NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الطاووس الأبيض | السلسلة الثالثة | ـ ستة وأربعون جزء 3/11/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,856
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
15,658
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
➤السابقة



١

أخطأت حين هاتفت ابنتها، لتعلمها وسط نوبة بكائها المُقطعة لنياط القلوب، بما آَلم بشقيقها الوحيد، حينها صرخت منادية باسمه، أنهت الاتصال بعد إلمامها بالتفاصيل البسيطة، لتذهب ركضًا إليه، وقلبها يدعو **** بتضرعٍ كبير ألا يضرها فيه. لم تعرف "هاجر" كيف ارتدت ثيابها، وكيف حملت رضيعها على ذراعها، بالكادِ صمدت وهي تهرول بها بها نحو أقرب سيارة أجرة، لتقلها للمشفى الراقد فيه "تميم". عجزت عن الوصول إلى زوجها، فهاتفه مغلق منذ ليلة الأمس؛ وكأن وجوده أصبح والعدم سواء، تحرك فكها ليتساءل تلقائيًا:
, -فينك يا "محرز"؟
,
, لم تلك في حالة صفاءِ ذهنٍ لتفكر في أمره، شاغلها الأكبر حاليًا بلوغ المشفى في أقصى سرعة. وما إن ولجت للاستقبال، حتى أسرعت نحو إحدى الموظفات تستعلم منها عن مكانه، أرشدتها إحدى الممرضات إلى مكان انتظار عائلات المرضى، وهناك لمحت والدتها الباكية تنتحب على أحد المقاعد المعدنية، خطت في اتجاهها، وصراخها الموجوع يقطع السكون المشحون بالأحزان، والسائد في الأرجاء:
, -أخويا جراله إيه يامه؟
, كلمة واحدة أجابتها بها "ونيسة" بصوتٍ اختلط ببكائها الحارق، وجعل قلبها ينقبض أكثر:
, -ادعيله.
,
, تعبيرات والدتها المكلومة، نهنهاتها المخيفة، وعيناها المنتفختان أكدت لها أن الجلل عظيم، كادت "هاجر" تُسقط رضيعها من ذراعها المرتخي، لولا إسراع "سراج" الذي كان لا يزال متواجدًا لالتقاطه منها، قبل أن يرتطم جسده الضئيل بالأرضية القاسية، وتزداد حسرة العائلة بفاجعة جديدة، نبهها وسط سرعة ردة فعله:
, -خدي بالك!
,
, وكأنه يُحادث الفراغ، لم تكن "هاجر" في وعيها، انتابتها نوبة من الصراخ المصحوب بالعويل واللطم، شعورها بالذنب نحوه كان عظيمًا، لكونها كانت على خلافٍ كبير معه، ظنت أنه على وشك مفارقة الحياة، وهو لم يُغضبها يومًا، لم يحمل قلبه نحوها أدنى ضغينة؛ وإن قست عليه كثيرًا، زادت حدة صرخاتها، فنهاها والدها عن ذلك بلهجته الصرامة:
, -مش عايز ندب هنا! أخوكي لسه مامتش عشان تعددي عليه.
,
, وضعت يدها على فمها تكتم شهقاتها التي تقاتل للخروج، بينما تابع "بدير" أوامره:
, -مش عايز أسمع حِس حد فيكم، مفهوم؟
, تخلل صوته ألمًا واضحًا عندما أكمل بإجهادٍ ظاهر عليه:
, -ابني بين إيدين **** دلوقتي، مقدمناش حاجة نعملها غير ندعيله **** ينجيه.
,
, انهارت "هاجر" جالسة على المقعد إلى جوار والدتها، ووقف "سراج" في مكانه ينظر بحيرةٍ للأم تارةً، ولرضيعها الذي ما زال بين ذراعيه تارة أخرى، في النهاية حسم أمره بإبقائه معه ريثما تتمالك والدته نفسها، وبدأ في هدهدته بتؤدةٍ وحنو، حتى استكان في أحضانه، وغفا بعمقٍ لنومٍ لن ينعم به من حوله لوقتٍ طويل.
,
, قناع البرود الذي لطالما لازمه، سقط لتوه مع تهديدات "محرز" له، بإحراق الأرض ومن عليها، إن لم يتدخل بشكلٍ حاسم لإنقاذه، فالأخير لم يتوقف عن الاتصــال به طوال الساعات الماضية، من أجل الضغط عليه، لتخليصه من الكارثة التي زج بنفسه بها. استقر "آسر" في سيارته، وقادها بعيدًا عن الحي السكني القاطن به، عاود الاتصـال به، وعرف منه تفاصيل رعونته المهلكة، فهاج يعنفه بكل ما فيه من غضبٍ وحنق:
, -هو أنا قولتلك اتصرف كده يا غبي؟ إنت ما بتفهمش؟!
,
, رد "محرز" بسماجةٍ:
, -أهوو اللي حصل.
, سأله بحدةٍ، ويده الأخرى تقبض على المقود:
, -والمطلوب مني إيه دلوقتي؟
, أجابه ببرود مستفز للغاية؛ وكأن جريمته سهل التعامل معها:
, -تساعدني أطلع من القرف ده.
, بعصبيةٍ زادت في نبرته، علق عليه "آسر":
, -يعني إنت تُعك الدنيا، وأنا أنضف وراك؟
,
, أخبره بلهجةٍ لم تكن مازحة أبدًا، ومالت للتهديد أكثر:
, -ماتنساش إني راجلك، ولو وقعت مش هاقع لوحدي.
, توقف عن القيادة، وصف سيارته على جانب الطريق، ثم سأله مباشرة بعد أن فهم تلميحه الضمني:
, -ده تهديد يا "محرز"؟٣ علامة التعجب
, ببساطة رد قائلاً بنوعٍ من التحذير:
, -لأ مش تهديد، بس بأرسيك على الليلة هتمشي إزاي.
,
, للحظات سكت "آسر" عن الكلام ليفكر مليًا في كارثته غير المتوقعة، وقبل أن يزعجه "محرز" بصوته السمج أمره:
, -طيب إدارى في أي حتة، لحد ما أشوف هاعمل إيه.
, على مضضٍ قال بإيجازٍ:
, -ماشي.
, شدد عليه "آسر" بصوته الذي تحول للقتامة:
, -ومتكلمنيش، أنا اللي هاطلبك.
,
, عقب عليه بتحذيرٍ واضح، بعد زفيرٍ ثقيل:
, -طيب، بس ماتغيبش عليا، لأحسن الشيطان شاطر، وجايز يوزني أعمل حاجات متعجبكش!
, لعنه "آسر" في سره، وأنهى معه المكالمة، ليشرد بعدها لبرهةٍ، محاولاً التفكير بعمقٍ في كيفية إيجاد حلٍ يزيح تلك المصائب عن كاهليه.
,
, توقف محرك سيارته عن العمل، بعد قيادة استغرقت ما يقرب من الثلث ساعة، في الجراج الخارجي الواسع، والمخصص لخدمة المباني المتواجدة في هذه المنطقة الراقية، والخاصة بإدارة المؤسسات الاستثمارية والتجارية العملاقة، كانت الأجواء هادئة من حوله، حركة المارة والسير شبه محدودة، بسبب انقضاء أوقات العمل الرسمية قبل وقتٍ طويل٣ نقطة،
,
, نظرة عابرة ألقاها على الواجهة الزجاجية لهذا المبنى الشاهق، بعد أن ترجل من سيارته، وعبر المسافة المتبقية متجهًا إليه. واصل "آسر" تقدمه نحو مدخله الفخم، وجهته كانت معروفة دون الحاجة للسؤال، لذا ظهر التردد والارتباك بقوة على قسماته، مهما حاول إخفاء ذلك، ولج لداخل المصعد، وضغط على زر الطابق العشرين بيدٍ ترتعش قليلاً، حتمًا لن يرضى رؤسائه عن الزلات المتكررة والمرتبطة به في هذه الفترة القصيرة، بالكاد نجا بأعجوبةٍ من قضية التهريب، وتكرار مثل تلك الأخطاء الجسيمة غير مقبولٍ في عالمهم! فماذا عن إخبارهم بأنه بات في موضع تهديد؟ لن يسمحوا بهذا مُطلقًا!
,
, توقف المصعد عند الطابق المنشود، فخرج منه "آسر"، ليجد الحراسة الأمنية تحتل الردهة الطويلة، اقترب منه أحدهم بعد أن أشار له بالتوقف، قام بتفتيشه جيدًا، قبل السماح له بالمرور، وهو يخبره بلهجةٍ رسمية بحتة:
, -الرئيس في انتظارك.
,
, اكتفى بهز رأسه، راسمًا على شفتيه ابتسامة مصطنعة، حاول أن يخفي بها توتره المتصاعد بداخله، شعر بجفافٍ شديد يجتاح حلقه، ويزيد من شعوره بمرارة العلقم فيه، بلع ريقه غير الموجود، حين وقف أمام أحد الأبواب المغلقة، كور قبضة يده، ورفعها ليدق عليه بخفةٍ، منتظرًا السماح له بالدخول. حاول أثناء ذلك استدعاء شجاعة فارة منه، قبيل مواجهته المصيرية. بأعصابٍ مشدودة على الأخير، ســار "آسر" بساقين مهزوزتين نحو المكتب الخشبي الضخم، والذي يحتل منتصف الغرفة، ومن خلف حائط زجاجي حابس للأنفاس، حيث يمكن للمتواجد به رؤية معالم المدينة عبره. رفع عينيه بحذرٍ للأعلى، باحثًا عن وجه رئيسه؛ لكن الأخير لم يكن ينظر في اتجاهه، بل كان مديرًا مقعده الوثير ناحية المشهد الخلاف، يتأمله في صمتٍ، تضاعف توتر مرؤوسه من سكوته المريب، وبحرصٍ تنحنح بخفوتٍ ليلفت انتباهه إليه، ثم استطرد قائلاً باللغة الانجليزية:
, -أعتذر عن إزعاجك سيدي.
,
, استدار بمقعده رجل يبدو عليه السلطة والسيطرة، خمسيني العمر، ملامحه لم تكن عربية، وأكد على أجنبية جنسيته، لكنته الانجليزية الواضحة، حين رد عليه متسائلاً:
, -ما الأمر الهام الذي أتى بك الآن؟
,
, بجملٍ قصيرة مرتبة بعناية، أطلعه على المشكلة المهددة في الأفق، متوقعًا أن يثور في وجهه، وربما يوقع عليه بعض العقوبات الشديدة، كنوعٍ من التأديب له لتقصيره، ولسوء اختيار رجاله الأوفياء، بدا وكأن حظه الجيد تخلى عنه، واحتل مكانه طالع السوء، حدجه الرجل بنظراتٍ قاسية، قبل أن ينطق بجمودٍ جعل الخوف يقلص معدته:
, -لم يكن ذلك اتفاقنا.
,
, تلجلج وهو يبرر له:
, -أعلم سيدي؛ ولكن حدثت بعض التطورات في الأيام الأخيرة، أجبرت أحد رجالي على التصرف برعونة.
, هتف الرجل بأسلوبٍ متسائل، وبنبرة شبه حادة:
, -مثل إهدار بضاعة تكلفت ملايين الدولارات؟ من سيعوض التنظيم عن تلك الخسارة الكبيرة؟
, تضاعف اهتزاز صوته وهو يحاول توضيح ملابسات الموقف:
, -للأسف لم يكن ذلك مقصودًا.
, انتظر الأول لبرهةٍ، ثم سأله باقتضابٍ، وتلك النظرة الشريرة تكسو نظراته نحوه:
, -وبعد؟
,
, تعهد له برجفةٍ لم يتمكن من السيطرة عليها في نبرته:
, -سأعمل بكل طاقاتي لـ ٤ نقطة
, قاطعه الرجل بخشونةٍ، ضاربًا بقبضته المضمومة بعنفٍ على سطح مكتبه:
, -لا نريد وعودًا لا تقدر على الإيفاء بها، أريد شيئًا ملموسًا.
, بتوترٍ أكبر قال، وعيناه ترمشان في رهبة:
, -ما أملكه من مالٍ لا يمكن أن يغطي هذه الخسارة.
,
, نظر في عينيه بقساوةٍ، ثم ابتسامة باردة ظهرت على زاوية فمه وهو يرد بلهجته الآمرة:
, -ولكنه البداية، أفرغ ما ادخرته في خزانتك الآن، وحوله على رقم هذا الحساب، ألست من يدير الموقع الإباحي، ويجني أرباحًا منه؟
, صدمه بتحريره المتقصي عن أخبار حساباته البنكية، ولما لا يفعل؟ وتلك المنظمة تدار بإشارةٍ من إصبعه الصغير، حاول أن يعترض على طلبه، فأردف بحذرٍ، منتقيًا كلماته:
, -نعم، لكن دخله محدود، بعد إعطاء الممثلين والمصورين أجورهم، وإن سددت بأموالي الخاصة جزءًا من الخسارة، سأكون معدومًا، لن أستطيع أن أنفق على شخصي، وعلى زوجتي أيضًا، خاصة بوجودنا في هذا البلد الغالي.
,
, بحاجبٍ مرفوع للأعلى، ونبرة ساخرة سأله:
, -هل تزوجت من جديد؟
, لعق شفتيه، ودمدم بنبرة متذبذبة:
, -نعم.. لكنها فقيرة، ليست كالبقية.
, احتد صوت الرجل وهو يعقب عليه، مكررًا ضربه لسطح المكتب:
, -كل مرة تدعي ذلك، ونجد حين ندقق في حسابك ربحًا لا بأس به، قبل أن تحصل تعيسة الحظ على الطلاق منك.
,
, اجتهد لإخفاء حنقه من تتبع تفاصيل حياته الخاصة، وقال بتمهلٍ، آملاً أن يتسبب في غضبه:
, -سيدي، تكاليف المعيشة تقضي على أي مدخرات أنالها من تلك البائسات.
, هتف بصرامةٍ، وقد قست عيناه:
, -ليست مشكلتي، ادفع ثمن غباءك.
, لم يكن أمامه سوى إظهار خنوعه، بجهدٍ أكبر رد على مضضٍ، وهذا العبوس يكسو تقاسيمه:
, -حسنًا.
,
, تهديده كان صريحًا وقاطعًا، عندما أخبره مرة أخرى، بابتسامته الهادئة:
, -صدقني سيد "آسر"، إن لم تصلح خطأك، فلن أضمن لك بقاءك على قيد الحياة.
, انقبض قلبه، وقد بات على يقين كامل بأن قراره غير قابل للمفاوضة، حينها أدرك أن رقبته موضوعة على المحك، إن لم يتخذ الخيار السليم الآن، ويعوض رؤسائه عما كبده لهم من خسائر غير مقصودة.
,
, نال منها الإرهــاق بعد انتظــار طويل، لا تعرف كم امتد؛ لكنه جعل جسدها يسبح في سبات عميق، إلى أن شعرت بأنين شكوى من عظامها التي تيبست من نومها غير المريح، اعتدلت "فيروزة" في جلستها، على الأريكة الوحيدة الموجودة بصــالة منزلها، دعكت عينيها بقبضتين مضمومتين، لتزيح آثار النعاس من عليهما، لم تعتد بعد على فارق التوقيت بين الدولتين، فما بدا لها أنه المساء، كان تقريبًا قد تجاوز منتصف الليل، تحركت من مكانها، وتجولت بتأنٍ في الأرجاء المحدودة المحيطة بها، تأملت عن كثب المزيد من تفاصيل مسكنها، أو ما يطلق عليه مجازا عش الزوجية، وكان بالفعل كذلك، محدودا في كل شيء: مساحته، أثاثه الموجود به، وحتى في أدوات الطهي. تساءلت بصوتٍ متحشرجٍ، وقد تداركت أنها صارت متزوجة، ويشاركها غيرها في حياتها:
, -أومال "آسر" راح كل ده فين؟
,
, اتجهت إلى حقيبة يدها، أخرجت منها هاتفها المحمول، نظرت له بيأسٍ، وهي تعبث به، بدا لها كأنه أداة معدنية، لا فائدة منها، بالطبع لن تستطيع مهاتفة زوجها، بسبب افتقارها لرصيدٍ من العملة المحلية لتلك الدولة، يُمكنها من التواصل معه. تركته من يدها، واتجهت إلى الثلاجة، بعد أن شعرت بالجفاف المحمل بالعلقم يجتاح جوفها، فتحت بابها، وأمعنت النظر في رفوفها الفارغة تقريبًا، تبحث عن زجاجة مياه، لم تجد شيئًا يصلح للشرب، نفخت في سأمٍ، وأغلقت الباب بضيقٍ يكسو ملامحها، ثم دمدمت متسائلة مع نفسها:
, -المفروض أعمل إيه دلوقتي؟
,
, ســارت في اتجاه الشرفة، ووقفت خلف الزجاج، تتأمل السواد الحالك الذي يغطي السماء، أخفضت "فيروزة" عينيها، ونظرت إلى أضواء الشوارع الباهتة، كانت المنطقة من حولها خالية من المارة تقريبًا، وللمرة الثانية تجتاحها أحاسيس الوحدة، البعد، والغربة، ضمت ذراعيها إلى صدرها؛ وكأنها تبحث عن أمانها المفقود، في عزلتها القاسية. لوهلةٍ تسرب إليها مجددًا، شعورها العميق بالندم، على تسرعها في اتخاذ قرارها بشأن الزواج ممن أوهمها بتلهفه اللا محدود عليها. الهالة الساحرة المحاوطة به اختفت، بمجرد أن هبطت على أرض الواقع، وأدركت أن ما أخبرها به مجرد أحاديث واهية؛ ظاهرها مُخادع، وباطنها الكذب.
,
, اعتبر نفسه سيد اللعبة الآن، بعد أن تغيرت مجريات الأمور، وأصبح في موقف المُهدد، عــاد "محرز" إلى مخبئه، متخفيًا عن الأعين، أغلق الباب من خلفه، وجلس على الحشايا التي تفترش الأرضية القاسية، يفكر مليًا في الخيارات المتاحة أمامه، بعد تضييق الخناق عليه، وقد كانت محدودة، تُعد على أصابع اليد الواحدة. اعتصر عقله اعتصــارًا، ليخرج بخطة طوارئ، تنجيه عند اللزوم، خاصة مع عدم ثقته في جدية "آسر" في تنفيذ وعوده، فاليوم أعطاه إشارة مبطنة بأنه ربما سيتخلى عنه، إن طال الخطر عنقه. طرد الهواء المعبأ بدخان سيجارته من رئتيه، وأخبر نفسه بتعهدٍ:
, -هتردم على دماغ الكل لو ضيعت فيها.
,
, انقلبت شفتاه عن تنمرٍ صريح، وهو يكمل:
, -مش دي أخرتها بعد خدمة الغُرب، اتسجن وهما يعيشوا في النعيم والنغنغة.
, احتقنت نظراته بمزيدٍ من الوعود المهلكة، لن يسمح لنفسه أبدًا بأن يكون كبش الفداء، وانتظر على أحرٍ من الجمر الخبر اليقين من "آسر".
,
, من الجيد أن هاتفها المحمول، خلال تجربة غير مقصودة منها، لتشغيل خدمة (الواي فاي)، قد التقط إشارة بثية، متاحة للجميع، جعلته ينبض بالحياة، وكذلك قلبها المشتاق، تهللت تعابير "فيروزة" الحزينة، حين دلت الإشعارات المتعاقبة التي يستقبلها على استجابته، وأيضًا جودة وقوة الإشارة، لتمكنها من التواصل مع أحبابها. جال بخاطرها، أن تهاتف شقيقتها باستخدام خدمة الإنترنت، لتطمئن منها على أحوال والدتها، وبغض النظر عن اختلاف التوقيت، أجرت الاتصــال، وانتظرت بفارغ الصبر ردها عليها، وما إن سمعت صوتها حتى هتفت تناديها، بكل اشتياق الدنيا ولهفتها:
, -"همسة"، وحشتيني أوي.
,
, وعلى عكس ما توقعت، من لهفة مماثلة، وجدت صوتها يعكس حزنًا ثقيلاً وهي ترد ببطءٍ؛ وكأنها تجد صعوبة في الكلام:
, -وإنتي كمان.
, سألتها في تعجلٍ، ودقات قلبها تتصاعد في صدرها:
, -إنتي عاملة إيه؟ وإزي ماما؟ كلكم كويسين؟
, جاءها صوتها بطيئًا ومهمومًا:
, -احنا كويسين.
, لامست رنة الحزن الكثيفة في نبرتها، فألحت عليها بسؤالها:
, -"همسة" قوليلي، هو حصل حاجة؟ صوتك متغير، وأنا حاسة بده.
,
, صمتت توأمتها للحظةٍ قبل أن تجيبها بترددٍ:
, -أنا مش عايزة أقولك عشان متزعليش٣ نقطة
, سكوتها عن الكلام ضاعف من انتفاضة قلبها الملتاع، وبصوتٍ شبه لاهث، مليء بالجزع، سألتها "فيروزة":
, -ماما جرالها حاجة؟
, حبست أنفاسها، منتظرة ردها المحمل بالأخبار غير السارة؛ لكن توأمتها خيبت توقعاتها السيئة بشأن والدتها، بقولها الهادئ:
, -لأ، هي الحمد**** بخير.
,
, عادت لتتنفس الصعداء بشكلٍ طبيعي، كما تخلل تعبيراتها القليل من الارتياح، فأرتخت كثيرًا عن الأول؛ لكن ما لبث أن بدأ القلق يغزو عقلها، مع صمتها المتكرر، لذا بلعت ريقها بصعوبةٍ، وتساءلت بحذرٍ:
, -أومال في إيه؟
, سكون مخيف ساد بينهما لثوانٍ، إلى أن جاوبتها "همسة"، بغصةٍ خانقة غطت على صوتها:
, -دكان المعلم "تميم" اتحرق، وهو فيه.
,
, موجة كاسحة من المشاعر المرعوبة، الخائفة، والمصدومة جرفت روحها المنهكة دفعة واحدة، لمجرد سماعها بالفاجعة الأليمة، أحست "فيروزة" بقلبها يهوي بين قدميها بارتياعٍ عظيم، لم تشعر به من قبل تجاهه. تلقائيًا تجسدت نصب عينيها مشاهد الحريق القديمة، بكل ما فيها من أوجاع مهلكة، وأحزان ثقيلة، ذكريات أبت ألا تتركها حتى في غربتها الموحشة، تحرك فكها لينطق بلهاثٍ، وكأن صدرها يستجدي الهواء ليتنفس، بعد انقطاعه عن رئتيها:
, -مين؟٣ علامة التعجب
,
, متألمة، حائرة، وغريبة في بلاد استقبلتها ببرودٍ لم تتأقلم معه بعد، خاضت دون استعدادٍ ما اعتقدت أنه لن يأتي بين عشية وضحاها، كانت المسافات الكبيرة كفيلة بتعزيز تلك المشاعر المهمومة عليها، تجمدت "فيروزة" في مكانها لوقتٍ طويل، عقلها مغيب عما حولها، فقط عيناها الباكيتان شردتا في بقايا الظلام المفترش السماء خارج شرفتها، دمعاتها الحارة تنساب في صمتٍ على وجنتيها، لا تعرف إن كان ذلك حزنًا عليه، أم أسفًا على حالها!
,
, شهقة عاجزة انفلتت من بين شفتيها، لم تمنعها، بل أضافت عليها ثانية، وثالثة، ورابعة. نهجان مؤلم ضرب صدرها بقوة، لم تقاومه، تركته يؤجج من حسرتها عليه، "تميم" بوجهه ذي التعابير الجادة احتل انعكاس الزجاج، ليذكرها بأنه لم يكن كغيره وضيعًا معها، رغم المضايقات، والمشاحنات الحادة بينهما، كان باقيًا على عهد الرجولة، والشهامة، مثالاً حيًّا لما يجب أن يكون عليه الرجل الحقيقي، لم يتخلَ عنها حين دعت الحاجة إلى ذلك، كان رفيقها الداعم، كان المدافع –باستماتةٍ- عنها، صدّق ما كذبه الآخرين، آمن ببراءتها؛ وإن كانت بلا دليل. قهرة أشد حرقة اعتصرت قلبها، أشعرتها بأن جدران بيتها الجديد تُطبق على أنفاسها، وهي تردد في صدمةٍ لم تستفق منها بعد:
, -اشمعنى هو؟!
,
, أحست بعجزها عن التنفس، لذا فتحت نافذة الشرفة، واندفعت للخارج، تلتقط من الهواء الجاف، ما يهدئ من الآلام النابضة بداخلها؛ لكنه لم يكن كافيًا لفعل هذا، تكالبت الأحزان الثقيلة عليها؛ وكأنها أبرمت اتفاقًا بزيارتها مبكرًا، لكسر بقايا روحها المستنزفة، بكت بنحيبٍ، وانخرطت في نوبة أشد، خشيت أنها كانت لأجله، خاصة حين رجت المولى باستجداءٍ نابع من القلب:
, -يا رب نجيه!
,
, أرادت بشدة أن يلتئم شرخها غير المرئي، على لمساتٍ حنونٍ تطيب جراحها، كانت أبسط أحلامها، وسط تلك العتمة المتسربة إليها، أن تحتوي أحضانه ما اعتراها من همومٍ مؤذية للروح، أن يكون السُكنى لوجعها غير المفهوم؛ لكن أمنيتها الضئيلة بقيت حبيسة فؤادها. بقلبٍ متألم، وعينين تخنقان عبراتها، انتظرت "فيروزة" بيأسٍ قدوم "آسر" بعد مرور ليلة طويلة موحشة عليها، تقاسي بشدة من الجفاء، والوحدة، انتظرته حتى شق النهار خيوطه، حينها فقط سمعت صوت المفتاح يُدار في قفله لينفتح الباب، رأته يطل عليها من فتحته المواربة، بملامح متجهمة، اقتربت منه، وسألته في قلقٍ يشوبه الضيق:
, -كنت فين كل ده يا "آسر"؟
,
, صاح بها بفظاظةٍ لم تتوقعها منه؛ وكأنها وسيلته المتاحة، للتنفيس عن غيطه المتراكم بداخله:
, -وإنتي مالك؟ هتعملي معايا تحقيق؟
, أدهشها رده الصادم، والذي بدا بعيدًا كل البعد عن الردود المحتملة منه، كان على النقيض من تلك الشخصية اللبقة، التي تنتقي عباراتها بدقة، تجاوزت عن إساءته الواضحة، لكونها مستنزفة عاطفيًا، وعقليًا، تنفست بعمقٍ، وضبطت بجهدٍ أعصابه، لتخاطبه بعدها بهدوءٍ:
, -أنا كنت عايزة أطمن عليك، إنت كنت قايلي هاتجيب حاجة من تحت وطالع.
, لم يرغب "آسر" في إفساد ما تبقى من يومه المشحون، لانت تعابيره المكفهرة، وحاول الابتسام معتذرًا منها:
, -أسف يا حبيبتي٣ نقطة
,
, تقدم نحوها، وانحنى برأسه على وجنتها ليطبع قبلة عادية عليه، لم تشعر بتأثيرها الحسي عليها، بدت فاترة، غير مليئة بمشاعرٍ دافئة تحتاج إليها بشدة، تراجع عنها، ووضع راحتيه على جانبي ذراعيها يمسدهما ببطءٍ، أسبل عينيه نحوها، وادعى كذبًا كعادته:
, -بس حصل مشكلة كبيرة في الشغل، وكان لازم أحلها على طول.
, رددت في دهشةٍ، وقد تقطب جبينها:
, -بالليل كده؟
,
, هز كتفيه مواصلاً كذبه المرتب:
, -دي طبيعة شغلي هنا، مقدرش أقول لموكليني لأ.
, لم تتشكك في أمره، وأومأت برأسها قائلة:
, -طيب.
, برزت ابتسامة أخرى، يُمكن وصفها بأنها لطيفة، وهو يستطرد موضحًا:
, -أنا عارف إن النهاردة المفروض تكون دخلتنا، بس آ٣ نقطة
,
, رغبتها في ممارسة أي نوعٍ من التقارب الحميمي معه كان مفقودًا، لذا قاطعته قائلة؛ وكأنها بذلك تُعلمه بتفهمها لما حدث:
, -مافيش مشكلة، أنا أصلاً جاية تعبانة من السفر.
, تحرك "آسر" ليقف بجوارها، ثم لف ذراعه حول كتفيها ليضمها إليه، ومسد بأصابعه –صعودًا وهبوطًا- على جانب ذراعها معقبًا عليها:
, -الأيام قدامنا كتير.
,
, تقوست شفتا "فيروزة" قليلاً لتظهر عليهما بسمة رقيقة، وسارت معه في اتجاه غرفة النوم، حيث من المفترض أن يتشاركا الفراش سويًا، وذلك ما لم تكن مستعدة له بعد؛ لكنها كانت بحاجة ماسة للشعور بدفء وجوده، عله بقربه يبدد شقائها المستبد بعقلها، وكذلك جوارحها.
,
, تلكأت فيما تفعله من ترتيب للوسائد، وإعادة إعداد الفراش، ريثما ينتهي "آسر" من تبديل ثيابه في الحمام، وخلال ذلك لم تجرؤ على انتزاع روبها عنها. أزالت "فيروزة" عن بشرتها بقايا آثار مساحيق التجميل التي تزينت بها، وتأكدت من وضع طبقة كريم ترطيبية عليه، ثم مشطت شعرها، وسوت مقدمته، لتنهي ما تقوم به بنثر القليل من العطر على جانبي عنقها، استنشقت آثاره العالقة في الهواء باستمتاعٍ، فكانت شبه متأكدة أنه سيحوز على إعجابه، اقشعر بدنها وقد صدق حدسها حين علق على ذلك من بعيدٍ:
, -البرفان اللي إنتي حطاه ريحته حلوة.
,
, تخلل مشاعرها المرتبكة القليل من الثقة لحسن اختيارها، استدارت نحوه وشكرته:
, -ميرسي.
, أضاف وهو يتجه نحو الفراش ليستلقي عليه:
, -بس في أنواع أحسن هابقى أشتريهالك، أكيد إنتي عملاه تركيب.
, أفسد لحظة سعادتها المؤقتة بوقاحته، ولم تستطع ضبط لسانها وهي ترد:
, -على الأقل أنا عارفة إنه تركيب، مقولتش عليه أصلي وهو مش كده.
,
, لم يتفقه ذهنه للتلميح المبطن الذي شاب جملتها، على ما يبدو قصدت الإشارة لخداعه لها في مسألة سكنه، ومستواه الاجتماعي المرموق الذي ملأ رأسها به. تلقائيًا تحركت نحو الجانب الآخر من الفراش، وهي تنزع عنها روبها الحريري، توقعت "فيروزة" أن تكون أنظاره تتجول على تفاصيل جسدها الأنثوي بفضولٍ، وهذا أشعرها بالخجل؛ لكن سرعان ما تبدد ذلك الإحساس سريعًا، ليحل الجمود عليها وهو يتساءل بلهجةٍ منزعجة للغاية، لا تشكيك فيها:
, -إيه اللي في ضهرك ده؟
,
, استدارت نحوه، ورفرفت بعينيها محاولة إبقاء ثقتها بنفسها، وهي تجيبه بثباتٍ يناقض الصراعات المتواترة بداخلها:
, -ده حرق حصلي وأنا صغيرة.
, احتفظ وجهها بتلك النظرة المذهولة المتسعة، والمحملة بالصدمة والخزي، عندما تحرك فكه ليسألها بوقاحةٍ، بنبرةٍ مليئة بالاتهام، وخالية تمامًا من أدنى مظاهر الحب أو التعاطف:
, -إنتي مقولتليش إنك مشوهة؟
, بهتت ملامحها وهي تردد كلمته القاتلة بنبرتها مصدومة:
, -مشوهة؟
,
, بدا مستنكرًا لدهشتها، فقال بجمودٍ، وعلامات التقزز تطفو على صفحة وجهه:
, -أيوه، إيه الغريب في كلامي؟
, انخلع قلب "فيروزة" أكثر، مع قساوة كلامه الجارح، وبشاعته المفرطة، وقد أضــاف بنفورٍ بائن، وبنظراتٍ احتقارية، مشمئزة، أجبرتها على خوضِ إحساسٍ مرعب لم تعهده من قبل، أشعرها فيه، من حمل لقب زوجها، بقبحها الدميم:
, -مُسخة ماتنفعش حتى يتبص عليها!!
,
, اتسعت عيناها على آخرهما في صدمةٍ أشد، لم تتعرض مطلقًا لمثل ذلك التنمر المؤذي، وهتفت بكبرياءٍ مترفع يفوق ألمها:
, -ماسمحلكش تقلل مني، أنا ٣ نقطة
, -إنتي واحدة مقرفة، إزاي عايزاني ألمس بشرتك وهي كده؟
, أظهرت هي الأخرى ازدرائها من شخصه المقيت، وردت بعزةِ نفسٍ لا تليق إلا بها:
, -وأنا مش عايزاك تلمسني٣ نقطة
,
, ثم زاد صوتها صلابة وهي تكمل:
, -اللي حصلي زمان كان قضاء ****، أنا ماليش دخل فيه.
, أراد التحقير أكثر منها، بل وإفراغ كتلة غضبه المكبوتة بداخله، ليس فقط لإشعار نفسه بأنه في موقف قوة؛ ولكن أيضًا لإخفاء عجزه، خرجت الكلمات من جوفه كالسهام القاتلة وهو يتفوه قائلاً:
, -إنتي عاملة زي البضاعة البايظة، ماتنفعش لأي حد٣ نقطة
, استشاطت غضبًا من وضاعته غير المحدودة، وقبل أن تبادر بالرد عليه، أضــاف بمزيدٍ من الفظاظة:
, -لأ وكنتي عمالة تتأمري عليا، مش راضية بيا.
,
, هدرت به بتشنجٍ، مُذكرة إياه، بما ظن أنها غفلت عنه، وعيناها تقدحان بحممٍ محتقنة:
, -وأنا مطلبتش منك تتجوزي، إنت اللي فضل تلف ورايا لحد ما وافقت.
, من زاوية فمه أخبرها باحتقارٍ باعث على الغثيان:
, -كنت غلطان، فكرت هتجوز أميرة، ملكة جمال، مش مجرد نص ست، ابقي بصي لنفسك كويس في المراية، وشوفي جسمك عامل إزاي؟!
, قال جملته الأخيرة، ونظرة الاستحقار موجهة إليها:
, -ماظنش في راجل يقبل بكده.
,
, رمقته بنظرة دونية أشعلت بها حنقه، عندما ردت:
, -بس إنت قبلت بيا، إلا لو مكونتش آ٤ نقطة
, بترت كلمتها الأخيرة قاصدة إهانته بشدة، وإن لم تصرح بذلك علنًا، وصل إليه المغزى من تلميحها المبطن، فأصابت هدفها في مقتلٍ، وبأقل مجهودٍ، ظهر تأثير كلامها –رغم عدم معرفتها بحقيقة عجزه- واضحًا عليه، فحل الجمود على تعابيره، وغامت عيناه نحوها، حاول أن يرد بنفس الأسلوب المهين، ليزدريها أكثر، فقال:
, -مكونتش أعرف عيبك قبلها، إنتي غشتيني!
,
, على جميع المستويات لا يمكن أن يعد من اقترنت به كزوجٍ لها رجلاً، اللقب لا يستحقه أبدًا، ومع اتهاماته المجحفة نحوها، برزت كراهيتها الكاملة له، منذ البداية لم تكن له أي مشاعر، ولم تملك عاطفة حسية نحوه، لذا برأسٍ مرفوعٍ للأعلى في إباءٍ خاطبته، دون أن يظهر عليها بادرة ضعف، على الرغم من الشروخ التي هشمت ما تبقى من روحها:
, -خلاص ملحوئة، صلح الغلط ده، وطلقني.
, زوى ما بين حاجبيه معلقًا في وقاحةٍ لم تعهدها أبدًا:
, -بالبساطة دي؟ واللي دفعته فيكي؟
,
, وكأنها تُحادث نخاسًا في سوق الجواري والرقيق، وليس زوجًا من المفترض أنه محترمًا، استنكرت لهجته، وهاجمته ببغض أشد:
, -نعم؟ دفعته فيا؟ إنت أصلاً مصرفتش حاجة على الجوازة دي، تقريبًا كانت جوازة ببلاش!!
, لم يعترض على وصفها، بل أكد على كل كلمة نطقت بها، وأضاف:
, -آه بس دفعت تذاكر سفر، وتأشيرة، ده غير مصاريف قبل الجواز، وده يدوب سعرك!
, كررت عليه بإصرارٍ عنيد، ووجهها قد تحول للإظلام:
, -طلقني يا "آسر"، احنا ماينفعش نكمل مع بعض.
,
, ساومها بأسلوبه الفج:
, -مش قبل ما تدفعي اللي صرفته عليكي.
, منعت موجة من الغضب من الانفجار في وجهه، وهي تسأله:
, -كام يعني؟
, مط فمه للحظة، ونظراته تدور على جسدها؛ وكأنه يقيم بضاعة معروضة في فاترينا المعروضات، ليخبرها بعدها ببرودٍ:
, -ممممم.. نقول تقريبًا نص مليون جنية.
, استفزها بالسعر المبالغ فيه، وكأنه يثبت لها بالفعل أنه لا يفرق شيئًا عن تاجر الرقيق؛ ولكن في العصر الحديث، لهذا هدرت به:
, -إيه؟ إنت اتجننت؟
,
, استقام في وقفته، تطلع إليها بجفاءٍ، قبل أن يبتسم لها بسماجةٍ، أشعرتها برغبة عارمة في التقيؤ، لمجرد النظر في وجهه القميء، ثم تكلم قائلاً؛ وكأنه لم يعر عصبيتها أدنى اهتمام:
, -أنا واحد عملي، مش معقول أطلع خسران من أي جوازة.
, تصاعدت الدماء الحانقة إلى رأسها، فألهبت خلايا عقلها الثائر، كما شعرت بغليانٍ حارق يسري في عروقها، انتفض جسدها وهي تصرخ به، معيدة جزءًا من جملته الأخيرة في صورة تساؤل عكس صدماتها المتتالية:
, -أي جوازة؟ هو إنت اتجوزت قبل كده؟
,
, تقدم نحوها، ونظرة فخر غريبة تطل من عينيه، ليوضح لها حقيقة أخرى، اكتشفتها في ليلتها البائسة:
, -يا حبيبتي! أنا بالبلدي كده عايش على قفا النسوان، وإنتي مش أول واحدة أتجوزها.
,
, آخر ما قد يخطر ببالها، اعترف لها به هكذا ببساطة، وبغيرِ ندمٍ، ولا مقدماتٍ تمهيدية! عكست ردة فعله الهادئة اعتياده على مثل تلك الثورات النسائية، تصلب جسدها، وشعرت بقرب انهيارها، مع تحطم الصورة الوهمية، لشخصٍ ظنت أنه الاختيار السليم في وقتٍ حرج، النجاة من تعاسة فرضت عليها قسرًا، وانطلاقة لمستقبل أفضل في بلد كان مغايرًا عما اعتادت عليه في وطنها؛ لكن كانت الحقيقة -غير القابلة للتشكيك- أنه كالجحيم المستعر، اندفعت نحوه لتهجم عليه، ضربته بغيظٍ حانق في صدره بقبضتيها، وقد فقدت السيطرة على ضبط أعصابها، لتلعنه بعدها بإهانةٍ صريحة:
, -آه يا واطي، يا حيوان!
,
, قبض على رسغيها، ومنعها من التطاول باليد عليه، دفعها للخلف بعنفٍ، لتسقط على ظهرها، وهو يحذرها بخشونةٍ:
, -إياكي تغلطي، وإلا لسانك ده هيخليكي تدفعي أكتر.
, الألم البدني لا يقارن أبدًا بالألم المعنوي، وخزات الأخير أشد وطأة على النفس، إهلاكه لها يكمن في عمق تأثيره الغائر، ووسط أوجاعها المدمرة ردت "فيروزة" باستبسالٍ اندهشت هي منه:
, -وأنا مش هادفع لواحد زيك مليم، ولو مطلقتنيش بالذوق، أنا هاروح السفارة هنا، وهاشتكي عليك، وهاعرف إزاي اتطلق منك.
,
, برزت عينا "آسر" في صدمةٍ مفاجئة له، بل ومهددة بقوةٍ لمركزه، وربما افتضاح أمره بالكامل، وهو لم يفق بعد من تهديدات رؤسائه، فماذا إن زاد الطين بلة ببلاغها المزعوم؟ دنا منها متسائلاً بلهجةٍ متشددة:
, -إنتي بتقولي إيه؟
,
, استندت على مرفقيها، ودفعت جسدها لتنهض، وقفت على قدميها تتحداه في عدم رهبة، كانت معتادة على التعنيف البدني، وبالتالي دفعاته القاسية لم تكن بالغريبة عليها، شحذت كل طاقاتها الغاضبة والناقمة منه ضده، وردت بجراءة أكبر:
, -اللي سمعته، ومحدش هيقدر يمنعني، ما هو مش معنى إني في بلد غريب، إني مش هاعرف اتصرف، إنت متعرفنيش كويس يا سيادة الأفوكاتو!!
, وصفها بدا أقرب للتهكم عن مجرد كلمة عابرة، بذل قدرًا كبيرًا من الجهد ليسيطر على نفسه، وهتف في استهزاءٍ مستخف بها:
, -حلو أوي.. بتهددي كمان؟!
,
, أومأت برأسها مؤكدة دون أن يرتد لها طرف، فزاد من حقده نحوها، وأخبرها مباشرةً كوسيلة أخرى للضغط عليها، وإخضاعها:
, -طيب قبل ما تفكري تاخدي الخطوة دي، شوفي الفيديو ده.
, تقلص وجهها في ارتيابٍ وهي تسأله:
, -فيديو إيه؟
, اعتلى زاوية فمه ابتسامة خبيثة، قبل أن يرد:
, -حاجة تستاهلك.
, قــام "آسر"
, -إيه اللي موجود في الفيديو ده؟ دي مش أنا.
,
, -ما أنا عارف، بس تفتكري وقت ما أمك تشوفه، ولا خالك، هيصدقوا إنها مش إنتي؟ طب إيه رأيك نبعته عند أهلك في البلد؟
, هدرت به بجنونٍ، ملقية بالهاتف أسفل قدميها لتحطمه، ثم انقضت عليه لتطبق على عنقه:
, -دي مش أنا، إنت واحد قذر، نجس، مش بني آدم أصلاً.
,
, لكن قبل أن تصل إليه، سدد لها لكمة مباشرة في وجهها جعلت عقلها يضيء، وتشوش رهيب زحف على عينيها، ترنحت من قوة الضربة المباغتة، ومع هذا جاهدت للحفاظ على اتزانها. امتدت ساقه لتعرقلها وتطرحها أرضًا، حينها فقط خرج عن شعوره، بعد ذلك الكم الكبير من الضغوطات المتوالية عليه، جعلها تبدو أمامه ككيس الملاكمة، انهال عليها بما يقدر عليه من ضربات وركلات، جعلت عظامها تصرخ مستغيثة من عنفه المستبد بها، تعنيفه البدني فاق حدود ما تعرضت له خلال الفترة المنصرمة من حياتها، قاومت حتى الرمق الأخير، وإن عجزت عن صد ضرباته فعليًا، إلى أن أجبرها عقلها المهزوم، في معركة أخرى جديدة عليها، على الانسحاب من واقعها القاسي، وبقي مصير روحها الجريحة معلقًا بين يديه.
,
, توقف "آسر" عن اعتدائه اللا أدمي عليها، بعد أن أفرغ فيها شحنته المجتمعة فيه، لم يعد يشعر بيديه، حرك كلتاهما في الهواء قبل أن يفركهما معًا، أنفاسه اللاهثة اخترقت السكون العجيب الذي احتل الغرفة، مسح عن وجهه العرق الغزير الذي تصبب منه، بيده المرتعشة، تراجع عنها، ونظراته لم تبتعد عن جسدها المتخشب، لم يظهر عليه أي إشفاقٍ نحوها، بل إلى حد ما شعر بنشوة عجيبة تجتاح روحه الميتة، كان بحاجةٍ لمن تكون ذبيحته في تلك الليلة المليئة بالصدامات، وقد كانت هي!
,
, وكأن بين قلبيهما الضائعين خاطرًا غير محسوسٍ سوى منهما، فتح "تميم" عينيه محدقًا في سقف غرفته، كلوحِ الخشب لم يتحرك لثوانٍ، اعتصاره مقبضة نالت من قلبه، فشعر به، وكأن أحدهم ينتزعه نزعًا من بين ضلوعه، شهيق متحشرج شق طريقه بصعوبةٍ ليصل إلى رئتيه؛ لكنه كان مؤلمًا حد الموت. لحظة استفاق فيها عقله من سباته، فهمست شفتاه تناديه بحروفٍ تكاد تكون مقروءة:
, -"فـ..ير..و..زة"!
,
, إدراك حقيقة خسارتها للأبد أوهن روحه، جعله فاقدًا للرغبة في المواصلة، حتى عينيه ذرفتا الدموع في ألمٍ وحسرة، عجز جسده المتآذي عن مقاومة الانفعالات المتزايدة عليه، استسلم لضعفه الإجباري، فتشنجت أطرافه بشدة، مما جعل صوت صفير الأجهزة المربوطة به يزأر، لينذر بوجود خطرٍ جسيم محدق به، اقتحمت غرفته الممرضة على إثر الصوت الحاد، خطت نحو فراشه، لتفقد حالته، اعتراها قلق مبالغ فيه، وانعكس بوضوحٍ على تعبيرات وجهها، حين أدركت تدهوره غير المتوقع، هرولت ركضًا للخارج لتستدعي أحد أطباء الطوارئ لإسعافه، وهي ترجو **** ألا يكون في تأخيرها هلاكه٣ نقطة!
 
