عليها بعبوس:
, -أهلاً
, عضت على شفتها السفلى الملطخة بتلك الحمرة الصريحة متسائلة بخجلٍ لطيف: -أخبار معتصم إيه وأنطي نادية؟
,
, بالطبع فهم سبب توددها الغريب إليه رغم كونه جاهلاً بهويتها، فابنه يقف خلف ذلك الاهتمام الزائد، فهو الشاب الأكثر شهرة في هذا المجمع السكني الراقي بين الفتيات والشابات بسبب تعامله المثالي معهن، يشعر كل واحدة منهن بأنها خلقت ملكة متوجة، لا مثيل لها، متفردة، تستحق أن تلقب بملكة جمال العالم، فلماذا التعجب إذًا من اهتمامهن به شخصيًا؟ رسم وحيد المصري على فمه ابتسامة سخيفة وهو يرد باختصار:
, -كويسين.
,
, مالت الفتاة ناحيته فلامست ذراعه بكتفها وهي تهمس له بمكرٍ: -طيب سلملي عليهم، وخصوصًا معتصم، باي يا أونكل!
, أومأ برأسه دون تعليق، وما زاد من غرابة الموقف أنها انصرفت ولم تركب معه المصعد، ولج إلى الداخل محدثًا نفسه بازدراء:
, -هو أنا عارف إنتي مين! محظوظ يا معتصم، مين أدك، كل البنات بتحبك، كل البنات حلوين!
, انغلق المصعد عليه وهو يدندن بما يتذكره من تلك الأغنية الشبابية آنذاك وقت أن كان يماثله في العمر.
,
, بعد مرور يومين، توقفت سيارة الأجرة أمام إحدى البنايات ذات الطراز المعماري القديم والتي تقع في وسط المدينة، ورغم كون المنطقة راقية إلا أنها تحوي تحف معمارية مميزة ظلت شاهدة على تاريخ أصيل، تنهدت آسيا بإرهاق وهي تترجل من السيارة بعد أن دفعت الأجرة لسائقها، كانت رحلة عودتها متعبة، لكنها وصلت في الأخير إلى حيث ستبدأ، أحضر لها السائق حقيبتها قائلاً بترحاب زائد كمجاملة مصطنعة منه للحصول منها على مبلغ إضافي:.
,
, -حمدلله على السلامة يا هانم، القاهرة نورت.
,
, اكتفت بالنظر إليه من خلف نظارتها العريضة، دست يدها في حقيبتها لتخرج ورقة نقدية منها، مدت إصبعيها بهما إليه فسال لعابه وهو مركز بصره عليه، خطفها منهما وكأنه كنزه الثمين الذي حاز به دون عناءٍ يذكر، تناولت حقيبة سفرها منه لتخطو برشاقة وهي تصرع الأرضية الصلبة بخطواتها الواثقة في اتجاه المدخل، فهناك منزلها الذي استأجرته لتمكث فيه خلال الفترة القادمة، هب حارس البناية واقفًا يتأمل صاحبة الوجه الحسن والمظهر اللافت للأنظار وهو يسألها:.
,
, -خير يا هانم؟
, ردت بقوة ظهرت في نبرتها: -أنا الساكنة الجديدة هنا، آسيا شرف الدين!
, رسم ابتسامة مرحبة على محياه وهو يردد اسمها الذي كان مختلفًا عن بقية ساكني البناية:
, -الست آسيا
, -ايوه، السمسار بلغني آ..
, قاطعها بتهليل متحمس: -عرفتك يا هانم، احنا اتشرفنا بيكي، والعمارة كمان نورت ب..
, ردت مقاطعة ببرود: -كفاية كلام، أنا مصدعة
, تجهمت تعابيره قائلاً بحرجٍ: -اللي تؤمري بيه جنابك
, -خد الشنطة وطلعها لفوق!
,
, قالتها بصيغة آمرة وهي تنزع النظارة عن عينيها باحثة عن المصعد لتستقله، تبعها الحارس بهدوء وهو يتأمل هيئتها المغرية، بالطبع وجود أنثى بتلك المواصفات الجمالية الغير طبيعية في بناية تعج بالسكان – وخاصة الذكور – سيحدث الكثير من المشاكل، هكذا دار في عقله وهو يتوقع الأسوأ من بقائها.
,
, تململ على الفراش بتعب مضاعف وهو يقاتل لإبقاء جفنيه مفتوحين بعد تلك الليلة الصاخبة التي قضاها بصحبة أقربائه للاحتفال بنجاح ابنة عمه الصغرى، امتد الحفل للساعات الأولى من الصباح، وبالطبع تعذر عليه النهوض مبكرًا للذهاب إلى عمله في مكتب المقاولات والإنشاءات الهندسية المملوك له، أنزل معتصم ساقيه عن الفراش أولاً، ثم بدأ في فرك رأسه عدة مرات كمحاولة بائسة منه لتنشيط عقله، تثاءب بصوت مسموع وهو يمسح بيده على صدره العاري، هو يحبذ النوم بسرواله فقط تاركًا الغطاء يتكفل بتغطية جسده إن شعر بالبرودة، زحف – بالمعنى المجازي – نحو المرحاض ليغتسل ويبدل ثيابه، سمع دقات خافتة على باب غرفته تبعها صوت الخادمة القائل:.
,
, -معتصم بيه، أحضر لحضرتك الفطار
, دعك عينيه بقبضتيه المتكورتين لينحني بعدها نحو هاتفه المحمول ليتفقد الوقت، تأخر كثيرًا عن موعد الإفطار، فقد قارب الظهيرة، رد عليه بصوت متحشرج وهو يسعل:
, -لأ، اعملي فنجان قهوة بس!
, ردت بامتثالٍ: -حاضر يا فندم
, سألها معتصم مستفسرًا وهو ينظر إلى ذقنه النابتة قليلاً في المرآة: -ماما صحت؟
, أجابته بجدية: -ايوه، ونزلت من بدري مع الباشا وحيد.
,
, زفر بملل وهو يقول: -طيب، جهزي القهوة وأنا جاي
, -حاضر.
,
, ولج بعدها إلى داخل المرحاض ليبدأ في مراحل الاستعداد للذهاب إلى عمله، في نفس التوقيت كانت تقف عند عتبة باب ذلك المنزل ترمق اللافتة المدون عليها وحيد المصري بنظرات نارية تحمل الغضب والكره، توصلت آسيا إلى عنوان تلك العائلة من أحد معارفها القدامى والذي ظن أنه يقدم لها خدمة عظيمة بإبلاغها به، لكنه لم يعرف أنه سيفتح بابًا من الجحيم على أفرادها، بابًا لم يظنوا أنه سيظهر ليفسد عليهم هدوئهم واستقرارهم الطبيعي..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، غريب عن العالم و fares1980
٢

بغرورٍ وتعالٍ اكتسبته من والدها الفظ ذو الطبائع الحادة والأفعال الصارمة، عقدت العزم على أخذ حقها بنفسها، حتى وإن كان ممن ظنت يومًا أنهم الأقرب إليها، فهي الملامة الأولى والأخيرة فيما وصلت إليه أمور عائلتها من تشتت وغربة وأمور أخرى لا تحب تذكير نفسها بها، تنفست آسيا بعمق وهي ترفع ذراعها لتقرع الجرس، تأهبت جيدًا لمواجهتها الشديدة معها، ضبطت من وضعية نظارتها القاتمة أعلى رأسها، ارتدت قناع القسوة والشراسة وهي تحدق في وجه الخادمة التي فتحت لها الباب، سألتها الأخيرة بهدوء جاد:.
,
, -أيوه يا فندم
, نظرت لها آسيا باستعلاء أشعرها بالاحتقار وهي تسألها بنبرة جافة: -مدام نادية موجودة؟
, انزعجت الخادمة من أسلوبها الفظ في إشعارها بالدونية والوضاعة من مجرد نظرة مطولة، وخاصة أنها تعامل بودٍ من عائلة المصري، ابتلعت مرارة الإهانة لتجيبها بابتسامة صغيرة:
, -لا يا هانم، هي..
,
, لم تصغِ إلى باقي جملتها حيث دفعتها من كتفها بقوة لتمرق إلى الداخل متجاوزة الأعراف والتقاليد المتبعة في استقبال الضيوف بذلك المنزل، احتجت عليها الخادمة قائلة بضيق:
, -يا هانم مايصحش اللي بتعمليه ده، قولتلك نادية هانم مش موجودة، و..
, التفتت ناحيتها آسيا لترمقها بنظرات أكثر شراسة أجفلت بدن الأخيرة وجعلتها ترمش بعينيها بتوتر ملحوظ، قاطعتها بصيغة آمرة مشيرة لها بسبابتها:
, -تتصلي بيها تيجي هنا فورًا.
,
, اغتاظت الخادمة من طريقتها التحكمية بها وكأنها ربة عملها وليست السيدة نادية ذات الأخلاق الدمثة والصفات المحببة للجميع، تعاملت معها على قدر المستطاع بمهنية وبودٍ كي لا تضع نفسها في موقف حرج، فربما تكون على صلة وثيقة بسيدتها، ردت بحذرٍ عليها:
, -حضرتك أنا..
, قاطعتها من جديد بلهجة أكثر قوة لا تقبل بالنقاش: -اللي قولتله يتنفذ، وإلا هاعمل حاجات تخلي اللي مشغلاكي تندم إنها مقابلتنيش!
,
, خافت الخادمة من أسلوبها المهدد، واضطرت مرغمة أن تمتثل لأوامرها، راقبتها آسيا وهي تبتعد عنها لتبدأ في تأمل المكان الذي ولجت إليه بنظرات شمولية دارسة لكل جزئية فيه، كان المنزل فخيمًا يحتل طابقين متتاليين من البناية يتصلان ببعضهما عن طريق سلم داخلي، احتوى على أثاثٍ مصممٍ على أحدثِ طراز، تناسقت ألوانه مع طلاء الجدران، أكملت خطاها بثباتٍ نحو الداخل متأملة بقيته بتأنٍ، وجدت ردهة متسعة بها صالونًا كلاسيكيًا من اللون الذهبي معدًا لاستقبال الضيوف، تقوس فمها بابتسامة تهكمية وهي تحرك عينيها بعيدًا عنه.
,
, مرت كذلك سريعًا بعدة أرائك مريحة من الطراز الحديث أو ما يعرف بال مودرن يتم استخدامهم في مشاهدة التلفاز والتجمع الودي بين أفراد العائلة لتقترب من شيء لفت انتباهها، تجمدت تعبيرات وجهها واحتقنت أعينها بحمرةٍ ملتهبة حينما وقع بصرها على تلك الصورة الفوتوغرافية الكبيرة التي زينت أحد الجدران، قست ملامحها مع رؤيتها لوجه السيدة البشوش التي تقف خلف رجل وقور جالس على مقعد خشبي عريض المسندين يشبه ما يوضع خلف المكاتب الفخمة، لم تهتم بباقي تفاصيل الصورة، فحدقتاها ظلت مركزة على وجهها فقط، عكس ذلك البريق المنبعث منهما غلاً واضحًا ممتزجًا بغضبٍ مستعر، كزت على أسنانها هامسةٍ بوعيد:.
,
, -ده اللي بعتينا عشانه!
,
, كانت حواسها بالكامل منصبة على إبراز حقدها نحو تلك المرأة، فلم تشعر آسيا بالحركة الدائرة من خلفها حيث انتهى معتصم من ارتداء ثيابه وخرج من غرفته متجهًا نحو الصالة، زكم أنفه ذلك العطر الأنثوي القوي الغير مألوف عليه، تلفت برأسه باحثًا عن مصدره، تباطأت خطواته مع رؤيته لانعكاس ظل أحدهم من على بعد، ضبط ياقته وهو يدنو نحوه، اعتلت الدهشة تعبيراته وارتفع حاجبه للأعلى مبديًا تعجبه من تلك التي توليه ظهرها، تحركت حدقتاه ببطء متأملة رشاقة جسدها المنحوت الذي برز بإغراء أربكه للحظة من أسفل ثوبها الأسود القصير، بالطبع أثار اهتمامه شعرها الأسود المعقود كذيل حصان يتدلى فوقه بطريقة منمقة للغاية، انخفضت نظراته تتأمل ساقيها الطويلتين اللاتين تضاعفا جمالهما مع كعبها العالي، اعتصر عقله محاولاً تذكر من هي، فربما التقاها مسبقًا لكن لم تسعفه ذاكرته، ازدرد ريقه وهو يتنحنح بخشونة ليلفت انتباهها لوجوده، لكنها ظلت متسمرة على وضعيتها تلك، انزعج من تجاهلها له، فخطا نحوها وهو يسعل بصوت مسموع ليتأكد تلك المرة من سماعها إياه، وببرود معتاد منها حينما تتعامل مع أمثال الرجال الذين يكررون نفس الحركة للفت انتباهها إليهم أدارت وجهها بتمهلٍ نحوه.
,
, رأت آسيا شابًا فتي العضلات تظهر وسامته الممتزجة بأناقته الواضحة يطالعها بنظرات فضولية تستفسر عن هويتها دون حاجته للنطق بذلك، استطرد معتصم حديثه متسائلاً بابتسامة صغيرة:
, -مين حضرتك؟
, تأمل حدقتيها اللاتين كانتا غريبتين بسبب تلك العدسات اللاصقة التي تضعها عليهما فبدت كمن توشك على سحر من يتطلع إليها بتعويذة منهما، خرج صوته مترددًا وهو يتابع:
, -أنا أول مرة أشوفك هنا، أنا أعرفك.
,
, بدت كمن تفضلت عليه بالرد وهي ترمقه بنظرة جليدية من برجها العاجي قائلة: -لأ
, استفزته نظراتها المتعالية نحوه وكأنه شخص حقير تجرأ عليها، بل إنها أشعرته بنظرة واحدة فقط أنه لا يرقى أبدًا للحديث إلى مثيلاتها من مرتدي قناع الغرور والغطرسة، سحب نفسًا مطولاً نفثه من أنفه متسائلاً بانزعاج:
, -ممكن أعرف الهانم مين وعاوزة إيه بالظبط؟
,
, عاودت التحديق في الصورة الفوتوغرافية وهي تكتف ساعديها لترد بسؤال صريح بنبرة تضمن في طياتها إهانة خفية:
, -فين نادية؟
, استثارت أعصابه على الفور من تجريد أحب الأشخاص إلى قلبه من أبسط الألقاب التي تضفي عليها وقارًا واحترامًا، صاح بلا وعي وهو ينهرها بعنف ومهددًا بسبابته:
, -اتكلمي عن أمي عدل، إنتي سامعة!
,
, تجاهلت عصبيته البائنة في نبرته واستمرت في التحديق ببرود للصورة، رأى معتصم تلك الابتسامة الساخرة التي تشكلت بقوة على ثغرها مما حقن دمائه سريعًا بغضبٍ مبرر، ضرب بيده فجأة بعنف على الحائط لتنتفض في وقفتها، تعقدت ملامحها وهي تستدير نحوه ترمقه بنظرات أكثر حدية، كز على أسنانه يسألها بغيظ:
, -ردي عليا، إنتي مين؟
,
, استعادت سريعًا ثباتها أمامه، لم تهتز من انفعاله الرجولي الذي يحاول إظهاره لها، وضعت آسيا يدها على منتصف خصرها، ثم أومأت بحاجبها قائلة بثقة بثت في نفسه القلق وقد عادت ابتسامتها المريبة للطفو على صفحة وجهها:
, -أنا اللي جاية أخرب عليها حياتها!
,
, انقبض قلبه بقوة من كلماتها التي بدت كالطلقات النارية المباغتة في صدره والتي أصابته في مقتل، شخصت أبصاره مفزوعًا من تهديدها الصريح، لم يمضِ عليه أكثر من ثوانٍ ليستوعب الأمر خاصة مع ابتسامتها التي زادت من استفزازه، غلت الدماء في عروقه واندفعت بقوة إلى جميع خلايا جسده تحفزه على الانقضاض عليها دون إبداء ذرة ندم واحدة، قبض على ذراعها متعمدًا غرز أظافره في لحم عضدها ليؤلمها وهو يصرخ بها:
, -إنتي اتجننتي؟
,
, هزها بعنف مواصلاً صراخه المهتاج: -مين إنتي علشان تعملي كده فيها؟ فكرك أنا هاسمح لحد زيك يقرب منها ولا يمسها!
, كركرت ضاحكة رغم ذلك الألم الذي يسببه لها ليستشيط غضبًا أكثر منها، توقفت عن الضحك لترد ببرود أتقنته:
, -ولا تقدر تعمل حاجة!
, أمسك بها من ذراعها الأخر مشددًا قبضتيه عليها، استمر في هز جسدها بعنف مشعرًا إياها بقدرته على إنهاء مثيلاتها ممن يتجرأن على المساس بفردٍ من عائلته الغالية، هدر بها بقسوةٍ:.
,
, -إنتي متعرفيش أنا مين
, شحذت قواها لتتخلص من يديه القابضتين عليها مقاومة إياه قدر المستطاع قائلة بتحدٍ سافر غير مبالية بتبعات ما تتفوه به مع شخص على شفا حفرة من الانفجار:
, -ولا تفرق معايا، أنا حسابي مع نادية وبس.
,
, لم يتحمل المزيد من ازدرائها لها، هي نجحت في إيصاله لذروة غضبه، أرخى يده ليباغتها بصفعة قوية على وجنتها طبعت فيها أصابعه على بشرتها البيضاء بوضوح، بدت كالصنم وهي تتلقاها فلم تهتز ولم تضعف، فقط احتقنت نظراتها واشتعلت بشررٍ مستطرٍ، استأنف تهديده العدائي لها قائلاً:
, -قبل ما تفكري تلمسي شعرة منها هاتكوني ميتة.
,
, رفع يده ليجذبها من شعرها الأسود فشعرت به يكاد يقتلعه من جذوره، ضغطت على شفتيها بقوة مانعة نفسها من التأوه وإظهار ألمها أمامه، هي لم تتوقع أن يواجهها شخصًا مثله، كانت آمالها معقودة على المواجهة العنيفة مع من تبغضها، وليس مع ذلك الغريب، ورغم ذلك عمدت إلى عدم الظهور بمظهر الضعف والخذلان في مقابل قوته الذكورية والجسمانية التي ظهرت بوضوح معها، لن تمنحه حتى الفرصة لاستضعافها رغم عدم كونها في موقف قوة، جرجرها خلفه منكسًا رأسها بطريقة ذليلة نحو باب المنزل صارخًا بها:.
,
, -برا!
, زادت حدة الألم فانفرجت شفتاها لتخرج أنينًا موجوعًا بحق، أدار المقبض لينفتح الباب ثم دفعها بكامل قوته للخارج لتفقد اتزانها وتطرح أرضًا، ارتطم جسدها بشراسة عنيفة بالأرضية الصلبة فتألمت عظامها خاصة رسغيها اللذين تحاملت عليهما كثيرًا، تحجرت الدمعات في عينيها الملتهبتين غضبًا وهي ترفع رأسها نحوه، ردت بعزة نفس محدجة إياه بنظراتها المميتة:
, -وماله، بس خليك فاكر آسيا شرف الدين هاتحرقكم قبل ما تموتوها.
,
, صفق الباب في وجهها بقوة متجاهلاً تهديدها العلني وهو يلعنها بكلمات نابية سمعت أغلبها من خلف الباب الموصود، تحاملت على نفسها لتنهض من رقدتها المتألمة كاتمة ما يعتريها من آلام شديدة، سارت بخطوات شبه عرجاء نحو المصعد وهي تمنع نفسها من ذرف العبرات، هي فقط لم تتخذ حذرها معه لذلك لا داعي للبكاء أو النحيب، سترد له الصاع صاعين إن أتت لها الفرصة، عليها فقط أن تركز الآن في هدفها الهام، إفساد حياة أمها.
,
, لم تستطع الدماء أن تحط في عروقه بعد ما سمعه منها من تهديدات تكاد تطال من أفنت عمرها في تربيته، من منحته الحنان والعاطفة الأمومية المضاعفة، ذرع معتصم غرفته ذهابًا وإيابًا محاولاً السيطرة على انفعالاته المهتاجة، كان الأمر عويصًا عليه، تمتم من بين شفتيه بغضبٍ شديد:
, -بنت ال، ، أكيد حد مسلطها علينا، مش هاسمحلها تأذي أمي!
,
, دقت الخادمة باب غرفته تسأله بقلق وقد رأت حالته المهتاجة وما دار من شجار عنيف مع تلك الغريبة:
, - معتصم بيه أجيب ل..
, قاطعها بحدة وهو يأمرها مشيرًا بسبابته: -مش عاوز حد يكلمني السعادي
, هزت رأسها بالإيجاب متفهمة سبب عصبيته وهي تقول بخنوع: -حاضر
, صاح بها بصيغة آمرة استوقفتها: -استني
, تابع مضيفًا بصوتٍ شبه لاهث: -لما ترجع ماما من برا عرفيني
, -حاضر يا فندم.
,
, قالتها وهي توصد الباب خلفها ليواصل معتصم التنفيس عن غضبه بالتحرك بعصبية في غرفته، شعر بالاختناق وبعدم قدرته على التصرف بعقلانية، حثته خلاياه على التصرف ببدائية بربرية مع تلك الحقيرة، القتل يعد بالنسبة لها ميزة لا تستحقها، انتزع رابطة عنقه وألقاها على الفراش، كذلك خلع سترته وشمر عن ساعديه ليبدأ بعدها في ممارسة رياضة الضغط كوسيلة للتفريغ عن الشحنة الغاضبة المتأججة بداخله، توقف عما يفعل حينما سمع صوت ضحكة نادية يصدح بمرح بالخارج، نهض سريعًا من مكانه واندفع كالثور الهائج متسائلاً بعصبية غير مفهومة بالنسبة لها:.
,
, -ماما
, نظرت له بغرابة متأملة ذلك العرق الغزيز الذي يغرقه وتلك الحمرة الظاهرة على وجهه، سألته بتلهف وهي تقترب منه لتضع يدها على صدغه:
, -مالك يا حبيبي، إنت تعبان؟ فيك حاجة؟
, سألها بصوته المتشنج وهو يجاهد لكبت انفعاله: -إنتي كويسة؟
, -أه يا معتصم، بس مال شكلك؟ في حاجة حصلت في الشغل؟
, تنفس الصعداء لكون تلك المقيتة لم تتعرض لها بأذى، بدأت ثورته في الهدوء تدريجيًا، لكنه أثارت فضول نادية لسؤاله بتوجسٍ:.
,
, - معتصم رد عليا، حد جراله حاجة؟ ماتخلنيش أفضل قلقانة كده
, رد بهدوءٍ حذر وهو يتصنع الابتسام: -مافيش حاجة خالص، اطمني
, -بس إنت..
, أمسك بكفي يدها ليرفعهما إلى فمه، طبع قبلة صغيرة على كلاهما قائلاً بوداعة تناقض همجيته قبل برهة:
, -يا ماما أنا تمام، ماتقلقيش عليا
, رمقته نادية بنظراتها الحانية وهي تسحب يديها من كفيه لتربت باليمنى على صدغه برفقٍ، أتت الخادمة تقول بعفوية لم يضعها معتصم في الحسبان:.
,
, - نادية هانم، في واحدة جت سألت على حضرتك
, شحب لون وجهه على الأخير وهو يلتفت بنظره نحو الخادمة يرمقها بغضب لتهورها الأهوج، تساءلت نادية بفضولٍ:
, -مين دي؟
, هزت كتفيها بالنفي قائلة: -معرفش يا هانم، بس معتصم بيه كان..
, قاطعها هاتفًا بقسوة: -خلاص روحي إنتي شوفي شغلك!
, جمدت نادية أنظارها على وجهه الذي بدا مريبًا، استشعرت وجود خطب ما يخفيه عنها، سألته بقلقٍ ظاهر في نبرتها:
, -مين دي يا معتصم.
,
, نكس رأسه بتردد، لم يرغب في البوح لها بما صار في غيابها، استمرت في ملاحقته بأسئلتها قائلة:
, -إنت عارفها يا ابني؟
, أجابها بامتعاض وهو ينظر إليها بحذرٍ: -لأ، دي أول مرة أشوفها، بس قالت إن اسمها..
,
, بتر عبارته متمنيًا في نفسه ألا يسبب الإفصاح عن هويتها بما لا يُحمد عقباه، أصغت نادية لكل كلمة يقولها باهتمام واضح على تعبيرات وجهها ونظراتها إليه، اتسعت حدقتاها برعبٍ مصدوم، وشعرت بأنفاسها تنقطع عن رئتيها حينما تابع قائلاً:
, - آسيا شرف الدين..!
 
  • عجبني
التفاعلات: غريب عن العالم
٣


لاح الماضي بما فيه من مآسٍ حفرت في الذاكرة لم تمحَ يومًا مع مجرد ذكر اسمها الذي لم تنساه أبدًا، شعرت نادية أنها محاصرة داخل كابوس مرير تضمن معاناة لم تنتهي بعد، اهتز بدنها كليًا وارتجفت أطرافها فلم تستطع ساقاها حملها، ترنحت في وقفتها المرتبكة، فوقع قلب معتصم في قدميه لرؤيتها على تلك الحالة المقلقة، أسندها متسائلاً بخوفٍ كبير:
, -ماما، حصلك إيه؟
,
, تهدجت أنفاسها وارتفع صدرها علوًا وهبوطًا من فرط التوتر المرتعد، تبدل كل شيء في لحظة وتحول سكون حياتها المؤقت إلى عاصفة هوجاء ستطيح بالأخضر واليابس إن حدث ما تخشاه، تساءل معتصم بنفس النبرة المرتاعة:
, -في إيه؟ ردي عليا أرجوكي!
,
, أشارت له بيدها نحو الأريكة القريبة، فأومأ برأسه متفهمًا مقصدها على الفور، أخفض ذراعه ليتمكن من إحاطتها من خصرها، ساعدها على السير حتى بلغها ثم أجلسها بحذرٍ عليه، تضاعفت حبات عرقها وزاد لاهثها، توجس معتصم خيفة من إصابتها بنوبة مرضية، لكن صوتها الهامس الذي التقطته أذناه جعله يركز حواسه بالكامل على وجهها الشاحب، كررت همسها قائلة:
, - آسيا.
,
, حملت نبرتها الغريبة شعورًا لم يرتح له، قست تعابيره معلنة عن شراسة وشيكة وهو يسألها بضيق لم يخفيه:
, -إنتي تعرفيها؟
, ردت عليه متسائلة بنبرة متلهفة: -هي فين؟
, انخفضت نظراته إلى قبضتيها المرتجفتين اللاتين قبضتا على كفيه وكأنها تستجديه في ضعف لم يحبه مطلقًا، عاود التحديق فيها متسائلاً بنبرة مرتابة:
, -ماما، ريحيني، إنتي تعرفيها؟
, هزت رأسها بإيماءات متتالية وهي تجيبه: -أيوه.
,
, صمتت لثوانٍ تعد على أصابع اليد قبل أن تتابع بأمومية غريزية نابعة منها: -دي. هي..
, بدا الارتباك واضحًا عليها، ابتلعت ريقها مكملة بترددٍ: -دي بنتي!
,
, وكأنه قد تلقى فوق رأسه دلوًا مليئًا بمكعبات الثلج في شتاء بارد ليتصلب جسده بالكامل ويتجمد تفكيره مع تلك الكلمات المقتضبة، فغر شفتيه مدهوشًا ومذهولاً منها، شرد عقلها في مشاهد متداخلة من ماضيها؛ طاولة خضراء مستديرة يجلس حولها بعض الأشخاص، وكؤوس متراصة بجوارهم يتجرعون ما فيها في شرفة واحدة، أوراق تُلقى بإهمال من أجل كسب النقود، نقلها عقلها إلى مشهد شجار محتدم وصغيرة تبكي بخوف خلف الستائر ليزداد الأمر تعقدًا بصفقة عقدت مع رجل وقور، عادت نادية من شرودها الخانق لصدرها وهي تبكي، لم يستطع عقلها تحمل تلك الومضات الخاطفة، ترقرقت العبرات في عينيها تأثرًا بالكثير مما مرت به، سلطت أنظارها على معتصم الذي كان واجمًا بدرجة كبيرة، استعطفت قلبه هاتفة بصوتها الملتاع:.
,
, -وديني عند آسيا
, للحظة عجز عن الرد عليها، فمشاعرها المتدفقة كأم تشتاق لابنتها تتناقض مع الشخصية العنيفة التي قابلها وتعهدت له بإذاقتها أقسى ألوان العذاب، انهمرت عبراتها دون إنذارٍ على وجنتيها لتزيد من حالة الذهول المسيطرة عليه، أضافت متسائلة بشوق يؤثر في النفوس، ويدمي الفؤاد المحترق شوقًا للقاء الأحبة:
, - معتصم، قولي بنتي كانت هنا فعلاً؟
,
, امتزجت عبراتها مع صوتها المتلهف وهي تكمل بصعوبةٍ: -جت سألت عليا؟ طب شكلها عامل ازاي؟
,
, تعقد لسانه وهربت الكلمات من عقله، نكس رأسه حرجًا منها، فكيف ببساطة يجيبها على أسئلتها ويفسر لها ما تنتوي تلك الشرسة فعله معها؟ خاف من إخبارها بالحقيقة لتنهار كليًا ويفسد عليها أمنياتها ويدمر أحلامها المتوسمة خيرًا في ابنة مشتاقة لحضن أمها وليس وحشًا كاسرًا يريد إحراق العالم من حوله، ارتخت يدي نادية المرتعشتين عن قبضتيه لتضع اليمنى على صدرها متحسسة نبضات قلبها المتسارعة، تنهدت قائلة بحرقةٍ ظهرت في نبرتها:.
,
, -بنتي بعدت غصب عني زمان، اتحرمت منها، هو خدها وهرب!
, لم يفهم معتصم حديثها الغامض، كان متحفزًا للغاية ضد تلك المتوحشة المسماة ابنتها، لكن أزعجه كثيرًا حالة الوهن المتمكنة من نادية، جثا على ركبته أمامها قائلاً بهدوء رغم ما يعتريه من غضب مبرر:
, -ماما، اهدي علشان صحتك، وكل اللي إنتي عاوزاه هايحصل.
,
, لم يكن مقتنعًا في قرارة نفسه بالوعد الأخير الذي قطعه لها، لكنه منحها متنفسًا لتثق به فلا تضغط على نفسها المرهقة لأجل من لا تستحق.
,
, لفت جسدها المبتل بالمنشفة بعد أن نهضت عن المغطس الذي مكثت فيه لبرهة من الزمن، أرادت أن تنسى تلك الصفعة التي ضاعفت من حقدها لأمها، وقفت آسيا أمام المرآة المشبعة ببخار الماء تزيح أثاره بأناملها، حدقت في تلك العلامات البارزة على جانب صدغها بأعين مشتعلة، كزت على أسنانها متمتمة بحنقٍ وهي تتلمس بشرتها:
, -الضربة اللي ما بتموتش بتقوي، ده درس ليكي يا آسيا.
,
, بدت متفاخرة بما فعله ذلك القاسي معها لتتأكد أنها بدأت في أولى خطوات تنغيص حياة تلك العائلة المرفهة، لكن سريعًا أظلمت نظراتها وهي تتابع:
, -إنتو لسه مش عارفين مين أنا.
,
, بدأت آسيا في تحفيز نفسها معنويًا كي لا تقف عند تلك الصفعة كثيرًا، ستتخذها حافزًا لمضاعفة كرهها نحو كل فرد في تلك العائلة، انتصبت في وقفتها لتزداد شموخًا وكبرياءً كتعبير عن قوتها الطاغية التي لا يمكن أن يردعها أحد، استدارت بجسدها متجهة نحو غرفة نومها ثم جلست على طرف الفراش لتعالج تلك الخدوش التي أصابت ركبتيها جراء سقطتها العنيفة، تسلل في مخيلتها وجه من ادعى أنه ابنها، زوت ما بين حاجبيها بعبوس حينما تحركت أعينها على خدوشه المحفورة في جانب ذراعها، قست تعبيراتها على الأخير، للحظة تشكل المشهد من جديد في عقلها؛ منزل فخم يحوي أثاثًا ثمينًا، عائلة مستقرة وسعيدة محاطة بكل سبل الراحة والنعيم، وابنًا بل وربما عدة أبناء يتنعمون بكل تلك الخيرات والرفاهية اللا محدودة، إذًا والدتها قد منحت غيرها الحب والحنان والمال والعاطفة وكل شيء افتقدته هي تاركة إياها قابعة في حياة فُرضت عليها بسبب اختيارها القديم، تحسست تلك الأثار بحذرٍ، ثم توعدت الجميع بشراسة:.
,
, -هتندموا كلكم!
, انتبهت لصوت رنين هاتفها المحمول فأدارت رأسها في اتجاه الكومود الموضوع عليه، بتثاقل واضح عليها نهضت عن الفراش لتمسك به، نظرت إلى اسم المتصل فتحول وجهها للامتعاض، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة لتضغط بعدها على زر الإيجاب قائلة ببرود:
, -ايوه يا بابا
, أتاها صوتًا دافئًا عبر الطرف الأخر يسألها بهدوء: - آسيا، إنتي وصلتي؟
, ألقت بجسدها على طرف الفراش وهي تجيبه: -بقالي يومين هنا.
,
, تنحنح قائلاً بحرجٍ: -سوري، كنت مشغول عنك شوية
, بدا وجهها خاليًا من التعبيرات وهي تمسك بالهاتف بيدها الأخرى، لوت ثغرها قائلة بفتور:
, -ده العادي بتاعك
, انفعلت نبرته صائحًا بحدة: -مش ذنبي إن أمك عملت فينا كده، هي اللي وصلتني لده، لو كانت..
, انتصبت في جلستها المسترخية على الفراش مكورة قبضة يدها المحررة بقوة، تحول وجهها للاحمرار المنفعل في ثوانٍ معدودة وهي تقاطعه بصرامة وقد احتقنت نظراته بصورة مفاجئة:.
,
, -مش لازم تفكرني كل شوية!
, رد بحذرٍ: -طيب خلاص يا آسيا، هي أصلاً سيرتها تفور الدم!
, صمت لثانية قبل أن يكمل بحنو مريب: -أنا كنت محتاج منك خدمة
, سألته بتجهمٍ وهي تهب واقفة عن الفراش بعد أن خمنت طبيعة طلبه: -إيه هي؟
, أجابها بارتباك استطاعت تبينه من نبرته: -في ناس أنا مديون ليهم بشوية فلوس و..
, قاطعته متسائلة دون انتظار لباقي جملته: -أد إيه؟
,
, أجابها بخزيٍ طفيف مستعطفًا قلبها: -مش مبلغ كبير المرادي، بس أوعدك هاتكون أخر مرة يا حبيبتي
, زفرت قائلة باستياءٍ وهي تحدق بشرود في الفراغ أمامها: -مالوش لازمة، إنت كل مرة بتقول كده يا شرف بيه.
,
, للحظة تجسد أمام أنظارها طيفًا لطاولة القمار التي اعتاد والدها الجلوس عليها منذ نعومة أظافرها منفقًا بسخاءٍ على تلك العادة السيئة حتى يخسر كل ما بحوزته فيضطر حينها أسفًا أن ينسحب من اللعب متوعدًا لنفسه بالتعويض في المرة القادمة، لكن دون جدوى هو دومًا يخسر، لا ربح على الإطلاق، وتدريجيًا بات الأمر إدمانًا بالنسبة له، وبالطبع هي مُلزمة بسداد مديونياته أولاً بأول كي لا تتراكم عليه الديون فيصبح عاجزًا عن دفعها، وبالتالي سيزج به في السجن، أفاقت من شرودها على جملته القائلة:.
,
, -عمومًا هما خدوا مني العنوان وهيجولك
, انزعجت كثيرًا من فعلته المتهورة تلك، نهرته قائلة بضيق بدا جليًا في نبرتها: -إنت عرفتهم بيتي؟ كنت خد منهم رقم الحساب وأنا أحول الفلوس عليه زي كل مرة
, رد والدها بأسفٍ: -مرضاش صاحب الفلوس
, أطلقت سبة خافتة من بين شفتيها قبل أن ترد عليه بجدية: -طيب أنا هاتصرف
, تابع شرف قائلاً بلطفٍ: -شكرًا
, ثم ادعى السعال قبل أن يضيف: -خلي بالك من نفسك يا آسيا، وأنا هاجيلك قريب.
,
, هزت رأسها بإحباط وهي ترد: -اوكي، باي!
, أنهت معه المكالمة دون إضافة المزيد، فتصرفه الأخير أزعجها للغاية وأصابها بالتوتر، فربما دون قصد سيسبب لها مشكلات هي في غنى عنها حاليًا، خاصة أن تلك النوعية من الديَّانة ليست بالمحببة على الإطلاق، ألقت هاتفها على الفراش واتجهت صوب المرآة محدثة نفسها:
, -مش هاخلص من الداء بتاعك ده يا بابا!
,
, حدقت في العلامات الواضحة على جانب وجنتها متذكرة من جديد الصفعة التي تلقتها عليه، استشاطت نظراتها وتحول غضبها كليًا نحو شخصٍ بعينه، كزت على أسنانها قائلة وهي تتلمس تلك الأثار بيدها:
, -إنتي السبب يا نادية، إنتي السبب، أي حاجة بتحصلي إنتي السبب فيها، وأنا مش هاسيبك ترتاحي أبدًا!
, - آسيا.
,
, تلفظ وحيد باسمها وهو ينظر إلى ابنه بغرابةٍ مستشعرًا جدية الموقف بعد أن سرد له الأخير باختصار ما حدث مؤخرًا معه من جدال مهدد بوضع متأزم، وأثر معرفة والدته بقدومها وتدهور صحتها مما اضطره لاستدعاء الطبيب لتغفو بتعبٍ في الفراش آملة أن تراها ذات يومٍ، جلس والده بإرهاق على الأريكة في غرفة المكتبة وهو يفكر مليًا في كيفية التصرف في ذلك الشأن، فقد مضى وقتًا طويلاً منذ نسيان تلك الأحداث المشحونة، لاحظ معتصم شرود والده وتعبيراته الغامضة والتي أثارت ريبته بدرجة مقلقة، سأله مهتمًا:.
,
, -إيه حكايتها بالظبط؟
, ابتلع وحيد ريقه مديرًا رأسه في اتجاهه، ثم أجابه بحذر: -الموضوع يطول شرحه، وحصل فيه لخبطة كتير وقلق و..
, قاطعه غير مكترث رغم حدية نبرته: -أنا مش فارق ده كله معايا
, أصغى أباه إليه جيدًا وهو يكمل مشيرًا بسبابته وموضحًا خطورتها: -بس البت دي عاوزة تأذي العيلة وتضيع سمعتنا كلنا، واحنا مش قليلين في البلد!
,
, سأله وحيد بيأس رغم عدم اقتناعه باقتراحه ذلك: -طيب ماينفعش نتفاهم معاها ونشوف عاوزة إيه؟ جايز طمعانة في قرشين!
, هز رأسه نافيًا: -معتقدش، دي ناوية على خراب!
, ثم شبك معتصم قبضتي يده معًا ليتابع: -اللي مخوفني أكتر هو حالة ماما، من ساعة ما عرفت إنها رجعت وهي زي ما إنت شايف يا بابا
, هز والده رأسه موافقًا إياه وهو يرد: -ايوه، صحتها على أدها ومش هاتستحمل أكتر من كده
, -وأنا خايف أصدمها فيها.
,
, حذره وحيد بجديةٍ: -حاول يا ابني تحل الموضوع ده ودي أو بالفلوس، شوف هايتعمل ازاي، وماتخليش نادية تعرف بده، مش عاوزينها تزعل وصحتها تتعب
, ضم شفتيه معًا مانعًا نفسه من التفوه بالمزيد، لكن عكست نظراته نية جادة وحاسمة للتصدي لأي محاولات منها لإفساد صفو العائلة، تحركت حدقتاه نحو والده عندما سأله:
, -أخبار الشغل إيه؟
, تشكل على ثغره ابتسامة باهتة وهو يجيبه: -كله تمام.
,
, عمد وحيد لإظهار الحماسة في نبرته كنوع من التشجيع لابنه قائلاً: -سمعت إنك عاوز تفتح فرع تاني، الكلام ده حقيقي؟
, أومأ معتصم برأسه إيجابًا وهو يرد: -مظبوط، مكتب المقاولات سمعته كويسة، وأنا عاوز أستغل ده في أكتر من مكان
, -**** يوفقك يا ابني، أنا عارف إن الضغط عليك أكتر من أي حد
, -ما أنا معايا باقي العيلة، بيعملوا إيه
, -فعلاً، أغلبكم مهندسين ومحاسبين، **** يخليكم لبعض
, -يا رب.
,
, قالها معتصم وهو يجلس باسترخاء على مقعده لكن لم يهدأ تفكيره مطلقًا، فقد كُلف بمهمة أخرى تختلف عما اعتاد إنجازه لينأى بعائلته عن شرر مستطر متمثل في تلك الأنثى المسماة آسيا..
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم
٤


صفقت باب الثلاجة بقوة بعد أن ألقت نظرة خاطفة على محتوياتها، كانت خاوية من الأطعمة، فقط بعض الزجاجات الفارغة كانت تستحوذ على معظم الفراغ بها، عبثت آسيا بخصلات شعرها وهي تنفضه للخلف، فكرت في شراء الطعام الجاهز ريثما تتجول في المحال القريبة وتشتري ما تحتاج إليه، بدت الفكرة ملائمة حاليًا خاصة أنها كانت تشعر بخواء معدتها، خرجت من المطبخ وهي ممسكة بهاتفها المحمول، ثم جلست على الأريكة المريحة الموضوعة بصالة منزلها، استندت برأسها على مرفقها وهي تتفقد أسماء المطاعم القريبة منها، ولجت إلى أحد مواقع الإنترنت لتحصل على مبتغاها لكن اضطرت لتؤجل تصفحها بسبب قرع الجرس.
,
, زفرت بضيق ثم ألقت بهاتفها على الأريكة لتنهض بعدها من عليها، سارت ببطء نحو الباب لتفتحه فوجدت حارس البناية أمامها، تأملت تعبيراته المصدومة وهو يحدق فيها باندهاش ذاهل، حيث انفرجت شفتاه معبرة عن صدمة واضحة حينما طالعت أعينه هيئتها الجريئة، لم تكترث آسيا بما ترتديه وهي تستقبل ضيوفها، فقد اعتادت على ارتداء المثير من الثياب والأكثر إغراءً لتظهر أنوثتها الخاطفة للعقول، تأمل الحارس سروالها الأبيض القصير الذي يعلو ركبتيها بمسافة كبيرة وهو مذهول من رشاقتها التي حركت فيه مشاعرًا عجيبة، سال لعابه وهو يرفع عينيه نحو كنزتها –ذات اللون الأخضر الباهت- والتي تظهر كتفها الأيسر بطريقة مثيرة، تدارك نفسه حينما سألته بحدةٍ:.
,
, -عاوز إيه؟
, ابتلع ريقه قائلاً بارتباك جلي: -ال، الأسانسير يا. يا هانم
, فهمت آسيا طبيعة نظراته نحوها، لم تكن بحاجة لتفسيرها فقد اعتادت على مثلها كثيرًا، انتصبت في وقفتها ثم نظرت له شزرًا مبدية سخطها من حضوره الغير مرحب به، بدت كلماته غير مرتبة وغامضة إلى حد ما، استندت بيدها على حافة الباب لتسأله بجدية:
, -ماله؟
,
, تنحنح قائلاً بتوتر وهو يجفف عرقه البارد بظهر كفه: -كنت. أقصد سكان العمارة بيلموا فلوس الكهربا تاعته
, مطت آسيا فمها قائلة بعدم مبالاة: -شوف عاوز كام وعدي عليا بكرة أكون جهزت الفلوس، مش معايا كاش دلوقتي
, شعر بجفاف يجتاح جوفه وهي تتدلل في وقفتها وكأنها تتعمد استفزاز مشاعره الرجولية، هتف بتلعثم:
, -بس..
,
, لم تمهله الفرصة للاعتراض حيث صفقت الباب بقوة في وجهه لتقطع عليه أحلامه الجامحة وتخيلاتها المتهورة، لوت ثغرها بتأفف وهي تعاود الجلوس على الأريكة، مدت يدها لتمسك بهاتفها المحمول، تحولت تعابير وجهها للانزعاج حينما لفت أنظارها ذلك الخبر الصادم عنها، فغرت شفتيها وهي تقرأه قائلة:
, -فضيحة أخلاقية لعارضة أزياء شهيرة!
,
, فارت دمائها وهي تكمل قراءة التفاصيل التي تضمنت صورة لها من أحد العروض القديمة التي أدتها في أحد عواصم الموضة مصحوبة ببعض الأكاذيب عن كون الحفل انتهى بسلوكيات منحرفة وتجاوزات مسيئة من قبل العارضة، شعرت آسيا بالحنق لمجرد إطلاق مثل تلك الشائعات عنها، فهي ليست من تلك النوعية الرخيصة التي تسعى لجذب الأنظار بفعل ما هو مشين أو ادعاء تلك الأقاويل عنها، لكنها تعلم جيدًا أنها حربًا غير معلنة مع العارضات الأخريات والوكالات الإعلامية التي تدعمهن لجذب الانتباه والشهرة وتسليط الضوء عليهن، أطلقت سبة نابية لتقول بعدها بضيق:.
,
, -مش معقول كده، كل شوية كلام كذب عني، حاجة تقرف!
,
, بالطبع لم يكن الأمر لمجرد الظهور إعلاميًا فقط وبقاء اسمها على الساحة الفنية، ولكن للمسألة أبعاد أخرى من حيث الدعاية المجانية للمؤسسة الصحفية التي تتداول الخبر وزيادة أرباحها التجارية، كذلك رفع التمويل المادي للعارضات الشهيرات ومضاعفة الإقبال عليهن، فأخبار كتلك تلقى صدى واسعًا في عالم الموضة وتكسب العارضة شهرة منقطعة النظير، كما تسعى خلفها عدسات الكاميرات والبرامج الترفيهية الشهيرة لتقصي أخبارها، و آسيا تعد من القلة الذين ذاع صيتهن وحققت شهرة واسعة في ذلك المجال، فقدت شهيتها بعد قراءتها لذلك الخبر المزعج وواصلت متابعة المزيد من الأخبار عن عالم الموضة.
,
, لم تكن الوحيدة التي طالعت ذلك الخبر المنتشر على الصفحات الإخبارية، فعلى الجانب الأخر وهو يجري كعادته تصفح الأخبار وقف عنده مصدومًا مذهولاً، تصلب جسده مع قراءته لفحواه المزعج، عادة لم يكن ليهتم بالأمر لولا رؤيته لصورتها الصارخة فجذبت أنظاره إليها، عرف هويتها على الفور، فشخصية مثلها لا يمكن أن تنسى أبدًا، تحولت تعابير وجه معتصم للحدية ونظراته للإظلام معتقدًا أنها بالفعل قد قامت بتلك الأمور المشينة، قست نظراته وهو يتوعدها قائلاً:.
,
, -مش هاسمحلك تلوثي سمعة العيلة، دي فيها موتك!
, أغلق جهاز (التابلت) الخاص به وأسنده بإهمال على سطح مكتبه، شبك كفيه معًا وهو يفكر مليًا في طريقة تمكنه من ردعها قبل أن يعرف أحد ما صلة عائلة وحيد المصري بها، انتبه للدقات الخافتة على الباب قبل أن تطل السكرتيرة برأسها قائلة بنبرة رسمية رغم رقتها:
, -أستاذ نبيل منتظر حضرتك يا فندم
, رد بتلهفٍ وقد حل يديه ليشير لها: -دخليه بسرعة.
,
, أومأت برأسها قائلة بابتسامة لطيفة: -حاضر يا بشمهندس!
, ولج شاب ما إلى داخل مكتبه على ملامحه تعابير متحمسة وهو يقول: - معتصم باشا
, لوح له بيده مرددًا بنبرة شبه حادة: -تعالى يا نبيل
, تفرس الأخير في وجهه متأملاً تلك التغييرات المزعوجة البادية عليه، جلس على المقعد المقابل له متسائلاً باهتمام:
, -شكلك مضايق، في حاجة؟
, تجاهل سؤاله الشخصي ليسأله هو بجدية: -ها قولي عملت إيه في اللي قولتلك عليه؟
,
, عاتبه نبيل باستعلاء مصطنع وهو يضع ساقه فوق الأخرى قائلاً: -يعني مش هتضايف ابن عمك الأول وتعمل معاه الواجب ولا خلاص علشان أنا..
, قاطعه معتصم بانفعال لم يستطع إخفائه: -مش وقته، ابقى خد اللي إنت عاوزه على حسابي، المهم طمني، جبت العنوان؟
, رفع نبيل حاجبه للأعلى مستغربًا من تصرفاته الغير مريحة وانفعالاته الغير مفهومة بالنسبة له، رد عليه بتفاخر وهو يدس يده في جيب بنطاله:.
,
, -أيوه يا سيدي، حبايبي كتير وبيحبوا يخدموا
, -فينه؟
, أخرج ابن عمه ورقة مطوية من جيبه ليرفعها نصب عينيه قائلاً: -اتفضل
, انتزعها معتصم من بين أصابعه ليقرأ ما دون فيها بنظرات غامضة للغاية أصابت الريبة في نفس نبيل وما ضاعف من شكوكه حينما رأه ينهض عن مقعده متجهًا نحو الباب، التفت برأسه نحوه يسأله باندهاش وقد ركز بصره عليه:
, -إيه ده؟ إنت ماشي؟ مش لسه..
,
, قاطعه معتصم قائلاً بتلهفٍ دون أن ينظر نحوه: -راجع تاني، بس ورايا مشوار مستعجل
, عاود نبيل الجلوس باسترخاء على المقعد متمطيًا بذراعيه وهو يضيف: -تمام، أنا هاطلب غدا لأحسن مصارين بطني بتهوهو، تمام يا ابن عمي؟
, انطلق الأخير نحو باب الغرفة مرددًا كالبغبغاء دون أن يبدي أدنى اهتمام بما سيفعله ابن عمه:
, -ماشي. ماشي.
,
, كان عقله مشغولاً بأمر واحد فقط، وهو الوصول إلى منزل آسيا بعد أن حصل على عنوانها، فالمواجهة بينهما باتت حتمية.
,
, غفلت أثناء متابعتها بفتور لما تعرضه شاشة التلفاز منتظرة مجيء عامل توصيل الطلبات بعد أن قرص الجوع معدتها، توقعت آسيا أن تكون الخدمة كمثيلتها بالخارج مثلما اعتادت، لكن الأجواء اختلفت هنا، فالطعام لكي يصل إلى باب منزلها يحتاج ما يقرب من الساعة على أقل تقدير، تأهبت حواسها مع سماعها لقرع الجرس، تثاءبت بتعبٍ وهي تتمطى بذراعيها ناهضة بثقل عن الأريكة، انحنت لتمسك بالأموال التي أعدتها مسبقًا ثمنًا للطعام الذي طلبته، ثم سارت بتمهل نحو باب منزلها، فتحته غير متوقعة ضيفها هذا، فقد كانت مشغولة بعد ما معها من نقود، انتبهت لصوته القائل بتهكمٍ متعمدًا إهانتها:.
,
, -شكله العادي بتاعك وإنتي بتقابلي ضيوفك بالمنظر المقرف ده
, رفعت آسيا وجهها لتطالع بأعين استشاطت غضبًا ذاك الذي أهانها بوقاحة فجة، تفاجأت بوجود معتصم أمامها، لم تعرف اسمه بعد، لكن ملامح وجهه العدوانية لم تنسها مطلقًا، رمقته بنظرات قاسية وهي ترد بشراسةٍ:
, -المنظر ده بيخلي أمثالك يركعوا تحت رجلي!
,
, ورغم قسوة كلماتها إلا أنه حافظ على جموده وهو يرمقها بنفس النظرات الاحتقارية، نظر لها بتعالٍ قاصدًا ازدرائها، فبادلته نفس النظرات المهينة، لأول مرة يلاحظ لون عينيها الحقيقي، لم تكن واضعة للعدسات اللاصقة كالمرة الأولى، عاد من شروده اللحظي في لون حدقتيها الفيروزي عندما تحركت خطوة للأمام لتسد عليه الطريق بجسدها مانعة إياه من الولوج لداخل منزلها إن أراد ذلك، ومعلنة بصراحة أنه ضيف غير مرحب به، شبكت ساعديها أمام صدرها متعمدة الظهور أمامه كأنثى متباهية بما تمتلكه من مقومات تثير الشهوات في نفس أي رجل يفكر في النظر إليها، ورغم كون الأمر مربكًا إلا أنه نظر لها بنفور كبير، وتابع قائلاً بنبرة جليدية تحمل العزة:.
,
, -بس مش معايا، اللي زيك أقرف أبصلهم.
,
, ربما لم تكن معتادة سوى على كلمات المدح والثناء من قبل المعجبين بها، لذا كانت تلك هي المرة الأولى التي تواجه فيها تلك النوعية من الرجال الغلاظ، ومع ذلك بدت مستمتعة وهي تلاعبه بتسلية، فإحراق تلك العائلة وإفساد صفوها يحتاج لحرفية مضاعفة وتمرس رهيب، وأي خطوة تقوم بها لتثير سكونهم تسعدها بالتأكيد، والدليل على ذلك هو مجيء ذلك المتبجح اليوم أمامها يستفزها في عقر دارها، شعرت بانتشاء عجيب وهي تخمن سبب قدومه، التوى ثغرها بابتسامة ساخطة وهي ترد بتهكم:.
,
, -ولما أنا كده، جاي عندي ليه؟
, تدللت في وقفتها أمامه لتلعب على مشاعره وهي تكمل ساخرة: -أكيد مش علشان تملي عينك من جمالي اللي يقرف!
,
, استفزه طريقتها المستهينة بردوده المسيئة لها، فواحدة غيرها لكانت احترقت في مكانها وانفلتت أعصابها لترد بعصبية محاولة التطاول عليه باللفظ أو حتى باليد أو بكليهما، لكن كانت على النقيض، لم تهتم بكلمة واحدة على الإطلاق، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو أمامها بكل ذلك الثبات الانفعالي وهو يقول:
, -علشان خاطر أمي!
, عبست تعبيراتها مرددة باستهانة ظهرت في نبرتها: - نادية!
,
, تحكم في أعصابه بقوة زائدة، فطريقة نطقها لاسمها كانت مزيجًا من التهكم والسخرية، تابعت آسيا مضيفة بإساءة أخرى صريحة:
, -مش محتاجة أسأل، هي بعتاك عندي لأنها أجبن من إنها تواجهني!
, صاح بها محذرًا وهو يوجه سبابته نحوها: -اتكلمي عنها كويس!
,
, كركرت ضاحكة لتثير أعصابه أكثر، رمقها بنظرات مغلولة متضمنة التحذير، لكنها لم تكترث به، ما لم يتحمله منها هو ارتفاع نبرة ضحكاتها الساخرة، اندفع معتصم بلا تفكير نحوها قابضًا على ذراعها بقسوة ثم جذبها معه إلى داخل منزلها رغمًا عنها، دفعها بقوة نحو الداخل وهو يغلق الباب خلفه لتخرج آسيا تلك المرة عن جمودها الزائف صارخة فيه وهي تقاتل لتخليص ذراعها من قبضته التي تعتصره:
, -إنت اتجننت، اطلع برا!
,
, رد بخشونة قوية وقد اتسعت أعينه غضبًا: -مش قبل ما نتكلم أنا وإنتي
, صاحت به منفعلة مهددة إياه بيدها المتحررة: -مافيش بينا كلام، في خراب وفضايح!
, أمسك بيدها الأخرى ليدير الاثنين معًا خلف ظهرها، شل حركتها وهو يطالعها بنظراته المغلولة منها، قاومت قيده الإجباري قدر استطاعتها محاولة التحرر منه، هزها بعنف متراجعًا بها نحو الخلف وهو يصرخ فيها:.
,
, -أنا عارف اللي زيك كويس، جايين من مستنقع قذارة، بس مش هاسمحلك تبوظي سمعة عيلتنا وتهدي تعب السنين ده كله
, ردت بتحدٍ رغم كونه يفوقها قوة غير مبالية بتبعات استفزاز الرجال الغاضبين: -مش هاتقدر تمنعني!
, احتدت نظراته على الأخير مرددًا بتهورٍ أعمى وهو يكز على أسنانه: -يبقى هاموتك
, تحدته بعدم خوفٍ رامقة إياه بنظرات نارية: -وريني؟
,
, حرر معتصم رسغيها ليقبض على عنقها قاصدًا خنقها، فقد تفكيره العقلاني في لحظة طائشة ليتصرف بربرية معها، لم يشعر بقوة أنامله وهي تضغط على عروقها مانعة إياها من التنفس، ومع ذلك ظلت نظراتها القوية تتحداه بشراسة رغم اختناقها، لم تكن لتستسلم له أو لغيره بتلك السهولة حتى لو كانت على أعتاب الموت..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم
٥

إن كانت واحدة غيرها موجودة في مثل ذلك الموقف المهلك للجأت للصراخ والاستغاثة بمن ينجدها من براثن الموت، لكن على عكس الطبيعي والمتوقع لم تقاومه على الإطلاق، ظلت آسيا ترمقه بنظراتها النارية التي تحمل كرهًا يوشك أن يحرق الأرض ومن عليها، ورغم شعور الاختناق الذي بدأ يستحوذ عليها إلا أنها رفضت التراجع، تقطعت أنفاسها وبدأت تدرك حاجتها للتنفس، لكن عنادها كاد يودي بحياتها، فهي لن تستسلم أبدًا حتى لو كانت على شفا خطوة من الموت، لن تريه أو تري غيره لحظة ضعفها، على الجانب الأخر، بادلها معتصم نظرات حقودة كارهة لما تبثه بداخله من مشاعر حنق وغل، لما توجده فيه من تصرفات بربرية لا يحبذها مطلقًا، تجمدت نظراته على حدقتيها الفيروزيتين، كانتا طبيعيتان، وتكرر في ذهنه سؤالاً ملحًا، لماذا ترتدي العدسات اللاصقة إن كانت تمتلك أعين ساحرة بحق، انتبه لتلك الزرقة التي تتسرب إلى بشرتها، شعر بالخوف لإقدامه على شيء أحمق وما ضاعف من تأنيب ضميره هو عدم مقاومتها له، أبعد أصابعه الغليظة عن عنقها متراجعًا بهلع للخلف وهو يجاهد لتمالك أعصابه التي انفلتت منه في لحظة طيش هوجاء، نظر لها مصدومًا وهو يستوعب ما أوشك على ارتكابه، شهقت آسيا بقوة لتستعيد أنفاسها من جديد، وضعت يدها على عنقها تتحسسه، ظلت تسعل لعدة مرات حتى عادت إلى طبيعتها، ومع ذلك لم ينتقص بغضها له ذرة واحدة، رمقته قائلة بتعالٍ رغم حشرجة صوتها:.
, -مكملتش ليه؟ خوفت؟
, حاول أن يضبط انفعالاته الثائرة بداخله ليحدثها بجمود انعكس على تعبيراته: -اللي زيك ماتستهلش إني أضيع نفسي علشانها، إنتي واحدة رخيصة!
, كركرت ضاحكة رغم الوهن الذي تسلل إلى خلايا جسدها مزدرية إهاناته، استخفت بتهوره قائلة ببرود واثق:
, -واللي زيي دي ه..
, بترت عبارتها عمدًا لتثير فضوله قبل أن تتابع بغرور وهي تستند بيدها على حافة الأريكة:
, -هاتخليك تركع عند رجلها تطلب العفو والسماح.
,
, استشاط من نجاحها الدائم في استفزازه، في إيصاله لقمة الانفعال حتى لو كان متسلحًا بأقوى دفاعاته، وقف قبالتها يشير لها بسبابته محذرًا:
, -أحسنلك ماتلعبيش بالنار، لأنك مش هاتستحملي حاجة واحدة من اللي هاعملها فيكي، وفي الأخر هتتحرقي لوحدك
, صفقت بيديها قائلة بتحدٍ: -وماله، أنا جاهزة!
,
, لم تصغِ آسيا لباقي ثرثرته المتعصبة بسبب ذلك الصداع الهائل الذي عصف برأسها في لحظة، تبعه دوارًا مصاحبًا له، هي تعرف ذلك الإحساس جيدًا، إنه إشارة إنذار لانخفاض مستويات السكر بالدم نتيجة عدم تناولها للطعام لفترة طويلة واستنزاف طاقتها دون وجود ما يعوض ما فقدته، كانت تصيبها تلك الحالة من آن لأخر حينما تعكف على اتباع حمية غذائية قاسية لتفقد الوزن، لم ترغب على الإطلاق في إظهار ضعفها أو تأثرها بشيء، بذلت مجهودًا هائلاً لتحافظ على ثباتها أمامه، كي لا تشعره بأنها ليست على ما يرام، نظر لها باشمئزاز متأفف، ثم أولاها ظهره قائلاً بقسوة وهو ينظر له بنفورٍ من طرف عينه:.
,
, -هرجعك من مطرح ما جيتي، بس بعد ما أندمك!
,
, لم يكن بها من الطاقة ما يجعلها ترد عليه، تمنت فقط أن يرحل قبل أن تتهاوى قدميها، تحاملت على نفسها لتبدو بكل ذلك الثبات، انتبهت من وسط ضلالاتها التي بدأت تغلف عقلها لقرع الجرس وقبل أن تركز حواسها على خطوتها التالية كان معتصم قد سبقها في ردة فعله، حيث اقترب من الباب ليفتحه، اعتقدت لوهلة أن عامل توصيل الطلبات للمنزل قد أحضر ما طلبته، فاتجهت بخطوات متهادية مقاومة لإحساسها بالدوار نحو الداخل متناسية أنها أحضرت مسبقًا المال من حقيبتها، وما إن اقتربت من عتبة غرفتها حتى فقدت قدرتها على المواصلة، مدت يدها لتستند على حافة الباب، لكن خارت قواها كليًا، غلف الظلام خلايا عقلها، فغابت عن الوعي ليسقط جسدها بقوة على الأرضية مسببًا ارتطامًا عنيفًا لرأسها.
,
, طالع معتصم بأعينه المشتعلة غضبًا الثلاثة رجال المرابطين أمامه، جاب بنظرات متفحصة هيئتهم المريبة، شعر بعدم الارتياح نحوهم، فهو يعرف مثل تلك النوعية من الأشقياء والمشاغبين، سألهم بحدية وهو يسد بجسده الباب:
, -إنتو مين؟
, أجابه ذلك الذي يقف في المنتصف: -مش ده بيت جماعة شرف الدين؟
,
, كان مدركًا بحدسه الذكوري أن رؤيتهم ل آسيا بملابسها تلك ستثير فيهم شيئًا ما، لذا كان عليه التصرف بحنكة دون أن يلفت أنظارها إليهم، استدار معتصم برأسه نصف استدارة ليجدها ابتعدت عن الصالة رغم استغرابه من تصرفها، تنفس الصعداء، ثم ضيق نظراته متابعًا تساؤلاته وهو يتحرك بحذر نحو الخارج مجبرًا إياهم على التراجع أيضًا:
, -عاوزين إيه؟
,
, أجابه أحدهم بامتعاض وهو يعبث بتلك المدية الصغيرة المتدلية من إصبعه: -لينا فلوس وجايين ناخدها منه
, ركز معتصم أنظاره عليها متوهمًا في عقله لو أن ذلك الفظ وقعت أنظاره الشهوانية عليها لربما عبث شيطان رأسه به ودفعه لفعل ما لا يُحمد عقباه معها، شعر أنه مكلف بحمايتها وإن كانت غريمته، ارتدى قناع القسوة متسائلاً بغلظة:
, -كام يعني؟
, رد الواقف في المنتصف بوقاحة مستهزئًا به: -ليه؟ هاتدفعهم إنت؟
,
, سلط أنظاره الحانقة عليه وهو يرد بقوةٍ: -آه، عندك مانع
, رفع الرجل يده في الهواء قائلاً بابتسامة متسعة: -طالما هناخد الأوبيج يبقى مالناش فيه
, أضاف الواقف على يساره قائلاً وهو يغمز له: -الباشا عليه 150 ألف لحلوح، ها يا بيه هتدفع ولا..
, فغر معتصم فاهه مصدومًا من كبر الدين وهو يقول: -نعم، 150 ألف جنية؟!
, أومأ الرجل برأسه مؤكدًا: -أيوه، هتدفع ولا نخش نكلم الجماعة جوا وهما يتصرفوا.
,
, كانت كلماته الأخيرة كوقود النيران بالنسبة له، لا يعرف ما الذي حثه ليتدخل في شئونها، ربما لأن طيف وجه نادية الباكي تجسد في عقله فألزمه بصورة أو بأخرى بأن يفعل الصواب، لذا قرر في لحظة – اعتبرها غباء منه - أن يسدد الدين، فهو حتمًا لن يمنحه الفرصة لرؤيتها، نظر له معتصم شزرًا وهو يرد بخشونة:
, -هادفع!
,
, ثم دس يده في جيب سترته ليخرج منها دفترًا للشيكات، حرر ورقة بالمبلغ المطلوب دفعه قبل أن يناولها للسمج الذي يبتسم بسخافة، ضاقت نظراته على الأخير وهو يحذره بنبرة آمرة:
, -وإياك حد فيكو يقرب من هنا!
, فرك الرجل كفي يده معًا قائلاً بانتشاء بعد أن زاغت أبصاره وهو يرى المبلغ النقدي يدون به:
, -دايمًا الجيب عمران يا باشا.
,
, ثم اختطفه من بين أصابعه ليتأكد مما قرأته أعينه، وأضاف بابتسامة صفراء: -كده حقنا وصل، سلام يا باشا
, رمقهم معتصم بنظرات دونية مستنكرًا تورطها بطريقة ما مع تلك الأشكال الضالة، تابعهم بأعينهم حتى انصرفوا، وقبل أن يستدير عائدًا إليها ليوبخها استوقفه أحد الأشخاص متسائلاً:
, -ده منزل مدام آسيا.
,
, استفزه ذلك اللقب الذي منحه هذا الغريب لشخصها، فالكل على ما يبدو يعرفونها إلا هو، التفت معتصم بجسده نحوه ليطالعه بنظرات حادة، اختفت الدهشة الغاضبة من تعابيره المشدودة حينما تأمل ثيابه والتي أشارت إلى كونه عاملاً لتوصيل الأطعمة، ردد العامل سؤاله من جديد وهو يتأمل الورق التي بحوزته والمدون بها العنوان المذكور:
, -البواب قالي إن المدام ساكنة هنا و..
, قاطعه معتصم متسائلاً بعصبية ملحوظة: -حساب الأكل كام؟
,
, -مكتوب في الإيصال يا فندم
, قالها العامل وهو يناوله الطعام بالإضافة إلى قيمة الفاتورة الخاصة به، أخرج معتصم من جيبه بعض النقود ثم أعطاها له، شكره العامل على البقشيش الزائد الذي منحه له ثم استدار عائدًا من حيث أتى، تمتم معتصم مع نفسه بضجرٍ:
, -ناقص مين تاني مش عارفك يا آسيا هانم؟!
,
, دفع باب منزلها بيده وهو يلج للداخل، انتابه إحساسًا مقلقًا ملأ صدره بالريبة لسكون المكان، فشخصيتها الهجومية لن تتقبل تدخله في شئونها، لكنها لم تظهر على الساحة في الدقائق الماضية، نفض تلك الفكرة عن عقله، فلن يشغل باله بأمرها لأنها حتمًا ستوصله للجنون، اقترب من المطبخ الحديث المفتوح على صالة المنزل ليضع الطعام على الطاولة الرخامية الواصلة بينهما، حثه فضوله من جديد على البحث عنها، وقبل أن يتحرك خطوة تراجع عن ذلك معنفًا نفسه:.
,
, -إنت مالك بيها؟
, تحرك بصره عفويًا نحو الجانب ليلمح ساقيها ممددتين على الأرضية، قفز قلبه في قدميه بهلع، وبدون تفكير اندفع نحوها ليجدها تفترشها بجسدها وفي حالة إعياء شديد، انحنى عليها جاثيًا على ركبته أمامها مناديًا لها:
, - آسيا!
, هزها بقوة علها تستجيب له، اعتقد في البداية أنها حيلة منها لإجباره على الركوع أمامها كما أخبرته قبل قليل، هب واقفًا ليصيح فيها بشراسة وقد احتقنت أعينه بشرر مستطر:.
,
, -إنتي فعلاً مجنونة!
,
, ألقى عليها وابلاً من الكلمات اللاذعة مهينًا إياها ومتوقعًا أن تنهض بين لحظة وأخرى لترد عليه بعدائية بعد أن انطلت عليه خدعتها، ولكن بدا وكأنه يُحدث نفسه، لم يجد منها استجابة حيوية، تجمد في مكانه ليتأكد أنها لا تمزح معه، ضاعف سكون جسدها ذلك الخوف بداخله، جثا مجددًا على ركبتيه، وتلك المرة حركها برفق، أزاح خصلات شعرها الأسود ليظهر له جانب وجهها المختبئ خلفه، استشعر تلك البرودة الكاسحة على بشرتها، ارتجف قلبه رعبًا، لقد اختبر ذلك الموقف من قبل حينما توفيت والدته نصب عينيه وهو *** صغير فلم يستطع أن يفعل شيئًا لإنقاذها، كانت ممددة على مثلها على بطنها فوق الأرضية لا تصدر عنها أي حركة، فقد سكون مخيف يلبد الأبدان وبرودة قارصة تختطف الأنفاس جعلته آنذاك عاجزًا حتى عن الصراخ لطلب المساعدة ليكتشف بعدها أنها توفيت جراء غيبوبة سكر انخرطت فيها لتسحبها نحو شفير الموت، عرف لاحقًا أنه كان من الممكن إسعافها لو لم يكن صغيرًا وقتها ليدرك حاجتها لما قد يمنحها الأمل الأخير في النجاة، أفاق من صدمته المرتعدة محاولاً لملمة شتات نفسه للتعامل مع أزمتها المخيفة، فهو الآن أكثر نضجًا، أكبر سنًا، والأقدر على التصرف حيال أمرها، مرر ذراعيه أسفل جسدها ليحملها، اعتدل في وقفته لينظر إلى ذلك الجرح النازف في جانب رأسها، اعتراه التوتر القلق، تساءل مصدومًا:.
,
, -حصلك إيه؟
, ولج لها إلى داخل غرفة نومها، ثم أسندها برفق على الفراش واضعًا الغطاء على جسدها، أسرع عائدًا إلى المطبخ يعد لها كوبًا من الماء ممزوجًا به قطع السكر، حطم الكثير وهو يبحث عن غايته، عاد إلى غرفتها جالسًا على طرف الفراش، مرر يده خلف ظهرها ليرفعها إليه، أسند رأسها على صدره وبدأ بإجبارها على ارتشاف القليل منه وهو يقول:
, - آسيا، اشربي ده! سمعاني!
,
, لم تعطه مؤشرًا على تجاوبها معه، أسند الكوب على الكومود ثم مددها على الفراش، اعتدل في وقفته وهو يدس يده في جيبه ليخرج هاتفه المحمول منه، عبث بأزراره حتى وصل للرقم المنشود، ضغط عليه مترقبًا رد الطرف الأخر بتلهفٍ قبل أن يقول بجدية انعكست حتى على تعبيراته القلقة:
, -دكتور مصطفى، عاوزك تيجي حالاً
, صمت للحظات قبل أن يتابع: -لأ مش في البيت، في مكان تاني هابعتلك عنوانه، بس أرجوك متتأخرش، الحالة مستعجلة!
,
, أنهى معه المكالمة ليعاود التحديق في آسيا ذات الطبائع القاسية، حتى في سكونها هي تقسو عليه وتعذبه بلا رحمة، جلس على طرف الفراش إلى جوارها متأملاً إياها، كتم الدماء النازفة منها مستخدمًا المنشفة القطنية، نظر لها مطولاً ومتسائلاً بخفوت بنبرة تحمل اللوم:
, -بتعملي فينا كده ليه؟
,
, أراد ألا يشحن تفكيره ضدها حاليًا، ابتعد عنها محاولاً إلهاء عقله مؤقتًا عن عدائيتها، لكنه لم يستطع، جلس من جديد إلى جوارها، أحنى رأسه على فمها مستشعرًا أنفاسها، وضع إصبعيه على جانب عنقها يتفقد نبضها، تنفس الصعداء لكونها مازالت على قيد الحياة، انتظر قرابة النصف ساعة بغرفتها يجوبها جيئة وذهابًا على أعصاب احترقت عشرات المرات حتى أتى رفيقه الطبيب ليفحصها، تركه معتصم بصحبتها وجلس بالخارج ينتظر ما سيخبره به متمنيًا أن يكون قد فعل الصواب، خرج إليه مصطفى يأمره بعد دقائقٍ:.
,
, -محتاجة محاليل تتعلق لها ضروري، لازم ننقلها المستشفى
, صمت معتصم لثوانٍ يفكر مليًا فيما سيفعله، ربما يريد مساعدتها لكنه لا يدرك ردة فعلها إن اصطدم كلاهما في العلن خاصة بعد أن تستعيد وعيها، ستحدث فضيحة لا محالة، توترت تعبيراته وهو يرد متسائلاً:
, -هي حالتها خطيرة؟
, -لأ بس..
, قاطعه بلا تفكير: -شوف إنت هتحتاج إيه وأنا هاجيبه، بس بلاش مستشفى.
,
, نظر له مصطفى بغرابة متعجبًا من قراره المريب قبل أن يرد بحذرٍ: -ماشي، أنا هاتصرف!
,
, مضى الوقت ببطء والاثنان يراقبان تسرب المحلول الطبي إلى جسدها عبر الأنبوب الموصول بجلدها، أشار مصطفى بيده ل معتصم كي يتبعه إلى خارج الغرفة، لحق به الأخير دون تعليق، كان يفكر في ردود منطقية مقنعة ليجيب بها على صديقه المقرب إن سأله مستفسرًا عن طبيعة العلاقة بينهما، لم يكن الكذب من الخيارات المتاحة لديه، نظر مصطفى له مطولاً قبل أن يقطع حاجز الصمت متسائلاً:
, -ممكن أعرف مين دي؟
,
, تجمدت تعابير وجهه عليه، بدا شاردًا في نظراته وهو يرد بحرجٍ: -أنا بصراحة مش عارف أقولك إيه، بس الموضوع أكبر مني وليه علاقة ب..
, قاطعه رافعًا يده أمام وجهه: -مش لازم تحكي لو مش حابب ده، هاكون متفهم، بس أنا عاوز أطمن عليك، خايف تكون واقع في مشكلة ولا حاجة
, تنهد الأخير قائلاً بحيرة بائنة في نبرته: -لحد دلوقتي لسه، بس **** أعلم بعدين إيه اللي ممكن يحصل.
,
, ربت مصطفى على كتفه قائلاً بهدوءٍ: -عمومًا هي البنت شوية وهتفوق، هو واضح إنها مكالتش بقالها فترة وده أثر على نشاط جسمها، يعني زي ما بنقول كده حصلها هبوط، يا ريت تهتم بصحتها شوية
, ابتسم معتصم قائلاً بسخرية: -هابقى أقولها الكلمتين دول لما تفوق
, ثم حدث نفسه متابعًا بتهكم: -علشان تعرف تعافر معايا كويس!
, سأله مصطفى باهتمام: -وأخبار طنط نادية إيه وعمو وحيد؟
, رد باقتضابٍ: -تمام الحمد****.
,
, كان يود سؤاله عن ابنة عمه أية لكنه تحرج منه، فربما سيبدو ذلك أمامه باهتمام زائدٍ منه نحو شخصها تحديدًا، وحينها لن يستطيع إنكار أنه بالفعل يشعر نحوها بمشاعر عميقة يكتمها بداخله منذ زمن بعيد، أثر السلامة – مؤقتًا – حتى يحين الوقت الملائم للإقدام على تلك الخطوة الحساسة، لذا تساءل بنفس الابتسامة التي يجيد رسمها على شفتيه:
, -وباقي العيلة كويسين؟
, -كلهم بخير.
,
, أضاف بتنهيدة أظهرت إحباطه من رده العام: -تمام، خليني أسمع عنكم كل خير، وسلملي عليهم كلهم، هستأذنك ألحق شغلي في العيادة لأني اتأخرت و.
, قاطعه معتصم متفهمًا: -**** معاك، ومعلش يا درش تعبتك معايا
, ابتسم مصطفى قائلاً: -ولا يهمك، احنا أصحاب
, رد عليه بودٍ وهو يربت على كتفه: -طبعًا.
,
, اصطحبه إلى الخارج وهو يمدحه بكلمات ممتنة، فرغم اختلاف تخصصيهما إلا أنهما بقيا أوفياء لعهد صداقة الطفولة، زفر معتصم بعمق لعدة مرات وهو يستدير عائدًا إلى غرفة نوم آسيا، كان عليه الاستعداد والتحفز لصدام أخر وشيك سينشب بينهما لتفسير ما حدث لها..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم
٦

تنفس بعمق وهو يلج إلى غرفتها بحذرٍ متوقعًا أن تكون قد استعادت وعيها، ألقى معتصم نظرة خاطفة عليها فوجدها مازالت غافية، ضمد الطبيب مصطفى جرح رأسها بعد أن عالجه، لم تكن بالإصابة الخطيرة، وستتعافى منها مع الوقت، خطا نحو الداخل ملقيًا تلك المرة نظرات متأملة لغرفتها، كان الأثاث حديثًا وبالطبع اللمسة الأنثوية جلية فيه، اقترب من المرآة ممررًا أنظاره على ما عليها من مساحيق تجميل وعطور مميزة، أمسك بقنينة عطر مستنشقًا عبيرها، بدا تأثير الرائحة قويًا على أنفه الذي زكم بها، أعاد وضعها ثم التفت بجسده نحو آسيا متسائلاً بفضول واضح عليه:.
,
, -يا ترى حكايتك إيه؟
,
, سحب ذلك المقعد الموضوع أمام التسريحة ليضعه بجوار الفراش مراقبًا إياها في صمت إجباري، استند بصدغه على إصبعيه مركزًا بصره على وجهها الهادئ والذي يخفي خلفه الكثير من الغموض المهلك، هي حقًا بارعة في استفزاز الأخرين، وكان هو أحد ضحاياها، بل وأجبرته على إخراج الشخص البربري الموجود بداخله ليتصدى لشراستها، رفع أعينه للأعلى حيث المحلول الموصول بكفها، زفر ببطءٍ وهو يدس يده في جيبه ليخرج هاتفه المحمول، تفقد سريعًا البريد الإلكتروني الخاص به متابعًا أعماله العالقة ثم نقل هاتفه على وضعية الصامت ليبقى مستعدًا للحظة إفاقتها، شعر بالملل من انتظاره الذي طال، أرخى رابطة عنقه ونزع عنه سترته ليبقى حر الحركة، رسم في رأسه عشرات السيناريوهات للحظة المواجهة الحتمية معها، بالطبع كانت النهايات غير مبشرة على الإطلاق، انتبهت حواسه مع تلك التأويهة المتألمة التي خرجت من بين شفتيها، اعتدل معتصم في جلسته، وانتظر بتوترٍ استعادة وعيها، لم تمضِ سوى بضعة ثوانٍ قبل أن تفتح جفنيها وهي تصدر أنين خافت، وضعت آسيا يدها على جبينها تتحسسه محركة رأسها للجانبين، شعرت بتلك الوخزة في جلدها فهمست بنبرة موجوعة:.
,
, -آه، دماغي!
, تحفزت حواسها مع سماعها لذلك الصوت الذي يقول بهدوءٍ: -حمدلله على السلامة
, حركت عينيها في اتجاه مصدره لتجد غريمها جالسًا على المقعد يطالعها بنظرات جامدة، انتفضت معتدلة في نومتها وهي تحاول إيجاد تفسير منطقي لوجوده معها في غرفتها، سألته بحدية وقد ارتسم الغضب على وجهها المليء بعلامات الإعياء:
, -إنت بتعمل إيه هنا؟
,
, رد ببرود متعمدًا تلك المرة أن يستفزها: -ده بدل ما تقولي شكرًا يا معتصم بيه على مساعدتك ليا، عيب عليكي!
, عبس وجهها كليًا وهي تسأله مصدومة: -مساعدة؟!
, التوى ثغره بابتسامة متهكمة موضحًا بغرور: -مش معقول مش فاكرة اللي حصلك، عمومًا أنا عملت اللي عليا واطمنت عليكي.
,
, تذكرت سريعًا ما مرت به من لحظات وهن نتيجة عدم اهتمامها بصحتها الغذائية فأفقدتها وعيها، وبالطبع الباقي ليس بحاجة إلى تخمين، استشاطت نظراتها وبدت تعبيراتها مشدودة للغاية، قامت آسيا بنزع الإبرة الطبية عن كفها غير مكترثة بالألم القوي الذي أصابها جراء تلك الشدة العنيفة، تفاجأ معتصم بما تفعله فهب واقفًا من مكانه متجهًا نحوها وهو يسألها مدهوشًا من تصرفاتها اللا عقلانية والطائشة:
, -بتعملي إيه يا مجنونة؟
,
, نزعت الضمادة أيضًا عن رأسها صارخة فيه بجنون وهي تلقيها نحوه: -اطلع برا بيتي
, اندفع نحوها قابضًا على رسغيها بأصابعه، أبعدهما خلف رأسها قائلاً بخشونة: -اهدي
, تلوت بشراسة محاولة الإفلات منه، لكن فارق القوى الذكورية كان لصالحه، ثبتها جيدًا، ثم تابع بصرامة وهو ينظر مباشرة في عينيها:
, -أنا أصلاً ماشي
, ردت بوقاحة متجاهلة عن عمدٍ معروفه معها وغير مكترثة بتبعات ما ستتفوه به: -يالا في داهية!
,
, احتقنت دمائه في شرايينه على الفور من إهانتها المستفزة، شدد من ضغطه على معصميها مهددًا بانفعال ملحوظ:
, -لمي لسانك بدل ما تندمي!
, ردت بتحدٍ دون أن يرف لها جفن: -عاوزة أشوف الندم ده
, غمز لها قائلاً ببرود ليخمد ثورتها المتلهفة لإندلاعها: -مش النهاردة
, ثم أحنى رأسه على وجهها مقلصًا المسافات ليضيف بغموضٍ: -بس هايجي يوم إنتي بنفسك هاتشكريني على الخدمة اللي عملتهالك!
,
, ارتابت من جملته التي تحمل الثقة والغرور في نفس الآن، لكنها حافظت على تجلدها وصلابتها أمامه لترد بقوة:
, -ده في أحلامك وبس.
,
, ثم اقتربت بوجهها منه قاصدة إرباكه بسلاحها الأنثوي الذي تجيد استخدامه بحرفية، استخدام شفتيها، ونظراتها الآسرة، شعر معتصم بأنفاسها تحرق وجهه الملتهب مسبقًا، لكن في تلك اللحظة امتزج الغضب مع نظرات مغرية وتهديدات أخرى خفية وموحية لا يستطيع أي رجل مقاومتها أو الصمود امامها كثيرًا، أدرك أنه سيقع تحت تأثير سحرها الفتاك إن تخلى عن دفاعه، أراد أن يوصل لها رسالة صريحة أن ذلك الموقف لن ينم سوى عن كره شديد متبادل بين قطبين لن يتراجعا عن إذاقة بعضهما البعض ألوانًا من القسوة والعناد، نظر لها بحقد ملويًا ثغره بازدراء وهو يقول:.
,
, -وأنا موافق!
, أراد إشعارها من نظرته أنها لن ترقى إلى تطلعاته، بينما استلذت آسيا بالتأكد من كراهيته لها، أرخى معتصم قبضتيه عنها مبتعدًا للخلف ليعتدل في وقفته، زحفت بجسدها على الفراش للخلف لتبدو أكثر استعدادًا وتحفزًا للاقتتال معه إن تطلب الأمر ذلك، رمقها بنظرة أخيرة غير مريحة وهو يرد بألفة تناقض حدية الأجواء:
, -سلام يا آسيا.
,
, التفتت برأسها باحثة عما يمكن أن تقذفه به فلم تجد سوى الكوب الزجاجي، ألقته دون تفكير فارتطم بظهره محدثًا ألمًا قويًا به، استدار نحوها يحدجها بنظراته النارية، شعر بذلك الألم يضربه، فرك بيده ما استطاع أن يصل إليه متحكمًا بصعوبة في أعصابه التي تتوق للفتك بها قائلاً بابتسامة جليدية:
, -مقبولة منك
, ردت مبتسمة بقسوة وهي تشير بحاجبها: -لسه الوجع جاي
, فتح ذراعيه في الهواء قائلاً بغرور: -وأنا مستنيه!
,
, ثم أسرع في خطاه قبل أن تنال منه مجددًا بضربات غير متوقعة، انتظرت للحظات حتى سمعت صفق الباب بالخارج لتقول معنفة نفسها:
, -دي غلطتي من الأول، كان لازم أخد احتياطاتي وماسبش نفسي أوصل للحالة دي قصاده!
, كزت على أسنانه قائلة بغلٍ: -مش هاتحصل تاني، وده يعلمني إني ماديش فرصة لحد يمسك عليا غلطة، وخصوصًا عيلة المصري.
,
, أخفضت نظراتها لتحدق في أثر الإبرة في كفها قائلة بوعيدٍ شرس: -اللي عملته معايا ماتجيش نقطة من اللي شوفته يا معتصم!
,
, بدا غير مهندم وهو يخرج من مدخل البناية متجهًا نحو سيارته ليستقلها بعد معركة قصيرة مع تلك الشرسة المسماة آسيا، أغلق معتصم الباب خلفه متأملاً ما أحدثته فيه من إرهاق ذهني ومجهود بدني كبير، ناهيك عن إتلاف أعصابه المعتاد معها، ضبط طرفي ياقة قميصه وهو يتأمل وجهه في المرآة، لم تكن تعابيره طبيعية، ضرب بقبضته المقود محدثًا نفسه:
, -بني آدمة صعب، مش ممكن!
,
, أسند على المقعد المجاور له سترته التي نزعها بعد أن ابتلت بالمياه، ثم وضع يده على فقرات ظهره يدلكها برفق متابعًا حديث نفسه بضيق:
, -لو كنت فضلت 5 دقايق كمان كان واحد فينا خلص على التاني!
,
, ورغم ذلك لم يمنعه كرهه لما تفعله من التفكير بفضول في طبيعة الأشخاص الذين تتعامل معهم، وفي طبيعة مهنتها كعارضة أزياء تهواها صحف الفضائح وتلاحقها لتنشر المزيد عما يخصها من تجاوزات مثيرة، شعر بالانزعاج الممزوج بالغضب لمجرد تخيلها تمارس دلالها بتلك الطريقة التي تشير إليها الأخبار –متعمدة استفزاز القراء والتلميح بفساد أخلاقي- لتوقع الرجال عند أقدامها، بل وربما يتخطى الأمر حدود ذلك بكثير، مما لا يجوز نشره علنًا، شعر بحالة من الفوران تعتري جسده، برغبة ملحة تدفعه للترجل من السيارة والصعود إليها من جديد، وربما التهور وقتلها قبل أن تقرأ والدتها عنها وتصدم فيها مثل صُددمم هو الأخر، أطلق سبتة خافتة من بين أسنانه مديرًا محرك السيارة لينصرف من المكان مقاومًا بمجهود مضاعف ما يملأ رأسه من أفكار جامحة، حاول إفراغ شحنته المتعصبة في الضغط على المقود وهو ممسك به أثناء قيادته لها، لكنه فشل، ظل طيفها يتراقص في مخيلته ليزيد من استفزازه ويجعله يقود بتهور، أوقف السيارة فجأة ضاغطًا على المكابح ليصيح غاضبًا:.
,
, -كفاية بقى!
, ثم عاود قيادتها من جديد ليصفها بعيدًا عن الطريق الرئيسي بعد أن صدحت أصوات الأبواق من حوله، أغمض معتصم جفنيه للحظات ليجبر نفسه الهائجة على الهدوء قسرًا، فحالته العصبية كادت تسبب له حوادث سير جمة إن لم يكن حذرًا في قيادته، أرجع ظهره للخلف متسائلاً بتنهيدة عميقة وهو يسند مرفقه على النافذة:
, -بتعذبيني معاكي ليه يا آسيا.
,
, وكأن حديث نفسه بوابة للتنفيس عما يجيش في صدره من هموم اضطر أن يكتمها فيه، لاح في عقله صورة نادية، تلك السيدة التي أفنت عمرها في تربيته بعد أن تزوجت من والده ليصبح هو محور اهتمامها بالكامل، فنال حبها وعطفها وحنانها وعوضته عن غياب أمه الراحلة، وشعر معها بالأمان الأسري، وجد معتصم هاتفه الصامت يهتز في جيبه، أخرجه منه مدققًا النظر في اسمها الذي ملأ الشاشة، كان يشعر بما يعتري صدرها من رغبة عامرة في الالتقاء بابنتها بعد أن عرفت الطريق إليها، لكنها ليست مثلما تخيلت، هي النقيض في كل شيء، عبست تعابيره وتجهمت نظراته وهو يردد لنفسه باستياء:.
,
, -إنتي ماتستهليش واحدة زيها يا أمي!
, تجاهل اتصالها مضطرًا كي لا تفضحه نبرته ويعجز عن إخفاء ما يشعر به، ألقى الهاتف بجواره ثم أعاد تشغيل المحرك ليقود السيارة إلى مقر عمله..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
٧