٢

على لوح خشبٍ متهالك، بدا وكأنه طوفِ نجاةٍ، يصارع للبقاء بثباتٍ وسط أمواجٍ عاتية، تمدد جسدها المرتعش عليه، شعرت أنه لا يكفي لحملها، بين لحظة وأخرى سيميل على جانبه، ليقذفها وسط تلك الدوامات الجائعة، المتلهفة لابتلاعها، بذلت "فيروزة" أقصى ما تستطيع لتتمسك بحافتيه، تشبثت به وارتجافتها المذعورة تتصاعد مع حدة الأمواج، لم تتمكن من إزاحة الماء العالق برموشها، أحست بحرقة تأكل عينيها، منعتها من الرؤية، ولم تقوَ على فركهما، فإن أبعدت يدها؛ لربما سقطت عن قشتها المُنجية، وبين تلك المعاناة، لمحت شيئًا قادمًا في اتجاهها، لم تتبين في البداية ماهيته، أطبقت على جفنيها وفتحتهما عدة مرات، حتى تتضح لها ملامحه، بعد مجهودٍ لا بأس به، استطاعت أن ترى قاربًا متوسط الحجم يدنو منها، اتسعت عيناها على آخرهما، وقد رأت "آسر" يقف بوجهه الشامت على سطحه، يرمقها بتلك النظرة الدونية، حرقة عظيمة اشتعلت في قلبها، دققت النظر في الواقف خلفه، والذي تقدم خطوتين ليقف إلى جواره، انقبض قلبها المعذب لرؤية شبح "فضل" وشفتاه ترسم ابتسامة حاقدة، ومن خلفهما انضم خالها إليهما، ليشترك الثلاثة في ازدرائها؛ كلٌ على شاكلته، وبطريقته المهينة.
,
, هاجمتها موجة عنيفة، كادت تقلب اللوح على ظهره؛ لكنها نجت في اللحظة الأخيرة، ورغم آلام عينيها رفعتهما "فيروزة" نحو ثلاثتهم، تنتظر تحرك أحدهم لإنقاذها، لم يحركوا ساكنًا! ظلوا يشاهدون معاناتها المهلكة ببرودٍ شديد؛ وكأن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، يبتسمون لأنفسهم وهم يشيرون بأيديهم نحوها، وحده من التقطت أذناها ندائه البعيد، أجبرت رأسها على الاستدارة للجانب، لتسمع صوته الرجولي المألوف ينادي مجددًا:
, -"فـيروزة!".
,
, غمرها رغم الخطر المحدق بها إحساسًا مطمئنًا بإمانٍ لا حدود له، دق قلبها بقوةٍ، وقد رأته يسبح في اتجاهها، ذراعاه يضربان الأمواج باستماتةٍ، كما لو كان يقاتلها، في حلبة للمصارعة، سعى جاهدًا ليصل سريعًا إليها، ابتسمت تلقائيًا رغم كل شيءٍ لوجوده، شعرت بدفءٍ ينساب من طرفيها، أدركت لاحقًا أنها دموع سعادتها لحضوره المصحوب بأسمى معاني الشهامة، سماتٌ افتقدت وجودها في محيطها الذكوري، انفرجت شفتاها لترد النداء، ليعلم مكانها؛ لكن انحبس صوتها داخلها، كررت المحاولة، ولا استجابة من أحبالها! تلاشى الأمان، وحل الخوف كبديلٍ عنه، صرخ قلبها يناديه، بما عجز اللسان عن النطق به:
, -ماتسبنيش!
,
, مسحت آثار النعاس العالقة بجفنيها، حين رأت ابنتها ما تزال متكومة أمام باب المنزل المنغلق، بمفتاحٍ احتفظت به معها في غرفتها، منذ أن تركتها بالأمس على تلك الوضعية، تضم ركبتيها إلى صدرها، وتحاوطهما بذراعين معقودين عند كفيها، مع اهتزازة ثابتة لكامل جسدها. ألصقت "خلود" ظهرها بالكتلة الخشبية، ما زالت تبكي بنحيبٍ رغم جفاف الدموع في مقلتيها، منحتها "بثينة" نظرة إشفاقٍ على حالها البائس، زمت شفتيها أولاً في تأفف قبل أن تحرك فكها قائلة، بشيء من الرجاء:
,
, -يا بنتي حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده.
, لم ترفع عينيها نحوها، وقالت بوجهٍ بائس، تعكس نظراتها قهرًا عميقًا:
, -ده "تميم" يامه.
, ردت والدتها في عصبية، مستنكرة موقفها العطوف نحوه:
, -أهوو **** خدلك حقك منه، ده بدل ما تفرحي فيه؟
, اعترفت لها في لحظةِ صدقٍ:
, -حق إيه بالظبط؟ يامه ده احنا اللي جنينا عليه!
, غمغمت والدتها في تبرمٍ:
, -وهو ماصنش العِشرة٣ نقطة
,
, حقدٌ مضاعف غلف نظرات "بثينة"، كما تحولت نبرتها للمزيد من القساوة، وهي تتابع:
, -ده بدل قلبك ما يبقى حجر، طالعة خايبة بالشكل ده؟ احنا في غابة، "تميم" واللي من عينته ياكلوكي لو اديتهم ريق، اتعلمي تدوسي على الناس، ومحدش يدوس عليكي!!
,
, للحظةٍ شردت عينا ابنتها؛ وكأنها تستحضر صورته في ذهنها، ظهرت بحة مختنقة في صوتها، عندما أخبرتها بتملكٍ واضح:
, -هو غير أي حد، ده بتاعي أنا، قلبه ملكي لوحدي، مش من حق حد يزعل عليه غيري
, زفرت قائلة في ضجرٍ من امتنهانها لنفس الطريقة في استجداء مشاعر الآخرين:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، يا بت اعقلي بقى.
,
, ضمت "خلود" شفتيها في غيظٍ، بينما خاطبتها والدتها بلومٍ، مستشعرة تقصيرها في تنفيذ ما ظلت توصيه بها طوال حياتها:
, -كان عندي أمل تعملي إنتي وأخوكي اللي معرفتش أعمله زمان بعد موت أبوكي، بعد ما خدوا كل حاجة مني، وسابوني للهم لوحدي٣ نقطة
, تردد بداخلها صوتًا حاقدًا، لم تتمكن من البوح به علنًا:
, -أختي خدت كل حاجة حلوة، وأنا كان نصيبي الشقى والحرمان، ويا ريت عيالي طلعوا عدلين، إنما واحد دلدول مراته، تحركه بصوباعها الصغير، والتانية فاضلها تكة وتدخل السرايا الصفرا.
,
, ارتفع صوت نهنهات "خلود"، فصاحت بها والدتها على مضضٍ، رافضة السماح لقلبها بأن يرأف بحالها:
, -كفاية بقى يا بت، عيطي على حد يستاهل، ده أنا لو جرالي حاجة مش هتعملي ربع المناحة دي عليا.
, هسهست ترد عليها:
, -بعد الشر يامه، بس٣ نقطة
,
, بترت باقي جملتها، وأرخت ساعديها لتزحف على ركبتيها في اتجاهها، تعلقت بساقهان ورفعت عينيها المتورمتين –من كثرة البكاء- نحوها تستعطفها بتوسلٍ لم تمانع في إظهاره:
, -وديني عنده يامه، أبوس إيديكي ورجليكي خلينيي أكون جمبه.
, نظرة يائسة كست عيناها نحوها، كانت مدركة أن ابنتها لن تتوقف عن إذلال نفسها في سبيل استعادة طليقها، والظفر بحياةٍ تعيسة، فرضت عليها منذ البداية، لن تحظى فيها مهما مرت بها الأيام، سوى بالمزيد من القهر، والشقاء. بوجهٍ غائم تطلعت إليها "بثينة"، لتنفخ بعدها في سأم وهي تعلق مستسلمة أمام إلحاحها المريض:
,
, -ماشي يا "خلود"، هوديكي عنده٣ نقطة
, لكن ما لبث أن تحول صوتها المستاء للصرامة:
, -بس إياكي تعملي حاجة مترضنيش واحنا هنا، عززي نفسك، وخلي عندك قيمة وكرامة.
, قفز قلبها طربًا لاستجابتها لها، استندت على كفيها، لترفع جسدها عن الأرضية، وهتفت بفرحةٍ فاقت أي تصور:
, -حاضر يامه، اللي إنتي عايزاه، المهم أبقى معاه.
, راقبتها والدتها بنظرات مشمئزة مزعوجة؛ لكنها رغم كل شيء انصاعت لها، على أمل أن تسترد عقلها المغيب، بسبب رغباتها الجنونية.
,
, اكتظ المشفى بتواجد العشرات من معارف عائلة "سلطان"، الكل تهافت لتقديم العون، الدعم، وأيضًا الوقوف بجانب قطبي العائلة في مصابهما العظيم، فمن يرقد بين الحياة والموت معروفٌ بأصالته في عالم يفتقر لرجالٍ من أمثاله، كان على رأس هؤلاء عائلة "حرب"؛ "طه"، وابنيه؛ "منذر" و"دياب". صمتٍ جليل سيطر على الردهة المزدحمة، لم يقطعه إلا أنفاس مشحونة، أو نهنهاتٍ مكتومة. تحرك "منذر" في اتجاه "سراج"، سحبه من ذراعه ليسأله مستفهمًا، بعد أن انضم إليهما الحاج "عوف":
,
, -إيه اللي حصل بالظبط؟ "تميم" كان لوحده في الدكان؟ ولا مين كان معاه؟
, أجابه "سراج" بتعابيرٍ واجمة:
, -الظاهر مكانش معاه حد.
, في حين أضــاف "عوف" باستهجانٍ شديد:
, -ولاد الحرام شكلهم كانوا مرقدينله.
, علق عليهما "منذر" بتوعدٍ مهدد، قاطعًا على نفسه وعدًا نافذًا، وبنظراتٍ تحولت للشراسة:
, -ولاد الـ ٤ نقطة، قسمًا ب**** ما سايب اللي عمل فيه كده، لو كان في المريخ هاجيبه.
, مال "سراج" نحو "منذر" برأسه ليقول له، بصوتٍ شبه خافت، وإشارة ضمنية من عينيه:
, -بأقولك يا ريس "منذر"..
,
, فهم الأخير تلميحه غير المنطوق، وتحرك معه بعيدًا عن الحاج "عوف" الذي عاود أدراجه لينضمن للبقية. تساءل "منذر" بقسماته الجادة:
, -خير يا "سراج"؟
, جاوبه بكلماتٍ مستريبة:
, -وأنا بأطلع "تميم" من قلب النار في دكانه، كان بينادي على "محرز".
, في ذهولٍ ردد اسمه:
, -"محرز"؟٣ علامة التعجب
, أومـأ برأسه مضاعفًا التأكيد على هويته:
, -أيوه، حتى أنا فكرته محبوس معاه.
, جاب "منذر" بنظراته على أوجه المتواجدين في الردهة المزدحمة، وقال وهو ينظر مرة أخرى في اتجاه "سراج":
, -أنا مش شايفه موجود وسط الناس اللي هنا.
, عقب عليه بشكٍ:
,
, -ما هو ده اللي أنا مستغربه، والست جماعته قالت إنها متعرفش حاجة عنه من ساعة اللي حصل!
, حملق في بصمتٍ، وكأنه قد استغرق في أفكاره التحليلية العميقة، ليضيف بعدها "سراج"، مفصحًا عما يساوره من شكوكٍ،
, -بيني وبينك، أنا حاسس كده إن ليه علاقة باللي حصل لـ "تميم".
, هتف "منذر" من بين أسنانه، بكراهيةٍ معكوسة كذلك على ملامحه:
, -الواد ده طول عمري مابستريحلوش، لِوَني (متلون/مخادع) كده، ومش صريح٣ نقطة
, كادت نبرته القاسية ترتفع حين أكمل بعدائية:
, -بس لو كان وراها، محدش هيرحمه من إيدي.
, اقتضب "سراج" في الرد، فقال:
,
, -هيبان.
, توحشت نظراته معقبًا عليه بلهجته الصارمة:
, -واحنا مش هنستنى لما يبان، حق "تميم" لازمًا يتجاب.
, أمّن على كلامه قائلاً:
, -وأنا معاك، صحيح النفوس كانت شايلة من بعض زمان، بس إنت عارفني، مابخونش، ولا أضرب راجل في ضهره.
, ربت على كتفه يشكره في امتنانٍ:
, -عارف يا "سراج".
, تحرك "منذر" للجانب قليلاً، عندما أقبل عليه شقيقه، ليقف في المنتصف بينه وبين "سراج"، سأله "دياب" مستفهمًا، ونظراته المتفحصة تتوزع عليهما:
, -الكلام على إيه دلوقتي؟
, أجابه شقيقه مباشرةً؛ وكأنه يأمره:
,
, -عايزين نشوف "محرز" متاوي فين.
, تقلصت عضلات وجهه في استغرابٍ، وضاق ما بين حاجبيه متسائلاً:
, -"محرز"؟ ليه؟
, لم يجبه "منذر"، ففهم على الفور مقصده، ونطق يسأله بحذرٍ، وكامل نظراته عليه:
, -أوعى يكون آ٣ نقطة؟
, هز رأسه بإيماءة مؤكدة، قبل أن يتابع بهدوءٍ:
, -"سراج" شاكك في ده، بس مش عايزين نسيح في المكان لحد ما نتأكد.
, فرك "دياب" كفيه معًا، ورد على الفور، كما لو أن الأمر يروقه:
, -اشطا.
, تساءل "سراج" بغرابةٍ:
,
, -هتعرف تجيبهولنا؟
, ابتسامةٍ واثقة أنارت زاوية فمه عندما أجابه:
, -بسيطة، عندي اللي يقلب الدنيا عليه، حتى لو كان مستخبي في أوم أوم.
, رد "سراج" بتشكيكٍ، مستخدمًا يده في الإشارة:
, -هتدوروا عليه فين؟ ده زي ما يكون بندور على إبرة في كوم قش.
, غمز له بطرف عينه، وهو يخبره بثقة تامة:
, -دي لعبتي.
, وضع "منذر" يده على كتف شقيقه، وجال بنظراته على الاثنين مشددًا من جديد:
, -خلاص يا رجالة، اتفقنا، والكلام ده هيفضل بينا.
, استجاب لأمره الصارم "سراج"، وقال:
, -ماشي يا ريس.
,
, انحنى أمام باب منزله، ليتمكن من سحب حذائه القديم، من مجموعة الأحذية المتراصة على وحدة الأدراج البلاستيكية، وضعه على الأرضية، واعتدل في وقفته، ثم مد قدميه ليضع واحدة تلو الأخرى فيه. استقام "خليل" واقفًا بعد أن ارتداه، لف ذراعه خلف ذراعه، ليتفقد محفظته الموضوعة في جيب بنطاله الخلفي، ثم صــاح عاليًا، وهو يشرأب بعنقه قليلاً:
,
, -يالا يا "حمدية"، شهلي أوام، كده هنتأخر على الجماعة.
, أتت إليه زوجته على عجالةٍ، وهي تضم طرفي حجابها عند عنقها، شبكتهما بدبوس معدني وهي ترد بأنفاسٍ شبه متهدجة:
, -على طول أهوو، أنا بألبس الطرحة.
, غمغم في خفوتٍ، بنبرة مستهجنة، ونظراته الممتعضة تتباعد عن وجهها:
, -يا مسهل، يومك بسنة.
, سألته "حمدية" بتعجبٍ، ووفق ما تربت عليه من أعرافٍ:
, -بأقولك إيه، هو احنا مش هناخد في إيدينا حاجة واحنا رايحين؟
, استدار نحوها بوجهه العابس، معقبًا في تهكمٍ ناقم:
,
, -يعني هما مستنين منا كيلو البرتقان ولا الجوافة؟ ولا هيفرق معاهم هنجيب إيه؟ دول يشتروا السوق برجالته يا "حمدية"!
, ببساطةٍ اقترحت عليه بديلاً:
, -طب ما نجيب ورد، ولا آ٤ نقطة
, قاطعها بسخرية صريحة منها:
, -ورد؟ ليه رايحين نخطب؟ وبعدين إنتي عايزانا نرمي فلوسنا في الأرض؟ هو احنا لاقينها بالساهل، خلينا كده نروح خفاف!
, هزت رأسها متمتمة:
, -ماشي.
,
, لوهلةٍ بدا مترددًا، في مفاتحتها في نفس الموضوع المتكرر، والخاص بتكليفات عمله المفتعلة؛ لكن لا مفر من إخبارها، فزوجته الأخرى وابنته، ألحتا عليه للمكوث معهما لبعض الوقت، ولم يستطع الرفض أو التأجيل، استنشق الهواء بعمق، وتحاشى النظر نحوها، قبل أن يستطرد قائلاً:
, -على فكرة، المدير عندنا احتمال يبعتني مأمورية بتاعة أسبوع ولا 10 أيام.
, رمقته بتلك النظرة الحاقدة الفاضحة لكذبه؛ وإن لم ينظر نحوها، تحركت في اتجاهه، ووقفت قبالته، رأته يهرب بنظراته عنها، ومع هذا سألته بهدوءٍ، مدعية تصديقها لادعائه الملفق، رغم نيران الغضب المستعرة بصدرها:
,
, -هو إيه مافيش غيرك اللي شايل الشغل على دماغه؟ مايشوف أي حد تاني.
, تنحنح قبل أن يبرر لها بمزيدٍ من الكلام المخادع:
, -إنتي عارفة مابيثقش في حد غيري، الباقيين مابيعرفوش يمشوا الشغل زي ما هو عايز.
, هزت رأسها بإيماءة صغيرة مُؤمنة عليه:
, -أها.. قولتلي.
,
, حاول أن يبدو مقنعًا معها، فلا ترتاب في أمره، لهذا وعدها:
, -وأنا مش هتأخر، بعد المأمورية دي هاخدك يومين مع العيال تغيروا جو في البلد.
, سخرت منه قائلة بابتسامة صغيرة متهكمة، ارتسمت على جانب فمها:
, -لا و**** شهم بصحيح.
, -طب يالا بينا.
, ردد تلك الكلمات بنبرة سريعة وهو يخرج من باب منزله، لتتبعه "حمدية" بخطواتٍ متمهلة، متوعدة إياه بشراسةٍ مهلكة في نفسها:
, -اصبر عليا يا "خليل"، وأنا هاخليك تقول حقي برقبتي٣ علامة التعجب
,
, الخسيس عديم الرحمة، والذي لا يملك قلبًا، تركها تقضي ما تبقى من ليلها الموحش، طريحة الأرضية الباردة، فاقدة للوعي، وغير قادرة على الحركة، لم يرأف بها، ولم يكلف نفسه عناء تفقد أحوالها، بل على العكس نام في الفراش بمفرده، هانئًا، وممنيًا نفسه بتدفق أموالٍ جديدة إلى حسابه البنكي، معوضًا ما تكبده من خسائر؛ وإن كان ذلك بأرخص الوسائل، وأكثرها حقارة! تضاعف أنين عظام "فيروزة" حين بدأت تستفيق من غيبوبتها، بقي طيف "تميم" عالقًا في مخيلتها، إلى أن تبخر مع استعادتها لكامل إدراكها.
,
, لم تقوَ في البداية على التقلب على جانبها، فشلت محاولتها البسيطة لتحريك أطرافها، لتؤكد لها حواسها أنها لم تكن تحلم، وما عانته فعليًا كان كابوسها الجديد، مع فارق أنه ألصق بها ريبًا، تعرضت فيه لنوعٍ لم تختبره من قبل، يمتاز بأنه أشدُ حقارة وظلمًا، ويختلف كليًا عن أي شيء جابهته منذ اندلاع حريق الدكان؛ لكن تلك الإرادة القوية بداخلها مدتها بقدرٍ من الطاقة، حفزتها على الصمود، وإن لم تكن كافية للتخلص من آلامها الحديثة.
,
, بصعوبة تمكنت من رفع جسدها، لتعتدل في وضعية الجلوس، حركت ذراعها على مهلٍ، لترفعه إلى وجهها المكدوم، تحسسته بحرصٍ شديد، تأوهات مصحوبة بارتجافةٍ قوية خرجت من جوفها، كردة فعلٍ طبيعية لما أصاب غالبية جسدها من كدمات وتورمات مختلفة، ما زالت تئن من تأثير تعنيفه البدني الأعمى عليها، قشعريرة قارصة نالت بشراسةٍ من جلدها، وجعلت شعيراتها القصيرة تنتصب على طول بشرتها، عندما جاءها صوته المقيت من خلفها يأمرها باشمئزازٍ:
,
, -غطي ضهرك ده، مش ناقص أشوف قرف على الصبح.
, رغم أنها لم تكن سوى عارية الكتفين والظهر، إلا أن نظراته الوضيعة جردتها من قطعة الثياب التي تحجب مفاتنها عنه، لفّت رأسها ليبدو وجهه المنفر في مرمى بصرها، وهتفت تلعنه، بأنفٍ مرفوعٍ في إباء أغاظه:
, -إنت أحقر واحد آ ٣ نقطة
,
, ما زالت تحتفظ بشموخها، وذلك ما استفزه رغم تحطيمه الموحش لأنوثتها، قاطعها "آسر" محذرًا بسبابته المرفوعة أمام وجهها:
, -قبل ما تتهوري تاني بلسانك، افتكري إني معايا اللي أطير بيه رقبتك، وبالعكس كل الناس هتشكرني على ده.
, ضغطت على أسنانها تنعته بهمسٍ، خرج بأنفاسٍ مغلولة منه:
, -إنت شيطان.
, سمع هسيس صوتها، وقال ساخرًا وهو يعقد ذراعيه أمام صدره
, -شكرًا على ذوقك، وقومي يالا روقي المكان٣ نقطة
,
, لو كانت النظرات تقتل، لأردته نظراتها المميتة قتيلاً على الفور، ببرودٍ تطلع إليها، وأخبرها كمن يَمنُّ عليها بإحسانٍ:
, -على فكرة أنا مش جاي النهاردة على الغدا، هتلاقي في بواقي أكل من امبارح على التربيذة، ده لو ليكي نفس تاكلي.
, لم تتحمل احتقاره، فصرخت ببقايا كبرياءٍ محطم:
, -إنت بتعمل معايا كده ليه؟ أنا أذيتك في إيه؟
,
, أجابها بتنهيدة بطيئة، وتلك الابتسامة السمجة تحتل ثغره:
, -الصدفة أو حظك بقى وقعك في طريقي، وأنا متعودتش أخسر حاجة حطيت عيني عليها، بس المرادي خيبت معايا٣ نقطة
, توقف عن إتمام جملته، ليسدد لها نظرة استحقار أشد، وزاد الطين بلة بقوله المهين:
, -توقعت هاتجوز واحدة كاملة الأوصــاف، مش نص ست!
, وضعت "فيروزة" يديها على أذنيها لتصمهما عن سماع كلامه الحقير، وهدرت بصدرٍ ناهج:
, -كفاية، مش عايزة أسمع الكلام ده.
,
, دنا منها أكثر، فبات على بعد خطوتين منها، ناظرًا نحوها بدونيةٍ، قبل أن يحرك فكه ليهددها علنًا:
, -اتعودي من هنا ورايح على كده، وبأحذرك من تاني لو فكرتي تأذيني، بأي شكل أنا مش بس هاطلعك زانية، وإني راجل مظلوم، لأ هاحمل الفيديو ده على النت، هاخلي فضيحتك عالمية، ما هو أنا عامل منه نسخ كتير بوشوش رجالة مختلفة، مش بس زي ما شوفتيني معاكي في الموبايل اللي كسرتيه، يعني من الآخر محدش هيصدق إنك بريئة، ووريني بقى هاتقدري تعملي إيه.
, كسرةٌ أشد وطأة نالت من روحها المهزومة، فسألته بقهرٍ، وهي تكافح لكبح دموعها أمامه:
, -مش خايف من ****؟
,
, تجهم كليًا من سؤالها، وهتف في عصبيةٍ وهو يركل قدمها بحذائه:
, -يوووه، صدعتي دماغي وأنا لسه بابتدي يومي.
, تأوهت من الألم الشديد، قبل أن تدعو عليه في حرقةٍ:
, -منك لله يا "آسر".
,
, كان على وشك نعتها بلفظٍ حقير، لولا سماعه لدقاتٍ على باب منزله، فتركها في مكانها، وانصرف خارجًا من الغرفة، تتبعه عينان تلفظان الغضب منهما، وسبابٍ خافت يلعنه. بجهدٍ أكبر تمكنت من النهوض بمفردها، كاتمة أنينها الموجوع، حتى استطاعت أن تقف مجددًا على قدميها، كالعنقاءِ، من الرماد تُبعث وتنهض من جديد، لم تفقد "فيروزة" بعد، بقايا شخصيتها القوية، والتي لطالما تم اختبار صلابتها، دمدمت بصوتٍ خفيض، قاطعة وعدًا نافذًا عليها، عبّرت من خلاله عن احتراقها داخليًا:
, -بس لو ده آخر يوم في عمري، هاقتلك قبل ما تمس شرفي، وتوطي راس عيلتي وتحطها في الطين، وده وعد مني بكده!
,
, خيّم السكوت على الموجودين، بغرفة الطبيب المعالج للابن البكري والوحيد لعائلة "سلطان"، بعد أن طلب ملاقاتهم للحديث عن تفاصيل حالته الحرجة، والتي أجبرته على وضعه بالعناية الفائقة، لبضعة أيام، ريثما يتجاوب مع العلاج المكثف، وتظهر حالته المتأخرة أي استجابة، ولو كانت طفيفة، خاصة بعد التدهور المفاجئ الذي هاجمه فجأة .. بصعوبةٍ كتمت "ونيسة" آناتها الموجوعة على وليدها؛ لكن صوت نحيبها ظل مسموعًا، وإن جاهدت لخنقه، ولم تختلف ابنتها عنها، شاركتها في بكائها الحارق، ولم تتوقف عن لوم نفسها عن تقصيرها في حق شقيقها، في حين بقي الجد ملازمًا للصمت، ولســان حاله يدعو سرًا لحفيده بالنجاة من كل سوء، أما "بدير" فهتف يسأله بلوعة أبٍ مكلوم:
,
, -خير يا ضاكتور؟ جايبنا هنا ليه؟
, قال كلماته الأخيرة وهو يتلفت تلقائيًا نحو الأوجه الواجمة، إلى أن استقرت نظراته على وجه الطبيب، استطرد الأخير حديثه مستهلاً، بحيطةٍ واضحة في نبرته:
, -طبعًا يا حاج إنت مؤمن بقضاء **** وقدره
, هوى قلبه جزعًا، تزعزع تماسكه الزائف، وانعكس خوفه الشديد على ملامحه، فعلق عليه بصوتٍ شابه الاضطراب:
, -ونعم ب****، بس تقصد إيه بكلامك؟
, بلهجةٍ هادئة لم تخلُ من القلق في بعض المواضع، خاطبه الطبيب موضحًا:
,
, -اللي اتعرضه ابنك مش سهل، ده شروع في قتل، مش مجرد خناقة، ولا حاجة عادية٣ نقطة
, لهنيهة توقف عن الحديث، مظهرًا بعض التردد، ثم أكمل أخيرًا، بأسفٍ انتشر في تعابيره:
, -اللي ضربوه، كانوا قاصدين يموتوه، وعارفين إزاي يضربوه وفين.
, شهقات مليئة بالرعب انفلتت من المتواجدين، أعلاها كانت لوالدته المفطور قلبها. لم يجرؤ الطبيب على المضي قدمًا في حديثه، إلا بعد أن خبت الأصوات، فتابع:
,
, -الكسور سهل تتعالج مع الوقت؛ لكن قلقي دلوقتي من الغيبوبة اللي دخل فيها!
, كل ما انعكس في عيني "بدير" لهفةٍ وجزع، حين نظر إليه وردد ببطءٍ، مستشعرًا صعوبة خروج الكلام من جوفه:
, -غيبوبة؟
, صرخت "ونيسة" في ارتعابٍ، بنواحٍ باكٍ، وهي تلطم على صدرها:
, - آه يا حرقة قلبي عليك يا "تميم"، كان مستخبيلك ده كله فين؟!
,
, استدار "بدير" نحو زوجته يحدجها بنظرة صارمة، آمرة، تمنعها من العويل على ابنها؛ وكأنها فقدته، استجابت الأخيرة لأمره غير المنطوق، واضعة يدها على فمها، التفت بعدها نحو الطبيب، وسأله بتلعثمٍ غلف صوته:
, -طب.. احنا.. مطلوب مننا إيه؟ نسفره برا؟ نجيبله أحسن حُكما (أطباء) في البلد؟
, استغرقه الأمر لحظة ليقول:
, -احنا عملنا هنا كل حاجة نقدر عليها، ومافيش قدامنا دلوقتي غير ندعي **** يلطف بيه.
, خرجت "هاجر" عن صمتها، وتوسلت والدها ببكاءٍ شديد:
, -اتصرف يابا .. ده أخويا، وابنك، هاتسيبه كده يضيع مننا؟
,
, إن كان يبدو صلبًا من الخارج، فداخله متصدع على الأخير، أليس ابنه أيضًا؟ تماسكه الظاهري لأجل عائلته، عجز عن ضبط هدوئه، مع جملتها المحملة باللوم والتقصير، لهذا صاح بها في عصبيةٍ:
, -أنا بإيدي إيه أعمله؟
, ارتفعت نبرة الطبيب وهو يرجوهم، بعد أن رأى بوادر احتدام وشيك بين أفراد العائلة:
, -يا حضرات مافيش داعي للخناق، وإنت يا حاج لازم تعذرهم، الحاجة أم، وأكيد قلبها واجعها على ابنها، وعلى فهمت المدام تبقى أخته، وأكيد نفسها تشوف أخوها واقف على رجله، لكن لازم تبقوا واثقين إن احنا هنا عاملين كل اللي علينا وزيادة، والباقي على ****.
,
, بثباتٍ وقوة، دق الحاج "سلطان" بعكازه على الأرضية، لافتًا الأنظار إليه، ثم نطق بثقةٍ لا حدود لها، تحوي تفائلاً عميقًا، بعد سكوت طويل:
, -حفيدي عضمه ناشف، وهيعدي منها إن شاء****، ده "تميم سلطان"، مش أي حد والسلام، ادعوله من غير بُكا ولا نواح.
, ابتسامة لبقة ظهرت على محيا الطبيب لنجاح الجد في ضبط زمام الأمور، وقال برجاءٍ لا يقل عن المتواجدين شيئًا:
, -يا رب.
,
, "كيدهن عظيم"، قولٌ متعارفٌ عليه بين العامة، مشتق من الآية القرآنية "إن كيدكن عظيم"، كدلالة عن مكر المرأة شديد التأثير في الآخرين، راود عقلها تلك الكلمات؛ وكأن بها حافزًا عبقريًا، لتثبيط مشاعر القهر السلبية، فكرت في هذه الجملة مليًا، لتذكر نفسها بأنها لم تكن من النوع الضعيف المستسلم، ذاك الذي يركع عند الأقدام بعد مذلة وازدراء مستديم، عليها ألا تحني رأسها مهما اشتدت عليها الصعاب، بل وجب عليها المقاومة، والصمود لتنأى بنفسها من شرور أشباه البشر، هكذا استعادت "فيروزة" عزيمتها! مستعيدة قدرتها غير العادية على إعادة تطييع الأمور لما فيه نجاتها.
,
, سحبت روبها لتغطي به جسدها، وأحكمت ربطه على خصرها، تهادت في خطواتها وهي تستند على طول حواف الفراش، لتقف عند أعتاب باب الغرفة الموارب قليلاً، حيث وصلها صوتًا ذكوريًا غريبًا يتحدث بصرامةٍ، وباللغة الانجليزية. استرعى الأمر انتباهها، واقتربت أكثر، دون أن تظهر نفسها. تبينت من كلمات الرجل المقتضبة أنه قد جاء للحديث بشأنِ شكوى ما، أرهفت السمع جيدًا، حابسة أنفاسها، فقد بدا الأمر غير عادي، وربما من خلاله تستطيع أن تخلق فرصتها لاستدراج الملعون "آسر"، نحو نفس فخ الخديعة المحكم الذي أوقعها فيه؛ هذا المسمى برباطِ الحب العميق٣ نقطة!
 
٣



لأنه ليس مقيمًا في بلدٍ لا يُطبق القوانين، لذا فأقل ضررٍ يتسبب فيه، يُعرضه بلا شكٍ للمُساءلة القانونية، وهذا ما حدث معه! فخلال تعنيفه الأهوج لزوجته، تقدم أحد الجيران بشكوى إزعاجٍ للمسئول الأمني، عن البناية القاطن بها، يتهمه بممارسة نوعٍ من العنف مع إحدى السيدات، والذي بدا صراخها اليائس مفزعًا للجميع، قبل أن يسكن تمامًا، ليظن ذاك الساكن أنها تعرضت للأذى بشدة، وبناءً عليه تحرك المسئول للتحقق من الشكوى، التي لن تكون فقط نوعًا من الإنذارِ، إن ثبت الضرر البالغ الواقع على المرأة..
,
, لعق "آسر" شفتيه، وبلع ريقه مبررًا بكذبٍ، بنفس لغة الرجل:
, -إنه سوء فهم، كان ذلك صوت التلفاز، أنا لم أرتكب شيئًا مخالفًا، صدقني.
, كان وجه المسئول جادًا، وتعابيره رسمية، اتفقت أيضًا مع نبرته حينما أخبره:
, -نريد التأكد سيدي، فلم تكن الشكوى فردية، بل تكررت، وأنا هنا لإثبات الأمر من عدمه.
, لم يكن أمامه أي مفر سوى الرضوخ له، فقال مستسلمًا:
, -حسنًا٤ نقطة
,
, همَّ بالتحرك؛ لكنه توقف في منتصف الطريق، ليقول له متحججًا، حتى يكسب المزيد من الوقتِ:
, -اترك لي لحظة لأطلب من زوجتي ارتداء ثيابها، فكما تعلم نحن إلى حد ما ملتزمون، ولا يجوز أن تأتي زوجتي إليك بجسدٍ عارٍ.
, تفهم ذلك، ورد ببساطة:
, -في انتظار مجيئها..
,
, على الجانب الآخر، تسنى لـ "فيروزة" سماع ما قاله الرجل بوضوح، فأعملت عقلها بشدة، لتخرج من هذا الموقف رابحة، تراجعت بخطواتٍ كانت شبه كارثية ضاعفت من ألمها، بعد إعلان "آسر" عن ذهابه لاستدعائها، وجلست على طرف الفراش، مدعية انشغالها بدعك ساقها المتألمة، رفعت أنظارها في اتجاهه، حين اندفع لداخل الغرفة، مواربًا الباب خلفه، رمقها بنظرة خائفة، تأكدت من صحتها من أمارات الفزع المرسومة على تقاسيمه، انحنى عليها، فانكمشت لتكمل مشهد اضطرابها منه، وإن لم تكن كليًا هكذا! فالمصائب علمتها ألا تظهر بمظهر الضعف، لتفسد شعور أعدائها بالزهو وفرحتهم بالانتصار عليها؛ لكن الظرف هذه المرة مختلفًا، امتدت يداه لتمسك بها من رسغيها، وتودد إليها بعاطفةٍ لم تقنعها مُطلقًا:.
,
, -"فيروزة" حبيبتي، عايزك تسمعيني.
, انتزعت معصميها من بين قبضتيه، ورمقته بنظرة قويةٍ، قبل أن تحذره بجمودٍ اكتسبه صوتها:
, -ماتلمسنيش!
, ضاقت نظراتها أكثر وهي تتابع بغضبٍ تصاعد بداخلها، لمجرد وجوده بقربها:
, -عايز إيه مني؟
, رد بوداعةٍ غريبة، أصابتها بالغثيان، رافعًا كفيه للأعلى:
, -حاضر مش هالمسك يا حبيبتي..
,
, كلمة فسدت حلاوتها عندما نطقها فمه المقزز، حدجه بنظرة أخرى حملت كرهًا صريحًا، وكررت عليه سؤالها بصدرٍ شبه متهدج:
, -عايز إيه مني؟
, ورغم علمها المسبق بما سيخبرها به، إلا أنها أرادت أن تبدو في حضوره جاهلة، مغيبة عن أدنى التفاصيل؛ إن أرادت نجاتها الكاملة من براثنه الخبيثة. دون ترددٍ أخبرها بصوتٍ خفيض، بنوعٍ من التحذير، في طياته تهديد واضح:.
,
, -لو مش حابة تفضحي نفسك، وأمحي الفيديو بتاعك، يبقى تنكري أي حاجة يسألك فيها الراجل اللي واقف برا.
, برقت عيناها بوهجٍ ناري، لتذكيرها بخسته ووضاعته، وأعادت على مسامعه نفس الجملة التي تلفظ بها قبل لحظاتٍ، بصيغة استفهامية:
, -يعني هتمسحه من عندك؟
, أومأ برأسه مؤكدًا لها:
, -أيوه من اللاب، ومن على أي موقع أنا حافظه فيه..
,
, لم تكن بغبيةٍ لتصدق على الفور تنفيذه لوعده، فمن يقف أمامها حرباء متلونة، يتحين الفرص التي تأتيه، مستغلاً ضحاياه أسوأ استغلال؛ لكنها رغم ذلك لن تظهر له عكس ما تُبطن، لتمنحه ما يريد سماعه حتى تكسب المزيد من الوقت، وربما تنطلي عليه خدعة سهولة اقتياده لها، وسيطرته على حياتها، هزت رأسها بإيماءة صغيرة، وأخبرته:
, -ماشي..
,
, تحرك في اتجاه خزانة الثياب المتواضعة الموجودة بجوار باب الغرفة، بحث بداخلها عن رداءٍ أو عباءة فضفاضة، ليعطيها لها، وهو يأمرها:
, -غطي جسمك بده، ويا ريت لو عندك طرحة تحطيها، مش عايزين حد يشك في حاجة..
,
, نظرت إلى ظهره بغلٍ مقيت، ودَّت لو انتفضت من مكانها، واندفعت نحو عنقه تخنقه حتى تفيض روحه بين يديها، أو تأتي بسكينٍ حاد النصل، تطعنه به في ظهره، لتتخلص منه، وتريح العالم من شروره. انتشلها من تفكيرها الإجرامي في القضاء عليه، ندائه الناعم، والذي بدا أشبه بسم أفعى يسري في العروق:
, -وصدقيني لو ما اتعملتش مشكلة هنسى كدبك عليا، وهمحي الفيديو، اتفقنا؟.
,
, غام وجهها بشكلٍ كبير، لاتهامه الفج بأنها لفقت الأكاذيب عليه، لمجرد تعرضها لحادثٍ مأساوي في طفولتها؛ وكأنها المسئولة عن تشويه جسدها، كبحت غضبها المندلع فيها، وتصنعت الهدوء وهي ترد عليه:
, -طيب..
,
, مــد ذراعه بالعباءة التي تحصّل عليها، فارتدتها على مهلٍ، وخبأت وجهها خلف وشاحٍ أسدلته على رأسها، لتسير بتؤدةٍ، كاتمة آلامها الصارخة في قدميها، اقتربت من المسئول الذي استقام في وقفته عندما رأها، دقق الأخير النظر في نصف وجهها الظاهر من خلف حجابها، بنظراتٍ فاحصة، قبل أن يسألها بلهجته الرسمية، وبلغة انجليزية بسيطة:
, -سيدتي هل أنتِ بخير؟ هل تعرض أحدهم لكِ بالأذى؟.
,
, أدارت رأسها نصف استدارة في اتجاه "آسر" الواقف على يسارها، كان الخوف يملأ كامل وجهه، تحرك بؤبؤاه في عصبيةٍ وتوتر، كانت واثقة أنه سيخر واقعًا عن قدميه، إن اتهمته بإيذائها بدنيًا؛ لكنه لن يمنعه من استخدام الفيديوهات الملفقة في تدمير سمعتها، توقفت عن حملقتها الزائدة في وجهه، لتنتبه للرجل الواقف قبالتها وهو يناديها:
, -سيدتي؟ هل كل شيء بخير؟.
,
, رغم كل الآلام، الانكسارات، الهزائم التي نالت منها، إلا أن وقت انتقامها لم يحن بعد، قوست "فيروزة" شفتيها، راسمة بسمة رقيقة عليهما، لترد عليه بخفوت:
, -نعم٣ نقطة
, لحظة بلعت فيها ريقها، قبل أن تضيف، بجملٍ بسيطة مرتبة، لتمنعه من مواصلة أسئلته التحقيقية:
, -كنت أشاهد مع زوجي سلسلة أفلام الرعب scream، وربما كان صوت التلفاز عاليًا، نعتذر عن هذا..
,
, ظل المسئول ينظر لها باسترابةٍ، إلى حد كبيرٍ بدا متشككًا في أقوالها؛ لكن بادر "آسر" بالتدخل، واقترب من زوجته، ليحاوطها من كتفيها، وهتف بضحكاتٍ صغيرة، كانت مفتعلة بشكلٍ كبير:
, -نحن متزوجان حديثًا، فلا تؤاخذنا، سننتبه بعد ذلك..
,
, جفلت "فيروزة" من اقترابه المقزز، شعرت باحتراق أحشائها، لمجرد لمسة مخادعة لإكمال تمثيليته الزائفة، حرك رأسه بهدوءٍ، وأخبرهما بلهجةٍ متشددة، وهو يشير بسبابته نحوهما:
, -رجاءً انتبها للضوضاء، فلا أحد يتسامح مع الازعاج.
, رد "آسر" على الفور بابتسامته اللزجة، وذراعه لا يزال موضوعًا على كتفي "فيروزة":
, -معك حق، خاصة بعد يومٍ مرهق في العمل..
,
, تابع المسئول كلامه بإملاء المزيد من التحذيرات الجادة عليهما، بشأن القوانين الخاصة بالسكان، في تلك المنطقة، وما إن انتهى حتى استأذن منصرفًا، لتنسل سريعًا من ذراعه؛ وكأن حيّة لدغتها، حافظت على مسافة بينهما، ولم يحبذ "آسر" الاقتراب منها؛ لكنه مدح كذبها:
, -برافو عليكي يا "فيروزة"، ماخيبتيش ظني فيكي٣ نقطة
, سددت له نظرة نارية، أرادت إحراقه بها، بينما ابتسامة سمجة اعتلت ثغره وهو يتابع:.
,
, -مع إني كنت شاكك إنك هتغدري بيا.
, أخبرته بهديرٍ متعصبٍ:
, -أنا عملت ده عشاني مش عشانك.
, اتسعت ابتسامته أكثر معقبًا عليها، وعينه اليسرى تغمز لها:
, -صح، المصلحة بتحكم.
, لوحت بذراعها تأمره:
, -امسح الفيديوهات اللي معاك..
,
, دندن بصافرة مستفزة وهو يستدير متجهًا نحو مرآة صغيرة تحتل الحائط، ليتأمل هيئته، توقف عن الصفير، ومشط بأصابعه أطراف خصلاته غير المستوية، ليرتبها، وحادثها ببرودٍ، غير مكترث بالاشتعال الظاهر في عينيه:
, -بعدين، لما أبقى أرجع.
, اندفعت نحوه، ووقفت إلى جانبه تصيح فيه بانفعالٍ:
, -إنت وعدتني..
,
, رفع ذراعه للأعلى، ليتلمس وجنتها، داعبها براحته؛ لكنها نفرت منه متراجعة للخلف، وتلك النظرة المشمئزة تنطلق من عينيها، بادلها نظرة عادية، غير مبالية، ثم أرسل لها قبلة في الهواء مودعًا إياها:
, -سلام عشان اتأخرت.
, كزت على أسنانها تلعنه في حنقٍ انتشر في كل خلاياها:
, -واطي٣ نقطة
,
, لم تفارق نظراتها الملتهبة شخصه القمئ وهو ينصرف من المنزل، مغلقًا الباب خلفه، استطاعت أن تسمع صوت المفتاح في قفله، لتدرك أنه حبسها بالداخل حتى لا تنفذ تهديدها في غيابه، سيطرت عليها مشاعر الكراهية المختلطة بغضبها، وتوعدته بحرقةٍ اكتسبتها نبرتها:
, -بس هتدفع تمن كل حد ظلمته، وأولهم أنا.
, ٤ نقطة
,
, طوت المصلية، وأسندتها على طرف الفراش، لتنزع بعد ذلك إسدالها، وتعلقه على المشجب، خرجت "آمنة" من الغرفة، تتسند بيدها على حوائط الردهة، شاعرة بدوارٍ طفيف في رأسها، ربما أصابها لكونها لم تتناول الطعام منذ الأمس، تنفست بعمقٍ، واتجهت إلى المطبخ، تبحث في ثلاجتها عن شيء يُمكن أكله يمدها بالطاقة المفقودة، تبعتها "همسة"، وأحضرت لها طبقًا مليئًا بثمار الفاكهة المقطعة، ناولتها إياه وهي تقول لها:.
,
, -كلي يا ماما دول، إنتي من امبارح ماحطتيش حاجة في بؤك.
, ردت عليها بزفيرٍ ثقيل:
, -وحد ليه نفس ياكل بعد الأخبار اللي بنسمعها؟
, ضغطت على شفتيها للحظةٍ، قبل أن تعقب بصوتٍ هادئ:
, -إن شاء **** خير.
, نظرت "آمنة" إلى ابنتها بعينين تحبسان العبرات فيهما، وأردفت تخاطبها بحزنٍ، وقلبٍ ملتاع:
, -قلبي واكلني على أختك أوي، عايزة أكلمها، واطمن عليها.
, تنهدت "همسة" قائلة بقليلٍ من الضيق:.
,
, -ما هي مش فاتحة نت و**** يا ماما من آخر مرة اتكلمت فيها.
, اقترحت عليها بتلهفٍ:
, -ما نكلمها دولي.
, في التو أطلعتها على ما قامت به:
, -عملت كده، طلبتها على رقمها لاقيته مقفول٣ نقطة
, زادت تعابير القلق على ملامح والدتها؛ لكنها أسرعت بتبرير اختفائها الغريب:
, -جايز تكون نايمة لسه، برضوه هي لسه عروسة جديدة، وأكيد مع عريسها..
,
, لم تبدُ والدتها مقتنعة بتلك الحجة المنطقية، ما زال قلبها ينبؤها بأن هناك من الأخبار السيئة ما يحيق بفلذة كبدها، تحركت عيناها نحو السماءِ، ودمدمت هامسة:
, -**** يسترها عليها وما سمعش عنها اللي يضرها أبدًا.
, لجأت "همسة" لتغيير الموضوع حتى تخفف من حدة خوفها، وطلبت منها بوجهٍ جادٍ في قسماته:
, -مش يالا بينا نجهز، عشان منتأخرش على الحاج "بدير" وعيلته، ميعاد الزيارة قرب..
,
, هزت رأسها قائلة، ودون أن يقل خوفها درجة:
, -أيوه واجب نكون معاهم في الظرف ده.
, ٤ نقطة
,
, كالعادة ظل استقبال المشفى يعج بالوافدين، ممن أتوا لتقديم الواجب، والاطمئنان على الحالة الصحية، لحفيد عائلة "سلطان"؛ لكن تحولت بقعة في هذا المكان، إلى منطقة حديث خاصة؛ وكأنها حلقة اجتماعية لإجراء اتفاقات البيع والتجارة، بعد أن تعذر إتمامها في الدكان المحترق. أنهى "منذر" مكالمة عاجلة مع زوجته، لتعود ملامحه المرتخية للطابع الصلب، استقر في جلسته على المقعد المعدني متسائلاً، وعيناه مثبتتان على وجه والد رفيقه العزيز:.
,
, -ها يا حاج "بدير" في جديد؟
, كان الأخير قد انتهى لتوه من مخاطبة الطبيب، والذي لم يأتِ على ذكر جديد، بدا الحزن بائنًا على وجهه الذابل، حين أجابه:
, -لا و**** يا ابني، الدكتور مقالش اللي يريح بيه قلبنا.
, علق بتفاؤلٍ:
, -إن شاء**** يعدي منها على خير
, جاء رده مقتضبًا:
, -**** كريم.
, استطرد "سراج" قائلاً، ونظرة عابرة حانت منه في اتجاه "هاجر" ورضيعها:.
,
, -ما تخلي أهل بيتك يروحوا يا حاج، كفاياهم بهدلة في المستشفيات.
, أيده "عوف" في قوله، فتكلم إليه:
, -معاك حق يا "سراج"، هما ذنبهم إيه يفضلوا كده؟
, بينما أضــاف "منذر" مشددًا بلهجة جمعت بين الجدية والرفق:
, -ارجع معاهم يا حاج، احنا كلنا هنا واقفين مع "تميم"، مش هانسيبه للحظة، ده أخويا، ومايرضناش نشوفك كده تعبان يا حاج.
, هز رأسه بالنفي، قبل أن يخرج صوته قائلاً:.
,
, -مقدرش، ده حتة مني.
, تحولت نظرات "منذر" نحو الجد "سلطان"، والذي كان يقرأ القرآن بهدوءٍ، في ركنٍ منعزل عن البقية، وأكمل:
, -الحاج الكبير محتاج يرتاح بردك.
, أخبره في يأسٍ:
, -أنا حاولت معاه، هو دماغه أنشف مني..
,
, صمتٌ ثقيل ساد في الأجواء للحظاتٍ، احترامًا لمشاعر الأب الموجوع، بضعة همهمات جانبية خاصة بمناقشات مقتضبة عن الأعمال، إلى أن انضم إليهما "خليل" وزوجته، عاد الصخب بحضورهما، خاصة مع تهليل الرجل المزعج:
, -قلبي عندك يا حاج.
, انتبه إليه "بدير"، ونظر في اتجاهه مغمغمًا:
, -متشكر.
, ادعت "حمدية" تجفيفها لدموعٍ غير موجودة بطرف حجابها، وقالت بصوتٍ جاهدًا ليبدو متأثرًا:.
,
, -**** يسمعنا كل خير قريب، شدة وتزول.
, كان رده مقتضبًا أيضًا معها:
, -يا رب.
, أشــارت بيدها نحو المكان الجالسة به "ونيسة"، وأخبرته بنوعٍ من المواساة:
, -هاروح أشوف الحاجة أخد بخاطرها كده، كبدي عليها، قلبها أكيد موجوع عليه.
, علق عليها "خليل"؛ وكأنه يبدي تفهمه لمشاعر الأسرة المهمومة:.
,
, -ما هو ضناها يا "حمدية"، شوفي إنتي لما عيل بيسخن شوية بتعملي إيه؟ ما بالك بقى بالمعلم "تميم" واللي حصله!
, مصمصت شفتيها متمتمة:
, -أه و****، **** ينجيه ويطمنكم عليه.
, لم يكن "بدير" في مزاجٍ رائق يسمح له بالمماطلة في أي حديث؛ وإن كان للشد من أزره، لذا جاء تعليقه مختصرًا للغاية:
, -أمين، متشكر ليكم..
,
, انسحبت "حمدية" من التجمع الذكوري، وجلس زوجها برفقة الحاضرين، ملتزمًا غالبية الوقت بالصمت، حينما انتقل الحديث إلى موضوعٍ آخر يخص إدارة الأعمال، وكيفية تغطية الخسائر الفادحة التي لحقت بعائلة "سلطان"، بعد احتراق دكانهم الكبير، وتلف البضائع بداخله. حفظًا لماء الوجه، اقترح "خليل" على مضضٍ، ليظهر اهتمامًا زائفًا بالدعم:.
,
, -لو محتاج يا حاج الدكان عندنا تحط فيه البضاعة خده، هو بقى متوضب دلوقتي وآ٣ نقطة
, قاطعه "بدير" بهدوءٍ، ليشكره بلطفٍ رافضًا عرضه:
, -تسلم يا "خليل"، دكان "سلطان" هيرجع أحسن من الأول.
, ارتفعت نبرة "عوف" قليلاً عندما اقترح هو الآخر بجديةٍ غريبة:
, -ما تستخدم يا حاج الدكان التاني، اللي "محرز" كان بيودي عليه البضاعة..
,
, ظهرت أمارات الصدمة على وجه "بدير"، وانعكست كذلك على نظراته وهو يردد مدهوشًا:
, -دكان تاني؟!
, أوضح له "سراج" بتعجبٍ من جهله عن حقيقة امتلاك نسيبه لدكانٍ كبير:
, -أيوه، اللي موجود في (، )، إنت معندكش خبر عنه ولا إيه؟
, بنفس الوجه المندهش قال:
, -دي أول مرة اسمع عنه منكم دلوقتي.
, تطلع "عوف" باستغرابٍ إليه، وواصل القول، كما لو كان يمده بقطع المعلومات الناقصة:.
,
, -احنا على طول بنوردله بضاعة على هناك، مش كده يا "سراج"؟
, هز رأسه مؤكدًا على حقيقة الأمر:
, -مظبوط.
, تساءل بوجهٍ متجهمٍ، وعينان تتحركان في ضيقٍ، وكأن أحدهم طرق على رأسه بمطرقة غليظة:
, -الكلام ده بقاله أد إيه؟
, تبادل "عوف" مع "سراج" نظراتٍ حائرة، قبل أن ينطق الأول:
, -أديله سنين.
, من بعيدٍ جاء "هيثك" بخطواتٍ متهادية، ألقى التحية على الجميع، وتساءل في اهتمامٍ:.
,
, -إيه الأخبار يا رجالة؟ في جديد؟
, التفت نحوه "منذر"، وقال:
, -لأ لسه يا "هيثم".
, حمل وجهه تعبيرًا آسفًا عليه، انتقى مقعدًا شاغرًا، وجلس عليه، ليتابع بعدها سرد ما فعله:
, -**** يسمعنا كل خير، عمومًا أنا سلمت بضاعة المخازن لسفن البحر، ودي الفواتير.
, استدار الحاج "بدير" برأسه في اتجاهه، ونطق بصوتٍ عكس حزنه العميق:
, -رمينا عليك الشغل كله يا "هيثم".
, رد بتلقائيةٍ:.
,
, -أنا متعود على كده.
, ربت "منذر" على ظهره، يمتدح جديته التي ظهرت مؤخرًا:
, -هو أدها وأدود.
, قال "سراج" بلهجةٍ غير مازحة مطلقًا:
, -لو في أي حاجة نقصاك عرفني، وأنا هورد من عندي على اسم دكان الحاج "سلطان".
, أضــاف عليه "منذر" بقامته التي زادت طولاً، حينما استقام في جلسته:
, -والنقل من عندنا، العربيات موجودة، توصل لأي حتة عايزينها.
, آمن عليهما "عوف":.
,
, -مش عايزين حد يتأثر، الناس ملهاش ذنب يتعطل شغلها.
, نظرات امتنانٍ تجولت من عيني "بدير" على وجه الرجال المجتمعين من حوله، حقًا حينما تشتد الأزمات، تظهر معادن الرجال الحقيقية، وحوله نخبة ممن يعدون مثالاً للشهامة والأصالة، دمعة فرت إلى طرفه وهو يشكرهم:
, -كتر خيركم يا رجالة، أنا مش عارف أقولكم إيه؟
, أخبره "منذر" بصدقٍ نابع منه:
, -احنا عيلة وأهل، و"تميم" ده أخونا مش بس صاحبي..
,
, منحه نظرة خاصة، تعبر عن محبةٍ صافية، وقال مبتسمًا لهم:
, -ده مش جديد عليكم، نردهالكم في الفرح.
, صــاح "عوف" قاطعًا على نفسه وعدًا:
, -ندرًا عليا لما يخرج من هنا لأدبح عجل وأفرقه على الغلابة.
, وأضاف عليه "منذر" بحماسٍ أشد:
, -2 من عندي كمان.
, ابتسامة متفائلة شقت طريقها أخيرًا إلى محياه، فعلق "بدير" برجاءٍ:
, -يقوم بس، وبعدين نقلبها جزارة..
,
, لمسةٌ جادة على كتف "منذر" أجبرته على الاستدارة نحو وجه شقيقه، الذي جاء لمقابلته، تحية سريعة أعطاها للرجال، ثم مال على أذنه يهمس له:
, -"منذر" عايزك.
, استأذن بالذهاب لدقائق بعيدًا عنهم، ووقف به في منطقة شبه هادئة، متسائلاً بوجهٍ مهتم:
, -ها عرفت حاجة؟
, علامات اليأس انعكس على تعبيرات وجهه وهو يخبره:
, -ولا حس ولا خبر عنه، فص ملح وداب ابن الـ، !
, رد عليه "منذر" بنظراتٍ قاتمة:.
,
, -مسيره يظهر، ما هو مش هيفضل مستخبي كده كتير، لازمًا هيحتاج فلوس، ما هو مش قاعد على كنز.
, كان المقطع الأخير من حديثه منطقيًا، خاصة مع تطور الأحداث بشكلٍ مفاجئ، ودون ترتيب مسبق. هز "دياب" رأسه وهو يكمل:
, -وأنا مكلم رجالتنا في كل حتة كان بيروحها، في عين لينا تبلغنا وقت ما يشوفوه.
, بتعبيرٍ غامض ومخيف، ينم علن نية مبيتة، لإذاقته أقسى أنواع الألم، اختتم "منذر" حديثه معه:.
,
, -هيروح مننا فين؟
, ٣ نقطة
, أسندت يديها المضمومتين في حجرها، وأطرقت رأسها للأسفل في أسفٍ مصطنع، مدعية تراكم الهموم في صدرها، لتبدو مقنعة وهي تدعي حزنها الشديد على فاجعتها. اعتصرت "بثينة" عينيها بقوةٍ طفيفة، لتلتهب حدقتاها، فتظهر وكأنها كانت تبكي عليه، زفيرٌ بطيءٍ تحرر من بين شفتيها، قبل أن تتبعه بقولها:
, -قلبي عندك ياختي.
, لم تنظر "ونيسة" في اتجاهها، وردت عليها بصوتها المنتحب:.
,
, -شوفتي اللي حصله؟
, زمت "بثينة" شفتيها متابعة بحزنٍ:
, -آه، يا حبة عيني، ده لسه في عز شبابه٣ نقطة
, ثم هزت رأسها، وأشــارت بيدها نحو ابنتها مواصلة حديثها:
, -بعيد عنك أول ما "خلود" سمعت الخبر طبت واقعة منب على الأرض، بقيت محتاسة مش عارفة أعمل معاها إيه؟
, لكن ما لبث أن غلف التنمر صوتها، عندما أخبرتها بما يشبه اللوم:.
,
, -مع إنه جه عليها جامد، بس هي مخلصهاش، صممت تيجي وتقف جمبه، ما هي كانت بردك مراته في يوم من الأيام.
, لم تستسغ تلميحها المبطن، فازدردت ريقها، وغمغمت في تبرمٍ:
, -كتر خيرك يا "بثينة"، زي ابنك برضوه.
, لوت ثغرها قائلة بامتعاضٍ، لم تخفه:
, -أيوه.
, ٤ نقطة
,
, اضطر أن يتوقف عن قراءته المتأنية في مصحفه الشريف، ليرفع رأسه في اتجاه الظل الذي أطل عليه، لم يبدُ "سلطان" مزعوجًا عند رؤيتها، بل على العكس توقع مجيئها؛ لكنه استغرب من تأخير حضورها، وقفت "خلود" قبالته تطالعه بنظراتٍ حائرة، دار بنظراته المتعبة عليها، لاحظ تشكل الهالات السوداء أسفل جفنيها، حتى عينيها كانتا منتفختان على الأخير، بالإضافة إلى أنفها المتورم من كثرة البكاء، نهنهة صوتها كانت واضحة عندما سألته:.
,
, -"تميم" عامل إيه دلوقتي يا جدي؟
, رد بهدوءٍ، وابتسامة رضا تلوح على فمه:
, -في نعمة من نعم ****.
, سألته بتلهفٍ كبير، ودقات قلبها تنتفض:
, -يعني فاق؟
, هز رأسه نافيًا:
, -لأ.
, كزت على أسنانها هاتفة بعصبيةٍ، رغم خفوت صوتها؛ كما لو أنها تلومه:
, -أومال بتقولي ليه يا جدي إنه بقى كويس؟
, رمقها بنظرةٍ صارمة، وقال ببساطةٍ:
, -لأنه في معيّة ****، واللي مع **** في نعمة.
, لم تستلذ رده، وصاحت بحسمٍ:.
,
, -أنا عايزة أشوفه.
, أرجع رأسه للخلف ليحوز على نظرة كاملة لها، وسألها بصوته الهادئ:
, -تشوفيه ليه؟
, وكأنها قد تعجبت من سؤاله، فردت باستنكارٍ شديد:
, -ده جوزي، ولازم أبقى جمبه.
, صحح لها خطئها بنبرة خشنة، خالية من التعاطف:
, -لأ مش جوزك يا بنت "بثينة"، ولو محتاج حد، فأهله جمبه، هو لسه معدمناش!
, اغتاظت من إقصائه لها، فصاحت بحنقٍ، والغضب يتطاير من مقلتيها:
, -وأنا من أهله.
, جاء رده عليها صارمًا:.
,
, -كنتي خلاص، واللي كان عايزه حفيدي وهو واقف على رجليه، هيتنفذ وهو راقد على فرشته كأنه موجود بينا.
, لانت نبرتها قليلاً لتستجدي عطفه:
, -و"تميم" هايعوز إيه غير إني أخد بالي منه؟
, ثم جلست إلى جواره متابعة بتوسلٍ:
, -أنا أولى بيه يا جدي من أي حد، أنا حبيبته، أنا حب عمره.
, تلك النعومة المزيفة تلاشت مع إكمالها بأنانية واضحة، وبتوحشٍ ظهر في عينيها:.
,
, -أنا من دمه ولحمه، أنا مراته، وعمري ما هابعد عنه، "تميم" مكتوب على اسمي، محدش ليه فيه حاجة غيري.
, ضجر الجد من ثرثرتها المزعجة، وهتف عاليًا بصوتٍ آمر:
, -يا "بثينة"، خدي بنتك اكشفي على عقلها، الظاهر فوت منها خلاص.
, ٤ نقطة
,
, بالرغم من عظامها المتألمة، وكدماتها الظاهرة على أجزاءٍ متفرقة في جسدها، واصلت "فيروزة" بحثها عن هاتفها المفقود، لم تجده منذ الصباح، لوهلة ظنت أنها أضاعته، خلال شجاره العنيف مع ذاك الملقب بزوجها، فتشت عنه في حقيبتها، وسؤالٌ بعينه يتردد على لسانها:
, -موبايلي راح فين؟.
,
, تركت حقيبتها، واتجهت للبحث عنه في باقي أرجاء الغرفة؛ لكن لا أثر له، انتابتها حيرة مغلفة بالخوف، شعرت بجفافٍ مرير يجتاح حلقها، وصوتها يهتف:
, -أنا متأكدة إني كنت سايباه هنا..
,
, قفز قلبها فزعًا لاحتمالية استبعدت حدوثها لوهلة؛ لكن ما إن استغرقت في تفكيرها، أزيلت الغشاوة عن عقلها، واتضحت الصورة المنقوصة، ربما خلال غيبوبتها استغل "آسر" الفرصة وسرقه، كان ذلك التعبير الأدق لوصف ما فعله! وذلك لتضييق الخناق عليها، فلا تلجأ بأي صورة ممكنة لأي مساعدة خارجية، تنجدها من شرور نفسه المريضة، اِربد وجهها بالغضب، وتساءلت في حيرة:
, -طب هاعمل إيه دلوقتي؟.
,
, غالبت دموع القهر التي ملأت حدقتيها، لتقول لنفسها بنبرة عازمة:
, -مهما حاولت تكسرني مش هاتقدر يا "آسر"!
, ٤ نقطة
,
, في غفلة من الجميع، تسللت للطابق المتواجد به غرف العناية الفائقة، على أمل رؤيته، بعد أن ضاقت ذرعًا من تلبية أحدهم لرغبتها، تبقت لها عقبة تجاوز الممرضة المسئولة عن متابعة المرضى، حاولت إقناعها بتركها معه بمفردها لبضعةٍ لحظات؛ لكن الأخيرة رفضت بشدة، وقالت بنبرة منزعجة، ومتزمتة في نفس الوقت:
, -يا مدام ماينفعش كده.
, بكت "خلود" في حرقةٍ لتسترق قلبها وهي ترجوها:
, -أنا مراته و٤ نقطة
,
, انخرطت في بكاءٍ أشد، لتضيف بشهقات متقطعة:
, -وأم ابنه.
, بدت الممرضة آسفة على حالها، ومع هذا تمسكت برفضها:
, -ممنوع يا مدام تتواجدي هنا، ماينفعش!
, ألحت عليها بصوتها الباكي، ووجه تعمدت أن يكون وديعًا:
, -هو محتاجني، لما هيسمع صوتي هيفوق.
, أخبرتها بلهجةٍ أظهرت ترددها:
, -لو حد شافك هنا هيحصلي مشكلة.
, لامست لين رأسها، فأكدت في لوعةٍ:
, -أنا مش هاطول، هما 5 دقايق بس.
, على مضضٍ استسلمت الممرضة أمام عنادها، وحذرتها:.
,
, -ما تزوديش عن كده.
, ابتسامة أمل أنارت شفتيها وهي ترد:
, -حاضر.
,
, أرشدتها الممرضة إلى مكانه، وأوصتها مجددًا بعدم إطالة وقت تواجدها معها، منعًا للمشاكل، أومأت برأسها في انصياعٍ، وانتظرت على أحرِ من الجمر انصرافها لتلج إلى غرفته، نظرة مليئة بالحسرة انتشرت في كامل وجهها، لرؤيته مقيدًا بأسلاكٍ غريبة، موصولة بأجهزة طبية تُتيح للطاقم الطبي متابعة حالته، دنت من فراشه، وقلبها ينبض بقوةٍ، تلمست ذراعه المسنود إلى جوار جسده، خللت أصابعها في كف يده، احتضنته بقوةٍ طفيفة، ورفعته إلى وجنتها ليلمس جلده بشرتها، كفكفت بيدها الأخرى دموعها، ثم اقتربت برأسها من وجهه الساكن، لتهمس له في أذنه:.
,
, -"تميم"، حبيبي، سامعني؟ أنا جيت هنا جمبك.
, لم تحرر يده، وتحسست بأناملها ذقنه النابتة، أسبلت عينيها تخبره بصوتها الخفيض:
, -إزاي جالهم قلب يعملوا فيك كده، وهما عارفين أد إيه أنا بأحبك؟
, تحولت ملامحها إلى العبوس، وأضافت بتجهمٍ:
, -أنا مش مسمحاهم، كمان مالهاش حق أمي تشمت فيك.
, تلاشى اكفهرار وجهها مع تبريرها لتصرفها الفج:
, -بس برضوه لازم أعذرها، هي زعلانة عشاني..
, استمرت في مداعبة وجهه، ثم همست له:.
,
, -عارف لو إنت كنت معايا، مكانش ده كله حصل يا حبيبي٣ نقطة
, انخرطت في دوامة أحلامها الوردية، وأغمضت عينيها لتقول بنبرة حالمة:
, -كان زمانا نايمين في حضن بعض، وكان ممكن دلوقتي أكون حامل في ابن تاني لينا بدل اللي راح.
, تحرك صدر "تميم" بثقلٍ أصابها بالمفاجأة، هسيسٌ غير مفهوم خرجت من شفتيه الجافتين ينادي:
, -"فيروزة"!
, لم تتبين كلامه غير الواضح، مالت برأسها عليه أكثر، وسألته بقلبٍ يدق بحماسٍ:.
,
, -"تميم" إنت سامعني؟
, قربت "خلود" شفتيها من فمه، لتسمعه يهمس باسمها، بحنينٍ لم تختبره يومًا معه:
, -"فيروزة"!.
,
, اختفت مشاعر الإشفاق عليه، حتى لمعان عينيها بسبب دموعها جف سريعًا، "فيروزة" هذا الاسم البغيض إلى نفسها، من اعتبرتها مفسدة حياتها الرومانسية، ها هو وسط ضلالاته يناديها، حررت يده من أصابعها، ورمقته بنظرة نارية مليئة بالغيظ، ظلت شفتا "تميم" ترتجف بهمهمة اسمها، فخرجت عن شعورها، ووضعت كفيها على كتفيه، تصرخ فيه بجنونٍ:
, -بتقول اسمها حتى وإنت بتموت؟ إييييييه؟!.
,
, انفجر غضبها مع صمته المستفز، فهدرت بانفعالٍ شديد، لاكزة إياه:
, -خلاص، مافيش إلا هي في دماغك؟
, حاولت هز جسده المتصلب خلال صراخها به:
, -وأنا فين؟ رد عليا؟ أنا فين في حياتك يا "تميم"؟
, اختنق صوتها مع استمرارها في الصياح به:
, -أنا مراتك، وبنت خالتك، وأم ابنك، ناسيني ليه؟
, عادت مشاعرها التملكية تحتل نبرتها، وهي تطلق عباراتها الغاضبة نحوه:.
,
, -إنت جوزي أنا وبس، الزفتة دي خلاص غارت في داهية، معدتش موجودة وسطنا، بتفكر ليه فيها؟ عملالك إيه عشان حتى وإنت راقد كده بتنطق باسمها قصادي؟ تفرق إيه عني؟ واشمعنى أنا لأ؟ كل اللي عملته عشانك محيته في لحظة؟ أنا مراتك، إنت اخترتني عشان أكون ليك من زمان، من قبل ما أعرف يعني إيه حب، ورضيت أكمل معاك بعد سنين من الانتظار، يعني إنت من حقي وبس، قلبك ملكي لوحدي أنا بس، محدش غيري ليه حق فيك!.
,
, اخترق صوتها المحتد طبلة أذنه وهي تكرر عليه بلهاثٍ منفعل:
, -سامعني يا "تميم"؟ إنت جوزي.
, خبت عصبيتها مع ترديدها:
, -إنت حبيبي، وكل حتة فيك ملكي أنا.
, تحركت يدها لتلمس ثغره؛ لكنه أوقفها قبل أن تصل إليه، بالقبض على معصمها، في حركة مفاجئة، أصابتها لحظيًا بشلل مؤقت، اتسعت عيناها على آخرهما، وصوته يخرج بطيئًا من بين شفتيه يأمرها:
, -إياكي..
, بلعت ريقها، وهتفت ببسمة مذهولة:.
,
, -"تميم"، أنا مش مصدقة عينيا.
, ما كان سائدًا في مجمل مشاعره نحوها، بعد أن استفاق من ظلام عقله، رفضًا قطعيًا لوجودها بقربه، وبصوتٍ جاهد ليخرج ثابتًا، صارمًا، ولا بادرة تردد فيه، أمرها:
, -متقربيش مني يا، بنت خالتي٣ نقطة
, شهقة غاضبة انفلتت من بين شفتيها المنفرجتين، وقبل أن تفكر في تسول عواطفه، بهذا الشكل المرضي السقيم، حسم وصف علاقته بها، بقوله النهائي الذي لا رجعة فيه:.
,
, -إنتي متحرمة عليا، سواء كنت عايش، ولا ميت، !.
 