استعادت عافيتها خلال الأيام التالية مما منحها الفرصة لشراء ما ينقصها، وكذلك لجمع المزيد من المعلومات عن ذلك الخصم الشرس الذي احتل مقدمة قائمتها السوداء، حدقت آسيا في الطريق من شرفتها مرددة اسمه بين شفتيها:
, - معتصم!
,
, تضمنت نبرتها كراهية مضاعفة له، رغبة شيطانية في إهلاكه بعد إذاقته المعاناة، بالنسبة لها هو من استحوذ على كل شيء في الوقت الذي حُرمت هي فيه من أقل الحقوق، انتصبت في وقفتها وهي تدس يديها في جيبي سروالها القصير متابعة حديث نفسها:
, -مش هاخليك ترتاح ليوم
, أخرجت ورقة مطوية من جيبها لتقرأ فيه عنوان مكتبه، قست نظراتها أكثر وهي تكمل بعدائية غامضة:
, -هاتشوف اللي عمرك ما شوفته معايا.
,
, أخرجها من تفكيرها الانتقامي رنين هاتفها، استدارت بجسدها ببطء لتحدق فيه، ثم سارت بخطوات متأنية نحو الطاولة لتلتقطه بيدها، زادت ملامحها عبوسًا مع قراءتها لاسم أبيها مضيئًا على شاشته، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة قبل أن تجيب على اتصاله قائلة ببرود:
, -أيوه يا بابا
, رد بحماسٍ كبير: -حبيبة قلبي، وحشاني يا آسيا جدًا
, بدت غير مقتنعة باشتياقه الزائف لها، تطلعت إلى طلاء أظافرها وهي ترد بفتور: -وإنت كمان.
,
, تابع قائلاً بنفس النبرة المليئة بالحيوية: -ميرسي يا حبيبتي على اللي عملتيه معايا، إنتي بنت أبوكي بصحيح، أنا مش عارف من غيرك كنت اتصرفت في الفلوس ازاي لوحدي وفي الوقت القليل ده كمان!
, لم تفهم المقصد من جملته التي كانت إلى حد ما غامضة، لذا سألته مستفهمة: -عملت إيه؟
, أجابها قائلاً: -مش إنتي دفعتي الديون عني للراجل إياه، هو بعت المندوبين بتوعه ليكي.
,
, أصغت إليه بتركيز محاولة ربط أطراف الخيوط ببعضها البعض، سألها بجدية: -نسيتي ولا إيه يا آسيا؟
, تنبهت حواسها بالكامل لما أفصح عنه، على ما تذكر لم يقم أحد بزيارتها مؤخرًا إلا غريمها معتصم، لكنها لم تلتقِ بمعارف والدها، سألته من جديد لتتحقق من شكوكها التي بدأت تساورها:
, -الكلام ده حصل إمتى؟
, رد مازحًا: -بقيتي بتنسي كتير، اللي واخد عقلك.
,
, لم تكن في حالة مزاجية تسمح بتقبل مزاحه فصاحت بنفاذ صبر: -من فضلك يا بابا، قولي جوم امتى رجالته؟
, أجابها بهدوء: -من كام يوم، وهو بنفسه اتصل يشكرني على صدق وعدي معاه، إنتي طولتي رقبتي، بس اللي مستغربه إنه بيقول كان في راجل موجود معاكي وهو اللي..
, قاطعته قائلة باندهاش وقد تأكد حدسها: -راجل
, رد عليها: -ايوه، مش إنتي بعتي الفلوس مع حد؟
, -حد
, -أه، راجل تبعك وهو اللي خلص كل حاجة.
,
, اتضحت الصورة واكتملت في رأسها بعد أن ربطت الأحداث معًا، ف معتصم كان متواجدًا في منزلها في نفس الفترة التي تم تسديد الدين بها، إذًا فهو حتمًا على صلة بالأمر، حاولت أن تبدو نبرتها ثابتة وهي تجيبه:
, -أها. افتكرت. ده واحد بيخلصلي شوية مصالح قولتله يتعامل معاهم
, ثم زادت نبرتها جدية وهي تحذره: -بس بليز يا بابا الأشكال دي ماتخليهاش تيجي عندي تاني!
,
, صمتت آسيا للحظة قبل أن تضيف باستياء: -ويا ريت يا شرف بيه تبطل الداء ده
, أتاها صوته ممتعضًا من لهجتها الرسمية معه وهو يقول: -هاحاول، إنتي عارفة إنه مش بإيدي، أمك هي السبب في اللي أنا وصلتله، لو كانت وقفت جمبي زمان مكانش ده بقى حالي ولا كنت حطيتك في موقف زي ده، بس هي اللي باعتك وخانتني علشان الأغنى مني!
,
, نفس الأحاديث والجمل المتحاملة والتي تزيدها غضبًا عندما يلقيها على مسامعها ليتأكد من اشتعال جذوة حنقها نحو والدتها، ملت من كثرة تكراره للأمر فصاحت بحدة:
, -كفاية مش عاوزة أسمع
, رد بخشونةٍ: -قبل ما تحطي اللوم كله عليا، حاسبيها هي الأول، أنا عملت اللي أقدر عليه معاكي
, كورت آسيا قبضة يدها ضاغطة على أصابعها بقوة كوسيلة لكظم غضبها قبل أن يثور، ردت بعصبية وقد احتدت نظراتها:.
,
, -حافظة ده كويس، وعارفة أنا هاعمل إيه بالظبط
, -طيب بأقولك..
, كان والدها على وشك إضافة المزيد حينما قاطعته: -بابا معلش أنا تعبانة شوية، ممكن نتكلم بعدين
, رد بهدوء: -أوكي يا روحي، هاطلبك وقت تاني
, -باي
, قالتها وهي تنهي المكالمة سريعًا لتلج بعدها إلى الشرفة، وقفت مستندة بكفيها على حافتها محدثة نفسها:
, -أكيد هو اللي ورا الموضوع ده.
,
, تذكرت كلماته بكونه قد فعل معها معروفًا ما، فبات دينًا واجب السداد، احتقنت بشرتها بحمرة مغتاظة رافضة أن تكون مدينة له أو لغيره بأي شيء.
,
, لم يعرف بماذا يُجيب على إلحاح والدته بشأن رؤية ابنتها، تلك التي إن رأتها حتمًا ستلعن الأمومة بسببها، تعذر معتصم بالكثير من الحجج والأعذار آملاً أن تتراجع عن طلبها وتخبو رغبتها في الالتقاء بها، لكن كل يوم كانت تزداد إصرارًا على رؤيتها، فبات في أزمة حقيقية أمام طلبها الذي وضعه في موقف لا يُحسد عليه، لاحظ نبيل شروده المستمر فتفرس في وجهه متسائلاً باهتمام:
, -إنت مش معايا خالص.
,
, انتبه له معتصم قائلاً بحرجٍ: -سوري
, ادعى انشغاله بمطالعة الأوراق الموضوعة أمامه لكن لم يقتنع الأخير بذلك، سأله من جديد بفضول أكبر وقد بدا أكثر جدية عن ذي قبل:
, -ماتقولي على الشاغل بالك جايز أقدر أساعدك
, تنهد معتصم قائلاً بإحباط: -المشكلة دي صعب
, -ليه؟ هي حاجة تخص الشغل؟
, أجابه بامتعاض يعكس جزءًا مما يخفيه: -يا ريت، كنت على الأقل هاقدر ألاقيها حل أو صِرفة، لكن المصيبة دي أعوذو ب****، معرقبة ومتعقدة.
,
, رفع نبيل حاجبه للأعلى مرددًا باستغراب: -للدرجادي؟!
, أعاد معتصم ظهره للخلف قائلاً بتعب: -ادعيلي بس أعرف أشوفلها حل
, رد عليه نبيل مبتسمًا ومحفزًا إياه: -**** معاك، إنت بتعرف تتصرف في الأمور دي
, سأله معتصم محاولاً تغيير طبيعة الحوار: -ها جهزت للاجتماع بتاع المقاولة الجديدة؟
, -طبعًا، كله حصل، ساعة ويكون المندوبين عندنا
, -تمام.
,
, تنحنح بخشونة ليكمل عمله نافضًا ما يخص آسيا عن عقله مؤقتًا ليتمكن من التفكير بذهن صافٍ فيما هو مطروح أمامه، على عكس نبيل الذي كان الفضول يحثه لسبر أغوار عقل ابن عمه لمعرفة ما الذي يفكر فيه ويعوقه عن التصرف بصورة طبيعية.
,
, في نفس الأثناء كانت آسيا في طريقها إلى مكتب المقاولات والإنشاءات الذي يديره خصمها، توقفت بسيارتها التي اشترتها مؤخرًا عند العنوان المنشود، اصطفت في موقف الانتظار المقابل للمبنى الحديث متأملة بأعينها اللافتة التي تعتلي أحد أدواره الأولى لتتأكد من بلوغها وجهتها، التوى على ثغرها ابتسامة مراوغة، فاليوم ستضع لمستها الساحرة لتفسد الأجواء هناك وتنهي دينها العالق، التفتت برأسها حينما سمعت صوت أحدهم يصيح عاليًا:.
,
, -يا أستاذة ممنوع الوقوف هنا
, عبست تعبيراتها وهي تسأله باقتضاب: -ليه؟
, أجابها موضحًا وهو يدنو من نافذة سيارتها: -ده انتظار خاص بالموظفين؟
, نظرت له آسيا بتعالٍ مدققة النظر في ثيابه الرسمية التي يرتديها ونازعة بإصبعيها نظارتها عن أعينها لتقول بعدها:
, -أنا جاية في شغل، أكيد مش هالعب هنا
, رغم انزعاجه من نظراتها الدونية نحوه إلا أنه رد بهدوء معتاد مع تلك النوعية من الأشخاص المتكبرين:.
,
, -يا هانم أنا مسئول عن انتظار السيارات هنا!
, تعمد الضغط على كلماته التالية ليؤكد على جدية الأمر وطبيعة الصلاحيات الممنوحة له حينما أضاف:
, -و معتصم بيه منبه إن محدش يقف في المكان ده علشان تبع مكتبه
, مجرد ذكر اسمه كفيل بتغير مزاجها الهانئ، صاحت مستنكرة وقد احتقنت نظراتها: -هو اشترى المكان؟
, هز رأسه نافيًا وهو يرد: -لأ يا فندم، بس مأجره
, ابتسمت قائلة بتهكم: -أها، يعني العربيات اللي تبعه تقف بس هنا؟
,
, أومأ برأسه قائلاً: -موظفين المكان بس، أما أي حد تاني فبيركنوا هناك، في الانتظار ده
, حركت رأسها بإيماءة واضحة وهي تقول باقتضاب: -أوكي.
,
, أدارت محرك السيارة وانطلقت بها حيث أشار لها، ثم ترجلت منها لتظهر أنوثة طاغية تخطف العقول، لم يتوقع الموظف أن يقابل في حياته مثلها رغم رؤيته لعشرات النساء ممن يترددن على المبنى، لكن واحدة مثلها تحديدًا فلم يحدث، فللوهلة الأولى ستظن أنها ربما أتت لمقابلة عمل لكن بعد أن ترى هيئتها كاملة ستغير رأيك، بالطبع فما ارتدته من ثياب شبه فاضحة كان كفيلاً بإثارة الأفكار الجامحة في نفوس الرجال خاصة حينما يمتزج ذلك مع دلالها وأرستقراطيتها المتعالية، تعمدت أن تسير بغنج لتتأكد من متابعة من يقع عينيه عليها، خاصة ساقيها اللاتين كانتا تلمعان في ضوء الشمس، وعينيها اللاتين تضيئان بوميض مربك للنفوس، جذبت طرف تنورتها الخضراء القصيرة للأسفل وهي تصعد على الدرج قاصدة التباطؤ في سيرها، استطاعت آسيا أن تميز تلك الهمهمات الجانبية التي تدور حولها شاعرة بالانتشاء لكونها قد أحدثت البلبلة في نفوس المتواجدين بالمكان، وصلت إلى مدخل مكتب المصري للمقاولات والإنشاءات الهندسية فشددت من كتفيها وسارت باستعلاء وهي تخطو نحو الداخل، هبت السكرتيرة واقفة من مكانها حينما رأت تلك المقبلة عليها بكنزتها البيضاء وتنورتها الملفتة للأنظار لتسألها بتوتر:.
,
, -أيوه يا فندم، حضرتك عاوزة مين؟
, أشارت لها آسيا بإصبعيها وهي ترد عليها بتساؤل: -مش ده مكتب اللي مشغلك؟
, أجابتها الأخيرة تلقائيًا: - معتصم بيه
, تجهمت تعبيرات وجهها وهي ترد: -ايوه، هو موجود؟ أنا عاوزاه!
, انزعجت السكرتيرة من طريقتها الفظة في الحوار معها، وعلى قدر المستطاع حاولت أن تتعامل معها بمهنية احترافية، ابتسمت قائلة بلباقة:
, -حضرتك في ميعاد سابق علشان أقدر أبلغه بوجودك، ولو مكانش في يبقى..
,
, قاطعتها قائلة بجمود: -الكلام ده يتقال لأي حد إلا أنا
, ثم بدأت في التحرك نحو باب مكتبه الذي قرأت عليه لافتة المدير، اعترضت السكرتيرة طريقها متسائلة بتخوفٍ:
, -يا أستاذة رايحة فين؟
, نظرت لها شزرًا وهي تدفعها من كتفها للجانب لتتمكن من المرور، استاءت السكرتيرة كثيرًا من أسلوبها الغير لبق معها مرددة بضيق:
, -من فضلك
, ردت عليها بقسوةٍ: -حاسبي.
,
, وبالفعل أمسك بالمقبض فاتحة باب الغرفة ومقتحمة إياها دون استئذان ليتفاجأ بوجودها معتصم، اعترت الدهشة الصادمة ملامحه وهو يقول بعدم تصديق:
, - آسيا
, بتصرفها المتجاوز وضعت السكرتيرة في موقف حرج للغاية سيعرضها بالتأكيد للتوبيخ، بدا على وجهها التوتر وهي تردد بارتباك:
, -أنا أسفة يا فندم، معرفتش أمنعها خالص.
,
, تحركت أعين معتصم نحوها كاتمًا ضيقه ومتحكمًا في انفعالاته التي تهدد بالانفجار في أي لحظة، فلا ذنب لتلك المسكينة لكي يعنفها، هو أدرى الأشخاص بطبائع آسيا، عاود التحديق في وجهها القاسي حينما نطقت ساخرة:
, -هما كلمتين يا، ابن المصري ومش هاعطلك
, اعتدل معتصم في جلسته رامقًا إياها بنظرات احتقارية ومحافظًا في نفس الوقت على جموده المقلق، تابعت قائلة بهدوء وهي تسير بدلال نحو مكتبه:
, -أنا ماحبش أكون مديونة لحد!
,
, انزوى ما بين حاجبيه متسائلاً في صمت عما تقصده، بقي لثانيتين أسيرًا لتلك العدسات اللاصقة التي تخفي خلفها اللون الفيروزي لحدقتيها، اشتعلت نظراته غضبًا واشتدت تعابيره على الأخير عندما أكملت بإهانة واضحة:
, -وخصوصًا لو كان واحد زيك!
, فقد قدرته على ضبط أعصابه فنهض من مكانه دافعًا مقعده بعصبية للخلف محذرًا إياها بشراسةٍ:
, -احترمي نفسك!
,
, تناسى معتصم كليًا وجود ابن عمه معه في الغرفة، تنحنح الأخير بحرج وهو يتحرك مبتعدًا ليقول بهدوء:
, -أظن وجودي مالوش لازمة
, رفع معتصم يده معترضًا على انصرافه ومركزًا عينيه المحتدتين على وجه آسيا: -استنى يا نبيل!
, ردت عليه باستخفاف متعمدة التدلل في وقفتها: -مش محتاجة جو الأفلام القديمة ده امشي لأ استنى، هما كلمتين وبس!
,
, أخرجت من حقيبة يدها الصغيرة ورقة مطوية ثم ألقت بها في وجه معتصم لتزداد بعدها تعبيراته شراسة، ابتسم قائلة بغرور مستفز:
, -خد فلوسك، حسابي أنا أعرف أخلصه بنفسي، مش مستنية واحد زيك يعمل معايا معروف
, تحرج نبيل كثيرًا من وجوده في ذلك الموقف المخجل والذي ينم عن معرفة ومشادات سابقة بين الاثنين، أشار بعينيه للسكرتيرة مفضلاً الانسحاب من الغرفة فورًا دون انتظار رأيه:
, -هاروح أشوف الاجتماع، تعالي معايا.
,
, فقد معتصم قدرته على التحكم في نفسه أمام بركان استفزازها المحنك، اندفع نحوها قابضًا على ذراعيها بقبضتيه وضاغطًا عليهما بكل قوة متعمدًا غرز أظافره في لحمها لتشعر بالألم، صاح بها باهتياج:
, -إنتي اتجننتي، فاكرة نفسك مين علشان تكلميني بالشكل ده؟
, ورغم ذلك الألم الذي ألهب بشرتها وأشعرها بوخزات قاتلة إلا أنها تماسكت أمامه، شحذت قواها لتبعده قبضتيه عنها وهي ترد:
, -الظاهر إنك نسيت أنا هاعمل فيك إيه.
,
, لم تنجح في الإفلات منه، وشدد هو من اعتصار عضديها قائلاً بتحدٍ مخيف: -مش هاسمحلك
, حدقت آسيا في أعينه الملتهبة بألسنة الغضب ببرود يضاعف من ثورة أي شخص طبيعي، اتسعت ابتسامتها قائلة بثقة مغترة:
, -مش هاتقدر
, لم يرغب معتصم في منحها المزيد من الفرص لتستلذ بإيصاله لحافة الجنون معها، دفعها للخلف بعد أن أرخى قبضتيه عنها، نظر لها باشمئزاز وهو يقول بتأفف:.
,
, -وايه المنظر القذر اللي جاية بيه هنا؟ احنا مكان محترم مش كباريه يا مدام
, أطلقت ضحكة مائعة وهي تنظر له بإعجاب لنجاحها في الوصول إلى مسعاها بوضعه في موقف حرج يجعله مادة للأقاويل في مقر عمله، وضعت يدها على منتصف خصرها قائلة بتفاخرٍ:
, -ليك الشرف إني أجيبك بنفسي لحد هنا
, أشار لها بسبابته صارخًا في وجهها: -برا بدل ما أرميكي بنفسي زي المرة اللي فاتت.
,
, رفعت كفها أمام وجهه قائلة ببرود وكأن إهانته لها تعد مدحًا: -أنا طالعة لوحدي، ومن غير مشاكل ولا حتى فضايح، وده بس علشان الخدمة اللي مفكر إنك عملتهالي!
,
, أولته ظهرها لتستفزه أكثر بتنورتها الضيقة التي لا تليق أبدًا إلا بالعاهرات الساعيات لاقتياد أشباه الرجال وجرهم إلى ليالٍ ماجنة، أبعد أعينه مضطرًا ولاعنًا نفسه على تطلعه نحوها وتفكيره فيها بتلك الطريقة المخجلة، شعر بدمائه تفور في عروقه من جديد حينما أضافت متعمدة ازدرائه:
, -وبالمناسبة أنا حطلتلك بقشيش أجرة تعبك معايا!
,
, لم يعرف ما الذي يجب أن يفعله مع واحدة مثلها تحاول بشتى الطرق اختبار عصبيته وإخراجه عن طور الوقار والاحترام، أطلق سبة نابية قاصدًا إهانتها:
, -إنتي..!
, ورغم قسوة كلمته المقتضبة التي تضمنت معانٍ تسيء إليها وتشعرها بأنها سلعة رخيصة إلا أنها ردت مبتسمة بهدوء:
, -ميرسي، وبكرة تشوف ال، دي هاتعمل ايه فيك!
, صرخ بها بقوة: -برا!
,
, اكتفت بالابتسام قبل أن تخرج من الغرفة لتتركه في حالة هياج واضحة للجميع، استطاعت أن تسمع صوت قذف محتويات مكتبه وتحطم بعض الأشياء مصحوبًا بكلمات غضب مسيئة، زادت ابتسامتها اتساعًا مستمتعة بتأجيج العداوة بينهما، خطت برشاقة وتباهٍ وهي تعاود وضع نظارتها على عينيها مكملة سيرها نحو الخارج ومتأكدة من تركها لفضيحة ستؤرق مضطجعه لأيام..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
٨

لم تكتفِ بنزع فتيل القنبلة في مكتب المقاولات والإنشاءات التابع لخصمها اللدود مسببة انفجارًا مدويًا في الأوساط المحيطة به بل أرادت إحراق أعصابه أضعافًا مضاعفة، سارت آسيا بخيلاء وسط العيون التي تلتهمها بشراهة، تعمدت رسم تلك الابتسامة المغترة على شفتيها لتؤكد للجميع مقولة احذر غضب النساء ومكائدهن، خرجت من المبنى متلفتة حولها، ظل عقلها يفكر بطريقة شيطانية واضعًا لها الكثير من الأفكار الجهنمية للانتقام من معتصم، طرأ بخلدها فكرة إتلاف سيارته، نعم قذلك الأمر حتمًا سيصيبه بالجنون، لم يكلفها الأمر سوى بضعة ابتسامات رقيقة وكلمات معسولة ألقتها على موظف الأمن لتتمكن من الإيقاع به في شباكها لتعرف بالضبط مكان سيارته المصفوفة ونوعيتها، اتجهت بعد ذلك إلى سيارتها لتستقلها وانتظرت بداخلها لبعض الوقت مترقبة اللحظة المناسبة لتنفيذ خطتها، وحينما هدأت الأجواء قليلاً وأصبحت الحركة قليلة نسبية شرعت في القيام بها، وبحسبة عقلية بسيطة استطاعت أن تقدر المسافات بين السيارتين لتتمكن من الاصطدام بها وإحداث بعض الخسائر في صندوقها الخلفي، انتفض جسدها بعنف وهي ترتطم بها، لكن ضاعف ذلك من حماسها، كركرت عاليًا قائلة لنفسها بتفاخرٍ:.
, -تستاهل
, ركض أحد موظفي الأمن ناحيتها متسائلاً بفزعٍ وقد رأي ما فعلته: -يا مدام، إيه اللي بتعمليه ده
, تجاهلته مرددة لنفسها: -كانت نفسي أشوف شكلك وإنت شايفها متبهدلة كده!
,
, لم تتوقف عن الضحك الساخر وهي تستدير برأسها للخلف لتبتعد بالسيارة عن الموقف، حاول موظف الأمن اللحاق بها لكنه فشل مما اضطره لاستخدام اللاسلكي الخاص به للإبلاغ عنها لمسئوليه الأعلى رتبة منه، تذكرت آسيا أنها لم تضع له شيئًا يستفزه ويعلمه بهويتها، أوقفت السيارة فجأة، ثم بحثت بداخل حقيبتها عن ورقة فارغة، لم تجد إلا إيصال شراء بعض المواد الاستهلاكية من السوبر ماركت فقررت الكتابة في الخلفية الفارغة مستخدمة أحمر الشفاه، عضت على شفتها السفلى باستمتاع مغتر وهي تكتب (أنا قاصدة، آسيا)، أدارت السيارة في اتجاهه متعمدة صدمها من جديد، ارتد جسدها بقوة لكنها لم تكترث للرضوض التي أصابتها مثلما فعلت في المرة الأولى وسط ذهول الموظف الأمني، ألقت بالإيصال من النافذة ليسقط بجوار الإطار ثم تابعت بعدها قيادة السيارة وهي تدندن بسعادة واضحة عليها.
,
, هرول خارج مكتبه بعد أن تلقى ذلك الخبر الصادم عن محاولة إحداهن صدم سيارته عمدًا ولوذها بالفرار، حاول موظف الأمن أن يفسر له الأمر على حسب ما رأه، لكن كان معتصم شاردًا عنه وغير منتبه لما يقول، وقف خلف سيارته متأملاً ما أحدثه من خسائر جمة في مؤخرتها، وضع كلتا يديه على رأسه محاولاً استيعاب ما فعلته بجرأة لم يعهدها في النساء من قبل، لحق به ابن عمه مدققًا هو الأخر النظر في التلفيات الموجودة بها، تساءل باندهاش:.
,
, -مين عملت كده؟
, أخفض ذراعيه ملتفتًا نحوه ومتخذًا الصمت ردًا عليه مما دفعه لسؤاله من جديد: -طب وليه أصلاً؟ هو إنت تعرفها؟
, ركز معتصم أنظاره عليه كاظمًا ما يشعر به حاليًا من براكين ثائرة بداخله، بينما عكس وجهه الاحتقان المسيطر عليه، أدار نبيل وجهه للجانب فلمح بطرف عينه الورقة المطوية بجوار الإطار، انحنى ليلتقطها متسائلاً باستغراب:
, -دي إيه دي؟
, فتحها ليقرأ ما دون فيها قائلاً بنبرة عالية: -أنا قاصدة، آسيا!
,
, تحفزت حواس معتصم كليًا مع ذكر اسمها وتحولت تعابيره للشراسة، تمتم من بين أسنانه المضغوطة:
, - آسيا، شكلك عاوزاني أموتك!
, كور يده ضاربًا صندوق السيارة بعنف، بدا مغلولاً للغاية مما تفعله به من استثارة دائمة لأعصابه، من إشعالها دومًا لفتيل غضبه حتى يفقد السيطرة على نفسه ويتصرف بجموح معها، انتبه لصوت ابن عمه المتسائل باهتمام:
, -إنت كويس؟
,
, أومأ برأسه مضطرًا كي يخفي ما يشعر به، عاود نبيل سؤاله بفضول: -هي نفس البنت اللي جت النهاردة، صح؟
, ورغم احتفاظه بالجواب داخله إلا أن ملامحه كانت كفيلة بالإجابة عنه، تساءل موظف الأمن بتوتر:
, - معتصم بيه تحب نبلغ البوليس؟
, قست تعابيره وهو يرد بنفي قاطع ومشيرًا بيده: -لأ، الموضوع عندي
, اعترض الموظف بحرجٍ: -بس يا فندم..
, قاطعه بصيغة آمرة: -اتفضل شوف شغلك، أنا هاتصرف
, امتثل لأمره قائلاً بارتباك: -تمام.
,
, سأله نبيل بقلق: -هاتعمل إيه؟
, سحب معتصم نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة وهو يرد باقتضاب مريب: -الرد هايكون بعدين، مش دلوقتي!
, توجس ابن عمه خيفة من خروج الأمور عن السيطرة وربما تورطه في أفعال طائشة قد تأتي نتائجها عكسيًا، حاول أن يمنعه قائلاً:
, -أنا رأيي تبلغ عنها، مافيش داعي للمشاكل مع واحدة زي دي، شكلها مش سهل ولا..
, قاطعه بإصرار ألبكه: -أنا هاعرف أتعامل معاها ازاي، متقلقش!
,
, عاد إلى منزله مستقلاً سيارة ابن عمه بعد أن أرسل خاصته إلى التوكيل لإصلاح الأضرار الموجودة بها، كان مضطرًا لإلغاء كافة ارتباطاته بعد أن أفسدت عليه يومه، رسم معتصم على وجهه المتشنج تعابيرًا هادئة آملاً أن ينطلي ذلك على عائلته، درب نفسه جيدًا على التعامل بهدوء حذر مع أسرته كي لا يشعر من حوله بجم الكوارث التي تُلقى على كتفيه منذ أن وطأته آسيا، وخصوصًا من أفنت عمرها في تربيته ويعدها والدته؛ نادية تلك المرأة الحنون التي تملك بين يديها مفاتيح الأمان والحنان والأمومة الفائضة، عكف على الرد على أسئلتها المشتاقة عن ابنتها بحيادية وبدبلوماسية مانحًا إياها الأمل الزائف في العثور عليها، كان منزعجًا من كذبه المستمر وادعائه لجهله بمكان تواجدها، استنكر استخدام ذلك الأسلوب المضلل معها، لكنه كان يخشى من تبعات لقاء محكوم عليه بمواجهة شرسة ستخلف ضحايًا، خشي أن ينفضح أمره تلك المرة، فقد اكتفى من أفعالها وبلغ الذروة من تعامله معه، سار بخطوات متعبة نحو صورة العائلة ليتوقف أمامها، شرد متأملاً تفاصيلها مستعيدًا أسعد لحظات العائلة، انتفض في وقفته الشاردة حينما وضع والده يده على كتفه، ابتسم له قائلاً:.
,
, -بابا
, قطب وحيد جبينه متسائلاً باستغراب: -مالك يا معتصم، أحوالك مش زي تملي!
, أخرج زفيرًا ثقيلاً مهمومًا من صدره وهو يجيبه: -شوية مشاكل معقدة
, أخفض والده نبرته متسائلاً بفضول جاد: -ليها علاقة ب آسيا، مظبوط؟
, انقبض قلبه بقوة مع كلماته الأخيرة، شعر أنه كالكتاب المقروء أمامه، أخفى ارتباكه البائن عليه متسائلاً بتلعثم:
, -وإيه اللي يخليك تقول كده بس؟
,
, رد وحيد مؤكدًا وهو يومئ له بعينيه: -علشان أنا عارف ابني كويس! كمان عرفت من مصادري مين هي آسيا شرف الدين!
, زفر معتصم مجددًا وهو يشكوه: -بجد أنا محتار معاها، مش عارف أعمل ايه في موضوعها
, ربت والده على ظهره ثم تحرك معه إلى الأريكة الواسعة ليجلس بجواره عليها، استطرد معتصم حديثه قائلاً باستياء:
, -ماما ماتعرفش حاجة عن حقيقتها، مفكرة إنها جاية تسأل عنها وترجع لحضنها زي ما تكون لسه العيلة بتاعة زمان.
,
, اكتست تعابيره بالحزن وهو يكمل بضيق: -وهي جاية علشان تدمرنا وتضيع كل حاجة عملناها السنين اللي فاتت وتعبنا فيها
, وضع وحيد يده على كتف ابنه ضاغطًا عليه ومضيفًا بنبرة ذات مغزى: -ظهورها في التوقيت ده أكيد وراه حاجة، خد بالك أبوها مش سهل
, سأله معتصم دون تفكير وقد دب الذعر في نفسه: -إنت تعرفه؟
, أجابه بنبرة ضاعفت من شكوكه: -كنت أسمع عنه زمان.
,
, انقبضت عضلاته بسبب التوتر الزائد من طريقته في الحديث عنه، سأله بتلهفٍ: -معلش يا بابا، ممكن تفهمني بالظبط اللي حصل؟
, أشار له والده بسبابته محذرًا: -الكلام ده بيني وبينك، يا ريت مامتك ماتعرفش بإني حكيتلك حاجة
, هز رأسه بالإيجاب مؤكدًا: -اطمن، أنا بس عاوز أفهم أنا بأتعامل مع مين
, -ماشي.
,
, اعتدل وحيد في جلسته مطالعًا ابنه بنظرات جامدة ليكمل بعدها بهدوءٍ: -قبل ما أتقدم ل نادية كانت مامتك طالبة مني أتجوز عليها يعني كانت حاسة إنها في أخر أيامها، ولو تفتكر يا معتصم كانت تعبانة وصحتها على أدها
, ركز ابنه كافة حواسه معه وتأثر لحظيًا باستعادة ذكرى رحيل والدته التي شهدها بنفسه، منع عبراته من الانحباس في حدقتيه وأبعدهم بأنامله متابعًا باهتمام كبير باقي حديثه، أضاف وحيد بأسفٍ:.
,
, -لما ماتت كنت محتار أعمل إيه معاك، إنت وقتها كنت لسه صغير وأنا بأسافر كتير ومعنديش حد أئتمنه عليك، ساعتها ظهرت نادية في حياتي، كانت عندها مشكلة كبيرة مع جوزها، أو نقول طليقها
, كز معتصم على أسنانه مفضلاً اللجوء إلى الصمت ريثما ينتهي والده من الحديث، ارتشف وحيد القليل من كوب الماء المسنود على الطاولة ليبلل جوفه المرير، ثم تابع:.
,
, -كان مدمن لعب القمار، ضيّع كل حاجة بسبب هوسه ده، وكانت أخر ضحاياه نادية، اتخدعت فيه للأسف وافتكرته بني آدم محترم
, ارتسمت علامات الاندهاش على محيا ابنه فأوضح وحيد مبتسمًا باستخفاف: -ماتستغربش، شرف الدين كان صاحب شركات استيراد وتصدير، رجل أعمال زي أي حد، بس مدمن قمار!
,
, أخرج من صدره زفيرًا ثقيلاً أكمل بعده: -طلع راسم عليها علشان يبتذها وياخد فلوسها، رسم نفسه صح على أبوها، واتجوزتها وهي حملت منه وخلفت بنتها الوحيدة، نادية استحملت منه كتير علشان خاطر تفضل جمبها، كان بيهددها بيها، وهي كانت بتخاف منه، وبتدفع أي حاجة يطلبها، بمعنى ادق بتسحب من رصيدها في البنوك لحد ما خلص عليه
, تضاعف حنقه بداخله من كم الحقائق الصادمة التي عرفها، ردد بحدة وقد غلت الدماء في عروقه:.
,
, -إيه البني آدم ده؟
, رد عليه والده بتأفف: -إنت مش متخيل القذارة اللي كان فيها، عاوز أقولك ده وصلها لحالة معدتش قادرة تستحمل فيها، فلجأت للطلاق، وساومها على ده، لكن اللي حصل إنه كان بيضحك عليها، بيضيع وقت لحد ما يجهز لحاجة تانية بعيدة عن تفكيرها
, سأله دون تأخير: -عمل إيه؟
, أجابه على مضض: -فهمها إنها هتاخد بنتها لو دفعت تمنها
, شخصت أبصاره صائحًا بعدم تصديق: -نعم؟
,
, أشار له والده لكي يهدأ، فهو لا يريد لفت الأنظار إلى حديثهما الخاص، تمالك معتصم أعصابه معتذرًا، فاستأنف وحيد حديثه:
, -لو عاوزة الطلاق وبنتها تدفع تمنهم، بالنسباله كل حاجة تجارة، حتى بنته!
, ضغط معتصم على أسنانه هامسًا بغيظ من ذلك الرجل الذي انعدمت رجولته: -ده إنسان..!
, ورغم حدة الكلمات النابية التي ألقاها بلا حرج إلا أن والده لم يكن معترضًا على ذلك، بل على العكس أيده قائلاً:.
,
, -وأكتر من كده كمان، نادية كانت مستعدة تعمل أي حاجة علشان بس تخلص منه، وتبعد بنتها عنه، وهو استغل ده كويس، نصب عليها وخد الفلوس والبنت وهرب برا مصر
, انفرجت شفتاه هاتفًا بصدمة: -مش معقول.
,
, أضاف والده قائلاً بامتعاض: - نادية انهارت ومعرفتش تعمل ايه، فضلت فترة تتعالج نفسيًا، وأنا كنت أعرف والدها، يعني بحكم الشغل وكده، وصاني عليها، وبصراحة أنا لما شوفتها اتشديت ليها، كنت مش بس شايف فيها الزوجة، كمان الأم اللي هاتعوضك عن كل حاجة وهتحبك
, -طيب ليه محولتوش توصلوا للبني آدم ده؟
,
, -عملت كل اتصالاتي علشان أعرف هو فين، بس أخباره انقطعت عننا، ومقدرتش أوصله، و نادية تعايشت مع أمل إن بنتها لما تكبر هتظهر في يوم وهتعرف منها الحقيقة
, لوى معتصم ثغره للجانب قائلاً بتهكم: -ماهو واضح
, ابتلع وحيد ريقه قائلاً بتحذير: -خد بالك يا معتصم، البنت دي تربية أقذر واحد ممكن تقابله في حياتك، أوعى تخليها تدمر مستقبلك
, هز رأسه بإيماءات متتالية وهو يقول: -اطمن
, ثم سأله بجدية: -طب وماما؟
,
, رد بتنهيدة حزينة تحمل في طياتها قلة الحيلة: -أهو أنا زيك مش عارف أعمل ايه معاها، هي من حقها تشوف بنتها، بس خايف ماتستحملش الصدمة!
, وضع معتصم يده على كف والده المجعد قائلاً بتأكيد: -ماتشلش هم، أنا هاعمل كل اللي أقدر عليه علشان أمنعها تأذي ماما
, رد عليه مبتسمًا بحنو أبوي رابتًا بيده الأخرى على يده: -أنا مطمن بوجودك يا معتصم.
,
, بادله ابتسامة باهتة وهو ينظر له بغموض، كان في قرارة نفسه على يقين تام بأن المعركة معها ليست بتلك البساطة، بل ستتضمن أشرس المواجهات وأعنفها على الإطلاق، وها قد ذاق منها القليل فقط..!
 
  • عجبني
  • جامد
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
٩

أتت صاحبة الوجه البشوش لتجد كليهما يتهامسان في مسألة ربما من وجهة نظرها ذات صلة بالعمل، لم تكترث لذلك فالمهم عندها حاليًا هو معرفة أين تقطن ابنتها، فقد طال الوقت ولم تستطع الوصول إليها أو حتى التواصل معها، ولن يشعر أحد بما يعتري صدرها من مشاعر أمومية تخصها وحدها، تنهدت نادية بتعب وهي تسير في اتجاه زوجها و معتصم، وما إن رأها الأخير تدنو منه حتى هب واقفًا من مكانه ليقول بودٍ:.
,
, -ماما، تعالي اقعدي معانا شوية
, ابتسمت له متسائلة بعتاب رقيق: -لسه برضوه مافيش أخبار عن آسيا؟
, ورغم بساطة السؤال إلا أن الرد عليه كان يحتاج لكثير من المجهود الذهني والعضلي وحتى التعبيري ليبدو مقنعًا أمام نظراتها الحنون التي تخترقه، ابتلع ريقه مقتربًا منها بعد أن تبادل نظرات حائرة مع أبيه، مد يديه ليلتقط كفيها بين راحتيه، أحنى رأسه عليهما مقبلاً كلاهما في مودة، ثم اعتدل في وقفته قائلاً لها:.
,
, -لسه شوية يا ماما، إنتي عارفة الحكاية مش بالساهل
, اغرورقت حدقتاها بالعبرات تأثرًا للهفتها المشتاقة لضم ابنتها لصدرها فخرج صوتها مختنقًا وهي تقول:
, -صعبان عليا إن بنتي تجيلي لحد هنا وأنا ماشوفهاش، نفسي بس..
, نهض وحيد من جلسته مقاطعًا إياها بهدوء بعد أن رأى تأثير ما تردده على حالتها الصحية:
, - نادية، مافيش داعي للانفعال، الدكتور محذرنا!
,
, وقف إلى جوارها ثم ربت على كتفيها برفق حانٍ محاولاً احتواء حزنها، طالعته بأعينها الباكية قائلة بنحيب خافت:
, -غصب عني يا وحيد، دي برضوه بنتي
, ابتسم لها وهو يومئ برأسه: -إن شاء **** قريب تشوفيها وترجعلك
, ردت وأعينها تملأها نظرات الأمل: -يا رب
, ثم التفتت برأسها نحو معتصم تستعطفه: - معتصم، أنا عمري ما طلبت حاجة لنفسي، وجودك إنت وباباك مالي عليا حياتي، بس آسيا ليها حق عندي، أنا أمها و..
,
, ربما هي محقة في إحساسها نحو وحيدتها، لكن للأسف الواقع المرير أقسى من ذلك الإحساس الحاني الطاغي عليها، ومع ذلك حافظ على جدية تصرفاته ليبدو مهتمًا أمامها، لذا قاطعها قائلاً بهدوء:
, -مش محتاجة تبرري يا ماما، أنا هاعمل كل اللي إنتي عاوزاه
, وضعت نادية يدها على صدغه تمسح عليه برفق ومرددة بامتنان: -**** يباركلي فيك يا ابني!
,
, بادلها ابتسامة ودودة تخفي خلفها الكثير من الانزعاج والضيق، فقد ألزم نفسه من جديد بما يعجز عن فعله برحابة صدر.
,
, على الجانب الأخر، قررت آسيا أن تحتفل بما أسمته انتصارًا زائفًا على خصمها اللدود وذهبت لقضاء عطلة قصيرة في أحد المنتجعات السياحية الشهيرة بناءً على دعوة أحد أصدقائها، وكذلك لتضيع الفرصة على معتصم ليرد انتقامه بعد أن أحدثت أضرارًا في سيارته حديثة الطراز، كانت في قرارة نفسها تعلم أنها بحاجة لبعض الأموال لتعوض ما أنفقته مؤخرًا على شراء السيارة وتسديد ديون والدها، فأتت تلك الدعوة في وقتها، فسوف يقام بالمنتجع عرض للأزياء يموله أحد بيوت التصاميم المعروفة، والأجر للعارضة المشاركة به كان مقاربًا بدرجة معقولة لما تتقاضاه بالخارج، فوافقت على الدعوة دون أن تفكر مرتين.
,
, توقفت آسيا بعد ساعات من القيادة المتواصلة عند البوابة الخارجية للمنتجع، انتزعت نظارتها لتضعها فوق خصلات شعرها المتمردة لتقول بعدها بتعالٍ:
, -في حجز باسمي هنا
, سألها الحارس الأمني –ذو الجسد الضخم- بجدية: -نتشرف بالاسم يا فندم
, آمالت رأسها للخلف قليلاً ثم أجابته: - أسيا شرف الدين.
,
, أدخل الحارس بياناتها في الجهاز الإلكتروني الذي بحوزته ثم ابتسم مرحبًا: -تمام يا فندم، اتفضلي حضرتك، منتظرينك في الاستقبال وهياخدوا منك البيانات وتستلمي مفتاح الغرفة بالفندق.
,
, أومأت برأسها دون أن تعلق ثم حركت السيارة في اتجاه المدخل بعد أن فُتحت بوابته الإلكترونية، بالطبع إن كانت فردًا عاديًا لدعت الضرورة لوجود تزكية سابقة لتتمكن من الولوج لتلك النوعية من المنتجعات ذات الطبيعة الخاصة وإلا لما تم السماح لها بدخولها من الأساس، فتمتاز هذه المنتجعات بأن أغلب المشاهير والمنتمين للطبقة المخملية في المجتمع يفضلون قضاء عطلاتهم وأوقاتهم الخاصة بها لكونها تضم أفخم الفنادق المزودة بالخدمات الرائعة وكذلك الفيلات المستقلة بمختلف المساحات لمحبي الخصوصية الشديدة، أبدت آسيا إعجابها وهي تصف سيارتها عند بوابة الاستقبال الرئيسية للفندق، وما إن رأها أحد العاملين به حتى أسرع نحوها ليتولى عنها ركنها في الجراج المحلق بالفندق، ترجلت منها وسارت بخيلاء نحو موظفي الاستقبال، بعد لحظات كانت في طريقها للمصعد لتتجه إلى غرفتها، لفت أنظارها مدى الثراء والفحش الواضح على معظم المتواجدين بالمكان، ورغم ذلك شعرت بالقلق والريبة، فحدسها يُنبئها أن خلف ذلك ستارًا لأمور مخجلة وربما تجاوزات غير أخلاقية، أبعدت عن تفكيرها أي شيء مزعج واكتفت بأن تمنح نفسها فترة للراحة والاستجمام.
,
, -عملت إيه؟
, تساءل مصطفى بتلك الجملة المقتضبة وهو منحني على طاولة البلياردو مركزًا بصره على كرة بعينها، سدد الضربة نحوها فأصاب هدفه وأسقطها في الفتحة الجانبية، اعتدل في وقفته مطالعًا معتصم بنظرات ذات مغزى عنت له بدء اللعب وكذلك الإجابة عن سؤاله، بدا الأخير في حالة مزاجية شبه سيئة وهو يجيبه:
, -ولا حاجة، فص ملح وداب
, قطب مصطفى جبينه متسائلاً: -مش فاهمك؟ اتبخرت يعني؟!
,
, أجابه بامتعاض وهو يخطئ في إصابة كرته: -روحت البيت بتاعها البواب قالي سافرت، يعني كانت قاصدة تحرق دمي وتبوظ العربية وتختفي
, عاود مصطفى اللعب متابعًا أسئلته التحقيقية: -طب ماعملتش محضر ليه؟ وعندك شهودك ده غير الكاميرات اللي في المكان و..
, قاطعه نبيل متعمدًا التدخل في الحوار: -أنا قولتله الكلام ده، بس هو دماغه ناشفة
, التفت معتصم نحوه ليجده يرتشف مشروبه المثلج، فأخرج زفيرًا مهمومًا من صدره وهو يرد بضيق:.
,
, -يا جماعة إنتو مش قادرين تفهموا إن آسيا دي كارثة بشرية متنقلة، جاية تخرب البيوت وبس، وماما مش هاتستحمل لو عرفت حقيقتها، وكل اللي أنا بأعمله ده علشان بس أمنع أي بلوى منها
, استطرد نبيل حديثه مازحًا وهو يشير بعينيه إلى مصطفى: -عارف أنا لو مكونتش معاه كان زمانت جريمة قتل حصلت
, رد عليه الأخير متعجبًا: -سبحان ****، مع إن اللي يشوفها يقول غير كده.
,
, أثارت جملته تلك فضوله فسأله باهتمام وقد تركز بصره عليه: -هو إنت شوفتها يا مصطفى؟
, أجابه عفويًا: -أيوه، ساعة لما..
, انزعج معتصم من حديث كلاهما عنها باستفاضة، وخاصة فيما يتعلق بجزئية لجوئه لفريقه لمساعدته على إسعافها، صاح بنفاذ صبر وقد ظهرت العصبية عليه:
, -خلاص بقى
, تحرج نبيل من انفعاله الواضح أمامه فضغط على شفتيه قائلاً: -واضح كده إنك مش عاوزني أعرف!
, أدرك معتصم خطئه فاعتذر بلباقةٍ: -مش القصد و****.
,
, ثم اقترب منه واضعًا يده على كتفه متابعًا تبرير موقفه العدائي نحوها: -بس فعلاً أنا مخنوق وعلى أخري منها ومن عمايلها
, حاوط مصطفى الاثنين من كتفيهما قائلاً بمرح: -بأقولكم إيه تعالوا نروح صالة البولينج وخلونا نغير المود شوية، كفاية ضغط الشغل وكلام عن ست آسيا، عاوزين نروق حبة
, رسم معتصم بسمة سخيفة على ثغره قائلاً باستسلام: -ماشي يا دكتور.
,
, تنهد مصطفى بارتياح لاستجابة الأخير لمطلبه، فقد كان حجة زائفة منه للذهاب إلى هناك حيث تتواجد أية، فهو يكن لها مشاعرًا عميقة في نفسه، وتمنى أن تكون كعادتها جالسة مع رفيقاتها هناك ليحظى بفرصة لتبادل الحديث معها، وربما للتقارب منها.
,
, المتعة الحقيقية بدأت في المنتجع مع اشتعال الأجواء بذلك العرض المغري لأحدث صيحات زي السباحة، شعرت آسيا أنها تعجلت بقبول الاشتراك فيه دون التأكد من طبيعة ما ستفعله وما سترتديه، لم يكن الأمر كما تصورت عرضًا يحضره المتخصصين وخبراء الموضة لتقييم إنتاج المصمم، لكن كان عرضًا من نوع مغاير لما اعتادت عليه، ففي البداية أقيم الممر الخاص بالسير للعارضات بجوار المسبح ويمر عبره وصولاً للجانب الأخر له ليتيح الفرصة للمتواجدين بالمسبح بالمتابعة عن كثب، ورؤية تفاصيل خطيرة لجسد العارضة دون أن تشعر، تحرجت من ذلك كثيرًا رغم كونها قد ارتدت ما يشابه الحالي، إلا أن الغموض والشبهات حول نوعية الجالسين بالمسبح أصابها بالريبة، وما زاد من قلقها وضاعف من مخاوفها انتشار المشروبات الكحولية والمسكرة في أيدي المتابعين للعرض، حتمًا ستلعب الخمر برؤوسهم مع احتدام الأجواء وسخونتها.
,
, حاولت آسيا أن تقنع نفسها أنها ستتمكن من التعامل معهم بحرفية وأن الأمور ستمر على خير، لكن تلاشى كل ذلك مع أول محاولة تحرش جلية بتلك العارضة الأجنبية، جاهدت الأخيرة لتواصل السير لكن أعاقها أحدهم عن ذلك، جفل بدنها بقوة وارتعدت مع إمساك ذلك المغيب بخصرها ثم رفعها للأعلى ليلقيها على كتفه ودار بها مبديًا استمتاعًا كبيرًا، صرخت العارضة مستغيثة بمن يساعدها، ركلت بساقيها في الهواء وتلوت بجسدها لتتخلص منه، لكن لم يتدخل أي فرد وأبت محاولاتها بالفشل، بدت تصرفاته متجاوزة وحيوانية معها ولم يتجرأ أحد على منعه، بل على العكس تعالت الصيحات المشجعة والضحكات الهيسترية التي أيدت ما فعل معها فمضى قدمًا في فعل المزيد، رفضت آسيا متابعة الموقف كغيرها أو حتى الصعود للمشاركة أحكمت لفت ذلك الوشاح المشجر حول خصرها لتحجب جسدها عن نظرات المتطفلين، ثم ابتعدت عن منصة العرض مسرعة بخطوات غاضبة نحو منظم الحفل لتحاسبه على دعوتها لتلك الحفلات الماجنة، وجدت ضالتها منزويًا يضحك هو الأخر بهيسترية وكأن ما يحدث قد لاقى استحسانه، تضاعف حنقها بداخلها فهي لن تقبل بتلك المهزلة مطلقًا، لم تستطع تمالك نفسها وصاحت فيه بانفعال وقد قست نظراتها:.
,
, -إيه ده؟
, استشعر وجود خطب ما بها فسحبها من رسغها بعيدًا عن الواقفين ليسألها بعبوس: -في إيه يا آسيا؟
, انتزعت يدها من قبضته ثم أشارت له بها قائلة بتشنج: -ازاي تجبني في عرض زي ده؟
, رد ببرود وقد اتسعت ابتسامته الصفراء: -ما كل حاجة تمام أهي، إنتي ناقصك حاجة؟
, انفرجت فيه صارخة مستخدمة كلتا يديها في الإشارة: -هو إنت مش عارف أنا مين ولا بأعمل إيه؟ حد قالك عني whore (عاهرة) علشان تجبني في حفلات قذرة زي دي.
,
, تصنع العبوس مبررًا: -ليه بس؟ ده الناس هنا كلاسي على الأخر ومزاجهم تمام التمام
, التفتت بأنظارها للخلف لترمق هؤلاء العابثين بنظرات احتقارية قبل أن تنظر نحوه من جديد قائلة بسخطٍ:
, -ماهو واضح، شوية حيوانات جاية تستعرض فلوسها!
, زفر قائلاً بجدية: -بصي إنتي اتطلبتي بالاسم
, ارتابت من جملته الغامضة تلك، وقبل أن تحرك شفتيها لتنهال عليه بأسئلة ربما تكون مصحوبة بالسباب تابع رافعًا سبابته أمام وجهها:.
,
, -وأظن العربون كان كافي أوي إنه يجيبك لحد هنا ده غير الوقت اللطيف اللي هتقضيه في المكان و..
, قاطع حديثه أحدهم هاتفًا من الخلف: -الجميلة آسيا
, كان وجهها مزيجًا من حمرة غاضبة ونظرات مشتعلة وانفعالات على وشك الانفجار، التفتت بوجهها نحو صاحب الصدر العاري الذي يتباهى بعضلاته المنفوخة وبكأس الخمر الذي في يده وبالسيجار الذي ينفث دخانه من جوفه، ضاقت نظراتها نحوه وهي تسأله بتأفف:
, -إنت مين؟
,
, تأملها الشاب بنظرات جريئة وقحة مدققًا النظر في كل تفصيلة من جسدها مما أشعرها بخطورة الموقف، وخاصة أنها تفهم طبيعة تلك النظرات الذكورية المصحوبة برغبات غرائزية، ألقى ببقايا السيجار الفاخر من فمه، ثم دنا منها ليتمكن من تطويقها بغتة من خصرها هامسًا بعبث:
, -أنا معجب!
,
, انزعجت من تجرئه عليها ومن لمساته الغير مقبولة على جسدها، ابتعدت عنه دافعة إياه من صدره بقوة لتتراجع بعدها خطوتين للخلف، نظرت له شزرًا وهي تعنفه بشراسةٍ:
, -إنت اتجننت!
, ثم التفتت ناحية المنظم توبخه مهددة بعدائية انطلقت حتى من نظراتها نحوه: -هتتحاسب عن ده!
,
, تحركت مبتعدة عن الاثنين لكن لم يكن الشاب ليتركها لشأنها، فقد دفع مبلغًا طائلاً ليلهو معها وينال متعة خاصة به، فقد اشتهاها مسبقًا حينما رأها في أحد الحفلات الشهيرة بالخارج، وتمنى لو استطاع أن يحظى بفرصة معها، خاصة أن ما أثير حولها من فيديوهات وفضائح قد حمسه كثيرًا، وحينما سنحت الظروف استغل نفوذه المالي ونجح في الإيقاع بها بحجة ذلك العرض الزائف، وها هي اليوم في المنتجع قد أتت إليه ليفعل ما طمع فيه ذات يوم، ألقى الشاب بكأسه وكله إصرار على تنفيذ رغباته، ركض خلف آسيا ليجذبها من معصمها، شهقت مصدومة من تكراره لنفس الفعلة المتطاولة معها، التوى ثغره قائلاً بنبرة غامضة أرعبتها:.
,
, -مش بالسرعة دي!
, شدد من قبضته على رسغها متابعًا: -احنا لسه مبدأناش الليلة!
,
, هوى قلبها في قدميها من فرط الخوف، وقبل أن تفيق من صدمتها لتتصرف معه كان هو محنيًا للأسفل ليتمكن من حملها ورفعها على كتفه، صرخت مفزوعة وهي تسبه بأقذع الكلمات النابية، بينما زاد انتشائه بالعبث معها، لم يعبأ بصراخها ولا بضرباتها المتتالية وكأنها تدغدغه، فقط سار متباهيًا بها نحو المسبح، شعرت آسيا في تلك اللحظة أنها بالفعل بمفردها، لن تجد من يحميها أو يدافع عنها أمام هؤلاء، حقًا ستحال حياتها إلى جحيم في الدقائق التالية، بالطبع لن ينفعها صراخها الغير مجدي ولن تجد الفارس المغوار الذي سيظهر من العدم ليهب لنجدتها، كان عليها التصرف بحنكة لتنجو بنفسها، لذلك عمدت إلى مجاراة الشاب في لهوه، ضحكت عاليًا بميوعة وتدللت عليه قائلة:.
,
, -يعني لازم تعمل فيها طرزان، بالراحة عليا!
, تحمس الشاب قائلاً بانتشاء: -أيوه بقى، ده احنا ليلتنا عنب!
, -طب نزلني يالا
, رد بغموض أصاب بشرتها بالقشعريرة: -مش هنا!
,
, خمنت أنه سيفعل كغيره، وسيلهو في المسبح، وبالفعل حدث ما توقعته وقفز بها في المياه مكملاً عبثه الأهوج لتتعالى الصيحات المهللة بسقوط عارضة جديدة فيه، استغلت آسيا فرصة انشغاله بتشجيع رفاقه المغيبين لتنسل من بينهم وتسبح مبتعدة عنهم جميعًا، تعمدت الغطس لمسافة لا بأس بها بالأسفل حتى لا يتم الإمساك بها، كانت ممتنة في تلك اللحظات الحرجة لأبيها لأنه حثها على تعلم السباحة رغم ما به من عيوب تكرهها، بلغت الطرف الأخر من المسبح بخفة وسلاسة ثم دفعت جسدها بكل قوة - رغم ارتعاشها من برودة المياه - نحو الخارج، وما إن وقفت على قدميها حتى ركضت سريعًا دون الالتفات للخلف، بادرت بالهروب من المكان برمته قبل أن يدرك ذلك العابث اختفائها، ومع ذلك لم تنتبه لعدسات الهواتف النقالة التي التقطت ما حدث بالتفصيل في اللحظات الأخيرة ليضاف إلى أخبارها الحصرية واحدًا مشوقًا، صادمًا، وبالأحرى فاضحًا سينال من جديد من سمعتها المتأرجحة في عالم الموضة والمشاهير، ربما ستحتل المرتبة الأولى في المتابعة لبعض الأيام، لكن ما لم تضعه آسيا في الحسبان هو ردة فعل واحدًا بعينه إن وصل الأمر إلى مسامعه وشاهد ما حدث وفسره من وجهة نظره الذكورية فقط. بالتأكيد لن تكون العواقب جيدة..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٠