٤

صراخها الحاد المصحوب بعويلٍ غير مفهوم، اخترق سكونه الإجباري، ليحفزه على إسكاتها، فاستعاد تدريجيًا وعيه؛ لكنها لم تدرك هذا وسط نوبة هياجها، استجمع فكره الضائع، وبدأ عقله التائه في منحه تفسيرًا سريعًا لما يدور حوله؛ وإن لم يلم بالصورة الكاملة بعد، نفس الكلمات المستهلكة، والعبارات الباعثة على النفور تتردد بقوة من حوله، لتذكره بواقعه المؤذي معها، الاهتزازات العنيفة التي أصابت بها جسده، جعلته أكثر يقظة، وتنبهًا لتصرفاتها الخرقاء. شحن تميم كامل طاقته الخامدة، ليصل إلى يدها، قبل أن تتمكن من لمسه، لم يفتح جفنيه بعد، فقد كان رافضًا بشدة، أن تحظى بأفضلية أول من تبصره عيناه، بعد انقطاعٍ عن عالمه المألوف، وإن كان لم يدرك بعد، كم مضى عليه في هذا الخمول المرهق.
,
, ارتخت أصابعه عنها، فسحبت خلود يدها وهي تكاد لا تصدق نبذه الكريه لاقترابها، تملكها المزيد من الغضب الأهوج، وارتفعت نبرة الحقد في صوتها، فسألته:
, -يعني إيه متحرمة عليك؟
, لم يفتح عينيه بعد، وأجاب بصوته الهادئ، فأظهر وهنه:
, -زي ما سمعتي.
,
, آلام عنيفة اجتاحت جسده وهو يحاول تحريك أطرافه، كتم بصعوبة تأويهاته، حتى لا يظهر بالضعف أمامها، تخلى عن تلك المحاولة ريثما يشحن طاقاته المفقودة؛ لكن صوتها المزعج ضاعف من صداع رأسه، وهي تلومه:
, -ليه يا تميم كده؟ ده أنا مراتك، أنا٣ نقطة
, قاطعها بعصبيةٍ بذل جهدًا كبيرًا خلال ذلك، حتى لا ينعكس في صوته؛ لكنه فشل:
, -أنا لسه بعقلي، وأنا طلقتك، اللي بينا خلص من زمان، وكفاية بقى تعبت من الأسطوانة دي.
,
, رنة الصراخ باتت مؤذية أكثر له عن ذي قبل وهي تواصل معاتبته ببكائها:
, -حرام عليك، بتعمل فيا كده ليه؟
, إكرامًا للماضي، منحها فرصة أخيرة، قبل أن يندفع في تجريحها، بقوله الصارم:
, -لو لسه عندك شوية احترام لنفسك امشي من هنا.
, كورت قبضتها، وضغطت على أناملها حتى ابيضت مفاصلها، عندما سألته بغيظٍ:
, -عايزيني أمشي عشان تفضل تفكر فيها براحتك؟
,
, كانت إلى حد ما محقة في جملتها الأخيرة، ولم يكن ليلومها على هذا، لولا أن أساءت إليه بحديثها الفج:
, -خلاص كلت دماغك بنت الـ (، ) حتى وإنت بتموت؟
, للمرة الأولى اضطر أن يتخلى عن رغبته في عدم رؤيتها، لتماديها في إحراق أعصابه بلغوها المزعج، وإساءاتها المتكررة، خاصة إلى من حُرم الفؤاد من التعلق بها، حدجها بنظرة قاسية، خالية من المحبة، قبل أن يهدر بها مهددًا، بصوتٍ آلم صدره:.
,
, -احفظي لسانك لو هتكلمي عنها، وإلا٣ نقطة
, سعل بشدةٍ حتى جُرحت أحباله الصوتية، كذلك حركته المفاجئة جعل الألم ينتشر بعنفٍ في أنحاء جسده. استفزها دفاعه عن فيروزة ؛ وإن لم تعد له، شعرت بغليانٍ يكوي قلبها، فسألته بصوتٍ حاقد، ونظرات نارية:
, -وإلا إيه يا تميم؟
, حرك يده ببطءٍ، وأمرها بصوتٍ لاهث للغاية:
, -امشي من هنا.
, تجاهلت أمره، وسألته بنفس الصوت الحانق، وعيناها تشتعلان أكثر:
, -كل ده عشانها؟
,
, سعل مجددًا وهو يخبرها:
, -مايخصكيش٣ نقطة
, استطاع أن يشعر بطعم العلقم المرير في جوفه، عندما أكمل جملته بهمسٍ متألم:
, -ولا حتى هي تخصني دلوقتي.
, فقدت آخر ذرات تحملها، فانفجرت تصرخ فيه بهياجٍ أقوى عن كل مرة، مظهرة شماتة مثيرة للغثيان، وهي تلوح بكفيها أمام وجهه:
, -ده إنت تستاهل اللي اتعمل فيك.
, اتسعت حدقتاه مصدومًا من ردها الوقح، ومع هذا واصلت الإفصاح عن نواياها الشريرة، بتهديدٍ أشد رعونة:.
,
, -ولو كانت قصادي كنت قتلتها بإيديا دول، عشان أشوف قلبك محروق عليها.
, عجزت أطرافه عن الاستجابة لرغبته في الانتفاض، والتحرك من تلك الرقدة السقيمة، لطردها من محيطه، ما زال جسده يئن من أوجاعه المُهلكة، وهي كالمجذوبة تُلقي بالملح على جروحه الملتهبة، لتزيد من إحراق روحه المعذبة، لو لم يكن مقيدًا بالجبائر الطبية، لفعل الأسوأ في حقها، متناسيًا ما كان بينهما يومًا، تبقى له صوته ليصيح فيها بخشونةٍ:.
,
, -اطلعي برا.
, تجاهلت مجددًا، وهدرت تسأله بمرارةٍ كبيرة:
, -هي أحسن مني في إيه؟
, قست عيناها وهي تلعنها باحتقارٍ:
, -دي ماتسواش مداس في رجلي!
, جُرحت أحباله وتقطعت بألمٍ عندما هتف بها:
, -امشي من هنا.
, قضت على قشة الاحترام الأخيرة، بوقاحتها غير المحدودة، وتلك النظرة الحقود تنطلق من عينيها:
, -تصدق ب****، إنت تستحق إنك تكون عاجز كده، متقدرش حتى تقوم من مكانك.
,
, استجمع آخر ما تبقى في صوته المبحوح ليهدر عاليًا، بكل ما فيه من غضب:
, -غــــــــــوري من هنا.
, على إثر احتدام أصوات صراخهما، جاءت الممرضة ركضًا إليها، تفاجأت بإفاقة المريض الذي اعتبرت حالته حرجة للغاية، وما أدهشها أكثر اشتباك زوجته معه، توجهت على الفور إلى الأخيرة، تجذبها من كتفيها بعيدًا عنه، وهي ترجوها، بعد أن أدركت حجم المشكلة التي أوقعتها فيها، بسبب عصبيتها الفاضحة:.
,
, -يا مدام، اللي بتعمليه ده ما يصحش.
, بنظراتٍ شيطانية تابعت خلود قائلة، بنوعٍ من الشماتة الحقود، وهي تقاوم الممرضة التي تسعى لإخراجها من المكان:
, -تعرف اللي عمل كده فيك، يستاهل فلوس الدنيا كلها.
, حدجها تميم بنظراتٍ قاتلة، حافظ على صمت، رغم النهجان الظاهر على صدره، لم يعقب عليها، والتفت ناظرًا إلى الطبيب الذي انضم إلى ثلاثتهم، ليبدأ في توبيخ الممرضة لتساهلها مع حالة المريض:.
,
, -إيه المهزلة دي؟ مين سمحلها تدخل؟
, أنكرت الممرضة في حرجٍ، ووجهها متضرج بحمرةٍ قلقة:
, -مش عارفة يا دكتور.
, استخدمت كامل قوتها لتبعدها عن فراشه؛ لكن خلود أصرت على إفراغ ما في جعبتها من حقدٍ مغلول، فاستأنفت متوعدة إياه:
, -وأنا بأقولهالك يا تميم، وقصاد الغُرب والقُرب، بحق كل لحظة حبيتك فيها لأخليك تكره اليوم اللي سبتني فيه، وفكرت في الـ(، ) دي!
,
, استعانت الممرضة بزميلتها التي جاءت على إثر الصخب العنيف، تعاونت الاثنتان في إزاحتها من مكانها، وإخراجها من الغرفة، ومع ذلك بقي صوتها المرتفع يهدد بشراسةٍ متعاظمة:
, -هخلي حياتك جحيم أكتر ما هي، وهتشوف يا ابن خالتي خلود هتعمل فيك إيه.
,
, صدمة على كافة المستويات والأصعدة، لم يكن ليتخيل حدوثها أبدًا، أو ارتباطها به؛ لكن التحريات الدقيقة، والنتائج الأخيرة التي توصلت لها الأجهزة الأمنية، أظهرت تلك الصلة الخفية بين الاثنين، لم يكن وجدي ليتصور أبدًا أن رفيقه المقرب، يُدير في الخفاء أعمالاً غير مشروعة. وصمة عار على جبينه، بل وعلى جبين كل من علاقة به، بالطبع لم يخبر ماهر عن تلك الأخبار هاتفيًا، أراد أن يطلعه على ذلك شخصيًا، وعلى حسب الموعد المتفق عليه، اجتمع معه في النادي، وهو لا يعرف كيف يفاتحه فيه.
,
, لاحظ ماهر الحيرة البادية على وجهه، ناهيك عن الوجوم المنتشر في تقاسيمه، لهذا بادر متسائلاً في اهتمامٍ:
, -خير يا وجدي؟ كنت عايز تشوفني ضروري ليه؟
, سأله مباشرة دون استهلالٍ:
, -امتى آخر مرة اتكلمت فيها مع آسر؟
, صمت للحظاتٍ ليعصر ذاكرته، قبل أن يمنحه الجواب المفسر:
, -تقريبًا قبل ما يسافر، وبعتله رسالة أباركله فيها على جوازه من صاحبة علا.
, زم وجدي شفتاه لثانية، وعقب بوجومٍ يدعو للريبة:
, -طيب.
,
, تفرس ماهر في وجهه بنظراته المتشككة وهو يسأله:
, -هو في حاجة؟ بتسأل عنه ليه؟
, بامتعاضٍ أجابه، دون أن تفتر تعابيره العابسة:
, -إنت عارف طبعًا إني شغال على قضية تهريب كبيرة.
, هز رأسه مؤمنًا على كلامه، وأضاف:
, -أيوه، وبدأت تمسك خيوط فيها.
, اقتضب في رده الحذر:
, -بالظبط٣ نقطة
, تركزت عينا ماهر معه، فوراء تردده الملحوظ إيحاءً عظيمًا بكارثة خطيرة، وزاد هاجسه قوة، عندما تكلم بزفيرٍ ثقيل؛ وكأنه يستصعب الأمر:.
,
, -ومن ضمن الخيوط دي، اكتشفنا إن في علاقة بين واحد من المتورطين فيها وآ٣ نقطة
, في بادئ الأمر، لم يجرؤ على الإفصاح عن هويته، فسأله ماهر بفضولٍ مهتم، وقد كان مرتخيًا في تعبيراته:
, -مين؟
, ثبت أنظاره عليه، ونطق بوجهٍ مكفهرٍ للغاية:
, - آسر.
, برزت عيناه في محجريهما لصدمته، وردد في ذهولٍ:
, -أوعى يكون قصدك عن آ٣ نقطة
, لم يدعه يكمل جملته، وتابع بدلاً منه:
, -أيوه هو، آسر صاحبنا.
, هتف مذهولاً بتعابيرٍ أشد وطأة في صدمتها:.
,
, -طب إزاي؟ أكيد في حاجة غلط! استحالة يكون الكلام ده مظبوط، آسر مش من النوعية دي.
, كانت ملامحه المتجهمة دليلاً على ضيقه الكبير من الحقيقة الصادمة، ولهذا بدت رنة الحنق واضحة في صوته وهو يعقب عليه:
, -أنا عملت زي كده، ماكنتش مصدق، لحد ما اتأكدت بنفسي، بعد ما خدنا أمر من النيابة بتفريغ سجل مكالمات محرز من شركة المحمول، كشفنا عن الأرقام، وطلع واحد فيهم بتاع آسر، والمكالمات بينهم من زمان.
,
, بعقلٍ رافض للاستيعاب، دمدم ماهر بنفس الصوت المذهول:
, -استحالة يكون بالوضاعة دي!
, رنة من السخرية، غلفت نبرة وجدي، حين قال بكلماتٍ بطيئة متهكمة:
, -تخيل إنت بنحكي عن شغلنا قصاده ليل نهار، واللي بنعمله عشان نمسك المهربين، وهو يسمع من هنا، ويظبط عملياته على الأساس ده.
, نظر له في أسفٍ، وسأله:
, -طيب وهتعمل إيه؟
, ظهرت الحيرة على ملامحه وهو يرد:
, -لسه مش عارف، ما هو البيه يعتبر هربان برا، وأنا محتاج أجيبه هنا.
,
, صمت الاثنان عن الحديث، ليسترجعا ما كان يجمع ثلاثتهم من صداقة ممتدة، تخللها لحظات فرحة وسرور، ولحظات حزنٍ وهموم. زفر ماهر الهواء المحمل بدخان سيجارته المشتعلة، قبل أن ينطق بحنقٍ:
, -المصيبة إني كنت فاتحله بيتي، ومأمنه على أختي.
, رد في ندمٍ حرج:
, -الموضوع ده لطتنا كلنا.
, أيده في قوله بإضافة المزيد، باستهجانٍ صريح:
, -فعلاً، وجايز يفكروا إننا متورطين فيه، ولا يمكن نكون بنمده بالمعلومات.
, رد على مضضٍ:.
,
, -ماتستبعدش ده، وخصوصًا إن الكل عارف علاقته بينا.
, -أيوه
, خرجت كلمته الأخيرة مع إنهائه لسيجارته الأولى، قبل أن يتبعها بأخرى، عل دخانها الحارق يساعده في التنفيس عن الغضب المتجمع في صدره، ارتفعت أنظاره نحو وجدي من جديد، وهو يطلب منه برسميةٍ:.
,
, -يا ريت يا ماهر ماتجيبش سيرة لـ علا كمان، مانضمنش تتصرف بتهور، وأنا مش عايزه يشم خبر إننا عرفنا، أو حتى يلاحظ إن في تغيير ولا حاجة في المعاملة، لحد ما نشوف خطة نرجعه بيها للبلد.
, علق بتبرمٍ:
, -أكيد أنا مش غبي للدرجادي.
, تنحنح قبل أن يوضح له:
, -لزيادة الحرص مش أكتر.
, -تمام.
,
, التفت وجدي بعينيه نحو النادل الذي أحضر القهوة إليه، شكره بإيماءة صغيرة من رأسه، تجرعها ببطء، وقد بدا عليه التفكير العميق، نظر في اتجاه رفيقه الذي لم يتوقف عن إحراق السجائر واحدة تلو الأخرى، حرر الهواء المعبق بالدخان من رئتيه، واستطرد مجددًا:
, -لازم نفكر سوا عشان نقدر نجر رجله ونخليه ينزل.
, بالرغم من الكدر المنتشر في عينيه، أردف ماهر قائلاً بغموضٍ:
, -في دماغي كده فكرة لو ظبطت، جايز تنفع.
,
, تطلع إليه وجدي باهتمامٍ، وحثه على مشاركته أفكاره طالبًا منه:
, -قولي عليها.
, لم يرف جفناه وهو يحرك فكه لينطق:
, - فيروزة صاحبة علا، أكيد هي زيها، متعرفش حاجة عنه.
, في سخرية مريرة علق عليه صديقه:
, -ده أكيد، إذا كنا احنا صحابه مكوناش عارفين إنه من موردين المخدرات، هي هتعرف إزاي؟
, بلمحة من الثقة واصل القول، وقد بدأت معالم الخطة في التشكل في عقله:
, -طرف الخيط هايكون من عندها.
,
, بدا الأمر مشوقًا، فظلت أنظاره المهتمة مرتكزة عليه، بينما تابع ماهر بلهجة عملية بحتة، وقد برقت عيناه على الأخير:
, -صدقني، لو ظبطنا الحكاية صح، نهايته هاتكون على إيد مراته.
, .
,
, الحظ لا يطرق الباب مرتين! لكن معها اختلف الأمر، ربما لأنها كانت مضطهدة للغاية، فأشفق ذاك الغريب عليها، أو لأنها بالفعل تستحق فرصة للنجاة من الجحيم الذي أوقعت نفسها فيه. لحظات من الصمت الشارد، كان كل ما حصلت عليه، بعد بقائها بمفردها، وإدراكها أنها أصبحت سجينته العاجزة، حاولت فيروزة الهروب من قساوة حياتها، بسرحانها الحزين في ذكريات مليئة بالسعادة، جمعتها مع عائلتها، جعلت عيناها تستدعي الدموع إليها. تلقائيًا وجدته يقتحم ذكرياتها الخاصة، بوجه ذي الملامح الجادة، وصفاته المفعمة بالرجولة، وكأنه السلوى لها، في عالم خلى من أمثاله، استنكرت لجوء عقلها للتفكير في تميم، بل ومقارنته بمن يحمل لقب زوجها، حقًا المقارنة مجحفة وفي غير محلها!
,
, ذاك الوضيع الذي لعن جسدها بازدرائه المهين، وإهاناته الجارحة، جعل ثقتها تتزعزع، تحركت يدها المستريحة على كتفها، لتهبط للأسفل قليلاً؛ حيث ندوب الماضي المحفورة على جلدها، ارتجفت وهي تتلمس بأطرافِ أناملها، ما وصفه بأنه تشوه متقيح، يحفز النفس على التقيؤ، عند التطلع إليه، أطبقت على جفنيها في حسرة، والدموع تنهمر منهما، طرقة ثابتة على باب المنزل جعلتها تتجمد في جلستها، تخشبت، وفتحت عينيها لتحدق فيه بتوترٍ.
,
, كانت فاقدة لقدرتها على مجابهته، تحتاج لبعض الوقت لاستعادة ضبط انفعالاتها، بعد ما تكبدته من معاناة متواصلة، طرق باب المنزل مجددًا، فانتفضت فيروزة في مكانها، لم تطئ غرفة النوم منذ أن خرجت منها، بقيت جالسة على الأريكة الوحيدة الموجودة بالصالة، استقامت في جلستها، ونظرت إلى الباب بعينين فارغتين، استمر الطرق الحذر عليه، فأجبرت نفسها على النهوض، وسارت ببطءٍ في اتجاهه، تسمرت في مكانها، وقد أتاها صوتًا ذكوريًا يخبرها من الخارج باللغة الانجليزية:.
,
, -أعلم أنكِ بالداخل، سيدتي.
, مشيت على أطراف أصابعها لتصل إلى الباب، ألصقت كفيها به، ومالت برأسها نحوه، ثم أرهفت السمع إلى الصوت الذي واصل القول:
, -وزوجك ليس متواجدًا معكِ.
, تفاجأت من تصريحه، وشعرت بدقات قلبها ترتفع في صدرها من رهبتها، استجمعت نفسها، وسألته باهتزازة بائنة في صوتها:
, -من أنت؟
, أجابها بصوتٍ ثابت، باعث على الهدوء:
, -أنا حارس البناية الأمني، من تحدث معكِ قبل قليل.
,
, دون تفكيرٍ سألته، وعيناها تتحركان في توترٍ:
, -وماذا تريد؟
, طلب منها بلطفٍ:
, -رجاءً افتحي الباب لنتكلم بالداخل٣ نقطة
, وقبل أن ترد عليه أضاف بلهجةٍ شبه جادة:
, -فالأمر هام، ويخصك٣ نقطة
, بلعت ريقها، وسألته:
, -كيف؟
, أجابها بلكنة عربيةٍ حاول أن تبدو مفهومة لها:
, -اعلم أن زوجك اعتدى عليكِ بالضرب، كان هذا واضحًا، وأنا جئت لمساعدتك.
, خفق قلبها بقوةٍ، وقبل أن ترفض مساعدته، أصر عليها:.
,
, -لا تقلقي، سيبقى الأمر سرًا، أؤكد لكِ هذا.
, ترددت في قرارها، وأخبرته بحرجٍ كبير:
, -للأسف، لا أملك المفتاح، فأنا محبوسة هنا.
, ببساطة أعلمها:
, -لا تقلقي، معي نسخة احتياطية، فقط إن سمحتِ لي.
, تصريحه الغريب أشعرها بأن قدومه إليها مقصودًا، استغرقت في تفكيرها الحائر، فشردت عن منحه الرد، وحين طال صمتها سألها بتهذيبٍ:
, -سيدتي! هل أنتِ معي؟
, تنبهت له، وقالت على عجالةٍ:
, -نعم.
, كرر عليها طلبه، بإلحاحٍ أشد:.
,
, -هل تسمحي لي بالدخول؟ أنا حقًا أريد مساعدتك، هل توافقين؟
, ولأن فضولها غلب مخاوفها أجابته:
, -نعم، لحظة واحدة.
,
, استدارت بجسدها، تفتش بعينيها سريعًا، عن عباءتها التي انتزعتها، بعد رحيل الحقير آسر، وجدتها ملقاة بإهمالٍ على مسند الأريكة، سارت على مهلٍ في اتجاهها، وارتدتها حول جسدها الذي برزت فيه كدماته الزرقاء بوضوحٍ، ضغطت على شفتيها كاتمة أنات الألم، ثم عادت إليه بعد دقائق لم يتعجلها بها، وقفت على بعد خطواتٍ من الباب تهتف من ورائه، بقلبٍ يخفق بشدة:
, -تفضل، يمكنك الدخول الآن.
, .
,
, الغليان الذي استعر في صدرها، كان الحافز المثالي، لتحريك دوافعها الانتقامية منه، وها قد بدأت في الشروع في تنفيذ مخططاتها الإجرامية، بعد تفكيرٍ عميق، استغرقها ليالٍ طويلة، رسمت في ساعاتها الممتدة، تفاصيل كل شيء، ليكون انتقامها موجعًا حتى النخاع. توقفت حمدية أمام باب المنزل الخشبي، ترمقه من خلف الساتر القماشي الأسود الذي يحجب كامل وجهها بنظراتِ ازدراءٍ كبيرة، لجأت لارتداء ال**** عن عمدٍ، ليكون وسيلتها المضمونة للتخفي السريع عن الأعين، فرغبتها في اختراق بيته الآخر، دون إثارة الشكوك كان واضحًا في تصرفها هذا. كتمت غضبها، ورفعت يدها لتطرق على الشراع الزجاجي، اِربد وجهها بالغضب مع سماعها لصوتٍ ناعم يقول من الداخل:.
,
, -أيوه يا اللي بتخبط.
, جاهدت لتثبط من أي علامات للانفعال، حتى لا تثير الريبة، وانتظرت على جمرٍ متقد فتح ضرتها لها، وما إن ظهرت قبالتها حتى صعدت الدماء الفائرة إلى رأسها، وغزت كل عروقها لتحفزها على قتلها الآن وفي التو؛ لكنها قاومت رغبتها الدموية، واحتفظت بثباتٍ تُحسد عليه، استقبلتها سماح بتعابيرٍ جادة، ونبرة متسائلة في حيرة:
, -إنتي مين يا حاجة؟
,
, نظرة دقيقة بطيئة جالت عليها من رأسها لأخمص قدميها؛ وكأنها تقييمها بها، لترى الفارق بينهما، لم تكن بامرأة خارقة الجمال، كانت في مقياسها عادية للغاية، لا ترتقي لإثارة اهتمام الرجال، ومع هذا نجحت تلك اللعوب في استدراج زوجها، وإيقاعه في حبائلها ليتزوج بها، بل ويحتفظ بسر زواجه منها لسنواتٍ طويلة. ضاقت عينا سماح عليها، وسألتها بنفاذِ صبرٍ:
, -إنتي تايهة ولا حاجة؟
,
, أجابت حمدية بكذبٍ ملفق، يشوبه هدوء عجيب، مغاير للحقد الشديد المتغلغل فيها:
, -أنا أبقى آمنة، أخت سي خليل جوزك٣ نقطة!
 
٥

لحظاتٍ من الذهول أصابتها، استفاقت منها سريعًا، ليرتفع حاجباها للأعلى في صدمةٍ، تخللتها علامات الفرحة الواضحة، فعلى عتبة باب منزلها، تقف شقيقة زوجها تنتظر استقبالها لها، وبحركاتٍ لا إرادية مسحت سماح على عباءتها المنزلية لتفرد قماشها المجعد، وهتفت مرحبة بها بحرارةٍ شديدة، وهي تتنحى للجانب قليلاً، لتتمكن من إفساح المجال لها، للمرور للداخل:
, -يا 100 مليون مرحبًا، نورتي البيت يا ست آمنة.
,
, لم تزح حمدية **** وجهها عنها، احتفظت به عليها ريثما تلج لمنزلها، لتضمن عدم رؤية أحدهم لها، ولو مصادفةً؛ كانت حريصة كل الحرص على إخفاء هويتها. تنحنحت وهي ترفع البرقع عنها، لتقول بعدها كنوعٍ من المجاملة، ويدها تحمل كيسًا بلاستيكًا:
, -البيت منور بأهله.
, سبقتها سماح في خطواتها، لتقترب من إحدى الأرائك، نفضتها بيدها لتزيح أي أتربة عالقة فيها، أو شوائب صغيرة، ودعتها للجلوس، بنفس الود الكبير:.
,
, -اتفضلي هنا يا غالية.
, رسمت ضرتها ابتسامة محبة زائفة على ثغرها، وتحركت في اتجاهها، وعيناها تحملقان بها بغموضٍ؛ وكأنها تدرس تفاصيلها، لترد بعدها بإيجازٍ:
, -كتر خيرك.
,
, مقارنة سريعة عقدها عقلها بينها وبين تلك المرأة، اعتبرتها لا ترتقي لمقياس السحر الأنثوي، ولا تستحق النظر إليها؛ فلم تكن تملك من الجمال إلا قدرًا قليلاً، جسدها ممتلئ، غير متناسق المنحنيات، ربما بشرتها أفتح بقدرٍ بسيط، الفارق الجدي الملحوظ بينهما هو اختلاف أعمارهما، فـ سماح تصغرها بعشرةِ أعوامٍ على أقل تقدير. انتبهت حمدية لنظراتها الزائدة، وأبعدت عيناها عنها، لتعلق بابتسامة صغيرة، وهي تسند الكيس البلاستيكي إلى جوارها:.
,
, -ماشاء**** ياختي، بيتك زي الفل٣ نقطة
, صاحب كلامها نظرات متأنية، مسحت بها تفاصيل المكان، وجاهدت كذلك أن تخفي ازدرائها فيها، على المنزل البسيط، الذي لا يحوي إلا أثاثًا زهيد السعر. عادت لتحدق في وجه مُضيفتها، وادعت كذبًا بابتسامة بدت إلى حد ما متقنة:
, -الصراحة يرد الروح، مش زي بيوت تانية تخشيها يقبض نفسك.
, ضحكت عاليًا، وعقبت عليها وهي تجلس على الأريكة المجاورة لها:
, -**** يكرمك يا رب، ده من ذوقك والله٣ نقطة
,
, ثم صمتت للحظة، لتضيف بعدها، بمزيدٍ من المدح:
, -وربنا خليل ما ليه إلا سيرتك على لسانه طول اليوم، وأنا كان نفسي أوي اتعرف عليكي٣ نقطة
, غلف العبوس تعابير حمدية، ولم يكن هذا كذبًا، بل صادقًا بدرجة كبيرة، لتعاظم حقدها بداخلها، غالبته بصعوبة، ثم مصمصت شفتيها، قبل أن تتابع بتنهيدة بدت آسفة:
, -بس نقول إيه الظروف بقى.
, تمتمت سماح ببسمةٍ لطيفة:
, -الحمد****.
, ضاقت عينا حمدية، وأكملت بنبرة تميل للوم:.
,
, -مالوش حق جوزك يخبي عليا.
, أخبرتها بزفيرٍ مهموم:
, -هو اتفق معايا على كده، مانجيبش سيرة لحد من طرفه، مع إن الحكاية دي ضايقتني أوي.
, علقت عليها بتذمرٍ:
, -هو أنا أي حد؟
, ولتبدو مقنعة أكثر في تمثيل دورها، أضافت أيضًا، متجاهلة الغليان الحارق لصدرها:
, -وبعدين هاكره لأخويا الخير؟ ده إنتي زي العسل وحلوة ونغشة كده.
, كركرت سماح ضاحكة على إثنائها، وردت مجاملة:.
,
, -ده من ذوقك يا ست آمنة، ياما كان نفسي أشوفك من زمان و****.
, جاء ردها لطيفًا بشكلٍ مغاير للنيران المحتدمة بداخلها:
, -القلوب عند بعضها يا حبيبتي.
, لحظة من الصمت سادت بين الاثنتين، قطعتها حمدية بقولها الهادئ:
, -بس مكدبش عليكي، أنا زعلت أوي لما قالي على جوازته منك، وكانت بالصدفة.
, اكتسبت نبرتها إيقاعًا منزعجًا وهي تحادثها:
, -هايعمل إيه بس؟ غصب عننا٣ نقطة
, لكن ما لبث صوتها أن تحول للحنق، عندما استكملت جملتها:.
,
, -كله من بوز الإخص مراته اللي ماتتسماش، منها لله قرفاه ليل ونهار، إن ما بيقول كلمة حلوة عنها أبدًا، أعوذُ ب****، ست ماتتعاشرش، يتفاتلها بلاد، ما إنتي أكيد عارفاها أكتر مني.
, اشتعلت حدقتاها في غضبٍ، لسماعها تلك الإساءات المهينة في حقها، أخفضت أنظارها حتى لا ينكشف أمرها، وعقبت بزفيرٍ ثقيل:
, -آه عارفاها.
, ضحكة مفتعلة انفلتت من بين شفتي سماح، تبعها سؤالها:
, -قعدتك الحلوة لهتني، ها قوليلي تشربي إيه؟
,
, من الجيد أنها كانت بارعة في إخفاء مشاعرها المغتاظة، وإلا لفسد ما تخطط له، رسمت حمدية تلك الابتسامة الودودة على محياها، وقالت:
, -مالوش لزوم، ده أنا جاية أقعد معاكي.
, نهضت سماح واقفة، وهتفت في سرورٍ:
, -ودي تيجي بردك؟ ده إنتي أول مرة مشرفاني، يا ريتني كنت أعرف من قبلها، كنت فرشتلك الحارة رمل وورد.
, احتفظت بابتسامتها المشرقة، لترد بإيماءة استحسان من رأسها:
, -أدها ياختي.
, كررت عليها سؤالها في اهتمامٍ:.
,
, -أعملك إيه؟
, أشارت بعينيها نحو الكيس الذي جاءت به، وأخبرتها بنفس البسمة الهادئة:
, -شوية شاي كده، أهوو ناكلهم مع الكيكة اللي عملتهالكم بإيدي.
, هللت سماح في اندهاشٍ فرح:
, -وكمان تاعبة نفسك؟
, خدعتها بقولها الزائف، لتبدو حقًا كشقيقته آمنة:
, -أكيد خليل قالك إن نفسي في الأكل حلو.
, هزت رأسها بالإيجاب وهي تنطق في تبرمٍ:
, -أومال، ده بيقولي على طول إنتي اللي بتطبخيله، بدل وش البومة اللي متجوزها.
,
, سبة لعينة كانت على وشك الإفلات من حلقها، منعتها في اللحظة الأخيرة، وأردفت بنفسٍ عميق، وكلماتٍ بطيئة:
, -أه يا، حبيبتي، ده أنا، شيلاه على كفوف الراحة، هو أنا عندي غيره سندي؟
, نظرت لها قائلة بما يشبه الدعاء:
, -**** يخليكوا لبعض.
, أمرتها حمدية بجدية، وقد شرعت في إزاحة الكيس البلاستيكي، عن العلبة الصغيرة المغلقة الموضوعة بداخله:
, -علقيلنا على الشاي، وهاتي طبقين من عندك عشان ناكل فيهم٣ نقطة
,
, نظراتها الخبيثة تلونت بلمعانٍ مثير وهي تتم جملتها:
, -ويا رب تعجبك.
, لم تشكك أبدًا في نواياها الشريرة، وهتفت بترحيبٍ شديد:
, -من غير حاجة عجباني يا ست آمنة، ده كفاية إنها منك.
, اكتفت الأخيرة بهزة بسيطة من رأسها، ثم تحركت أنظارها في اتجاه الطفلة الصغيرة التي ظهرت أمامها، وبقيت لهنيهة مثبتة عليها. خطت سماح في اتجاه ابنتها، حينما رأت عيني ضيفتها عليها، أمسكت بذراعها، لتجذبها منه، وهي تقول:.
,
, -بت يا كوكي، تعالي سلمي على عمتك آمنة.
, بابتسامةٍ مهزوزة نطقت حمدية، وشعورها بالغيرة القاتلة ينهش فيها:
, -ما شاء ****، دي بقى بنته؟
, عرفتها بها، دون احتسابٍ، لسوء عواقب نواياها الطيبة:
, -أيوه، رقية، وبناديها كوكي.
, على مضضٍ علقت عليها:
, -**** يخلي٣ نقطة
,
, لازمتها نظراتها القوية، تدرس كل تفصيلة في ملامحها البريئة، إلى أن وقفت قبالتها، فاضطرت مرغمة، أن تحتضنها بكرهٍ شديد، أخفته بمزيدٍ من الجهد، أبعدتها عنها، وناولتها قطعة من الكعكة التي خبزتها لتأكلها الصغيرة، وأردفت قائلة:
, -بنتك شبهك إنتي أوي
, ردت سماح وهي توليها ظهرها:
, -أه طلعالي، الكل بيقول كده.
, برزت أسنان حمدية أكثر، وقد رأت الصغيرة تقطم قطعة من الكعكة، شجعتها لتناولها، بهسيسٍ أقرب لفحيح الأفعى:.
,
, -عايزاكي تخلصيها كلها، عشان أبوكي خليل يتبسط منك.
, دمدمت الصغيرة رقية ببراءة:
, -حاضر.
, تخشبت حمدية في جلستها، وجحظت عيناها بشدة، عندما سمعت صوت قرع الجرس، هوى قلبها بين قدميها، وهربت الدماء من وجهها، معتقدة أن زوجها الخائن قد حضر على غير موعده، رغم تأكيد الأخير استغراقه اليوم في عمله لساعات متأخرة، بسبب أعمال الجرد المكلف بها، شيعت سماح بنظراتٍ متجمدة، وقد هللت عاليًا، وهي تتجه نحو باب المنزل:.
,
, -جاية أهوو.
, حبست أنفاسها في ترقبٍ مرتعد، ما لبث أن تبدد بمجرد أن لمحت إحدى السيدات تقف أمام الباب، وصوت سماح المرحب يردد:
, -إزيك يا ست أم دعاء؟
, قالت الجارة في حرجٍ، ووجهها يعكس توترًا غريبًا:
, -بخير يا حبيبتي، معلش ياختي هاعطلك شوية، وإنتي باين عليكي مشغولة، وعندك ضيوف.
, تلقائيًا التفت سماح برأسها نحو حمدية، وعرفت بها بفخرٍ بائن:.
,
, -ده مافيش حد غريب، دي الست آمنة، أخت خليل جوزي، جت تشوفنا، وتسلم على بنته.
, هتفت الجارة بترحيبٍ:
, -منورة يا حاجة.
, اقتضبت حمدية في ردها عليها:
, -تسلمي
, وجهت أم دعاء حديثها لجارتها بلهجة جادة، وقد بدت مشتتة الذهن إلى حد ما:
, -بصي يا سماح، هاتقل عليكي شوية، ده مفتاح الشقة، بعيد عندك أمي حجزوها في الحميات، وأنا رايحة عندها، واحتمال أبات هناك٣ نقطة
, قاطعتها الأخيرة في أسفٍ:.
,
, -يا ساتر يا رب، ألف سلامة عليها، دي كانت زي الفل.
, غامت تعابير الأولى، وتابعت بحسرةٍ ظاهرة على تقاسيمها:
, -الحمد**** على كل حال، لسه هانشوف الدكاترة هايقولوا إيه، وربنا عليه جبر الخواطر.
, ربتت سماح على كتفها كنوعٍ من المواساة، بينما أضافت جارتها تستأذنها على عجالةٍ:.
,
, -المهم يعني البت دعاء بنتي لسه في الدرس ومرجعتش، طلبتها على موبايلها، ماردتش عليا، وأبوها عنده وردية لمتأخر، فلو جت وخبطت عليكي اديها المفتاح، أنا هاقولها تعدي عليكي لما تكلمني.
, تكلمت على الفور مبدية قبولها:
, -وماله ياختي، بيتها، تيجي في أي وقت، أنا مش رايحة في حتة.
, شكرتها بامتنانٍ كبير:
, -تعيشي ياحبيبتي، ده العشم برضوه.
, دعت لها سماح بنبرة راجية:
, -**** يطمنك على الحاجة، ويشفي عنها يا قادر يا كريم.
,
, اختتمت الجارة حديثها معها، فقالت:
, -يا رب أمين، ومايوقعكيش في ضيقة أبدًا، فوتك بعافية.
, ردت بعبارةٍ مجاملة:
, -يعافيكي يا حبيبتي من كل سوء.
, وقبل أن تغلق باب المنزل، أتاها صوت جارتها العالي قائلاً:
, -سلمي على ضيفتك بقى.
, أخبرتها بإشارة من رأسها:
, -يوصل يا أم دعاء.
, انتظرتها حتى هبطت بضعة درجات من السلم، لتغلق الباب، واستدارت بجسدها تستعد للذهاب إلى المطبخ؛ لكن فضول حمدية استوقفها بسؤالها:
, -في حاجة؟
,
, أجابت نافية، وبابتسامة عادية:
, -لأ كله تمام، دي جارتي كانت قصداني في خدمة على السريع.
, لم تعد مهتمة بمعرفة التفاصيل، طالما أن الأمر لا يُعارض تنفيذ مخططتها الدنيء، عادت توزع ابتساماتها عليها، وطلبت منها:
, -طيب يالا ياختي، اعمليلنا شوية الشاي، عشان ألحق أقعد معاكي قبل ما أنزل.
, هتفت سماح بنفس الترحيب الذي لم ينتقص منه شيء:
, -ده إنتي منوراني النهاردة٣ نقطة
, وقبل أن تواصل السير، لوحت بذراعها تخبرها:.
,
, -وبعدين الزيارة دي ماتتحسبش، دي زي ما بيقولوا أعدة تعارف.
, رغم اللهيب المشتعل بداخلها، إلا أنها احتفظت بنفس الملامح الوديعة، وردت بهدوءٍ مريب، بدا وكأنه يسبق حقًا عاصفة كاسحة:
, -أيوه، الجايات أكتر من الريحات.
,
, أول درجات الثقة بينهما، وربما البداية الجادة للإقدام على فعل المزيد، كانت في تركه يفتح الباب، بالنسخة الاحتياطية التي يحتفظ بها، لاستخدامها عند الطوارئ. أبقت فيروزة على مسافة بينها وبين الحارس الأمني، والذي بدا على نحوٍ غير عادي مهتمًا بأمرها، بلعت ريقًا غير موجود بجوفها، وأشــارت له بيدها نحو الأريكة الوحيدة بالمكان، قبل أن تستطرد قائلة بلغة انجليزية بسيطة:
, -تفضل.
,
, هز رأسه باهتزازة صغيرة، وقال راسمًا على محياه، ابتسامةٍ صغيرة، يمحو بها أي بوادر خوفٍ أو توتر:
, -شكرًا لكِ سيدتي.
, تقدم الرجل ما يقرب من خمسة خطوات، وتوقف في مكانه، رافضًا الجلوس إلى حيث أشارت، ليستطرد بعدها بصوتٍ عميق، كنوعٍ من الاستهلال المطمئن:
, -في البداية، أود أن أخبرك أني أتحدث القليل من العربية، مع الانجليزية، فلن تكون هناك مشكلة في التواصل بيننا.
, رمشت بعينيها وهي ترد:
, -حسنًا.
,
, وضع يده على صدره مضيفًا:
, -كذلك أريد التعريف بشخصي، أنا أدعى كاران، وأعمل كحارس أمني هنا.
, رحبت به بعبارة بسيطة:
, -أهلاً بك.
, غطى وجهه تعابيرًا جادة، وهو يتابع بنفس اللهجة الثابتة، وببطءٍ متعمد لتفهم مقصده:
, -لكن قبل أن انتقل للحديث بشأن سبب زيارتي، أريد أن أوضح لكِ أنه قبل التحاقي بوظيفتي الحالية، كنت أعمل في أحد مراكز التأهيل الخاصة بالنساء المعنفات.
, بدت بعض المصطلحات غريبة على مسامعها، فسألته:.
,
, -اعذرني، لا أفهم.
, حاول أن يفسر لها الأمر بلغتها الأم، فقال على مهلٍ:
, -إنها إحدى المؤسسات المتخصصات، في رعاية السيدات اللاتي تعرضن، لأنواع من الإيذاء البدني والنفسي.
, قطبت جبينها بتوجسٍ، وتقلصت عضلات وجهها أيضًا، وقد أشار نحوها مستأنفًا كلامه بتوضيح مكشوف:
, -وما أراه الآن، يخبرني أنكِ إحدى ضحايا هؤلاء الأزواج القساة.
, خفق قلبها في خوفٍ، وهتفت بصوتٍ مهتز:
, -سيد كاران٣ نقطة
,
, قاطعها بلطفٍ حين لاحظ أنها أجفلت، محاولاً تهدئة روعها قبل أن يتفاقم لاعتراضٍ مُعاند، ربما لا ينفعها:
, -لا داعي لتبرير الأسباب، أنا جئت لمساعدتك، فقط عليكِ أن تثقي بي.
, أطبقت على شفتيها، تصارع مع نفسها أفكارها المتناطحة بعقلها؛ فهناك ما يحثها على القبول بمساعدته، وأخرى تشدد عليها باتباع خطة ترسم معالمها بنفسها، انتشلها من استغراقها الواضح في التفكير، بقوله:
, -ولا أنتظر أي مقابل، هذا واجبي سيدتي.
,
, اعترضت بترددٍ:
, -لكن..
, من جديد قاطعها بمنطقيةٍ، مظهرًا لها الجانب السلبي لتخاذلها:
, -صدقيني، صمتك عن تلك الإساءة الشرسة، سيدفعه لارتكاب المزيد، وربما تكون هناك ضحية غيرك، إن فرغ منك!
, حقًا كانت على وشك الانهيار، ورؤية الوجه البشع لـ آسر، خلال استحضارها لوحشيته، المصحوبة باحتقاره المهين، قضت على آخر حصون تماسكها، اغرورقت عيناها سريعًا بالدموع الساخنة، وهتفت بشهقاتٍ متقطعة:.
,
, -أنا في ورطة كبيرة، وأريد الخروج من هنا، لكني لا أستطيع، ليس الآن.
, ترددها لم يكن محسوسًا في صوتها، بل ظهر على انتفاضة جسدها، سألها كاران في استغرابٍ، وقد بدا معتادًا على عزوف بعض النساء المعنفات، عن المطالبة بحقوقهن المهدورة:
, -وما الذي يمنعك؟
, كفكفت دموعها بظهر يدها، وهي ترد بتلقائية:
, -ظروف
, استطاع أن يفهم كلمتها المنطوقة بالعامية، وأخبرها بعقلانية علها ترضخ لمساعدته الجادة:.
,
, -سيدتي بقاءك مع رجل عنيف كهذا، لن يتسبب إلا في إيذائك أكثر، صدقيني، من خبرتي الطويلة، وخلال ما رأيت طوال فترة عملي في مؤسستي السابقة، أعلم أن أمثال زوجك لا يتغيرون مطلقًا، القليل جدًا يتحسنون؛ لكن الغالبية العظمى تمارس العنف بشتى الطرق، ولن تنجي مع وحشيته المستمرة، عند نقطة ما ستنهارين.
, قرأ في نظراتها المشتتة حيرتها، وتابع بصوتٍ أكثر جدية:.
,
, -إذا أردتِ الخروج من هنا، يمكنني أن أوفر لك كل المساعدة المطلوبة.
, نظرت إليه بعمقٍ؛ وكأنها تفكر مليًا في كل كلمة نطق بها، وتلك المرة لم يدفعها للتكلم، منحها الوقت الكافي للتفكير، إلى أن قالت أخيرًا:
, -هل يمكن أن أحصل على هاتف محمول حديث الطراز؟
, هز رأسه مدمدمًا:
, -يمكنني توفير واحدًا لك.
, أخبرته بكلماتٍ حاولت أن تبدو جيدة في السياق:
, -سأدفع لك، لا تقلق؛ ولكن بإعطاءك قطعة من ذهبي الخاص.
,
, ابتسامة ودودة احتلت ثغره عندما خاطبها:
, -سيدتي، لا توجد مشكلة عندي في النقود، المهم حاليًا إخراجك من هنا.
, فركت فيروزة أصابع يدها معًا، وسألته بلغتها الأم؛ وكأنها للحظة تناست أنه يختلف عنها في الجنسية، واللغة:
, -حاجة تانية عايزاها منك تعملهالي، ممكن؟
, لم يجد صعوبة في فهمها، ورد بنفس الوجه المبتسم:
, -تفضلي.
,
, سحبت شهيقًا عميقًا، استعانت به لتثبط من الانفعالات المتواترة التي انتابتها، لفظته على مهلٍ، وسألته بنبرة بطيئة، وبجملٍ مباشرة تعطيه المعنى المقصود:
, -هل يمكن أن أصل لسفارة بلادي؟ أحتاج للتواصل مع أحدهم هناك، بصفة سرية.
, منحها رده الموافق بإخبارها:
, -لا بأس، سأتدبر الأمر.
, شعور بالارتياح عرف الطريق إليها، حتى أنها لم تدرك أنها تبتسم وهي تقول:
, -سيد كاران لا أعرف كيف أشكرك.
,
, جاء رده عليها ناصحًا، ومحذرًا في نفس الآن:
, -لم أفعل شيء بعد، ونصيحتي لك حاولي أن تتجنبي الاحتكاك المباشر به، إن استفزك في أمرٍ ما، أظهري له أنكِ ضعيفة، مستسلمة لأمرك، حتمًا سينجح هذا في خداعه.
, هزت رأسها مؤكدة:
, -سأفعل هذا.
, أخبرها كاران وهو يتحرك في اتجاه باب المنزل:
, -وسأكون على تواصل دائم معكِ.
, تبعته بتؤدةٍ، وصوتها الممتن يقول له:
, -شكرًا لك مرة أخرى.
,
, استدار ليواجهها، قبل أن يشير لقفل الباب وهو يضيف:
, -ساضطر لأوصده كما كان، حتى لا يرتاب زوجك.
, تيقنت من تصرفه البديهي، أنه يتعامل مع وضعها الحرج، بذكاءٍ لا محل للتشكيك فيه، حركت رأسها وهي ترد عليه:
, -طيب.
, نظر لها بعدمِ فهمٍ، فصححت له:
, -أقصد حسنًا
, ودعها بتهذيبٍ كبير:
, -مسرور لرؤيتك سيدتي.
, أخبرته باسمها بعد أن أدركت أنها لم تفعل سابقًا:
, -أنا أدعى فيروزة.
, حاول نطقه، فقال بتلعثمٍ طفيف:
, - فـ، فاروزا؟
,
, رددته مجددًا ببطءٍ، ليستوعب نطقه الصحيح:
, - فيروزة.
, هز رأسه، ووعدها بنبرةٍ، أدركت منها أنه جاد في نواياه:
, -اعتذر، سأحاول أن أنطقه بصورة صحيحة في المرة القادمة، حين أحضر لكِ ما تريدين.
, لم تعلق عليه، وتراجعت للخلف، ليتمكن من إغلاق الباب، لتغدو وحيدة في غربتها الموحشة، مع اختلاف كبير، أنها لن تستمر طويلاً!
, ٣ نقطة
,
, فحصٌ شامل أجراه الطبيب، ومن معه من طاقم طبي، ليتم الوقوف على التطور الطارئ في حالة المريض، والتي شهدت سابقة نادرة قليلاً ما تحدث، في محيطه العلمي، وما إن انتهى من كتابة ملحوظاته، في التقرير المعلق على حافة فراشه، حتى عاد إلى مريضه، أرجأ إخباره بكافة الأخبار غير السارة، إلى أن تكتمل النتائج بين يديه؛ لكن لم يمنعه هذا من إعطائه تلميحًا موجزًا عما مر به، حتى يدرك طبيعة حالته، وبنبرة عملية لم تخلُ من لمحة من التضرع، استطرد الطبيب قائلاً بصوته الهادئ:.
,
, -إنت راجل مؤمن بقضاء **** وقدره، اللي حصل في حالتك دي ممكن نعتبره معجزة، يعني لا قدر **** كان ممكن تطول في الغيبوبة، وخصوصًا إن الإصابات اللي اتعرضلتها مش بسيطة ولا سهلة.
, زفير مصحوب بآلام لا طاقة لبشر بها، تحرر من رئتيه، تبعه بآخرٍ، ليقول له تميم بعدها:
, -الحمد****، أنا حاسس بنفسي، وعارف إن اللي أنا فيه مش هيّن.
, أضاف الطبيب بهدوئه المعتاد:.
,
, -حاليًا احنا لسه مش قادرين نحدد بالظبط تطور حالتك هايكون إزاي؛ لكن مافيش حاجة بعيدة عن ****، كل شيء وارد يحصل.
, عقب في رضا:
, -ونعمة ب****.
, ظهر صوت الطبيب مترددًا بعض الشيء، عندما تحدث معه بغموضٍ ما:
, -هي في حاجة فقط اللي أنا قلقان منها.
, نظراته الجادة أوحت أن الخطب كبير، فسأله بترقبٍ:
, -إيه هي؟
, تنحنح في حرجٍ، وهو يجيبه:
, -احم، هو يخص قدرتك الإنجابية.
,
, جملة عادية، بدت موترة للأعصاب، عنها مفسرة لطبيعة حالته الطبية. لعق شفتيه الجافتين، وتساءل بوجهٍ شاحب:
, -قصدك إيه؟
, حاول أن يبحث عن الكلمات المناسبة لتوضيح الأمر له، فقال بتريثٍ، آملاً أن يكون قد نجح في إيصال رسالته له بتلميحاته المبطنة:
, -للأسف المكان ده اتعرض لإصابة مباشرة، واحتمال يكون في أثر سيء عليك كزوج عايز يخلف، أو حتى تكون مع مراتك في وضع آ٣ نقطة
,
, لاحظ تميم تعرقه الزائد مع محاولته إكمال جملته؛ وكأنه يخشى انفجاره الأهوج فيه، غضبًا لخسارة ما يميز أمثاله من الذكور الشداد، حيث اختتمها بإضافة:
, -لأنه زي ما إنت عارف إنه مكان حساس للغاية، وأي ضرر فيه بـ٣ نقطة
,
, فهم مقصده الحذر، دون الحاجة لمزيدٍ من التفاسير العلمية المنمقة، لإخباره أنه أصبح عاجزًا عن الإنجاب، بسبب ما مر به، فلا يأمل مستقبلاً في الحصول على ***ٍ، يحمل لقب عائلته، ويرثه، الأسوأ من هذا أنه ربما لن يتمكن من إقامة علاقة حميمية بشكلٍ يدعو للتفاخر؛ إن فكر في الزواج مجددًا، بعد أن ارتضت إحداهن بوضعه المؤسف، إذًا ملخص ما قاله؛ أنه حُكم عليه بالبقاء هكذا للأبد، لم يكن حانقًا رغم قساوة الحقيقة، فأي امرأة تستحق قلبه غيرها؟ أشاح بوجهه المتبلد بعيدًا عنه، وقال بهدوءٍ مريب:.
,
, -كله خير من عند ****.
, حاول الطبيب أن يهون عليه الأمر، فتابع:
, -إنت راجل مؤمن يا معلم تميم، والعلم النهاردة بقى آ٣ نقطة
, قاطعه بصوتٍ واجم، وعيناه لا تنظران في اتجاهه:
, -أنا عايز أشوف أهلي، هما فين؟
, أجابه مشيرًا بيده:
, -كلهم موجودين برا
, التفت نحوه، وطلب منه بصوتٍ آمل ألا يبدو مختنقًا:
, -معلش يا دكتور، عايزهم جمبي.
, أراد الاعتذار عن تلبية طلبه، فأخبره:.
,
, -مش هاينفع، وجودهم معاك وكلامهم فيه إجهاد عليك، وده مش في مصلحتك دلوقتي، وأنا أفضل آ٣ نقطة
, ارتفعت نبرته المنزعجة وهو يلح عليه:
, -خليهم يشوفوني، ويطمنوا إني بقيت بخير، ده هيريحني أنا.
, كان على وشك رفضه؛ لكن رجائه الصارم أوقفه عن الاعتراض عليه:
, -أنا متعودتش أسترجي حد، فممكن يا دكتور تدخلهم عندي.
, أومأ برأسه موافقًا وهو يرد محذرًا:
, -حاضر، بس يا ريت ماتتعبش نفسك.
,
, أطبق على جفنيه، وتنهد قائلاً بإرهاقٍ غلفه اليأس:
, -ماشي.
,
, احتضنت كفه بين راحتيها، وألصقت الثلاثة بوجنتها، رافضة إبعاد يده عن وجهها، لتتخلل رطوبة دموعها الحزينة أصابعهم، ظلت أنظارها الحنون مثبتة على وجهه المتعب، فتعابيره الواهنة ما زالت تنطق بآلام مرضه. لم تستطع ونيسة ضبط نفسها، وظلت تبقي طوال الوقت، رغم رجاوات ابنها بالتوقف عن هذا، كررت اعتذارها منه، عن جفائها القاسي معه، بصوتها الباكي:
, - تميم، حقك عليا يا غالي.
, رد عليها بتزمتٍ:.
,
, -خلاص يامه، متوجعيش قلبي.
, هتفت في ندمٍ، وصوت نهنهات بكائها يزداد:
, -يا ريتني كنت أنا.
, قال بمرارةٍ طغت على لسانه؛ وإن لم تظهر على ملامحه:
, -بعد الشر عنك، أنا الحمد لله أهوو بخير قصادك.
, هتف بدير يوبخ زوجته بضيقٍ، حينما لم تعد قادرة على التحكم في بكائها المزعج:
, -يا ولية كفاية نواح عليه، الضاكتور قال كلمتين وبس، مش نقلبها نكد وغم.
, حرك تميم عينيه في اتجاه والده، وبرر حزنها بابتسامةٍ فاترة:.
,
, -سيبها يابا، ماتزعقلهاش، هي كانت قلقانة عليا.
, ردت عليه والدته بنظراتٍ عطوف:
, -**** يباركلي فيك يا ضنايا.
, ثم قبلت يده التي تحتضنها، بينما أردفت هاجر قائلة باعتذارٍ نادم للغاية:
, -سامحني ياخويا، أنا ظلمتك، وجيت عليك جامد.
, ركز أنظاره عليها، وأخبرها بنبرة متفهمة:
, -إنتي أختي يا هاجر، محدش يزعل منك.
, صاحت في لوعةٍ، تاركة عبراتها تنطلق على وجنتيها، كما لو كانت في سباقٍ للعدو:.
,
, -منه لله الظالم اللي عمل فيك كده.
, رمقها تميم بنظرة غامضة، على ما يبدو لم تعلم بعد بتورط زوجها الحقير في محاولة قتله، ولم يرغب في إخبارها بهذا الآن، ليترك الأمر معلقًا ريثما يستعيد عافيته، انتبه لصوت جده الذي نطق من جانبه، واستدار ناحيته:
, -شيد حيلك يا تميم.
, ظلت ابتسامته الراضية تحتل وجهه، وغمغم بأنفاسٍ متعبة:
, -كله على **** يا جدي.
, تكلم والده مجددًا، ليقول له:.
,
, -كل اللي بيحبوك هنا، و منذر و دياب واقفين برا، ماسبوناش للحظة، حتى سراج فضل معاهم.
, المقطع الأخير من حديثه كان مدعاة للحيرة والفضول؛ فرغم العداوات الشرسة بينهما، إلا أنه في وقت أزمته الخطيرة، كان الأسبق لنجدته، دونًا عن أي شخصٍ آخر، ليظهر معدنه الأصيل، ولم ينكر أنه كان ممتنًا لوجوده، وإلا لهلك عن بكرة أبيه. تحركت يد تميم لتشير مع آمره الجاد:
, -ناديهملي يابا.
,
, تعقدت ملامح بدير، وانعكس الاستغراب على نظراته وهو يسأله:
, -ليه يا ابني؟
, جاوبه على مهلٍ:
, -يطمنوا عليا بردك، كتر خيرهم تعبوا أكيد.
, هز رأسه وهو يعقب عليه:
, -أه والله٣ نقطة
, ثم رفع عكازه ليشير به نحو زوجته، وأمرها بلهجته الصارمة:
, -تعالي يا ونيسة، سيبي ابنك ياخد نفسه.
, أطلت من عينيها نظراتٍ حانية، مليئة بلهفةٍ ملتاعة، لتنطق في اعتراضٍ بسيط:
, -هاين عليا أفضل هنا تحت رجليه.
, -أخبرها ابنها بهدوئه الإجباري:.
,
, -معلش يامه، شوية وهترجعي تاني.
, رغمًا عنها أزعنت لطلبه، وانسحبت مجرجرة ساقيها، خلف زوجها وابنتها من الغرفة، ليكون الجد الوحيد الباقي معه، تحدث الأخير من زاوية فمه ليخبره بلهجته المتشددة؛ وكأنه يقرأ ما يدور في رأسه:
, -ماتسبش حقك يا تميم.
, لم يضلله في قوله الصريح، والمليء بوعودٍ نافذة:
, -هايحصل يا جدي.
,
, دفعته نزعته الرجولية، للتصرف بشهامةٍ، مع والدته سليطة اللسان، وشقيقته المزعجة، رغم رغبته في الذهاب مع باقي العائلة لرؤية تميم، والاطمئنان عليه. تقدم هيثم نحو مخرج المشفى الأمامي، وصاح قائلاً بإشارة من سبابته نحو موقف السيارات المتواجدة على مسافة بضعة أمتارٍ من البوابة الرئيسية للصرح الطبي:
, -تعالوا اركبوا معايا أما أوصلكم البيت.
, زجرته بثينة تنعته بتهكمٍ غير مقبول:
, -ماشي يا دلدول المحروسة.
,
, ضرب كفًا بالآخر هاتفًا بتذمرٍ مستنكر لوقاحتها:
, -استغفر **** العظيم، ولازمته إيه الغلط يامه؟ دي أخرت المعروف معاكو؟ بدل ما تقوليلي شكرًا، وكتر خيرك يا ابني.
, رمقته بنظرة احتقارية ساخطة، قبل أن تواصل تعنيفها الفظ:
, -بناقص منها ركوبة، وقفلنا تاكسي يا معدول.
,
, كان يومه مشحونًا بالكثير من الأعباء، ولم ينقصه اكتمال يومه الشاق بتلك السخافات الوقحة، لهذا لم يتحمل هيثم إساءتها، ورد عليها بانعدامِ ذوقٍ؛ وكأن اقتراحها قد لاقى ترحيبًا واسعًا منه:
, -يكون أحسن يامه٣ نقطة
, وقبل أن توبخه هلل عاليًا ليوقف أحد سائقي سيارات الأجرة:
, -ياســــــطا!
, تبعته بثينة بنظراتٍ مغتاظة، وغمغمت من خلفه قاصدة إهانته، وهي تتفل كذلك:
, -تربية ناقصة، اتفوو.
,
, لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، فقط أعطى للسائق أجرته كاملة، وأخبرها وهو يتحرك بعيدًا:
, -ماتدفعيش يامه، سلام.
, همهمة غير مفهومة خرجت من جوفها؛ لكنها بدت لعنًا لشخصه على الأغلب، استقرت في المقعد الخلفي، وإلى جوارها جلست خلود، لتشير بعدها للسائق بالتحرك، وبمجرد ابتعاد السيارة عن المشفى، نطقت ابنتها بحرقةٍ انعكست حتى في عينيها الملتهبتين:.
,
, -كان عندك حق يامه في كل كلمة قولتيها، وكل حاجة عملتيها عشان تنتقمي منهم.
, تطلعت إليها والدتها في اندهاشٍ، قبل أن ترد بتبرمٍ:
, -أخيرًا عقلتي، وشيلتي أمور الجنان دي من مخك.
, لم تنظر نحوها، بل حملقت في الطريق بنظراتٍ مليئة بكراهية مضاعفة، لتخبرها بوعيدٍ حانق:
, -عقلت بس؟ ده بحق كل لحظة استنيته فيها، وكل دمعة عيطتها عشانه، لأخليه يندم على اليوم اللي سابني فيه.
,
, تهللت أسارير بثينة لسماعها مثل تلك العبارات الناقمة، أدركت حينها أن ابنتها قد عادت لرشدها، وتخلت عن تصرفاتها الصبيانية الخرقاء، ربتت على فخذها، ومدحت إظهارها للجانب الشرس فيها:
, -أيوه كده فرحيني، الحمد**** طمرت فيكي اللقمة اللي أكلتهالك.
, على الأغلب لم تكن خلود منصتة لوالدتها، فلسانها تكلم بنفس اللهجة العدائية، مستجمعة في قلبها كل بُغضها المقيت، لرفضه قربها:.
,
, -الأيام بينا يا تميم، وبنت خالتك اللي حرمتها عليك موجودة بس عشان تخرب حياتك، وتحرق قلبك على كل حاجة غالية عندك، لحد ما تجيلي راكع، وساعتها هدوس عليك.
,
, بدأ مفعول السم -المختلط بالمخدر الطبي- يسري في عروق الاثنتين، بعد أن دفعتهما بالحيلة، لتناول الكعكة التي أعدتها خصيصًا لهما، حتى تتمكن من التخلص منهما معًا، دون أن تريق ذرة دماءٍ واحدة. وصفة شيطانية ظلت تختبر فاعليتها على القطط الشاردة، حينما كانت تعطيها لهم كإحسانٍ مقنع، بينما غرضها الأساسي ضمان تجربتها. راقبت حمدية بنظرات استمتاعٍ مميتة، تراخي جسد سماح على الأريكة رويدًا رويدًا، إلى أن سكنت كليًا. انخفضت عيناها نحو يدها المتدلية إلى جوارها، قبل أن تسقط من بين أصابعها، بقايا قطعة لاكت جزءًا منها، وحتمًا مازال البعض عالقًا في حنكها.
,
, نهضت واقفة على قدميها، تحدجها بنظراتٍ استطالت عليها باحتقارٍ أكبر، بعد أن أزاحت طبقها الذي لم تمسه عن حجرها، أسندته على الطاولة، وتقدمت في اتجاهها إلى أن باتت قبالتها. ركلت بقدمها ساقها المرتخية، فاستجابت لدفعتها الغليظة، وتحركت من مكانها، لتؤكد لها فقدانها للوعي. ابتسامة انتصارٍ اعتلت ثغرها، قبل أن تبددها بتحريك فكها لتلعنها:
, -بالسم الهاري.
,
, تفلت فوقها باشمئزازٍ، قبل أن تتركها، وتتجول في أرجاء المنزل، لتفتش عن الطفلة الصغيرة، وجدتها في غرفتها مستلقية على الأرضية، رمقتها بنظرة حقودة، مليئة بالغل، وهي تهسهس متسائلة مع نفسها:
, -إنتي أحسن من ولادي في إيه؟
, اعتلى زاوية فمها ابتسامة انتصارٍ؛ كما لو أنها ظفرت بمعركتها الحاسمة، وهي تواصل قولها:
, -أديكي غورتي في داهية إنتي وأمك.
,
, نظرة أخرى شامتة ألقتها على الطفلة، قبل أن تخرج من غرفتها مكملة حديثها المتباهي:
, -وريني بقى يا خليل هاتعمل إيه لما تعرف بموتهم، لأ، وماتبقاش حتى قادر تزعل عليهم!
,
, كانت مستمتعة –حد المرض- بلذة انتقامها المدمر، وبتؤدةٍ اتجهت إلى المطبخ، ووجهها يبدو وكأنه يفح بشرورٍ لا نهاية لها. بحثت بعينيها عن الموقد، وجدته عند النافذة الوحيدة التي تنير المكان، تحركت صوبه، لتفتش عن الأنبوب الموصول به، تأكدت من عدم غلق صمام أمانه، قبل أن تدير مفاتيحه كلها دون إشعالها، ليتسرب الغاز الخانق منه، فتضمن بهذا الهلاك الحتمي لكلتيهما. خرجت منه عائدة إلى الصالة، لملمت بتعجلٍ أشيائها، ونظرت إلى جسد سماح لمرة أخيرة، لتملي عينيها الحاقدتين بجثمانها الفاني، ثم غطت وجهها ببرقع نقابها الأسود، قبل أن تخطو خارج المنزل، وابتسامة شيطانية متسعة تسود على وجهها القاتل.
,
, محبةٌ لا تحتاج إلى تزييفٍ، كانت السمة المشتركة بين ثلاثتهم، حينما وطأوا غرفته، ليكونوا إلى جواره، بعد استعادته لوعيه، أملين أن يكتمل شفائه على خير، فالرجال معادن، ومثله يصعب تعويضه! نظرة مليئة بالتفاؤل أطلت من عيني منذر، نحو رفيقه المقرب إلى قلبه، يتبعها جملته الغبطة:
, -حمدلله على السلامة يا صاحبي.
, التفت ناظرًا إليه وهو يرد:
, -**** يسلمك يا منذر..
, داعبه دياب بطرافته المهونة من صِعاب الأمور:.
,
, -إيه يا عم، هما غفلوك ولا إيه؟ ده إنت معلم على أجدعها شنب.
, كان رده متمهلاً -ومبررًا- عندما تكلم:
, -أنا كفيل بيهم، بس الكترة تغلب الشجاعة.
, هز رأسه مؤمنًا عليه:
, -في دي معاك حق.
, بينما أردف سراج قائلاً، وهو يتحسس مؤخرة عنقه:
, -ياما دقت على الراس طبول، واسأل مجرب.
, لم يستطع دياب منع ضحكة مرحة من الانطلاق، ومازحه بتسليةٍ، وأنظاره مسلطة عليه:
, -طبعًا يا سراج.
,
, ضحك تميم لطرفته المقصودة، فتألم صدره، وتأوه بأنينٍ جاهد لكتمه. حدج منذر شقيقه بنظرة صارمة، ليكف عن سخافاته فلا يؤذيه بثقل دمه، ثم عاد ليحدق في وجه رفيقه الذابل، ودخل في صلب الموضوع مباشرة، متسائلاً دون تمهيد:
, -من غير ما نتعبك في الكلام، الليلة دي وراها محرز، مظبوط؟
, بإيجازٍ أجابه تميم:
, -أيوه.
, هتف دياب في جديةٍ، ونظراته تؤكد سعيه الدؤوب للوصول إليه:.
,
, -احنا قالبين الدنيا عليه، ولو تحت الأرض، هانجيبه مرمي عند رجليك.
, رد عليه مبديًا ثقته في وعده:
, -أنا مطمن٣ نقطة
, سعل قليلاً، وتابع بصوتٍ بعيد كل البعد عن الهزل:
, -عايزكم لحد ما أقدر أقف على رجلي، تاخدوا بالكم من أهلي.
, أخبره منذر بلهجةٍ جادة للغاية:
, -إنت بتوصينا على ما بين، ده أبوك أبويا، وجدك يعتبر مربيني معاك.
, وأيده دياب في قوله؛ وكأنه يجدد وعده له:
, -كلهم في عنينا.
,
, حاول أن يرفع يده ليؤكد عليه بحنقٍ غلف نبرته المتعبة:
, -الكلب محرز ما يقربش من أختي.
, هنا نطق سراج بصرامةٍ غريبة:
, -متقلقش عليها، وراك رجالة.
, شردت نظراته عن ثلاثتهم، ليحملق بعينين فارغتين في سقفية الغرفة، وهو يحادثهم بتوجسٍ قلق:
, -**** أعلم بيفكر في إيه، بس ماتستبعدوش يخطف ابنه منها ويساومنا، وخصوصًا لما يعرف إني قومت منها.
, علق عليه دياب بشفاه مقلوبة:.
,
, -طبعًا ابن حرام مصفي ويعملها، بس اطمن، احنا سدادين.
, تساءل منذر في اهتمامٍ:
, -البوليس زمانه خد خبر كمان، هاتقولهم إيه؟
, انخفضت نظرات تميم في اتجاهه، وبقيت لبرهة مثبتة على ملامحه الحائرة، قبل أن ينطق بما لا يدع مجالاً للشكِ، أن رده سيكون عنيفًا، ورادعًا:
, -حقي بأخده بدراعي.
,
, لهثت أنفاسها، وهي تعدو في خطواتها السريعة، لتصل إلى ناصية الشارع، بعد يومٍ طويل استنزف كامل قواها، وصوت والدتها الحاد ينطلق من هاتفها المحمول، ليخترق أذنها، ويوصيها بالالتزام بالبقاء في المنزل، إلى أن تعود لاحقًا إليها. بمجرد أن توقفت دعاء عند مدخل عمارتها، أخبرتها بصوتٍ مُجهد:
, -خلاص يا ماما أنا وصلت، حاضر هاطلع عند أبلة سماح أخد منها المفتاح، وآ..
,
, توقفت عن إكمال جملتها، وفقدت تركيزها معها، بسبب رؤيتها لحشدٍ من سكان البناية مجتمعين أسفل الدرج، اقتربت منهم، وتساءلت في فضولٍ:
, -في إيه يا جماعة؟
, استدارت واحدة من الجارات نحوها، وأجابتها بانزعاجٍ:
, -في ريحة غاز في العمارة، ومش عارفين جاية منين.
, علقت أخرى في ضيقٍ:
, -الظاهر حد نسى يقفل مفتاح الأنبوبة، وكلنا هنتخنق.
, ظهر السخط على وجه أحدهم وهو يضيف:
, -لازمته إيه الاستهتار ده؟
,
, حاورته إحدى الجارات مبررة الأمر:
, -ما جايز اللي التسريب عنده مايعرفش
, اقترحت عليهم دعاء
, -اطلبوا النجدة تيجي آ٣ نقطة
, دوي انفجار عنيف، دون إنذارٍ مسبق، جعل الأصوات كلها تخبت بغتةً، وكأنه ابتلعها بقوته العظيمة، ليحل بعدها أصوات طقطقات أشد وطأة في عنفها، اختلطت بأدخنة وحرائق مهلكة، حولت المكان في طرفة عين، لفوهة مستعرة من الجحيم٣ نقطة
 