دبت الحيوية في قلبه وتعالت دقاته الراقصة مع رؤيته لفتاة أحلامه تضحك برقة وسط صديقاتها، لم يكن يرى سوى أية، كانت كالهالة المضيئة في المكان تجذب أنظاره نحوها فقط دون غيرها من الشابات الجميلات، انتبه مصطفى لشروده بها مبتلعًا ريقه بتوتر، فقد خشي من افتضاح أمره مع رفيقيه وأبناء عمومتها، تصنع الجمود وسار ببطء حذر قاصدًا التلكؤ في خطواته كي لا يظهر في الصورة، لوحت أية بذراعها صائحة بسعادة فور أن وقعت أعينها على ثلاثتهم:.
,
, - معتصم، نبيل، د. مصطفى أنا هنا، تعالوا اقعدوا معانا شوية
, لمجرد نطقها باسمه بين شفتيها شعر وكأنه ملك الدنيا وما فيها، ابتسم لها مصطفى بصفاءٍ مقاومًا ما يختلج صدره من مشاعر متأججة تود البوح بما يخفيه لها، رد نبيل مبتسمًا وهو يمرر نظراته على جميع الفتيات الجالسات بصحبتها:
, -منورين يا بنات، إنتو هنا من بدري؟
, أجابته أية بتنهيدة شبه مطولة: -يعني. شوية وهنمشي!
,
, انقبض قلب مصطفى لمجرد ذكر كلمة الرحيل، هتف عفويًا وبلا تفكير: -خليكوا قاعدين معانا، ولا إذا حضرت الشياطين؟
, التفتت أية بأنظارها نحوه قائلة بنعومة: -مش هاكسفك يا دكتور، علشان خاطرك بس.
,
, قاوم بصعوبة جلية تأثير نظراتها الدافئة عليه مستشعرًا سخونة حسية تضرب صدغيه وكامل جسده متحرجًا من طريقتها اللطيفة، لم يتوقع أن ينجذب نحوها بتلك الصورة، وأن مجرد الحديث معها بكلمات محدودة يمنحه شعورًا لا يضاهيه أي شعور، أضاف مصطفى قائلاً باقتضاب ومتجنبًا التحديق فيها كي لا تكشفه أعينه:
, -شكرًا ده من ذوقك يا آنسة أية.
,
, ابتلع ريقه وحاول تركيز حواسه على شيء أخر لكن أسلوبها الودود استمر في تعذيبه نفسيًا وتشويق مشاعره نحوها، في حين لم ينتبه معتصم لتلك الأحاديث الجانبية، واكتفى بالمتابعة في صمت والرد باقتضاب على معظم الثرثرة الدائرة، كان في بعض الأحيان يوزع نظراته بين ممارسي لعبة (البولينج) وبين مطالعة الجالسين معه، زفر لأكثر من مرة بفتور وملل، فعقله المنهك من كثرة التفكير كان يبحث عن حل للكارثة الملاقاة على كتفيه والمسماة ب آسيا.
,
, أزاح تلك المياه العالقة بخصلات شعره الطويلة بكفيه وهو يمسده للخلف متلفتًا حوله وباحثًا عن تلك المثيرة التي دفع أموالاً طائلة من أجل التمتع معها بليلة لا تنسى، تجاهل سامر هتافات رفاقه التشجيعية مدققًا النظر في أوجه الفتيات القابعات في المسبح، عبست تعابيره وتجهم وجهه كثيرًا، دفع المحيطين به متجهًا نحو طرف المسبح وهو يغمغم بضيق:
, -راحت فين دي؟
,
, صعد سامر على الدرج المعدني ليخرج بجسده الرياضي ذو العضلات المشدودة من المياه، شدد من تباعد كتفيه ليبدو كالمصارعين ضخام الجثة وهو يسير في اتجاه البار القريب، لمح بطرف عينه منظم الحفل، فرقع له بإصبعيه فأتى الأخير صاغرًا إليه وهو يقول بابتسامته الصفراء المستفزة:
, -باشا، أوامر معاليك!
, سأله سامر بنبرة مزعوجة وقد احتدت نظراته: -فين آسيا؟
,
, رد الأخير بتلعثم ناظرًا له ببلاهة وهو يشير بيده نحو المسبح: -مش هي. كانت مع سيادتك في المياه و..
, انقض عليه ممسكًا إياه من تلابيبه صائحًا بانفعال: -أنا مش دافع الألوف دي كلها علشان ثانيتين، روح هاتلي آسيا أحسنلك!
, ابتلع المنظم ريقه بخوف، ثم أومأ برأسه قائلاً بانصياع تام: -ح. حاضر!
,
, دفعه سامر بعصبية للخلف فتمالك الأخير نفسه كي لا يسقط ثم أسرع في خطاه باحثًا عن ضالته وإلا تعرض لتوبيخ لا يُحمد عقباه من قبل ابن صاحب المجموعات الاستثمارية الشهيرة عمران.
,
, ارتشف معتصم أغلب مشروبه البارد لكنه لم يشارك إلا بكلمات مقتضبة إن استدعى الأمر ذلك، تلفت حوله بفتور متأملاً بنظرات خاطفة المشاركين في لعبة البولينج، لم يكن متحمسًا للمشاركة، كان يود الابتعاد عن كل ما يضغط على أعصابه ليحظى ببعض السكينة والهدوء، تنبه عقله فجأة لما يدور من حوله من حديث مقلق حينما تطرقت إحدى رفيقات ابنة عمه إلى خبر ما جعله متحفزًا، ركز أنظاره مع أية التي تساءلت بفضول:.
,
, -معقول؟ وريني كده
, ثم مالت على رفيقتها لتشاهد ما في هاتفها المحمول، أضافت رفيقتها بابتسامة خجلة: -بصي، ده على كل الصفحات!
, -طب ابعتي اللينك
, -أوكي
, تابعت الفتيات الفيديو باهتمام ويعلو وجوههن نظرات منوعة ما بين الخجل والعبث، ورغم الأصوات المبهمة الصادرة من الفيديو إلا أن صوت ضحكتها اخترق أذنيه بقوة، تمنى معتصم في نفسه لو كان وهمًا، تساءل نبيل بفضول وقد لمعت عيناه:
, -بتكلموا عن مين يا بنات؟
,
, أجابته أية باستحياء قليل: -ملكش دعوة
, عاتبها بعبوس زائف: -ينفع كده تحرجيني قصاد أصحابك
, ورغم كون حديثه عفويًا إلا أن طريقته استفزت مصطفى الجالس إلى جواره، وعلى قدر المستطاع حاول أن يبدو طبيعيًا وكتم في نفسه ضيقه من حوارهما، سألها نبيل بإلحاح:
, -يالا بقى، مين اللي بتحكوا عنها!
, -عن موديل مشهورة نازل فيديو عنها صعب شوية و..
, هنا قاطعها معتصم بوجوم مخيف: -اسمها ايه؟
,
, نظرت له بغرابة، فقد كانت تعابيره متشنجة إلى حد كبير، هزت كتفيها وهي تجيبه: - آسيا
, انتفضت في جلسته مع ترديد اسمها، أشار بيده إلى ابنة عمه يأمرها: -وريني كده
, ناولته هاتفها المحمول وهي تطالعه بنظرات حائرة فقد بدت تصرفاته حادة ومريبة، حدق معتصم في الفيديو المعروض أمامه بنظرات تحولت للاشتعال في أقل من ثوانٍ، كز على أسنانه هامسًا بحنق كبير:
, -يا بنت ال..
,
, راقب الجميع ردة فعله، لكن كانت أية الأسبق في التساؤل: -هو إنت تعرفها؟
, فهم نبيل دون أن يخمن سبب تقلب مزاج ابن عمه واحتدام أعصابه، غمز إلى مصطفى قائلاً بنبرة ذات مغزى:
, -شكلها هي
, أعاد معتصم الهاتف إلى أية بعد أن قام بإرسال الفيديو إلى نفسه ثم ترك الجميع دون أي مقدمات أو تفسيرات، هب مصطفى واقفًا من مكانه صائحًا بجدية وقد توتر هو الأخر:
, -روح معاه يا نبيل، ماتسبوش لوحده.
,
, استغربت أية ورفيقاتها من تبدل حال معتصم الهادئ إلى حالة هوجاء تنذر بوجود خطب شديد، تساءلت بقلق موجهة حديثها إلى مصطفى:
, -في إيه يا دكتور؟
, تردد في إخبارها بالسبب الأساسي لانفعال ابن عمها، رسم على ثغره بسمة صغيرة قائلاً بلطفٍ:
, -تلاقي بس حاجة ضايقته
, تفهمت رغبته في عدم البوح بما أزعجه فاكتفت بالابتسام له، استدارت برأسها نحو رفيقاتها قائلة بتنهيدة أسفة وهي تجمع متعلقاتها:.
,
, -واضح كده إن السهرة اتفركشت، بينا يا بنات
, فكر مصطفى في استغلال الفرصة وعرض خدماته عليها لربما يحظى بوقت إضافي معها، تنحنح مقترحًا بارتباك طفيف:
, -احم. تحبي أوصلك، قصدي أوصلكم
, ردت مجاملة: -معانا عربية، ميرسي يا دكتور
, لاحظ يدها وهي تعبث بحافظة نقودها فهتف بلا تفكير: -ثواني يا آنسة أية أنا اللي هحاسب
, تحرجت منه قائلة برقة وقد تورد وجهها: -مافيش داعي، كلك ذوق.
,
, رد مبتسمًا وهو يطالعها بنظرات أكثر إشراقًا: -دي حاجة بسيطة!
, ركض نبيل خلف ابن عمه محاولاً اللحاق به قبل أن يُقدم على شيء أحمق، فبعد أن رأى هو الأخر محتوى الفيديو المنتشر فهم سبب انفعاله الزائد، توجس خيفة من تهوره الطائش في لحظة غضبته العمياء تلك، اعترض طريقه لأكثر من مرة محاولاً تهدئته فصاح الأخير بنفاذ صبر وبصوتٍ متحشرج:
, -عاوزني أهدى ازاي؟
,
, رد نبيل بحذرٍ مستخدمًا ذراعيه في سد الطريق عليه: -نتكلم بس الأول و..
, لوح بيده متابعًا بغضب أشد: -والوساخة اللي أنا شوفتها دي تسميها إيه؟ فكرك أمي لو شافت ده مش هيجرالها حاجة؟
,
, كان محقًا في ذلك، فوالدته لن تتحمل صدمة أن ترى ابنتها الوحيدة كواحدة من تلك العابثات اللاتي يتم دفع الأجور الباهظة لهن من أجل متعة مؤقتة مع الشباب الأثرياء، لم يكن بيده أي حيلة أو مبرر ليفسر تصرفها، أكمل معتصم حديثه بصوته المتشنج:
, -قولتلك دي شيطان، مش فارق معاها حد!
, رد عليه بتريثٍ: -إنت معاك حق، بس فكر بالعقل، أكيد مافيش واحدة هتقبل كده على نفسها، وخصوصًا لو كانت مشهورة.
,
, تقوس فمه بابتسامة متهكمة وهو يصحح له جملته: -دي مش بتعمل إلا كده وبس، دور على فضايحها القديمة، هتلاقي بلاوي سودة
, حك نبيل مقدمة رأسه قائلاً بحرج وقد بدت الحيرة عليه: -مش عارف أقولك إيه
, اقترب معتصم خطوة منه ثم ربت على كتفه بقوة ليضيف بعدها بلهجة تحمل الشراسة: -ماتقولش حاجة، اللي زي دي ماينفعهاش إلا القتل وبس!
, ثم أولاه ظهره ليتحرك في اتجاه السيارة، هرول نبيل خلفه ليوقفه متسائلاً بخوفٍ كبير:.
,
, -إنت هتخسر نفسك علشانها؟ بلاش جنان **** يكرمك!
, التفت ناحيته يرمقه بنظرات مظلمة ثم أردف قائلاً بغموض مهلك: -معدتش ينفع التفكير خلاص!
, -بس..
, قاطعه قائلاً بصيغة آمرة: -هات المفاتيح!
, شحب لون وجهه متسائلاً بقلب مرتعد وقد تجمدت أنظاره عليه: -رايح فين؟
, رد بعصبية ضاعفت من قلقه: -بأقولك هات مفاتيح العربية!
, حرك رأسه يإيماءات متتالية وهو يرد ممتثلاً: -ماشي هاخليك تسوق، بس أنا جاي معاك!
,
, لم تكن قد أفرغت حقيبتها بالكامل بعد، جمعت آسيا ما تركته على الفراش وعلى الكومود دون ترتيب ودسته فيها، ثم أكملت ارتداء ثيابها على زي السباحة ولم تكترث بتجفيف جسدها أو حتى شعرها المبتل، فقط جمعته على هيئة ذيل حصان لينساب خلف ظهرها بتموجات سوداء امتزجت مع بشرة ظهرها البيضاء، اتجهت إلى المصعد محدثة نفسها بحنق:
, -مش هاستنى هنا لحظة.
,
, ضغطت على زر استدعائه لأكثر من مرة وهي تكمل حديث نفسها المزعوج: -ناقص تاني إيه يتعمل علشان حد يربي الكللابب دول.
,
, ولجت إلى الداخل مندفعة بعصبية فلكزت إحدى المسنات بكتفها، بدت غير عابئة بنظرات الأخيرة المزعوجة منها والتي كانت بصحبة زوجها، همست السيدة بسبة خافتة لزوجة فالتفت آسيا نحوها تنظر لها شزرًا كتعبير عن سخطها منها، تعمدت أن ترد عليها بطريقتها المعهودة في التباهي بأنوثتها لتثير حنقها وتجبر زوجها على النظر إليها، استشاطت المرأة غيظًا مع دلالها الزائد بجسدها، ابتسمت لها آسيا مرددة نفس الكلمة اللاذعة لها وهي تخرج من المصعد متجهة إلى الاستقبال، أوقفت حقيبتها ووضعت يدها على الطاولة الرخامية المرتفعة فتساءل الموظف بلباقة:.
,
, -ايوه يا فندم
, أجابته باستعلاء وهي عابسة الوجه
, -عاوزة أعمل check out
, ولكونه على علم سابق بهويتها فخشي الموظف أن تكون ضيفة الفندق قد انزعجت من سوء الخدمات أو من تقصير أحدهم معها، فتساءل باهتمام:
, -في حاجة حصلت ضايقتك يا فندم؟
, ردت نافية وهي تزفر باستياء: -لأ، عندي ظروف ومضطرية أرجع، من فضلك شوف الإجراءات علشان أمشي
, هز رأسه بالإيجاب متفهمًا طلبها وهو يرد: -حاضر.
,
, ظلت آسيا تطرق بأصابعها على السطح الرخامي ريثما ينتهي الموظف من الأمور الروتينية، تركت حقيبتها مع عامل بالفندق ليوصلها إلى سيارتها ليبدو كل شيء جاهزًا حينما توقع على الأوراق، ما جعلها تستثار في ثانية ذلك الصوت المقيت الذي صاح باسمها:
, - آسيا
, أدارت رأسها في اتجاه صاحبه فوجدت المنظم الذي خدعها، رفعت سبابتها أمام وجهه تحدثه بصرامة:
, -ولا كلمة.
,
, أمسك بسبابتها يقبلها بطريقة مقززة فسحبت يدها للخلف مبدية نفورها منه، قطب جبينه متسائلاً بضيق مصطنع:
, -في إيه بس يا جميلة الجميلات؟
, أولته ظهرها قاصدة تجاهله لكنه اقترب منها مقلصًا المسافات بينهما، سألها بهمس وهو يميل نحوها:
, -ينفع تختفي فجأة كده وتزعلي الضيوف مننا
, اشمئزت من راحة أنفاسه الكريهة التي كادت تصيبها بالغثيان، أبعدت وجهها عنه لترمقه بنظرات احتقارية وهي ترد بتأفف:
, -ضيوفك إنت مش أنا.
,
, هز رأسه بحركات متفهمة ثم تابع قائلاً بجمود: -تمام
, راقبها حتى انتهت من توقيع الأوراق وحينما أوشكت على التحرك اعترض طريقها متابعًا بنبرة ذات مغزى:
, -بس سامر بيه مضايق، يعني هو سايب مشاغله واللي وراه علشان يقضي وقت لطيف هنا واحنا كده نبوظله ال vacation (الأجازة) بتاعته
, وكأنه نزع صمام الأمان عن سلاح ناري معد مسبقًا للفتك بالأعداء، صاحت فيه صارخة بنبرة حادة لفتت الأنظار نحوهما:.
,
, -ماتجبش سيرة الحيوان ده تاني قصادي
, تلفت حوله بقلق وحاول الابتسام ليخفي ذلك الحرج الكبير الذي بات فيه، هدأها قائلاً:
, -ماشي. بلاش شوشرة بس
, رمقته بنظرات دونية قبل أن تكمل بازدراء: -وبعدين أنا بأتكلم معاك ليه أصلاً، دي غلطتي من الأول إني أوافق على حاجة تبعك وإنت سمعتك معروفة عند الكل!
, حدجته من جديد بنظرة مهينة لتكمل بعدها سيرها مبتعدة عنه، لحق بها متسائلاً بقلقٍ:
, -رايحة فين؟
,
, حذرته بلهجة عدائية: -إبعد عني بدل ما أندهلك الأمن
, رفع المنظم يديه مشيرًا إلى عدم رغبته في اللجوء إلى العنف للتعامل معها، ولكن كان ذلك تمويهًا زائفًا ليمنح الفرصة لذلك الثري ليقترب منها، شعرت آسيا بتلك اليد التي تتلمس ظهرها فانتفضت في وقفتها وهي تلتفت للجانب لتجده ملتصقًا بها، ابتسم لها قائلاً:
, - آسيا
, أزاحت يده عنها وهي تنظر له باحتقارٍ، تراجعت خطوة للخلف محذرة إياه بشراسة: -إياك تلمسني تاني!
,
, لوى ثغره للجانب معبرًا عن إعجابه بوحشيتها التي تستفز رجولته وتحرك فيه النزعة الذكورية المسيطرة، كانت بثيابها شبه المبتلة أكثر إغراءً، بل وضاعفت من رغبته في التودد أكثر إليها وربما افتراسها إن منحته الفرصة لذلك، استطرد حديثه قائلاً بتفاخرٍ ومتعمدًا الإشارة إلى سلطته القوية وهيمنته:
, -إنتي هنا في مكاني، مملكتي بمعنى أدق.
,
, أدارت رأسها في أرجاء البهو بنظرات غير مبالية، ثم جمدت أنظارها عليها لتقول بعدم اكتراث وكأن ما يملكه غير كافٍ لاسترضائها:
, -اشبع بيه!
, اغتاظ من أسلوبها المتهكم على نفوذه وشخصه، اندفع بهوجائية نحوها قابضًا على رسغها بيده، ومطوقًا خصرها باليد الأخرى، صاحت فيه بغضب مهددة إياه وهي تدفعه من صدره بقبضتها المتحررة:
, -ابعد عني أحسنلك، إنت مش عارف بتتعامل مع مين.
,
, غمز لها هامسًا وهو يجبرها على التحرك مع خطواتها بعيدًا عن رواد الفندق: -لأ عارف كويس
, شدد من ضمه لها مكملاً بمكرٍ: -ودافع حسابك مقدمًا يا حلوة
, -أها، العرض الفشنك إياه
, مال عليها متعمدًا تقريب أنفاسها من بشرتها: -مظبوط.
,
, لم تستسلم كالمرة السابقة لقوته الخشنة عليه بل لجأت لشحذ قواها الغاضبة وتوجيهها للدفاع عن نفسها، ركلته بشراسة أسفل معدته مسببة له ألمًا شديدًا في موضع حرج مما أجبره على تحريرها والانحناء بجذعه للأمام كاتمًا ما يشعر به من أوجاع، تراجعت مبتعدة عنه وهي تصيح بانفعال:
, -ده تاخد حسابه من اللي ضحك عليك وفهمك إن آسيا شرف الدين سهلة وللبيع!
,
, حدق الجميع فيهما فبات سامر في موقف حرجٍ للغاية، فكل الأعين الآن مسلطة عليه، خاصة الغرباء ممن لا يعرفهم، اعتدل في وقفته رغم الألم الشديد، فرمقته بنظرة أخيرة أشعرته بازدرائها له، استفادت آسيا من الموقف وأكملت سيرها المتعجل هاربة منه، لكن بقيت أنظاره مسلطة عليها، كان أفراد الأمن متحفزين للإمساك بها لكن تلك الإشارة الضمنية من يده ومن عينيه جعلتهم يتراجعون للخلف، دس سامر يديه في جيبي سرواله القصير قائلاً باستمتاع وقد وجد في الأمر تحديًا من نوع يحبذه كثيرًا:.
,
, -مش مع سامر عمران يا آسيا!
, ظل مرابطًا لساعات أمام مدخل البناية التي تقطن بها رغم تأكيد حارسها أنها ليست متواجدة بها، أصر معتصم على البقاء متجاهلاً توسلات ابن عمه بالذهاب، فشل الأخير في إقناعه بالعدول عن رأيه، ولم يرغب بالطبع في تركه بمفرده، تحرك ليقف قبالته قائلاً بامتعاض:
, -هاتستفيد إيه من الوقفة دي؟
,
, نظر في نقطة ما بالفراغ مكتفًا ساعديه أمام صدره ومتخذًا الصمت وسيلته، استند نبيل بظهره على جانب السيارة مكملاً بانزعاج:
, -طب تعالى نقعد في كافيه قريب من هنا يا معتصم.
,
, لم يعلق عليه، واكتفى بالتحديق أمامه متوعدًا إياها، بالطبع كان ابن عمه ملزمًا بطمأنة العائلة عليه ليتجنب حالة القلق السائدة هناك، راقبه في صمت ملول منتظرًا أن يتخلى عن عناده ويأتي معه، بينما كان معتصم في عالم آخر خاص به، وضع في رأسه عشرات السيناريوهات المختلفة لمحاسبتها على ما اقترفت من أخطاء متخيلاً استجدائها للعفو والسماح بعد أن لوثت سمعتها وسمعة المحيطين بها، لكن كل أوهامه كانت تنتهي بالفشل الذريع وابتسامتها الشيطانية انتصرت في الأخير، تحفزت خلاياه من جديد ضدها، أراد إفراغ شحنته المتأججة بداخله فيها، لن يعود إلى منزله وهو بتلك الحالة، بل ربما سيهدأ إن عنفها بقسوة، تأهب بالفعل حينما رأى إحدى السيارات تقترب قبيل الفجر من المنطقة، استطاع أن يميز وجهها المختلف من خلف الزجاج، استعد للهجوم عليها ريثما تقترب منه كي لا يثير فزعها فتهرب قبل أن يمسك بها، لاحظ نبيل التوتر الذي ساد على تعابيره مع مجيء تلك السيارة، توسله راجيًا:.
,
, -بلاش تهور من فضلك.
,
, رمقه بنظرة جامدة مليئة بالغموض والشر مما ضاعف من إحساس الخوف بداخله، وبمجرد أن صفت سيارتها كان هو في طريقه إليها، بدت آسيا في حالة إنهاك من القيادة المتواصلة لساعات فلم تنتبه لقدوم معتصم، ترجلت من السيارة فتفاجأت بمن يقبض على رسغها، ظنت أنه سارقًا تربص بها فأوشكت على الصراخ لكن يده الأخرى كانت الأسبق على فمها، حدقت بأعين متسعة في رعب لوجهه في البداية، لكن سريعًا ما تحولت نظرات الخوف إلى غضب شديد، ضغط معتصم على شفتيه محذرًا:.
,
, -هاتيجي معايا من سكات
, حاولت التملص منه والحديث لكنه حاصرها جيدًا وألصقها بسيارتها متابعًا بنفس الخشونة والشرر يتطاير من عينيه:
, -وقت الحساب جه!
, احتقنت نظرات آسيا مع تهديده المتطاول عليها، ولو لم تكن منهكة من قبل لتصدت له بكل قوتها، تطلبها الأمر مجهودًا زائدًا لتتخلص من قبضتيه، بدت كمن يحرك جبلاً صامدًا، ساعدها قليلاً تدخل ذلك الغريب الذي بدا مذعورًا وهو يقول:.
,
, -إيه اللي بتعمله ده، الناس هتتفرج علينا وهتحصل مشكلة
, استخدم قوته الجسمانية في إبعاد ابن عمه عنها، وكانت تلك فرصة ذهبية لنيل حريتها، صرخت توبخه بتهديد قوي:
, -هتندم على ده!
, رد بعدائية أشد شراسة رافعًا إصبعه أمام وجهها مهددًا: -ماتكلميش!
, فغرت ثغرها مدهوشة من جرأته المهددة لها دون أن تفهم السبب، استجمعت جأشها لترد بانفعال:
, -الظاهر إنك عاوز تتهزأ من تاني.
,
, ثم أطلقت ضحكة رقيعة مضيفة بعدها بتهكم وهي تنظر له ساخرة: -واضح مزاجك بيجي على ده!
, كانت إهانة واضحة لرجولته التي لن يقبل بالمساس بها، انتفض بكل ما أوتي من قوة ممتلئًا بشحنة مضاعفة من غضب ممزوج بانفعالات زائدة دافعًا نبيل للجانب ليغدو أمامها، أطبق على عنقها يخنقها بقبضته ضاغطًا على عروقها النابضة وهو يقول من بين أسنانه بشراسةٍ:
, -مزاجي مش هايجي إلا على موتك النهاردة..!
,
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
١١

تجسد نصب عينيه كل المشاهد البذيئة والتجاوزات التي تخصها وما عرفه عنها وما قرأه في المواقع المختلفة ليحكم عليها بكونها شابة عابثة تجري وراء الشهرة من خلال الفضائح الغير أخلاقية متخذة ما أسماه ب (العُهر) أسلوبًا للحياة وتربح المال، زاد ذلك من حنق معتصم نحوها فاستمر في ضغطه العنيف على عروق عنقها غير مدركٍ تمامًا لتوابع ما يفعله، كان مغيبًا بالفعل، يتصرف بهوجائية، قاومته آسيا بما تبقى لها من طاقة لكن لم يمكنها ذلك من إبعاد أصابعه عنها، كانت تقاتل تلك المرة من أجل حياتها رغم اختبارها لذلك معه من قبل، خرجت الأمور حقًا عن السيطرة في ثوانٍ معدودة، وبات نبيل في موقف حرج للغاية يجب أن يتصرف فيه بدون تأخير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خاصة بعد تصرف معتصم الأرعن وهجومه العدائي على آسيا، اندفع هو الأخر في اتجاهه محاولاً انتزاع قبضته عنها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه، توسله بخوفٍ وقد قرأ رغبة حقيقية في قتلها:.
,
, -سيبها يا معتصم، احنا في الشارع!
, استمر الأخير في الضغط على حنجرتها بقوة أكبر غير مكترث لتلك الحشرجة البائنة في صوتها وهي تقاتل بشراسة لالتقاط أنفاسها، رد عليه بعدائية جامحة:
, -هتموت في إيدي!
, اضطر نبيل أن يلكزه بعنف في جانبه مسببًا له ألمًا قويًا أجبره على تحريرها، ثم التف خلفه ليطوقه من ذراعيه مقيدًا إياه قبل أن يفيق من تلك الضربة المفاجئة، فمنحها بذلك الفرصة للنجاة من موت محتوم، اهتاج معتصم صارخًا:.
,
, -سبني يا نبيل أموتها!
, خارت قوى آسيا من أثر الاختناق وافترشت الأرضية أمام سيارتها، ورغم الوهن البادي عليها إلا أنها ردت عليه بصوتها المبحوح وهي ترمقه بنظرات تنتوي الانتقام منه:
, -أنا هوريك، هدفعك تمن ده!
, حاول الاقتراب منها رغم ثقل جسد ابن عمه والذي يعوقه عن التقدم نحوها هادرًا: -مش قبل ما نتحاسب.
,
, حاولت آسيا الابتسام قاصدة الاستخفاف بتهديده وبأن ما يتفوه به لا يعنيها مطلقًا، استشاط غضبًا من استفزازها له، رفع سبابته مشيرًا نحوها ومكملاً بانفعال:
, -إنتي لعنة على أي حد يعرفك!
, ردت عليه بجرأة متحدية شراسته: -إنت لسه ماشوفتش مني حاجة!
, عاودت النهوض على قدميها مقاومة حالة الإعياء ومستعيدة لنشاطها تدريجيًا، وقفت قبالته تتحداه نافضة تلك الأتربة عن يديها، تأكد نبيل من احتمالية الصدام بينهما فهتف يرجوها:.
,
, -امشي لو سمحتي
, نظرت إليه بحنق لكن صوت معتصم الغاضب أجبرها على النظر نحوه وهو يقول: -مش هاتمشي من هنا
, توسلها نبيل بإلحاح بعد أن تعذر عليه إحكام السيطرة على ابن عمه: -من فضلك يا هانم
, قوست ثغرها ببسمة مغرية لتقول بإعجاب وهي تغمز له: -اوكي، علشان خاطرك بس
, اغتاظ الأخير من تصرفاتها المُثيرة للأعصاب، قبض على رسغها صارخًا باحتجاج: -بأقولك مش هاتمشي.
,
, وضعت آسيا يدها على أصابعه تنتزعها نزعًا وهي تخدشه بأظافرها لتحرر رسغها منه، تمكنت بنجاح من الإفلات منه، ثم لوحت له بيدها وهي تبتعد عنه مستفزة إياه أكثر، أطلق سبة نابية لاعنًا إياها، فلم تكترث به، رد عليه نبيل بعصبية مبررة:
, -كفاية فضايح بقى في الشارع، بينا من هنا.
,
, أجبره على السير معه نحو السيارة وهو يتوسله أن يكف عن ملاحقتها والتسبب في المزيد من المشكلات، لكن كان الخطر الحقيقي هو ذلك القادم بسيارته من بعيد، قطعت آسيا الطريق متجهة بخطى واثقة نحو مدخل بنايتها، لو نظرت لها قبل دقائق ما كنت تتخيل أن تلك التي كانت على شفا حفرة من الموت تسير بخيلاء وكأنها ربحت للتو جائزة مادية كبيرة، انتبهت لصوت المكابح الذي كان قريبًا منها فأدارت رأسها للجانب لتجد سيارة دفع رباعي تصطف بجوارها، زوت ما بين حاجبيها مُلقية نظرة سريعة على من بها، ازداد انعقاد حاجبيها مع تأملها لتلك الملامح المألوفة، اعترتها دهشة عجيبة وهي ترى وجه سامر - بحليته النابتة وشعره الذي عقده كالكعكة - مترجلاً منها بثقة مفرطة، شعرت بجفاف يجتاح حلقها وهي تراه مقبلاً عليها بقميصه الأصفر وسرواله الصيفي الأخضر، بدت تعبيراته حادة عندما استطرد قائلاً بتفاخرٍ لاويًا ثغره بابتسامة مغترة:.
,
, -كنتي فاكرة مش هاعرف مكانك
, لوهلة أحست برعشة خفيفة تصيبها، لا تعرف إن كان مصدرها خوفًا طبيعيًا منه أم مجرد نسمة باردة لامست بشرتها، خرج صوتها مصدومًا وهي تنظر له باندهاش:
, -إنت!
, دنا منها أكثر ومتابعًا بجدية وتهديد في نفس الآن: -لسه الكلام بينا مخلصش!
, قرأت في عينيه رغبة جامحة لن يروضها أو يمنعها في الظفر بها، تراجعت بحذر للخلف وهي تفكر في الخيارات المتاحة أمامها، سألته بتوتر طفيف:
, -ولا أنا مش عاوزة؟
,
, اتسعت ابتسامته العابثة قائلاً بنبرة ذات مغزى: -هتخليني اعمل حاجات تانية جايز ماتحبيهاش.
,
, استشعرت الخطر من طريقة حديثه المريبة، واصلت تراجعها للخلف ودقات قلبها تتلاحق بداخل صدرها، تضاعفت رهبتها مع اختفاء حارس البناية الذي من المفترض أن يكون جالسًا هنا، حاولت أن تبدو هادئة التعبيرات وثابتة في ردة فعلها معه، وقعت أنظارها على أصيص الزرع الصغير الموضوع بجوار المدخل، انحنت لتلتقطه بخفة ثم رفعته أمام وجهه تهدده:
, -امشي أحسنلك
, نظر لها باستخفاف وهو يرد مشيرًا لها بكفه: -ارمي البتاع ده من إيدك!
,
, استعدت آسيا لمواجهته والدفاع عن نفسها إن تقدم خطوة أخرى نحوها، خاصة بعد أن باتت بمفردها وبداخل بنايتها.
,
, في نفس التوقيت، كان معتصم قد استقل السيارة إلى جوار ابن عمه الذي تولى القيادة عنه، وجد صعوبة في السيطرة على انفعالاته فأخذ يضرب الباب لأكثر من مرة كوسيلة للتنفيس عن غضبه، بغض النظر عن بعض الكلمات اللاذعة التي نطق بها في حالته تلك، لم يقاطع نبيل ما يفعله، فالأسلم أن يحدث ضررًا للسيارة وليس لتلك الشابة المستفزة، ركز معتصم عينيه نحو المدخل ليجد ما أصابه بشلل مؤقت في تفكيره، لو لم يكن قد رأى بنفسه وضعية آسيا المتحفزة لتيقن أنها تواعد ذلك الشخص الضخم وعلى علاقة به، لكن هيئتها وتعابيرها المشدودة أكدت له أنها في مأزق ما، حثه شيء ما بداخله على التحرك فورًا من أجلها رغم الكره الذي يكنه نحوها، صاح هادرًا بصورة فجائية ضاربًا التابلوه بعصبية بحركات متتالية بكفه:.
,
, -وقف العربية بسرعة!
, انتفض نبيل في جلسته خلف الموقد، والتفت نحوه متسائلاً بصدمة: -ليه؟
, صرخ بها بتشنجٍ: -إنت لسه هتسألني وقف العربية وإلا هنط منها
, اعتقد أنه يحاول افتعال المشكلات من جديد مع آسيا فرفض إيقاف السيارة قائلاً: -لأ، إنت مش..
,
, لم يكمل جملته للنهاية فقد بادر معتصم بفتح باب السيارة ثم ألقى بجسده خارجها غير مكترث بالإصابات الخطيرة التي يمكن أن تحدث له جراء ذلك، ضغط نبيل على المكابح فجأة وهو يجاهد ليستوعب تهوره الأعمى صارخًا فيه بذهول مذعور:
, -إنت مجنون!
,
, تأوه معتصم من الألم الشديد الناتج عن ارتطامه العنيف بالأرضية الإسفلتية، لكن لا وقت للألم، استند بكفيه محاولاً النهوض، وما إن وقف على قدميه حتى عرج بخطواته في اتجاه مدخل البناية حيث تتواجد آسيا مع ذلك الغريب، تلقى سامر ضربة قوية في ظهره أجبرته على الاستدارة للخلف ليرى من ذلك الأحمق الذي تجرأ على فعل هذا، بينما شهقت آسيا مصدومة لرؤيته متواجدًا لمساعدتها، لم ترغب في الحصول على ذلك منه، أن يكون له الفضل في شيء عليها حتى لو كانت بالفعل تحتاج إليه، لم يفق سامر من الصدمة الأولى حتى تلقى لكمة أشد قوة في وجهه جعلت جسده الضخم يترنح، اقترب معتصم منها يسألها بعصبية:.
,
, -مين ده؟
, ردت بارتباك: -وإنت مالك، امشي من هنا.
,
, فرك سامر ذقنه رامقًا معتصم بنظرات نارية، لم يمنحه الفرصة للحصول على جواب مرضي منها، بل أمسك به من تلابيبه يضربه بعنف أسفل معدته، أخرج الأخير أنينًا مكتومًا كتعبير عن الوجع الشديد، ومع ذلك صمد أمام ضرباته المتلاحقة وصد معظمها، اعتدل في وقفته ثم انحنى مندفعًا نحوه بقوة ليطرحه أرضًا، وقع سامر على ظهره صارخًا بألم، فضاعف ذلك من غضبته نحو، لملم نفسه معاودًا تسديد الضربات لغريمه الغريب، وفي أقل من ثوانٍ احتدم التشاجر بينهما وتحول إلى قتال شرس بالأيادي والأرجل، صرخت آسيا:.
,
, -يا جماعة حد يلحقنا، هيموتوا بعض
, تدخل نبيل للفض بينهما لكنه فشل وتلقى هو الأخر عدد لا بأس به من الضربات، ما أنجا الجميع من نهاية غير مبشرة هو مرور دورية شرطية في الطريق رأت ما يدور فاستوقفتهم، ثم قام الضابط المسئول باصطحاب الجميع إلى المخفر لتحرير محضر بالواقعة.
,
, أخرجت تنهيدة ثقيلة من صدرها وهي تتطلع من الشرفة للخضرة المظلمة أمامها، حدقت نادية في صورة الرضيعة التي ظلت بحوزتها رغم مرور السنون بشرود حزين، شعرت بلمسة حنونة على ظهرها فالتفتت برأسها نصف التفاتة نحو زوجها، ابتسمت له ابتسامة باهتة وهي تقول:
, -يا ترى هي فكراني ونفسها تشوفني؟
, رد بامتعاض لم يستطع إخفائه: - نادية، لازم تفهمي حاجة.
,
, لمعت عيناها بعبراتها الحبيسة، ورغم صعوبة ما سيقوله لها إلا أنه كان ملزمًا أن يكون صادقًا معها كي لا تنصدم لاحقًا، تابع قائلاً بجدية:
, - آسيا مش البنت اللي في خيالك، ماتفتكريش إنها عاشت حياة وردية وإنها البنت المحترمة المتربية اللي الكل بيشهد بأخلاقها، دي تربية شرف الدين، يعني تأثيره هايكون واضح عليها.
,
, للحظات عادت بالذاكرة للوراء حيث المجون وطاولة القمار والتجاوزات اللا أخلاقية من زوجها السابق، ارتجف بدنها من مجرد تخيل ما يمكن أن يعلمه لطفلة رضيعة لا حول لها ولا قوة، ما يُمكن أن تكتسبه من صفات سيئة ستشب عليها وكأنها مفاهيم الحياة القويمة، وما أكد حديثه هو عرضه لبعض الأخبار والصور التي تخصها، كانت صدمة بحق لها، وانهمرت عبراتها المعبرة عن خذلانها لها، انتحبت قائلة بنبرة منكسرة:.
,
, -دي غلطتي إني تخليت عنها ومادورتش عليها كويس، كان لازم آ..
, قاطعها وهو يمد يده ليمسك بها من كفيها المرتعشين: -اهدي يا نادية، ده مش ذنبك، الذنب كله على أبوها، وكل دورنا دلوقتي إننا نحاول نصلح منها إن كانت هي عاوزة ده
, سألته بحيرة واضحة في نظراتها نحوه: -إزاي؟
, أجابها مبتسمًا بثقة: - معتصم موجود واحنا معاه نساعده.
,
, شعرت بالارتياح لوجوده في حياتها مهونًا عليها الكثير من العقبات، احتضنها وحيد من كتفيها مضيفًا بجدية:
, -وعلى فكرة هو وصلها
, هوى قلبها في قدميها وهي ترد مصدومة: -إيه؟ يعني معتصم عرف مكانها ومخبي عليا؟
, أجابها بحذرٍ: -أنا اللي طلبت منه ده علشان ماتتصدميش فيها
, ردت متسائلة بقلق كبير وقد تملكها الخوف: -طب ليه؟
, نكس رأسه قائلاً بحرج: -لأنها مش عاوزة. تشوفك.
,
, وكأنه طعنها في صدرها بخنجر صدئ، لم يتحمل عقلها الصدمة ولا جسدها الأمر ففقدت وعيها، فزع وحيد لتسببه دون قصد في تدهور صحتها، صاح مذعورًا:
, - نادية!
,
, مرت نصف ساعة فقط على تواجد أطراف المشاجرة بالمخفر وتحول المكان إلى ساحة من المحامين العتاة، بالطبع لأن أحد أطرافها واحدًا من أبناء رجال الأعمال المشهورين، وكانت النصيحة الهامة من هؤلاء المحنكين في القانون هي إنهاء الأمر بالتصالح قبل أن يتم تحويله للنيابة، اعتدل الضابط في جلسته الغير مريحة على مقعده ممررًا أنظاره على أوجه الشباب والفتاة ثم أردف قائلاً بنبرة رسمية:.
,
, -وأنا رأيي زي الأساتذة تعملوا محضر تتصالحوا فيه
, ثم وجه حديثه ل آسيا متابعًا بنبرة تحمل الاتهام: -وإنتي يا هانم مافيش داعي للدوشة دي، عاوزة تشوفي أمورك يبقى بدون قلق وفضايح
, احتقن وجهها بحمرة شديدة مستنكرة ذلك الاتهام الباطل في حقها وكأنها من افتعلت الأمر، احتدت نظراتها صائحة باعتراض:
, -مش فاهمة كلامك؟
,
, كان معتصم واقفًا إلى جوارها يغلي على بركان ملتهب بحممه الحامية لمجرد التلميح بأنها كالعاهرات، لماذا لا يكون الضابط محقًا في ظنه السيء وكل ما تفعله يؤكد ذلك؟ التفتت آسيا برأسها نحو سامر لتكمل بغضب وهي تشير إليه:
, -قصدك إن أنا جرجرت واحد زي ده لحد بيتي يتهجم عليا الفجر؟
,
, اغتاظ الأخير من تهكمها المهين لشخصه وكأنه تابع بلا شخصية تحركه فقط شهوته، تحفز للرد عليها لكن إشارة واحدة من محاميه المخضرم أجبرته على الصمت ليكتم غضبه في نفسه مؤقتًا، رفع الضابط حاجبه للأعلى قائلاً بعبوس:
, -مش جايز عملتي كده؟
, انفرجت شفتاها هاتفة باحتجاج رافض: -أفندم؟
, أومأ بعينيه نحوها موضحًا: -من اللي أنا شايفة، لبسك وطريقتك بتقول كده!
,
, اندفعت نحو مكتبه تضرب على سطحه بعصبية بيديها صارخة فيه: -أنا مسمحلكش
, رمقها الضابط بنظرة محذرة لكنها لم تعبأ به، بل واصلت صياحها تهددة: -وأنا هاقدم فيك شكوى، إنت مش عارف أنا مين ولا أقدر اعمل إيه فيك
, رد بانزعاج رافض لاستغلال معارفها في الإفلات من العقوبات: -هو كل واحد يعمل مصيبة يقول الكلام ده!
,
, قبض معتصم على ذراع آسيا ثم جذبها نحوه للخلف وبعيدًا عن الضابط، كز على أسنانه هامسًا لها بحنق ليحذرها من التمادي معه:
, -ولا كلمة زيادة
, ضاقت أعينها الغاضبة وهي تنظر له بتوعد، استمر في ضغطه الشرس على عضدها ليشتت انتباهها قليلاً، تنحنح المحامي قائلاً بهدوء رزين:
, -احنا غير مسئولين يا فندم عن أي كلام تقوله الأستاذة
, استدار الضابط نحوه متحدثًا من زاوية فمه: -مش محتاج تقول.
,
, تساءل المحامي من جديد: -في حاجة تانية مطلوبة مننا قبل ما موكلي يمشي؟
, رفع كفه مشيرًا له: -لأ، اتفضلوا.
,
, همهمات غير مفهومة صدرت من سامر لطاقم المحاميين الذي أتوا معه وهو ينسلون واحدًا خلف الأخر، لكن تلك النظرة الغاضبة منه نحو آسيا عنت لها الكثير ووترتها نسبيًا، رأه معتصم وهو يطالعها بنظرات لا يفهمها إلا الرجال، اضطر مرغمًا أن يسيطر على ما يعتريه من انفعالات غير مفهومة، كانت آسيا على وشك التحرك لكنها لم تخطو قيد أنملة بسبب إمساك معتصم بها من ذراعها، رمقته بنظرة حادة وهي تهمس له:
, -سيب دراعي.
,
, رد بجمود مريب يكتم خلفه الكثير من الانفجارات العصبية الوشيكة: -مش دلوقتي!
, حدجته بنظرة مهددة قبل أن تكمل بصوت خفيض: -أحسنلك..
, قاطعها هامسًا بتحذير: -كلامنا برا، مش هنا!
, كان ينتظر فقط انصراف سامر ليتحرك بعدها وهي معه، لم يرغب أن يحتك به مرة أخرى، وما إن خرج من مكتب الضابط حتى نفضت ذراعها من قبضته، التفتت ناحيته توبخه:
, -بتساعدني ليه؟ أنا طلبت ده منك؟!
,
, نظر لها شزرًا للحظات قبل أن يجيبها بغموض: -ومين قالك كده؟
, تأكد معتصم من انصراف سامر من المخفر فتابع سيره إلى الخارج، داعبت آسيا طرف ذقنها قائلة باستخفاف وهي تتبعه في خطواتها:
, -جايز دي فرصة علشان أخليك تعلى في نظري
, توقف عن السير مستديرًا نحوها، قست نظراته متمتمًا بغيظٍ: -كفاية استفزاز ليا.
,
, ارتسم على ثغرها ابتسامة مراوغة، أراد تحطيم غرورها، كسر تلك القوة الخفية التي تمنحها السعادة لإذلال الأخرين وإفساد سعادتهم، همست قائلة بثقة لتخرجه من تحديقه فيها:
, -إنت لسه معرفتش أنا أقدر أعمل ايه
, رد متحديًا بخشونة طفيفة: -مش هاتقدري طول ما أنا عايش
, ضحكت قائلة باستهانة: -إنت كده مش هاتبطل تفكير فيا.
,
, ورغم عبثية ما قالته إلا أنه رفض تلميحها بكل صوره فهتف معترضًا: -إنتي أخر حد أفكر أبصله ولا حتى أفكر فيه، لولا ماما نادية كنت..
, قاطعته بمرارة لا يعرفها: -ماما، سخيفة أوي الكلمة دي لما تتقال لواحدة متعرفش يعني إيه أمومة!
, التوى ثغره مشكلاً ابتسامة متهكمة قبل أن ينطق ببطء متعمدًا الضغط على كل كلمة يتلفظ بها:
, -وخسارة لما تبقى بنتها واحدة زيك..
,
, توقف عن الحديث عمدًا لثانية ليكمل بعدها ببرود وبإهانة أشد شراسة مراقبًا تبدل لون بشرتها للحمرة الغاضبة:
, -رخيصة بتروح للي يدفع فيها أكتر حتى لو كنت أنا واحد من الناس دول
, باغتته بصفعة قوية لم يتوقعها أبدًا منها خاصة أنها دومًا تتعامل معه ببرود مهلك للأعصاب الجامدة، زادت من حنقه حينما ردت بكرامة قليلة:
, -مش آسيا شرف الدين يا تربية نادية..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٢


مزيجٌ من النظرات الغاضبة والمتوعدة انعكست في أعينه عقب صفعتها التي أتت من حيث لم يتوقع، توقعت آسيا أن يثور في وجهها ويرد لها الصفعة، لكن على عكس ما توقعت منه اكتفى معتصم فقط بالتحديق فيها بصمت مريب ألبكها ووترها في نفس الوقت، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة لتواصل حديثها قائلة بكبرياءٍ:
, -مش للدرجادي هاقبل بيك.
,
, احتدت نظراته نحوها قائلاً بهدوء مخيف وكأنها لم تضع بصمتها على صدغه: -تربية نادية فلحت معايا
, ثم صمت للحظة ليكمل بعدها بنبرة شبه مهددة: -وهتربيكي من أول وجديد.
,
, لم تتحمل طريقته التي تعبر عن ثقته الزائدة ولا حتى جموده الذي يعصف بهدوئها، أرادت أن تشعره بأنها في مركز قوة، فرفعت يدها مجددًا لتصفعه لكنه أمسك بها من رسغها مانعًا إياها من تكرار الأمر، تأوهت بصوت خافت مستشعرة ضغطة أصابعه على معصمها وكأنه يعتصره، جذبها منه نحوه ليقترب وجهها من وجهه، شعرت بأنفاسه الغاضبة تلفح بشرتها حينما استطرد محذرًا:
, -حسابك كان مرة واحدة.
,
, قطبت جبينها وهي تحدق في عينيه الملتهبتين، وبالرغم من غموض جملته في البداية إلا أنها فهمت مقصدها بعد تفكير سريع فيها، تذكرت الصفعة التي تلقتها منه حينما طردها من منزل والدتها في أول لقاء جمعهما سويًا، رفع معتصم حاجبه للأعلى ليتأكد من إيصال رسالته لها ثم تابع مهددًا بخشونةٍ:
, -أكتر من كده هاكسر إيدك.
,
, خرج عنها شهقة خافتة التقطتها أذنه، كان بالفعل جادًا في تهديده، حتى نظراته كان موحية بأنه سيقدم على ذلك بالفعل، كما تعمد إيلامها ليؤكد لها ذلك إن شكت للحظة أنها تستخف به، وقبل أن تحرك شفتيها لتنطق كان نبيل منضمًا إليهما يهتف برجاءٍ:
, -من فضلكم، كفاية مشاكل وخناقات
, وجه حديثه إلى آسيا تحديدًا متوسلاً إياها بامتعاض: -لو سمحتي يا هانم
, زمت ثغرها قائلة بعبوس وهي تومئ بعينيها نحو رسغها: -لما صاحبك يسيب إيدي!
,
, استدار نبيل نحو ابن عمه يرجوه قدر استطاعته بتريث ولباقة: - معتصم، أرجوك!
, حرر الأخير يدها دافعًا إياها بعصبية دون أن يبعد نظراته الحانقة عن وجهها المتشنج، رن هاتف نبيل فجأة، فدس يده في جيب بنطاله ليخرجه، وزع أنظاره بين الوجهين المتحفزين وهو يجيب على اتصال عمه المريب في ذلك الوقت المتأخر:
, -أيوه يا عمي
, تحركت عيناه نحو معتصم قائلاً بغموض: -هو موجود معايا، في حاجة حصلت؟
,
, استشعر معتصم وجود خطب ما من طريقة حديث نبيل، صرف تركيزه عن آسيا لينتبه كليًا إليه، وخاصة حينما واصل بقلق:
, -تمام، احنا جايين على طول
, أنهى معه المكالمة فسأله معتصم بتلهف قلق وهو يضع يده على كتفه: -في إيه؟
, ابتلع نبيل ريقه ليجيبه بتوتر: -طنط نادية تعبت جامد واتنقلت المستشفى
, اتسعت مقلتاه فزعًا وهو يسأله مصدومًا: -بتقول إيه؟!
,
, انقبض قلب آسيا لمجرد سماعها لذلك الخبر الصادم، تبلدت حواسها لوهلة وكأنها أصيبت بشلل مؤقت في تفكيرها، هتفت بلا وعي معتقدة أن الموت قد بات وشيكًا منها:
, -مش لازم تموت قبل ما تتحاسب!
, استدار معتصم نحوها والغضب يعتريه من جملتها التي قضت على أخر ذرة هدوء فيه، أمسك بها من ذراعيها يهزها بعنف وهو يصرخ بها:
, -إنتي إيه، مش بني آدمة؟
,
, لم تشعر بصراخه ولا حتى بتعامله العنيف معها، كانت نوعًا ما مغيبة عنه تفكر في احتمالية رحيل والدتها عن العالم الفاني قبل أن تحقق انتقامها منها، خشي نبيل من تدهور الوضع الذي لا يهدأ أبدًا بينهما فهتف فيه راجيًا:
, -سيبها يا معتصم.
,
, استخدم نبيل قوته الجسمانية في تخليصها منه وإبعاد معتصم عنها، ومع ذلك لم يتوقف الأخير عن إطلاق اللعنات والسباب في حقها رغم جره نحو السيارة، طالعته آسيا بنظرات شاردة تفكر فقط في تلك المصيبة التي سمعت عنها، لم تفق من حالة اللا وعي إلا بعد برهة وبعد انصراف الجميع عنها، تلفتت حولها بتوتر فوجدت نفسها بمفردها في الطريق، شحوب واجم حل على تعابيرها، لا تعرف لماذا تشعر بتلك الغصة في حلقها، وبذلك الألم في صدرها، قاومت رغبة تداعب حدقتيها بالبكاء بلا سبب، تنفست بعمق لتسيطر على الحالة الغريبة التي بدأت تعتريها، أشارت بيدها المرتجفة إلى إحدى سيارات الأجرة لتستقلها، ولكن ليس إلى منزلها بل إلى أحد الفنادق القريبة، فالتواجد حاليًا فيه ربما سيزيد من سوء حالتها النفسية.
,
, مر الوقت بطيئًا كالدهر عليه وهو يقف وسط أفراد عائلته بالرواق مترقبًا خروج الطبيب ليطمئنه على حالها، تعاسة جلية سيطرت على ملامح وجه معتصم وهو يقف مستندًا بظهره على الحائط، أدار رأسه في اتجاه والده الذي كان حزينًا للغاية، لم يره بمثل تلك الحالة منذ وفاة والدته، أحقًا مازال يكن لها حبًا صادقًا ونابعًا من أعماق قلبه رغم مرور السنوات على زواجهما ليخشى من فقدانها فجأة؟ اقترب منه ثم جلس إلى جواره ماسحًا على ظهره برفق، خرج صوته متحشرجًا نوعًا ما وهو يسأله بخفوت:.
,
, -للدرجادي بتحبها؟
, أجابه وحيد بانكسار: -أنا السبب في اللي حصلها
, حدق فيه باستغراب، فأكمل استرساله الحزين معاتبًا نفسه: -كنت غلطان لما فكرت في ده، ازاي أنا بأحذرك تحكي عن بنتها وأنا اللي عملت ده بنفسي
, ضغط معتصم على كتف والده برفق قائلاً: -اهدى يا بابا، ماتعملش في نفسك كده، كان هايجي عليها وقت وتعرف الحقيقة!
, رفع رأسه في وجهه مضيفًا بندمٍ: -بس مش مني وبالشكل ده!
, -أهوو اللي حصل.
,
, راقبتهما أية في صمت، لكن أثر فيها عتاب عمها لنفسه وتحميل كامل اللوم عليه، مسحت بيدها تلك العبرات التي تجمعت عند طرفيها، رغبت في التهوين عليه فاقتربت منه ثم جثت على ركبتيها أمامه، وضعت يدها على كفه لتمسح عليه برفق، دعمته في مصابها قائلة برقةٍ:
, -أنكل وحيد، بليز اهدى علشان ضغطك، صدقني أنطي نادية هتخف وتبقى تمام.
,
, حاولت أن تضيف المرح في حديثها فتابعت مازحة: -أكيد بتدلع عليك علشان تشوف غلاوتها عندك، مش كده يا معتصم؟
, قالتها وهي تسلط أنظارها على الأخير فابتسم مؤكدًا: -طبعًا يا أية
, انتفض معتصم في جلسته حينما وجد باب الغرفة يُفتح، نهض من مقعده متجهًا نحو مصطفى الذي كان يتابع حالتها الصحية مع الطبيب المختص بوضعها، سأله بتلهفٍ وقد برقت أعينه:
, -أخبارها إيه؟
,
, أجابه مبتسمًا ليمتص كافة توتراته الواضحة: -متقلقش، هي فاقت وبقت أحسن الحمد****
, تنفس معتصم الصعداء لكونها بخير، استدار نحو والده يبشره وعلى ثغره ابتسامة عريضة:
, -ماما بخير يا بابا
, بكى أباه تأثرًا بذلك وامتزجت عبراته مع ضحكته المتفائلة، تجمع حوله أفراد العائلة يهنئوه بتلك الأخبار السارة، تساءل معتصم بحماسٍ بعد أن دبت الحيوية في جسده الخامل من جديد:
, -ينفع نشوفها؟
,
, رد مصطفى بجدية: -أيوه، بس بلاش تتعبوها في الكلام وكده
, قاطعه مؤكدًا وهو يحتضنه: -حاضر، هانفذ كل أوامرك.
,
, تعجب مصطفى من ردة فعله المبالغ فيها ورغم هذا ابتسم له، توهجت نظراته مع رؤيته لوجه أية الملائكي، أحس بدقات قلبه تتسابق بداخله لمجرد وجودها في محيطه، تضاعف توتره مع اقترابها منه، ورمش بعينيه وهو يجاهد بصعوبة لإخفاء ارتباكه الحرج الذي يصيبه كلما رأها، فماذا عن حديثها معه؟ شعر بسخونة تصيبه كالحمى وهي تشكره:
, -دايمًا تعبينك يا د. مصطفى معانا
, ابتلع ريقه قائلاً بتردد ممزوج بالخجل المرتبك: -ده. واجبي!
,
, ربما هي لحظات عابرة بالنسبة لها لكنها عنت السعادة الحقيقية له، اختلس مصطفى النظرات نحوها وهي تلج مع باقي العائلة إلى غرفة نادية، حدث نفسه بنبرة متمنية:
, -يا ريت أقدر في يوم أعبرلك عن مشاعري!
,
, غمرت رأسها في مياه المغطس الدافئة لثوانٍ قبل أن ترفعها وتسندها على حافته، أزاحت آسيا بيدها بقايا رغوة الصابون عن عينيها مكملة تمددها المسترخي فيه، آملت أن تتولى المياه تليين تيبس عضلاتها، لكن ماذا عن قلبها الموجوع؟ لن تجد ما يُسكن آلامه، أغمضت جفنيها متذكرة الحديث الأخير عن مرض والدتها، وكيف رأت في أعين معتصم ومن معه تلهفهما على الذهاب فورًا لرؤيتها، بدأت دمائها تفور من جديد مع تلك الذكرى التي داعبت رأسها، لم تستطع مقاومة نسيانها فانخرطت في ذلك المشهد الموجع، كانت صغيرة ووحيدة في الفراش، بحاجة للرعاية وإلى الدواء، ارتفعت حرارتها ولازمت المنزل من أجل العلاج، انتبهت لصوت والدها القائل:.
,
, - آسيا حبيبتي، أنا نازل دلوقتي عندي شوية مصالح هخلصها وراجع
, مدت يدها لتمسك بكفه تتوسله بوهنٍ: -خليك جمبي يا بابا
, ربت على كفها بيده الأخرى، ثم رد بأسفٍ: -صعب يا حبيبتي، مضطر أنزل
, أدمعت عيناها تسترق قلبه من أجل البقاء معها: -أنا تعبانة وعاوزاك معايا
, انحنى على رأسها مقبلاً جبينها الدافئ بودٍ ثم مسح حبات عرقها قائلاً: -يا ريت كان ينفع، بس أمك هي السبب.
,
, طالعته بتلك النظرات الحزينة متوقعة أن يرأف بحالها، لكنه لم يرمقها بنظرة تعاطف واحدة بل حدق أمامه مكملاً حديثه المليء بالحقد:
, -لازم أعوض الخسارة وأدفع ديوني وإلا هاتحبس وإنتي تتشردي، ماهو أمك اتجوزت واحد غني وعايشة حياتها ومسألتش فيكي، وأنا غرقان في الديون
, انهمرت عبراتها التي امتزجت مع عرقها تستعطفه بإصرار: -النهاردة بس، أنا مش قادرة.
,
, كانت في حالة إعياء واضحة وبحاجة ماسة لمن يجالسها، أرادت أن تشعر بالاهتمام، لكنها وجدت جفاءً عاطفيًا من ناحيته، ابتسم لها شرف الدين ابتسامة متكلفة ثم رد بهدوء:
, -معلش يا آسيا، بس أوعدك مش هتأخر
, قبل كفها بلطف قبل أن يسنده بجوار جسدها المريض، ألقى نظرة جادة على أدويتها ثم أضاف قائلاً:
, -ناقص المضاد الحيوي، هو موجود برا، هاجيبهولك يبقى جمبك لو عوزتي تاخديه.
,
, أومأت برأسها وهي تخفي إحساس الانكسار الذي ملأ قلبها من ناحيته، تركها شرف الدين بمفردها تقضي ليلتها الطويلة تعاني من ويلات الألم، كانت بحاجة لتناول المسكنات لكنها لم تستطع الوصول إلى علبة الدواء، فقد غفل والدها عن إحضاره لها مثلما وعدها، حاولت النهوض من على الفراش، لكن لم يسعفها جسدها، زحفت ببطء عليه حتى بلغت حافته، أنزلت ساقيها وتوقعت أن تحملاها، لكنها خانتها فوقعت أرضًا، عجزت عن النهوض من جديد، ظلت تفترش الأرضية الباردة بجسدها وهي تئن بأنين موجوع طوال ساعات الليل، بكت بمرارة مستشعرة عجزها وقهرها حتى جفت دمعاتها، هي لم تجد من يمد لها العون في أشد حالاتها ضعفًا ووهنًا، بل لم تجد من ذويها من يداويها ويسهر بجوارها، تذوقت معنى اليتم وأبويها على قيد الحياة، عرفت قساوة الوحدة وكرهت هذا الشعور.
,
, أفاقت آسيا من شرودها وقد احتقن وجهها بدمائها الثائرة، لم ترغب في استعادة تلك الذكرى المقيتة، انهمرت عبراتها من جديد ولا تعرف لماذا حدث ذلك، لكنها انفجرت صارخة:
, -يا ريتني مت يومها.
,
, غطست برأسها من جديد في المياه حابسة أنفاسها لفترة أطول، أرادت في لحظة طيش هوجاء أن تتخلص من حياتها، لكن عاد شيطانها يعبث بعقلها ويحثها على الانتقام ممن تسببت لها في ذلك الشعور، من حظيت بالاهتمام وتركتها وحيدة تنازع الموت، هي تستحق أن تقاسي مثلها، بل تمر بتجارب أشد قسوة، انتفضت آسيا رافعة رأسها عن المياه في اللحظة الحاسمة، شهقت بسعال حرج لعدة مرات تستعيد انتظام أنفاسها المختنقة، استندت بيديها على حافة المغطس لتضبط اتزانها، قست نظراتها وهي تقول لنفسها:.
,
, -هاخليكي تحسي بكل لحظة ألم مريت بيها، مش هاتعذب تاني لوحدي يا نادية!
,
, التفتت مبتسمة نحو زوجها عمها بعد أن أسندت باقة الورد على الطاولة المستديرة الملاصقة لفراشها بغرفتها بالمشفى، منحتها أية نظرة حب صادقة قبل أن تحني رأسها عليها لتقبلها بودٍ، تحركت بعدها للخلف مفسحة المجال لعمها للاقتراب من زوجته والجلوس إلى جوارها، أمسك بكفها بين راحتيه مخرجًا زفيرًا مهمومًا من صدره، تحرك معتصم في اتجاه ابن عمه هامسًا له:
, -مالوش لازمة تفضلوا هنا، خد العيلة وروحوا يا نبيل.
,
, اعترض عليه قائلاً: -ازاي بس، احنا..
, قاطعه بإلحاح: -معلش، إنتو معانا من بدري، امشوا ولو في حاجة جدت هاكلمك.
,
, وجد نبيل أن الجدال معه لن يجدي لذلك استسلم أمام إصراره وسحب أفراد العائلة واحدًا تلو الأخر خلفه تاركًا فقط عمه وابنه بصحبة زوجة عمه، راقب معتصم والده وهو يطالع نادية بنظراته الشغوفة، شرد يفكر في التحول الذي انتابه منذ أول لحظة لقاء له ب آسيا، لم يفهم لماذا يتصرف معها بهذا العنف المقيت، فهو معروف عنه بلباقته، باحترامه وتقديره للأخرين، بل بحسن معاملته لجنس النساء، لكن مع تلك القاسية يتحول كليًا إلى شخص أخر، همجي، متعصب، وربما عنيف، لم يكن هكذا يومًا، ولم يحب ما تؤول إليه الأمور معها، انتبه لصوت والده حينما رفع رأسه نحوه يسأله:.
,
, - مصطفى قالك إنها هاتبقى كويسة، صح؟
, أجابه معتصم بهدوء محاولاً إخفاء قلقه: -ايوه، متقلقش يا بابا
, التفت محدقًا بحزن في وجه زوجته الساكن، اعتلى ثغره ابتسامة مفاجأة سعيدة حينما رأها تحرك رأسها للجانبين، هتف بتلهفٍ:
, - نادية، سمعاني!
, ردت بنبرة يشوبها الوهن: -حصل إيه يا وحيد؟
, أجابها وهو يقترب بجسده أكثر نحوها: -إنتي تعبتي شوية وجبناكي المستشفى، بس الدكتور طمنا وإنتي هاتبقي أحسن
, ارتجفت شفتاها هامسة: - آسيا.
,
, عبست ملامح معتصم مع ترديدها لاسمها، اكتفى بالمطالعة الصامتة مجبرًا دمائه الثائرة على تجاهل مع له صلة بها مؤقتًا كي لا يخرج عن هدوئه الزائف، أشارت نادية بكفها المرتعش متابعة حديثها:
, -عاوزة أشوفها
, خشي معتصم أن تسوء حالتها إن قابلتها بالفعل وعرفت نواياها الشريرة نحوها، فالأخيرة لن تكف أبدًا عن إذاقتها ألوان العذاب، لذا اعترض على طلبها قائلاً بجدية:.
,
, -ماينفعش يا ماما، مش هاتستحملي طريقتها ولا معاملتها الجافة ليكي، صدقيني مش هي البنت اللي في خيالك
, هي تعلم أنها لن تكون مثلما تمنت، لكن لماذا يثنيها الجميع عن رؤيتها؟ ألتلك الدرجة هي سيئة؟ حتى لو كانت كذلك لن تتخلى عنها مثل الماضي، هي تستحق أن تعرف الحقيقية وتعلم إلى أي مدى خدعها والدها، بدت متعصبة رغم الإعياء الظاهر عليها وهي ترد:
, -خلوني أقابلها الأول، جايز أفهم منها هي بتعمل كده ليه.
,
, احتج وحيد قائلاً بضيق: -قولتلك يا نادية إنها تربية شرف الدين، يعني أحط بني آدم ممكن الواحد يعرفه في حياته!
, بررت رغبتها في الالتقاء بها قائلة: -هي متعرفش ده، بالنسبالها باباها اللي رباها، خلوني أتكلم مرة معاها وساعتها هتفهم هو عمل فيا إيه و..
, توقفت عن الحديث بسبب نوبة السعال التي انتابتها فجأة، كانت تشعر بأن روحها تنتزع منها، قبل معتصم رأسها يتوسلها:.
,
, -ماشي يا ماما، هنعمل كل اللي إنتي عاوزاه، بس ارتاحي دلوقتي
, هزت رأسها رافضة حتى تصديقه، ركزت بصرها عليه قائلة: -اوعدني يا معتصم؟
, حاول أن يبتسم ليشعرها بتنفيذه لوعدها دون أن ينطق لكن لم تطاوعه شفتاه، عاودت تكرار طلبها فلم يجد بدًا من الرفض، كان أكثر وجومًا وهو يقول:
, -حاضر.
,
, مارس بعنف ملحوظ تمارين تقوية العضلات في الصالة الرياضية التي يرتادها مصيبًا من حوله بالفضول والاندهاش، فلم يكن سامر على تلك الحالة العصبية من قبل، اقترب منه المدرب المسئول عنه يحذره بجدية من خطورة التمادي في إرهاق عضلاته، لكنه رد بإصرار وهو يتصبب عرقًا:
, -عندي طاقة بأطلعها يا كوتش!
, لوح له بذراعه مكملاً تحذيره: -ماشي، بس مش بالشكل ده، ممكن يجيلك شد عضلي أو..
,
, قاطعه سامر بوجهه المزعوج: -أنا تمام، متقلقش يا كوتش.
,
, يئس المدرب من إقناعه بالتوقف فتركه متوجهًا لأحد أخر يتفقده، حدق سامر في الفراغ أمامه متأملاً طيف آسيا الذي تجسد نصب عينيه، اغتاظ من نبذها له وكأنه لا يستحق الظفر بوقت خاص له معها رغم ما دفعه من أموال وما عرضه عليها من إغراءات كافية لإقناع واحدة غيرها بالقبول بعرضه، توهم أنها سهلة المنال، لكنها كانت العكس، عاملته وكأنه شخص دوني لا يرتقي أبدًا لتطلعاتها، مجرد التفكير في تلك المسألة من هذا المنظور جعل الدماء الساخنة تدفق في عروقه بقوة، ربما هو ليس بالشاب المجتهد والجاد في عمله، لكنه يملك من الأموال ما يفتح له الأبواب الموصدة، كذلك لم ينسَ نظرات ذلك الشاب الذي هاجمه مدافعًا عنها دون سابق معرفة به، شخص غيره أبدى هو الأخر اهتمامًا بها، تحول الأمر مع كم الضغوطات التي تخصها إلى ما يشبه التحدي، ولكن من نوع مختلف ومثير.
,
, توقف سامر عن ممارسة الرياضة مجففًا عرقه بمنشفته القطنية، ألقاها بإهمال على الأرضية ثم بحث في حقيبته الصغيرة عن هاتفه المحمول، عبث بأزراره قبل أن يضعه على أذنه منتظرًا رد الطرف الأخر، وما إن سمع صوته حتى أمره قائلاً:
, -عاوزك تجيبلي معلومات عن واحد اسمه معتصم المصري.
,
, صمت لبرهة قبل أن يكمل بغموض: -اعرفلي بالظبط هو مين، بيشتغل إيه، مين أهله، كل حاجة تخصه، فاهمني، ويا ريت المعلومات دي تكون عندي في أقرب وقت!
,
, أنهى معه المكالمة معاودًا ممارسة رياضته العنيفة وهو أكثر تحفزًا عن ذي قبل، مرت من أمامه إحدى الشابات الجميلات ذات الجسد الممشوق، وممن يرتدن الصالات الرياضية للتودد إلى المشاهير من أبناء رجال الأعمال، اقتربت منه متسائلة بميوعة وهي تتعمد الوقوف أمامه بطريقة مغرية:
, -متعرفش الكافيه فين؟
,
, نظر لها مليًا وهو يبتسم لها بعبث، فتلك الألاعيب الرخيصة يعرفها جيدًا، نهض واقفًا من على الآلة الرياضية ليقترب منها، بدت أمام كتلة العضلات التي تتطلع إليها ضئيلة إلى حد ما، عضت على شفتها السفلى متسائلة:
, -هو أنا شوفت حضرتك قبل كده؟
, أجابها مبتسمًا وبكلمات مراوغة: -أكيد، بس أنا لأ!
, قطبت جبينها مبدية دهشتها من رده، تدللت في وقفتها فتابع ببرود وبنبرة موحية وهو يشير بعينيه:
, -الكافيه أخر الصالة، شمال!
,
, ثم تركها وانصرف دون أن ينبس بالمزيد، لو كان في وقت أخر لتودد إليها، لكنه حاليًا مشغول البال بواحدة فقط؛ اسمها آسيا، شعرت الشابة بالحرج الشديد من تجاهله لها، لكنها لم تستسلم فستبحث عن صيد أخر تفرض نفسها عليه.
,
, انقضى أسبوع منذ عودتها إلى منزلها والكل مواظب على زيارتها يوميًا - من المعارف والأقرباء وكذلك الأصدقاء - من أجل الاطمئنان على صحتها، لكن ظل بالقلب غصة عالقة به، عمدت نادية إلى التصرف بتلقائية ودودة مع الجميع لتشعرهم بتجاوزها لتلك الأزمة، ومع ذلك عكست نظراتها الحزينة ما يعتري صدرها من هموم، هي تعلم أنها تضغط على عائلتها لقبول ابنتها بكل عيوبها وسطهم، لكن في المقابل تجهل ردة فعل آسيا على مسعاها، تابعت في صمت أخبارها، وتحرت خلسة عن كل ما يخصها من فضائح ومعلومات مغلوطة، أنبئها حدسها أن ابنتها عكس ما يدعيه الأغلب عنها، بكت قهرًا مع كل خبر تقرأه يطعن في شرفها ويزيد من الإساءة لسمعتها، شعرت بالذنب نحوها، بأنها كانت ضلعًا بصورة أو بأخرى في وصولها إلى تلك الحالة، كان أغلب حديثها مقتضبًا، كتمت في صدرها أحزانها، لكن بدا وجهها مقروءًا لزوجها و ل معتصم، أراد الترويح عنها فقرر تنظيم حفلة بالنادي احتفالاً بخروجها من المشفى، ورغم كونها مناسبة لا تستحق ذلك الاهتمام إلا أنها كانت بحاجة لتغيير حالتها المزاجية، لذا رحبت بالفكرة.
,
, ما لم يضعه الجميع في الحسبان هو إقامة ذلك العرض التابع للمصمم الشهير في نفس التوقيت بعد أن تم الاتفاق مع أبرع العارضات وأشهرها للمشاركة فيه، بالطبع كانت آسيا أول المرشحات للتواجد فيه، ولم ترفض العرض المادي المجزي بعد أن تأكدت من طبيعة العرض ومكانه، ارتدت أحد تصميماته الخاصة بوقت السهرة تاركة شعرها الأسود ينساب على ظهر الثوب العاري، فامتزج لونه مع ذلك اللمعان الفضي الخاص به، لم تبتذل تلك المرة في وضع مساحيق التجميل، ولم تضع العدسات اللاصقة، أظهرت جمالها الطبيعي فباتت كلوحة فنية أبدع رسامها في تجسيدها، تسابقت عدسات الكاميرا في التقاط العديد من الصور المميزة لها، سارت آسيا بخيلاء على ممر العرض تجوب بنظرات خاطفة أوجه المحدقين بها، تجمدت أعينها لثانية على صاحب الوجه الذي رفع كأس مشروبه عاليًا كنوع من الترحيب بها وللإشارة إلى وجوده، نظرت له بوجهٍ متجمد التعبيرات وكأنها لم تتأثر بحضوره، لكن من داخلها أيقنت أنه لن يمرر الليلة على خير.
,
, أنهت آسيا فقرتها مع باقي العارضات واتجهت للخلفية لتبدل ثيابها بثوبٍ أخر، تفاجأت بوجود سامر ضمن طاقم العمل فتوترت لحظيًا من حضوره، تجاهلته عمدًا مستعيدة ثابتها ثم اتجهت نحو المرآة الخاصة بها مشيرة لمساعدتها بتعديل تسريحتها، وقف سامر خلفها متأملاً انعكاس وجهها للحظات، مال نحوها هامسًا بنبرة ذات مغزى وهو يضع يديه على كتفيها:
, -ماينفعش أفوت أول حفلة ليكي بعد حفلتي، ولا إنتي رأيك إيه؟
,
, نظرت لانعكاس وجهه المائل عليها وكفيه اللذين يضغطان على بشرتها بامتعاض، ثم ردت قائلة بصيغة آمرة:
, -ابعد إيدك عني!
, اقترب أكثر من أذنها فشعرت بسخونة أنفاسه عليها، شدد من ضغط أصابعه على كتفيها فكتمت تأوهاتها المتألمة داخلها، تنهد قائلاً بهمسٍ أقرب لفحيح الأفعى:
, -صعب أبعد، يا آسيا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٣

نظرت له بتحدٍ دون أن يرف جفنيها، فبقيت أعين سامر معلقة بحدقتيها الفيروزتين مستمتعًا بذلك الإغراء المخفي فيهما، اقشعرت من مسحه الناعم على بشرتها بأصابعه، حاولت أن تبدو هادئة أمامه، لكن رادوها إحساس غريب بأن تلك الليلة لن تمضي على خير، وبدلال ناعم حاولت آسيا إبعاد عنقها عن لمسات يده المستباحة على بشرتها، ردت بقوة تمزج بين الرقة والأنوثة الخطيرة وهي تتحاشى النظر إليه في المرآة:
, -ومستحيل أقرب!
,
, ثم أشارت لمساعدتها بالتوقف عن العمل ونهضت من مقعدها دون أن تكمل الأخيرة مهمتها، استعدت للسير رافعة طرفي ثوبها عن الأرضية، ولكن استوقفها سامر معترضًا طريقها ومتسائلاً بجدية شديدة:
, -على فين؟
, نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بتعالٍ: -ورايا شغل، أمثالك مايفهموش فيه!
, رد مبتسمًا وهو يرفع حاجبه للأعلى: -أكتر حاجة عجباني فيكي لسانك المبرد ده.
,
, دنا خطوة منها مضيقًا عليها الحصار ثم أضاف بإعجاب: -بس مش مهم قصاد جمالك ده!
, تجاهلت آسيا ما أسمته بجملة إطرائية لمدحها واستدراجها للحديث رغم يقينها بكونه يريدها لأغراض دنيئة، استخدمت سبابتها في الإشارة إلى هيئته قائلة بتهكمٍ:
, -وإنت كلك على بعضك بعضلاتك المنفوخة دي ماتملاش عيني
, انزعج من سخريتها الواضحة منه واستهتارها بقوته الذكورية التي لم تختبر خشونتها بعد، قست تعابيره محذرًا بخشونة طفيفة:.
,
, -حاسبي على كلامك
, ردت بتحدٍ وقد توهجت حدقتاها: -وإلا.؟!
,
, على الجانب الأخر، انتهت نادية من تناول قطعة صغيرة من قالب الحلوى الذي أحضره لها معتصم، كان الأخير سعيدًا بالفرحة البادية عليها وعلى والده بعد أن خاضت عائلته في الفترة الأخيرة ضغوطات كثيرة، تبادل مع ابن عمه حديثًا وديًا ثم انتقل للحديث مع باقي الضيوف، انتبه لرنين هاتفه في جيب سترته، فابتعد قليلاً ليتمكن من سماع المتصل به مشيرًا إلى نادية بيده، لوحت لها بيدها متفهمة سبب انصرافه المفاجئ لكونه ذو علاقة بالعمل، وضع معتصم يده على أذنه قائلاً بصعوبة:.
,
, -خليك معايا ثواني، هاروح مكان هادي شوية علشان أعرف اسمعك!
, واصل خطواته المتعجلة باحثًا عن مكان غير صاخب ليتمكن من إكمال المكالمة، لكن لفت أنظاره تلك اللافتة المعلق عليها إعلان عن عرض للأزياء، قرأ فحواها بأعينه فاقدًا تركيزه مع الطرف الأخر، انقبض قلبه مستشعرًا وجود من يخشاها بالمكان، وضع الهاتف من جديد على أذنه قائلاً بارتباك ملحوظ:
, -معلش هاطلبك تاني.
,
, ودون أن يقدم أن تبريرات أنهى المكالمة معه متجهًا نحو الصالة المخصصة لإقامة العرض، مرر أنظاره على أوجه العارضات المشاركات فلم يجدن بينهن ضالته، اعتقد أنها بالكواليس فتحرك بحذر نحو المنطقة المخصصة للعارضات، أوقفه أحدهم متسائلاً بجدية:
, -على فين يا فندم؟
, نظر له معتصم قائلاً بابتسامة سخيفة ومصطنعة: -أنا جاي ل آسيا هانم، العارضة المشهورة.
,
, رد عليه الحارس الأمني مدققًا النظر في هيئته: -عارفها، بس هي بتجهز، فماينفعش حد يدخل و..
,
, تحفزت خلايا عقله كليًا بعد أن تأكد من وجودها ضمن المشاركات في العرض، وهذا ما لم يضعه في الاعتبار، خشي أن تلتقي بوالدتها ويحدث الصدام الحاد بينهما، هو متأكد من نواياها السيئة نحوها، فلن تمر المقابلة على خير بأي حال، ناهيك عن كم الفضائح الذي سيشهده المتواجدون وربما يتطور الوضع للأسوأ، لعن ذلك الحظ العثر الذي جعله يختار هذا اليوم ليقيم فيه حفلته العائلية، كان عليه التصرف سريعًا فاختلق كذبة ما قائلاً بثبات:.
,
, -أنا جايبلها حاجة، وهي اللي طلباني، ولو اتأخرت هتحصل مشكلة
, نظر لها الحارس مطولاً، لم يكن مقتنعًا بما قاله، فتابع معتصم مضيفًا بجدية: -ممكن تناديها علشان تتأكد، بس أنا مش مسئول عن أي غلط يحصل و..
, قاطعه الحارس مرددًا باستسلام ومشيرًا بيده: -اتفضل.
,
, تنحى بعدها للجانب مفسحًا له المجال ليمر، ابتسم له معتصم بامتنان قبل أن يكمل سيره نحو الداخل، على قدر الإمكان حاول أن يلقي نظرة سريعة وشاملة على وجوه المتواجدات من العارضات باحثًا عنها بينهن، تعذر عليه إيجادها، فاستمر في بحثه، اتسعت حدقتاه بصدمة حينما رأها تتحدث عند الزاوية مع سامر، وجوم مُنذر بأشياء غير جيدة كسا ملامحه، سحب نفسًا عميقًا حبسه لثانية بداخل صدره ثم أطلقه دفعة واحدة وهو يتحرك صوبهما، التقطت أذنيه صوتها المتكبر وهي توجه حديثها للواقف قبالتها:.
,
, -ولا يفرق معايا
, رد عليها سامر متسائلاً بتجهم كبير: -أومال مين اللي يملى عينك؟
, حركت شفتيها لترد لكن صوت معتصم جمد الكلمات على طرف لسانها، استدارت بجسدها نحوه لتتأكد من نبرته المألوفة فوجدته يرمقها بنظرات نارية صائحًا:
, - آسيا
, تناست لحظيًا وجود سامر معها وركزت حواسها مع غريمها اللدود، انعكست المفاجأة على وجهها ونظراتها نحوه، ردت باستغراب كبير:
, -إنت؟!
,
, أمسك بها من رسغها ليسحبها بعيدًا عن سامر، جذبت معصمها بكل قوتها فتحررت منه، نظرت له بغيظ، وقبل أن تستجوبه على طريقته الهمجية في التعامل معها كان هو الأسبق في سؤالها باستفهام وقد بدا عليه الغضب:
, -جاية هنا ليه؟
, ثم قبض على ذراعها من جديد مكملاً حديثه بانفعال ملحوظ لفت انتباه المحيطين بهما: -عاوزة تبوظي كل حاجة أنا بأعملها.
,
, تأوهت من قسوة قبضته عليها، حاولت التملص منه لكنه استمر في ضغطه المؤلم، زوت ما بين حاجبيها متسائلة:
, -إنت بتكلم عن إيه؟
, أرخى أصابعه عنها متعمدًا دفعها بقوة نسبية إلى الخلف آمرًا إياها: -ارجعي مطرح ما جيتي وانسيها، اعتبريها ماتت جايز تتهدي.
,
, تابع سامر حديثهما من على بعد متوقعًا في البداية أن تكون هناك نوعًا من الغيرة وربما المشاعر المتبادلة بينهما نظرًا لتعامله معها بتلك الحدة والغلاظة، عماه تفكيره السطحي عن تفسير الأمور بمفهومها الصحيح، اعتبر المسألة نوعًا من الاستهانة برجولته، لذلك اقترب منهما متسائلاً بتهكمٍ وهو يشير نحو معتصم:
, -هو ده بقى؟
,
, رفع الأخير رأسه نحوه يرمقه بنفس النظرات الكارهة، ثم رد بسخطٍ: -أهلاً، غني عن التعريف يا. سامر بيه!
, انتصب سامر في وقفته متعمدًا إظهار عرض كتفيه، وقوة عضلاته المشدودة، بدا بدرجة كبيرة متباهيًا بنفسه ومعتدًا بجسده الرياضي، أراد إيصال غرضه له، ونجح ببساطة، فنظرات معتصم نحوه كانت مليئة بالحنق والضيق، تحدث سامر من زاوية فمه قائلاً:
, - معتصم باشا، من حظي إني أشوف جنابك هنا.
,
, رد عليه الأخير مبتسمًا بتهكمٍ: -هاتقولي
, التفت سامر ناحية آسيا يسألها بطريقة تحمل نوعًا من السخرية وتلميحًا بوجود علاقة ما سرية بينهما:
, -ده بقى اللي مانعك عني؟ قولي ماتكسفيش!
, احتقن أعينها بشدة من كلماته الموحية فردت بعصبية: -احترم نفسك
, خمن معتصم أن الحديث عنه لذلك سأله بهدوء مفتعل وهو يبذل جهدًا مضاعفًا لضبط انفعالاته المستشاطة بداخله:
, -معلش هقاطعكم، إنت بتكلم عن مين بالظبط؟ قصدك أنا؟!
,
, صرخت فيهما آسيا متسائلة بحدةٍ وهي تتراجع خطوتين مبتعدة عنهما: -إنتو الاتنين جايين هنا ليه؟
, أجابها سامر بابتسامة مراوغة وهو يغمز لها: -أنا جايلك مخصوص
, رفعت حاجبها للأعلى متسائلة بنفس النبرة الغاضبة: -ليه؟
, لم تحصل على إجابة لسؤالها الأخير بسبب مقاطعة إحدى المسئولات عن تنظيم العرض لحوارها معه مرددة بجدية:
, - آسيا، الشو هيبدأ، بليز محتاجينك معانا.
,
, وزعت أنظارها بين وجهي سامر و معتصم، قرأت في نظراتهما نحوها اتهامات صريحة بكل ما يشينها، فالأول يطمع في ليلة عابثة معها، والثاني يريد الخلاص منها قبل أن تحقق انتقامها من والدتها، لم تكن بحاجة لتفسير تصرفاتها الحادة معهما، بل لم تكن بحاجة من الأساس لخوض جدال عقيم مع كليهما لن تخرج منه سوى مدمرة نفسيًا ومرهقة جسديًا، ومفلسة ماديًا إن تطرق الأمر لمهنتها، لذلك انسحبت من أمامهما وهي تحدث نفسها بذهول:.
,
, -بجد مش مصدقة نفسي!
, جمد معتصم أعينه عليها رغم انصرافها شاعرًا بغضب يجتاحه، بحنق مضاعف يزيد من حقده عليها، لم تحط دمائه الفائرة في عروقه مع رحيلها بل زادت ثورتها حينما استطرد سامر حديثه من جديد قائلاً:
, -أول مرة أشوفك هنا في النادي
, رد عليه معتصم بعبوس: -أنا عضو من زمان، بس احنا ماتقبلناش قبل كده
, فرك سامر طرف ذقنه بحركة دائرية، ثم رمقه بنظرة شمولية قائلاً ببرود: -مش فارق.
,
, ثم كتف ساعديه مضيفًا بنبرة ذات مغزى متعمدًا إثارة ريبته: -بس هاقولك على حاجة، أنا عارف كل حاجة عنك
, دس معتصم يديه في جيبي بنطاله قائلاً بعدم اكتراث: -طبيعي الناس هنا تبقى عارفة بعض
, رفع سامر إبهامه هاتفًا: -مظبوط، إنت صح
, ثم أرخى ذراعيه متابعًا بغموض: -بس المهم اللي جاي بعد كده
, قطب معتصم جبينه محاولاً سبر أغوار عقله ليفهم المقصد من حديثه غير الواضح، ثم أردف متسائلاً في حيرة:
, -يعني إيه؟
,
, أجابه بتمهلٍ وقد ارتسم على وجهه تعابير جادة للغاية: -من الأخر كده ملكش دعوة ب آسيا، فاهمني!
, تفاجأ معتصم من أمره الصارم وكأنه المتحكم في شئونها، ردد مصدومًا: -أفندم
, اقترب منه سامر ليضع يده على كتفه، ضغط عليه بأصابعه موضحًا: -دلوقتي هي تخصني، وأنا عاوزاها، ومش هاسيبها.
,
, لم يكن معتصم ليكترث بما يفعله ذلك السمج الممتلئ بالعضلات أو حتى يهتم بعلاقاته النسائية لولا وجود ما يربطه به؛ بالطبع كان يقصد آسيا، استشاطت نظراته، واضطربت نبضاته، لم يتحمل المزيد منه خاصة مع نظراته التي تشير إلى الكثير، لكزه في ذراعه مبعدًا إياه عنه وهو يرد:
, -إنت اتجننت.
,
, قهقه ضاحكًا ليبدي استخفافه بعصبيته تلك، ثم رد عليه بتباهٍ: -أنا لسه بعقلي، لأني لو مجنون هاطلع أجيبها من على منصة العرض وامشي بيها وسط الناس ومحدش هيمنعني!
, نفث معتصم – مجازًا - دخانًا من أذنيه بسبب طريقته الكلامية المستفزة له والتي عبثت بصورة مباشرة مع رجولته في تحدٍ سافر لقوته، انفجر فيه صائحًا بخشونة ومهددًا إياه:
, -طب إياك تقربلها
, غمز له سامر بثقة: -هي اللي هاتقرب مني، وبمزاجهها!
,
, برزت مقلتاه بغضبٍ مستطير، فابتسم له سامر وهو يرفع إصبعيه عند جبهته ليحيه قائلاً:
, -وبكرة تشوف بنفسك يا معتصم، أصل أنا خبير أوي في النوع ده، سلام!
,
, ثم قهقه ضاحكًا ليظهر له عدم اهتمامه به ومستخفًا بتهديده الذي ظنه مجرد حديث عبثي، تسمرت قدمي معتصم وظل كالصنم في مكانه متابعًا سامر الذي ابتعد عنه، انتابته هواجس مخيفة حول المقصد من حديثه، كان مؤمنًا بقوة أنها فتاة عابثة تُجيد اصطياد الرجال، وها هو شخص أخر يؤكد له ذلك، شحن غضبه كله ووجهه نحوها هي فقط، نعم نجح سامر ببراعة في زرع كراهية أشد عدائية نحو آسيا، فهي باتت بالنسبة له – فعليًا - امرأة سيئة السمعة، احتقنت عروقه، وشعر بالاختناق لمجرد وجوده في مكان يحوي أنفاسها، تلفت بصورة عصبية فاقدًا التركيز، وضع يده على رابطة عنقه يحل وثاقها، انتزعها من حول ياقته وهو يندفع بأنفاس متلاحقة إلى خارج المكان، لم يعد إلى عائلته، بل انطلق نحو الجراج ليستقل سيارته هاربًا من النادي قبل أن ينفجر في أحدهم بلا أي داعي.
,
, تعكر مزاجها رغم تلك البسمة المصطنعة التي رسمتها على وجهها وهي تسير بثقة مغترة على الأرضية اللامعة مكملة مع باقي العارضات دورها في الحفل، كانت أعصابها متقدة نتيجة ما تتعرض له من مواجهات عنيفة مع الرجال تحول دون تنفيذ انتقامها الذي تسعى إليه، اختلست آسيا النظرات نحو الجالسين متوقعة وجود أحدهما بينهما، لكنها لم ترَ أيًا منهما، حافظت على جمود تعابيرها منتظرة بفارغ الصبر انتهاء الفقرة لتعاود أدراجها إلى الكواليس، خلى المكان من وجودهما فشعرت بالارتياح، ابتسمت بتصنع وهي تتلقى التهنئات ممن حولها، اقترب منها منظم الحفل يمدحها فردت عليه بلباقة، ثم قدم لها باقي الأجر المتفق عليه، بدلت ثيابها بإرهاق وقامت بجمع متلعقاتها الخاصة مستعدة للرحيل، أحست بجفاف شديد في حلقها، برغبة ملحة لتناول مشروب بارد تنعش به نفسها، فاتجهت للكافيتريا القريبة من صالة العرض لتشتري ما تريد.
,
, في نفس التوقيت، انتاب نادية القلق لغياب معتصم دون مبرر عن الحفل، حاولت أن تختلق له الأعذار معللة انشغاله بالعمل، ثم انسحبت بهدوء عن الصخب الدائر حولها لتتمكن من مهاتفته، تضاعف خوفها مع تجاهله لاتصالاتها المتكررة، رددت لنفسها بتوتر:
, -أكيد في مشكلة، رد وطمني يا معتصم!
,
, حركت رأسها في كافة الاتجاهات آملة أن تجده في مكان ما بالقرب منها، اتجهت إلى الكافيتريا متوقعة أن يكون هناك، جالت بأعينها المكان سريعًا لكنها لم تجده بين الحضور القليل، تحول في لحظة الخوف المسيطر عليها إلى صدمة كبيرة حينما لمحت وجهًا بدا لها مألوفًا تقف بالقرب من البار الرخامي، شعرت بخفقان قوي في قلبها، بصعوبة بالغة في التنفس بطريقة طبيعية، لم تكن لتعرفها لولا تلك الصور التي رأتها لها من قبل، فهي احتفظت بالكثير منها في ذاكرة هاتفها المحمول لتتأملها مليًا كل يوم فتعوض غيابها الإجباري عنها، لذا حفظت عن ظهر قلب تقاسيم وجهها وملامحها، تحرك لسانها تلقائيًا ينادي باسمها:.
,
, - آسيا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih و غريب عن العالم
١٤