٦

ساد لأقل من دقيقة سكون مشحون بمشاعر مختلفة في حدتها؛ لكن اشتركت جميعها في خوفها، لحظة بدت حاسمة، جعلت القلوب تقفز رعبًا، والأعين تشخص هلعًا، من المشهد المحمل بكل معاني الارتياع، امتلأت حلوقهم بأغبرة لا حصر لها، بعد أن تحول كل شيءٍ للإظلام فجأة، قبل أن تتضح الرؤية وسط ركام التصدعات التي طالت من المبنى. ظل المحاصرون بالداخل يسعلون بحشرجةٍ مؤلمة، ويتفلون ما التقطته أفواههم، هذه الأصوات المتحشرجة، أعطت بارقة أمل، بأنهم لا يزالون على قيد الحياة، صوتًا صارمًا تخلل الجدران ذات الشقوق الكبيرة يأمر المتواجدين، بتحذير شديد اللهجة:.
,
, -كله يطلع من هنا، وحاسبوا النار يا جدعـــــــان.
,
, بدت كريشة يتقاذفها الهواء العنيف، مع قوة الانفجار؛ لكن لحسن حظها تكومت على كتل من اللحم البشري، كانت كالدرع لها، حيث دفعتها الأجساد المسرعة نحو طريق الخروج، والذي بدا بعيدًا للغاية، رغم الأمتار المعدودة التي تفصلها عن المدخل. لم تعرف دعاء أي يدٍ جذبتها لتنجدها؛ لكن سعادتها بنجاتها من هذا الجحيم المستعر فاقت خوفها الحقيقي، نظرة زائغة ألقتها على عمارتها المعبقة بالأدخنة والغبار، اتسعت عيناها على آخرهما، وقد رأت ألسنة اللهب تنطلق من نافذة منزل سماح، تأخيرها للحظات عن الصعود إليها، كان السبيل لإنقاذ حياتها من موتٍ محتوم. خارت قواها مع عظم المُصاب المفجع، أيادٍ أخرى تلقفتها، وأبعدتها عن محيط الخطر، تذكرت والدتها فجأة، كانت تتحدث إليها قبيل الانفجار المدوي، انخفضت أنظارها نحو يدها، هاتفها المحمول ليس بها، ربما سقط منها سهوًا خلال انشغالها باللحظات المميتة التي مرت بها، أصابها القلق الشديد، فوالدتها حتمًا ستموت فزعًا إن ظنت أنها لقيت حتفها، آملت أن تستطيع الوصول إليها لطمأنتها، عل أحد الجيران يتكفل بهذا.
,
, .
,
, تعاون أهالي المنطقة على إخراج السكان المحتجزين بالداخل، عائلة وراء الأخرى، لضمان سلامة الجميع، وبقيت فقط أسرة خليل المحتجزة داخل منزلهم، بسبب النيران المنبعثة منه. تجرأ أحدهم -ممن يملك سمات الشجاعة والإقدام- على اقتحام المنزل، قفز فوق كومة تحترق، ليقف في بقعة تخلو من الألسنة الجائعة، غطى فمه وأنفه بذراعه، ثم تلفت بعينين تحرقهما الحرارة العالية باحثًا عن ناجين، انتفض في صدمة، عندما تجمد بصره على الأريكة، حيث رأى مشهدًا تقشعر له الأبدان، وجعله يشعر بالغثيان، ورغبة عارمة في التقيؤ، عجز لدقيقة عن إبعاد أنظاره عن جسد سماح المتدلي عليها، تفحم معظم جلدها، وطُهي جزء آخر؛ وكأن جثتها كانت معلقة عل حاملٍ في حفلٍ للشواء، هلل مستغيثًا في ارتعابٍ:.
,
, -رحمتك يا رب.
,
, فقد جزءًا من شجاعته أمام هول المنظر، وسعل في ألمٍ، بسبب الدخان الخانق، غطى بذراعه أنفه ليمنعه من اختراق رئتيه، وبخفةٍ لا تخلو من حرصٍ كبير تجول وسط النيران، باحثًا عن ابنتها، وصل إلى غرفة مغلقة بباب خشبي، النيران تسعى بنشاطٍ للوصول إليه لإحراقها، تراجع للخلف شاحذًا قواه، ثم اندفع بكامل قوته للأمام، راكلاً الكتلة الخشبية بقدمه، ليفتحه على الأخير. ولج إلى الداخل، ولحسن الحظ وجد الصغيرة ملاقاة على الأرضية في غرفتها، بجوار فراشها، لم تمسها النار بعد، رغم احتراق ما بالخارج، جثا على ركبته، ووضع يده على عنقها، باحثًا عن نبضها فيه، وصوته يتضرع برجاءٍ شديد:.
,
, -عديها على خير يا رب.
, تنفس الصعداء حينما وجد قلبها مازال ينبض بالحياة، لعل المولى كتب لها النجاة، همس في ارتياحٍ طفيف:
, -لطفك يا كريم.
,
, دون ترددٍ، انحنى ليحملها على كتفها، وسحب غطاءً من على فراشها، ليلف جسدها الساكن به، وليحميها من الألسنة المتعطشة لتناول المزيد من اللحم والخشب، ومثلما دخل في سرعةٍ وخفة، بحث عن طريق عودته بنفس الطريقة، التقى أثناء خروجه بآخرين ممن تشجعوا لمساعدة العالقين، ناولهم الطفلة، وواصل طريقه صعودًا لطابقٍ آخر، عله يجد من يمد له يد العون.
, .
,
, هاجسٌ موتر انتابها بشكلٍ قوي، حينما طرقت على باب منزلها، لتتفقد أحوالها، ولم تجد استجابة منها، فليس من عادتها أن تختفي هكذا دون أن تعلمها مسبقًا بذهابها، ولو كان لمحلٍ قريب. ظلت باقية في مكانها لبضعة لحظاتٍ، معتقدة أنها ربما تكون قد غفلت هي وأولادها؛ لكن ليس مع هذا الطرق المتواصل على الباب، دعا الأمر للاسترابة. تساءلت آمنة مع نفسها في اندهاشٍ:
, -هاتكون راحت فين كده من غير ما تقولي؟
,
, تركت حيرتها جانبًا، واستبشر خيرًا، تحركت من مكانها، وهبطت الدرجات لتعود إلى منزلها، حيث ما تزال ابنتها باقية معها، سألتها همسة بحاجبين معقودين:
, -برضوه مش موجودة؟
, هزت رأسها بالنفي قبل أن ترد:
, -لأ٣ نقطة
, تطلعت إليها ابنتها في اهتمامٍ، حين استكملت باقي جملتها:
, -وحتى موبايلها مقفول.
, بررت همسة غيابها، وقالت بوجهٍ عادت عضلاته للارتخاء:
, -ما جايز تكون في مشوار وواخدة العيال معاها!
, ردت نافية بتعابيرٍ متوجسة:.
,
, - حمدية متعملهاش، طول عمرها بتسيب العيال عندي لو راحت في حتة، هي بتحب تتحرك خفيفة.
, حركت ابنتها كتفيها في عدم اكتراث، وأضافت:
, -**** أعلم بصراحة٣ نقطة
, ثم صاحبت والدتها بعينيها وهي تتجه نحو النافذة، لتتطلع منها للمارة، صمتت لبرهةٍ، قبل أن تقول كنوع من التعليق على غرابة تصرفات زوجة خالها:
, -هي بقالها فترة مش زي تملي، تحسيها على طول ساكتة، وواخدة جمب، زي ما يكون في حاجة مهمة شاغلة تفكيرها.
,
, استندت آمنة بوجنتها على كفها، تراقب كل شاردة وواردة، تحدث في الطريق أمامها باهتمامٍ مبالغ فيه، علها تلمح زوجة شقيقها وهي قادمة. تنهيدة مهمومة تحررت من بين شفتيها، تبعها همسها القلق:
, -**** يستر بقى.
, استقامت فجأة في وقفتها عندما لمحتها تترجل من إحدى سيارات الأجرة، على ناصية الطريق، ترتدي ثيابًا لا تشبه ما تضعه على الأغلب. صاحت تلقائيًا، لتُعلم ابنتها بمجيئها، وكامل نظراتها عليها:
, -أهي جت..
,
, اكتسب صوتها رنة قلق غريبة، وقد رأتها تسير بمفردها، لا تصطحب أحدًا، فهتفت بقلبٍ يغمره الخوف:
, -دي جاية لواحدها، مش معاها العيال.
, استغربت همسة من خوفها الزائد، وعلقت على كلامها قائلة:
, -مش يمكن سيباها مع خالي؟
, دون تفكيرٍ نفت هذا الاحتمال:
, -لأ، خالك نازل من أول النهار، وكان لواحده.
, سألتها في دهشة، انعكست على ملامحها كذلك:
, -أومال العيال فين؟
, ردت بوجهٍ شبه شاحب:
, -مش عارفة، وقلبي قلقان عليهم.
,
, حاولت همسة بث الطمأنينة إليها، فأردفت بابتسامةٍ لم تكن في محلها:
, -دلوقتي نعرف، هما هيروحوا فين يعني.
, على الفور، وبخطواتٍ متعجلة ابتعدت آمنة عن النافذة لتتجه إلى باب منزلها، وقفت قبالته، تنتظر صعود حمدية عليه، وما إن رأتها هتفت تسألها بلهجةٍ مزعوجة:
, -إيه يا حمدية؟ كنتي فين؟
, استنكرت نبرتها تلك، وردت بتذمرٍ:
, -هو تحقيق ولا إيه؟
,
, تغاضت عن سؤالها عن ثيابها الغريبة، المتناقضة مع ما اعتادت الخروج به، لتجيب عن سؤالها معللة:
, -لأ، بس أنا طلعت أخبط عليكي محدش فتحلي.
, حررت حمدية **** رأسها قليلاً، وفتحت حقيبتها لتبحث عن مفتاح المنزل، أسفل البرقع المدسوس بداخلها، تابعت صعود درجات السلم، وصوتها يقول في إرهاقٍ لا يخلو من البرود؛ وكأنها لم تقترف ما تقشعر له الأبدان:
, -كنت في مشوار ياختي، عايزة حاجة مني؟
, لحقت بها تسألها:.
,
, -طب والعيال فين؟ مش معاكي ولا إيه؟
, بنفس الصوت البارد أخبرتها:
, -ليه؟ هما مش فوق؟ أنا كنت سيباهم نايمين.
, عاتبتها بجدية مغلفة بالقلق:
, -بس مقولتليش يا حمدية، لأني خبطت ومحدش فتح.
, لم تلتفت برأسها نحوها، وقالت وهي تتجه نحو منزلها:
, -ما أنا قافلة عليهم الباب ونزلت.
, بانزعاجٍ ما زال يظهر في صوتها، تكلمت آمنة قائلة:
, -إنتي متعودة تسيبهم معايا لما تخرجي.
,
, استدارت للجانب لتنظر إليها بتأفف، وردت على مضضٍ، بكذبة بدت مقنعة:
, -محصلش حاجة يا حبيبتي، كنت في حتة هنا جمبنا مش مستاهلة.
, تحركت أنظار آمنة مع حركة يدها وهي تدس المفتاح في قفله، متابعة قولها:
, -طيب أنا عملتهم أكل، دلوقتي أخلي همسة تطلعه.
,
, تجاهلت حمدية الرد عليها، وتعاملت معها بنوعٍ من التعالي والاحتقار؛ وكأنها خادمة تعمل لديها، وليست شقيقة زوجها التي لا تتوانى عن رعاية صغارها، أسندت حقيبتها على الطاولة، وهتفت تنادي بصوتٍ مرتفع، حينما لاحظت الصمت المريب السائد في منزلها:
, -يا عيــال، إنتو فين؟
,
, انتظرت للحظة عل أحدهم يأتي من الداخل مسرعًا، ليشكو لها سوء تصرف أحد الأشقاء؛ لكن ما زال السكون المخيف هو سيد الموقف، لوهلةٍ انقبض قلبها، وصاحت بصوتٍ أكثر علوًا، فيه زجرة منزعجة:
, -يا واد إنت وهو؟! مش سامعيني ولا إيه؟
, ازداد خوف آمنة على الصغار، ولطمت على صدرها مدمدمة بهلعٍ أكبر عن ذي قبل:
, -يا نصيبتي، هايكونوا راحوا فين؟!
,
, هرولت حمدية ركضًا نحو غرفة أبنائها، الغريب في الأمر أن باب الحجرة كان مفتوحًا على أخره؛ لكن المفزع حقًا أن ثلاثتهم كانوا يفترشون الأرضية بأجسادٍ فاقدة للوعي. صرخة مرعوبة انطلقت من جوف والدتهم، وهي تراهم على تلك الحالة الهامدة. جثت على ركبتيها أمام الأول، تهزه بعنفٍ، وهي تناديه:
, -قوم يا واد رد عليا، إيه اللي حصلك؟
,
, بينما انحنت آمنة نحو الثاني تحاول تحريكه بكل ما فيها من خوف وارتعاب؛ وكان مماثلاً لشقيقه، لا يتحرك، مجرد جسد لا يتنفس، متصلب العضلات، يميل للزرقة، وبرودة مخيفة تنتشر في أطرافه، وكأنها قد باتت فاقدة للإحساس. لم يختلف حال الثالث كثيرًا عنهما، ارتفعت أصوات الصرخات المكلومة فزلزلت أرجاء المنطقة. انضمت إليهما همسة بعد أن ركضت صعودًا على الدرج، تجمدت في مكانها، وعيناها تبرزان من محجريهما في فزعٍ، انخلع قلبها لوعةً عندما تفاجأت بالمشهد المروع، لم تستطع هي الأخرى كتم صرخاتها المصدومة.
,
, رفعت حمدية جثمان طفلها إلى صدرها، ضمته بشدة وهي لا تولول في قهرٍ وحسرة، رأت أسفله قطعة من العجين الذي أعدته لخبز الكعكة المشؤومة، تذكرت أنها تركت باقي الكمية في علبة بلاستيكية صغيرة، كانت قد احتفظت بها في درج الثلاجة الخاص بتخزين الخضراوات والفواكه، لتظل حالتهم طازجة، لم يطرأ ببالها مطلقًا أن يقوم أحد أبنائها بفتح ذلك الدرج، والتفتيش فيه لإيجاد تلك العلبة اللعينة؛ وكأن القدر يعاقبها على جريمتها النكراء. تناست أثناء تخطيطها لفعلتها أن أولادها يحبون تناول العجين هكذا نيئًا؛ وكأنها دون أن تعي ذبحتهم بنفس السكين الذي قتلت به أناس أبرياء غيرهم.
,
, لم تفهم همسة ما الذي أصاب الصغار ليفقدوا حياتهم، في غمضة عينٍ، وغفلة عن الجميع، هتفت بصوتٍ متقطع الأنفاس، وعيناها تفيضان بالدمع الحارق:
, -خلينا نطلب الإسعاف عشان نلحقهم، أكيد هما هيبقوا كويسين.
, بينما رددت آمنة بصوتٍ باكي، وقلبٍ مفجوعٍ:
, -يا حرقة قلبي عليهم، دول لسه صغيرين.
,
, لوهلةٍ تجمد إدراك حمدية العقلي عما يحدث حولها، تخشبت في جلستها، تضم أحد صغارها إلى حضنها، شاخصة لأبصارها؛ وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، قبل أن يقتحم عقلها سيلاً من مشاهد متقطعة لزيارتها مع ضرتها، وطفلتها الصغيرة، تردد صوتها المرحب بها في عقلها:
, -نورتي يا ست آمنة.
,
, بقي الاسم يتردد بقوة في عقلها، وابتسامة سماح المستفزة تزداد اتساعًا، وكأن روحها تخاطبها، تزيد من غيظها، خاصة مع تذكرها لكلامها المهين عنها. تلقائيًا تحركت أبصارها الزائغة نحو آمنة، لتنهار بعدها، ملقية بكامل اللوم على عمة أبنائها، في صراخٍ هيستري مقطوع الأنفاس:
, -إنتي، السبب، إنتي، اللي، قتلتيهم!
,
, لم تنتبه لها أيًا منهما، فكلتاهما كانتا مشغولتان بحمل اثنين من الأشقاء، وصوتها المتقطع لم يكن مفهومًا وسط الصراخ المتكرر، تحركت همسة أولاً، محاولة الركض بمن تحمله خارج المنزل، اعترض طريقها زوجها، رفع أنظاره نحوها متسائلاً في قلقٍ كبير:
, -في إيه اللي حصل؟ وإيه الصويت ده؟
, أجابته بصوتها المنتحب، وهي تحاول أن تخرج جملها مرتبة:
, -الحقنا يا هيثم، العيال مش عارفين حصلهم إيه، مابيتحركوش.
,
, انخفضت عيناه نحو الصغير الساكن في أحضانها، لم يكن هناك وقتًا كافيًا لإضاعته، كل ثانية تشكل فارقًا، لذا دون ترددٍ، حمل عنها الطفل، وأخبرها بصرامةٍ:
, -هننقلهم المستشفى بعربيتي، ده أسرع.
, ركض به الدرجات هبوطًا للأسفل، على أمل أن يكون في حضوره غير المتوقع، نجاة لهؤلاء الأبرياء.
, .
,
, لبوا أوامره بحذافيرها، بشأن التأكد من سلامة شقيقته، وعودتها للإقامة الكلية في منزل عائلته، لتكون تحت أعينه مباشرة، وبعيدًا عن أقل احتمال من تعرضها هي أو رضيعها للتهديد بسبب زوجها الوضيع محرز، في حين لم تفهم هاجر سبب إصرار والدها على إحضار الهام من متعلقاتها الشخصية، وما يكفيها من ثيابٍ ومستلزمات، من أجل المكوث لفترة طويلة بصحبة العائلة، استرابت من الأمر، رغم أنه من الطبيعي أن تظل لفترة، لتكون إلى جوار شقيقها الذي نجا بأعجوبة من حريق الدكان. صعدت لمنزلها، بعد تأكد كلاً من منذر و دياب من خلوه من أي تهديد، وذاك ضاعف شكوكها أيضًا، كان بدير على وشك اللحاق بهما؛ لكن طلب منه سراج بلطفٍ:.
,
, -خليك إنت مرتاح يا حاج، احنا موجودين، هانقوم بكل المطلوب.
, ابتسم له في امتنانٍ وهو يشكره:
, -تسلم يا ابني.
,
, نظرة خاطفة، بالكاد تكون محسوسة، ألقاها على وجه هاجر التي كانت مشغولة في التطلع لهاتفها المحمول؛ وكأنه بهذا يريد تذكر ملامحها، وجد نفسه يتصرف مثلما فعل بالماضي، نظرات خلسة، لا يشعر بها من حوله، خلال لقاءات عابرة، تعطيه طاقة لا حصر لها، ربكةٍ موترة انتابته حينما اتجهت إليه، حيث يقف مع والدها، لم ينظر إليها، وأخفض رأسه في أدبٍ، بينما قالت بتنهيدة بطيئة:
, -مش هتأخر يابا فوق، على طول هاجيب المهم.
,
, أومأ برأسه سامحًا لها بالصعود، وقد رأى الشقيقين مقبلين نحوه:
, -ماشي يا بنتي.
, ثم وجه حديثه للقادمين في اتجاهه يشكرهما:
, -كتر خيركم يا ولاد، و**** أنا ما عارف أقولكم إيه، وقفتكم معايا دي٣ نقطة
, قاطعه منذر مبتسمًا، قبل أن يتم جملته:
, -ماتقولش حاجة يا حاج بدير، ده تميم أخونا، وكلامه واجب يتنفذ.
, رد عليه بدير في ضيقٍ:
, -كده أحسن، محدش ضامن ممكن يحصل إيه، وخصوصًا بعد ما عرفنا قلة أصل المأسوف على عمره.
,
, علق دياب بنبرة متوعدة، وهو يفرك كفيه معًا:
, -ده حسابه كبير، مش هايتعتق من إيد حد فينا.
, غمغم بدير بوجهٍ مال للعبوس:
, -يا ريت نوصله قبل ما الحكومة تمسكه.
, احتفظ منذر بابتسامته الواثقة، ثم أخبره بعزمٍ غير قابل للتشكيك:
, -ولو مسكوه، زي ما لينا إيد طايلة برا، حبايبنا كتير جوا.
, في استحسانٍ قال له موجزًا:
, -**** كريم.
, وبنفس الأسلوب الهادئ تابع منذر موجهًا حديثه لثلاثتهم:.
,
, -هستأذن أنا ورايا كام حاجة هاخلصها، وهتابع معاكو الجديد في التليفون.
, رد عليه شقيقه بإيماءةٍ من رأسه:
, -وماله يا منذر، متعطلش نفسك.
, ظلت أنظاره الجادة عليه، قبل أن يخاطبه بلهجته الجادة:
, -مش هوصيك.
, لاحت ابتسامة غرور على شفتي دياب، وهو يرد:
, -عيب عليك.
,
, انسحب شقيقه الكبير من وقفتهم، ليدعو بعدها سراج الحاج بدير للجلوس والانتظار في السيارة، كبديل عن الوقوف الطويل على قدميه، فاستجاب لطلبه، واستراح على المقعد الأمامي، بينما بقي الاثنان يراقبان الطريق في اهتمامٍ، إلى أن تفرغ هاجر من تجهيز ما ينقصها.
, بعد برهةٍ، لمحها دياب وهو قد قارب على إنهاء سيجارته، ألقى عقبها أسفل قدمه ليدعسه، وهتف قائلاً، كنوعٍ من التنبيه:
, -شوف يا سراج، الجماعة نازلين بالشنطة.
,
, اعتدل الأخير في وقفته المستريحة على جانب السيارة، لينظر نحو المدخل، رأى هاجر تحمل بيدها حقيبة سفر ثقيلة، هرول في اتجاهها ليحملها عنها، وهو يصر بشدةٍ:
, -عنك يا ست الكل.
, تحرجت من ذوقه، وتركتها له وهي تشكره:
, -كتر خيرك.
, لحظة تجرأ فيها على رفع عينيه إلى عينيها، لينظر لها عن قربٍ، وسألها بتلعثمٍ طفيف، رجا **** في نفسه ألا يبدو مكشوفًا أمامها:
, -في حاجة، ناقصة تانية؟
,
, أجابت وهي تدير رأسها للخلف، ومشيرة بيدها أيضًا:
, -أه، في شنطة فوق، هاطلع أجيبها.
, أخبرها بعتابٍ لطيف، وملامحه لا تبدو مازحة أبدًا:
, -وإنتي عدومتي الرجالة؟
, ضاقت عيناها قليلاً، بينما أكمل وهو يخشى النظر نحوها:
, -خليكي مرتاحة في العربية، وأنا هاجيبها بنفسي٣ نقطة
,
, لم تنكر هاجر أنها استحسنت الفكرة كثيرًا، وابتسمت لإعفائه لها من مشقة الصعود والنزول لإحضار الحقائب، طلب منها سراج بجديةٍ بعد أن وضع حقيبتها في صندوق السيارة:
, -هاتي المفتاح عشان أقفل الشقة ورايا.
, بحرجٍ بسيط تحدثت قائلة:
, -هتعبك معايا يا معلم سراج.
, وللمرة الأولى يتخلى عن تعابيره الجادة، ليبدو مبتسمًا بسرورٍ واضح وهو يقول:
, -تعبك راحة، يا ريتها تيجي على أد كده، احنا سدادين يا ست البنات.
,
, لم تجد ما تعلق به على كرمه الزائد، سوى مبادلة ابتسامة صغيرة معه، قبل أن تتحرك وتتخذ مقعدها بالسيارة. تطلع إليها دياب من مرآته الأمامية، والتفت ناظرًا إلى الجالس بجواره يُعلمه بجدية بحتة، قاصدًا بهذا تضييق الخناق على محرز، فلا يستطيع الوصول إلى منزله:
, -لازمًا تغير الكالون يا حاج في أسرع وقت.
, أخبره بهدوءٍ، وكأنه يعي مراده:
, -هاكلم النجار يعمل ده.
, أضاف كذلك بنبرته العازمة:.
,
, -لو عايزيني أكون معاه فأنا فاضي، متقلقش.
, تحرج من اهتمامه الكبير، وقال ممتنًا:
, -تسلم يا دياب، مش عايز أشغل أكتر من كده، إنت بردك وراك مصالح والتزامات.
, رد عليه بمرحٍ، مظهرًا عدم اعتراضه على تقديم كل الدعم المطلوب لضمان سلامة جميع أفراد العائلة:
, -اشغلني براحتك، أحسن ما منذر يطلع عيني.
, ربت على جانب ذراعه يدعو له:
, -**** يخليكم لبعض.
,
, تابعت هاجر ما يدور بينهما من حوارٍ غير مفهومٍ بالنسبة لها، فحركت جسدها للأمام قليلاً، وتساءلت في فضولٍ:
, -هو إيه الحكاية يابا؟ ليه كنت عايزني ألم حاجتي وأرجع البيت بسرعة؟ ما أنا كده كده قاعدة معاكو؟!
, كان هادئًا في رده الحازم إليها:
, -مش وقته، هنحكي في ده بعدين يا هاجر.
, لم تناقش والدها في رغبته، وردت بانصياعٍ واضح، رغم الحيرة التي انتابتها
, -ماشي، اللي تشوفه يابا.
, .
,
, فرغ لتوه من صلاته وهو قعيد، حامدًا **** على نجاته العظيمة، من مأساةٍ أقل أضرارها ربما العجز الدائم، وأخطرها غيبوبة تامة تقضي على شبابٍ لم يتنعم به بعد. طيفها الناعم زاره مجددًا، فوجد نفسه يغمض عينيه في استسلامٍ، مستمتعًا بتلك اللحظة المميزة، لم يعد يحصي عدد المرات التي يستدعي فيها عقله ملامحها، كما لو كانت السلوى الوحيدة وسط محنته الشديدة. لفظ تميم دفعة من الزفير مرة واحدة، وهمس متسائلاً مع نفسه:.
,
, -يا ترى عاملة إيه دلوقتي؟
,
, جلَّ ما شغل تفكيره، أنه يعلم جيدًا في قرارة نفسه، وعن صِدامٍ مباشر معه، أن من تزوجته لا يستحقها أبدًا، لا يرتقي –بطباعه الوضيعة- لأن ينال زوجة فريدة مثلها، بها كل ما كان يحلم به في امرأته، من سمات أنثوية لا تقارن مطلقًا مع غيرها من النساء، تلك التي تمتلك سحرًا يسلب العقول بشخصيتها التي لا تُعوض. لم يقدر تلك المرة على لوم نفسه على استغراقه في التفكير فيها، دومًا مشاعره تُغالبه، فينكث الوعود لأجل لمحة من طيفها، كان وحيدًا في حُضورها، ومُعذبًا في بُعادها.
,
, اعتدل بقوةٍ مفاجئة في رقدته على فراشه، فألمته تلك الحركة، وجعلت عظامه تئن بقوة، ضاقت عيناه على الأخير، وقد ولج إليه من لم يتوقع قدومهما، هتف مرددًا في اندهاشٍ:
, -خير يا بشوات؟
, مسح بأنظاره على وجهي ضيفيه غير الاعتياديين؛ ماهر، و وجدي. لم تكن تلك حتمًا بزيارة عادية، فالعلاقات بينهما ليست من النوع الودّي، استطرد وجدي متسائلاً دون استهلالٍ تمهيدي:
, - محرز كان ورا اللي حصلك يا معلم؟
,
, ادعى عدم تذكره، فقال بنبرة شبه متعبة، متجنبًا النظر نحوهما:
, -مش فاكر يا باشا، أصل كل حاجة جت بسرعة، وولاد الحرام خدوني على خوانة.
, هتف ماهر قائلاً بجديةٍ، لم تخلُ من نظرات القلق:
, -يا تميم، كلامنا معاك مالوش علاقة بأقوالك في المحضر بتاع الدكان، ده ليه علاقة بموضوع تاني خالص، هو شغال فيه من زمان.
, نظر نحوه بعينين لا ترمشان، وسأله:
, -موضوع إيه؟
, لم يتردد في إخباره مباشرة؛ قاصدًا أن يرى وقع الصدمة عليه:.
,
, -تهريب المخدرات٣ نقطة!
 
٧

طرأت له فكرة متهورة، أن يعود إلى منزله، باعتبار أنه سيكون مهجورًا في الفترة الحالية، بسبب انشغال العائلة بمتابعة الحالة الصحية لابنهم المفضل، أدرك أن تنفيذ فكرته يتضمن عواقب خطيرة؛ لكنها تستحق المجازفة، فقد أراد الحصول على بعض النقود، قبل أن تنفذ القلة القليلة المتبقية معه، عله تنفعه مؤقتًا لحين حصوله على ما يكفيه. تسلل من مخبأه الآمن، واتخذ الطرقات غير المباشرة ليصل إليه، وقبل أن ينحرف من عند الناصية، تجمد في مكانه للحظاتٍ، راقب فيها المدخل جيدًا. كان محرز على وشك التحرك، حينما لمح سيارة ليست بالغريبة تسده، تراجع بجسده للخلف، وتوارى عن الأعين، وهو يتمتم:.
,
, -هما بيعملوا إيه هنا؟
,
, ظل متسمرًا في مكانه، ومع هذا شعر بارتفاع دقات قلبه المتوترة، حتى كاد يخرج من بين ضلوعه، اختلس النظرات مجددًا، فرأى منذر واقفًا بجوار شقيقه دياب، وعلى جانبه بدير، الذي يبدو مهمومًا، ثلاثتهم يتحدثون معًا بجدية واضحة عليهم، خمن أن وجود الشقيقين هنا له صلة بـ تميم، وهما أخطر في عدائيتهما عن الأخير، بلع ريقه، وتراجع مختبئًا حتى يهدئ من روعته، ثم تحلى بشجاعة زائفة، وأطل برأسه من الزاوية، ما لبث أن تبدل الخوف الشديد إلى غيظ وحقد، حيث احتقن وجهه بشدة، وتصاعدت الدماء إلى رأسه؛ كأنها ستتفجر من فتحات وجهه بالكامل، عندما أبصرت عيناه زوجته تتبادل الحديث مع سراج، والأخير يبدو مهتمًا بها بشكلٍ مبالغ فيه، كما لو أنه قدم له فرصة ذهبية ليتودد إليها، على مرأى ومسمع منه، وهو عاجز عن منعه، ؛ كان هذا آخر ما ينقصه! الوقح يكرر ما فعله سابقًا قبل أن يفسد الأمر برمته عليه.
,
, توقفت عقارب الساعة عن الحركة، لتعود به لسنواتٍ مضت، عندما كان فقيرًا، معدمًا، لا يملك إلا القليل، يُعد نفسه مجازًا كرئيسٍ للعمال؛ وإن كان لا يرتقي عنهم في منصبه الافتراضي، سوى بدهائه في تطييع الأمور لصالحه، ليستفيد منها على قدر الإمكان. وقتها كلاهما كانا يجلسان أمام إحدى الشاحنات، في سوق الجملة، على مقعدين خشبيين، ينتظران انتهاء العمال من تعبئة الصناديق بالطازج من الفواكه، والخضراوات. نفخ سراج دخان نارجيلته في الهواء، والتفت نحوه يحادثه، بنوعٍ من الاستهلال:.
,
, -بأقولك إيه يا محرز٣ نقطة
, ارتشف الثاني قدرًا من الشاي الساخن الذي يملأ كوبه الزجاجي، وقال:
, -أيوه يا معلم سراج.
, تردد قبل أن يخبره بحرجٍ:
, -عايز اسألك في حاجة كده، بس بعيد عن الشغل، حاجة خصوصي شوية.
, ركز أنظاره عليه، وشجعه للحديث معه قائلاً بترحيب، وابتسامته السمجة لا تفارقه:
, -قول يا معلم.
, ترك سراج خرطوم النارجيلة، ومال ناحيته، ليبدو صوته قريبًا –منخفضًا كذلك- عندما نطق:.
,
, -بيني وبينك كده، أنا عايز أفاتح المعلم بدير عن خطوبة بنته، عندك خبر عن الحكاية دي؟
, غامت ملامح محرز، رغم محاولته لإظهار العكس، بينما أضاف سراج في حرجٍ أكبر:
, -ومايصحش أسأل بردك المعلم تميم عن أخته، إن كان في حد في نيتهم يجوزهاله ولا لأ، ماينفعش نتكلم كده من غير إحم ولا دستور، وجايز يكون في حد سبقني، لازم نعمل احترام لغيرنا، إنت إيه رأيك؟
,
, ظلت تعابير وجهه غير مقروءة، لم يجد ما يخبره به؛ وكأن الخبر قد هبط على رأسه كالصاعقة، وهو الذي كان يعد العدة في الخفاء، للتودد إليها، وإظهار حسن نواياه نحوها، علها تكون السبيل للانتقال من حياة الفقر، إلى النعيم والترف. انتبهت حواسه لصوته وهو يسأله بخفوتٍ، كما لو كان يخشى أن يلتقط أحدهم جملته تلك:
, -يعني سمعت إن في حد متكلم عنها يا محرز، بما إنك معاهم في الدكان؟
,
, بعد صمتٍ حذر، يكبت به غله الناقم عليه، أجابه:
, -اللي أعرفه إن الحاج رافض يجوزها إلا لما تكمل علامها.
, سأله بحماسٍ انعكس على نبرته وتعبيراته:
, -يعني مافيش حد اتقدملها؟
, نفى برده الموجز:
, -لأ
, استراح سراج في جلسته، وتابع بنبرة عازمة:
, -زي الفل، خلاص أبعت الحاجة تروح عند جماعة المعلم بدير تتطأس كده، واللي فيه الخير يعمله ****.
, ابتسامة متهكمة احتلت زاوية فمه وهو يغمغم إليه:
, -وماله يا معلم، يا زين ما اخترت.
,
, هلل بعدها سراج بسرورٍ يكاد ينطق به كل ذرة منه:
, -يالا يا رجالة، شيدوا الحيل شوية، مش عايزين نتأخر على حبايبنا.
, نظرة غامضة رمقه بها محرز، وقد توقع ارتضاء العائلة به على الفور، باعتباره زوجًا مناسبًا، لا يوجد ما يعيبه، ما لم يفسد هذا عليه أولاً، هكذا وسوس له شيطانه الداهية!
,
, أقل ما يمكن وصفه عنه، أنه شخصية انتهازية، وصولية، غير مؤتمنة، تسعى بشتى الطرق للكسب السريع، وإن كان على حساب أرواح الآخرين، فمنذ نشأته في أسرة بسيطة، وهو يتطلع إلا ما لا يملكه؛ ما بيدِ غيره. لم يكن محرز راضيًا عن فقره المدقع، ولا عن سوء الظروف المحاوطة بعائلته، أوجد لنفسه الفرص لتحسين مستواه الاجتماعي والمادي، ولم يكن هذا كافيًا، لجأ للطرق غير المشروعة، على أمل أن تمنحه ما يطمع في اكتسابه، في أقل وقت ممكن، فشارك غيره في التهريب، بطرقٍ مبتكرة؛ لكنه أنفق ما حاز عليه سريعًا.
,
, طمعه الجائع لا حدود له، فدفعه للتفكير في أساليب تتيح له اختلاس المزيد من الأموال، وبدت الفرصة سانحة، عن طريق مصاهرة عائلة سلطان، في البداية فكر في توجيه مخططاته نحو خلود، الصيد السهل، فوالدها متوفي، لن يضع العقبات أمام زواجه بها، ووالدتها على شاكلته، ترغب في الظفر بكل ما ضنّت به الحياة عليها؛ لكنها كانت قد اختارت هدفها مسبقًا؛ تميم، فأدار مسار الدفة نحو هاجر، وبدأ في تدبير الأموال اللازمة لتعينه على الظهور بمظهرٍ لائق حينما يتقدم لخطبها، وقبل أن يتحقق مراده، الذي استعد له طويلاً، فاتحه سراج مصادفةً في رغبته بمصاهرة العائلة، فلم يكن أمامه إلا إفسادها عليه بأحط الوسائل اللئيمة.
,
, أنفق مبلغًا من المال للاتفاق مع بعض العمال المأجورين، على الادعاء بالكذب على غريمه، ليبدو وكأنه يخوض في أعراض الأسرة، خاصة بعد زيارة والدته الودية للعائلة، فتنطلي الخدعة على تميم الذي كانت به سمة مميزة ومهددة في نفس الآن؛ الاندفاع الأهوج لقطع دابر من يتجرأ بالقول أو الفعل على عائلته، وكان ذاك مدخله، أحضر العامل منكس الرأس إليه، وهتف فيه بوجهٍ ممتقع، ليظهر بمظهر الضيق قبالته:.
,
, -تعالى ماتخفش، اتكلم وأنا أضمنلك برقبتي المعلم تميم مش هيتعرضلك.
, رفع تميم عينيه نحو الاثنين مستغربًا مجيء أحد عماله إليه، في هذا الوقت المتأخر، قبل أن ينهي مراجعة فواتير اليوم، تساءل بصوتٍ متعب قليلاً:
, -في إيه يا محرز؟
, بنفس الملامح العابسة أخبره، وهو يشير بسبابته نحوه:
, -الواد ده عايز يبلغك بحاجة مهمة، وماحبش يروح للحاج على طول.
,
, التفت تميم ناظرًا إليه، فوجد العامل مطرقًا رأسه في خزيٍ، والخوف يكسوه، ضجر من صمته المزعج، وصاح به بزجرةٍ قوية:
, -انطق ياض في إيه.
, لعق العامل شفتيه، ونظر له بارتعابٍ، قبل أن ينطق بنفس اللجلجة:
, -أصل يا معلم آ، الحكاية إن، كان٣ نقطة
, قاطعه بخشونةٍ:
, -أنا مش فاضيلك، لخص في الحوار.
, تراجع العامل خطوة للخلف خشية غضبته الوشيكة، وقال ببطءٍ، ونظراته بين الحين والآخر تتجه نحو محرز:.
,
, -الحكاية أصلها تخص آ، أهل بيتك، الست، هاجر.
, هب تميم واقفًا، ليهجم عليه، قبض على عنقه، يخنقه منه، ثم هزه بعنف، وهو يهدر به بعدائية وحمية هائجة:
, -نعم، إنت اتجننت يا (، )؟ مالك ومال أختي؟
, قفز محرز من مكانه، وتدخل بينهما ليمنعه من الفتك به، بصعوبة انتشله من بين قبضتيه، ليرجوه بعدها:
, -اهدى يا معلم، اسمعه للآخر عشان تعرف في إيه.
, نطق العامل بصوته المرتجف مبررًا:.
,
, -ده ست البنات أشرف من الشرف، هو حد يقدر يجيب سيرتها بكلمة، بس الحكاية إني سمعت آ٣ نقطة
, هدده تميم بصياحه الجهوري، وقد فاض به الكيل من مماطلته، التي لا طائل له بها:
, -قول على طول، بدل ما أعلقك هنا!
, ظل محرز يحول بجسده بين الاثنتين، والتفت برأسه نحو العامل مانحًا إياه إشارة من عينيه ليتابع كما شدد عليه من قبل، فأردف الأخير قائلاً باسترسالٍ:.
,
, -أنا سمعت طراطيش كلام من الرجالة في السوق، عن إن المعلم سراج بيقول عن الست هاجر بعد ما أمه زارتكم في البيت، إنها مش أد كده، وإنه..
, راقب جيدًا التعابير النارية التي اكتسبها وجهه، وأضاف باهتزازةٍ محسوسة في صوته:
, -كان بيفكر يخطبها، بس الست أمه قالت عليها أنزوحة، ومش عِشرية، ولما كلمت الواد اللي هلفط بالكلام ده إنه مايصحش، دي بنت سيد رجالة السوق، قالي إن معلمه بيقول آ٣ نقطة
, ازدرد ريقه لثانية، وأكمل:.
,
, -مافيش راجل غيره في السوق، وإن، لولا بضاعته كان زمان آ٣ نقطة
, تردد قبل أن يتابع بالجزء الأخير من استرساله:
, -الحاج بدير وابنه بيشحتوا، ومش بعيد نلاقيهم واقفين على أول السوق يبيعوا للزباين بالأجل.
, النظر في وجه تميم في تلك اللحظة كان كفيلاً لإدراك مدى الغضب العارم المسيطر عليه، وليزيد من وهج حنقه تساءل محرز بلهجةٍ حادة:
, -إنت سمعته بيقول كده؟!
, استدار العامل نحوه، وخاطبه مؤكدًا:.
,
, -أيوه يا معلم، إن شاء **** يفرمني قطر، أنا سامعه بوداني اللي هياكلها الدود، وكان معايا الواد دُقدق، وصبي المعلم سراج وآ٣ نقطة
, لم يطق تميم استمراره في استفزازه، فهتف بصوتٍ كان باعثًا على الرهبة العظيمة:
, -وربنا ما أنا سايبه، هاعرفه مين هو تميم سلطان.
, أوقفه محرز بصعوبة، ومنعه من الخروج من الدكان، وهو يحاول نصحه:
, -خد حقك بالعقل يا معلم، الكلام هيكتر لو اتجنيت عليه.
, رد عليه بأنفاسه المنفعلة:.
,
, -كله إلا أهل بيتي!
, مشاعره في تلك اللحظة كانت خليطًا من الغضب، والهياج، وزادها حدة قول محرز الماكر، ليضمن تحقيق غرضه:
, -و**** أنا ما عايز أتكلم من زمان، بس فعلاً هو بيغير منك يا معلم تميم، كذا مرة يقولي كلام زي كده، وأنا ساكت، وماحبش حد يقول عني بوقع بين معلمين السوق.
, عنفه بغلظةٍ، وقد ظهر عليه تأثير كلامه:
, -كنت تقول.
, أسبل محرز عينيه، وعلق بخذلانٍ مفتعل:
, -بردك العين متعلاش عن الحاجب.
,
, في تلك الأثناء، بعد أن فرغ من **** العشاء، حضر الجد سلطان إلى الدكان، وجه أنظاره نحوه حفيده المستشاط غضبًا، سأله مستفهمًا:
, -في إيه يا تميم؟
, توتر محرز من مجيئه، وأشار للعامل بإيماءة خاطفة من رأسه ليبتعد، ونظر في اتجاه تميم الذي هدر بصدره الناهج:
, -الكلب سراج جايب سيرة أختي.
, تطلع إليه الجد مطولاً، قبل أن يسأله مجددًا، بعقلانية هادئة، ومغايرة للعصبية الهوجاء المستبدة بحفيده:.
,
, -وإنت اتأكدت من الكلام ده؟ ولا رايح تتخانق عمياني كده؟!
, كان يلهث من فرط انفعاله عندما جاوبه:
, -عايزني أسكت يا جدي؟ هستنى إيه تاني؟ لما نلاقي الواغش بيألفوا حكايات عن هاجر؟
, أتاه رد جده بنفس الصوت الهادئ:
, -أه تسكت لحد ما نتأكد، مش جايز يكون الكلام غلط؟
, وقبل أن يعارضه أمره بصرامةٍ:
, -إنت تفضل هنا لحد ما نشوف إن كان صح ولا لأ
, احتج بغضبٍ شديد:
, -بس يا جدي كده آ٣ نقطة
, قاطعه بلهجته غير المفاوضة:.
,
, -أنا قولت إيه؟
, أمام نظراته الصارمة، وحزمه الواضح، اضطر أن يرضخ له؛ لكنه أخبره بزمجرةٍ، بما يشبه الوعيد:
, -ماشي يا جدي، بس وعزة جلال **** لو طلع حقيقي، هاخش فيه اللومان.
, انسحب محرز من المشهد، لاعنًا في سره، فلو جاء الجد متأخرًا دقيقة واحدة، لما تمكن من اللحاق به، ولسُفكت الدماء في الحال.
,
, حربٌ باردة اندلعت -لاحقًا- دون سبب معلوم بين أفراد العائلتين، قُطباها يحتفظان بمشاعر عدائية، تضاعفت مع ازدياد الحاجة، لتوريد بضائع جديدة، شحَّ تواجدها في السوق، وكانت تلك القشة التي استغلها محرز مع استمراره في بث سمومه المغلوطة، لكلا الطرفين، ليبدو وكأنهما يتحينان الفرصة، للتنكيل ببعضهما البعض، وقد حدث ما تمناه! وقامت تلك المشاجرة العنيفة في السوق، توقع فيها محرز أن يقتل أحدهما الآخر؛ لكنها انتهت بحبس تميم، وإقصاء سراج عن ساحة التجارة لبعض الوقت، مع ضمان عدم وجود أي بادرة صلح بين الطرفين.
,
, نعم، كانت له طريقته الخبيثة الداهية في التقرب من بدير، وقلب الحقائق لصالحه، ليبدو في نظره المخلص المجتهد في عمله، ورويدًا رويدًا تولى إدارة الأعمال، وتعميق الصلات بالزواج من هاجر، ليستمر على منواله اللئيم في استنزاف وسرقة أموال العائلة، بذكاءٍ كبير، متلاعبًا في أصول الأوراق، والمستندات، وكافة ما له صلة بفواتير الشراء، إلى أن خرج تميم من محبسه، فارتبكت كل حساباته، وضاق الخناق عليه.
,
, أفاق من دوامة الذكريات على صوت تشغيل محرك السيارة، تأكد من عدم رؤيتهم له، أثناء مرورهم من جواره، وأولاهم ظهره؛ لكن بقي الغل يحرق في كبده، كز على أسنانه هامسًا بحقدٍ لا طائل له:
, -هي بقت كده خلاص؟
, احتفظت تعابيره بعلامات الشر، وأضاف بوعيدٍ لن يخل به:
, -مش هتخرب عليا بس، هاخليها على الكل!
,
, حديثه المباشر عن تورط زوج شقيقته في قضايا تهريب خطيرة، خاصة تلك المرتبطة بالمواد المخدرة، صدمه على نحوٍ مشمئز، ورغم استنكاره لوضاعة محرز وخسته التي تنكشف يومًا بعد يوم، إلا أنه لم يتوقف عن لوم نفسه، لمنحه ثقته لمثيله من الخونة، بل ومصاهرته أيضًا، وإن لم يكن حاضرًا آنذاك؛ لكنه أعطاه مباركته لإتمامها. استند تميم على كفيه، ليعيد ظهره للخلف، مستمعًا إلى وجدي الذي استطرد قائلاً:.
,
, - محرز مجرد أداة في إيدين ناس تانية، بيحركوها على مزاجهم، واحنا دورنا كرجال قانون نوقع كل اللي مشغلينه.
, تساءل تميم بصوتٍ شبه متحشرج:
, -والمطلوب مني إيه؟
, تحرك ماهر من مكانه ليدنو منه، ساحبًا بيده مقعدًا معدنيًا، كان ملتصقًا بالحائط، وضعه بجواره، وجلس عليه، ثم أجابه:
, -عايزينك تتعاون معانا، بصورة سرية، وتجيبلنا المعلومات اللي تلزمنا.
, علق تميم بتهكمٍ صارخ:.
,
, -يا باشا سيادتك جاي تتريق عليا؟ معلومات إيه اللي هاعرف أجيبها وأنا بالحالة دي؟ هو أنا قادر أقوم من مكاني؟
, نظر في عينيه، وقال بهدوءٍ:
, -المعلومات دي متوقعين إن جزء منها يكون عند، أختك
, اصطبغت بشرته الباهتة بحمرة غضبه، وهتف بعصبيةٍ انعكست في نبرته:
, -نعم؟ أختي؟
, أكد له بإيماءة صغيرة من رأسه:
, -أيوه.
, احتج بغلظةٍ تسببت في إيلام صدره:
, -لا متأخذنيش يا باشا، أنا أختي مالهاش دعوة بأي حاجة.
,
, دون تحيزٍ أو انفعال قال له، محاولاً إقناعه:
, -احنا واثقين من ده، بس بدل ما يكون الاستدعاء رسمي، وتتبهدل في الأقسام والنيابة، أنا حابب ده يتم بصورة ودية، بعيدًا عن جو المجرمين، أكيد إنت متحبش تشوف أختك هناك؟
, منطقيته الواضحة غلبت تعصبه الملازم له، وعلى الرغم من التنمر البادي عليه إلا أنه سأله:
, -وهي هتعرف تفيدكم إزاي؟
, جاءه الرد هذه المرة من وجدي، حيث قال:.
,
, -أكيد زي أي واحدة قاعدة مع جوزها، هياخد راحته معاها، يفضفض عن شغله، ويقولها عن شوية أسرار.
, التفت نحوه، وخاطبه بتبرمٍ:
, -ماظنش محرز بالغباء ده.
, كان صوت وجدي مغلفًا بالبرود وهو يعقب عليه:
, -مش هنخسر حاجة.
, في حين استأنف ماهر باقي حديثه موضحًا له:
, -احنا شغالين في كذا اتجاه، ومحتاجين كل مساعدة متاحة عشان نقدر نمسك بالمجرمين دول.
, أضـاف وجدي من ناحية أخرى:
, -وهنستدعي كمان أخو مراتك للتحقيق معاه.
,
, انزوى ما بين حاجبيه في نكرانٍ شديد وهو يدمدم:
, -مراتي؟!
, أخبره ماهر ببساطة:
, -أيوه، مدام خلود.
, صحح له بزفيرٍ ثقيل، وبعينين ملتهبتين من غضبه المتزايد بداخله، نتيجة ما يتلقاه من أنباء غير سارة:
, -لأ، دي طلقتي يا باشا٣ نقطة
, تبادل وجدي نظرة اندهاش مع ماهر، في حين تابع تميم متسائلاً بتوجسٍ:
, -هي ليها علاقة بـ محرز كمان؟
, نفى على الفور ماهر، مانحًا إياه مزيدًا من الإيضاح:.
,
, -لأ، بس معروف إنه كان صاحب نوح، اللي اتقتل من فترة، أكيد إنت عارفه؟
, زفر بثقلٍ قبل أن يقول:
, -أيوه
, اعتبر إفصاحه عن القادم نوعًا من المجازفة؛ لكنه كان مضطرًا للجوء لكل وسيلة متاحة، لإحكام الطوق حول محرز، ومن ثم الوصول إليه، حتى تتذلل عقبة الوصول إلى آسر، خاصة مع تعذر التواصل مع فيروزة، لذا استمر في حديثه معه متابعًا:.
,
, -بعد تفريغ كاميرات المراقبة الموجودة في المنطقة اللي ساكن فيها القتيل، اكتشفنا إن محرز كان طالع معاه بيته، وبعدها بفترة بسيطة نزل، وكان مش على بعضه.
, سأله تميم كنوعٍ من التخمين:
, -يعني هو اللي قتله؟
, أخبره ماهر بتريثٍ، ودون أن تكون إجابته حاسمة:
, -في احتمال كبير يكون ليه يد في موضوع قتله، وخصوصًا بعد التحريات الدقيقة، مصدرنا أكدت إنه علاقته بيه من زمان، وكان معاهم هيثم!
,
, احتدت نظرات تميم بشكلٍ ملحوظ، وقبل أن يساء فهم كلامه، أوضح له ماهر:
, -بس مش متورط معاه في التهريب، أخره كان سهرات من إياها.
, تساءل تميم بحيرةٍ سيطرت عليه:
, -وهو هيثم هيعرف إيه زيادة؟
, أجابه بنظرة نافذة:
, -السكك اللي ممكن يكون مستخبي فيها٣ نقطة
, لمحة من التردد انعكست على تعابيره عندما أضاف ماهر بنبرة ذات مغزى:
, -احنا عارفين إن حبايبك معاك، وجايز توصل معاهم لـ محرز قبلنا.
,
, سأله بهدوءٍ مصطنع، محاولاً إخفاء ربكته:
, -بتكلم عن مين يا باشا؟
, ببساطةٍ شديدة أخبره:
, -ولاد طه حرب.
, رمش بعينيه، وقال متهربًا:
, -أنا مش فاهم حاجة.
, بوجهٍ جاد التعبيرات علق عليه ماهر:
, -لو مسكتوه، ماتخلصوش عليه، يلزمنا، وصلت كده يا معلم؟
, بعد أن كشفت جميع الأوراق، وأصبح اللعب متاحًا للجميع، ظل تميم محافظًا على ثباته، وراوغه في الحديث قائلاً بإرهاقٍ لم يزيفه:.
,
, -ادعيلي أقوم بالسلامة يا باشا، وأنا بنفسي مش هرتاح إلا لما أجيبه لحد عندكم.
, قال ماهر مبتسمًا:
, -هاعمل نفسي مصدق كلامك، و٣ نقطة
, توقف لهنيهة عن الحديث لينهض من جلسته، وتابع:
, -وحمدلله على السلامة.
, تنحنح الأخير بحشرجة خفيفة قبل أن يرد مجاملاً:
, -**** يسلمك يا باشا.
,
, انصرف بعدها الضابطان، ليتركاه في حالة من مشاعر الغضب والخزي؛ الأولى لكونه عاجزًا عن التحرك بحرية بسبب عطب جسده، والثانية لعدم استطاعته حماية عائلته من أمثال الوغد المتلون محرز.
,
, ضاق صدره من كم العمل الزائد المفروض عليه، والذي تطلب منه المكوث بعد ساعات العمل الرسمية لوقتٍ إضافي، حتى ينتهي كليًا من مراجعة ما بحوزته، من أوراق. نهض الموظف الجالس في المكتب المجاور له عن مقعده، وسأله بتثاؤبٍ:
, -أجيبلك قهوة معايا يا خليل؟
, رفع رأسه عن الملفات المفتوحة التي يزدحم بها سطح مكتبه، ورد بتبرمٍ؛ وكأنه يشكو له تشبع جسده بالكافيين:
, -ده أنا شارب يجي 3 قهوة، و4 شاي، معدتي قفلت خلاص.
,
, همهم الموظف في استياءٍ، بصوته الخافت:
, -منه لله المدير الجديد، حبكت يعني يعوز الدفاتر الجرد كلها النهاردة.
, عقب عليه بنفس الصوت الخفيض:
, -كل ما يجبولنا واحد جديد، نعمل نفس الموال، أما طفحنا.
, زفير متعب خرج من جوف زميله، لينطق بعدها:
, -هانت، فاضل كام حاجة ونخلصها.
, أمّن عليه خليل متمتمًا:
, -يا مسهل.
,
, عاد لينهمك في مراجعة الأوراق بتركيزه الشديد، إلى أن قطعه رنين هاتفه المحمول، المسنود على ميمنته، مدّ رأسه في اتجاهه، وحملق في الاسم الذي أنار الشاشة، بدت ملامحه متجهمة قليلاً، عندما عرف أن المتصل أحد جيرانه بمنزله الآخر، تساءل مع نفسه بتذمرٍ:
, -وده بيتصل ليه؟
,
, توقعت أن يكون اتصاله –كالعادة- له علاقة بجمع الأموال من سكان المنطقة، لإصلاح تلفٍ ما تأخر الحي في الاهتمام به، لم يستطع التهرب منه، فجاره اللحوح لن يتوقف عن مهاتفته، لهذا لم يكن أمامه مفرًا من الإجابة عليه، فخاطبه بنبرة متعجلة:
, -سلامو عليكم، إزيك يا حاج عماد؟ إيه الأخبار عندك؟
, كان صوته مهومًا حزينًا، لا يبشر بخيرٍ وهو يتكلم معه:
, -مش عارف أقولك إيه يا أستاذ خليل، قلبي عندك و****.
,
, أدرك من حديثه الغامض أن هناك خطب ما، انتصب كتفاه، وتساءل بتلهفٍ:
, -حصل إيه؟
, صمتٌ طويل تخللته نهنهات متألمة جعلت قلبه ينقبض، كرر خليل سؤاله عليه بقلقٍ متعاظم:
, -ما تقول يا حاج عماد، في إيه؟
, بنحيبٍ مسموعٍ مع صوته أجابه:
, -جماعتك يا أستاذ خليل، تعيش إنت..
, تلقائيًا نطق باسمها غير مصدقٍ ما أخبره به:
, - سماح؟ إنت بتقول إيه؟
, -البيت ولع باللي فيه من شوية، والناس حاولت تنجد جماعتك، بس أمر **** نفذ!
,
, اضطربت أنفاسه، وهربت الدماء من وجهه ليغدو كالأموات وهو يردد مصدومًا:
, -مش ممكن، لأ!
, ترك عمله مندفعًا كالأعمى، يسابق دموعه التي فرت من عينيه حسرةً على خسارته، ولم يعلم بعد أن المزيد ينتظره!
,
, أحست كم هي ضائعة، وهي تتطلع بنظرات فارغة، للردهة الطويلة –باهتة الإضاءة- المستندة بجانبها على حائطها البارد، إلى حيث نقل هيثم أولادها الثلاثة للمشفى القريب، من أجل إنقاذهم. سرحت حمدية في أفكارها المتداخلة، تتذكر شغف أبنائها بتناول بقايا العجين الطازج الذي كانت تعده آمنة ببراعة لا تقارن، ولهفتهم على تذوقه نيئًا، كما لو كان مذاقه الخطير لا يضاهيه شيء، كما اقتحم عقلها مشهد إعدادها للكعكة المشؤومة، وكيف تفانت في تجهيزها هذه المرة، بعد أن اختبرت فاعلية مكوناتها لبضعة مرات سابقة، الفارق أنها أفرطت في وضع الفانيليا لإخفاء المذاق الغريب، وخلطت المادة السامة باللبن، ليبدو الخليط في النهاية متجانسًا، خطأها غير المقصود أنها احتفظت بالبقايا في صحنٍ صغير، كروتين متبع، عقب كل مرة تنتهي منها من تجهيز العجين، في درج الثلاجة.
,
, تذكرت بين ضلالاتها أن أحد أبنائها رأى الوعاء، وكاد أن يختطف منه قطعة، إلا أنها نهرته بغلظةٍ، وهي تضرب كفه بعنفٍ:
, -إياك تمد إيدك، وامشي من هنا يا زفت.
,
, نظراته الحزينة مع شفتيه المقلوبتين في عبوسٍ، كانت آخر ما احتفظ به وجهه البريء، لم تمنحه اهتمامها آنذاك، تجاهلت قهره، وبقي كامل تفكيرها منصبًا على الكعكة، تلقائيًا ارتفع كفاها للأعلى تلطم بهما صدغيها، بعد أن تجسد طيف وجهه الوهمي أمامها، وصوت نواحها يهتف في ندمٍ:
, -يا ريتني ما زعلتك يا ضنايا، حقك عليا يا غالي.
,
, اتجهت الأعين إليها، خاصة هيثم، راقب ردات فعلها بأسفٍ، فالمصاب جلل، لا يمكن احتماله، أقبلت عليها آمنة تحتضنها، حاولت أن تشد من أزرها، وتهون عليها ألمها، تدعو **** أن ينجيهم من الموت. أبعد هيثم نظراته عنهما، وتطلع إلى زوجته التي لم تتوقف عن البكاء، متحجر القلب، من لا يتأثر برؤية الحزن الثقيل الجاثم عليهن! جاهد ليبدو متماسكًا أمام الانهيار المسيطر على الثلاثة، اشرأب بعنقه للأعلى في توترٍ، حينما رأى أحد الأطباء يلوح إليه. تحرك في خفة نحوه، وسأله وهو يختطف النظرات نحو حمدية التي بدت مفصولة عمن حولها:.
,
, -طمنا يا دكتور؟
, وجهه عكس الأخبار غير الطيبة، ضغط على شفتيه، وأخبره بأسفٍ لا يخلو من المواساة:
, -مش عارف أقولك إيه و****، وأنا شايف الأم مقطعة نفسها هناك.
, ما قاله كان تمهيدًا للأسوأ، والذي بدا مؤلمًا حد الموت وهو يتابع:
, -شيدوا حيلكم يا جماعة، التلاتة في ذمة ****.
,
, زلزلة عظيمة ضربت بجسد هيثم، والذي فُرض عليه تلقي مثل تلك الأخبار المفجعة، شعر أثناء سماعه لها بقلبه يهوي بين قدميه حسرةً على الخسارة الفادحة، لم ينطق لسانه سوى بكلمات الذِكر:
, -إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا ب****.
, لم يكن الطبيب واثقًا إن كان يتابع حديثه أم لا؛ لكنه أضاف بلهجةٍ تحولت للجدية:.
,
, -الأمل في إنقاذهم كان تقريبًا معدوم، وخصوصًا بعد التأكد من إن الأعراض اللي كانت سبب في وفاتهم راجعة للتسمم.
, بدا صوته أجوفًا متباعدًا وهو يقول:
, -اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.
, واصل الطبيب إعلامه بهدوءٍ:
, -أنا مضطر أبلغ البوليس، لأن في شبهة جنائية في وفاتهم٣ نقطة
, لم ينتظر قراره، واختتم حديثه مواسيًا:
, -وربنا يصبركم.
,
, تحركت عينا هيثم نحو زوجته التي كانت تنظر ناحيته أيضًا، أدركت الأخيرة من شحوبه المريب، ودموعه الزاحفة على صفحة وجهه، أن الفاجعة لا تُحتمل، ارتفعت أصوت شهقات بكائها المتقطع عاليًا، ليتحول بعدها لعويلٍ صارخ يفطر القلوب المكروبة٣ نقطة!
 
٨

تقدم ناحية المكان الذي تجلس به، وعيناه مغرورقتان بالدموع، مد يده نحو ذراعها، قبض عليه بلطفٍ، وسحبها من مقعدها بعيدًا عن والدتها وزوجة خالها، فمثل تلك الأخبار المفجعة تحتاج لتمهيدٍ مسبق، حتى لا يكون وقعها مميتًا على من يتلقاها، حاوط هيثم زوجته من كتفيها بذراعه، وسار بها في اتجاه السلم، وهناك استطرد يقول بصوته المختنق، وتلك الغصة تجرح حلقه:
, -إنتي مؤمنة بقضاء **** وقدره، صح؟
,
, وضعت همسة يدها على فمها تكتم شهقاتها الصارخة، فتابع يوصيها:
, -مش عايزين صريخ، **** اختارهم يكونوا من لؤلؤ الجنة، هما راحوا عند اللي أحسن من اللي الكل، ده قضائه.
,
, لم تستطع نفسها من البكاء قهرًا على وفاتهم، انفجرت في نوبة مريرة، عجزت عن ضبط انفعالاتها المتحسرة فيها، كان من الحكمة أن انفرد بها بعيدًا عنهما، وإلا لامتلأت جنبات المشفى بوابلٍ من الصراخ العنيف، لن يزيد القلوب سوى ألمًا وانفطارًا. تنفس بعمقٍ، وأخبرها على مهلٍ:
, -خلي أمك تكلم أبوهم، متقوليش ليها حاجة دلوقتي، لحد ما هو يجي٣ نقطة
,
, بدت غارقة في بكائها الشديد، فوضع يده على جانبي كتفيها يهزها برفقٍ منهما، وهو يسألها:
, -إنتي سمعاني؟
, أجابت بصوتٍ متقطعٍ بالكاد استطاع فهمه:
, -صعبانين، عليا، أوي، هما مالهومش ذنب.
,
, عبارات المواساة أحيانًا في مثل تلك المواقف العصيبة، يتعذر النطق بها، قد تبدو فارغة، غير مجدية لمن يعاني من ويلات الفراق، فالراحلون ذهبوا للأبد، وتركوا من خلفهم لوعة الاشتياق لوجودهم! استدمعته تلك المشاعر، وحجزت العبرات في حدقتيه، تنفس على مهلٍ، ثم تابع بصوته المغلف بحزنٍ ثقيل:
, -**** يصبر أهلهم، ويعينهم على اللي هما فيه..
, انتظر للحظة قصيرة، وقال:.
,
, -أنا هاوصي الدكتور والممرضين يفضلوا مكتمين على الخبر لحد ما يوصل خالك، وجوده أكيد هيفرق مع أمهم.
, هزت رأسها بإيماءة موافقة، ومسحت بمنديلها الورقي الدموع المبللة لوجهها، قبل أن تتحرك ناحية والدتها لتطلب منها تنفيذ ما أمره بها زوجها.
,
, من بعيد بدت له، كبؤرةٍ من الكتل البشرية المتزاحمة فوق بعضها البعض، وحين اقتربت خطواته المتخبطة من المكان، ترأى له بوضوحٍ، أنه كان حشدًا غفيرًا أتى من كل حدبٍ وصوب، لتفقد البناية التي بدت كأتونٍ من الجحيم. زاد ازدحام المنطقة بعربات الإسعاف، النجدة، والمطافئ، فأصبحت الحركة عسيرة على الغالبية. جرجر خليل قدميه نحو منزله، شخصت أبصاره وهو يرى كيف تحول المكان الذي كان يأويه فيما مضى، لركام وأطلال دُفنت فيه ذكرياته مع أحبابه. ضربات خفيفة تلقاها على كتفيه، كنوعٍ من المواساة، أثناء شقه الطريق إليه. منعه الطوق الأمني المفروض حول العمارة وما حولها من الصعود إلى الأعلى؛ لكن هذا لم يوقف صوته عن الصراخ مناديًا:.
,
, - سمــــــاح! رقيــــــة!
, لفت الأنظار نحوه، فحاوطه جيرانه، والإشفاق يبدو ظاهرًا عليهم، ربت أحدهم على كتفه يواسيه:
, -شد حيلك يا أستاذ خليل.
, وقال آخر بحزنٍ عميق:
, -ادعيلها بالرحمة.
, لم ينظر بعينيه الزائغتين نحو أي أحدٍ، بقيت أنظاره معلقة للأعلى، ولسان حاله يردد في إنكارٍ شديد، رافضًا تصديق ما حدث لهما:
, -هما مماتوش، أنا كلمتهم من بدري، إنتو مش عارفين حاجة.
, علق عليه أحدهم من الخلف، وهو يشاطره الأسى:.
,
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، **** يصبرك.
,
, بقي متبلدًا في مكانه، لا يقوى على الحركة، عيناه فارغتان، وعقله محجوب التفكير عنه، سد أذنيه عن شبيه هذا الكلام الغريب، أوهم نفسه إنها مجرد عبارات سخيفة لا معنى لها، إلى أن أفاق من صدمته، وانهار مع رؤيته لكيس الجثث الأسود، يمر من جواره، يحمله المسعفين نحو عربة الإسعاف، وصيحات التوحيد، والترحم على المتوفية ترتفع من ورائه، هزة عنيفة نالت من جسده، وأحدهم يواسيه مجددًا:
, -ادعيلها يا أستاذ خليل بالرحمة.
,
, شهق باكيًا في حسرةٍ، وهو يهتف بصوته المختنق:
, - سماح لسه عايشة، هي ما، ماتتش.
,
, تفهم المتواجدون من حوله حالته العقلية المضطربة، فقلبه اضطرمت فيه نيران الوجع، خاصة والجميع يعلم مدى ارتباطه الوثيق بزوجته، وتعلقه بطفلتهما الصغيرة، خسارة مثل تلك لا يسهل احتمالها! مرت الدقائق عليه كأنها ساعات، ازداد نحيبه مع حجم الألم المتولد في صدره، ذاك الوجع الذي لا يمكن مداواته مطلقًا، عفويًا التقطت يده هاتفه المحمول حين اهتز في جيبه، رفعه إلى وجهه، ليجيب على المتصل، صوتًا أنثويًا مكتومًا رن في أذنه:.
,
, - خليل.
, تحرك فكه لينطق بصعوبة، وسط بكائه الشديد:
, -ألوو، آمنة.
, سألته بنبرتها الباكية:
, -إنت، فين يا خليل؟
, من بشاعة المشهد وقساوته، غاب عن ذهنه بعض الحقائق البسيطة؛ عدم معرفة شقيقته بأمر زيجته الثانية، لهذا لم يكن واعيًا بالقدر الكافي، ليستوعب سبب بكائها خلال اتصالها المفاجئ به. سألها بحسرةٍ موجعة، وقد اعتقد أنها تشاركه أحزانه:
, -شوفتي اللي حصل يا آمنة؟
,
, ظنت أن الأخبار السيئة وصلت إليه، فكان سؤالها متقطعًا، مصحوبًا بوجعٍ محطم للقلوب:
, -إنت، عرفت؟
, أجاب عليها بنواحٍ:
, -كانوا كويسين، أنا مكلمهم الصبح.
, رددت على مسامعه بألمٍ كبير:
, -**** ليه حكمة في كده.
, سألها والحسرة تتوغل في كامل روحه، لتزيد من عذابه:
, -هما عملوا إيه عشان ده يجرالهم؟
, هتفت ترجوه بنشيجٍ:
, -امسك نفسك يا خويا، مراتك عايزاك جمبها.
,
, وكأنه تلمس بارقة الأمل في كلماتها الأخيرة، وسألها بلوعةٍ قاسية:
, - سماح؟ هي عايشة؟
, استغربت من هذا الاسم الغريب الذي نطق به لسانه، وصححت له بدهشةٍ طفيفة:
, - سماح مين دي؟ أنا بأكلمك عن حمدية يا خليل، احنا في المستشفى وعايزينك.
,
, كان كمن أصابته صاعقة أخرى، توقف عن الكلام، وشرد بذهنه عنها، غابت عن عينيه الصور، وبدا مشتتًا عن استيعاب أي جديد يُقال الآن، بؤبؤاه تحركا في اتجاه صاحب الصوت الرجولي الذي ناداه:
, -يا أستاذ خليل٣ نقطة
, انخفضت يده الممسكة بهاتفه المحمول عن أذنه، وصوت آمنة يهتف:
, -يا خليل! إنت سامعني؟
, أنهى الاتصال، ليركز مع جاره عماد الذي واساه بأسفٍ:
, -شد حيلك، كله مقدر ومكتوب٣ نقطة
, جفل بدنه بالكامل وهو يُعلمه:.
,
, -أنا عايز أقولك إن بنتك رقية نقلوها على المستشفى، تعالى أوديك عندها.
, ارتجفت شفتا خليل مهسهسًا باسمها:
, - رقية!
,
, برائحة ما زالت خانقة، محملة بالأدخنة المؤذية، استمر رجال القانون في فحص المكان، طقطقات الخشب المحترق كانت مسموعة، لكل من يخطو فوقه بحرصٍ، رغبة منهم ألا تفسد الخطوات غير المدورسة ما يمكن الاستدال عليه، لإظهار معالم الجريمة محل التحقيق. أثناء ذلك، ســار اثنان من المسئولين، تبدو على هيئتهما الخارجية أهمية منصبهما القانوني، بتهملٍ حذر على الأرضية المتفحمة، توقفا عند عتبة المطبخ، يتطلعان إليه في اهتمامٍ. تأمل وكيل النيابة، المكلف بتفقد مسرح الجريمة، ما يحويه المطبخ من بقايا هالكة، بنظراتٍ دقيقة فاحصة له، وبدأ حديثه مستفيضًا في طرح بعض الدلائل:.
,
, -واضح كده من المعاينة المبدأية للبيت، واتجاه اشتعال الحريق، إنها بفعل فاعل، مش قضاء وقدر.
, ثم انصت بعنايةٍ للضابط المسئول عن التحقيق في هذه القضية عندما ناقش معه الملابساتٍ الجديدة تم الوصول إليها:
, -رجالة المعمل الجنائي قالوا إن عيون البوتجاز كلها كانت مفتوحة، في الوقت للي مكانش في أي حلل عليه.
, تركزت عيناه على ما كان يبدو موقدًا من قبل، والتفت نحو الأخير الذي واصل القول:.
,
, -ده غير في بعض السكان قالوا إنهم كانوا شامين ريحة غاز من بدري.
, حاوره وكيل النيابة بهدوءٍ:
, -مش بأقولك، احنا كده مضطرين نوسع دايرة الاستجواب ونسأل أهالي الحتة، جايز حد يكون شاف ولا سمع حاجة.
,
, أشــار الضابط للوكيل بيده ليتحركا بعيدًا عن المطبخ، عاد كلاهما للردهة المتسعة، جالت أنظارهما على الأريكة التي ما زالت تحتفظ ببقايا النسيج المحترق من جسد الضحية، أشــار وكيل النيابة بيده نحوها، وأردف قائلاً بنبرته الرزينة:
, -الغريبة من مكان وضع الجثة، إنها ماتحركتش، مع إن الطبيعي إنها تحاول تنقذ نفسها، أنا حاسس إن في شيء مريب في وفاتها!
, نقر الضابط بسبابته على جانب وجهه، وعلق بتعابيرٍ شديدة الجدية:.
,
, -احنا مضطرين ننتظر تقرير الطب الشرعي بعد ما يشرح الجثة.
, استدار الوكيل ليواجهه، وأخبره بلهجةٍ شبه آمرة:
, -عمومًا ابدأ في استجوابك للأهالي لحد ما نجمع أطراف الخيوط مع بعض.
, هز رأسه بامتثالٍ مظهرًا طاعته له، واقتضب في قوله:
, -تمام يا باشا.
,
, أمام عربة الإسعاف المفتوح بابها الخلفي، جلست إلى جوار ابنتها، ولسانها يلهج بالشكر، لم تتوقف عن احتضانها، كما غمرت صدغيها بعشرات القبلات الحنون، كلما تذكرت أنها أوشكت على خسارتها، نظرت لها والدتها ملء عينيها، وهتفت تردد في تضرعٍ:
, -اللهم لك الحمد والشكر يا رب، أنا مش مصدقة نفسي، ده روحي راحت مني، وافتكرتك بعد الشر عنك آ٣ نقطة
, قاطعتها دعاء قبل أن تتم جملها قائلة:
, -**** لطف بيا يا ماما.
,
, ردت عليها أمها بعزمٍ:
, -أنا لازم أطلع حاجة لله حلاوة نجاتك.
, اشرأبت دعاء بعنقها لتحملق في الرماد الأسود الذي كسا واجهة البناية، باعدت نظراتها عنه، ودمدمت بغصةٍ آسفة:
, -اللي صعبان عليا أبلة سماح، و كوكي.
, هزت والدتها رأسها في أسى، وأضافت عليها:
, -بيقولوا لحقوا البت، بس أمها بقى **** يرحمها، ويصبر أهلها على فراقها.
, -يارب.
,
, التفتت كلتاهما نحو الرجل الذي دلت ثيابه الرسمية على عمله بالسلك الشرطي، حين صاح بلهجته الخشنة:
, -يا ست!
, ردت عليه أم دعاء قائلة:
, -أيوه يا شاويش.
, أشـار بيده نحو تجمعًا على بعض خطواتٍ، وقال:
, -البيه الظابط عايز يتكلم مع بنتك شوية.
, سألته في جزعٍ وهي تلطم على صدرها:
, -ليه؟ هي عملت حاجة؟
, طمأنها بصوته الأجش:
, -ده إجراء روتيني يا حاجة، بيتعمل مع كل السكان.
, دون تفكيرٍ أخبرته بصوتها الحاسم:.
,
, -طيب، أنا جاية معاها.
, نظرة حائرة تبادلتها مع ابنتها، قبل أن تستعد الاثنتان للذهاب إلى الضابط، وصوتٌ مُلح يتردد في عقل الأم:
, -هايكون عايز منها إيه يا ترى؟
,
, مرت اللحظات ثقيلة ومؤلمة عليه، خلال انتظاره بالمشفى الحكومي، حيث تُعالج طفلته الناجية، ولولا وجود عماد معه، لخر جسده المتخاذل مفترشًا الأرضية القاسية، تضرع في رجاءٍ شديد أن يرأف المولى بحاله، وينجيها. نظر لوجه جاره الذي بدت علامات الإشفاق والتعاطف معه واضحة، حاول الأخير أن يهون عليه حزنه، فقال له:
, -إن شاء**** خير، الدكتور دلوقتي هيطلع من جوا ويطمنا، الحمد**** إنها جت على أد كده.
, غمغم في ألمٍ:.
,
, -هو في مصيبة أكتر من كده؟
, وضع يده على كتفه، وضغط عليه برفقٍ، قبل أن يخبره:
, -امسك نفسك، بنتك محتاجاك.
, نهج صدره بالبكاء الحارق، وظل ينوح خسارته التي لا تعوض إلى أن ظهر أمام عينيه المتورمتين رجلاً يرتدي معطفًا أبيض اللون، تساءل الطبيب في هدوءٍ، وهو يوزع نظراته بينهما:
, -مين فيكو والد الطفلة رقية؟
, على الفور نطق خليل بصوته الملتاع:
, -أنا! هي عاملة إيه؟
, تمهل في حديثه عندما خاطبه:.
,
, -الحمد**** احنا لحقناها، لو كانت استنت أكتر من كده، **** أعلم كان ممكن يجرالها إيه، وخصوصًا إنها فقدت وعيها من كمية الغاز اللي ملى الرئتين.
, ردد عماد في امتنانٍ:
, -الحمد**** يا دكتور، مكتوبلها عمر جديد.
, بقيت عينا الطبيب مثبتة على خليل وهو يكمل سرد ما قام به، من روتينٍ متبع مع الحالات الطارئة:.
,
, -لازم حضرتك تعرف إننا عملنا للطفلة غسيل معدة كمان، بعد ما اكتشفنا وجود قيء على هدومها، وبقايا أكل غير مهضوم في بؤها.
, بدا خليل مصدومًا مما يسمعه، ولم يستطع بعقله المشتت أن يستجمع مقصدهـ في حين عمق عماد من نظراته نحوه، وسأله بتشكيك:
, -وده ليه؟
, تلك المرة التفت الطبيب نحوه، ليجاوبه مفسرًا، بنبرة هادئة مضبوطة:.
,
, -كان لازم نعمل اللازم مع حالتها الحرجة، وبعد التحليل الأولي للعينة، من الواضح إن هي عندها حساسية لمادة اللاكتوز، وكلت حاجة فيها منتجات ألبان بكمية كبيرة، حفزت خلاياها ضده، وطبيعي إن جسمها يتفاعل بالعكس مع مادة مش متجاوب معاها، ده غير إن في مواد تانية كانت موجودة ضمن العينة، دكاترة المعمل بيحللوها، ووقت ما تطلع النتيجة هاعرفك.
, تساءل عماد في حيرةٍ:
, -طب ده يأثر عليها؟
, كان كلامه محايدًا عندما رد:.
,
, -هنشوف، الطفلة محطوطة تحت الملاحظة حاليًا، وغير مسموح بزيارتها.
, ألح عليه عماد بسؤاله، وهو يمسح بيده على ظهر خليل:
, -يعني أبوها مش هايعرف يشوفها؟
, نظر له بجديةٍ قبل أن يصبح تعبيره رسميًا:
, -دلوقتي لأ، بس هنحتاجه يكون موجود عشان باقي الإجراءات الخاصة بالمحضر.
, دون تردد أتت جملة عماد حاسمة:
, -احنا مش رايحين في حتة يا دكتور.
, جاء تعليقه عليه كنوعٍ من المواساة:
, -**** يطمنكم عليها.
,
, انصرف الطبيب بعدها ليتابع عمله، فاستدار خليل نحو جاره واضعًا يده على ذراعه، وجد نفسه يقول له، بما يشبه التوسل:
, -بنتي يا عماد، مش عارف أساعدها.
, هتف يطمأنه بتريثٍ، عله ينجح في التخفيف مما يعانيه:
, -الدكتور قال هتبقى كويسة.
, زاد من توسله له قائلاً:
, -عايز أشوفها، وديني عندنا
, شد جاره من أزره قائلاً بتفاؤل رغم كبر حجم الفاجعة:
, -هتشوفها و****، بس يطمنونا عليها الأول.
,
, تهدل كتفا خليل، وانحنت قامته، استند بظهره على الحائط، عله يمنحه الدعم ليقف ثابتًا، جلجل صوته المتضرع راجيًا:
, -استرها معاها يا رب.
, ومع مواصلته للدعاء المستجدي، لم يعبأ بالرنين المزعج –والمتكرر- الأتي من هاتفه المحمول، نبهه له جاره بهدوءٍ، علَّ الاتصال القادم يحمل أمرًا هامًا له:
, -تليفونك بيرن يا أستاذ خليل.
,
, انتشله من شروده المعبق بأحزانٍ لا تنتهي، ليجيب عليه بعد أن قرأ اسم زوجته الأولى فيه، أجلى صوته الكئيب، ليعتذر منها، بصوته الذي ما زال مختنقًا:
, -أيوه يا حمدية، معلش أنا مشغول جامد دلوقتي، مش هاعرف أجي وآ٣ نقطة
, قاطعته بهديرٍ، جعلت ما تبقى من روحه ينسحق:
, -ولادك ماتوا يا خليل، سامعني، ماتوا وراحوا مننا خلاص.
,
, خُيل إليه أنه أصيب بالصمم وصراخها المؤلم يكرر نفس الكلمات القاتلة عليه، تدارك نفسه وسألها بقلبٍ ينقبض بعنفٍ مُهلك:
, -إنتي بتقولي إيه؟ عيال مين؟ إنتي بتخرفي يا ولية؟
, هدرت به بجنونٍ:
, -**** خدهم عشان ترتاح، ها برضوه مش هاتيجي يا خليل؟
, توالت الكوارث عليه، كل واحدة أعظم في شدتها من الأخرى، تقطع صوته متسائلاً بقلبٍ يتمزق إربًا:
, -إيه الكلام ده؟ إنتي بتقولي إيه؟
,
, عويلها الممتزج بنحيبها اخترق طبلتيه عندما أعادت عليه:
, -ولادنا ماتوا، مااااااتوا!
, تضاعفت رجفة شفتيه، وشعر بتلك الوخزات المميتة تنخر في ضلوعه؛ كأنها تقطعه، قبض بيده على صدره، يحاول إسكات الألم المبرح الذي عصف به، سأله عماد في جزعٍ، بعد أن رأى الشحوب المخيف على بشرته:
, -في إيه يا أستاذ خليل؟
,
, سقط فاقدًا لوعيه، بعد أن عجز عقله المستنزف، على التعامل مع كم الأخبار المشؤومة التي نال نصيبه منها في يومٍ واحد، حاول عماد الإمساك به، وصاح مستنجدًا بمن حوله:
, -يا دكاترة! يا ممرضين الحقونا!
,
, حك فروة رأسه بأصابعه، لينشط عقله الثقيل، بعد أن زحف النعاس إليه، ثم فرقع فقرات عنقه، بتحريكه للجانبين، والتفت ساحبًا ورقة أخرى، لينقل بياناتها بدقةٍ على جهاز الحاسوب الألي الموضوع أمامه، كما تنص مهمات وظيفته الحكومية، على تسجيل المعلومات أولاً بأول، فور ورودها إليه، على الشبكة العنكوبتية، لتبقى المعلومات مُحدثة باستمرار. رفع بصره عن شاشته، ليتطلع إلى زميله الذي ولج إلى الغرفة قائلاً بنبرته الآسفة:.
,
, -هو إيه اللي حاصل في البلد اليومين دول!
, سأله الأول مستفهمًا:
, -خير، في جديد ولا إيه؟
, أجابه بوجهٍ عابس، وهو يناوله ورقة صغيرة:
, -3 عيال ماتوا بتسمم.
, تقلصت عضلاته في ضيقٍ، وردد بنوعٍ من الدهشة:
, -يا ساتر.
, أضاف زميله بتعابيرٍ مصدومة؛ وكأنه ينقل سبقًا صحفيًا:
, -وكمان من عيلة واحدة!
, تمتم الموظف بنبرة مشفقة:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، **** يصبر أهلهم.
,
, وضعها على سطح المكتب، وحرك الفأرة نحو أيقونة ما على شاشة حاسوبه، ليفتح قاعدة البيانات الخاصة بالمرضى، وبدأ في طباعة الأسماء من خلال لوحة المفاتيح. حضر إليهما أحد الموظفين، وسلم إليهما ورقة جديدة، ليُملي عليه زميله، وهو يضعها فوق الأوراق:
, -طيب سجل عندك كمان حالة تسمم تانية في مستشفى (، )
, نفخ الموظف في سأمٍ، قبل أن يتحول للتعقيب الناقم:
, -برضوه؟ معدتش في ضمير عند الناس ولا إيه؟
,
, استغرق في طباعة الأحرف بتباطؤ، ليسحب بعدها الورقة الجديدة، وبدأ في قراءة ما دوّن فيها، اعترت الدهشة ملامحه، وهتف بعفويةٍ، وسبابته تفرك جبينه:
, -غريبة أوي!
, تساءل زميله بفضولٍ:
, -في إيه؟
, أخبره وهو يرفع الورقة إليه:
, -اسم البت شبه أسامي الـ 3 عيال اللي ماتوا.
, دقق النظر في اسم الطفلة صائحًا بذهولٍ مُحير:
, -إيه ده بجد؟
, أكد على كلامه قائلاً:
, -أه و****
, هتف زميله مُصرحًا، والدهشة تفترش قسماته:.
,
, -لأحسن تكون أختهم.
, ضاقت عينا الموظف في ألمٍ، قبل أن يعلق:
, -أوبا، ده كده صعب أوي، زمان أبوهم وأمهم هيجرالهم حاجة.
, تنهد زميله مرددًا:
, -**** يسترها على عيالنا.
, استعاد الموظف الورقة منه، واستكمل تدوين الاسم في خانة المخصصة له، وهو يطلب منه بلهجةٍ تبدلت للجدية:
, -طب حاول تجهز الإخطارات عشان نسلمها للعسكري، بدل ما يجي المدير يسمعنا كلمتين بايخين.
, أمن برأسه عليه، مختتمًا ثرثرته معه:.
,
, -على طول أهوو، ما الغربال الجديد ليه شدّة.
,
, تطلعت إلى طبقها الذي لم تمسه يدها بنظراتٍ منزعجة، خشيت أن تكون ابنتها قد عدلت عن قرارها، واستسلمت لمشاعرها البائسة مجددًا، تلك المشاعر أحادية الجانب، والتي لا تجني منها سوى التعاسة والشقاء. زفرت بثينة على مضضٍ، ونظرت إليها بعينين تعكسان نقمها، ثم سألتها بوجهٍ مكفهر:
, -مش هاتكلي برضوه؟
, رفعت خلود عينيها إليها، وأجابت بصوتٍ لا يخلو من الفتور:
, -ماليش نفس.
,
, هتفت بها والدتها تسألها بنوعٍ من اللوم، وهي تسدد لها نظرة ساخطة:
, -هنرجع تاني نِحن؟
, تحدثت من زاوية فمها قائلة بوجومٍ:
, -لأ يامه اطمني، معدتش في رجوع، أنا خلاص عقلت.
, أحست بالارتياح يتخللها بعد تصريحها هذا، فقالت بحماسٍ انعكس على نبرتها، وظهر بريقه في نظراتها نحوها:
, -أيوه كده، وصدقيني بكرة هاجوزك سيد سيده، بس نفوق من اللي احنا فيه.
, احتجت بغلٍ اِربد به وجهها:.
,
, -لأ مش عايزة أتجوز، أنا عايزة أخلي عيشة تميم مرار، مايشوفش في حياة لحظة هنا.
, أكدت عليها والدتها بنظراتٍ برقت بوحشيتها:
, -هايحصل.
, نهضت خلود عن المائدة تقول لأمها، بجمودٍ صار تعبيرها الملازم لها:
, -أنا هاقوم أفرد جتتي جوا.
, ردت في استحسانٍ، وهي تجمع صحون الطعام:
, -وماله يا حبيبتي.
,
, كان الوقت متأخرًا لتستقبل زيارة فيه، لهذا حينما سمعت الدقات الخفيفة على بابها استرابت في الأمر، تحركت نحوه متسائلة مع نفسها:
, -ده مين اللي جاي السعادي؟
, ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة يشوبها الخوف، عندما رأت محرز واقفًا بشحمه ولحمه، على عتبها، واللا خوف سائد عليه، بلعت ريقًا غير موجود في حلقها، لتلاحقه بأسئلتها؛ ولكن بصوتٍ خفيض:.
,
, - محرز! إنت بتعمل إيه هنا؟ وجيت إزاي؟ دول قالبين عليك الدنيا، وجايز يمسكوك.
, قال بهدوءٍ رغم خفوت نبرته، ونظرة واثقة تلمع في عينيه:
, -ماتخفيش يا خالتي، أنا مأمن نفسي٣ نقطة
, شعرت بتسارع نبضاتها، خاصة مع همسه القائل:
, -مش هاتقوليلي اتفضل.
, واربت الباب على قدر المستطاع، لتطل برأسها من فُرجة ضيقة، وأخبرته بنبرة مهتزة، جاهدت أن تكبت خوفها فيها:
, -البت خلود جوا، وجايز تاخد بالها.
, تفهم حرصها، وقال مباشرة:.
,
, -ماشي، مش هاطول عليكي، أنا محتاج فلوس، عايزك تدبريلي قرشين كده يمشوني الأيام الجاية.
, تحججت إليه بعذرٍ واهٍ لم ينطلِ بالطبع عليه:
, -ما إنت عارف البير وغطاه.
, صعد الدم الحانق إلى وجهه، لكونه على يقين كامل بكذبها، أخبرها بصوتٍ رن فيه التحذير:
, -يا خالتي الكلام ده يخيل على أي حد غيري، ده احنا دفنينه سوا، الفلوس عندك زمانها بقت أكوام.
, أصرت على كذبها الملفق قائلة:
, -أونطة، هو في حاجة بتفضل يا محرز؟
,
, أوجز في مماطلتها غير المقنعة بإخبارها بغلظةٍ، ونظرة باعثة على التهديد تنطلق من حدقتيه:
, -أنا مش هلوك لوك كتير معاكي، يومين وهارجعلك تكوني اتصرفتيلي في مبلغ محترم، وإلا هتطربأ على دماغك قبلي يا ست الحاجة.
, استبد بها الخوف من طريقته المُوحية بعنفٍ وشيك، ورجته:
, -وطي صوتك يا محرز.
, كرر عليها تحذيره بوجهه الغائم:
, -ماتنسيش، هاعدي عليكي تاني.
, صرفته على عجالةٍ بترديدها:
, -طيب، طيب، امشي بقى.
,
, رد وهو يخفي وجهه خلف وشاحٍ من القماش الأسود:
, -سلام.
, راقبته وهو يهبط الدرجات في خفةٍ، ليختفي مثلما جاء خلسة، أغلقت الباب بحذرٍ، حتى لا تحدث الكتلة الخشبية صريرًا ينبه ابنتها، ابتعدت عنه تبرطم مع نفسها في تبرمٍ، رافضة توريط نفسها معه، أو حتى تهديده الضمني:
, -هو أنا كنت نقصــاك؟!
,
, معاملته لها، يُمكن أن توصف على أقلِ تقدير، بأنها ازدرائية مفعمة بالاحتقار، ومع هذا تقبلتها منه مرغمة، ليس لأنها شخصية ضعيفة، تجعل غيرها يتغذى على إذلالها؛ ولكنها وسيلتها المتاحة، لخداعه بالحيلة والمكر، مثلما اتبع معها هذا الأسلوب الخسيس، للإيقاع بها في شباكه الدنيئة. دون حياءٍ أو حتى ذرة حرجٍ، استعرض آسر قبالتها واجهة موقعه الإباحي؛ وكأنه يتباهى بإنجازٍ خطير، شعرت بالغثيان يضرب معدتها، عندما قال بتفاخرٍ:.
,
, -شايفة العظمة يا حبيبتي.
, أبعدت فيروزة عينيها قبل أن تختطف نظرة غير مقصودة نحو ما تبثه الفيديوهات، لتعلق بتقززٍ:
, -ده قرف.
, استفزه كلامها، فقال مُعقبًا بسخافةٍ:
, -القرف ده، هو اللي بأكلك منه يا بيبي
, قاومت رغبة مُلحة في شتمه، وردت تسأله بوجهٍ ملامحه تعكس استحقارها له:
, -إزاي قادر تعمل كده؟ مش خايف من ****؟
, لمحت نظرة عداء في عينيه، عندما هتف بها بصوته الرخيم، والذي سعي ليكون غير مبالٍ:.
,
, -أنا مش هاعيش غير مرة واحدة بس٣ نقطة
, حاول أن يثير مخاوفها، والتمتع برؤيتها ذليلة، فأضاف بانتشاءٍ:
, -ده غير إن الفيديو بتاعك محطوط هنا، إيه رأيك لو أعرضه؟ تفتكري هايجيب مشاهدات أد إيه؟!
, نظرة جريئة لا تخلو من وضاعة نكراء رمق بها مفاتنها، قبل أن يضيف مهينًا إياها، وقاصدًا الإشارة لما اعتبره أنوثتها المنقوصة:
, -مع إن البضاعة مغشوشة، وماتسحقش إلا نص قيمتها!
,
, باغتها بتهديده الوقح، فحدقت فيه بنظراتٍ متسعة في غيظٍ يُصاحبه القلق، استثار أعصابها بتلاعبه بأصابعه على لوحة المفاتيح؛ وكأنه حقًا سينفذ ما قاله، شعرت بالدم المشبع بغضبها يتدفق بقوةٍ إلى رأسها، فلم تتمكن من كبح رغبتها في تحطيم حاسوبه النقال على رأسه، وبتحفزٍ واضح عليها، أمسكت فيروزة بفنجانِ القهوة، وفي لمح البصر أفرغته على جهازه لتفسده، انتفض مع تصرفها المفاجئ، وصرخ بها بشراسةٍ استبدت به:.
,
, -إنتي عملتي إيه؟
, توقعت أن تتلقى جزاءَ رعونتها، ولم تأبه بذلك؛ لكن لم يعد ما يحيق بها من إيذاء بدني مهم، أي شيء أمام حماية نقاء شرفها يهون! لتحيا بعفتها عاليًا؛ وإن كان يعني فنائها، وليهلك النجس بمفرده، مُلطخًا بقاذوراته٣ نقطة!
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٩

محادثة غير مقصودة بين اثنتين من الممرضــات أثناء تجولهما بالردهة، بجوارها، دون أن تنتبه أيًا منهما، لكونها الوالدة المكلومة. تكلمت كلتاهما بعفويةٍ عن وفاة الأخوة الثلاثة جراء تلك المادة المسممة، حينها استقامت حمدية في وقتها، وقد أرهفت السمع لحديثهما العابر، اندفعت نحوهما تعترض طريقهما، وهتفت متسائلة بقلبٍ مفجوعٍ، ويدها تتشبث بذراع الأقرب إليها:
, -إيه اللي بتقوليه ده؟
,
, انزعجت الممرضة من طريقة إمساكها القاسية، نفضت قبضتها عنها، وعلقت متسائلة بقليلٍ من الحدة:
, -في إيه يا مدام؟
, صرخت بها حمدية بوجهٍ تضاعفت حمرته الحانقة:
, -هو عيالي ماتوا؟ ردي عليا، عيالي ماتوا؟
, شعرت الممرضتان بالأسف عليها، والحرج من تماديهما غير المحسوب في الحوار عن الضحايا، بادرت زميلتها تواسيها:
, -**** يصبر قلبك.
,
, وجهت أنظارها نحوها، وحدجتها بنظرة أشد شراسةٍ، قبل أن تشتبك معها بالأيدي، وصوت صراخها يجلجل في الردهة:
, -إنتي بتقولي إيه؟ عيالي لسه عايشين.
, تعاملت كلتاهما برأفةٍ وحذرٍ معها، وحاولتا تهدئتها قدر المستطاع، وهما تتفهمان أن للخبر الصادم وقعًا قاسيًا على أعصابها، أردفت الأولى تدعو بحزنٍ لصغارها، والكلمات في تلك المواقف لا معنى لها:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، **** يرحمهم.
,
, نهج صدرها، وانسابت دموعها المحترقة تغرق كامل وجهها، وزعت نظراتها الملتاعة بينهما، وصرخت في إنكارٍ شديد، رافضة تصديق حقيقة خسارتهم للأبد:
, -أكيد إنتو غلطانين، عيالي بخير، محصلهمش حاجة، أنا سيباهم بيلعبوا وبيجروا ورا بعض٣ نقطة
, قاطعتها الممرضة تقول في أسى:
, -دي مشيئة ****.
, تبدلت نبرة حمدية للغلظة، ونفضت الأيادي الرابتة عليها، لتهدر بهما بخشونةٍ:
, - خليل جوزي هيجي يعرفكم مقامكم، إنتو عالم ملاوعة!
,
, وقبل أن تفكر الممرضة في الرد عليها، مالت عليها زميلتها تطلب منها:
, -ماتكلميهاش، **** يكون في عونها.
,
, تنحت الاثنتان للجانب متجاوزتان عن تصرفاتها العدائية نحوهما، رفضتا التدخل أو التعامل بالمثل، لتقديرهما الشديد للحالة المقهورة المستبدة بها، في حين أسرعت حمدية بإخراج هاتفها المحمول من حقيبتها، بحثت عن رقم زوجها لتهاتفه، وضعت الهاتف عن أذنها، مشحونة بكل مشاعر الحزنن الغضب، الألم، والانكسار. جاءها صوته مختنقًا، يبدو من يستمع إليه للوهلة الأولى مصابًا بالزكام، عندما اعتذر منها:.
,
, -أيوه يا حمدية، معلش أنا مشغول جامد دلوقتي، مش هاعرف أجي وآ٣ نقطة
, استوعب عقلها أن التغيير السائد في صوته، ليس طبيعيًا، بل لسبب آخر تعلمه جيدًا، وإن ادعت تناسيها له، استفزها عزوفه عن سماعها، واستشاطت غضبًا من هروبه الدائم من التعامل معها، فقدت أعصابها المستثارة، وقاطعته بهديرٍ، جعلت ما تبقى من روحه ينسحق:
, -ولادك ماتوا يا خليل، سامعني، ماتوا، وراحوا مننا خلاص.
,
, واصلت عويلها الهائج به، تكرر تلك الكلمات القاسمة للأظهر، حتى لم تعد تسمع صوت أنفاسه، فأنهت المكالمة، وبدأت فاصلاً جديدًا من الصراخ الجنوني، رن صداه في جنبات المكان، فأثارت الرعب في المتواجدين. وعلى إثر هديرها الصاخب، هرولت آمنة في اتجاهها، تسألها بصدرٍ ملتاع، وهي تدعو **** بقلبها ألا تكون ظنونها صحيحة:
, -في إيه يا حمدية؟
, التفتت نحوها تخبرها بحرقةِ قلب أمٍ:
, -عيـــالي ماتوا، مــــاتوا.
,
, شهقة جارحة للحلق وجدت طريقها في جوفها، تبعها همهمتها المذهولة، والدموع تتقافز بكثافة في حدقتيها:
, -إيه؟!
, شقت حمدية عباءتها، لتلطم على صدرها بقوةٍ، قبل أن تتحول للطم وجهها، وهي تندب وفاة أبنائها، بصوتها الصارخ:
, -يا حـــرقة قلبي عليكم يا ضنايا.
, تهاوى جسد آمنة، وبحثت عن أقرب مقعد لتسقط ثقل جسدها عليها، وهي تبكيهم:
, -آه يا ولادي!
,
, أظلمت عينا حمدية، وبدت مغيبة عن إدراكها، لتهجم بعدائية على شقيقها زوجها، تتهمها في مفاجأة صادمة لكل الحاضرين:
, -إنتي السبب، إنتي اللي قتلتيهم!
, وسط ذهولها المفجوع، نظرت إليها آمنة في دهشة، وعبراتها تتسابق على صدغيها، رددت في ذهول بصوتها الباكي، معتقدة بأن لغوها غير الواعي يقصد أحدًا غيرها:
, -أنا؟ إيه الكلام ده؟
,
, تعلقت بطرفي ياقة عباءتها، جذبتها بشراسةٍ منهما، لتجعلها تقف على قدميها، هزتها بعنفٍ، ثم استدارت بها نحو الناحية الأخرى، لتقول بعدها بصراحةٍ، ووضوحٍ لا يدع أي مجالٍ للشك:
, -عملتي كده ليه فيهم يا آمنة؟ حرام عليكي، بتكرهي عيالي للدرجادي؟
, نفت عنها هذا الاتهام المخيف بترديدها المذعور:
, -أنا معملتش حاجة.
, لامتها بكل ما فيها من حرقةٍ وغضب:.
,
, -عيالك لو مكانوش بيحبوا ياكلوا من إيديكي مكانوش ماتوا، إنتي اللي عملتي كده فيهم، إنتي خلصتي عليهم!
, ظلت تلقي بالاتهامات في وجهها، حتى كاد يصدق من يسمعها أنها متورطة بالفعل في مقتلهم، ومع الفوضى والضجيج اللافت للانتباه، ركضت همسة في اتجاه الاثنتين، تحاول الفصل بينهما، متلقية بجسدها ضربات غادرة من زوجة خالها، وهي تصيح بها، بنوعٍ من الدفاع الغريزي عن والدتها:.
,
, -سيبي ماما، هي مالهاش ذنب، دي حبيتهم أكتر منك.
, لحق بها هيثم، وشكل هو الآخر بجسده حائلاً يفصل الجميع عن التطاول بالأيدي، في حين هدرت حمدية بتشنجٍ حانق، محاولة تجاوز الممرضات الممسكات بها:
, -إنتي وبناتك بتكرهوا عيالي، جبتي أجلهم يا ظالمة! يا مفترية!
, ردت عليها آمنة محاولة انتشالها من جنونها غير العقلاني:
, -يا حمدية فوقي، إنتي بتتكلمي إزاي؟
,
, ارتفعت نبرتها أكثر، حتى جرحت أحبالها الصوتية، خلال صراخها المحمل بالاتهامات:
, -يا نــــاس قتلت ولادي، حرمتني منهم، منك لله يا آمنة، **** يحرق قلبك زي ما خدتي مني عيالي.
, هتفت ممرضة ما من الخلف، مبررة تصرفات المرأة المكلومة:
, -الست من صدمتها اتجننت٣ نقطة
, أضافت أخرى عليها بعزمٍ:
, -أنا هنادي على حد من الدكاترة يتعامل معاها، بدل ما يجرالها حاجة من القهرة.
,
, ترجتها ثالثة، وهي تكافح للسيطرة على تشنجاتها العصبية:
, -أوام **** يكرمك.
,
, رغم بقائه لفترة طويلة بمفرده، إلا أنه لم يتذمر، اعتبر وجوده في المشفى، نوعًا من الواجب الذي تفرضه قوانين الجيرة الودية، بين أهالي المنطقة الواحدة. جلس في منطقة الانتظار، يتابع كل برهة المستجد بشأن حالة خليل، وكذلك طفلته، آملاً خلال ذلك أن يتواصل معه أحد معارفه، ممن تلقوا الأخبار السيئة. رفع عماد جسده عن مقعده المعدني، ليتمكن من إخراج هاتفه المحمول من جيبه، أجاب على اتصال زوجته التي هرعت تسأله بتوجسٍ محسوس في صوتها:.
,
, -إنت فين يا عماد؟
, علق بتبرمٍ على سؤالها السخيف:
, -في المستشفى يا ستي، هاكون فين يعني؟
, هتفت بنبرة مزعوجة:
, -كل ده؟ إنت اتأخرت أوي!
, أخبرها بزفيرٍ مرهق:
, -ما هو الراجل طبّ واقع من طوله قصادي، وبنته **** يتولاها بقى.
, سألته في اهتمامٍ، وقد بدت متفهمة للموقف:
, -طب وهتعمل إيه؟
, لحظة من الصمت تخللت حديثهما، ليقول بعدها بحيرةٍ بائنة:.
,
, -مش عارف، أكيد مش هاسيبه لوحده في الظروف دي، وبأحاول أوصل لحد من أهله، بس موبايله مقفول برقم سري.
, تمتمت في كلماتٍ متأسفة:
, -**** يصبره على ما بلاه
, رد باقتضابٍ:
, -يا رب٣ نقطة
, ثم طلب منها بصيغة بدت شبه آمرة:
, -بأقولك إيه ودي العيال عند أمك، وتعالي عندي.
, استغربت من طلبه، وسألته:
, -ليه ياخويا؟
, ببساطةٍ جاء رده عليها مليئًا بالرحمة والعطف:
, -مش هانسيب البت رقية لواحدها، هي عايزة حد أكيد معاها.
,
, مصمصت شفتيها قبل أن تعقب عليه:
, -عيني عليها، حاضر يا عماد، هالبس وألبس العيال، وأبقى عندك، مهما كان أمها **** يرحمها كانت زي البلسم وست عِشرية.
, أمرها بهدوءٍ لا يخلو من الجدية:
, -خدي تاكسي، بلاش مكروباصات عشان تنجزي.
, كان ردها مريحًا له عندما نطقت بإيجازٍ:
, -طيب، على طول ياخويا.
,
, أنهى الاتصــال معها، وتطلعت إلى الهاتف الآخر الذي بيده، محاولاً العبث في أزراره، عله يتمكن من فتحه، حيث احتفظ بهاتف خليل المحمول، بعد أن تم نقله للطوارئ، للتعامل مع حالته الحرجة. انتفض في جلسته، وقد رأه يهتز برقمٍ غريب، أجاب عليه دون تفكيرٍ، ليستمع لصوت أحدهم يقول:
, -ألوو، أيوه عم خليل.
, صحح له عماد بعد نحنحة خفيفة:
, -لأ أنا صاحبه، إنت مين؟
, شعر بلمحة من الاستغراب في نبرته عندما خاطبه:.
,
, -أنا هيثم جوز بنت أخته، لو هو جمبك خليني أكلمه.
, اعتذر منه عماد بحرجٍ:
, لا و****، ده وقع من طوله بعد اللي حصل لمراته وبنته
, ردد مدهوشًا:
, -مراته وبنته!
, تعجب من استغرابه، وأطلعه بإيجاز على تفاصيل الحادث المؤسف:
, -هو إنتو مادرتوش، البيت ولع بيهم من شوية، وبالعافية لحقنا رقية بنته.
, سكوت متردد ساد للحظاتٍ معدودة، قبل أن ينطق هيثم أخيرًا:
, -طب هو موجود عندك فين؟
, منحه عنوانه موضحًا:.
,
, -في مستشفى (، )، اللي جمب (، ).
, علق عليه هيثم بصوتٍ واجم:
, -خلاص عرفتها، أنا مسافة السكة وهاكون عندك.
, هتف بصدرٍ شبه منشرح:
, -في انتظارك يا أستاذ.
, أكد عليه هيثم مجددًا:
, -جايلك على طول.
,
, استغل وضعها تحت تأثير المواد المهدئة، بعد انهيارها العصبي، ليترك زوجته ووالدتها في المشفى معها، ريثما يُقابل ذلك الغريب الذي أخبره، بالجديد والصادم من الأخبار، أرجئ كالعادة ما عرفه مُصادفة، إلى أن يلم بالتفاصيل. التقى هيثم بـ عماد الذي لم يتوانَ عن إطلاعه بكل شيء، يخص الحادث، وكيف انتهى الأمر برقوده طريح الفراش. أخفى اندهاشه من براعة خليل، في تخبئة مسألة زيجته الثانية لسنوات، وخاصة عن زوجته اللئيمة حمدية، ولولا وقوع هذا الحادث، لما عَرف أحدهم عنه، ولبقي زواجه في طي الكتمان.
,
, لاحقًا اتجه مع الجار إلى الطبيب لمقابلته، فقال الأخير بجديةٍ، تضمنت تحذيرًا صريحًا:
, -المريض هايتحط تحت الملاحظة؛ لكن لازم تبقوا عاملين حسابكم للأسوأ.
, تساءل عماد بنبرته المهتمة:
, -يعني إيه؟ أنا مش فاهم؟
, التفت الطبيب برأسه نحوه، وقال:
, -هو اتعرض لجلطة دماغية، ودي حاجة مش بسيطة٣ نقطة
, تأكد من متابعة الاثنين لحديثه، قبل أن يكمل جملته:
, -من توابعها إنها بتسبب شلل نصفي.
, ردد هيثم بأسفٍ:
, -يا ساتر يا رب.
,
, وقال عماد في حسرةٍ:
, -هو الراجل ناقص، لا حول ولا قوة إلا ب****.
, تابع الطبيب كلامه:
, -احنا مش هانقدر نحدد مدى الضرر الحالي، إلا لما يفوق.
, أثنى هيثم على مجهود الطبيب قائلاً:
, -متشكرين لتعبك يا دكتور.
, علق في امتنانٍ:
, -ده واجبي يا فندم، وربنا يطمنكم عليه.
, -يا رب
, قالها عماد وهو يلتفت ناظرًا إلى هيثم ليسأله:
, -شوف هتعمل إيه يا أستاذ معاه.
, شردت نظراته عنه لثوانٍ، ليأتي رده بعدها، مغلفًا بتوترٍ مضاعف:.
,
, -أكيد هاعرف أهله٣ نقطة
, ثم انخفضت نبرته، مستكملاً عبارته؛ وكأنه يُحادث نفسه:
, -وربنا يستر من اللي جاي.
,
, تأتي المصائب الجسام لتظهر معادن الرجال؛ وكان هو أحد هؤلاء الأشداء، رغم ماضيه المليء بالسقطات، تجاوز عن هفواته، وخط لنفسه طريقًا مستقيمًا، ما زال ملتزمًا بالسير فيه، متعهدًا لنفسه ألا ينحرف عنه، فكان لها ولعائلتها نعم السند في وقت الأزمات. تحركت همسة مع زوجها إلى مدخل المشفى الراقد به خالها، قدرتها على الكلام بدت مفقودة، وأي حديث يُمكن أن يُقال بعد الخسائر التي لا عوض؟ تصدع ما كان يمسك بالأسرة بوفاة الصغار، وبات الأبوان على شفير الجنون، مسحت مجددًا عبراتها التي لم تنضب بعد، لتتطلع إلى هيثم الذي طلب منها بهدوءٍ:.
,
, -امسكي نفسك يا همسة، خالك مش مستحمل.
, ردت بألم شديد:
, -ومين فينا قادر؟ إذا كان أمهم اللي طول عمرنا بنعتبرها معندهاش إحساس، كانت هتموت نفسها، ما بالك هو!
, قال في أسفٍ، مقاومًا الغصة الحارقة في حلقه:
, -دي مشيئة ****، وخلينا نشوفه هو عامل إيه دلوقتي.
, بإيماءةٍ موافقة قالت:
, -طيب.
,
, أشــار لها إلى حيث توجد غرفته، بعد أن تم إيداعه في إحدى حجرات الرعاية الفائقة، لم يستطع هيثم أن يخبرها بعد بمدى سوء حالته الصحية، جراء الجلطة الدماغية التي تعرض لها، والتي حتمًا ستترك أثرها السلبي على جسده، تقدم في خطواته ليسبقها، ثم ولج إلى الداخل، ملقيًا نظرة سريعة على الرجل المستلقي على الفراش، في حالة جمود، رغم رؤية الدموع المبللة لوجهه.
,
, رغمًا عنها انفلتت منها شهقة متحسرة، فشلت في كتمها، تبعتها بشهقات متقطعة مختلطة بنواحها، دنت من فراشه، وواسته بنحيبها الباكي:
, -شد حيلك يا خالي.
,
, بصعوبةٍ حاول خليل إدارة وجهه ناحيتها، وحينما تمكن من هذا، نظر لها بعينين تسبحان في أنهرٍ من الدموع المقهورة، رأته يُجاهد لتحريك فكه حتى ينطق، فزاد إشفاقها على مصيبته الأخرى. همس متلعثم خرج من بين شفتيه، يرجوها بأحرفٍ متقطعة، وفي عينيه نظرة استجداءٍ تحرك المشاعر المتبلدة:
, - ر، قـ، يــ، ة بـ، نتـ، ي!
, أمعنت النظر فيه، فكرر نفس الكلمات المقتطبة على مسامعها، مع إضافة:
, -ما، تسيــ، بهــاش.
,
, استوعبت رغبته في رعاية طفلته اليتيمة، والمتواجدة معه في نفس المشفى، لترد مؤكدة له، وهي تكفكف عبراتها:
, -حاضر يا خالي، متقلقش عليها، كل اللي إنت عايزه هاعمله.
,
, رأته يبذل ضعف جهده ليرفع ذراعه للأعلى، حركته كانت بطيئة للغاية، تثير الحزن العميق عليه، ذاك الذي كان يرفع ذراعه لينهال بالضرب عليها وعلى توأمتها، متباهيا بقوته، الآن يعجز عن بسطها، امتدت يدها لتمسك بكفه المرتعش، واحتضنته بأناملها، نظرت له عن قرب بنظرات مليئة بالدموع، أوصاها مجددا بصوت ثقيل للغاية:
, -بــ، نتـ، ي!
, هزت رأسها بإيماءات متتالية، وهي تعقب عليه:
, -متخافش عليها يا خالي.
,
, وسط بكائها الحارق، تخيلت أنها رأت ابتسامة ارتياح على شفتيه الجافتين، ارتخت عضلاته المتشنجة، ليسكن كما كان، جسدًا هامدًا، يحوي أحزانًا، لا حسر لها.
,
, -عامل إيه يا صاحبي؟
, تساءل منذر بتلك الجملة المهتمة، وقد سحب مقعده، ليجلس على مسافة قريبة من فراش رفيقه المقرب، لينفرد به قبل أن يلتقي بعائلته. هز الأخير رأسه بإيماءة راضية، ثم جاب بنظراته على جسده المتعب، وعيناه تعبران عن ضيقه الشديد، ليقول له بعد زفيرٍ طويل، بقلةِ حيرة:
, -أهوو، زي ما إنت شايف لا عارف أتحرك، ولا قادر أقوم أجيب حقي بإيدي.
, ربت على ذراعه قائلاً له بتفاؤلٍ:
, -فترة وتعدي٣ نقطة
,
, ثم غمز له بكلماتٍ موحية، تدل على علاقة متينة:
, -وبعدين احنا إيديك ورجليك.
, شكره بمحبةٍ صافية:
, -تعيش يا غالي.
, تنحنح منذر بصوتٍ خفيض، ثم أسبل عينيه نحوه، ليضيف بنوعٍ من التردد:
, -أنا عندي ليك كام خبر كده، بش مش ولابد.
, تحفز تميم في رقدته، وتساءل بقلقٍ:
, -خير؟
, قال بوجهٍ ممتعض، ونظراتٍ منزعجة، أشارت لضجره:
, -واحد من رجالتنا شاف الكلب محرز وهو طالع عند بيت خالتك، مكملش دقايق، وخلع قبل ما يمسكه.
,
, استاء من سماعه لذلك، وهتف متسائلاً في حنقٍ:
, -وهو راح هناك ليه؟ إيه اللي بينه وبينها؟
, بحذرٍ تحرك فكه لينطق، دون أن تخلو نبرته من الغموض:
, -بص، في الأول هتستغرب زيارته ليها؛ لكن لما تعرف من اللي احنا وصلناله، هتفهم ليه راحلها.
, صاح بنفاذ صبرٍ، وقد استبدت به شكوكه، حول وجود علاقة مريبة، تفاصيلها غير متضحة المعالم بعد:
, -قول يا منذر على طول، ماتكلمنيش بالألغاز.
, منحه التفسير القاطع، بقوله المباشر:.
,
, -خالتك هي شريكة محرز في الدكان التاني بتاعه، ومن زمان.
, انعكس استهجانه على ملامحه التي تحولت للقساوة، وسأله مستنكرًا:
, -نعم، إيه الكلام ده؟!
, ضغط على شفتيه قليلاً، قبل أن يخبره بضيقٍ:
, -احنا اتفاجئنا زيك، بس ورق الدكان باسمهم هما الاتنين.
, دمدم في غضبٍ لاعنًا كليهما:
, -يا ولاد الـ٣ نقطة
, تابع منذر حديثه بمنطقيةٍ:
, -فماتستعبدش علاقتهم المدارية ببعض، مصالح وشغل وفلوس.
,
, غامت ملامح رفيقه، وزحف الحنق على نظراته، عندما غمغم في غيظٍ:
, -ده أنا كنت مغفل كبير أوي.
, رد عليه محاولاً التخفيف من وطأة الأمر عليه:
, -محدش كان يعرف، بس أكيد إنت فاهم إنه راحلها عشان يسلك قرشين منها يمشي بيها نفسه
, في تهكمٍ ساخط علق عليه:
, -أه طبعًا، ما هي الخزنة بتاعته.
, ربت منذر من جديد على جانب ذراعه، وأكد عليه بلهجته الحاسمة:
, -عمومًا المرة الجاية لو راح عندها هيلاقينا مستنينه
, .
,
, وداعة لطيفة من المحقق الشرطي، تعامل بها مع الطفلة، أثناء محاولته استجوابها، لمعرفة كيف وقعت الحادثة المؤسفة في منزلها، بالطبع لم يجرؤ على إخبارها بمسألة وفاة والدتها، ترك تلك المهمة الشاقة لأقاربها، حينما يظهر أحدهم على الساحة. كان من الغريب عليه أن يجد جيرانها يتواجدون من حولها، يقدمون لها كل الدعم المطلوب لتخفيف الأزمة عليها، بينما تعذر الوصول لعائلة والدتها، فخالها الوحيد سافر للخارج، وجداها توفيا قبل وقت طويل. ابتسم لها وناولها قطعة من الشيكولاته، قبل أن يستأنف حديثه متسائلاً، بنفس الوجه الهادئ:.
,
, -يعني بقى كانت أول مرة تشوفي فيها طنط دي؟
, أجابته رقية ببراءةٍ:
, -أيوه.
, سألها بلهجته المحققة، دون أن تبدو متزمتة معها:
, -وهي صاحبة ماما على كده؟
, أجابتها كانت كسابقتها موجزة:
, -معرفش.
, داعب شعرها بيده، وسألها مرة أخرى:
, -طيب قالتلك إيه تاني عنها؟
, لحظة سكتت فيها الصغيرة عن الكلام، محاولة تذكر ما أخبرتها به والدته، لتجيب بعد ذلك بترددٍ:
, -قالت دي عمتو.
,
, انعكس الاهتمام المثير على وجه المحقق، وعلق بنظرةٍ ذات مغزى:
, -عمتو، كويس!
,
, ثم وجه نظرة أخرى للمعاون الموجود معه، ليدون كلامها في الأوراق الرسمية، حتى يتم التحري عنه بدقةٍ، مع مطابقة أقوالها بنتائج العينات المسحوبة منها، وأيضًا بنتائج تشريح جثمان الفقيدة. راقب حركة الصغيرة المتوترة ليديها، واحتضانها لقطعة الشيكولاته؛ وكأنها تخشى ضياعها. لم يكف عن ممازحتها باللطيف من الكلام الطيب، حتى تسترسل في ردودها معه، بعد عباراتٍ عادية، عن أسئلة بسيطة ومباشرة متعلقة بألعابها، وما تحبذ فعله، سألها المحقق بمكرٍ، ليستشف منها إجابة منطقية، علها تكون المفتاح لكشف اللغز عن الغموض المريب، في تلك الجريمة الشنعاء:.
,
, -ويا ترى عمتو جابتلك لعب وحاجات حلوة معاها؟
, ردها كان تلقائيًا للغاية عندما قالت له:
, -كانت عاملة كيكة كتيرة، وأنا كلت حتة فتفوتة، بس وجعت بطني أوي.
, تصنع الأسف وهو يخبرها:
, -سلامتك يا جميل.
, سألته رقية بعينين تعكسان براءة محببة للقلوب:
, -هي ماما فين؟
, ثم أشارت بعينيها إلى الجارة الواقفة في الزاوية مع زوجها عماد، قبل أن تكمل:
, -طنط بتقول راحت عند ****، أنا عايزة أروح معاها.
,
, شعر بالإشفاق نحوها، ورد باقتضابٍ:
, -**** يحفظك..
, سألته الصغيرة بصوتٍ بدا مُلحًا:
, -يعني هاتوديني عند ماما يا عمو، هي اتأخرت عليا.
, بلع غصته، وابتسم يقول في حزنٍ:
, -كلنا هنروح مع ماما عند ****، بس قدامنا شوية.
, انتهى المحقق من استجوابها، لينهي محضره هاتفًا بنبرة رسمية:
, -اكتب عندك، يتم تسليم الطفلة لأقارب والدها، بعد أخذ التعهد اللازم برعايتها.
, أومأ المعاون برأسه، وقال بعدها:
, -تمام يا فندم.
, .
,
, استرابت من إصرار أبيها على الذهاب لرؤية شقيقها بمفردها، دون أن تأتي والدتها، وفي حضوره شخصيًا، في غير موعد الزيارة المعروف، وقبيل ذهابها للعزاء الخاص بأولاد خليل. أنبئها حدسها أن للأمر علاقة بزوجها الغائب، فالأخير اختفى عن المشهد كليًا؛ وكأنه لم يعد له وجود. استجابت لطلبه، ووجدت تميم في انتظارها بوجهٍ مبتسم، خفف قليلاً من حدة التوتر الذي اعتراها، عندما لمحت شخصًا -يبدو على ملامحه الرسمية الجادة- ينتظر بالخارج، تبعها في هدوءٍ عندما تأكد من دخولها للغرفة.
,
, التمهيد الذي سبق التطرق للموضوع الرئيسي كان ضروريًا، وتلك كانت مهمة شقيقها، لذا استطرد تميم يقول على مهل، بمجرد أن استقرت في جلستها إلى جوار فراشه:
, - هاجر، إنتي عارفة كويس إن مافيش حد أغلى عندي منكم كلكم، صح ولا غلطان؟
, ردت بتعابيرها القلقة، ونظرة خاطفة دارت على الأوجه المتطلعة إليها:
, -أيوه.
, تابع حديثه متسائلاً بقسماتٍ شابها علامات من الجدية المريبة:
, -ولو قولتلك حاجة هتصدقيني؟
,
, صمتت لهنيهة، تدرس فيها تعابيره غير المقروءة، والمليئة بالغموض، قبل أن تكون إجابتها قاطعة:
, -أيوه يا تميم.
, أثلج جوابها صدره، فواصل القول معترفًا دون مقدماتٍ مُلطفة:
, - محرز جوزك هو اللي ورا حرق الدكان، وكان قاصد يقتلني٣ نقطة!
 