تحسست قلبها النابض فشعرت به يقفز بين ضلوعها، لم تكن وهمًا أو حلمًا عابرًا من نسج خيالها، إنها حقيقة تراها بأم أعينها، أسرعت نادية في خطاها نحوها وغريزة الأمومة تحركها بكل حماسٍ، نسيت ما بها من أوجاع، وما قيل من قبل من فضائح تخصها وركزت فقط على كونها قد وصلت إلى ابنتها أخيرًا، وما إن اقتربت مسافة لا بأس بها منها حتى صاحت عاليًا لتلفت انتباهها:
, - آسيا، بنتي!
,
, تصلب جسد الأخيرة من تلك الكلمات المقتضبة، لوهلة ظنت أنها تتوهم ذلك الأمر، لكن تكرر النداء بنفس النبرة المليئة بالحنان والحزن، التفتت برأسها نحو صاحبته لتتأكد فعليًا من وجودها، بدت مذهولة وهي تتأمل تلك التي تطالعها بنظرات تعكس تلهفًا واشتياقًا كبيرًا، كانت المرأة الواقفة على مقربة منها تطابق الصورة التي رأتها مسبقًا في منزل والدتها، إنها بالفعل هي، وفي أقل من ثانية هاجت الدماء في شرايينها وتدفقت بغزارة في كافة خلايا جسدها محفزة غضبها نحوها، رسمت نادية ابتسامة ناعمة على وجهها الحزين وهي تدنو منها لتقول بعدها بعاطفة نابعة منها:.
,
, - آسيا، أنا مامتك!
, تلك الكلمة التي بغضتها لكونها تذكرها بما مرت به من آلام وشعور بالوحدة، أخفت آسيا حنقها ببراعة لتحدق فيها بنظرات مطولة، تخشبت أصابع يدها على الكأس الممسكة به، ظلت تضغط عليه بلا وعي مفرغة فيه ما يعتريها حاليًا من شحنات غضب متأججة فلم تشعر به يتهشم بين أناملها، انتفضت نادية فزعًا في مكانها هاتفة بتخوفٍ:
, -خدي بالك يا بنتي!
,
, لم تكترث آسيا للجرح النازف في راحة يدها، بل يمكن القول بأنها لم تشعر بالألم مطلقًا، أخفضت رأسها لتنظر له بغضبٍ مبرر، أخرجت من حقيبتها منشفة ورقية لتوقف نزف الدماء، اقتربت منها والدتها واضعة يدها على ذراعها فنظرت لها آسيا كالملسوعة، أبعدت يدها عنها وهي تحدجها بنظرات نارية، ازدردت نادية ريقها مستشعرة نفورها الواضح منها، كتمت ضيقها من تصرفها الجاف معها، وبررت لنفسها بأنها لديهل كل الحق لتحزن منها، حاولت أن تلطف الأجواء بينهما فاستطردت قائلة بودٍ:.
,
, -أنا بأدور عليكي من زمان.
,
, ظنت آسيا أنها ستثور فيها فور أن تراها، ستقبض على عنقها وربما تخنقها بأيدٍ عارية دون إبداء ذرة ندم واحدة أو حتى ذرف عبرة واحدة حسرة عليها، ستفعل ما تعهدت لنفسها به منذ نعومة أظافرها، لكنها عجزت عن مواجهتها، هربت الكلمات من على لسانها، فقدت النطق مجازًا، تفاجأت بذلك الإحساس العاجز الذي تملكها، بدت مشلولة التفكير مسلوبة الإرادة أمام تيار الحنان المتدفق منها، تجمدت أعينها عليها مراقبة ردة فعلها الطبيعية نحوها، تخيلتها مثلها قاسية، جاحدة، متكبرة، متعالية، ساخطة، بل وأسوأ بكثير، لكنها وجدت فيها ملامح الأم الطيبة الحنون التي تملأ روحك بالسلام والطمأنينة لمجرد التطلع إلى وجها والظفر بابتسامة رضا من على شفتيها، استنكرت خذلان نفسها بعد ما تدربت مرارًا وتكرارًا على تلك المواجهة المصيرية، أحست بالفشل الذريع، بذهاب كل شيء سدى، بأنها اقترفت خطئًا حينما ظنت أنها قادرة على الانتقام، منحتها نظرة أخيرة تحمل كرهًا مكتومًا قبل أن تعلق حقيبتها على كتفها وتنسحب هاربة من المكان لتخفي ضعفها المخزي، صدمت نادية من ردة فعلها بعد أن توقعت عتابًا شديد القسوة، لحقت بها لتستوقفها وهي ترجوها:.
,
, -بتهربي مني ليه يا بنتي؟ أنا مصدقت لاقيتك
, صرخت فيها الأخيرة بلا وعيٍ: -دلوقتي بس ظهرتي في حياتي؟ دلوقتي جاية تقوليلي بنتي؟!
, -أنا..
, قاطعتها بانفعال غاضب وقد تسللت العبرات إلى مقلتيها: -ولا كلمة، مش عاوزة أسمع حاجة، ابعدي عني!
, تلفتت نادية حولها بتوتر مراقبة ردة فعل المتواجدين، خشيت أن يظن أحدهم وجود خطب ما أو شجار ما بينهما، فيفسد محاولتها للتودد إليها، لذا وضعت يدها على كتفها قائلة بصوتٍ شبه مختنق:.
,
, -تعالي نتكلم بعيد عن هنا وأنا هافهمك كل حاجة يا آسيا
, نفضت يدها بعيدًا عنها صائحة بنبرة مهتاجة: -تفهميني إيه بالظبط؟
, ردت بصوتٍ شبه لاهث: -الحقيقة!
, صاحت فيها آسيا متسائلة بسخطٍ: -أنهو حقيقة بالظبط؟!
, أجابتها بصوتها المهتز: -اللي باباكي خباها عليكي وفهمك إني السبب و..
,
, قاطعتها صارخة وهي تشير لها بيدها محذرة إياها من الاقتراب منها أو تلمس جسدها: -أنا مش محتاجة أعرف حاجة منك عشان أفهم، أنا مريت بأسوأ ما تتخيلي، وبصي شوفي بقيت إيه، وإنتي عايشة هنا في سعادة وسط ابنك وجوزك!
, -يا آسيا إنتي غلطانة، باباكي خطفك مني و..
, -بلاش أعذار فارغة، إنتي لو كنتي عاوزة توصليلي كنتي عرفتي، بس إنتي نستيني ببساطة وكملتي حياتك عادي.
,
, قالت جملتها الأخيرة وهي تسرع في خطواتها لتبتعد عنها، هرولت نادية خلفها محاولة اللحاق بها وهي تقول:
, -ماتظلمنيش، إديني فرصة أدافع عن نفسي
, توقفت عن السير لتستدير كليًا نحوها ثم صرخت بها تسألها: -وأنا مين كان إداني فرصة أختار حياتي؟
, تحركت نادية لتقف قبالتها متابعة رجائها: -اهدي طيب وخليني أشرحلك الظروف وإنتي احكمي عليا!
,
, رمقتها بنظرة ناقمة على كل شيء وهي ترد بإحباط: -هايفرق في إيه لما تحكي؟ هترجعي الزمن تاني لورا وتعوضيني عن اللي فات؟
, ردت عليها والدتها بيأسٍ: -لو أقدر هاعمل كده
, نظرت لها آسيا بكرهٍ كبير وهي تقول ساخرة: -ارجعي لحياتك السعيدة يا نادية هانم وانسيني زي زمان، كانت غلطة لما فكرت أرجع من الأول هنا.
,
, اعترضت والدتها طريقها قائلة باستنكار وراسمة على فمها ابتسامة صغيرة: -دي أحسن حاجة عملتيها إنك رجعتي يا بنتي، إنتي مش متخيلة فرحتي بيكي وأنا شيفاكي قصادي عاملة ازاي
, توهجت نظراتها بحنق حاقد وهي تنهرها قائلة: -بطلي نفاق وكدب
, انزعجت نادية من عدم تصديقها لها، ومع ذلك حافظت على هدوء نبرتها وهي تستعطفها: -لأ يا بنتي، دي الحقيقة، ولازم تصدقيها.
,
, منحتها آسيا نظرة غاضبة قبل أن توليها ظهرها لتكمل سيرها المتعجل نحو الجراج، تبعتها نادية تسترق قلبها:
, -استني يا آسيا، أنا مش هاسيبك النهاردة، أنا مامتك ومن حقي عليكي تعرفي اللي حصل
, توقفت الأخيرة أمام سيارتها لتصرخ بها بعصبية: -ابعدي عني، أنا ماليش أم.
,
, صدمت نادية من إنكارها لذلك الرابط الغريزي بينهما، قرأت في عينيها رفضًا صريحًا لمنحها أي فرصة للغفران والسماح، راقبتها وهي تستقل سيارتها، كانت أمام خيارين لا ثالث لهما، أن تتركها ترحل وتفقد الصلة معها للأبد، أو أن تفرض نفسها عليها وتذهب معها جبرًا حتى لو كانت ذاهبة إلى الجحيم، حسمت أمرها وقررت أن تفعل ما أملاه عليها قلبها الموجوع، فتحت باب السيارة وركبت إلى جوارها قائلة بإصرار:
, -أنا جاية معاكي!
,
, التفتت آسيا نحوها ترمقها بنظرة حادة من طرف عينها، قبضت على المقود بكلتا يديها متجاهلة دمائها التي امتزجت بجلد المقود، ثم ضغطت على دواسة البنزين لتنطلق بالسيارة وهي تفكر في كيفية التخلي عن ضعفها لتنتقم بشراسة ممن أنجبتها وأتت بها لتلك الحياة القاسية.
,
, بحث كالمجنون عنها في كل المناطق التي من الممكن أن تتواجد بها بداخل النادي بعد أن طال غيابها، ومع ذلك لم يجدها، حاول الاتصال بها، لكن للأسف لا استجابة على الإطلاق، انتاب وحيد حالة من القلق على زوجته، خشي أن تكون قد أصيبت بمكروه ما أو تعرضت للأذى وهو يجهل بذلك، انقبض قلبه لمجرد التفكير في هذا الأمر بتلك الصورة المأساوية، عاود الاتصال بها، ولا جديد يُذكر، قرر أن يهاتف ابنه معتصم الذي اختفى هو الأخر في ظروف غريبة، وجد صعوبة في الوصول إليه، حدث نفسه بانفعال طفيف:.
,
, -رد يا معتصم، ده مش وقت تختفي فيه خالص!
, بدا وحيد حائرًا وهو يقف بمفرده وسط أقربائه محاولاً إخفاء توتره وفي نفس الوقت الوصول إلى ابنه على الأقل ليعاونه في البحث عن نادية دون إثارة قلق وريبة الضيوف المتواجدين.
,
, على الجانب الأخر، كان معتصم يقف مستندًا بظهره على مقدمة سيارته، شرد أمامه يفكر فيما قاله سامر عن آسيا، ود لو قطع كل صلة بها كي لا تحترق أعصابه من تصرفاتها المسيئة، اشتدت تعابير وجهه واحتقنت حدقتاه، كان يقاوم رغبات مُلحة بداخله تدفعه للتصرف بهمجية، بالثورة والغضب، بالانفعال والثأر، كان الأسلم له وسط ذاك الكم الهائل من الضغوطات العصيبة والمستفزة أن يبتعد، نأى بنفسه عن الجميع وأثر أن يقف منفردًا في تلك البقعة الخاوية من أي روح، ترك للنسمات القليلة الباردة تهدئة نفسه المشحونة بكل مقومات الغضب، وما إن هدأ نسبيًا حتى عاود التطلع إلى هاتفه المحمول، وجد عدد لا بأس به من المكالمات الفائتة من والده، قطب جبينه متعجبًا، تنفس بعمق قبل أن يهاتفه، تساءل بفتور ملحوظ ما إن سمع صوته:.
,
, -أيوه يا بابا
, سأله وحيد بتلهفٍ: -إنت فين؟
, رد عليه متسائلاً بجمود قليل: -هو في حاجة؟
, أجابه أباه بهلع استشعره بقوةٍ: -مامتك مش لاقيها يا معتصم!
, انتصب الأخير في وقفته مرددًا بذهول صادم وعقله يبذل قصارى جهده لاستيعاب الأمر وتفسيره:
, -نعم
, تابع والده موضحًا: -دورت عليها في كل مكان في النادي ومالهاش أي أثر!
, شحب لون وجهه متسائلاً بتوتر مضاعف: -يعني إيه الكلام ده؟
,
, رد عليه وحيد بما كان يخشى سماعه: -يعني مامتك اختفت واحنا مش عارفين
, اتجه معتصم سريعًا نحو سيارته، استقلها قائلاً بجدية شديدة وقد توترت كافة تعابيره:
, -أنا جاي عند حضرتك حالاً.
,
, راقبتها خلسة رغم تلك السعادة الغامرة التي سيطرت عليها لكونها معها أخيرًا، ابتسمت نادية بوداعة إلى ابنتها وهي تطالعها بنظراتها المشتاقة، أرادت أن يحتفظ عقلها بصورة حية لها، تمنت لو سمحت لها باحتضانها، وضمها إلى صدرها، بإعطائها الفرصة لتلمس بشرتها وتحسس تعابير وجهها بعد أن حُرمت من أبسط حقوقها في رؤية ابنتها تكبر في كنفها، على عكسها كانت آسيا جالسة بتحفزٍ في مقعدها وقابضة بقوة على المقود، كانت تعاتب نفسها بقسوة لضعفها أمامها، لتراخيها في حسابها، أخفضت نادية أعينها لتحدق في أثار الدماء الواضحة، اعتصر قلبها ألمًا لرؤيتها مجروحة هكذا، حاولت أن تلفت نظرها إليه فاستطردت قائلة بحذرٍ كبير:.
,
, -إيدك بتوجعك يا بنتي؟
, كان بداخل آسيا متحفزًا ضد أمها، فبمجرد أن نطقت، انفجرت فيها صارخة بتشنجٍ: -ماتقوليش الكلمة دي، أنا مش بنتك
, ثم ضغطت على دواسة البنزين لتزيد من سرعة السيارة، ابتلعت نادية ريقها وتشبثت أكثر بمقعدها متوجسة خيفة في نفسها أن تتسبب ابنتها في حادث سير، أضافت مرددة بتلعثم وهي ترمش بعينيها:
, -حاضر، اهدي بس!
,
, التفتت آسيا نحوها ترمقها بنظراتها الحادة وهي تواصل صراخها بها: -وملكيش دعوة إن كنت بأنزف ولا لأ
, ردت عليها نادية بندمٍ بدا ظاهرًا في نظراتها أيضًا: -أنا خايفة عليكي
, التوى ثغر ابنتها للجانب لترد بتهكمٍ ساخط: -كفاية الخوف ده توريه لابنك ولجوزك، مش هي دي عيلتك اللي بجد؟
,
, أكثر ما أصابها بغصةٍ مريرة في حلقها وبالحزن في نفسها هو اعتقاد وحيدتها أنها تخلت عنها وتركتها هكذا، ألمتها تلم الفكرة كثيرًا، توسلت لها نادية قائلة بصوتٍ مختنق:
, -يا آسيا ماتظلمنيش
, لم يكن بها أي طاقة للجدال معها، حتى أنها سئمت وجودها بجوارها بعد أن تمنت ذلك كثيرًا، ضغطت فجأة على مكابح السيارة لتوقفها صائحة فيها بصيغة آمرة وهي تنظر أمامها:
, -انزلي!
,
, تفاجأت نادية بما تفعله، ارتد جسدها للأمام من جراء إيقاف السيارة هكذا دون أي مقدمات، استندت بيديها على التابلوه مانعة نفسها من الاصطدام، التفتت برأسها نحوها ترمقها بنظراتها المدهوشة، ومع ذلك رفضت قائلة بعنادٍ:
, -لأ
, استدارت آسيا نحوها تصيح فيها: -بأقولك انزلي من عربيتي!
, ردت محتجة على أمرها: -مش هاسيبك وإنتي في الحالة دي
, نظرت لها شزرًا وهي تقول بسخطٍ لكنه عبر عن لوم وعتاب صادق لها: -ما إنتي سيبتيني زمان!
,
, كانت محقة في جملتها الأخيرة والتي نطقتها بكل مرارة وأسى، استشعرت ذلك نادية وتضاعف تأنيب ضميرها، اعتذرت منها قائلة:
, -حقك عليا
, ضحكت آسيا بطريقة هيسترية ساخرة منها على أسفها الغير مجدي، فهو لن يعيد الماضي ولن يصلح ما فات، نظرت لها والدتها بغرابة، ورغم ذلك لم تقاطعها وتركتها تفعل ما يحلو لها، فهي في أمس الحاجة للبقاء إلى جوارها، حتى لو استهزأت منها، ستلزم الصمت فقط من أجلها.
,
, عجز عن الوصول إليها هو الأخر، انتابته هواجس مخيفة عن احتمالية لقائها معها، بل بات شبه متأكد من حدوث ذلك، فعرض الأزياء وحفلته الصغيرة كانتا في نفس المكان، بدا معتصم كمن رأى شبحًا للتو وهو يتخيل الصدام بينهما، بل ربما وصل إلى أخطر من ذلك بكثير، هو يعلم مسبقًا نوايا آسيا نحوها، و نادية لن تتحمل إساءتها نحوها، فماذا عن تعهداتها بالمعاناة القاسية، شعر بانقباضة قوية في صدره وهو يفكر في الأمر من ذلك المنطلق، لم يرغب في الإفصاح عن شكوكه لوالده، وقرر أن يتصرف بمفرده للتعامل مع تلك الأزمة الخطيرة، حاول أن يبدو عقلانيًا وهو يطمئن والده قائلاً:.
,
, -ماتخافش يا بابا، أنا هاعرف مكانها وأبلغك
, صاح به وحيد منفعلاً وهو يلوح بيده: -ازاي بتقولي مخافش وهي حتى مش عاوزة ترد على الموبايل؟!
, جذبه معتصم بعيدًا عن الحضور كي لا يلفت انتباههم بعد أن ارتفعت نبرة صوته ثم رد معللاً:
, -جايز مش سمعاه
, نظر له والده بضيق وهو يرد مستنكرًا محدودية تفكيره في مسألة حرجة كتلك: -إنت بتضحك على مين يا معتصم؟ ده أنا أبوك مش عيل صغير، مامتك أكيد حصلها حاجة و..
,
, قاطعه قائلاً بجدية: -ان شاء **** خير، أنا هاتصرف يا بابا، خليك بس مع الضيوف وقولهم أي حاجة وأنا هاكون على اتصال معاك
, رد وحيد بامتعاض: -ماشي، أما أشوف!
, استأذن بعدها بالانصراف قاصدًا الاتجاه إلى مكان بعينه؛ منزل آسيا.
, -اعمل اللي قولتلك عليه ومش هاوصيك.
,
, قالها سامر بلهجة آمرة للمتحدث معه في الهاتف المحمول قبل أن ينهي معه تلك المكالمة الغامضة، ثم أشار بيده للنادل الواقف خلف بار المسكرات بذلك الملهى الليلي متابعًا:
, -هات واحد تاني
, رد النادل مبتسمًا: -أوامر سيادتك!
,
, استدار سامر برأسه ليطالع الراقصة التي تتوسط الصالة وهي تتمايل بجسدها بميوعة وليونة ممتعًا عينيه بمفاتن جسدها البارزة خلف بدلتها الفاضحة، لعبت الخمر برأسه وتخيلها آسيا، اعتدل في جلسته وركز بصره أكثر، لعبت الإضاءة الخافتة دورًا في إكمال مشهده التخيلي، شعر بالإثارة والانتشاء متوهمًا نفسه بمفرده معها، هي ترقص له وتغازله بنظراتها الموحية مرسلة له إشارات ذات مغزى ليقترب منها، تحسس صدره راغبًا في تذوق طعم الحب معها، انتزعه من تخيلاته الجامحة صوت النادل القائل بروتينية:.
,
, -اتفضل يا باشا، أي أوامر تانية
, هز رأسه نافيًا ثم لكز جانب رأسه متسائلاً ببلاهة: -شكلي سكرت ولا إيه؟!
, ارتشف جرعة كبيرة من كأسه متابعًا حديث نفسه: -هتجنني يا آسيا!
, استدار نحو الراقصة يتابعها من جديد ثم أكد لنفسه بثقة: -أنا عاوزك وبكرة هتجيلي لحد عندي برجليكي بعد اللي هايتنشر عنك وعني!
,
, لم تكترث بتبعات ما تفعله، فالمهم عندها أن تكون إلى جوار ابنتها ومعها حتى لو كلفها الأمر الكثير، تجاهلت نادية جميع الاتصالات الهاتفية غير عابئة بحالة القلق التي بها عائلتها، فكل شيء يهون في سبيل البقاء مع وحيدتها التي حرمت منها لأعوامٍ، في النهاية قررت إغلاق هاتفها لكي لا تشغل بالها بأي أمور جانبية، واكتفت باختلاس النظرات نحو ابنتها، أوقفت آسيا سيارتها على مقربة من بنايتها ثم ترجلت منها دون أن تنبس بكلمةٍ، تبعتها والدتها في صمت حتى ولجت معها إلى مدخل البناية، استدارت ابنتها نحوها ترمقها بنظرات حادة وهي تسألها بجمودٍ قاسٍ:.
,
, -رايحة فين؟
, أجابتها بترددٍ ملحوظ وهي تزدري ريقها: -جاية معاكي
, زوت ما بين حاجبيها متسائلة بتجهمٍ: -ليه؟
, ردت نادية بجدية طفيفة: -لازم نتكلم شوية يا آسيا
, اعترضت الأخيرة بنبرة شبه متعصبة: -وأنا مش عاوزة أسمعك ولا أعرف حاجة منك
, ردت عليها أمها بإصرار عنيد: -أوكي، بس على الأقل تعرفي الحقيقة وإنتي حرة بعد كده في قرارك، لكن أنا مش هامشي قبل ما تسمعيني للأخر!
, -أها. الحقيقة!
,
, قالتها آسيا وقد تقوس فمها بابتسامة سخيفة متهكمة معبرة عن عدم رضاها بما يحدث، ومع ذلك حثها فضولها على ترك الفرصة لها لتسمع منها أكاذيبها الجديدة، أشاحت بوجهها بعيدًا عنها وأكملت طريقها في اتجاه المصعد، تنفست نادية الصعداء لكونها قد تخلت نسبيًا عن عنادها لتمنحها فرصة للحديث عن أسرار الماضي.
,
, جلست واضعة ساقها فوق الأخرى وهي تطالع والدتها بنظرات جامدة تخفي خلفها الكثير من المشاعر المحتقنة، كتمت في نفسها ألم الجرح الموجود في راحتها، اكتفت بوضع ضمادة طبية دون أن تهتم بتطهير الجرح أو معالجته، لم يشغل حتى بالها وقف النزيف، ولكن لتتجنب فقط توسلات والدتها بالاهتمام به، أرادت نادية أن تسبر أغوار عقل ابنتها لتعرف فيما تفكر، فيما تعتقد، وفيما أملاه عليها والدها الدنيء وزرعه في نفسها من مشاعر غل وحقد نحوها، أحزنها كثيرًا رؤيتها على تلك الحالة الناقمة، حتى في أبسط الأمور لا تكترث بحالها، أي وضع قد آلت إليه بسببه؟ سيطر على ملامحها تعبيرات حزينة آسفة وهي تطالعها مليًا، زفرت آسيا متسائلة بفتور دون أن يرف لها جفن:.
,
, -عاوزة تقولي إيه؟
, ردت نادية بنبرة منكسرة وقد لمعت أعينها بالعبرات: -سامحيني لأني صدقت باباكي في لحظة وإنه راجل محترم هيلتزم بوعده ليا ويرجعك لحضني، سامحيني لأني قصرت في حقك ومدورتش في كل مكان عليكي واستسلمت لما معرفتش طريق ليكي، سامحيني لأني تخليت عنك في أكتر وقت كنتي محتاجاني فيه.
,
, تفاجأت آسيا باعتذاراتها المتلاحقة، بعبراتها التي انسابت من حدقتيها لتمتزج مع نبرتها المخذولة، ركزت أعينها عليها محاولة البحث عن ثغرة تجبرها على تصديق ما ادعاه والدها عليها، تحولت تعبيراتها لعلامات مصدومة مع اقتراب والدتها منها لتقبل رأسها مبدية ندمًا شديدًا عما أجبرت ابنتها على معايشته، لم تستطع تحمل ذلك منها فصاحت في غضب:
, -اللي بتعمليه ده مش هايصلح اللي فات.
,
, ردت بإحباطٍ: -أنا عارفة، ولا هيرجع الزمن لورا
, لم ترغب نادية في تشويه صورة طليقها، لكن على ابنتها أن تعرف الحقيقة أيًا كانت نتائجها، لذا استجمعت جأشها لتكمل بهدوء رغم صعوبة الأمر عليها:
, -بس غصب عني و****، باباكي كان مدمن قمار، اتجوزني بس علشان ياخد فلوسي وميراثي من والدتي **** يرحمها، كان..
,
, توقفت لتبتلع ريقها قبل أن تواصل بأنفاس متهدجة: -كان عامل البيت كازينو صغير لأصحابه، كل يوم سهر وقمار وخمرة وحاجات قذرة، أنا مقدرتش استحمل، وخصوصًا لما خلفتك!
,
, ظلت تعابير آسيا جامدة للغاية، بدت أمامها غير متأثرة بما تسمعه رغم كونها دمائها تغلي بداخل عروقها، فهي إلى حد ما شبه محقة في إدمان والدها للقمار، هو لم يتوقف عن تلك العادة أبدًا، بل إنه مازال يمارسها إلى الآن، أنعش حديثها ذاكرتها فعادت بها إلى الوراء لتتذكر لجوئه في بعض الأحيان للمقامرة عليها هي شخصيًا، كان الأمر في البداية مزاحًا، ومع الوقت تحول إلى أمر جدي مما أجبرها على سداد مديونياته الطائلة لتنأى بنفسها بعيدًا عن أطماع رفقاء السوء الذين لازموه لساعات وسلطوا أعينهم الطامعة عليها بسبب جمالها الطبيعي، كم وضعها في مواقف محرجة أجبرتها على الهروب من المنزل والبقاء في الفنادق كضيفة غريبة لا عائلة لها، اضطرت أن تعمل لساعات في وظائف لم تحبذها منذ البداية لتدفع ثمن إدمانه المريض حتى عرفت الطريق إلى عالم الشهرة والموضة مصادفة، فظنت أن تلك المهنة هي الخلاص لها منه، لكنها كانت البداية فقط لاستنزافها نفسيًا وماديًا وأخلاقيًا، فحينما كانت ترفض الدفع كان يهددها، وعندما ييأس من محاولة إقناعها يلجأ لشماعة إلقاء اللوم على والدتها، وهي كالمغيبة صدقته وحملت أمها كل اللوم والذنب، لم تعبأ بما قيل عنها من شائعات كاذبة، تجاهلت الجميع واكتفت بالنظر للأمر من ناحية أخرى حيث أنه أكسبها المزيد من الشهرة، أخرجها من شرودها البعيد صوت نادية القائل:.
,
, -مكونتش عاوزاكي تتربي في الجو ده، اتفقت أنا و شرف الدين على الطلاق بعد ما ساومني على مبلغ كبير علشان يتنازل عن حضانتك ليا، وإنتي كنتي كل اللي يهمني، فمفرقش معايا أي فلوس، ووافقت على كل طلباته، وإديته كل اللي طلبه وزيادة كمان.
,
, صدمت آسيا مما عرفته، لكنها احتفظت بذلك القناع الجامد المرسوم على تعابيرها، لن تمنحها الفرصة للإشفاق عليها، لن يشفع لها حديثها النادم، ستستمر في معاملتها بقسوة، مسحت نادية بقايا عبراتها بأطراف أناملها ثم استأنفت حديثها قائلة:.
,
, -جدك **** يرحمه كان مستعد يدفع مال قارون عشان نخلص أنا وإنتي منه، بس للأسف شرف الدين خدعنا كلنا، بعد ما خد الفلوس واتفق معانا على ميعاد نتقابل فيه كان هو سافر بيكي برا، قلبت الدنيا عليكي وحاول جدك بعلاقاته يوصل لأي خيط يدلنا عليكي بس السكك كلها اتقفلت في وشنا، وحتى لما اتجوزت عمك وحيد، مابطلش يدور معايا عليكي لحد ما يأسنا من إننا نلاقيكي!
,
, نهضت آسيا من على الأريكة لتقف قبالتها وهي تسألها بغموض مريب: -خلصتي اللي عندك؟ في حاجة زيادة؟
, استشعرت نادية احتمالية تكذيبها لما سردته عليها، فاسترقت قلبها قائلة بحنو وبنبرة تلين القلوب المتحجرة:
, -يا بنتي صدقيني، ده اللي حصل و****، وأنا مستعدية أجيبلك وحيد ي..
, قاطعتها آسيا بشراسة وقد قست نظراتها نحوها: -إنتي مش عشتي حياتك واتجوزتي، جاية عاوزة مني إيه؟ إنسيني زي زمان وابعدي عني.
,
, اعتصر قلب والدتها ألمًا من رفضها تصديق الحقيقة، وضعت يدها على كتفها لتضغط عليه برفق وهي تقول بنبرة منكسرة:
, -أنا عمري ما نسيتك أبدًا، و**** ما غبتي عن بالي للحظة!
, في تلك اللحظة انتبهت كلتاهما لصوت الدقات العنيفة على الباب، تساءلت نادية بفزعٍ:
, -ده مين ده؟
, لم تكن الاثنتان بحاجة لتخمين هوية الطارق فصوته كان كفيلاً بالإشارة إلى شخصه المتعصب خاصة حينما هدر مهددًا:.
,
, -أنا عارف إنك جوا معاها، افتحي يا آسيا وإلا هاكسر الباب، مش هاسيبك النهاردة!
, شحب لون وجه نادية كثيرًا مع معرفتها بوجود معتصم بالخارج، وما زاد من هلعها هو تهديده العدائي لابنتها، ربما أساء فهم الموقف ولهذا يتصرف بتلك الشراسة بدافع حمايته لها، راقبت آسيا ردة فعل والدتها بسخط، ثم أشارت بيدها قائلة في سخرية:
, -أهوو البيه ابنك شرف!
,
, توقعت نادية حدوث صدام عنيف بينهما، وكان عليها التصرف فورًا للململة الأمور قبل أن تتفاقم دون داعٍ، لذلك هرولت دون تأخير ناحية الباب لتفتحه فتفاجأ معتصم بوجودها أمامه، اتسعت حدقتاه على الأخير قائلاً بنبرة مصدومة:
, -ماما
, ابتسمت له كمحاولة يائسة منها لطمأنته، اندفع نحوها محتضنًا وجهها بين راحتيه وهو يسألها بتلهفٍ:
, -إنتي كويسة؟ حد اتعرضلك، في..
,
, قاطعته قائلة بلطفٍ وهي تومئ برأسها مؤكدة: -اطمن يا حبيبي، أنا بخير، مافيش أي حاجة
, رفع معتصم رأسه ليحدق في وجه آسيا التي كانت تقف في الخلفية، ارتفع الأدرينالين المتحفز في دمائه سريعًا، اقتحم المنزل متجهًا بعصبيته الجلية نحوها مهددًا إياها بسبابته:
, -قسمًا ب**** لو كنتي أذيتيها مكونتش هارحمك
, ردت عليه نادية بنبرتها الخائفة: -قسمًا ب**** ما حصل حاجة يا معتصم، احنا كنا بنتكلم وأنا اللي جيت معاها بنفسي!
,
, تطلع إلى أعينها ليتأكد من صدق ما قالته، لم تكن بحاجة للكذب فقد كانت نظراتها مقروءة له، ابتسم لكونها بخير وأومأ برأسه متفهمًا ما فعلته من أجل رؤية ابنتها بغض النظر عن كونها لا تستحق ذلك الاهتمام والحنان الزائد منها، تابعتهما آسيا بنظرات غاضبة مغلولة، وقد تأكدت من داخلها أنها لم تنل سوى التعاسة والشقاء، كظمت غيظها في نفسها، ثم صاحت بصرامة وهي تشير بيدها:
, -خد نادية هانم واطلعوا برا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٥




حلت الدهشة المصحوبة بالصدمة على تعابير وجهي كليهما، تبادلا الاثنان نظرات مذهولة عقب جملة آسيا الأخيرة والتي لم تكن تعني سوى الطرد الصريح دون أي تجميل أو تلطيف، فغرت نادية شفتيها في استياء حزين، وسلطت أعينها المليئة بعبرات الحسرة على وجهها القاسي، بينما احتقن وجه معتصم بدمائه الغاضبة ونظر بغل إليها، فهي لم تكن إلا إنسانة جاحدة بلا مشاعر مطلقًا تجربك على كرهها أضعافًا مضاعفة، التفت برأسه نحو نادية مشفقًا على حالها البائس، شعر بالعجز لكونه يقف بينها وبين ابنتها، تمالك أعصابه قبل أن تنفلت دفاعًا عن كرامتها المهدورة على يديها، ثم استدار نحو ابنتها قائلاً بجمود ومعاتبًا زوجة والده في نفس الوقت:.
,
, -مش دي اللي تستاهل تكون بنتك، يالا يا ماما من هنا!
,
, أشارت له بنظرات متوسلة من بين عبراتها الحبيسة بأن يتوقف عن قول ذلك الحديث الموجع فهو لن يزيد إلا الطين بلة، لكنه قاوم ضعفه أمامها، ولف ذراعه حول كتفيها ليجبرها على التحرك مع خطواته، ظلت تقاومه رافضة الابتعاد، انتبهت آسيا إلى رنين هاتفها فركزت بصرها على شاشته لتجد اسم والدها يعلوه، أظلمت أعينها غضبًا منه، فهو الضلع الآخر المتسبب في خوضها لتلك المواجهات العدائية وزرع الكراهية الشديدة بداخلها، انحنت لتلتقطه ثم صاحت قائلة بنفس النبرة الخالية من الحياة متعمدة تجاهل حضورهما:.
,
, -اقفلوا الباب وراكوا
, لم تنتظر لترى إن كانا سيبقيان أم لا، بل أولتهما ظهرها قاصدة تجاهلهما بوقاحة منقطعة النظير، اتجهت نحو الداخل لتجيب على اتصال أبيها لتفرغ فيه هو الآخر شحنة غضبها المتقدة بداخلها، كان معتصم على وشك الاندفاع نحوها والتشاجر معها من جديد، لكن أمسكت به نادية من ذراعه تتوسله وهي شبه متعلقة فيه:
, -سبيها يا معتصم.
,
, رد عليها بغضب مكتوم من بين أسنانه المضغوطة بقوةٍ: -إنتي مش شايفة بتعاملك إزاي يا ماما؟ اللي زي دي..
, قاطعته برجاءٍ أكبر وقد انسابت عبراتها المنكسرة: -عشان خاطري أنا، من فضلك يا ابني
, أجبرته نظراتها المحطمة على كتم ما يشعر به بداخله والسيطرة عن نوبة الهياج الوشيكة، زفر بإحباط جلي على قسمات وجهه المشدودة كاظمًا في نفسه ما يعتريه من دوافع تحفزه على الرد بشراسة على تلك القاسية الجاحدة.
,
, على الجانب الآخر، ولجت آسيا إلى داخل غرفتها واضعة الهاتف على أذنها لا تنتوي أي خير، كانت في حالة انفعال واضحة، عكست تعبيرات وجهها المحتقنة ذلك، ردت متسائلة بنبرة هجومية غير طبيعية وهي تدور حول نفسها بالغرفة:
, -بتتصل ليه دلوقتي؟
, تعجب والدها من ردها الوقح الذي لم يكن يتوقعه على الإطلاق متسائلاً باندهاش كبير:
, - آسيا، واخدة بالك إنتي بتتكلمي مع مين؟
,
, اعتقد لوهلة أنها ربما تخاطب أحد مصممي الأزياء ممن تتعاقد مع وكلائهم لأداء العروض الترويجية لتصاميمهم الفريدة، فعبر عما يفكر فيه مفسرًا بهدوء:
, -حبيبتي أنا مش حد من الديزاينر، أنا باباكي
, التوى ثغرها قائلة بتهكم وبنبرة أكثر تحفزًا: -أنا عارفة كويس إنت مين!
, خرج صوته شبه حاد وهو يقول: -إيه الطريقة دي يا آسيا؟
, صرخت فيه بهياج وهي تدس يدها في خصلات شعرها: -عاوز إيه مني تاني؟
,
, أجابها بحذرٍ: -واضح إنك مش في المود، عمومًا هابقى أكلمك وقت تاني تخلصيلي دين كده عليا كان ل..
, استاءت من تكرار تلك المسألة المقيتة على مسامعها في كل اتصال له بها، لم يكن ليهاتفها من أجل الاطمئنان على أحوالها، ولكن ليطلب منها سداد مديونياته اللا متناهية، خرجت عن آخر ذرة تعقل صارخة فيه بنبرة عالية:
, -إيه، إنت مابتزهقش من القمار والديون؟!
, -نعم.
,
, استأنفت صياحها الهائج قائلة: -أنا قرفت من كل حاجة بتعملها، خلتني أكره نفسي وأكره حياتي وأكره كل حاجة في دنيتي
, رد عليها شرف الدين بحدةٍ: -مش ذنبي إن أمك عملت فينا كده و..
, ملت من استخدامه لتلك الحجة التي يلجأ لها دومًا لتحميلها الذنب متناسيًا أنه سببًا رئيسيًا فيما مرت به من ظروف وحدة وقسوة وأمور أخرى لا تريد التفكير فيها أو حتى تذكرها، قاطعته بانفعال مبررٍ:.
,
, -بطل الشماعة دي، أنا زهقت منها وبقيت بأكرهك إنت كمان
, سألها باستغرابٍ: - آسيا، في إيه حصل غيرك كده عليا؟
, أبعدت الهاتف عن أذنها لتحدق أمامها بنظرات شبه زائغة وهي تذرع غرفتها جيئة وذهابًا، بدا صوتها مريبًا عندما صاحت بلا وعي:
, -يا ريتني أموت وأرتاح من كل القرف ده.
,
, انتاب والدها القلق من تلك الطريقة المزعجة في تعاملها معه، هو اعتاد منها على الجفاء والبرود، لكن أن تكون بكل هذه العصبية فهو ما وتره كثيرًا، سألها بتلهفٍ:
, - آسيا، مالك؟
, ألقت الهاتف على الأرضية بعدم مبالاة وهي تتجه صوب المرحاض محدثة نفسها: -أنا تعبت من كل حاجة!
, صاح والدها بنبرة كانت إلى حد ما شبه مسموعة: -ألوو، آسيا سمعاني!
,
, كانت في حالة شبه مغيبة، تحركها ساقيها لا إراديًا نحو المرحاض، سيطر على تفكيرها أفكارًا سوداوية، شعرت بالنفور من كل ما يحيط بها، بشيء يحثها على الخلاص مما تعانيه، وقفت أمام الحوض تتأمل المرآة التي تعلوه بنظرات مخيفة، أزاحت طرفها بأصابع ترتعش قليلاً ليظهر من خلفها خزانة طبية مخفية، تجمدت نظراتها على محتوياتها لثوانٍ معدودة، ثم إذ فجأة سحبت أول ما وقعت عليه أعينها من علبة للأقراص، لم تعبأ بمعرفة ماهية الدواء، فقط قبضت عليه بقوة منتزعة غطائه البلاستيكي، ثم أفرغت ما فيه بالكامل في راحة يدها لتبتلع في جوفها الكمية كلها دفعة واحدة، أغلقت بعد ذلك المرآة بانفعال مدققة النظر في تعابيرها المحتدة، رأت في انعكاس صورتها خيالاتٍ لأغلب الرجال الذين حاولوا التودد إليها بكافة الوسائل، وخاصة غير المشروع والمتجاوز منها، اشمئزت من نفسها، ومن الأخبار المغلوطة التي حاوطتها ونهشت من سمعتها، من كل ما جعلها تبدو في أعين الذكور (ساقطة)، زاد إحساسها بالاحتقار والدونية، هي لا تستحق أن تمر بكل ذلك لكونها تجاهلت تلك الأخبار منذ البداية مانحة الفرصة لأصحاب الأطماع بالتلاعب بحياتها وتقرير أي اتجاه يمكن أن تسلكه نيابةً عنها، والأفظع من ذلك الحكم المطلق عليها بأنها عابثة رخيصة متاحة لمن يدفع ثمنها.
,
, كانت تحاول استغلال كل الفرص المتاحة لتبقيه قدر الإمكان في المنزل، لم تستطع مقاومة إحساس الأمومة الذي يحثها على عدم ترك ابنتها دون تفقد حالها ولو لمرة أخيرة، اعترضت نادية طريق معتصم رافضة الذهاب، كفكفت عبراتها قائلة بصوتها المنتحب:
, -خلينا هنا شوية
, رد عليها محتجًا بضيق كبير: -يا ماما دي طردتنا، هنستنى إيه بعد كده؟ من فضلك خلينا نمشي بقى، بابا كمان قلقان عليكي.
,
, ترقرقت العبرات من جديد في حدقتيها، شعرت بغصة مريرة تضرب حلقها وهي تقف عاجزة عن فعل ما تتمنى، رأى معتصم تأثير ما قاله على تعبيراتها المقهورة، عاتب نفسه لقسوته مع طيبتها وحنانها الكبير، تنهد مضيفًا بصوت مسموع وآملاً أن يتمكن من إقناعها:
, -أنا فاهم ومقدر مشاعرك ناحيتها.
,
, وضع يده على كتفها رابتًا عليه برفق وهو يكمل بهدوءٍ حذر: -بس صدقيني يا ماما كل اللي بتعمليه معاها مالوش أي فايدة، خلينا نمشي دلوقتي وبعد كده..
, قاطعته بعنادٍ وهي تهز رأسها معترضة: -لأ يا معتصم، دي بنتي زي ما إنت ابني، صعب أسيبها وهي كده
, ثم تحولت تعبيراتها للاندهاش المصدوم حينما رأت ابنتها بذلك الوجه الشاحب مقبلة عليها، تمتمت عفويًا وقد شخصت أبصارها:
, - آسيا.
,
, التفت معتصم برأسه نحوها يرمقها بنظراته الكارهة لها، أخرج زفيرًا حانقًا من جوفه وهو يكور قبضة يده محاولاً إجبار نفسه على طاعته، تساءلت آسيا بنبرة متهكمة وهي تبتسم بطريقة مريبة:
, -إنتو لسه هنا؟
, أجابها معتصم بشراسة تلوح في الأفق: -يالا بينا يا ماما
, واصلت آسيا اقترابها منه متابعة حديثها بنفس النبرة الغريبة: -مش فارقة قعدتوا ولا مشيتوا.
,
, انتصبت أكثر في وقفتها المتباهية بينما ظلت أنظاره الحانقة مسلطة عليها للحظات قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنها قائلاً بامتعاض:
, -بيتهيألي كده اطمنا على ال، الهانم المحتر..
, بتر كلمته الأخيرة قاصدًا وهو يعاود التحديق في وجه آسيا ليراقب ردة فعلها مع إهانته الضمنية لشخصها، لكن على عكس ما كان يُمني نفسه بإظهار نفوره منها وجدها تقول بفتور:
, -خلاص كلكم هترتاحوا.
,
, انقبض قلب نادية بقوة عقب جملتها تلك، ابتلعت مرارة العلقم المنتشرة في جوفها وهي تسألها مستفهمة:
, -قصدك إيه؟
, وضعت آسيا يدها على كتف معتصم الذي تفاجأ بحركتها الجريئة تلك، دنت برأسها منه، ثم همست له بنبرة ذات مغزى:
, -وخصوصًا إنت.
,
, قطب جبينه وانعقد ما بين حاجبيه بقوة حينما رفعت آسيا يدها القابضة على علبة الدواء أمام وجهه، ارتفع حاجبه للأعلى كتعبير عن حيرته في فهم المغزى من وراء ذلك، جمدت آسيا أنظارها على عينيه المشتعلتين قائلة ببرود:
, -باي باي!
, ثم أرخت أصابعها عن العلبة وهي تضحك بطريقة هيسترية لتضاعف من حالة الترقب المنعكسة على وجهه، تراجعت خطوة للخلف لتبدو كعاقري الخمر في سيرها الغير متزن، تساءلت نادية بفزع وهي تهرع نحوها:.
,
, -عملتي إيه يا آسيا؟
, التفتت الأخيرة نحوها لتجيبها من بين ضحكاتها غير الواعية: -اللي كلكم عاوزينه
, انحنى معتصم ليلتقط علبة الدواء التي أسقطتها ليفحصها ويحاول تفسير كلماتها الغامضة، استندت آسيا بكفيها على كتفي أمها متابعة باقي حديثها:
, -ارجعي لحياتك يا نادية هانم
, اعتصر قلبها خوفًا من طريقتها التي أفزعتها كثيرًا، استشعرت وجود كارثة ما ورائها، ازدردت ريقها تسألها بتلهفٍ:
, - آسيا، إنتي بتقولي إيه؟ أنا..
,
, لم تكمل جملتها بسبب تثاقل جسد ابنتها وتراخيه فأسرعت بضمها إليها قبل أن تسقط على الأرضية صارخة بهلع:
, - معتصم، الحقني!
, تحرك الأخير بخطوات متعجلة نحو نادية ليتمكن من إسناد ابنتها، كانت فاقدة كليًا للوعي، وبشرتها شاحبة بدرجة مقلقة، تأمل تعبيراتها بدقة متأكدًا من شكوكه، ثم انحنى قليلاً ليحملها بين ذراعيه، توجه بها إلى أقرب أريكة ثم وضعها عليها برفق بينما تبعته والدتها المكلومة وهي تتساءل بخوفٍ:.
,
, -مالها؟ حصل لبنتي إيه يا معتصم؟
, كان يعرف الرد مسبقًا، فقد بات كل شيء مفهومًا الآن، استدار برأسه نحوها نصف استدارة ليجيبها:
, - آسيا انتحرت..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٦