١٠

من البديهي الاعتقاد بأن أسوأ الأفكار تهاجمها الآن، بعد اعترافه المفاجئ –والصريح- عن محاولة زوجها الأرعن لاغتياله، ليس لمرة واحدة، بل مرتين: قتلاً، وحرقًا، دون ندمٍ أو خوف، خلال تواجده بالدكان، ورغم أن هذا التصريح يتعارض مع إنكاره السابق، إلا أن مصلحة العائلة، تأتي دومًا –وأبدًا- في المقاوم الأول لديه. حملقت هاجر في وجه شقيقها بملامح باهتة مصدومة، سألته بصوتٍ متردد يعكس ذهولها؛ وكأنها تتأكد مما سمعته:.
,
, - محرز عمل، فيك كده؟
, كان رده واضحًا:
, -أيوه يا هاجر؟
, انقبض قلبها بقسوة، وشعرت به يتحطم بين ضلوعها، لم يكن ليطرأ في لمحة من خيالها أن يكون زوجها متورطا في فعل شنيع كهذا، لهثت تتساءل بانفعال، وعيناها تحجزان العبرات فيهما:
, -طب ليه؟ ده إنت عمرك ما أذيته في حاجة؟ ليه كان عايز يضرنا فيك؟
, نظر لها تميم مطولاً، قبل أن يُجيبها:
, -إجابة السؤال ده عنده هو، مش عندي.
, التفتت برأسها نحو والدها الذي استطرد يخبرها:.
,
, -الحمد**** إن **** نجاه من شره٣ نقطة
, هزت رأسها بإيماءةٍ راضية عن قضاء المولى، وهي تبحث في حقيبتها، عن منديل ورقي، تجفف به العبرات العالقة في أهدابها، بينما واصل أباها القول:
, - هاجر يا بنتي، حضرت الظابط الموجود معانا هنا، عايز يسألك في شوية حاجات كده.
, تجمدت عيناها على والدها، وتساءلت في جزعٍ:
, -في إيه تاني؟
, هنا أجاب ماهر موضحًا لها:
, -في احتمال كبير إن جوزك متورط في قضية قتل.
,
, انخلع قلبها مجددًا، ولمعت نظراتها بخوفٍ حقيقي، ثم دمدمت في ارتياعٍ:
, -كمان؟ هو أنا متجوزة قتال قُتلة ولا إيه؟
, أردف بدير قائلاً بهدوءٍ، ليخفف من حدة ارتعابها:
, -اهدي يا بنتي، ومتخافيش، كلنا جمبك.
, سألته بشكلٍ مباشر، لتبدد الحيرة التي انتابتها سابقًا، بشأن إصرار العائلة على الانتقال للإقامة معهم:
, -عشان كده طلبت يابا مني أرجع أعيش معاكو، وأسيب بيتي؟
, أجابها دون مراوغة:.
,
, -مكدبش عليكي، خوفت الكلب ده يعمل فيكي حاجة، وإنتي لوحدك.
, علقت عليه بنبرتها الحزينة المغلفة بالأسف؛ وكأن الغشاوة قد أزيلت عنها أخيرًا، فأصبحت ترى وجهه البشع:
, -إذا كان فكر يقتل أخويا وهو عارف غلاوته عندي إزاي٣ نقطة
, اختنق صوتها إلى حدٍ ما، عندما تابعت باقي جملتها:
, -تفتكر كان ممكن يموتني؟ ولا حتى آ، يأذي ابنه؟!
, رد عليها تميم تلك المرة، محاولاً تهوين الأمر عليها:
, -محدش فينا كان عارف حقيقته يا هاجر.
,
, عاد ماهر ليسألها مجددًا بلهجته الرسمية:
, -مدام هاجر أنا محتاج حضرتك تهدي شوية، وتركزي معايا، عشان أقدر أسألك، جايز إجاباتك تساعدنا نمسكه.
, أدارت رأسها في اتجاهه، وتساءلت في ترددٍ، وصوتها لا يزال تعيسًا:
, -وأنا أقدر أساعد سعادتك إزاي؟ ده أنا خدت مقلب كبير في جوزي.
, قال مشجعًا إياها على الوثوق به:
, -ماتستقليش بنفسك، أنا متوقع إنك هتفيدينا جدًا.
,
, أضاف بدير أيضًا ليحفزها على إظهار شجاعتها في البوح بالأسرار المخبأة، إن كانت توجد حقًا:
, -اسمعي كلام البيه الظابط يا هاجر، وده لمصلحة ابنك قبل مصلحتك.
, لم تملك ابنته سوى الإذعان له، لذا ردت باقتضابٍ:
, -حاضر.
, أشــار ماهر للضابط الآخر المتواجد بالخارج، لينضم إلى المتواجدين بالغرفة، وتابع يقول بنفس الأسلوب الجاد:.
,
, -أنا معايا مقطع لفيديو تم التقاطه من كاميرا محل قريب، على اللاب توب ده، عايزك تركزي في الصورة، وتقوليلي هل ده جوزك ولا لأ؟
, تحركت أنظارها مع الحاسوب المحمول الذي تم وضعه نصب عينيها، وردت بربكةٍ عظيمة:
, -طيب.
,
, بدا وكأن الحمل بأكمله أُلقي على كاهليها، وهي التي لم تفعل شيئًا هامًا في حياتها، سوى رعاية أسرتها، ركزت حواسها مع ما يتم بثه أمامها، خطفت أنفاسها عندما تراءى له بهيئتها، فهتفت قاطعة الصمت الوهمي:
, -هو محرز.
, سألها ماهر بعينان تلمعان في اهتمامٍ:
, -إنتي متأكدة؟
, استرسلت في تفسيرها المزيل لما هو غامض، فخاطبته قائلة:.
,
, -أيوه، اللبس ده أنا عارفاه، عشان يومها رجع البيت متأخر، ولما سألته عن السبب قالي إنه كان مشغول مع واحد صاحبه عامل عقيقة لابنه.
, انتبه لها ماهر، وتساءل بنبرته المحققة:
, -لاحظتي حاجة غريبة عليه اليوم ده؟
, ترددت قبل أن تجيبه، وهي تعتصر ذهنها اعتصارًا لتتذكر تفاصيل هذا اليوم:
, -مش فاكرة أوي، بس هدومه مكانتش نضيفة، كان عليها بقع ددمم، ولما سألته عنها، قالي إنه كان واقف بيدبح معاه.
,
, تحفز في جلسته، ولاحقها بسؤاله التالي:
, -الهدوم دي لسه موجودة يا مدام؟
, أجابت نافية:
, -لأ، أنا دورت عليهم في سبت الغسيل، عشان أغسلهم، ملاقتهومش موجودين.
, علق عليها ماهر بضيق ارتسم على تعابيره:
, -طبعًا محتاج يخفي معالم جريمته.
, اتسعت عيناها في خوفٍ متزايدٍ، وهي تتساءل:
, -جريمة إيه تاني؟
, تنحنح قبل أن يجيبها:
, -في اليوم ده يا مدام هاجر، جوزك استدرج صاحبه، وقتله في بيته٣ نقطة
,
, شهقة مرعوبة خرجت من جوفها، كتمتها في منتصفها، بوضع يدها على فمها، بينما أكمل ماهر حديثه بقوله الجاد:
, -مش زي ما فهمك، إنه كان في عقيقة ابن واحد معرفته.
, لطمت على صدرها مرددة في دهشة مليئة بالخوف والاستنكار:
, -يا نصيبتي.
,
, حقائق مستجدة اكتشفها بدير أيضًا، جعلته يشعر بالحزن الشديد، لثقته العمياء والمطلقة، في شخصٍ، ظن أنه الاختيار المناسب، لمنحه ابنته. نكس رأسه في خزيٍ، وغمغم بصوتٍ عبر عن إحساسه بالخذلان:
, -إزاي أنا أمنت عليه لبنتي؟
, رد عليه تميم محاولاً منعه من تحميل نفسه الذنب دون داعٍ:
, -متلومش نفسك يابا، كلنا اتخدعنا فيه.
, نظر في اتجاهه، وقال بنفس النبرة الواجمة:
, -عيب على الشيبة دي كلها لما يضحك عليها.
,
, لم يجد تميم ما ينطق به، للتعليق على والده المنزعج، فاكتفى بالصمت، وتابع ما يقوم به الضابط ماهر بنظراتٍ متحفزة، أملاً في نفسه أن تتخطى شقيقته بأقل الخسائر الممكنة، تبعات تلك العقبة المشينة التي لازمتها لسنواتٍ في حياتها، والمسماة بزوجها.
, .
,
, بدا مؤلمًا للغاية، أن ترى شقيقها الوحيد، الذي كان مفعمًا بالحياة والنشاط، راقدًا هكذا على الفراش، كجسدٍ بالٍ، يكافح لتحريك أطرافه دون مساعدةٍ خارجية. لم تستطع ضبط دموعها، مع رؤيتها لحالته المؤسفة، ناهيك عن حزنها العميق لخسارة أبنائه، تزايد الألم بصدرها، ووجدت صعوبة في السيطرة على حالها. فشلت آمنة في التماسك أمام سريره، ونطقت بنحيبٍ، وهي تربت على كتفه:.
,
, -ألف سلامة عليك يا أخويا، شيد حيلك، إن شاء**** تقوم تقف على رجليك من تاني.
, ناضل خليل للاستدارة نحوها، وهتف يرجوها بتلعثمٍ جلي، وتلك النظرة المستجدية تحتل عينيه:
, - آ، مــ، نة بـ، نتـ، ي.
, ردت عليه بصوتها الدافئ، وعبرتها طفرت من مقلتيها:
, -اطمن ياخويا، أنا هنا معاك.
, كرر مرة أخرى اسم ابنته، وعيناه تحبسان دموعًا عاجزة:
, - رقـ، يــ، ة!
, مسحت بمنديلها الورقي دمعه المتساقط على صدغه، وهي تؤكد عليه:.
,
, -حاضر، متقلقش.
, لم تغالب دموعها، وألقت عليه نظرة أخيرة، حاولت بها طمأنته؛ لكن ملامحه غير المرتخية أكدت أنه يعاني عذابًا لا يشعر به غيره، تركته يستريح في غرفته، واتجهت إلى الخارج، وصوت نهنهاتها الحزينة يسبقها، ما إن رأتها همسة حتى أسرعت نحوها لتسندها، أسندتها من ذراعها، وسحبتها نحو أقرب مقعد لتجلسها عليه. ازدادت نوبة بكاء آمنة، وشرعت تشكو عجزها عن مساعدة شقيقها:.
,
, -قلبي متقطع عليه، مش عارفة أعمل إيه، حاسة إني متكتفة، والمصيبة كبيرة أوي عليا.
, قاومت ابنتها رغبة مُلحة في مشاركتها البكاء، وردت عليها بصوتها المختنق:
, -**** يهون عليه وعلينا.
, لحظات بطيئة، من الصمت المعبق بالمشاعر الحزينة، استحوذت على الأجواء بينهما، إلى أن تكلمت همسة قائلة، لتُعلمها:
, -أنا اتصلت بعمي اسماعيل عشان أعرفه باللي حصل.
, غمغمت في استحسان:
, -كويس، يجوا يقفوا معانا، بدل ما احنا ولايا لوحدنا.
,
, استاءت من إنكارها لمجهودات زوجها، الذي تفرغ من مهامه، ليكون ملازمًا لكلتيهما، وعاتبتها بلطفٍ:
, -و هيثم راح فين يا ماما؟ ده ماسبناش للحظة.
, تداركت خطئها غير المقصود، فقالت:
, -أيوه فعلاً، كتر خيره و****، وربنا ما يضره في عزيز.
, أمنت على دعائها قائلة بهزة بسيطة من رأسها:
, -يا رب.
, .
,
, قبل أن ينتهي الضابط من تسجيل الأقوال في المحضر الرسمي، انسحب بدير بهدوءٍ، ليتحدث بعيدًا عن الضوضاء الموجودة بغرفة ابنه في هاتفه المحمول الذي رن في جيب جلبابه، ليعود بعد برهةٍ، مستقرًا في مقعده، لم تتركه نظرات تميم طوال فترة غيابه، كان يترقب عودته، ثم مال عليه، وسأله بصوته الخفيض:
, -في حاجة حصلت يابا؟
, جاوبه بنبرة أقرب للهمس:
, -ده هيثم اتصل، كان بيعرفنا بالجديد عند خال مراته.
,
, انعقد حاجباه، وتساءل باستغرابٍ ظاهر عليه:
, -ليه؟ ماله؟
, ما زال صوت والده محتفظًا بخفوته، عندما أخبره:
, -بعيد عنك وعن السامعين عياله كلهم، ماتوا.
, سأله على الفور بنبرة ملتاعة:
, -يا ساتر يا رب، حادثة ولا إيه؟
, كان رده غير مريح حينما قال:
, -محدش لسه عارف التفاصيل، لما يجي هيثم هنفهم منه، لأنه موجود معاهم.
, همس تميم بصوتٍ آسف لا يخلو من الحزن:
, -واجب يا حاج، ماينفعش يسيبهم للحظة، ولو ناقصهم حاجة آ٣ نقطة
,
, قاطعه والده مؤكدًا، بنبرة جادة للغاية:
, -من غير ما توصيني، أنا بس أطمن عليك، وأوصل أختك البيت، وهاروح أطل على الجماعة وابقى معاهم.
, شكره بزفيرٍ ثقيل:
, -تعيش يابا.
,
, للحظة خاطفة تخيل وسط ما يقاسيه، طيف فيروزة يزوره في عقله، بملامح وجهٍ حزينة، وعينان تتماشيان مع اسمها؛ لكن الفارق أنهما تسبحان في عبراتٍ مقهورة، جعلته يشعر بانقباضةٍ غير عادية تسري في فؤاده، وضع يده على صدره، دلكه بحركة دائرية متكررة، وهمس راجيًا بصوتٍ بالكاد تحرر من بين شفتيه، ونظراته تحدق في الفراغ:
, -**** يسترها عليكي.
, .
,
, غرزت الممرضة إبرة أخرى، في المحلول المعلق على الحامل، والتفتت ناظرة إلى المريضة المستلقية على الفراش، تنازع نوبة صراخٍ جارحة لأحبالها الصوتية، بعد أن استفاقت من غيبوبتها الإجبارية. وجدت حولها أقاربها، يواسونها في مُصابها؛ لكن بقيت عيناها على الوحيد الذي اتخذ مكانه بالخلف، لتناديه بالاسمِ، موجهة حديثه له بشكلٍ شخصي:
, -خسرت ولادي يا حاج اسماعيل.
,
, انتصب كتفا الأخير، ونظر لها بإشفاقٍ، فأكملت عويلها بنبرتها الناقمة:
, -في فقر أكتر من كده؟
, ردت عليها سعاد، وقد غص صدرها بالبكاء الشديد، تأثرًا بالفاجعة غير المحتملة:
, -ارضي بقضاء **** ياختي.
, في حين دعت هاا سها بحزنٍ غير زائف:
, -**** يصبرك على فراقهم، بس بلاش كده، إنتي بتعذبيهم؟
, اعترضت بصراخٍ حاد:
, -يعني ماندبش ولادي التلاتة؟ ده مش واحد ولا اتنين، دول كلهم راحوا في غمضة عين!
,
, استنكر اسماعيل ما تفعله، ومع هذا قال بنوعٍ من التعاطف:
, -**** يرحمهم برحمته الواسعة، هما عند اللي أحسن مننا كلنا، مايعزوش عليه.
, بينما أضافت زوجته وسط بكائها:
, -احنا جمبك كلنا يا حمدية، مش هانسيبك.
, هتفت وهي تلطم على وجنتيها بقسوةٍ:
, -بقيت لوحدي خلاص، لا عيل يشيل عني، ويسندني، ولا راجل ياخد بإيدي، أنا اتقطعت من الدنيا.
, أمسكت سعاد بكفيها لتوقف ما تفعله، وتوسلتها في رجاءٍ كبير:.
,
, -ب**** عليكي ما تعملي كده في نفسك، احنا كلنا أهلك، ومعاكي يا غالية.
, تنهد اسماعيل مطولاً، ثم أضاف برثاءٍ:
, -**** يصبرك على ما بلاكي.
, نظرت في عينيه، وقالت بنبرةٍ مليئة بالشجن:
, -هايجي منين الصبر وعيالي راحوا مني يا حاج؟
,
, رفع عكازه عن الأرضية، وضربه بها في حركة سريعة متوترة، غير راضية عن سخطها الواضح، فأيًا كان حجم الابتلاء، يكن التعويض الإلهي على مقدار الصبر، التفت برأسه نحو ابنه فضل الذي لم يكن مستمتعًا بما يراه من بؤس، وعويل، مال على والده طالبًا منه:
, -ما بينا احنا من هنا يابا لأحسن أنا مش ناقص نكد حريم، ومرار طافح، كفاية اللي بنشوفه كل يوم.
, عنفه بصوتٍ خفيض، وعيناه ترسلان تحذيرًا شديد اللهجة له:.
,
, -خلي عندك ددمم يا فضل، مش نسايبنا دول، والولية قلبها مفطور على عيالها..
, قاطعه ببرودٍ مستفز:
, -اللي راح راح، هنعملها إيه يعني؟ أجلهم كده.
, واصل توبيخه مدمدمًا بهسيسٍ مغتاظ من تصرفاته غير المسئولة:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، هو إنت مافيش في قلبك شوية رحمة؟
, علق عليه بنفس السماجة:
, -كان في وخلصوا، أنا هاطلع أشرب سوجارة برا.
, حضوره لم يكن مرغوبًا، لذا عقب عليه والده، كما لو كان يطرده حقًا:
, -يكون أحسن.
,
, وبخطواته البطيئة، تحرك فضل خارج الغرفة، متجهًا للردهة الطويلة، وأمام لافتة عدم السماح بالتدخين، أخرج علبة سجائره، التقط واحدة منها، ثم حشرها بين شفتيه، وفتش براحة يده عن ولاعته، حينما وجدها أشعل عقبها، وتنفس دخانها ببطءٍ، غير عابئ بالنظرات المستنكرة لتصرفه الطائش. لمح خلال وقفته المستريحة همسة وهي تسير في اتجاه ردهة الانتظار، ألقى ببقايا سيجارته، داعسًا على طرفها، ثم أسرع في خطواته ناحيتها متسائلاً:.
,
, -عاملة إيه يا بنت عمي؟
, تفاجأت من حضوره، وردت بعبوسٍ، دون أن تتوقف عن المشي:
, -الحمد****.
, سألها بابتسامة تبعث على الغيظ:
, -أومال فين الأفندي بتاعك؟
, توقفت في سيرها، لتستدير في وجهه، ورمقته بنظرة حادة، قبل أن توضح له عن قصدٍ:
, -قصدك هيثم جوزي؟
, كان رده مستفزًا لأبعد الحدود عندما حرك فكه ليرد:
, -أيوه، أصلي مش فاكر اسمه الصراحة.
, كظمت غضبها من أسلوبه الوقح، وتعاملت برسمية معه، فقالت:.
,
, -هو مش فاضي للهيافات، بيخلص إجراءات الدفن، لو عايز تروح معاه فــ٣ نقطة
, هتف مقاطعًا بعدم اكتراثٍ:
, -لأ ماليش في الحاجات دي، خليه هو يسلك فيها بمعرفته.
, علقت عليه بنظراتٍ احتقارية:
, -على الأقل أحسن من ناس تانية٣ نقطة
, استشاطت نظراته، فأكملت ساخرة منه:
, -دايمًا خدوم يا، فضل..
, همَّت بالتحرك، لولا أن استوقفها متسائلاً بفضولٍ:
, -أومال أختك عرفت ولا لسه؟
, جاوبته بنظرة من طرف عينها:
, -لأ مقولنلهاش لسه.
,
, تصلبت بحنقٍ مع تلميحه الوقح:
, -زمانها غرقانة في العسل.
, التفتت تحدجه بنظرةٍ محذرة، وهي تقول:
, -**** أعلم بظروفها.
, سألها بتطفلٍ أكبر:
, -ومبسوطة على كده مع البأف بتاعها؟
, زجرته بحدةٍ لم تستطع كبتها:
, -هو إنت شايف إن ده وقته يا فضل؟
, بنفس الطريقة اللزجة عقب عليها:
, -إيه بأطمن عليها؟ هو السؤال حُرم؟ ده أنا ابن عمها.
, نظرت له بازدراءٍ، قبل أن تنهي حواره السخيف معها:.
,
, -هاروح أشوف أمي، بدل الوقفة اللي مالهاش لازمة دي.
, لو كان واحدًا غيره لشعر بالحرج لتلك المعاملة؛ لكنه كان على النقيض، باردًا، مستفزًا لأقصى الحدود، لوح لها بذراعه هاتفًا:
, -روحيلها٣ نقطة
, رافقها بنظراته التي لم تترك تفاصيل جسدها الأنثوي دون مسحة متأنية، لاحت ابتسامة غريبة على جانب شفتيه، وهو يخبر نفسه بصوتٍ شبه خافت:
, -بس شكلك ألوظتي يا بت٣ نقطة
, انتفض كالمفزوع، حينما سألته سها بغتةً، وقد جاءت من خلفه:.
,
, -إنت بتكلم نفسك يا فضل؟
, نظر لها بتأففٍ، وقال في جفاءٍ:
, -أه، مجنون بقى، عندك مانع؟
, ردت عليه وهي تزدري ريقها:
, -لأ، بس أبويا الحاج عايزك جوا.
, أخبرها بلهجته الفظة، مشيرًا لها بعينيه لتنصرف:
, -هاجيله لما أطفح السوجارة.
, هزت رأسها قائلة:
, -طيب
, شيعها بنظراته النافرة، مُحدثًا نفسه:
, -أنا عارف حظي وحش كده مع الحريم.
, .
,
, ناولت والدتها كوبًا من الماء، لتبلل به جوفها الجاف المليء بالعلقم المرير، ثم جلست في المساحة الخالية إلى جوارها، نظرت إليها آمنة بعينين ما زالت تعاني من آثار البكاء، وتساءلت بقلبِ لم يتعافَ بعد من أحزانه الثقيلة:
, -معرفتيش توصلي لأختك؟
, على مهلٍ تنهدت همسة تخبرها نافية:
, -لأ يا ماما، موبايلها مقفول، وحسابها على الفيس بوك مش متفعل برضوه.
, بلغ الخوف أقصاه في نفسها، وتساءلتٍ بخوفٍ بائن في نبرتها:.
,
, -يا ترى حصلها إيه؟ استرها عليها يا رب.
, بعد استغراقٍ في التفكير، حادثتها ابنتها بنبرة عازمة:
, -أنا هاكلم علا اسألها عليها، جايز تكون عارفة حاجة عنها، هي صاحبتها الأنتيم.
, تجدد بريق الأمل المفقود مرة أخرى، وقالت تشجعها على اقتراحها هذا:
, -يا ريت يا همسة، **** يسمعنا عنها كل خير.
,
, أمسكت بهاتفها المحمول، ونهضت من مكانها لتقف منزوية في الجانب، بحثت عن رقم علا في قائمة الاتصــال لديها، حمدت **** أنها ما زالت محتفظة به، فتوأمتها كانت تلجأ لاستخدام هاتفها، حينما ينفذ رصيدها، تحدثت إليها بحرجٍ، وحاولت أن تستعلم منها عنها، بطريقةٍ بدت متحفظة حتى لا تثير ريبتها، بعد أن سألت عن أحوالها، وبكلماتٍ مقتضبة أنهت المكالمة، لتعود إلى والدتها، تساءلت الأخيرة في لوعةٍ:
, -عرفتي منها حاجة؟
,
, هزت رأسها نافية بأسفٍ:
, -لأ ياماما، بتقولي متعرفش عنها حاجة من يوم ما سافرت مع جوزها.
, كسا الحزن تعابيرها المجهدة، ونطقت مقاومة بكائها:
, -يعني زينا.
, ضغطت على شفتيها قليلاً، قبل أن يكون ردها موجزًا:
, -أيوه.
, رفعت آمنة عينيها إلى السماء، ودعت برجاءٍ:
, -دي حاجة تقلق، اجعل المخبي لطيف يا رب، متوجعنيش على عيالي يا كريم.
, حاولت همسة أن تخفف من توجس والدتها الطاغي على قسماتها، فبررت اختفاء توأمتها:.
,
, -يا رب، جايز يا ماما يكون موبايلها باظ منها، والأرقام اتمسحت من عليه.
, بقلبٍ يعاني من ويلات كثيرة، تمتمت أمها:
, -**** أعلم، بس أنا مش مرتاحة.
, بثت همسة الأمل في نفس والدتها بقولها المتفائل؛ رغم افتقارها لهذا الشعور حاليًا:
, -إن شاء**** هتكلمنا قريب، أنا واثقة من ده، فيروزة مش هاتسيبنا كده من غير ما نعرف حاجة عنها.
, .
,
, مضى يومان، خلالهما ازدادت المواقف تأزمًا، بعد اكتشاف السر الذي بقي محفوظًا لما يزيد عن الخمس سنوات؛ لكن لا مناص من التعامل مع الأمر الواقع، وأصبح لِازمًا على الجميع التصرف وفق المُتبع والمفروض. اصطحبت همسة الطفلة رقية بعد السماح لها بالخروج من المشفى، إلى منزل والدتها، حيث من المفترض أن تمكث هناك، ريثما يتعافى والدها، بناءً على توصيته المتوسلة. ترجلت من سيارة الأجرة، ومعها زوجها، شخصت أبصارها، مع رؤيتها لشيءٍ لم تظن أنه سيتم هنا، فقد تفاجأت بإقامة سرادق كبير في المساحة الخالية بجوار المنزل، لتلقي العزاء في إِخوة لم تعلم الطفلة عنهم شيئًا سوى بعد رحيلهم، لن تفتقدهم، ولن يفتقدوها، فكما كانت سرابًا في حياتهم، كانوا بالمثل معها.
,
, تشبثت بكف الصغيرة، وتساءلت بصوتٍ عكس قلقًا لا تشكيك فيه:
, -هنعمل إيه يا هيثم؟
, نظر بحيرة للسرادق، وقال بنفس التردد:
, -مش عارف.
,
, توقعت أن يتواجد بداخل السرادق الأقارب، والجيران، وكل من له صلة بالعائلة، وبحسبةٍ صغيرة أدركت أن عواقب رؤية الطفلة لن تكون محمودة، خاصة مع حالة الجنون المسيطرة على زوجة خالها الأولى حمدية. وقبل أن يصل أحدهما لحلٍ لا يسبب المشاكل، لمحت حمدية ثلاثتهم، بسبب تواجدها غير المتوقع في مقدمة جانب النساء، حاولت تخبئة رقية خلفها، لتنأى بها عن نظراتها، متوهمة أنها ستنجح في الصعود بها سرًا إلى المنزل؛ لكن سبق السيف العزل، وأصبح الاختفاء عن نظراتها الملتهبة أمرًا مستحيلاً.
,
, أبصرت حمدية ابنة ضرتها الناجية، بعينين تقدحان بشررٍ متطاير، امتلأ صدرها بغضبها المختلط بمشاعر الكراهية الشديدة، في ثوانٍ انتفض بركان حنقها عليها، لافظًا كل حممه المتأججة، تلك اللعينة عاشت، وهلك فلذات أكبادها! كالمجذوبة الفاقدة لعقلانيتها، انطلقت دافعة مقعدها الخشبي في عصبيةٍ للخلف، لينكفئ على ظهره، هرولت في اتجاههم، وصوت صراخها المهتاج يجلجل عاليًا، جاذبًا كل الأنظار الشاردة عليهم؛ كما لو تم القبض عليهم بالجُرم المشهود:.
,
, -دي جاية هنا ليه٣ نقطة؟!
 