خرجت تلك الكلمات الصادمة من جوف معتصم لتنزل كالصاعقة على رأس والدتها التي تسمرت للحظات في مكانها غير مصدقة ما تلفظ به، أيعقل أن فعلت ابنتها ذلك في لحظة طيش متهورة؟ أفاقت نادية من صدمتها لتنظر بهلع إلى فلذة كبدها، ثم هرولت جاثية على ركبتيها أمام جسدها المسجى على الأريكة صارخة بها:
, -عملتي كده ليه يا بنتي؟
,
, مدت كفيها لتمسك بقبضتها تضمها بين راحتيها وهي تبكي بحرقة على ما اقترفت، رفعت رأسها الباكي إلى معتصم تستغيث به:
, -الحقني يا ابني، اتصرف وإنقذها قبل ما تضيع مني.
,
, كان أمامه خيارين؛ الأول أن يهاتف الإسعاف وينتظر قدوم العربة والتي من المحتمل أن تأتي متأخرة، أو أن يحملها بنفسه ويقلها بسيارته إلى أقرب مشفى، بالطبع لم يكن بحاجة للتفكير مطولاً، حسم أمره واقترب من نادية، وبحركة رقيقة على كتفها أجبرها على الابتعاد عن طريقه ليتمكن من الانحناء وحمل آسيا بين ذراعيه، أسرع في خطاه بها متجهًا نحو الخارج تتبعه والدتها ليصل بعد دقائق معدودة إلى سيارته، أسندها بحذر على المقعد الخلفي، وجلست نادية إلى جوارها واضعة رأسها على صدرها وتضمها بذراعيها وكأنها تخشى فقدانها، هتفت فيه بصوتها المنتحب:.
,
, -بسرعة يا ابني، اطلع على أي مستشفى!
, أومأ برأسه قائلاً بهدوءٍ مريب وهو يلقي بجسده على مقعد قائد السيارة: -حاضر.
,
, ثم أدار المحرك واستدار برأسه ليتحرك بالسيارة في الاتجاه العكسي متجهًا إلى المشفى، كان ممتنًا في نفسه هدوء حركة السير في تلك الأثناء مما سهل كثيرًا عليه وصوله إلى وجهته في وقت أقل ليسهم ذلك في زيادة فرص إنقاذها، لكن ما لم يتوقف عن التفكير فيه هو البحث عن إجابة وافية للسؤال الذي يلح عليه عقله به، لماذا لجأت إلى فعل ذلك؟
,
, لاحقًا، ناول وحيد زوجته كوبًا بلاستيكيًا مليئًا بالمياه الباردة لتبلل به حلقها الجاف، ففور أن علم بالكارثة التي حدثت حتى أتى هو الآخر إلى المشفى ليكون إلى جوارها في مثل تلك الظروف، نظرت له نادية بأعينها الدامعة تحدثه بهمس منكسر:
, - آسيا موتت نفسها يا وحيد
, رد عليها بنبرة عقلانية محاولاً طمأنتها: -إن شاء **** الدكاترة يساعدوها وهاتبقى كويسة.
,
, سألته بحسرةٍ لم تخفها نظراتها إليه: -طب عملت كده ليه؟ نفسي أفهم
, كفكفت عبراتها المنهمرة على وجنتيها مكملة حديثها: -أنا مكونتش عاوزة منها حاجة غير إنها تسمعني وتبقى كويسة
, رد عليها وحيد مبررًا تصرفها المتهور: -ساعات بيجي على الإنسان لحظات ضعف، مابيبقاش في وعيه ولا عارف بيفكر إزاي، بيستسلم للأفكار السودة اللي في دماغه وبتخليه يعمل حاجات تأذيه
, سألته بحزنٍ أكبر: -طب ليه؟
,
, لم يجد في جعبته الرد الشافي لها، عجز عن إراحتها فتنهد قائلاً: -السؤال ده آسيا وحدها اللي تقدر تجاوبلك عليه
, مسحت بأناملها دمعاتها هامسة برجاءٍ: -يا رب طمني عليها
, لف وحيد ذراعه حول كتفي زوجته قائلاً: -إن شاء **** هاتبقى بخير، اهدي بس إنتي يا حبيبتي!
,
, على الجانب الآخر، وقف معتصم منزويًا في أحد الأركان مستندًا بظهره على الحائط ومراقبًا حركة الممرضين والأطباء بنظرات شاردة، أخرج زفيرًا ثقيلاً من رئتيه وهو يتذكر كيف وقع الاختيار على المشفى الذي يعمل به رفيقه ليلجأ إليه، فهو يعلم جيدًا أن محاولات الانتحار ستتطلب تحقيقات رسمية وبعض الإجراءات القانونية، وإن وصل الأمر إلى الصحافة أو تسرب الخبر إلى المواقع الإلكترونية لن يسلم هو وعائلته من فضائح آسيا، وهي لن تكترث بتبعات ما تفعله، لذا وجودها هنا سيكون الحل المؤقت ريثما يرتب أفكاره، ظل باله مشغولاً لبعض الوقت يفكر في طريقة يستدرجها بها نحو مخطط يحجم به هجومها الشرس، بدأت ملامح الخطة تتشكل في عقله، وضع البدايات التي سيتبعها لكن انتزعه من تفكيره المتعمق خروج صديقه مصطفى من الداخل فاعتدل في وقفته، ثم اقترب منه مشيرًا له بعينيه ليتحرك كلاهما نحو الجانب، استطرد متسائلاً بجمود:.
,
, -إيه الأخبار؟
, أجابه الأخير مبتسمًا بروتينية: -الحمد**** لحقناها وعملنا غسيل معدة ليها، وشوية وهاتفوق، هي خلاص اتنقلت لأوضة عادية
, هز رأسه بإيماءة متفهمة وهو يرد باقتضاب: -تمام
, سأله مصطفى بفضول وهو مركز بصره عليه: -بس مش هي دي البنت إياها؟
, تصلبت تعابير معتصم قائلاً بتحذير: - مصطفى، مافيش داعي تحكي عن أي حاجة حصلت قبل كده، وبعدين أنا جايبها هنا علشان نلم الدور مايكونش في سين ولا جيم.
,
, هز رفيقه رأسه متفهمًا: -اطمن يا صاحبي
, تابع تحذيراته قائلاً بجدية شديدة: -ومش هاوصيك، مش عاوز ماما تعرف بأي حاجة، صحتها زي ما إنت فاهم
, ابتسم له مصطفى هاتفًا: -حاضر
, -ويا ريت تقولهم إنها هاتفوق على بكرة
, عقد مصطفى ما بين حاجبيه متسائلاً باستغراب: -طب ليه؟
, تحولت نظراته لشيء من الإظلام قبل أن يجيبه بغموض: -محتاج أتكلم معاها الأول قبل ماما ما تشوفها
, حرك رأسه بالإيجاب متسائلاً: -ماشي، ها في أي أوامر تانية؟
,
, وضع يده على كتفه مرددًا بامتنان: -لأ شكرًا يا مصطفى، أنا مش عارف أقولك إيه
, رد عليه مبتسمًا: -ولا حاجة يا سيدي، احنا إخوات، بس عد الجمايل
, تصنع الابتسام وهو يقول: -ماشي
, ثم اتجه كلاهما إلى حيث يجلس والده و نادية، وما إن رأت مصطفى مقبلاً عليها حتى هبت واقفة من مكانها، شعرت بالأدرينالين يتدفق في عروقها، باضطراب دقات قلبها، سألته بتلهفٍ وقد توترت نظراتها:
, -خير يا ابني؟ من فضلك طمني! بنتي كويسة؟
,
, سأله وحيد هو الآخر بجدية: -أخبارها إيه يا دكتور؟
, رد عليهما معتصم بابتسامة سخيفة زائفة: -د. مصطفى طمني وقال هاتبقى كويسة، فمتقلقوش
, سلطت نادية أعينها اللامعة على وجه مصطفى لتسأله بعدم تصديق: -بجد؟ يعني هي فاقت؟ اتكلمت معاها؟ أرجوك طمني!
, أجابها الأخير بصوته الهادئ: -لسه مفاقتش، بس إن شاء **** هاتبقى أحسن
, تنفست الصعداء بعد جملته التي أثلجت صدرها، بينما تابع مصطفى حديثه الجاد محذرًا:.
,
, -ونصيحتي إنها تتعرض على دكتور نفسي يشوف هي عملت كده ليه
, رد عليه معتصم بامتعاض ملحوظ: -هانشوف ده بعدين
, التفت مصطفى نحوه قائلاً بجدية: -الموضوع مهم، لأن جايز تكرر ده تاني، ماتستبعدش ده!
, انزعج معتصم من جملته الأخيرة فلم يكن الاتفاق معه يتضمن البوح بذلك الأمر الذي تفاجئ به، ضبط انفعالاته المتغيرة قائلاً بجدية:
, -حاضر.
,
, هتفت نادية بصوتٍ أقرب للبكاء وهي تضع يدها المرتجفة قليلاً على ذراع مصطفى: -من فضلك يا دكتور خليني أدخل أشوفها
, تبادل سريعًا نظرات شبه حائرة مع معتصم فقد بدا في موقف حرج، كانت نظرات الأخير صارمة للغاية رغم صمته، ثم رد بهدوء محاولاً إخفاء ارتباكه الطفيف:
, -مش هاينفع دلوقتي، على بكرة الصبح هاتكون فاقت وبقت أحسن
, انقبض قلبها فصاحت بلا وعي: -ده معناه إنها تعبانة و..
,
, قاطعها مصطفى محاولاً تهدئتها: -لأ مش كده، بس جسمها محتاج يرتاح، ده غير كمان إن حضرتك شكلك مرهق ومحتاجة ترتاحي زيها، صح ولا غلطان
, دعمه وحيد قائلاً: -الدكتور عنده حق يا نادية، تعالي نروح بيتنا دلوقتي، وبكرة من بدري هانكون عندها
, هزت رأسها رافضة: -مش هاقدر أسيبها
, تنفس معتصم بعمق قبل أن يقول بتريث محاولاً إقناعها: -يا ماما، الأعدة هنا مالهاش أي لازمة دلوقتي
, بدت على وشك البكاء وهي تقول: -بس يا ابني..
,
, قاطعها بنفس الهدوء العقلاني ممتصًا حزنها: -من فضلك يا ماما، د. مصطفى هايفضل معاها وهيبلغنا بأي جديد يحصل، علشان خاطري أنا، خلينا نمشي ووعد هاجيبك من بدري
, أضاف وحيد بابتسامة باهتة: - معتصم عنده حق، احنا بنضيع وقتنا على الفاضي، ده غير مواعيد الدواء بتاعتك، إنتي مخدتيش حاجة من بدري
, استسلمت أمام إلحاحهما قائلة بإحباط انعكس على تعبيراتها الحزينة: -طيب.
,
, اقترب معتصم من والده ثم مال عليه هامسًا: -اسبقني يا بابا على البيت، أنا شوية وهاحصلكم
, التفت وحيد ناحيته متسائلاً بصوت خفيض: -وراك حاجة؟
, أجابه باقتضاب: -يعني
, -ماشي يا معتصم، بينا يا نادية
, وجهت الأخيرة حديثها للطبيب قائلة: -مش هاوصيك يا د. مصطفى على آسيا
, ابتسم قائلاً بلطف: -اطمني، مش محتاجة وصاية.
,
, ودعته نادية وهي تملي عليه المزيد من وصايا الأمهات العشر وكأنها سترحل عنها لأيام وليس لساعات محدودة، ظل وحيد محاوطًا إياها من كتفيها حتى انصرف معها من المكان، بينما راقب معتصم ابتعادهما على أحر من الجمر ليشرع في الاتجاه نحو غرف المرضى الموجودة بالطابق العلوي، كانت وجهته محددة؛ غرفة آسيا.
,
, أصدرت أنينًا خافتًا وهي تقلب رأسها على الوسادة، فتحت آسيا جفنيها بتثاقل محاولة معرفة أين هي، شعرت بصداع عنيف يجتاح رأسها، تأوهت بصوت خفيض وهي تحرك يدها لتضعها على جبينها، شعرت كذلك بتلك الوخزة في ظهر كفها، ضيقت نظراتها لترى ما الذي يؤلمها فوجدت إبرة طبية مغروزة فيه، تساءلت مع نفسها بحيرة:
, -أنا فين؟
, ردت عليها الممرضة وهي تعيد ضبط الوسادة من خلفها: -حمدلله على السلامة، حاسة بإيه دلوقتي.
,
, ركزت آسيا نظرها المشوش عليها، تأملت ملامحها بإرهاق، ثم سألتها بنبرة واهنة: -إنتي مين؟
, رسمت الممرضة ابتسامة ودودة على ثغرها وهي تجيبها: -أنا ممرضة شغالة هنا في المستشفى
, ثم تفقدتها سريعًا قبل أن تكمل بنفس اللطافة: -لو عوزتي حاجة من فضلك دوسي على الزرار ده، وثواني وهاكون عندك، ومرة تانية حمدلله على سلامتك.
,
, انصرفت الممرضة تاركة آسيا بمفردها والتي بدأت في استيعاب الأمر، فقد باءت مسألة انتحارها بالفشل، وما زاد الطين بلة هو نجاتها منها، لكن من الذي ساعدها لتنجو؟ لم تكن بحاجة للتخمين، بالطبع معتصم كان متواجدًا بمنزلها، ناهيك عن والدتها، إذًا فكلاهما كانا شاهدين على لحظة انهيارها، غمغمت بكلمات خافتة تحمل اللعنات، تخشب جسدها كليًا على إثر الصوت المتسائل:
, -مبسوطة دلوقتي؟
,
, جمدت آسيا أنظارها على معتصم الذي سد بجسده الباب قبل أن يلج للداخل ويغلقه من خلفه، تسارعت دقات قلبها من التوتر، ثم صاحت مستنكرة اقتحامه للغرفة:
, -إنت مين سمحلك تدخل هنا؟
, اعتدلت في نومتها بطريقة فجائية مما أرهق جسدها، لم تكترث لذلك، وواصلت هتافها الآمر:
, -اتفضل برا.
,
, اتجه معتصم إلى أقرب مقعد ثم سحبه سائرًا بخطوات هادئة نحو الفراش، لم يعبأ بصياحها ولا صرخاتها التي تطالب بخروجه، بل بكل وداعة جلس عليه، أوشك بركان غضب آسيا على الانفجار فيه، لكنه نطق ببرود جليدي آمرًا إياه:
, -اسكتي خالص، واسمعيني للآخر، لأن الكلام الجاي هايكون في مصلحتك قبل مصلحتي
, ردت بتهكم وهي تنظر له بازدراء: -مصلحة معاك إنت؟!
, تحدث من زاوية فمه قائلاً بسخرية: -ماتستقليش بيا!
,
, تشنجت نبرتها وهي ترد: -مش عاوزة اسمع حاجة
, ثم أشارت له بيدها: -اتفضل من هنا، برا
, رد ببرود واضعًا ساقه فوق الأخرى: -أولاً ده مش بيتك علشان تطرديني منه، أنا اللي جبتك هنا، ولولايا كان زمانك مع الأموات
, صاحت بغيظ وقد اشتعلت نظراتها: -هايبقوا أرحم منك، برا
, أنزل ساقه ثم انحنى للأمام بجسده قائلاً بنبرة مليئة بالقسوة وقد تركزت أعينه عليها:
, -صدقيني يا آسيا، محدش في الدنيا دي يفرق معاه تعيشي ولا تموتي غير بس أمك.
,
, بادلته نظرات حانقة كارهة لوجوده وهي ترد بحدةٍ: -بناقص منها
, أرجع ظهره للخلف متابعًا بفتور وكأن احتراقها لا يعنيه: -لو كان عليا كنت أجبرتها تنساكي، وتمحي أي صلة بيكي بس للأسف هي أمك، هتتقهر عليكي، وصعب أعمل في الست اللي ربتني كده
, رمقته بنظرات احتقارية قبل أن تنطق بعبوس ساخط: -كفاية عليها إنت تداوي جرحها.
,
, بدت كأنها تسخر منه بكلماتها، فابتسم متعمدًا إغاظتها ثم رد بهدوء: -عندك حق، بس قلبها ضعيف ناحيتك، هانقول إيه بس!
, حدجته بنظرات نارية تحمل الكره، بينما رفع معتصم يده ليمرره على خصلات شعره وهو يتابع:
, -شوفي يا ملكة الفضايح
, اغتاظت من ذلك اللقب المهين واستعرت من داخلها، كزت على أسنانها صائحة بانفعال: -إنت..
, قاطعها مشيرًا بإصبعه: -إيه مش عاجبك الكلام؟ ده إنتي بتحبي الجو ده موت!
,
, نفثت زفيرًا مليئًا بالحنق من صدرها فاستأنف حديثه بنفس القسوة: -وبصراحة أنا معنديش مانع خالص، بالعكس هازودلك جرعة الفضايح وأبسطك
, فغرت شفتيها مشدوهة من ذلك الأسلوب المختلف الذي يتعامل به معها، وقبل أن تترجم ما يرمي إليه أضاف مهددًا:
, -بس الفرق مش هاخليكي تشتغلي بعد كده نهائي، هاقضي عليكي وأمحيكي من على وش الأرض
, انتصبت في جلستها صارخة بتحدٍ: -ولا تقدر
, لم يرف له جفن وهو يقول: -إنتي لحد دلوقتي مجربتنيش.
,
, ردت عليه بتهديد صريح: -ولا إنت تعرفني، أنا معنديش اللي أخسره
, ضحك ساخرًا من طريقتها ليزيد من استفزازه لها ثم ادعى صعوبة السيطرة على ضحكاته قائلاً:
, -بلاش جو التحديات ده، لأنك هتخسري معايا
, اغتاظت من استخافه بها وصرخت فيه: -مش هايحصل
, تنحنح معتصم بخشونة قبل أن يجلس باسترخاء أكبر على المقعد، شبك أصابعه معًا ثم استطرد قائلاً بهدوء أشد رزانة:.
,
, -طيب نتكلم بأسلوب تاني، أو باللغة اللي تفهميها، أنا هادفع تمنك يا آسيا هانم
, رفعت حاجبها للأعلى هاتفة باستنكار كبير: -نعم؟!
, بدت نظراته قاسية للغاية، خالية من أي وميض للحب أو العاطفة، استمر في تحديقه بها متحدثًا من زاوية فمه:
, -ماتبصليش كده، يعني هأجرك، اتفاق هنعمله زي أي اتفاق بين طرفين
, كتفت ساعديها معًا لتسأله بنبرة ساخرة: -وده بمناسبة إيه؟ هاتعمل شو وناقصك موديل؟!
,
, هز رأسه نافيًا: -لأ، الحاجات دي ماتهمنيش، اتفاقي يخص إنسانة واحدة بس
, مطت فمها قائلة: - نادية هانم، صح؟
, رد عليها مادحًا: -مظبوط، بيعجبني ذكائك السريع مع إن..
, بتر عبارته عمدًا ليضمن حوزته كليًا على انتباهها ثم أكمل قائلاً: -اللي يشوفك بمنظرك ده يعتبرك (مومس) رخيصة
, استشاطت غضبًا من نعته لها بتلك الكلمة المهينة فصرخت فيه بهياج: -إنت واحد قذر
, رد ببرود محافظًا ببراعة على ثبات انفعالاته: -بس مش أقذر منك.
,
, نجح بأسلوبه الهادئ المستفز في إخراج آسيا عن شعورها، انتفضت من جلستها على الفراش نازعة عنها الإبرة الطبية وقاصدة الهجوم عليه، اندفعت نحوه بكل شراسة تريد نبش أظافرها في وجهه لتشوهه لكنه تفاداها بمهارة بل وأحكم السيطرة عليها؛ حيث أمسك بها من رسغيها ولفهما خلف ظهرها ملصقًا إياها به، ثم أجبرها على السير مع خطواته متجها بها نحو الحائط ليحاصرها في الزاوية، التصقت بالحائط وشعرت بالوهن يجتاحها، تلوت بجسدها الغاضب محاولة التحرر منه لكنه لم يدع لها الفرصة، سيطر عليها ببساطة وبقيت أسيرته حتى إشعار آخر، جمد نظراته الحادة على وجهها المتعصب، نظر في عينيها الفيروزيتين مباشرة دون أن تتطرف حدقتاه، آمال رأسه نحوها ليقول محذرًا بهمس خطير:.
,
, -ماتلعبيش مع النار يا آسيا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٧

أشاحت بوجهها بعيدًا عن أنفاسه التي لاطمت وجنتها قدر المستطاع، فحركته الدفاعية المباغتة قد وضعتها في مأزق، ومع ذلك استمرت آسيا في إظهار قوتها رغم إحساسها بالضعف، عمد معتصم إلى تقريب وجهه منها لتصبح كلماته ذات تأثير حسي وشعوري قوي، ثم تابع قائلاً بنفس الخفوت الخطير:
, -لأنك هتخسري في النهاية!
,
, استجمعت آسيا مقاومتها الهاربة أمام تفاخره بقواه الذكورية عليها لتنظر له بأعين رافضة للهزيمة، تشنجت قسماتها صائحة فيه بتحدٍ لا يقل خطورة عن كلماته التي تستثير أعصابها:
, -مش أنا.
,
, ثم رفعت ركبتها لتضربه أسفل بطنه بكل ما أوتيت من قوة، تأوه من الضربة المفاجأة وأرخى يديه قليلاً عن معصميها فمنحها ذلك الفرصة للتخلص من قبضتيه عنها، دفعته آسيا من صدره لتفسح لنفسها المجال ووثبت على الفراش لكنه كان الأسرع في تدارك نفسه، ولاحقها قبل أن تفر من أمامه، أمسك بها معتصم من ساقها مما أعاقها عن الحركة وسقطت على الفراش، جثا فوقها مثبتًا ذراعيها أعلى رأسها على الفراش قائلاً بنبرة شبه غاضبة:.
,
, -رايحة فين؟
, لم يكن أمامها أي مهرب منه، لذا صرخت طالبة للنجدة آملة أن يتسبب ذلك في ردعه وربما فضيحة له:
, -الحقوني، المجنون ده بيتهجم عليا.
,
, أرخى يده اليمنى عن ذراعها ليكمم فمها قبل أن تفضح أمره، ولكن لحسن حظها كان الطبيب مصطفى في طريقه للاطمئنان على صحتها فتفاجأ بما يحدث، تخشب في مكانه مصدومًا من رؤيتهما على تلك الحالة، تجمدت حواسه لوهلة وهو يطالعهما بنظراته المذهولة، فغر ثغره معتقدًا أن معتصم يعتدي عليها، فورًا أغلق باب الغرفة كي لا يلفت الأنظار إليه، أو أن تنتبه الممرضات إلى ما يحدث مما يضعه أمام طائلة القانون، هرول ناحية الفراش ليبعده عنها وهو يوبخه بحدةٍ:.
,
, -إنت اتجننت يا معتصم، إيه اللي بتعمله ده!
, استخدم ذراعيه في إبعاد ثقل جسمه عنها متابعًا تعنيفه: -عاوز تودي نفسك في داهية
, التقطت آسيا أنفاسها وتراجعت زاحفة على الفراش للخلف لتهدد خصمها اللدود بصوتها اللاهث:
, -أنا هابلغ عنك البوليس!
, تحشرج صوتها لكنها استمرت في تهديدها قائلة: -خليك شاهد يا دكتور، الراجل ده حاول يعتدي عليا وأنا مش هاسكت عن حقي!
,
, توجس مصطفى خيفة من حدوث فضيحة وشيكة قد تضر بالجميع وربما بمستقبله المهني إن عرف أحدهم بذلك، توسلها راجيًا بتوترٍ:
, -إهدي يا هانم بعد إذنك، مافيش داعي للشوشرة
, ردت عليه بصراخ: -إنتو لسه شوفتوا مني حاجة!
, سد مصطفى بجسده الطريق على معتصم كي لا يقترب منها، ومع ذلك كان اندفاع الأخير منذرًا بصدام أشد شراسة خاصة حينما نطق بصوته الجهوري ومشيرًا بسبابته:
, -وأنا مش خايف من الفضايح.
,
, شحب لون وجه مصطفى من فرط الخوف، فرفيقه لن يتراجع عن تهديداته، وتلك الشابة لن تتركه لشأنه، فبات هو رغمًا عنه في خط النيران بينهما، حاول أن يفض الاشتباك صائحًا بارتباك كبير:
, -إنت مش في وعيك يا معتصم، تعالى معايا
, ثم سحبه بأقصى طاقته نحو باب الغرفة ليضمن ابتعاده كليًا عنها، ومع ذلك ظلت نبرته المهددة تصدح عاليًا:
, -مش هاسيبك يا آسيا
, صرخت فيه بعصبيةٍ: -وأنا هاوريك مقامك!
,
, دفعه مصطفى دفعًا نحو الخارج هاتفًا فيه: -مش وقت حساب، امشي برا لو سمحت!
, وبصعوبة بالغة تمكن من إخراجه من الغرفة بأقل الخسائر المحتملة، وبخه لتهوره قائلاً بضيق:
, -إحنا في مستشفى يا معتصم، ينفع الجنان اللي عملته ده هنا؟ طب افرض ياخي أنا مكونتش موجود، كان إيه الحل دلوقتي؟ إيه عاوز تضيع نفسك وتعمل فضيحة من الهواء؟
, رد عليه معتصم بنفاذ صبرٍ: -سبني يا مصطفى!
, رفض تركه وظل متشبثًا بذراعه قائلاً بعناد: -لأ.
,
, زم الأخير فمه مرددًا بامتعاض: -مش هاعملها حاجة، سبني بقى!
, لم يجد بدًا من الاعتراض عليه خلال نوبة غضبه، فتركه مضطرًا وهو يرجوه: -طيب، تعالى نتكلم في مكتبي!
, نفض معتصم ذراعه في الهواء سائرًا بخطوات شبه متعصبة نحو مكتب صديقه، لكن ظلت انفعالاته هائجة داخل صدره، لا تجد ما يهدئها على الإطلاق.
,
, تنفست الصعداء لوجود الطبيب في الوقت المناسب وإلا كان الأمر قد اتخذ منحنًا آخرًا، لملمت آسيا شتات نفسها واتجهت إلى خزانة الثياب المحفورة بالحائط لتبحث بين ضلفتيها عن ثيابها، التقطتهم بأيدٍ مرتعشة ثم اتجهت نحو المرحاض لتبدل ثيابها بالداخل، لم تبالِ بالوهن الناتج عن محاولة انتحارها، فتركيزها كان منصبًا على أمر بعينه وهو الهروب من هنا قبل أن يأتي ذلك المخبول من جديد ليعتدي عليها، وهي لن تصمد أمامه.
,
, اتجهت آسيا نحو الرواق الفاصل بين غرف المرضى باحثة عن المخرج، حاولت أن تبدو هادئة وهي تسير كي لا ينتبه أحد لأمرها، وبمساعدة بسيطة من بعض الممرضين استطاعت أن تخرج من المشفى، اقتربت من الطريق الرئيسي ثم أشارت لإحدى سيارات الأجرة لتستقلها، بدأت في ترتيب أفكارها رغم التشوش الذي يشوب عقلها، فطنت إلى أن المكوث في منزلها ربما سيعرضها لمواجهة أخرى معه وهي في غنى عن ذلك – ولو مؤقتًا – ريثما تستعيد عافيتها وتعد أسلحتها لمجابهته، لذا الأسلم حاليًا أن تقيم في مكان آخر يؤمن لها الحماية، بالطبع لم تكن الخيارات متاحة، فهي لا تعرف إلا الفنادق كأماكن للإقامة، لذلك وقع اختيارها على فندق بعينه، أوقفت سيارة الأجرة أمام مدخل بنايتها آمرة السائق:.
,
, -استناني 10 دقايق هنا
, التفت السائق ناحيتها قائلاً بوجهٍ متجهم: -بس الأجرة يا مدام هتزيد والبنزين غالي و..
, قاطعته بصرامة ومشيرة بيدها في نفس الآن: -شششش، هاديك كل اللي انت عاوزه، خليك مستنيني زي ما قولتلك
, اعتلى ثغر السائق ابتسامة عريضة وهو يقول: -ماشي يا ست الكل، تحت أمرك طالما كله بحسابه
, تفاجأ حارس البناية بعودة آسيا بعد برهة من ذهابها للمشفى، هلل صائحًا وقد هب واقفًا من مكانه لاستقبالها:.
,
, -حمدلله على السلامة يا ست هانم، احنا اتوغوشنا عليكي و..
, رمقته بنظرة متعالية قبل أن تقاطعه بصوتها الآمر: -بطل رغي، وتعالى ورايا خد الشنط من فوق
, سألها الحارس بفضول وهو يحك مؤخرة رأسه: -هو حضرتك مسافرة؟
, توقفت عن السير لتحدجه بنظرة عدائية جعلته يتراجع خطوة للخلف وهي تنهره: -إنت هتحقق معايا؟
, ابتلع ريقه قائلاً بارتباك متلعثم: -هو العين تعلى على الحاجب؟ ماتخذنيش يا ست الكل!
,
, واصلت سيرها المتعجل فحاول الأخير اللحاق بها قائلاً بحذرٍ: -يا ست هانم، مفتاح الشقة معايا
, استدارت ناحيته كليًا لترمقه بنظرات مخيفة فتابع موضحًا قبل أن تسيء تفسير الأمور:
, -ماهو أصل حضرتك لما غميتي الباب كان مفتوح، وأنا خوفت على الشقة لا تتسرق، فقفلتها بمعرفتي
, سحبت نفسًا عميقًا فراقبها بتوتر شديد، لفظته دفعة واحدة لتقول بعدها: -أوكي، هات المفتاح
, دس يده في جيب جلبابه ليخرجه منه مرددًا: -اتفضلي يا ست هانم.
,
, تناولته منه وأكملت خطاها في اتجاه باب منزلها لتفتحه، ظن الحارس أنها ربما ستكافئه لأمانته معها، لكن خابت توقعاته ولم يحصل على شيء، امتعض وجهه وعبست ملامحه، تردد في مفاتحتها في مسألة (النفحة) المادية، لكن حسم أمره بطلبها بسماجة منها، فرسم على شفتيه ابتسامة سخيفة متسائلاً:
, -مافيش حاجة كده تشجيع يا ست هانم؟
, نفخت مرددة بنفاذ صبر: -يووه، بعدين، بعدين
, لوى ثغره هامسًا بسخط كبير: -أدي أخرت المعروف!
,
, ظلت تعابيره واجمة مزعوجة من عدم تلقي ما كان يطمح فيه من أموال، وانتظر عند عتبة المنزل ليحمل حقيبتها كما أمرته، وما إن خرجت عائدة حتى أعطته بقشيشًا سخيًا ليكف عن ملاحقتها بإلحاحه الممل، وما إن دس المال في جيبه حتى أسرع بحمل حقيبتها بتلهف واهتمام مبالغ فيه قائلاً:
, -تُشكري يا هانم، يدوم الكرم يا رب
, صاحت فيه بحدة: -بطل رغي ونزل الشنطة للسواق
, -حاضر.
,
, قالها وهو يسرع في خطواتها منفذًا أمرها وثغره يعلوه ابتسامة رضا فقد نال مبتغاه بسماجته في الأخير.
, -ده اسمه كلام يا معتصم؟ بقى في واحد عاقل يعمل كده؟ لأ وهنا كمان!
,
, تساءل مصطفى بتلك العبارة المعاتبة لأسلوب رفيقه الحاد في التعامل مع آسيا بعد أن انفرد به بمكتبه، لكن بدا الأخير غير نادم على ما أقدم عليه، كانت تعابيره مشدودة على الأخير، ونظراته محتقنة بصورة مقلقة، ظل يتنفس بعمق ليسيطر على الحالة المستعرة بداخله، دومًا لا يجد التفسير المنطقي لتصرفاته الهمجية معها، لكنه متيقن من كونها أيقونة للاستفزاز واستثارة الأعصاب، فمعرفته المسبقة بتاريخها الغير مشرف يدفعه دفعًا لمعاملتها بتلك الطريقة الدونية المهينة، دس يديه في جيبي بنطاله وأخذ يجوب الغرفة جيئة وذهابًا محتفظًا بما يفكر فيه بداخل عقله، صاح فيه صديقه بنفاذ صبر:.
,
, -رد عليا يا معتصم، هو أنا بأكلم نفسي؟
, التفت رفيقه نحوه قائلاً بعبوس: -خلاص يا مصطفى، أنا اتخنقت، كفاية كلام عنها!
, واصل رفيقه توبيخه له مرددًا بنفس النبرة الجادة: -علشانك غلطان
, رد معتصم بعصبية ملحوظة وقد تعقدت ملامحه: -لأ، بس هي بني آدمة مستفزة، تفور الدم، إنت مش عارف حاجة.
,
, توجه ناحيته ليقف قبالته ثم رد بعتابٍ: -ومش عاوز أعرف، بس دي مريضة، جاية في محاولة انتحار، وشوفتك وإنت بتحاول تعتدي عليها، عاوزني أفهم إيه؟
, لم يتحمل معتصم أن يتم اتهامه بشيء لم يفعله، قهدر بصوت غاضب: -كدابة، ده محصلش، أنا كنت بأتفاهم معاها
, لوى مصطفى ثغره متسائلاً بتهكم: -بجد! ده بقى أسلوب جديد للتفاهم؟!
,
, رد مبررًا تصرفه معها بخشونةٍ: -هي ماينفعش معاها إلا كده، وبعدين لو سبتها تعمل ما بدالها هتضيعنا كلنا، بما فيهم أمي
, أشار بكف يده قائلاً بوجه ممتعض: -ماشي، إنت عندك مبرراتك، بس هي طالما جت عندي المستشفى بقت مريضة وليها حق العلاج
, زفر معتصم هاتفًا بتأفف وهو يشيح بوجهه: - مصطفى، فكك من جو المثاليات ده، محدش عايش في العالم الأفلطوني بتاعك.
,
, تحولت نبرته للقتامة وهو يكمل: -اللي زيها جاي من مستنقع قذارة، متعودة على الطريقة دي، دي متعرفش معنى الاحترام والأخلاق
, ورغم استنكار مصطفى لوصفها بتلك الصفات إلا أنه رد مدافعًا عنها: -وإن يكن، هي مريضة وليها حق عليا
, بدا معتصم مزعوجًا من دفاعه عنها، لكن ظل رفيقه على موقفه نحوها، ثم أضاف بهدوء ليمتص حدة الأجواء:.
,
, -عمومًا مش هاتكلم معاك في الموضوع ده لأن واضح إن التفاهم هايكون صعب أوي، بس أتمنى إنك تهدى وتفكر بالعقل شوية وخصوصًا معها
, رد باقتضابٍ: -إن شاء ****
, أشار له بيده متابعًا: -طب يالا بينا، أنا هاوصلك
, اعترض عليه بوجوم: -معايا العربية
, ابتسم له مصطفى هاتفًا بمزاح وهو يربت على كتفه: -طيب هننزل سوا، ما هو أنا بصراحة ماضمنكش.
,
, تصنع معتصم الابتسام وهو يسير إلى جواره بخطواتِ شبه متهادية، فقد خبت ثورته نوعًا ما، لكن تضاعفت كراهيته ل آسيا وزادت عدائيته نحوها، وما إن تأكد مصطفى من وجوده بسيارته حتى استطرد قائلاً:
, -اسبقني إنت، أنا هاطلع أبص على حاجة
, -مش كنت خلصت
, -أيوه، بس بصراحة مقلق من موضوع آسيا، جايز تعملنا شوشرة وأنا عاوز أكلمها نلم الدور و..
, تبدلت تعابيره للتجهم ونظراته للإظلام، قاطعه صائحًا بعبوس: -كمان هتسترجاها؟
,
, توجس خيفة من تقلب مزاجه، فرد بحذرٍ: -لأ، بس ماتنساش إنها ممكن تتهمك بحاجة و..
, هدر بعصبية وغير مكترث بما يمكن أن تفعله: -أعلى ما في خيلها تركبه، تجدعن بس وتوريني هاتعمل إيه!
, زفر مصطفى باستياء من ردة فعل رفيقه فقد كان الأخير متحجر التفكير فيما يخصها رافضًا الإنصات لصوت العقل، تمتم مع نفسه هامسًا:
, -**** يستر من اللي جاي!
,
, نفضت شعرها المعقود بخصلة منه للخلف وهي تتبع خطوات العامل نحو غرفتها التي قامت بحجزها في أحد أشهر الفنادق، لم تكن آسيا قادرة على القيادة لذا تركت سيارتها عند البناية وأكملت مشوارها مع سائق سيارة الأجرة الذي بدا متحمسًا بعد أن تقلى منها أجرة مضاعفة نظير انتظاره لها، كذلك أعدت بعض النقود لتمنحها للعامل فور أن يضع حقيبتها بداخلها، استدار الأخير نحوها قائلاً بروتينية رسمية وهو يبتسم بتكلفٍ:.
,
, -إقامة سعيدة يا فندم
, ردت آسيا متصنعة الابتسام: -ميرسي
, ثم مدت يدها بالنقود ليلتقطها منها، تابع قائلاً بعد وضع ما منحته إياه في جيبه: -حضرتك لو احتاجتي أي حاجة دوسي زيرو في التليفون والريسبشن هيرد عليكي و..
, قاطعته بإرهاقٍ: -أنا عارفة، شكرًا
, رد محافظًا على ابتسامته الباردة: -تحت أمرك يا هانم، شرفتينا.
,
, راقبته وهو ينصرف مغلقًا الباب خلفه لتلقي بثقل جسدها على الفراش، كانت عضلاتها تئن من الأوجاع، وجسدها لم يكن بحالة جيدة بعد تجربة الانتحار، أما عن نفسيتها فقد بلغت الحضيض، كانت بحاجة لمن تشكو له همومها، بمن يشعر بما يختلج صدرها من آلام وأثقال أتعبتها حتى انهارت في لحظة ضعف ربما ستكرر إن تعرضت لنفس الضغوط من جديد، لكنها لم تجد من يحتويها، من يضمها إلى صدره ليطمئنها ويقول لها – ولو حتى كذبًا – أن الأمور ستكون بخير، أدركت أنها وحيدة بالفعل رغم وجود أبويها على قيد الحياة، شعرت بالخواء والفراغ، فقدت رغبتها في الحياة، اكتفت بالاستلقاء والتمدد على الفراش لتنسى كل ما مرت به خلال ذلك اليوم الطويل، خاصة وجه خصمها الذي انتزع ما افتقدته بالكامل منذ نعومة أظافرها ليحظى هو به؛ معتصم.
,
, لم تنم ليلتها وابنتها الوحيدة راقدة بالمشفى لا تعرف حالتها بعد، توسلها زوجها أن تمنح جسدها حقه في الراحة لكنها رفضت الاستماع له وأصرت على البقاء مستيقظة ريثما يبزغ الفجر، جلس وحيد إلى جوارها على الأريكة قائلاً برجاء:
, -يا نادية ماينفعش كده، نامي بس ساعتين، خلاص الفجر إدن والنهار شقشق والزيارة مش قبل الضهر
, ردت محتجة بإصرارٍ: -مش عاوزة يا وحيد، من فضلك سيبني على راحتي!
,
, سألها بضيقٍ: -يعني عاوزة تقعي من طولك؟
, أجابته بقلب أم متلهفٍ: -لأ، أنا عاوزة أشوف بنتي!
, حاوطها من كتفيها قائلاً بابتسامة صغيرة: -حاضر يا نادية، هايحصل، بس لسه بدري
, تابعت مرددة بتوجسٍ: - معتصم كمان مجاش، أكيد في حاجة حصلت ومش عاوز يقولي!
, سحب وحيد نفسًا عميقًا لفظه ببطء قبل أن يرد: -يا ستي أنا كلمته، وهو في الطريق، وبيطمنك عليها.
,
, وكأن في كلماته البلسم لها، سألته باشتياق مضاعفٍ: -بجد يا وحيد؟ هو قالك إن آسيا كويسة وفاقت
, رد موضحًا: -ما إنتي بنفسك سمعتي د. مصطفى وهو بيقول كده، وزيادة تأكيد معتصم طلع بص عليها وقال إنها بخير
, -يعني هو شافها؟
, -أيوه
, تنهدت قائلة بامتنانٍ: -ألف حمد وشكر ليك يا رب
, -وجايز كمان يقنعها تيجي تقعد معانا
, ردت بنبرة متلهفة وكأنها تتمنى حدوث ذلك.
,
, -يا ريت و****، ده اليوم اللي بأحلم بيه، إن بنتي تيجي تعيش معايا هنا وأعوضها عن السنين اللي فاتت
, ربت على كتفها برفق ثم طلب منها بهدوءٍ: -هايحصل يا حبيبتي، قومي بقى ارتاحي علشان لما تشوفيها
, أومأت برأسها تلك المرة موافقة وهي ترد: -حاضر.
,
, ساعدها وحيد على النهوض من على الأريكة، تأبطت في ذراعه وسار الاثنان سويًا نحو الفراش ليتمددا عليه، امتلأ قلب نادية بالآمال العريضة لرؤية ابنتها باكر، وما زاد من حماسها هو كلمات زوجها الأخيرة باحتمالية قدومها للعيش معهم، أغمضت عينيها بارتياح طامعة في نفسها أن تحمل الساعات القادمة السعادة ل آسيا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44، wagih و غريب عن العالم
١٨

سار بخطوات شبه سريعة نسبيًا نحو الرواق المؤدي إلى غرفتها آملاً أن تصغي إلى توسلاته بشأن العدول عن قرار الشكوى في حق رفيقه معتصم، ضبط مصطفى من طرفي ياقة قميصه وهو يستدير نحو باب الغرفة، وقبل أن يدقه انتبه لصوت الممرضة الهاتف بتلهفٍ:
, -د. مصطفى، تعالى بسرعة
, تسمر في مكانه كالصنم، لكن تحركت رأسه في اتجاه الممرضة ليسألها بجدية: -في إيه؟
, أجابته بلا تردد: -في حالة حرجة جت الطوارئ ومافيش حد متخصص يلحقها.
,
, تعقدت ملامحه مرددًا باستنكار شديد وهو يشير بيده: -مستشفى طويلة عريضة زي دي ومافيهاش..
, قاطعته مبررة بصوت أقرب للهاث: -الوقت متأخر يا دكتور، وأغلب الدكاترة سلموا ورديات والنبطشي الموجود مش عارف يتعامل مع الحالة المستعجلة دي!
,
, أدرك مصطفى خطورة الوضع، نظر في ساعة يده ليجد بالفعل أن الوقت بات متأخرًا للغاية، ثم ألقى نظرة حائرة على باب الغرفة، كان الخيار الحاسم هو الذهاب لنجدة المريض الذي هو بحاجته الآن، تنهد قائلاً باستسلام:
, -طيب، أنا جاي
, ثم تمتم مع نفسه وهو يتحرك خلف الممرضة بخطوات راكضة: -الظاهر مافيش فرصة أتكلم معاكي.
,
, تذكر أيضًا انتظار رفيقه بالجراج الملحق بالمشفى، فأخرج على عجالة هاتفه من جيبه، عبث بأزراره ثم وضعه على أذنه ليقول بعدها:
, -ألوو، أيوه يا معتصم، معلش جتلي حالة طارئة فمش هاعرف أمشي، ارجع إنت البيت ماتستنانيش
, أنهى معه المكالمة وواصل سيره نحو غرفة الطوارئ ليتعامل مع المريض الراقد هناك غير مدرك أن آسيا ليست بالغرفة، بل لم تعد بالمشفى من الأساس.
,
, حملق بشرود في الطريق المطل من شرفة غرفته وهو يعاود إشعال سيجارة جديدة، عاد معتصم للتدخين بشراهة مرة أخرى بعد أن أقلع عن تلك العادة السيئة، لكنه كان بحاجة للتنفيس عما يعتمر صدره من مشاعر مشتعلة، أراد إحراق شيء ما، أن يفرغ غضبه المكتوم بداخله، مل من القيادة بلا وجهة محددة لساعات للهروب من أسئلة نادية عن ابنتها الجاحدة، تلك الفتاة التي شغلت تفكيره بالكامل واستحوذت على عقله بعكس أي فتاة أخرى عرفها، بدت آسيا كالمخدر الذي ما إن يدمنه الشخص، يصعب عليه التعافي منه بسهولة، رجع إلى المنزل بعد أن قضى وقتًا طويلاً بالخارج، تسلل بحذر نحو غرفته وظل باقيًا بها حتى بزغ الفجر.
,
, كان معتصم لا يزال واقفًا بالشرفة يراقب الطرقات الخاوية، ورغم الإرهاق المسيطر عليه إلا أنه لم يرغب بالنوم، وكيف يغفو وعقله يفكر بها، ولج إلى داخل المرحاض ليغتسل وينعش جسده المتعب بالمياه الباردة، وقف أسفل الدش لفترة طويلة تاركًا للماء مهمة إزاحة كل شيء عن جسده، وما إن انتهى حتى لف خصره بالمنشفة وقرر أن يرتدي زيًا مريحًا غير تلك الحلات الرسمية التي اعتاد ارتداؤها في العمل، خرج إلى الصالة فوجد الخادمة تؤدي عملها المعتاد في تنظيف محتوياته، جلس على الأريكة قائلاً بنبرة متغيرة تحمل التعب:.
,
, -اعمليلي فنجان قهوة
, تعجبت الخادمة من رؤيته في تلك الساعة المبكرة من النهار، لكنها رسمت ابتسامة لطيفة على ثغرها وهي تقول:
, -حاضر يا معتصم بيه، تحب أعمل لحضرتك فطار كمان؟
, رد باقتضاب: -لأ، قهوة بس
, -تمام.
,
, تابعها بنظراته الحادة وهي تسير في اتجاه المطبخ حتى اختفت من أمامه، نهض من مكانه متجهًا إلى تلك اللوحة الفوتوغرافية التي تتوسط الجدار، تأملها مطولاً متذكرًا اللقاء الأول الذي جمعه معها وانتهى بعد لحظات بالطرد من المنزل، شبك كفي يده معًا خلف ظهره متمتمًا مع نفسه بكلمة واحدة احتوت على الكثير:
, - آسيا
, - معتصم.
,
, التفت برأسه للخلف على إثر صوت نادية الحزين، تصلبت عروقه وهو يفكر سريعًا في طريقه تمكنه من المماطلة معها إن سألته عن أحوال ابنتها، لكن على عكس ما توقع وجدها تقول:
, -كويس إنك صاحي، أنا جاهزة علشان نروح المستشفى سوا
, حاول أن يخفي شعوره بالضيق من تلك الزيارة الكريهة على قلبه، تصنع الابتسام قائلاً باختصار:
, -كويس
, سألته بتلهف مشتاق: -تفتكر هاتكون فاقت؟
,
, أجابها بحذرٍ وهو يدنو منها: -أكيد، د. مصطفى معاها ومتابع حالتها من بالليل
, تعلقت أنظارها المتحمسة بأعين ابنها، ثم تابعت حديثها برجاءٍ: -عاوزاك يا معتصم تكون هادي معاها، هي ماتستهلش نقسى عليها
, رد عليها وحيد وهو يقترب من الخلف: -اطمني يا نادية، ابنك عاقل وبيقدر المواقف اللي زي دي كويس.
,
, كانت نبرته تحمل تلميحًا جديًا لابنه، ولم يكن الأخير بحاجة لتفسير كلمات والده المحذرة، اكتفى بالإيماء برأسه كتعبير عن ذلك، ثم تحرك معهما نحو باب المنزل، اعترضت الخادمة طريقهم مرددة باستغراب:
, - معتصم بيه القهوة بتاعة حضرتك!
, أشار بيده قائلاً: -معلش، وقت تاني
, ردت عليه بابتسامة رقيقة: -اللي تشوفوه يا فندم!
, هتف وحيد بهدوء وقد كان الأسبق في الإمساك بمقبض الباب ليفتحه: -يالا بينا يا جماعة!
,
, ثم خرج أولاً من المنزل وتبعته زوجته ليلحق بهما معتصم وهو يدعو **** في نفسه أن يكون منضبطًا في انفعالاته، ومتحكمًا في أعصابه حينما تحدث المواجهة من جديد.
,
, أثر معتصم أن يستقل ثلاثتهم سيارة واحدة ويتبعهم السائق بالسيارة الأخرى طالما أن وجهتهم واحدة، لم يعترض وحيد وزوجته فالمهم أن يصلوا إلى المشفى في أقرب وقت، بعد برهة اصطفت السيارتان أمام مدخل المشفى، ترجلت نادية منها واتجهت بخطوات متحمسة نحو الاستقبال الداخلي، لحق بها زوجها بينما تباطأ معتصم في خطاه، بدت الموظفة الواقفة خلف الطاولة الرخامية صارمة للغاية وهي تقول:.
,
, -أسفة يا فندم، ماينفش دلوقتي، لسه وقت الزيارة مجاش
, ردت نادية باحتجاج وقد بدأت العصبية تعرف طريقها إليها: -يعني إيه الكلام ده؟ أنا عاوزة أشوف بنتي، إنتو من امبارح مانعيني عنها
, ثم التفتت برأسها نحو زوجها لتكمل صياحها المعترض: -اتصرف يا وحيد، شوفلك حل في الموضوع ده
, سحب الأخير نفسًا عميقًا لفظه بتريث قبل أن يستطرد حديثه مرددًا: -يا أستاذة مافيش مايمنع إننا نطمن على آسيا بنتنا، يعني مش أزمة هي.
,
, لاحظ معتصم وجود حالة من التوتر سائدة بين والديه والموظفة، اقترب منهم متسائلاً بجدية:
, -هو في إيه؟
, أجابته نادية بصوتها المزعوج: -مش عاوزة تخليني أشوف بنتي، أنا هاطلعلها دلوقتي
, ردت الموظفة بروتينية رسمية وقد اعتادت على تلك النوعية من عصبية المرضى: -يا فندم أنا ملتزمة بجدول مواعيد الزيارات، مقدرش أطلعكم بدون أوامر وإلا أنا اللي هتأذى.
,
, بدت نادية غير مقتنعة تمامًا بما قالته، وكانت على وشك الانفعال والاشتباك معها مجددًا لكن دعم معتصم موقف الموظفة موضحًا:
, -هي بتشوف شغلها يا ماما، وأي حد في مكانها هيعمل كده
, صاحت فيه بنفاذ صبر: -خلاص اتصرف وخليني أشوف آسيا، إنت مش صاحبك دكتور هنا
, امتعض وجهه قائلاً: -طيب، ثواني هاكلم مصطفى
, ثم تنحى للجانب ليتمكن من مهاتفة صديقه، وما إن أجاب عليه حتى سأله بجمود: -أيوه يا مصطفى، إنت فين؟
,
, صمت لثانية ليتابع بعدها: -عاوزينك تحللنا المشكلة دي
, بدأ بعدها في توضيح ما حدث باقتضاب مختصر ليضيف بعد ذلك وهو يوجه هاتفه نحو الموظفة:
, -اتفضلي، كلمي الدكتور مصطفى
, تناولت الممرضة الهاتف منه ووضعته على أذنها ثم استمعت إلى تعريف مصطفى بنفسه لتتأكد من صحة هويته، أومأت برأسها عدة مرات قائلة بابتسامة باردة:
, -تمام يا دكتور، حاضر.
,
, أنهت المكالمة وهي تمد يدها ل معتصم الذي استعاد منها هاتفه، ثم قالت بعدها: -اتفضلوا، تقدروا تطلعوا فوق تشوفوا المريضة بس يا ريت مايكونش في إزعاج ليها!
, رد عليها معتصم ببسمة سخيفة: -إن شاء ****.
,
, تهللت أسارير نادية على الأخير، وشعرت بالحيوية والنشاط تجتاح خلاياها، فعدة خطوات تفصلها فقط عن رؤية ابنتها بعد السماح لها بتلك الزيارة الاستثنائية في الفترة الصباحية للمريضة، أسرعت في خطواتها متجهة نحو الطابق المنشود، استدارت برأسها نحو معتصم تسأله:
, -دي أوضتها
, رد بحذر وقد شرد يتذكر ما فعله بالأمس: -أيوه.
,
, تلاحقت دقات قلبها من فرط التوتر المتحمس، أمسكت بالمقبض وأدارته متوقعة أن تجد ابنتها الوحيدة نائمة على الفراش، كانت حذرة للغاية كي لا يتسبب صرير الباب في إيقاظها، ولكن كانت المفاجأة التي تنتظرها هناك هي خلو الغرفة منها، للحظة توقفت عن التنفس لتستوعب ما يدور، شل تفكيرها، وتجمدت حواسها من الصدمة، اهتزت نبرتها وهي تتساءل بحيرة:
, - آسيا فين؟
,
, أصيب معتصم هو الآخر بالذهول، فقد كان يتوقع وجودها بالداخل، اتجه مسرعًا نحو المرحاض الملحق بالغرفة ليتفقده، لكنها لم تكن به، تسمر في مكانه ليفكر مليًا في السر وراء اختفائها، تساءلت نادية من جديد بنبرة مرعوبة وقد لمعت أعينها بعبراتها:
, -بنتي راحت فين؟
, شحب وجهها وزاغت أبصارها مع إكمال تساؤلاتها: -هي. هي مش المفروض تكون هنا؟!
,
, خشيت من مجرد الاعتقاد في فكرة فقدانها مجددًا، ارتجف جسدها كليًا وعجزت عن الوقوف باتزان وقد أنبئها حدسها بما تشك فيه مع ذلك الصمت المخيف، تزايدت مخاوفها وأحست بصدق ما يمليه عليها قلبها، ابنتها لم تعد هنا، وقف وحيد خلفها ليسندها قبل أن تفقد توازنها وتنهار، تشبث جيدًا بها ثم ساعدها على السير ببطء نحو المقعد الموجود بالغرفة وأجلسها عليه، جثا على ركبتيه أمامها، ثم مد يده ليحتضن كفها المرتعش بين راحتيه وبدأ في فركه ليبث له الدفء، نظر في عينيها يرجوها:.
,
, - نادية حبيبتي اهدي شوية، أكيد بتعمل تحاليل أو أشعة، ما إنتي عارفة هي في مستشفى والحاجات دي مهمة
, أدار وحيد رأسه في اتجاه ابنه يسأله: -كلامي مظبوط يا معتصم ولا لأ؟
,
, لم يعلق عليه الأخير بكل كان الصمت مسيطرًا عليه، وإن جاز التعبير يمكن القول بأنه كان يفكر في تبعات هجومه على آسيا بالأمس، هل بالفعل حدث ما قاله رفيقه بأنها ستتقدم بالشكوى ضده متهمة إياه بالاعتداء عليها؟ بدا حائرًا للغاية أمام نظرات والده الحادة، انتزعه من شروده سؤاله المُوحي:
, -سمعتني يا معتصم، مش هي جايز بتعمل تحاليل أو أشعة؟
, رد عليه بارتباك طفيف حاول إخفائه: -أيوه يا بابا.
,
, نظرت لهما نادية بعتاب ولوم، لم تستطع النطق، لكن تعبيراتها كانت كفيلة بتوضيح ذلك، هتف معتصم بجدية وهو يتحاشى النظر نحوها:
, -أنا هاروح أشوفها.
,
, ابتسم له وحيد بامتنان لكونه يبذل ما في وسعه لإسعاد وتلبية أوامر من عوضته عن حنان الأم، لم يعتبرها مطلقًا زوجة أبيه، بل إنها كوالدته التي أنجبته، وذلك ما حمله مسئولية كبيرة، ومشاعرًا عظيمة، أومأ معتصم برأسه متصنعًا الابتسام قبل أن يخطو بتعجل نحو الخارج آملاً أن تكون حجة إجراء آسيا للأشعة قد انطلت على والدتها التي ربما ستنهار حقًا إن عرفت الحقيقة.
,
, لم تتحمل صدمة غياب ابنتها، وتخلى عنها قلبها وعنفها بقسوة لتركها إياها هكذا في أشد لحظاتها احتياجًا لها، انهارت نادية فور أن علمت باختفاء آسيا وصعوبة إيجادها بأي مكان بالمشفى، صدق حدسها وفقدت بالفعل ابنتها للمرة الأخيرة، تم وضعها تحت الملاحظة الشديدة بالعناية الفائقة لمراقبة نشاط أجهزتها العضوية التي بدأت في التداعي وكأنها بذلك تعلن ضمنيًا عن رفضها للحياة بدون وجودها، وقف معتصم بالخارج يضرب كفه بالحائط وهو يردد بغضب:.
,
, -ليه عملتي كده! ليه؟!
, انزعج وحيد من صياحه اللافت للأنظار، خاصة أن الأطباء والممرضين الموجودين بالرواق ينظرون له بغرابة، اقترب منه هاتفًا بصوتٍ شبه صارم:
, -بشويش يا معتصم، لاحظ إن احنا في مستشفى!
, التفت ناحيته قائلاً بحنق وهو يكز على أسنانه: -هاتجنن يا بابا، هي قاصدة تموتها بعمايلها
, استاء وحيد من تلميحها الصريح بكون زوجته على وشك خسارة حياتها، نفخ قائلاً بضيق كبير:.
,
, -استغفر **** العظيم يا رب، أنا مش عارف أقول إيه
, رد عليه معتصم بصوته الغاضب: -يا بابا أنا الوحيد اللي فاهم آسيا دي كويس وعارف هي ناوية على إيه، مش هترتاح إلا لما تدفنها
, هدر به وحيد بانفعال: -كفاية بقى.
,
, توقف مضطرًا عن قول المزيد بعد عبارته الحادة، ابتعد عنه والده متخذًا أحد المقاعد الشاغرة ليجلس عليه، فابنه لا يقدم له شيئًا سوى القسوة على فتاة عانت الأمرين بغياب أمها وجمود والدها، هو لن يدع لنفسه الفرصة ليفهم طبيعة تصرفاتها أو حتى يبرر لها مواقفها العدائية، نظر له بإشفاق، ثم أشاح بوجهه بعيدًا عنه ليوجه أنظاره نحو باب غرفة العناية، تنهد مع نفسها راجيًا:.
,
, -**** يشفيكي يا نادية، أنا مش هاستحمل أخسرك بعد العمر ده كله!
, تحرك معتصم نحو الزاوية حيث توجد نافذة مفتوحة، كان بحاجة لاستنشاق بعض الهواء غير ذلك الخانق الموجود بالمشفى، انتفض في وقفته المنزوية على إثر ملمس اليد على كتفه، استدار برأسه وهو يعتدل في وقفته ليجد مصطفى واقفًا بجواره، سأله الأخير بجدية:
, -إيه أخبار طنط نادية؟
,
, رد عليه معتصم بعصبية وهو يكاد يمسك به من ياقته: -إنت اللي قولي آسيا راحت فين بعد ما اتكلمت معاها امبارح؟
, اندهش رفيقه من ردة فعله المتجاوزة معه، انتزع يده بحذر وهو يرد: -أنا أصلاً ماقبلتهاش من بعد ما بعدتكم عن بعض
, -يعني ماشوفتهاش
, -لأ، جاتلي حالة طارئة وانشغلت بيها
, -أومال راحت فيه.
,
, راقب وحيد المشادة الكلامية بينهما واستشعرت وجود خطب ما، نهض بحذر من مكانه واقترب منهما مصغيًا بتركيز لحديثهما، تساءل بجدية وقد تعقدت تعابيره:
, -هو إيه اللي حصل بالظبط؟ أنا مش فاهم حاجة!
, أجابه مصطفى بلا تردد كي لا يسيء فهمه: -يا عمو وحيد أنا لاقيت معتصم بيتهجم على آسيا امبارح
, ارتفع حاجباه للأعلى في استنكار شديد مرددًا بصدمة: -إيه؟
,
, قست نظرات معتصم نحو رفيقه، لم يكن راغبًا في أن تفسر الأمور من منظور محدود، رد مدافعًا عن نفسه بقوة:
, -معملتش فيها حاجة، أنا كنت بأكلم معاها
, لكزه وحيد في كتفه قائلاً بحدة: -بصلي يا معتصم
, نظر ابنه نحوه فواصل توبيخه له: -إنت عاوزها تستنى في المستشفى بعد اللي عملته؟
,
, زفر معتصم بصوت مسموع لعدة مرات قبل أن يصيح عاليًا بإنكار كبير: -يا بابا أنا مجتش جمبها، مصطفى فهم الموضوع غلط، ماتقوله يا ابني ولا خلاص لبستني في الحيط
, رد عليه وحيد بلهجة شديدة: -صح ولا غلط أهي في النهاية مشيت من غير ما نعرف، و**** أعلم راحت فين دلوقتي
, لوى ابنه ثغره مرددًا بتهكم: -هايكون فين غير بيتها، وده أنا عارف عنوانه!
,
, لوح أباه بيده في الهواء يأمره بصرامة: -طب اتفضل وديني عندها، ومش هاتتصرف لوحدك، أنا هاكون معاك المرادي!
, لم يجد بدًا من الاعتراض عليه، وامتثل مرغمًا لأوامره ليتجه كلاهما بعدها إلى منزل آسيا.
,
, فشل مسعى معتصم في الوصول إلى آسيا سواء في منزلها أو في الأماكن المتوقع تواجدها به، كان مضطرًا مع أبيه لإخفاء تلك الأنباء السيئة عن نادية، لكن يبدو أن حدسها الأنثوي كان الأسبق في إعلامها بذلك فلازمت الرقود لعدة أيام في العناية الفائقة رافضة الاستجابة للعلاج، ما أصابه بالحيرة حقًا هو اختفائها المريب، فوفقًا لعادتها لم تكن لتترك ثأرها هكذا ببساطة، ومع ذلك بدت كما لو أن وجودها كان أمرًا مجازيًا، أصيب بالإحباط والغضب، وما ضاعف من إحساسه بالعذاب هو رؤيته ل نادية تنازع للبقاء على قيد الحياة.
,
, في تلك الأثناء حظيت آسيا بما أسمته بفترة استجمام كاملة ابتعدت فيها ذهنيًا ونفسيًا عن كل المشكلات المحيطة بها، أرغمت نفسها على الانفصال عما يمكن أن يؤلمها، حتى انتقامها المزعوم من والدتها تناسته، كانت بحاجة لتلك الفسحة الإجبارية لتعيد توازن الأمور في حياتها، قضت أغلب وقتها بالفندق في المركز الصحي والرياضي وفي الحصول على تدليك مريح لجسدها، بدت الأجواء بالنسبة لها رائقة لا يعكر صفوها أي شيء لولا فقط أن لمحها من لم يخطر على بالها مصادفة، توقف سامر لثانية عن نفث دخان سيجاره الفاخر ليعلق أنظاره بجمالها الذي خطف لبه، التوى ثغره بابتسامة ماكرة، ورفع حاجبه للأعلى مبديًا إعجابه بالصدف التي جمعته معها، كان الأخير جالسًا مع عدد من ممثلي بعض الشركات في البهو الرئيسي بالفندق، أدار رأسه تلقائيًا للجانب فرأها تمشي الهوينا بدلال جلي لا يليق إلا بها، أسرت عينيه سريعًا وحركت حواسه معها ففقد تركيزه مع المحيطين به، ظلت أعينه مشدودة لها حتى ولجت لداخل المصعد، لكن جذب انتباهه من جديد صوت أحدهم:.
,
, - سامر بيه، إيه رأي حضرتك؟
, اعتدل في جلسته ثم تنحنح قائلاً بجدية وهو ينظر نحوه: -تمام، جهزوا العقود وهأعرضها على المحامي نتفق سوا.
,
, حاول قدر المستطاع أن ينهي الاجتماع ليتعامل مع ظهور آسيا، صافح ضيوفه على عجالة ثم اتجه نحو استقبال الفندق، وهناك تبادل حوارًا وديًا مع الموظف المسئول الذي لم يدخر وسعه في منحه ما يريد من معلومات أكدت له إقامتها به، خاصة أنه يعد أحد الشركاء المساهمين في تشييد ذلك الصرح الفخم، التوى ثغر سامر ببسمة شيطانية وقد حصل منه بسهولة على مبتغاه، أشعل سيجارة فاخرة من جديد نافخًا باستمتاع دخانها في الهواء، بدأ في رسم الخطوط العريضة لمكيدة ماكرة ستوقعها في كارثة كبيرة، انتصب في وقفته محدثًا نفسه بعبث:.
,
, -كده اللعب التقيل بدأ يا آسيا، ماهو صعب واحدة تقولي لأ..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم
١٩





أدارت المقبض ببطء وهي تمد قدمها داخل المغطس ليبدأ الماء الدافئ في الانهمار على جسدها وإغراقه، أغمضت آسيا عينيها تاركة لضغط المياه المهمة في إزاحة كل ما يؤلمها، ربما أفادتها تلك العطلة في إبعادها عن الأزمات لكنها أثبتت لها أمرًا هامًا، أنها بالفعل وحيدة، لا رفاق لها أو أصدقاء مقربون يشغلونها بهمومهم ويستحوذون على وقت فراغها، شعرت بمرارة الوحدة من جديد، ذلك الشعور الذي تبغضه كثيرًا ويوقظ فيها ذكريات لا تحبذ التفكير فيها مطلقًا، توقفت عن الاغتسال حينما سمعت الدقات الخافتة على باب غرفتها الفندقية، أسرعت بارتداء روبها القطني وتأكدت من إحكام رباطه حول خصرها، ولفت شعرها المبتل بمنشفة أخرى بحركة ماهرة لتبدو كالتاج أعلى رأسها، اتجهت نحو الباب لتفتحه فتفاجأت بوجود أحد عمال الفندق بالخارج، نظرت له مطولاً وهي تسأله باستغراب:.
,
, -أيوه في حاجة؟
, رد العامل بهدوء وهو مخفض لعينيه ومطرق رأسه للأسفل: -بأعتذر يا هانم عن إزعاجك
, مطت فمها متسائلة: -خير
, أجابها بتمهل وهو يتحاشى النظر نحوها: -في مشكلة يا فندم عند حضرتك في السباكة والصيانة هايجوا يظبطوها في الأوضة
, قطبت آسيا جبينها متعجبة مما يقول، فهي لم تلاحظ وجود أي شيء غير مألوف بالمرحاض أثناء استحمامها، كتفت ساعديها أمام صدرها ثم قالت معترضة:.
,
, -لأ مافيش، أنا لسه واخدة دش ومافيش أي حاجة من دي خالص
, توترت تعابيره قليلاً فهو قد كُلف بمهمة محددة من قبل الإدارة ولن يقبلوا بفشله في أدائها، تنحنح قائلاً بارتباك طفيف:
, -أصل المشكلة مع الغرفة المجاورة لحضرتك
, سألته بنفاذ صبر: -والمطلوب إيه؟
,
, استشعر قرب إقناعه لها فاستأنف حديثه موضحًا: -إدارة الفندق هتنقل حضرتك غرفة تانية بنفس المستوى علشان حضرتك تكوني مرتاحة، كمان كنوع من الاعتذار عن إزعاج سيادتك هايكون ده مع يومين Full Board (مصحوب بالوجبات) for free، ده غير ال spa كنوع من الاعتذار لحضرتك
, صمتت آسيا تفكر في العرض المغري الغريب، لكنها لم تشك مطلقًا أن ورائه خطب ما، رسمت على ثغرها ابتسامة رضا وهي تقول:
, -أوكي، إديني 10 دقايق أجهز نفسي.
,
, تنفس العامل الصعداء لحصوله على موافقتها، رد بامتنان كبير ظهر في نبرته: -خدي راحتك يا فندم، وهابعت لحضرتك واحدة من ال room service تساعد سيادتك في تجهيز الشنط
, أومأت برأسها موافقة وهي ترد: -أوكي
, ثم أغلقت الباب بعد ذلك لتسير بتؤدة وهي تفرك شعرها بعد أن انتزعت المنشفة عنه قائلة لنفسها:
, -غريبة أوي الحكاية دي.
,
, لم ترتاب للأمر أبدًا بل على العكس كانت تبحث عن أشيائها الملاقاة بإهمال لتضعها على الفراش لتبدأ في إعداد حقيبتها للانتقال للغرفة الأخرى.
, -زي ما تكون فص ملح ودابت، أنا مش عارف أعمل إيه!
, قالها معتصم وهو يضرب بكفه طاولة مكتبه بعصبية واضحة، ركز نبيل أنظاره عليه مراقبًا حاله الذي تبدل كثيرًا في الفترة الأخيرة من الرزانة والهدوء للانفعال والغضب، اعتدل في جلسته ليقول له بنبرة عقلانية:.
,
, -ما تشغلش بالك بيها، هي يومين وهتظهر!
, رد عليه بتهكم وقد زاد عبوس وجهه: -ده لما تجيب أجل ماما!
, زفر نبيل معترضًا على تشاؤمه: -بعد الشر يا سيدي، ده الأعمار بيد ****
, حدق معتصم أمامه بنظرات شديدة الغموض محدثًا نفسه بنبرة متوعدة: -بس لو أعرف أطولك
, انزعج نبيل من كم التهديدات والوعيد الذي يحمله نحو آسيا دون مبرر قوي، استطرد قائلاً بجدية:
, - معتصم، مش ملاحظ إنك متعصب زيادة عن اللزوم؟
,
, رد عليه الأخير بسخطٍ: -هو حد يعرف بني آدمة بالشكل ده ويكون هادي
, أشار له ابن عمه متابعًا بنفس اللهجة الجادة المحذرة: -محدش طلب منك تعرفها، اللي فهمته منك إن طنط نادية مامتها وعاوزة تكون جمب بنتها، إنت دخلك إيه في الموضوع ده؟ سيبهم يتصرفوا مع بعض
, وكأن في عباراته خنجرًا حادًا يوخز به صدره، صاح هادرًا وقد هب واقفًا من مكانه: -علشانها..
,
, شعر أن الكلمات تجمدت على طرف لسانه، وجد صعوبة في تفسير تصرفاته الحادة معها، انتظر نبيل منه أن يعطيه المبرر المنطقي المقنع لكل ما يقوم به، شبك كفيه معًا قائلاً:
, -أيوه، علشانها إيه بالظبط؟
, ارتبك إلى حد ما وهو يجيبه: -يعني ماما وصتني بالموضوع ده
, مط ابن عمه فمه للأمام وهو يحرك رأسه قليلاً، كان واضحًا عليه عدم الاقتناع بكلمة واحدة مما تلفظ بها، تنفس بعمق ليرد عليه بعدها:
, -مممم. قولتلي بقى.
,
, أضاف معتصم قائلاً بانفعال: -إنت مش شايف فضايحها اللي على النت، و**** أعلم المستخبي إيه
, ثم تحرك بعدها مبتعدًا عنه لينزوي عند النافذة، تابعه نبيل بأعينه محدثًا نفسه بصوت خفيض:
, -واضح كده إن الفترة الجاية الشغل كله هايكون عليا.
,
, انتهت من ارتداء ثوب صيفي قصير أزرق اللون أظهر لون بشرتها الناصع وعكس سواد خصلات شعرها، كما زاد من لمعان حدقتيها الفيروزيتين، تطلعت آسيا إلى هيئتها بشيء من القناعة، لم تبدو مبتذلة تلك المرة في ارتداء أثوابها المغرية، أرادت أن تكون على طبيعتها، غير متكلفة أو مبهرجة فبدت أكثر إشراقًا ونضارة، سارت بخيلاء خلف عامل الفندق الذي اختلس النظرات متأملاً سحرها المغري ومتخيلاً في عقله أن يظفر بواحدة مثلها في المستقبل، مرر المفتاح الإلكتروني على الجهاز الخاص به لينفتح باب الغرفة، ثم تنحى للجانب مشيرًا بيده لضيفته المميزة بالدخول، وطأت آسيا بقدميها الجناح الملكي الذي تخطى ما كانت تتوقعه بمراحل، فغرت شفتيها مدهوشة من مدى فخامة المكان، ظنت أن هناك خطأ ما بالأمر، لذا التفتت نحو العامل تسأله:.
,
, -إنت متأكد إن دي الأوضة؟
, رسم الأخير ابتسامة متكلفة على ثغره وهو يرد: -أيوه يا فندم
, ثم مد يده به نحوها متابعًا: -اتفضلي سيادتك المفتاح!
, تجولت آسيا في الغرفة متأملة ما بها من أثاث فاخر ومريح، رأت انعكاسًا قويًا لجسدها على الأرضية البراقة، همست لنفسها بعدم تصديق:
, -دي شكلها أغلى من اللي كنت فيها.
,
, استغرقت عدة لحظات تتفحص فيها المكان، بدت متوترة نوعًا ما من غرابة الوضع، فالغرفة التي قامت بحجزها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل تكلفة الإقامة بها إلى جناح بذلك الشكل البهي، فسعر الليلة هنا سيكون أضعافًا مضاعفة، ومسألة تبديل الغرف لوجود مشكلة ما لا تستدعي كل ذلك، بدأت آسيا ترتاب في الأمر، وقف العامل خلفها يسألها بفضول بعد أن استشعر ترددها:
, -في حاجة مش عاجبة حضرتك؟
,
, استدارت نحوه ببطء قائلة بتنهيدة مطولة: -لأ، كله تمام هنا، بس يعني الموضوع أوفر شوية؟
, استمر العامل في الحفاظ على ابتسامته السخيفة وهو يجيبها: -يا فندم دي سياسة الفندق، لو حصل غلط أو مشكلة لازم نعوض ال guest ونحسسه بإنه أهم شخص عندنا
, حاول على قدر المستطاع تبرير سبب انتقالها لذلك الجناح، عبث آسيا بخصلات شعرها كتعبير عن شعورها بالملل من ثرثرته الزائدة، فركت عنقها برفق ومن ثم ردت باقتضاب:
, -اوكي فهمت.
,
, ناولته بقشيشًا سخيًا كما اعتادت أن تفعل مع كل من يعاونها في شيء، ثم اتجهت بأنظارها نحو الأريكة، أرادت الجلوس فسارت نحوها لتتخذ موضعها بها واضعة ساقها فوق الأخرى، أخفض العامل نظراته عنها قبل أن يضيف بمهنية احترافية:
, -وكلنا هنا تحت أمرك يا فندم في أي حاجة، 5 دقايق والشنط هاتكون هنا عند حضرتك!
, أومأت برأسها قائلة: -اوكي.
,
, ضجرت آسيا من وجوده في الجناح، فليست بحاجة لمرشد ليدلها على ما تفعله، ورغم تعبيراتها الموحية بفتورها وانزعاجه إلا أنه أصر على إطالة مدة بقائه، اقترب من باب جانبي مكملاً حديثه:
, -الحمام يا فندم مزود بجاكوزي لو حضرتك حابة تستخدميه
, ابتسمت قائلة بسخرية: -جاكوزي! واضح إن الخدمة هنا لل VIP
, -طبعًا يا فندم
, رسمت تعابير جامدة على وجهها وهي تقول بضيق: -لو خلصت ممكن تمشي
, تحرج العامل منها قائلاً: -بأعتذر عن الإزعاج.
,
, أولاها ظهره ثم اتجهت نحو باب الجناح ليغلقه خلفه بعد أن خرج، زفرت آسيا بصوت مسموع مرددة لنفسها بتأفف:
, -أخيرًا، ده إنت رغاي بشكل!
,
, أغمضت عينيها لثوانٍ لتستمتع بالهدوء في المكان وهي جالسة باسترخاء على الأريكة، لحظات ونهضت من مكانها لتتجول بالجناح بتأنٍ، لكن كانت المفاجأة الصادمة لها والتي لم تأتِ على بالها مطلقًا هو خروج سامر من المرحاض ملتفًا بمنشفة قطنية تغطي الجزء السفلي من جسده، ارتسمت علامات الاندهاش المصدوم على وجهها، حدقت فيه غير مصدقة أنه بالفعل هو، تحولت نظراتها للاحتقان واندفعت دمائها الثائرة في عروقها سريعًا لتحول لون بشرتها للحمرة الملتهبة، صرخت فيه بشراسة:.
,
, -إنت؟ بتعمل إيه هنا؟
, بدا مستعدًا لتلك المواجهة معها، فانتصب في وقفته ليبدو أكثر ضخامة وهو يرد بتفاخر شيطاني:
, -إنتي جيتلي في ملعبي
, انقبض قلبها من وجوده المريب، بدأت الخيوط إلى حد ما تتضح في رأسها، حاولت أن تبدو قوية صلبة أمامه كي لا يشعر بذلك التوتر الذي تسرب إليها، صاحت فيه بعصبية وهو تتراجع خطوتين للخلف:
, -اتفضل برا بدل ما أطلبلك الأمن
, قهقه ضاحكًا بطريقة واثقة دبت الخوف أكثر في صدرها: -بجد؟
,
, توقف عن الضحك ليكمل متحديًا بغموض مقلق: -مستنية إيه؟ اتفضلي، أنا كمان عاوزه يجي، خلي الحفلة تبدأ بدري!
, انزوى ما بين حاجبيها بقوة وهي تردد بذهول: -حفلة!
, تضاعف غروره الذكوري بداخله وامتزج مع حماسه بالانتقام منها، دنا خطوتين نحوها قائلاً بكلمات موحية ذات مغزى مخيف وقد توهجت نظراته:
, -أيوه، ما هو إنتي يا هانم يا محترمة منورة السويت بتاعي.
,
, كاد قلبها يقتلع من بين ضلوعها بعد أن فهمت ما يرمي إليه، لم يكن ما حدث عبثًا أو مجرد صدفة، بل مكيدة محكمة التفاصيل، لهثت متسائلة بخوف متزايد:
, -إيه؟
, فسر مقصده قائلاً بتفاخرٍ: -تقدري تفسري بإيه وجودك هنا لأمن الفندق بدون ما يقولوا عليكي إنك واحدة آ..؟
, بتر كلمته الأخيرة ليثير في نفسها الرعب ثم غمز لها متابعًا بانتشاء مغتر: -ما إنتي فاهمة بقى!
,
, الآن اتضحت صورة كاملة بكافة أبعادها، هو دبر لها تلك المكيدة ليوهم الجميع أنها قد جاءت إليه بمحض إرادتها من أجل إقامة علاقة غير شرعية، احتقن وجهها على الأخير واحتدت نظراتها نحوه، رمقته بنظرات نارية لا تنذر بخير صائحة فيه بصوتها المنفعل متعمدة إهانته:
, -إنت واحد (، ).
,
, لم يعبأ بسبها له، بل استمتع برؤيتها كالفأر الذي وقع في المصيدة ويلفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يُقضى عليه، صفق بيده كتعبير عن تباهيه بنفسه قائلاً:
, -لأ يا مزة، أنا أستاذ ورئيس قسم.
,
, عاتبت آسيا نفسها بقسوة لكونها لم تكن سريعة البديهة وبالتالي انطلت عليها الخدعة جيدًا، كان عليها التصرف قبل أن يصل إليها ويطالها يديه، بات الركض والهروب من المكان هو الخيار الوحيدة المتاح، وكأنه قرأ أفكارها فحصارها بجسده مضيقًا المساحات عليها، سألها باستمتاع مخيف:
, -رايحة فين؟ احنا لسه مبدأناش
, شعرت بأن شجاعتها قد فرت منها، بأنها في مأزق حقيقي لن ينجيه منها أي أحد، ادعت الصلابة أمامه صارخة فيه بتهديد:.
,
, -ابعد عني أحسنلك بدل ما أوديك في داهية!
, التوى ثغره بابتسامة مستخفة بها قبل أن يرد مستهترًا: -ليه كده بس؟ ده احنا لسه بنتعرف على بعض!
, انهالت عليه بوابل من السباب اللاذع لكنه قابله بالضحك المستهزئ بها مرددًا: -قولي قاموس الشتايم كله ميفرقش معايا، المهم إنك في حضني!
,
, وفجأة اندفع نحوها قاصدًا الإمساك بها، فلتت منه بأعجوبة وركضت مبتعدة عنه لكنه أمسك بها من ذراعها ثم جذبها نحوه ولف ذراعه الآخر حول خصرها لتقع أسيرة أحضانه، ضربته في صدره بكل ما أوتيت من قوة بقبضتيها وعمدت إلى إصابة وجهه بالخدوش بأظافرها صارخة فيه:
, -ابعد عني يا..
, -لالالا، ليه الغلط يا آسيا؟
, قاومته مستخدمة أقصى طاقاتها لتتحرر منه وهي تصرخ بهلعٍ: -حيوان، جبان.
,
, لم يجد صعوبة في حملها من خصرها نحو الفراش، ألقاها عليه فاستجمت نفسها لتهرب منه، قبض عليها من قدمها وجذبها نحوه لكنها ركلته بعنف في وجهه محدثة إصابة جسيمة في أنفه، رأى سامر خيط الدماء ينزف من أنفه فسبها بغيظٍ:
, -آه يا بنت ال..
,
, تلفتت آسيا حولها بنظرات سريعة باحثة عما يمكن أن تستخدمه للدفاع عن نفسها، وقعت أعينها على المزهرية الصغيرة الموضوعة على الكومود، زحفت على الفراش لتصل إليها، التقطتها بيدها ثم استدارت نحوه لتضرب مقدمة رأسه بها، شتمها من جديد، ثم لكمها أسفل فكها مسببًا لها ألمًا عنيفًا، صرخت مستغيثة لكنه أسكتها بلكمة أخرى أشد قوة أفقدتها الوعي على الفور، تراجع عنها ماسحًا الدماء النازفة منه، تنفس بعمق ليضبط أنفاسه اللاهثة هامسًا لنفسه:.
,
, -إيه ده!
, مرر سامر يده بين خصلات شعره رامقًا جسدها المسجى أمامه بنظرات طويلة متفحصة كل جزء فيها باشتهاء ورغبة، كان عليه أن يتحكم في نفسه ليكمل باقي مخططه الدنيء في تدمير سمعتها، ولج إلى داخل المرحاض ليلقي نظرة أكثر دقة على جروحه، ثم بدل ثيابه وهاتف أحد الأشخاص آمرًا إياه:
, -تعلالي حالاً!
,
, تم ترتيب الجناح لتبدو آسيا كما لو جاءت إلى هنا برغبتها الكاملة طامعة في قضاء ليلة ماجنة، خرج سامر من المكان تاركًا أحد أعوانه معها ممن سينفذ الجزء الآخر من خطته، استخدم الأخير عطرًا ذو رائحة نفاذة بالقرب من أنفها بعد أن رفع رأسها إليه، تأوهت آسيا بأنين خفيض وهي تستعيد وعيها تدريجيًا، فقط لحظات بسيطة وأفاقت كليًا، لكنها لم تكن صافية الذهن، شعرت بملمس غريب على كتفيها وبأنها في أحضان شخص ما، تطلعت إليه بنظرات مشوشة وهي تسأله بصوتها الثقيل:.
,
, -إنت مين؟
, لم يجبها الرجل بل ظل يبتسم لها بسخافة متعمدًا ضمها إليه، حاولت أن تخلص نفسها من ذراعيه ومن صدره الملتصق بها، لكن لم تسعفها قواها الخائرة، وفجأة استمع كلاهما إلى صوت دقات قوية على باب الجناح، تركها الرجل الغريب لينهض من على الفراش متجهًا نحوه، فتحه وادعى اندهاشه من وجود هؤلاء الغرباء الذين اقتحموا المكان عنوة، سألهم بتوتر مصطنع:
, -إنتو مين؟ أنا معرفهاش، هي اللي جت معايا برضاها!
,
, دققت آسيا أنظارها في أوجه الرجال الذين حاصروها، استشعرت وجود خطب ما، لم يكن عقلها في كامل وعيه ليفسر ما يحدث من حولها، التفتت برأسها نحو أحد الأشخاص حينما صاح آمرًا:
, -هاتوها!
, وفجأة انقض عليها اثنان من الرجال الأشداء جذباها من ذراعيها بقسوة، ترنحت وهي تسير مجبرة معهما، سألتهما بوهنٍ:
, -هو في إيه؟ إنتو ماسكني ليه؟
,
, نظر لها الرجل شزرًا وباشمئزاز ثم رد قائلاً: -يالا يا بت، الشويتين دول مش هايخشوا علينا، خدوها على البوكس
, بدأت تفسر الأمر، وضحت الصورة تمامًا في ذهنها، هي في قبضة رجال الشرطة بتهمة شرف لم ترتكبها، ويتم اقتيادها للمخفر كأي فتاة ليل عابثة قبض عليها بالفعل الفاضح، صرخت وهي تتلوى بجسدها:
, -أنا معملتش حاجة، إنتو فاهمين غلط، سامر هو اللي..
, قاطعها الضابط هادرًا: -ماتكلميش يا، ، على البوكس يالا!
,
, بدت مقاومتها معدومة أمام سحبهم لها، توسلتهم ببكاء مقهور: -صدقوني، أنا مظلومة، هما في الفندق ضحكوا عليا!
,
, كانت الصدمة الأخرى هو رؤيتها لعدد من المصورين بالرواق، حاصروها بعدسات كاميراتهم والفلاشات المتلاحقة كإشارة لالتقاطهم صورًا كثيرة لها وكأنهم وحوش ضارية تفترس فريسة سقطت لتوها في عرينهم، حتمًا ستغدو فضيحتها الملفقة حديث الجميع، ولن يصدقها أحد مهما حاولت الدفاع عن نفسها وإثبات العكس، والأفظع من ذلك كله أنها باتت فعليًا ساقطة في نظر والدتها، وكذلك خصمها معتصم الذي سيذيقها معاناة لن تنتهي أبدًا، فالفرصة قد جاءته على طبق من ذهب..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم
٢٠

لاحقتها عدسات المصورين مقتحمين خصوصيتها بكل بجاحة وجرأة، بدت أسئلتهم كالخناجر المسمومة تطعن في شرفها وتغتال أكثر من روحها، لم تجب آسيا عليهم بل انساقت مع أذرع رجال الشرطة التي تجذبها بشراسة نحو السيارة الشرطية لتجلس في الخلف كمعتادي الإجرام، ارتعشت لأكثر من مرة وهي تتجه نحو المجهول، لا تعرف ما الذي حدث لتنقلب حياتها فجأة رأسًا على عقب، توقفت السيارة أمام المخفر، وترجلت منها وهي مقيدة بالأصفاد، أصيبت بحالة من الذهول الصادم وهي تسير كالمغيبة وسط حفنة من المجرمين والخارجين عن القانون عبر أروقة قسم الشرطة لتترك بإهمال عند الزاوية القريبة من غرفة الضابط المسئول عن أخذ أقوالها.
,
, لم تجد آسيا ما تجلس عليه، وقدماها كانتا كالهلام لا تستطيعان حملها، لذا استندت بجسدها المرتجف على الحائط البارد مما ضاعف من رعشتها، زاغت أبصارها وهي تتأمل الوجوه المتجهمة المحدقة بها بوقاحة، تمنت لو انشقت الأرض وابتلعتها فورًا لتهرب من نظراتهم الشهوانية الطامعة فيها، حاولت أن تخبئ جسدها بيديها، لكن ماذا ستخفي وهي ترتدي الكاشف له؟ للحظة شعرت أنها تخوض تجربة تناستها عمدًا من الماضي البعيد، انفصلت عمن حولها لا إراديًا لتعود بالذاكرة إلى الوراء حيث كانت في سن المراهقة، تركها والدها بمفردها في المنزل كعادته دون أن يخبرها بمجيء أحد رفاقه في لعب القمار لزيارته، تفاجأت آسيا بذلك الضيف الغريب ورحبت به على استحياء قائلة:.
,
, -بابا مش موجود دلوقتي
, رمقها الرجل بنظرات متفحصة لثيابها المنزلية التي كانت منحصرة في سروال قصير وكنزة صيفية ذات حملات رفيعة أظهرت جمالها الطبيعي، تأثر بسحرها المغري فوضع يده بجرأة على وجنتها يتلمسها بطريقة مريبة وهو يلج لصالة المنزل مرددًا باستظراف:
, -هو قالي استناه، عن إذنك شوية يا قمر!
, انتفضت من لمسته الجريئة على بشرتها وردت عليه بوجوم وقد زادت ملامحها عبوسًا: -إنت ممكن تجيله وقت تاني.
,
, تجاهل جملتها الأخيرة عن عمد سامحًا لنفسه بالدخول، التفت ناحيتها متابعًا بسماجة:
, -وأسيب قعدتك الحلوة دي يا حلوة؟
, نظرت له بازدراء لكنه أكمل ببرود: -ممكن كوباية مياه، أصل أنا ريقي ناشف، ناشف أوي!
,
, بدت طريقته في الحديث غير مريحة على الإطلاق، لم تترك العنان لخيالها ليفسر الأمور من منظور آخر، استدارت متجهة نحو المطبخ لتحضر له كوب الماء الذي طلبه، تسلل ورائها قاصدًا احتضانها من الخلف وتلمس جسدها، شهقت مصدومة من فعلته الجريئة وانتفضت بكامل جسدها مصعوقة من تجاوزه المشين معها، دفعته آسيا بعنف للخلف صائحة فيه بحدة:
, -إنت بتعمل إيه؟
,
, رد عليها الرجل وهو يندفع من جديد نحوها ليحتضنها: -أنا مهووس بيكي يا آسيا
, تفاجأت به يحاوطها بذراعيه ليضمها عنوة إلى صدره، لكزته بقبضتيها صارخة فيه: -إبعد عني يا متخلف
, رد بصوت أقرب للهاث وهو يدنو بوجهه نحو شفتيها: -أنا هاتجنن عليكي، إنتي مافيش واحدة زيك في جمالك ده!
, ضربته بيدٍ وبالأخرى حاولت إبعاد وجهه المقزز عنها، ثم صرخت عاليًا: -حد يلحقني!
,
, رد عليها بثقة وقد بدا في غير وعيه: -مش هاتعرفي تهربي مني، أنا بأحبك!
,
, ثم حاول تقبيلها رغمًا عنها وتلمس ما تطاله يديه من جسدها وهو يجذبها إليه، وجدت آسيا صعوبة في منعه من استباحة ما ليس له، كانت مقاومتها محدودة أمام قوته الذكورية المفرطة والتي تضاعفت بسبب نزوته الشهوانية، تعذر عليها طلب المساعدة، تلفتت حولها محاولة إيجاد ما يمكن أن يسعفها في وضعها الحرج، وقعت أنظارها على زجاجة المياه الموضوعة على الطاولة الجانبية في زاوية المطبخ فجرته إلى هناك لتتمكن من الوصول إليها، مدت يدها لتمسك بها ثم انهالت بها على رأسه تضربه بكل عنف، صرخ الرجل متألمًا وهو يتركها مجبرًا، تراجعت آسيا للخلف لتحتمي من شره، نظر لها الرجل والشرر يتطاير من عينيه، صاح بها بغضبٍ:.
,
, -إيه اللي عملتيه ده.
,
, تلمس بيده مؤخرة رأسه ليرى خيوط الدماء تندفع منها، استغلت آسيا لحظة التهائه واقتربت منه مجددًا لتنهال بالزجاجة على رأسه بكل قوة مسببة له جرحًا عميقًا في مقدمة رأسه جعله يترنح ويفقد اتزانه، ضربة ثالثة تلقاها فخر ساقطًا على الأرضية الصلبة وغارقًا في دمائه، ارتعشت آسيا من هول المنظر وتراجعت مبتعدة عنه وهي توشك على الانهيار من صدمتها لما أقدمت على فعله، لكنها كانت في حالة دفاع عن نفسها.
,
, في تلك الأثناء، عاد والدها من الخارج وهو يدندن بسعادة، تفاجأ برفيقه طريح الأرض فانتابته الخوف الشديد، حدق في ابنته مذهولاً وهو يسألها بفزعٍ:
, -إيه اللي حصل هنا
, أجابته آسيا بنبرتها المهتزة وهي ترتجف كليًا: -الراجل ده. حاول ي، يتهجم عليا.
,
, جثا شرف الدين على ركبتيه محاولاً التأكد من بقاء صديقه على قيد الحياة، انحبست أنفاسه لمجرد تخيل أنه سيموت هنا، تنفس الصعداء وقد سمع نبضات قلبه وتأوهاته المتألمة، تأكد أنه لا يزال بخير، فتح الرجل عينيه هامسًا بوهنٍ:
, -بنتك يا شرف. كانت، هتموتني!
, رد عليه بخوفٍ: -حقك عليا.
,
, فغرت آسيا شفتيها مدهوشة من رده عليه شاخصة أبصارها بذهول، وما زاد من صدمتها هو اعتذاره له، حاول شرف الدين أن يفكر في حل سريع لتلك المشكلة التي ربما ستودي به في السجن إن عرفت الشرطة الطريق إليه، كان عليه التضحية بسمعة ابنته ورفض تصديق أن رفيقه حاول استمالة ابنته والاعتداء عليها، فالأخير لديه صلات قوية بمعارف في السلك الشرطي، وهو ليس إلا مغترب قد جاء للإقامة هنا، استند على يديه لينهض ثم اتجه إلى ابنته ليعنفها صائحًا بقسوة:.
,
, -عملتي فيه إيه؟
, -أنا..
, قبض على كتفيها يهزها بعنف صارخًا فيها: -فكرك أنا معايا فلوس علشان أدفع تمن محامي حتى لو هو اشتكى عليكي هنا؟
, اغرورقت حدقتاها بالعبرات وهي تبرر تصرفها: -ده هو كان..
,
, لم يمنحها فرصة الدفاع عن نفسها بل هوى على وجنتيها بصفعات عنيفة جعلتها في حالة شلل واضحة، بدت آسيا كالصنم وهي تتلقى صفعاته الشرسة، قسا عليها أيضًا بكلماته المهينة لكرامتها معاتبًا تصرفها الأرعن مع رفيقه المحترم، لم تشعر إلا بالألم والقهر، فوالدها لم يصدقها وانحاز مع ذلك الوقح ضدها، بالغ في ردة فعله معها ليبدو مقنعًا أمام صديقه، وبالتالي يتخلى الأخير عن حقه في الشكوى فينأى بنفسه عن المساءلة القانونية، خاصة أنه كان يدير أعمالاً غير مشروعة كتنظيم حفلاتٍ للقمار، ما لم يضعه في عين الاعتبار أنه أضاع ابنته في تلك الليلة بتصرفه وجعلها تتقين من داخلها أنها وحدها بلا مدافع حقيقي عنها، تركها محطمة من الداخل قبل الخارج، أجبرها على الاندفاع نحو طريق سريع للثراء لم ترغب في السير فيه يومًا لتحقق شهرة زائفة تملأ الخواء الموجود فيها حتى لو كلفها نفسها، آمنت بأنها مهما فعلت لتدافع عن شخصها لن تجني شيئًا، فالجميع سيصدقون ما يريدون فقط حتى لو كان على حساب روحها، والأموال وحدها هي التي ستحميها وتؤمن لها الضمان الكامل من تهور أصحاب النفوس المريضة، خاصة إن ظنوا أنها فتاة محاطة بالشائعات الغير جيدة، لن يرغبوا في الاقتراب منها، لكنها كانت مخطئة، اعتقدوا أنها في متناول الرجال، فريسة سهلة لمن يدفع أكثر، فلم تحصد من ذلك الطريق سوى الفضائح والأطماع الذكورية الراغبة في استباحة جسدها.
,
, على الجانب الآخر، قاد معتصم سيارته كالمجنون نحو مخفر الشرطة بعد أن أبلغه محاميه الخاص بمكان تواجدها، بالطبع فقد أعصابه وثارت ثائرته مع انتشار أخبارها الفاضحة على كافة المواقع الإخبارية والاجتماعية، لم يتصور أن ترتكب فعلاً مشينًا كهذا وتدنس سمعتها بتلك الطريقة الكارثية التي يصعب نسيانها حتى لو مرت عشرات السنون، ناهيك عن التلميحات المسيئة التي يمكن أن تطال عائلته إن تم كشف الصلة بينهما، رافقه نبيل بعد أن رأى حالة الهياج التي تملكته في مكتبه، وحاول قدر المستطاع تهدئته لكنه فشل، لذا أثر الذهاب معه ليضمن عدم تهوره.
,
, صف معتصم سيارته بجوار المخفر ثم ترجل منها متجهًا بخطوات أقرب للركض نحو الداخل، أرشده أحد العساكر إلى مكانها بعد أن سأل عنها، ترك لمحاميه مهمة البحث عن الثغرات القانونية التي يمكن أن تخرجها من ذلك الوضع الحرج بأقل الخسائر، استدار نحو رواق جانبي إضاءته منخفضة وجدرانه رمادية كئيبة تبعث على النفس الانقباض، ضاقت نظراته باحثًا عنها، وجدها تقف عند الزاوية في حالة شحوب مريبة، حدجها بنظرات مزدرية كارهة لكل ما يتعلق بها، ودَّ لو كان باستطاعته الانقضاض عليها وخنقها من عنقها ليريح العالم بأسره من وجودها الشيطاني الذي يفسد صفو حياته وحياة أسرته، لم تره آسيا ولم تشعر بوجوده، فقط إحساس البرودة القارصة سيطر عليها وجعل شعيراتها ترتجف، رفعت رأسها للأعلى لتجده أمامها بوجهه المتشنج ونظراته المظلمة، لوهلة ظنت أنه قد جاء لنجدتها، حركت شفتيها لتهمس بشيء ما معتقدة أنه سيكون في صفها، لكنه جمد الكلمات على طرف لسانها بصفعه لها بقسوة وبقوة مباغتة، نظرت له مصدومة عاجزة عن النطق، رمقها بنظرة احتقارية جلية قائلاً لها:.
,
, -مشوفتش أقذر منك!
,
, تلك المرة اغرورقت أعينها الفيروزية بعبرات المظلوم الذي تكالب الجميع ضده وأصدروا الحكم عليه، لم تكن بحاجة للدفاع عن نفسها وإثبات براءتها أكثر من حاجتها لمن يدعمها ويشعرها أنه إلى جوارها، بكت في صمت وهي تنظر له بعتاب مقهور، لم يفهم معتصم نظراتها، بل ظل يرمقها بكره كبير، حتى أنه بات ناقمًا على النفس الذي يجمعهما سويًا، قبض على ذراعها معتصرًا إياه بشراسة، مال نحوها ليهمس لها من بين أسنانه المضغوطة:.
,
, -هدفعك تمن ده بس لما نخرج من هنا..!
 
  • عجبني
التفاعلات: pop44 و غريب عن العالم

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%