١١

برودها المشهودة به، تبخر مع رؤيتها لوجهٍ، بات مصحوبًا بلعنة فقدان أولادها، انفلتت أعصابها، وفقدت كامل قدرتها على التحكم في تصرفاتها، اندفاعها الأهوج نحو الثلاثة كان كفيلاً بإثارة الفضول. اِربد وجه حمدية بعلامات الغضب المخيفة، كما برزت عيناها بغلها الحقود، صرخت رقية مع اقترابها منها؛ معتقدة بشدة أنها تريد افتراسها، بأنيابها الحادة التي تظهر من بين شفتيها، توارت خلف همسة، وتلك الرجفة تصيب جسدها، خاصة مع صراخ حمدية بها، بأنفاسٍ كانت كفحيحٍ من النار:.
,
, -جايبين دي هنا ليـــــه؟!
, تقدمت همسة بجسدها دافعة الصغيرة خلفها، ونظرت إلى زوجة خالها بتوترٍ قلق، ما ضاعف من تلبكها اتجاه أنظار الحاضرين إليها، وشعرت بالتخبط وبتلعثمٍ عظيم يجتاح لسانها، عندما ردت عليها؛ وكأنها تدافع عنها:
, -هي مالهاش دعوة بحاجة.
,
, على عكسها اعترت الدهشة الممزوجة بالحيرة ملامح زوجها، فعلى الأغلب، ومن البديهي للجميع، أن حمدية لم تلتقِ بالطفلة من قبل؛ وربما إن تقابلت معها مصادفة في الطريق، لم تكن لتتعرف إليها، إذًا لماذا كل هذا الغضب تجاهها؟ لم يدع حيرته تشغله كثيرًا، وسألها مباشرة:
, -هو إنتي عارفة دي مين يا حاجة؟
, انتبهت له حمدية، ونظرت له بعينيها الحمراوتين، فأكمل هيثم جملته المتشككة:
, -أصل عصبيتك عليها مالهاش تفسير عندنا.
,
, بلعت ريقها، وكظمت غيظها مضطرة، بعد أن تداركت خطئها الأرعن، والذي من المحتمل أن يثير التساؤلات أيضًا، التفتت بظهرها نحو الحشد المتجمع، وبدأت فاصلاً جديدًا من اللطم والعويل:
, -عيالي ماتوا، ومحدش حاسس بالنار اللي أنا فيها، ده مش واحد ولا اتنين، دول التلاتة في غمضة عين.
,
, وبالنفس الأسلوب المتسول لمشاعر الغير، نجحت في اكتساب تعاطف المتواجدين، فالتفوا حولها يرثونها بكلمات المواساة المستهلكة، علَّ حزن قلبها المحترق يهدئ قليلاً.
,
, على الجانب الآخر، تجمدت أنظار الطفلة عليها، بقيت محدقة بها بخوفٍ مرتاع، متذكرة ملامحها المألوفة عليها، ربما رأتها لمرة واحدة؛ لكن تجهم وجهها الحاقد، المليء بالغلٍ، لا يمكن نسيانه، انكمشت على نفسها مجددًا، واختبأت خلف همسة التي محاولة عدم النظر في اتجاهها، وإن خانتها النظرات.
,
, تابع هيثم انسحــاب حمدية مع بعض المعزيين، وعودتها لمكانها بالسرادق بنظراته المليئة بالشك، استدار ناظرًا إلى زوجته معلقًا بفضول:
, -هي تعرفها منين؟
, ردت وهي تهز كتفيها بالنفي:
, -مش عارفة.
, ضاقت عيناه بشكٍ، وأكمل تعليقه المستريب:
, -على ما أظن محدش يعرف إن خالك كان متجوز عليها إلا من ساعة ما دخل المستشفى.
, رمقته بنظرة لا تقل في ظنونها عنه، وأضافت:
, -مظبوط، ودي أول مرة أصلاً نشوف فيها بنته.
,
, تنفس بعمقٍ، ليردد بعدها:
, -حاسس إن في حاجة غلط كده، الحكاية مش راكبة على بعض.
, قالت همسة بإنهاكٍ بدا متمكنًا منها:
, -الواحد دماغه مش فيه عشان يركز.
, جاء رده عليها محايدًا:
, -عمومًا، كل حاجة هتبان مع الوقت٣ نقطة
, ثم استعد للتحرك وأشار بيده قائلاً:
, -طب تعالي نطلع بدل وقفتنا دي.
, أومأت برأسها بالإيجاب، والتفتت ناظرة إلى الصغيرة، ربتت على ظهرها وهي تدفعها للتحرك:
, -يالا يا رقية.
,
, تجمدت قدماها في مكانها، ورفضت الاستجابة لها، لتهتف بعنادٍ:
, -لأ، مش عاوزة
, سألتها همسة بتمهلٍ، محاولة إقناعها بالذهاب معها:
, -ليه يا حبيبتي؟
, ببراءتها السجية أجابت عليها، وعيناها تعكسان خوفها الطبيعي:
, -مش عايزة أروح عند عمتو الوحشة.
, تمتم هيثم باندهاشٍ، بعد سماعه لوصفها المريب:
, -عمتو الوحشة؟!
, في حين نهرتها همسة بلطفٍ، رغم ظهور علامات الضيق عليها:
, -عيب يا رقية، متقوليش كده.
,
, لكزت الطفلة بقدمها الأرضية، مقاومة جذبها الخفيف لها، قاصدة الإفلات من قبضتها، وصاحت بصوتٍ أقرب للبكاء:
, -أنا عاوزة أروح عند ماما.
, حاولت شدها ناحيتها، وخاطبتها بصوتٍ هادئ:
, -يا حبيبتي مش هاينفع، ماما مسافرة.
, ردت الطفلة بحزنٍ:
, -وديني عند بابا.
, غصة علقت بحلقها، شعرت بألمها، وهي تقول لها:
, -بابا لسه تعبان.
, استمرت رقية في مقاومتها، وهي ترد:
, -أنا عاوزة أمشي من هنا.
,
, ضجر هيثم من الجدال غير المجدي، فاقترب من الطفلة، وانحنى ليحملها على ذراعه قائلاً لها:
, -يالا يا بنتي، مش ناقصين مناهدة.
, صاحت الصغيرة ببكاءٍ فيه إلحاح مزعج:
, -ودوني عند ماما، أنا عاوزة ماما.
, بدا الاستياء على وجه هيثم، الذي واصل السير بها، مقاومًا ركلاتها المتذمرة، وصراخها المؤلم لأذنه، مُحدثًا نفسه:
, -شكلها هتبقى ليلة فلة!
,
, على مكتبه الخشبي الأنيق، جلس المحقق الشرطي، المسئول عن هذه القضية تحديدًا، يُطالع بنظراتٍ مدققة الأوراق المفرودة خارج الملف، ركز كامل انتباهه على ما يقرأه، مدونًا ملحوظاتٍ جانبية في ورقة صغيرة. استغرق في تفكيره الاستباطي لوقتٍ لا بأس به، رفع رأسه فقط حينما سمع دقات على باب مكتبه، حينها سمح للطارق بالدخول. ولج أحد الضباط إليه، وفي يده مغلف مغلق، ناوله إياه وهو يخبره بلهجةٍ رسمية:.
,
, -تقرير تشريح جثة القتيلة وصل يا فندم، تقدر حضرتك تطلع عليه.
, مد يده ليأخذه معقبًا باقتضابٍ:
, -تمام.
, ثم أشار له ليجلس، وبدأ في فض المغلف، لينظر بعدها للورق الرسمي الموجود بداخله، مضت بضعة دقائق، وهو يقرأ في صمت ما احتوته الأوراق، تساءل الضابط الآخر المعاون له في فضولٍ:
, -إيه الأخبار يا باشا؟
, أجابه بملامح جادة:.
,
, -زي ما توقعت، الرئتين مافيش فيهم دخان، لأن الضحية ماتت بالتسمم قبل ما انفجار الغاز يحصل عندها في الشقة.
, ظهر الاستغراب على معالم وجه زميله، في حين تابع المحقق بنفس اللهجة الجادة:
, -ده لما نطابقه مع التحريات اللي وصلها رجالة المباحث، وكلام بنت المجني عليها، الشبهات كلها متجهة لأخت الزوج، المدعوة، آمنة.
, أضاف زميله بهدوءٍ:
, -في حاجة كمان يا فندم لازم حضرتك تاخد خبر بيها.
, تساءل بتعابيرٍ مهتمة:
, -إيه هي؟
,
, بعد زفيرٍ بطيء أجابه:
, -أولاد الراجل ده ماتوا بنفس المادة المسممة دي بعد تخديرهم.
, برقت نظراته في دهشة، بينما استأنف زميله حديثه مشددًا على نقطة بعينها:
, -والزوجة الأولى اتهمت العمة بعمل ده.
, قال المحقق بابتسامة صغيرة لاحت على زاوية فمه:
, -واضح كده إن الموضوع هيتحل أسرع مما نتخيل، رغم إني عندي شوية تحفظات على أركان الجريمة.
, سأله بنبرته المهتمة:
, -زي إيه يا فندم؟
,
, كان جوابه عليه مليئًا بالتساؤلات المتعاقبة:
, -إيه الدافع اللي يخلي أخت تقتل ولاد أخوها؟ هل خلاف على ميراث قديم مثلاً؟ عداوات بينهم؟ وده ماظنش موجود، بدليل إنهم ساكنين في بيت واحد.
, زم شفتيه مرددًا:
, -حاجة تحير.
, أكمل المحقق كلامه بإراحة ظهره للخلف:
, -كمان من الواضح إن خليل ده متجوز من ورا مراته، يعني ماتستبعدش إن الزوجة الأولى تكون عرفت، وحابة تنتقم منه.
, تساءل الضابط في اندهاشٍ لا يخلو من الاستنكار:.
,
, -وتقتل عيالها؟! بيتهيألي لأ يا باشا، ده غير إن أقوال الجيران والبنت الصغيرة بتأكد إن عمتها هي اللي كانت موجودة.
, بدت نظراته محملة بالاستهجان وهو يقول:
, -هانشوف، بس أنا حاسس إن في حاجة غامضة في الجريمة دي، حلقة مفقودة، رابط مشترك بين حدوثهم، وأكيد هنوصل لتفاصيل كل حاجة.
, تحفز الضابط في جلسته، وتساءل بكتفين منتصبين:
, -والمطلوب مني إيه دلوقتي يا فندم؟
, برسميةٍ بحتة أمره:.
,
, -تطلع بقوة على بيت آمنة و حمدية، وتجيبهم القسم ناخد أقوالهم.
, أومأ برأسه قائلاً في امتثالٍ:
, -حاضر يا فندم.
, أضــاف عليه مؤكدًا:
, -كمان عايز دايرة التحريات توسع، ويتم مراجعة كل كاميرات المراقبة في المنطقة، وأخذ أقوال السكان من تاني، وخصوصًا اللي اتعاملوا مع الضحية قبل وفاتها.
, هزة انصياعٍ من رأسه، تبعها قوله المعبر عن إطاعته لأوامره:
, -مفهوم معاليك.
,
, دقات عنيفة على الباب الخشبي، مع قرع متواصل للجرس كانوا مدعاة للقلق والاسترابة، خاصة مع انتهاء أيام العزاء، وعودة الجميع للبلدة، وانشغالها برعاية ابنة شقيقها اليتيمة. تحركت آمنة بخطواتها الثقيلة المتعبة نحوه لفتحه، لم تنكر أن قلبها كان يدق في توجسٍ. بلعت ريقها، وردد لسانها متسائلاً:
, -يا ساتر يا رب، إيه الخبط ده؟
, استوقفها هيثم قبل أن تفتحه بقوله الصارم:
, -استني كده يا حماتي، أنا هاشوف مين.
,
, تنحت للجانب، حامدة **** في نفسها، على إقامته معها طوال الفترة الماضية، تركته يتقدم عنها بخطواته الأسرع، أدار المقبض، وتطلع بعينين متسعتين للأوجه الكثيرة المرابطة عند عتبة المنزل، بنظرة خاطفة أدرك من هيئتهم المميزة أنهم ينتمون لجهة رسمية، ازدرد ريقه، ليتساءل بعدها:
, -خير يا بشوات؟
, أجاب عليه أحدهم، ويبدو من هيئته أنه المنوط بتولي تلك المهمة:
, -ده بيت آمنة العربي؟
,
, أجابت آمنة من خلف هيثم بصوتٍ مهتز، ونظراتها تجول على الأوجه المراقبة لها:
, -أيوه أنا، في إيه يا حضرت؟
, أجابها الضابط وهو يخرج من جيبه، ورقة مدموغة بختم رسمي، ليضعها نصب عينيها:
, -معانا أمر بتفتيش البيت، واستدعائك للتحقيق.
, لطمت على صدرها مرددة في خوفٍ:
, -يا نصيبتي؟ ليه أنا عملت إيه؟
, أجاب بصوته الجاف:
, -هتعرفي في القسم.
,
, خرجت همسة من الداخل، لتتفاجأ باقتحام الغرباء للمنزل، احتوت الطفلة في أحضانها، ورفعتها على ذراعها، قبل أن تتجه أنظارها نحو والدتها التي أمسك بها أحدهم، حينها تحركت نحوه متسائلة في جزعٍ:
, -عايزين أمي ليه؟
, استدار الضابط ناحيتها، وقال ببرودٍ، ونظرته الجامدة مثبتة عليها:
, -مطلوبة للتحقيق يا مدام.
, صاحت في استنكارٍ شديد:
, -تحقيق؟ ليه؟ ده هي طول عمرها في حالها.
, علق بتهكمٍ، ونظرة ازدراء احتلت عينيه:.
,
, -مالناش دعوة بالكلام ده٣ نقطة
, ثم خاطب آمنة بلهجته الآمرة، وفي طياتها تحذير واضح:
, -البسي يا حاجة هدومك، وإلا هناخدك كده.
, تساءل هيثم بارتباكٍ حائر:
, -طيب يا باشا ممكن تفهمنا فيه إيه؟
, منحه نفس الجواب المبهم بقوله:
, -في القسم هتعرف، يالا يا حاجة متعطليناش.
, التفتت آمنة نحو ابنتها ترمقها بنظراتها الخائفة، فأردفت الأخيرة تخبرها بحسمٍ:
, -أنا جاية معاكي يا ماما، مش هاسيبك لوحدك.
,
, تحركت نحو غرفتها، متمتمة بتوجسٍ متزايد، وابنتها من خلفها تتبعها:
, -استرها يا رب.
, لم يكن هيثم بحاجةٍ لتبديل ثيابه، فما زال يرتدي ملابسه الخارجية، لهذا انتظر بالصالة برفقة الضابط ومعاونيه، تأهبت حواسه، واستدار نحو باب المنزل مع صياح أحدهم بصوته الجهوري:
, -لاقينا الحاجات دي يا باشا في كرتونة صغيرة في بير السلم.
, أمره الضابط بنبرته غير القابلة للنقاش:
, -اتحفظ عليهم لحد ما نشوف دول إيه كمان.
,
, تضاعفت هواجس هيثم مع هذا الكلام المثير، انتابه إحساسًا مزعجًا بأن القادم لا يبشر بخير.
,
, شعرت بالحرج لطلب هذا منه؛ لكنه بدا الخيار المناسب مؤقتًا، لإبقاء الطفلة في مأمن من الأذى، ريثما يتفقه أذهانهم لما يدور، خاصة بعد اصطحاب الشرطة لوالدتها، والتفتيش في المنزل، كما لو أنهم ارتكبوا جريمة حقًا. لم يعارضها هيثم، فتواجد الصغيرة في مكانٍ يعج بالمنحرفين عن القانون، ومعتادي الإجرام لا يعد أمرًا لائقًا، لمن هم في مثل عمرها، صعد كلاهما إلى منزل عائلة سلطان. بكلٍ خجلٍ وحياء طلبت همسة من ونيسة، التي استقبلتها بودٍ وألفة:.
,
, -هستأذنك يا طنط ينفع نسيبها عندك شوية؟
, ردت دون أن تسألها عن السبب:
, -أه وماله.
, في حين تساءل بدير في استغرابٍ:
, -خير؟ في حاجة حصلت؟
, أجاب هيثم عن زوجته التي انعكس المزيد من الإحراج على ملامحها:
, -طالبين الست أمها في القسم، واحنا رايحين نحصلها، بس مش هاينفع ناخد البت معانا.
, تفهم للموقف، وعلق عليه بوجهٍ جاد:.
,
, -لأ مايصحش طبعًا، خليها معانا، وأنا هاكلم المحامي يروح وراكم على القسم، يشوف في إيه، بس قولي إنتو في قسم إيه.
, أدله على العنوان قائلاً:
, -احنا في (، )
, أشار له بدير بيده ليترك الطفلة، وتابع:
, -طيب روح إنت يا هيثم، وماتضيعش وقتك٣ نقطة
, ثم وجه حديثه لـ همسة قائلاً:
, -ماتخليكي يا بنتي معانا.
, اعتذرت منه بتهذيبٍ حرج:
, -مش هاينفع أسيب ماما لواحدها، أنا قلقانة أوي عليها.
,
, برر لها سبب استدعائها للتحقيق، بما احتوى على شيءٍ من المنطقية:
, -تلاقيه إجراء شكلي بعد اللي حصل، ما هي الحكاية مش بسيطة.
, هزت رأسها بحزنٍ، وقالت في رجاءٍ متضرع:
, -**** يستر ويعديها على خير.
, قال معقبًا عليها:
, -يا رب.
, انحنت جاثية على ركبتها، وخاطبت الطفلة بابتسامةٍ حاولت أن تبدو لطيفة ومطمئنة، وهي تمسك بكفيها بأناملها:.
,
, - رقية حبيبتي، إنتي هتفضلي هنا مع تيتة ونيسة شوية، وجدو بدير، واحنا مش هنتأخر عليكي.
, تقلصت عضلات وجه الصغيرة، وقالت بعبوس:
, -بس أنا عايزة أروح معاكي.
, وعدتها بصدقٍ، وهي ترفع ذراعها للأعلى، لتمسد بيدها، على شعرها المعقود في جديلتين:
, -وأنا و**** ما هتأخر.
, مالت عليها ونيسة، واحتضنت الطفلة من كتفيها، وأخبرتها بحنوٍ:
, -ده أنا هاجيبلك لعب كتير حلوة، وهتشوفي النونو بتاعنا، وتساعديني أأكله مع أمه.
,
, استرعى كلامها الأخير انتباهها، وتساءلت في فضولٍ طفولي:
, -النونو؟
, ردت عليها ونيسة مؤكدة بابتسامة صافية:
, -أه ما احنا عندنا واحد صغنن أد كده٣ نقطة
, اتسعت ابتسامة ونيسة أكثر، ودعتها بنفس النبرة الودية:
, -تيجي معايا تشوفيه؟
,
, بإيماءات مشجعة من عينيها، وكذلك بإمداد كفها لها، حثت الصغيرة على الترك معها، فاستجابت الطفلة لدعوتها، وتركت يد ابنة عمتها، لتسير بصحبة مُضيفتها التي أغدقت عليها بالكثير من العاطفة والحب، اطمأنت همسة لإيداعها معها، واستدارت محدقة في بدير بامتنانٍ كبير، عجزت فيه عن التعبير عن شكرها لمحبته غير المحدودة، ومؤازرته الدائمة لها ولعائلتها، في كل محنة تجابه الأسرة. حبست دموعها المتأثرة، وأردفت تخبره:.
,
, -**** يخليك لينا يا حاج بدير.
, قال مبتسمًا:
, -عيب ما تقوليش كده، هزعل منك، دي زي بناتنا، متقلقيش عليها معانا.
, استطرد هيثم يقول بجدية:
, -بينا احنا عشان نلحق وقتنا.
, على الفور تقدمت في خطواتها، لتسبقه، بينما تابع بدير من خلفهما:
, -أنا معاكو على التليفون، والمحامي هيجيلكم، اطمنوا.
, جاءه صوته قبل أن يغلق الباب مباشرة:
, -ماشي يا حاج.
,
, بعباءتها السوداء، ووجهها الذابل، وعينان لا تكفان عن البكاء، جلست على المقعد المخصص لها، في غرفة مكتب المحقق الشرطي، تتحاشى النظر إليه. عمدت حمدية إلى تنكيس رأسها، والتواري خلف مناديل القماش الممتلئ به كفها، صدر من بين شفتيها نحيبًا خافتًا، كدليل عن استمرار أحزانها العميقة لفقدان أبنائها. استهل الوكيل حديثه بكلماتٍ معزية تقليدية، تقبلتها منه بإيماءة بسيطة من رأسها، ليواصل بعدها متسائلاً بنوعٍ من التمهيد اللبق:.
,
, -جاهزة يا ست حمدية.
, ردت عليه متسائلة، وهي ترمش بعينين لامعتين بعبراتها:
, -إنتو جايبني هنا ليه يا سعات البيه؟
, كرر عليها إجابته بصيغة مختلفة:
, -شوية أسئلة عادية وهتمشي.
, هتفت في استهجانٍ شديد؛ وكأنها تشكو إليه تكالب المصائب عليها:.
,
, -وهو أنا بقى فيا عقل يا باشا؟ عيالي التلاتة راحوا مني دفعة واحدة، بقيت مقطوعة في الدنيا، وجوزي لا حول ليه ولا قوة، من ساعة ما سمع الخبر طب واقع، لا قادر يتحرك ولا عارف ياخد عزا عياله، وسعاتك تقولي بوليس ونيابة، هو أنا فيا حيل للبهدلة دي؟ سيبوني في همي يا باشا!
, شبك كفيه معًا، وعلق بإيجازٍ:
, -**** يصبرك٣ نقطة
, للحظة سكت عن الكلام، ليضيف من جديد:.
,
, -أنا مقدر الظروف، بس محتاج أسئلك في كذا حاجة، تخص اللي حصل لولادك كمان.
, بحثت عن ريقٍ غير موجود لتبلعه، وقالت:
, -اتفضل يا بيه.
, بأسلوبه المهني الخبير، استطرد مباشرة لصلب موضوع تحقيقه:
, -من التحريات اللي وصلنا ليها، عرفنا إن جوزك متجوز عليكي واحدة تانية، اتقتلت من كام يوم.
,
, ادعت دهشتها، ولطمت على صدرها، قبل أن تنفلت منها شهقة شبه مفتعلة، وراسمة على وجهها تعابير مذهولة، لتدمدم بصوتٍ عمدت لإظهار ذهولها المستنكر:
, -يا نصيبتي، خليل متجوز عليا؟ لأ مش معقول، خليل ما يعملش كده!
, تطلع إليها بنظراتٍ مطولة، دارسة لردات فعلها، قبل أن يأتي سؤاله:
, -يعني إنتي مكونتيش تعرفي؟
, نفت جملةً وتفصيلاً، دون أن تمنح نفسها الفرصة للتردد:
, -أبدًا يا بيه، دي أول مرة أسمع الكلام ده٣ نقطة
,
, تحولت نبرته للندب وهي تتساءل ضاربة كفها بالآخر:
, -طب عمل كده ليه؟ هو أنا قصرت معاه في حاجة؟
, استدعت دموعًا غير موجودة بها، وواصلت نحيبها:
, -ده أنا قايمة نايمة بخدم فيه وفي عيالي **** يرحمهم، يطلع في الآخر متجوز عليا، لا إله إلا ****، ناقص إيه تاني يحصلي؟
, راقب المحقق انفعالاتها المتزايدة، وطلب منها:
, -اهدي شوية٣ نقطة
, قاطعته بصوتٍ تبدل للصراخ:.
,
, -أهدى؟ طب إزاي؟ عايزني أعرف إن جوزي متجوز عليا ومخلف كمان وأهدى؟!
, التقط زلة لسانها موضحًا لها بنظراتٍ نافذة تحمل الشك:
, -بس أنا مقولتش إنه مخلف!
, بهتت ملامحها قليلاً، وبدا له كما لو جفت دموعها الزائفة، حتى شفتيها انفرجتا عن دهشة متلبكة، فتابع الضغط عليها:
, -أنا مكانش في كلامي أي تلميح عن إن جوزك مخلف، عرفتي ده منين؟
, أعطته تفسيرًا ارتجاليًا، تمنت أن ينطلي عليه:.
,
, -أنا جوزي بيحب العيال، وكان بيزن عليا من فترة أجيبله عيل كمان، بس أنا صحتي على أدي، معنتش حِمل خِلفة من تاني، ورفضت، وكان هددني إنه لو مخلفتش هيتجوز عليا، تلاقيه عشان كده اتجوز تاني، لاقى واحدة تجيبله بدل العيل عشرة.
, لم يبدُ مقتنعًا بتبريرها الغريب، ومع هذا قال بحيادية:
, -تمام٣ نقطة
, توقف عن الحديث ليراقب ردات فعلها المرتبكة، ثم أكمل بصوته الهادئ:.
,
, -لما سألنا الجيران، قالوا إن في واحدة زارت المجني عليها قبل ما تموت بحاجة بسيطة، واتضح من كلامهم إنها أخت جوزك.
, صاحت مستنكرة بعصبيةٍ حاولت أن تبدو مقنعة:
, -يعني آمنة كمان كانت عارفة؟ ومقالتيش؟ بقى تهون عليها العِشرة؟ ده أنا باعتبرها أكتر من أختي، وبناتها هما بناتي.
, لم يأبه تلك المرة بصراخها الحاد، وتحدث بلهجة رسمية للغاية:.
,
, -ست حمدية، ما قولك في إن إخطارات المستشفيات اللي كان فيها الأربع ***** أكدوا إنهم كلهم تناولوا مادة مسممة، مختلطة بمواد مخدرة، مع اختلاف نسبتها، وأماكن الإبلاغ عن الإصابة؟
, تفاجأت من توصله لمثل تلك التفاصيل الدقيقة، وأنكرت بلجلجة خفيفة بائنة في صوتها:
, -معرفش، حاجة عن ده٣ نقطة
, تأملها المحقق بنظراته الغامضة المطولة، فاسترسلت توضح له؛ وكأنها توجه التهم بشكل غير مباشرٍ، نحو شقيقة زوجها:.
,
, -بس آمنة هي اللي على طول بتعمل العجين لعيالي يكلوه ني، وكان في بينها وبين جوزي خناقات كتير، بسبب الإيراد اللي بيجيلها من البلد، ومشاكل كده مكانوش بيحكوا فيها قصادي، أصلاً أنا مابحبش أتحشر بينهم، فأكيد هي اللي قصدت تأذي عيالي، وبنت خليل كمان، حبت تنتقم منه.
, زلة أخرى من لسانها، أفصحت عنها دون وعيٍ، غافلة عن تدارك نفسها، فأدارت الدفة نحوها. أنصت لها الضابط بلا مقاطعة، ثم علق عليها بهدوءٍ مميت:.
,
, -أنا برضوه مقولتش إن جوزك مخلف بنت!
, شحوبٌ مريب زحف إلى بشرتها، ورددت في صدمةٍ، وقد ارتفع حاجباها للأعلى:
, -إيه؟
, سألها بلهجته الرسمية، وكامل نظراته الجامدة عليها:
, -عرفتي منين إنه عنده بنت؟
, لفقت كذبة ساذجة فورًا في عقلها، وأخبرته بنبرة متأرجحة في ثباتها:
, -هو، كان، نفسه في بنت، أنا بأقول كده بالحظ.
, ضيق عليها الخناق بسؤاله المراوغ ليوقعها أكثر:.
,
, -بس إنتي بنفسك قايلة إنك متعرفيش إنه متجوز، يبقى منين خمنتي صح؟
, أجهشت ببكاءٍ غريب في غير محله، مواصلة تحسرها المليء بالعويل:
, -أنا عيالي ماتوا يا بيه، قلبي متقطع عليهم، بهلفط بأي كلام، حسوا بيا يا ناس، ده بدل ما أقعد اتحسر على عيالي؟ أتجرجر في الأقسام زي المجرمين؟
, جاءها تعليقه خاليًا إلى حد ما من التعاطف معها، عندما قال:.
,
, -يا ست حمدية دي جرائم قتل، مش حادثة عادية والسلام، وماتستبعديش يتوجه ليكي إنتي شخصيًا تهمة الإهمال مع القتل العمد.
, هتفت بمزيدٍ من البكاء:
, -أنا يا باشا؟ هو في أم تقتل عيالها؟
, ثم شرعت في لطم وجهها بقسوةٍ، بكلتا يديها، آملة أن تشتت انتباهه عن أسئلته التحقيقية، التهبت بشرتها، وهدرت بصراخٍ مصحوب بالنحيب المتقطع:.
,
, -ليه؟ ده أنا محلتيش إلا هما، دول اللي طلعت بيهم في الدنيا، وخلاص راحوا مني؟ ليه بتعملوا فيا كده؟
, أشـار لها المحقق بيده لتكف عن صراخها، مناديًا إياها بصوتٍ شبه مرتفع:
, -يا ست حمدية٣ نقطة
, قاطعته بصراخٍ أكبر، مكملة ضرب وجهها وصدرها بكفيها:
, -منها لله آمنة، هي السبب، موتت عيالي، وحرقت قلبي عليهم.
, ضجر مما تفعله، وقال بحدةٍ:
, -مش هاينفع نكمل التحقيق بالشكل ده.
, تجاهلته، لتضاعف من عويلها، بهياجٍ أكبر:.
,
, -حرام عليها، عملتلها إيه؟ مكفهاش إني كنت تحت رجليها، اللي تطلبه بأعمله من غير ما أتكلم، تاخد مني عيالي ليه؟
, ثم نهضت من مقعدها، وجثت على ركبتيها على الأرضية، لتضربها بيديها، وهي تهز رأسها في جنونٍ، هب المحقق واقفًا وصاح بها بعد أن رأى هياجها الكبير:
, -يا ست لو سمحتي٣ نقطة
,
, استمرت في ضرب وجهها حتى لم تعد تشعر به؛ لكن لا يهم حاليًا، فإن نالت بعض التورمات به، أفضل من أن يشك بها، صرخت حتى جرحت أحبالها الصوتية:
, -ليه كده؟ آآآآآآه يا ولادي، يا ريت كان **** خدني، وفضلتوا إنتو عايشين، آآآآآه يا عيالي، هاعيش لمين بعدكم.
, ضغط المحقق على الزر الجانبي المثبت في مكتبه، مستدعيًا أحد أفراد القوة الأمنية، ثم أمره بنفاذِ صبرٍ:
, -إنت يا ابني هاتلها ليمون، ولا شوفلنا دكتور.
,
, أبقاها المحقق بالخارج، بعد نوبة الجنون الموترة للأجواء، ريثما تستعيد انضباط أعصابها المتلفة؛ لكنها استغلت الفرصة لمهاتفة اسماعيل واستدعائه على وجه السرعة، بعد إخباره بالمستجد في قضية مقتل أولادها، حضر الأخير رغم تعبه، مصطحبًا معه ابنه، وبحث بعينين قلقتين عن نساء العائلة المحتجزات في القسم، أبصر حمدية جالسة على المصطبة الخشبية بمفردها، في منتصف الردهة، وما إن لمحته حتى انتفضت واقفة لتقول ببكاءٍ يعبر عن جزعها:.
,
, -شوفت اللي حصل يا حاج اسماعيل.
, رد بصوته اللاهث، وهو يشير بعكازه نحو ابنه:
, -احنا جينا على ملى وشنا.
, دون مقدمات نطقت في وجهه:
, - آمنة قتلت عيالي
, سألها فضل مصدومًا:
, -إنتي بتقولي إيه؟
, نظرت في اتجاهه، وأكملت مستخدمة يدها في الإشارة نحو أحد الأبواب المغلقة:
, -أهو البيه الظابط بيحقق معاها جوا٣ نقطة
, ثم عادت لتحملق في وجه أبيه، وتابعت بلومٍ:.
,
, -للدرجادي بتكرهني، أنا عملتلها إيه؟ ده أنا طول عمري في حالي، لا بأهش ولا بأنش.
, رمقها اسماعيل بنظرة مزعوجة، وقال:
, -دلوقتي نعرف في إيه.
, توسلته ببكائها:
, -ماتسبنيش لوحدي يا حاج اسماعيل، ده أنا غلبانة ومنكسرة.
, تنهد على مضضٍ، ولم يعدها بشيء، فقط شتت نظراته عنها، ليحدق في الباب المغلق هامسًا مع نفسه:
, -لطفك يا رب.
,
, دار بعينيه في المكان فوجد همسة تقف مع زوجها عند الزاوية، وقبل أن يتحرك في اتجاهه، انتبه لصرير الباب الذي فتح توًا، حيث خرجت منه آمنة، أقبل عليها ومن خلفه ابنه؛ لكن كانت ابنتها الأسبق في الوصول إليها، وبكل تلهفٍ مرتاع تساءلت، وقد رأت أحدهم يدفعها من ذراعها للأمام:
, -ماما واخدنيك على فين؟
, حذرها الفرد الأمني بلهجته الحادة، مانعًا إياها من الإمساك بها:
, -شوية كده يا ست.
, سأله فضل بسماجته غير المقبولة:.
,
, -إنتو قابضين عليها ولا إيه؟ فاهمنا يا شاويش
, رمقته همسة بنظرة نارية، أبعدتها عنه لتنظر إلى الفرد الأمني، وسألته بتوجسٍ كبير:
, -إنت واخد ماما على فين؟
, رد بنفس الجمود الصارم:
, -وسعوا يا أساتذة من طريقي.
, علق فضل ببسمة متهكمة:
, -شكل أمك عملتها يا بت.
, هنا صــاح به هيثم يحذره بعدائية:
, -وأنا شكلي هاعملها مع أمك لو مالمتش لسانك
, هدر به فضل مهددًا بإهانةٍ قاسية، وقد استشاط غضبًا:.
,
, -إنت بتجيب في سيرة أمي يا (، )؟
, تدخل اسماعيل على الفور، ليحول بينهما، قبل نشوب مشاجرة عنيفة، بداخل القسم الشرطي:
, -ما تلم نفسك يا فضل، إنت اللي بادي بالغلط
, اعترض عليه بتبرمٍ:
, -يابا٣ نقطة
, قاطعه بزجرةٍ حادة ليخرسه:
, -خلاص! إنتو هنا في القسم، مش هاتبقى مصيبة تانية كمان.
, رد هيثم بحنقٍ، وعيناه تتوعداه فضل:
, -لولا وجودك يا حاج، متأخذنيش يعني كنت رقدت ابنك وقتي!
,
, عاد الثلاثة لينتبهوا لـ همسة التي صرخت منادية بصوتها الباكي:
, -ماما!
, أتاها صوت آمنة يوصيها:
, -خدي بالك من نفسك يا بنتي، وماتقوليش لـ فيروزة حاجة.
, انخرطت في بكاءٍ أشد، بينما أخبرها هيثم بجديةٍ، كنوعٍ من بث الطمأنينة لها:
, -المحامي زمانه جاي يشوف في إيه، متقلقيش يا حماتي.
, حلت الصدمة المختلطة بالاندهاش، على الجميع مع صياح حمدية المليء بالاتهام الصريح، وهي تدنو من آمنة محاولة الاعتداء عليها:.
,
, -منك لله يا شيخة، قتلتي عيالي وعاملة فيها بريئة.
, تفاجأت همسة بتصرفها، وأسرعت تمنعها من الاقتراب منها، وصوتها يهدر بها:
, -إنتي بتقولي إيه؟ ماما مالهاش دعوة بعيالك، حرام عليكي بطلي ظلم فيها.
, ضربتها حمدية في كتفها، رافعة نبرة صراخها:
, -شيلي إيدك.
,
, التفتت همسة باحثة عن زوجها، وجدته في إثرها، يصد بجسده هجمات حمدية الهوجاء عليها، إلى أن فصل بين الاثنتين، وسط تدخل أفراد الأمن، اعتذر منهم، وسحب زوجته بعيدًا عن محيطها، نهجت في انفعالٍ، وقالت:
, -الحق يا هيثم ماما، و**** هي مظلومة.
, رد بغموضٍ لم تتفقه له:
, -أنا عارف، خليكي هنا ثانية كده٣ نقطة
, وقبل أن تتبعه واصل تحذيره لها:
, -وإياكي تقربي من الولية دي!
,
, اختطفت نظرة حاقدة نحو حمدية التي وقفت تشكوها لعمها وابنه، عادت لتحملق في وجه زوجها الذي أكد لها بنبرة مبنية على يقين صريح:
, -إن شاء**** براءة أمك على إيدي.
,
, لم يستطع كبت شكوكه لأكثر من هذا، فمنذ ليلة العزاء، وأفكاره عن وجود رابط خفي يجمع بينها وبين الطفلة لم يفارق تفكيره، لم يسترح لتصرف حمدية الانفعالي الزائد، والذي نم آنذاك عن معرفة مسبقة بالضحية وابنتها، وإلا لما بدت على تعبيراتها الهائجة كل تلك الكراهية غير المفهومة، لطفلة لم ترها مسبقًا أو تتعرف إليها! احتفظ بصمته، وبأفكاره المتشككة لنفسه إلى أن وجهت اتهاماتها الصريحة، لحماته المغلوبة على أمرها. تأكد حينئذ من احتمالية تورطها في قضية القتل بدرجةٍ كبيرة، وإن لم يمتلك بعد الدليل المادي الملموس على هذا. خرج هيثم عن صمته، وقطع الردهة الطويلة أشواطًا بخطواته المتسعة والسريعة، ليعود إلى غرفة المحقق، قاصدًا مقابلته، وإعلامه بما غفل عنه الآخرين، عل بحديثه هذا يضع الأمور في نصابها الصحيح٣ نقطة!
 
١٢

إنجابها لا يعني بالضرورة عشقها لصغارها، ورغبتها في الفوز بلقب الأم الحنون؛ لكنه كان لإثبات أن بأحشائها أرض تصلُح للإنبات، ولهذا ألقت بعبء تربية أولادها على شقيقة زوجها، فكانت الأخيرة لهم أمًا بلا رحم، وكانت الأولى لقبًا بلا حق. وقفت حمدية في مكانها، وتركيزها بالكامل على اسماعيل، تشكو له هوانها المستضعف، ووحدتها القاتلة، علَّه يشفق عليها بعاطفةٍ تمنت أن تكون لها يومًا، لهذا لم تنتبه لـ هيثم الذي هرول ركضًا لمقابلة المحقق دون ميعادٍ مسبق، مُصرًا بحزم على البوح بشكوكه إليه.
,
, في الطرف الآخر من الردهة الطويلة، استندت همسة بظهرها على الحائط الرمادي البارد، تحملق في بابٍ أُغلق خلف زوجها، تدعو **** بإخلاصٍ شديد، أن يجعله أحد أسبابِ نجاة والدتها، تأهبت في وقفتها وقد رأت شخصًا يرتدي حلة رسمية، يُعرف بنفسه كمحامٍ مكلف بمتابعة تحقيق أمها، ذاك الذي أرسله بدير للوقوف إلى جوارهما، تهللت تعابيرها المتجهمة قليلاً؛ لكنها لم تتمكن من الحديث معه، بسبب دخوله للحجرة لمعرفة التفاصيل. ظلت باقية في مكانها تترقب خروج أحدهما من الداخل لطمأنتها؛ لكن اكفهرت ملامحها مع إزعاج فضل السمج لها، عندما سألها بسخافته غير المحتملة:.
,
, -واقفة لوحدك ليه؟ وفين النطع جوزك؟
, رمقته بنظرة حادة، قبل أن ترفع إصبعها أمام وجهه تحذره، بجراءة تفاجأت من وجودها بها:
, - فضل أنا مش ناقصة كلام يحرق الدم، ابعد عن وشي السعادي.
, تحدث من زاوية فمه بمزيدٍ من الهراء المستفز:
, -الحق عليا اللي سايب حالي ومالي وجاي أشوف اللي حصل لأمك.
, ردت بحدةٍ أكبر:
, -متشكرين، مكونتش تتعب نفسك.
, ابتسم قليلاً، قبل أن يكمل ظرافته السمجة:.
,
, -وأديني جيت، بس يكونش جوزك راح يجيب عيش وحلاوة، ما هو أمك باين هتطول في التخشبية كتير.
, خرجت عن شعورها مع تهكمه الصارخ، وهاجمته بعصبيةٍ لفتت بها الأنظار:
, -إنت إيه؟ معندكش ددمم؟ جاي تتريق على أمي وهي في الظروف دي؟
,
, في تلك الأثناء، فُتح باب الغرفة، وخرج هيثم من الداخل، ليتفاجأ بانفعالِ زوجته، لم يضبط نفسه، أو يتريث لمعرفة التفاصيل، بل اندفع بغضبٍ شحذه ضده مسبقًا، نحو فضل ليلكزه بكوعه في أنفه، فآلمه بشدةٍ، وجعله ينزف الدماء من فتحتيه، ثم مد قدمه ليعرقله في لمح البصر من ساقه، وطرحه أرضًا، وسط ذهول المتواجدين. كان هيثم على وشك أن يجثو فوقه ليكيل له ما يستحق من لكماتٍ، لولا أن تجمع أفراد الأمن حوله، وفصلوا بينهم.
,
, تدخل أحد الضباط متسائلاً بضيق، وبنبرته الجهورية:
, -إيه المهزلة اللي بتحصل هنا؟
, على الفور رد المحامي من ورائه معتذرًا، ومحاولاً فض الاشتباك قبل أن يتفاقم، ويتخذ شكلاً رسميًا لا داعي له الآن:
, -أسفين يا فندم، ده سوء تفاهم بسيط.
, اشتكى فضل للضابط بنواحٍ، وهو مستلقي على ظهره، وواضعًا يده على أنفه النازف:
, -اثبِتي عندك يا حكومة، بأضرب وأتهان على أرضك.
, التفت المحامي ناظرًا إليه، وحذره بلهجته الجادة:.
,
, -متكبرش الموضوع يا أستاذ.
, رد بعنادٍ:
, -هو كبر خلاص٣ نقطة
, ثم هدر مناديًا والده الذي تفاجأ من الاعتداء على ابنه، متوقعًا أن يكون ابنه هو الطرف المستفز
, -شوفت يابا؟ بيعمل إيه فيا النطع ده؟
, هتف فيه هيثم متوعدًا إياه بشراسةٍ، وملوحًا بذراعه كتهديدٍ صريح:
, -النطع ده هيقطع لسانك النهاردة.
, هنا هدر الضابط بغضبٍ مبرر:
, -هو أنا مش مالي عينكم؟
, ثم أمر أحد رجالته بصرامته الواضحة:
, -خدهم يا عسكري على الحجز لحد أما أشوف حكايتهم.
,
, انزعج اسماعيل من قراره؛ وإن كان محقًا فيه، لعدم احترام كليهما لطبيعة الظروف، ومع هذا هتف معترضًا بما يشبه الرجاء:
, -حقك علينا يا باشا، ده سوء تفاهم، وهيتحل.
, قال له الضابط بوجهه المتجهم:
, -إنتو في قسم، مش في سويقة!
, تجاهله مجددًا، ووجه أوامره للفرد الأمني:
, -اتحفظ عليهم يا عسكري.
, احمر وجه اسماعيل، واستدار نحو ابنه يدمدم بغيظٍ:
, -عاجبك كده يا فضل؟
, علق عليه ابنه بحدةٍ:
, -ده أنا اللي مضروب يابا.
,
, غمغم أباه في استياءٍ لا يخلو من التبرم:
, -ما هي المشرحة ناقصة قُتلى.
, وبالفعل حاوطت قوة بسيطة الاثنين، وتم اصطحابهما لغرفة أخرى، ريثما يتفرغ أحد الضباط للتحقيق في أمرهما.
,
, لم تتوقع أن يتم احتجازها هي الأخرى على ذمة التحقيقات، بعد نوبة الجنون الهيسترية التي أظهرتها للمحقق، على ما يبدو لم يأبه بكل ما قامت به، وأصدر أمره بإبقائها رهن الحجز، إلى أن يستكمل باقي التحقيق. وبين جدران تلك الحجرة، ذات الإضاءة الخافتة، افترشت النساء المحبوسات الأرضية والمصاطب الخشبية القصيرة، نظرة مذعورة كست وجه حمدية وقد دُفعت قسرًا للدخول إليها، انتفضت كالملسوعة نحو الباب المعدني وقت غلقه بصوتٍ قوي، تنظر إليه في صدمةٍ غير مصدقة، أن المطاف قد انتهى بها هنا، مع تلك النسوة العابثات، لحظة من الخوف القوي سرت في أوصالها، بلعت ريقها في حلقها الجاف، وسارت باحثة عن بقعة شاغرة لتجلس بها؛ لكن رؤيتها لـ آمنة تبكي في نفس الزاوية بمفردها، استفز غضبها، فهاجمتها دون مقدماتٍ، ملقية بكامل اللوم عليها:.
,
, -إنتي السبب في اللي احنا فيه؟ إنتي اللي خربتي حياتي وموتي عيالي
, نظرت لها آمنة بذهولٍ وهي تكفكف عبراتها المنسابة، قبل أن تنطق بصوتها المرتعش، بما يشبه السؤال:
, -أنا يا حمدية؟ ده **** وحده اللي عالم بيا، وبالقهرة اللي عايشة فيها، من يوم ما٣ نقطة
, قاطعتها بصوتٍ هادر، وهي تدنو منها لتتشاجر معها:
, -اللي ماتوا دول عيالي مش عيالك، إنتي هيفرق معاكي إيه؟
,
, تعلقت بياقتي عباءتها، جذبتها منها بعدوانيةٍ بحتة، لتجبرها على الوقوف، وأكملت إلقاء التهم عليها:
, -وأخرتها اتحبس هنا بسببك إنتي وأخوك اللي اتجوز عليا.
, دافعت عن نفسها بنبرتها المختنقة:
, -أنا زيي زيك يا حمدية، معرفش حاجة عن جوازة خليل التانية، و**** العظيم قلبي محروق على عيالك أكتر منك.
, صرخت بها بانفعالٍ أشد؛ وكأن كل غضب الدنيا قد تجمع أمام عينيها في تلك اللحظة:.
,
, -كفاية مُحن بقى، وسهوكة، ناقص إيه تاني تاخديه مني؟
, حاولت آمنة إبعاد يديها عنها؛ لكنها واصلت هزها العنيف، مع صياحها المستمر بها:
, -قضيتوا عليا وضيعتوا شبابي وحياتي.
, تدخلت بعض السيدات للفصلِ بينهما، وهتفت بهما واحدة بصوتٍ أجش تقريبًا:
, -ما كفاية بقى يا نسوان، صدعتونا.
, استدارت حمدية تطالع المرأة بعينين مغلولتين، واتهمت آمنة علنًا ببكاءٍ مصحوبٍ بالعويل:.
,
, -الولية دي قتلت عيالي، وعاملة فيها الملاك البريء، عايزني أسيبها إزاي؟
,
, بمكرها الخبيث نجحت في شحن النساء الآخريات ضد تلك المغلوبة على أمرها، وبدأن في التكالب ضدها، وأوشت إحداهن عن ضربها، لولا أن تدخل أحد الضباط في اللحظة الأخيرة، بعد ارتفاع الصخب داخل غرفة الاحتجاز، فأصدر أوامره الصارمة بعدم تعرض أي واحدة للأخرى، وإلا لتلقت عقوبة قاسية، تُضاف إلى ملف تهمها، فأتي تهديده الصريح بنتائجه السريعة، وجلست النساء ملتزمات الصمت، رغم احتقان النفوس. وبصوتٍ لم يخرج من جوفها، رددت آمنة في عجزٍ يائس:.
,
, -عملتي إيه يا آمنة في دنيتك، عشان يحصلك ده كله؟
,
, بصعوبةٍ تمكن من إقناعها، لتتخلى عن رأيها العنيد، وتعود معه إلى منزل عائلة سلطان، بحجة رؤية الطفلة التي تحتاج إليها؛ لكنها كانت وسيلته لإبعادها عن القسم الشرطي، بعد التصالح الودي بينه وبين السمج فضل، لكون تواجدها هناك لا طائل منه. لم تجلس همسة منذ أن وطأت المنزل، وأصرت على أخذ الصغيرة رقية، رغم استغراقها في النوم في غرفة هاجر مع رضيعها. اعترض عليها بدير قائلاً بصوته الرخيم:.
,
, -يا بنتي ماينفعش كده.
, تشبثت بعنادها، وقالت:
, -معلش، خلوها تصحى، وأنا هاخدها ونفضل قصاد القسم، مش هاسيب أمي لوحدها.
, أخبرها بدير بتمهلٍ، علّها تنصت لصوت العقل، وتتوقف عن التصرف هكذا:
, -وهي مش لواحدها، المحامي قال ده إجراء طبيعي في الظروف دي، وحتى مرات خالك محبوسة معاها، هنعمل إيه تاني؟
, ردت عليه بتزمتٍ:
, -ماليش دعوة بيها، أنا كل اللي يهمني أمي.
, هتف بدير بزوجها طالبًا منه دعمه:
, -ما تعقل مراتك يا ابني.
, قال بيأسٍ:.
,
, -غلبت معاها يا جوز خالتين هي راكبة دماغها.
, هز بدير رأسه للجانبين، وعلق بعد زفيرٍ طويل:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، طب اطلعي شقتك فوق لحد ما أتصرف، وأكلم ناس حبايبي، جايز يقدروا يساعدوا.
, جاءه ردها الأكثر عندًا عن ذي قبل:
, -أنا عايزة أكون جمب أمي، مش هاروح في حتة إلا القسم.
, غمغم في نفاذِ صبرٍ:
, -أنا مش حِمل مناهدة في السن ده.
,
, لاحظ هيثم علامات الضيق البادية على وجه زوج خالته، فألح على زوجته بلطفٍ، محاولاً استمالة رأسها المتيبس:
, -اسمعي الكلام يا همسة، وتعالي معايا.
, نطقت بألمٍ ومرارة، وعيناها تفضيان بدموعٍ لا حصر لها:
, -يا هيثم ماما مش وش بهدلة، بقى أخرت المتمة تروح أقسام وتنام مع المجرمين؟ **** أعلم عاملين فيها إيه دلوقتي.
, حز في قلبه أن يراها هكذا، ويقف مكتوف اليدين، فربت على كتفها برفقٍ، ورجاها:.
,
, -طب إهدي، كل اللي إنتي عايزاه هنعمله.
, من الداخل أتت ونيسة وهي تحمل كوبًا يحوي مشروبًا باردًا، قدمته إلى همسة وهي تصر عليها:
, -خدي اشربي العصير ده يا بنتي.
, رفضت تناوله، وقالت بنحيبٍ:
, -مش عايزة حاجة.
, أصرت عليها، وأجبرتها على ارتشاف ما به بحنوها الأمومي:
, -اسمعي بس الكلام، و**** هازعل منك.
,
, رغمًا عنها تناولت الكوب منها، وبدأت في تجرع ما به، لم تشعر بمذاقه الحلو، فالعلقم المنتشر في حلقها غطى على أي حلاوة به، التفتت بعدها تتطلع إلى بدير الذي شغلها بحديثه، فمالت ونيسة على هيثم تهمس له بصوتٍ خفيض:
, -بأقولك إيه، أنا دوبتلها في العصير قرص منوم.
, برقت عيناه، واستدار برأسه نصف استدارة مبديًا اندهاشه بتصرفها، فتابعت:
, -كده أحسن بدل ما تفضل في المناحة دي للصبح.
, أخفض نبرته معقبًا عليها في استحسانٍ:.
,
, -خير ما عملتي يا خالتي.
, أوصته بصوتها الخافت:
, -إنت وشطارتك تخليها تشربه للآخر.
, رد مؤكدًا، بابتسامةٍ أخفاها جيدًا:
, -حاضر.
, وقبل أن تفكر زوجته في التوقف عن تناول مشروبها، تقدم نحوها، وحاوط كفها الممسك بالكوب، ليرفعه إلى شفتيها وهو يصر عليها:
, -اشربي يا همسة، دي شوية مياه.
,
, لم تجادله، وتجرعت كامل ما في جوفها، شاعرة بثقلٍ خفيف يزحف نحو عينيها، التقط منها الكوب الفارغ بعد ارتشافه، وأجلسها على الأريكة مدعيًا حديثه الجاد عن قضية والدتها، إلى أن غامت الصور في عقلها، وغفت بعد دقائق، مستسلمة لتأثير النوم الإجباري الذي فُرض عليها. تعجب بدير مما أصابها، وتساءل:
, -إنتو عملتوا فيها إيه؟
, أجاب هيثم مبتسمًا في امتنانٍ:
, -دي خالتي **** يباركلها.
,
, تفقه ذهنه سريعًا للتفسير الغامض لحالتها، وسأل زوجته ليتأكد من شكوكه:
, -إنتي إديتها يا ونيسة من اللي الأقراص بتاعتك؟
, قالت ببساطة:
, -مش كده أحسن يا حاج.
, أومأ برأسه موافقًا، وأضاف:
, -أيوه، خد يا ابني مراتك على شقتكم، ولينا كلام تاني لما المحامي يشوف تفاصيل حكايتها إيه.
, رد هيثم بانصياعٍ واضح:
, -ماشي يا جوز خالتي.
, وقبل أن يحمل زوجته، أخبرته ونيسة بنوعٍ من التعاطف:.
,
, -خلي البت رقية بايتة هنا، دي أخدت بحس هاجر من ساعة ما جت.
, علق عليها بدير بدهشةٍ:
, -سبحان ****، مين كان يصدق إن خليل متجوز وعنده بيت تاني.
, هتفت زوجته في استنكارٍ:
, -ولا كان يبان عليه، وربنا عاطيله بدل العيل تلاتة.
, اختتم بدير الحديث في شأنه بقوله الحاسم:
, -محدش عارف الظروف إيه، فُضنا من سيرته، و**** يصلح حال عبيده، بنته أمانة عندنا لحد ما نشوف الليلة هتسرى على إيه.
, أكدت عليه زوجته:
, -اطمن يا حاج، دي في عينيا.
,
, لم يجد هيثم ما يخبرهما به، فكلمات الشكر تعجز أمام عطائهما اللا محدود، وسعيهما الدائم في تقديم الخير للغرباء قبل الأقرباء، وهذا ما كان يجهله عنهما! دومًا كانت تبث والدته في نفسه بذور الكراهية والحقد نحوهما؛ لكنهما كانا ومازالا –رغم كل شيء- أبعد ما يكون عن تلك السمات الخبيثة! وبحذرٍ واضح عليه، مرر ذراعيه أسفل جسد زوجته، حملها برفقٍ، متجهًا بها نحو باب المنزل، ومن خلفه خالته، سبقته قبل أن يصل إليه لتفتحه له، وأوصته للمرة الأخيرة؛ كما لو كانت متنفسها لتتحدث بنوعٍ من التورية، عن ابنتها المتألمة بالداخل:.
,
, -خد بالك منها يا هيثم، دي غلبانة، واحنا عندنا ولايا زيها.
, أبعد نظراته عنها، ليحملق في وجه همسة النائم، وقال بحبٍ لا يحتاج لإثباتٍ مادي ملموس:
, -أنا مش محتاج توصية على مراتي، هي في عينيا.
,
, آخر ما تذكره قبل أن تستفيق من سباتها الذي شعرت أنه كان عميقًا، غريبًا، وربما امتد لساعاتٍ أطول من المعتاد، أنها عانتٍ من ألم مبرح، صاحبه إضاءة بيضاء طغت على عقلها، كصاعقة برقٍ مباغتة، قبل أن تختفي عنها المشاهد كليًا، ويتحول كل شيءٍ للإظلام. تململت فيروزة في فراشها الغريب، محاولة إجبار عينيها على اعتياد الإنارة القوية، تأويهة متألمة تسللت من بين شفتيها، تكررت بأنين موجوعٍ، وقد شعرت بمطارقٍ عنيفة تدق في رأسها، رفعت ذراعها ببطءٍ للأعلى، فالتقطت نظراتها المشوشة إبرة طبية موصلة بها، تغاضت عنها مؤقتًا، وأكملت طريقها للأعلى لتتحسس جبينها، شعرت بقماشٍ ما يحاوطه، فتساءلت مع نفسها بحيرة:.
,
, -هو إيه اللي حصل؟
,
, لحظات من التفكير والصمت مرت عليها محاولة استعادة ذاكرتها، تأملت الغرفة المتواجدة بها حاليًا، لم تكن فيما يُعتبر مكان إقامتها الحالي، بل الأدق أن يُقال أنها كانت فيما يشبه غرفة بالمشفى، بسبب التجهيزات الموجودة بها، مع انتشر لبعض المعدات الطبية بها، استرعى الأمر كامل انتباهها، وبدأت في اعتصار ذاكرتها لتستعيد ما هو منقوص عن المشهد، بعد محاولات مضنية تسربت إليها ذكرى مشادتها الأخيرة مع آسر، حينما استفزها الأخير بتلميحه القذر عن نشر مقاطعًا مزيفة لها، قبل أن تخرج عن شعورها، وتدمر حاسوبه المحمول. انتشلها من سرحانها العميق صوتًا بدا مشابهًا للغتها، وهو يقول:.
,
, -حمدلله على السلامة يا مدام فيروزة.
, وقع لقب (مدام) مع اسمها بدا شاذًا على مسامعها، ومع هذا التفتت نحو صاحب الصوت الذكوري، وسألته بحشرجةٍ بائنة في صوتها:
, -إنت مين؟ وأنا بأعمل إيه هنا؟
, تأملته بعينين فضوليتين، فرأته يرتدي زيًا طبيًا، ويراجع الأوراق المعلقة في حاملٍ معدني على حافة فراشها، توقف عن المطالعة، ونظر إليها مبتسمًا، ليعرف بنفسه بودٍ لطيف:
, -أنا الدكتور هاني المتابع لحالتك هنا.
,
, على الفور لاحقته بسؤالها المليء بالاستغراب:
, -وأنا إيه اللي جابني هنا؟
, بخطواتٍ متمهلة اقترب من فراشها، وأخبرها:
, -جوزك.
, تعقدت تعبيراتها بوجوم سقيم، فواصل إطلاعها على المزيد من الحقائق الغائبة عنها:
, -إنتي بقالك هنا حاولي 10 أيام.
, حلت الدهشة المصدومة على تعبيراتها، وكذلك نظراتها إليه، تحرك فكها ليهتف في ذهولٍ:
, -إيه؟ 10 أيام؟ مش معقول.
, تعمد أن يكون بطيئًا في حديثه وهو يتابع إعلامها بالمزيد مما تجهله:.
,
, -ده اللي حصل، جوزك نقلك على هنا، وقال إنك اتزحلقتي لما كنتي بتنضفي الشقة، وخبطتي دماغك جامد.
, أنكرت بعصبيةٍ آلمت رأسها:
, -محصلش.
, أشار لها بيده لتهدأ، وقال:
, -أنا عارف
, ضاقت عيناها بشكٍ، فأكمل تفسيره ليزيح الغموض السائد في الأجواء:
, -اللي قصادك دكتور، وفاهم شغله كويس، وفي فرق أكيد بين حد اتزحلق، ومحاولة قتل، ده غير إن كاران حاكيلي عن ظروفك.
, رددت في صدمةٍ أخرى:
, - كاران؟
, حرك رأسه بالإيجاب، وقال:
, -أيوه٣ نقطة
,
, تابعته بنظراتها المتوترة، وهو يتحرك ليقف على رأس فراشها، قبل أن يضيف:
, -مدام فيروزة، أنا هنا عشان أساعدك.
, لعقت شفتيها، وتساءلت في ارتباكٍ:
, -أنا مش فاهمة حاجة، تساعدني إزاي؟
, قال مبتسمًا في ثقةٍ:
, -اللي هيفهمك أكتر على كل حاجة شخص جالك مخصوص، ومنتظر اللحظة دي أكتر من جوزك نفسه.
,
, كان محقًا في كلماته الأخيرة، فعلى الأغلب يريد زوجها هلاكها ليفلت من جريمته النكراء، ويُصدق الجميع أكذوبته بأنها زلت قدمها حينما كانت تنظف المنزل، تركت أفكارها الحائرة جانبًا، وتساءلت بفضولٍ كبير عن هوية الزائر الغامض:
, -مين ده؟
, رد دون أن تفتر ابتسامته:
, -المقدم ماهر.
, اتسعت عيناها أكثر وهي تهتف في اندهاشٍ عجيب:
, -بتقول مين؟
, تابع مفسرًا لها:.
,
, - كاران تواصل مع سفارة بلدك، وتقريبًا القدر كان مرتبلك لقاء بيه معاه، لأنه كان بيحاول يوصلك بأي شكل.
, احتفظت بملامحها المدهوشة وهي تحاول استيعاب الأمر، بينما أكمل هاني مشددًا عليها:
, -أنا عايزك ترتاحي لحد ما أتصل بيه عشان يجي يقابلك، هنا!
, مزيدٌ من أمارات الدهشة ارتسمت على ملامحها المتعبة، ومع هذا قابلها بعبارته المؤكدة:
, -واطمني جوزك مش هايعرف إنك فوقتي، إنتي بالنسباله لسه في غيبوبة.
,
, تراءى لها -رغم قلقها والهواجس المستبدة بها- أن كاران لم يتخلَ عن وعده بمساعدتها، وإنقاذها من براثن شخصية وضيعة كزوجها، منحها كل الدعم لإبقائها في أمانٍ، وإن كان بتوفير مساعدة خفية من هذا الطبيب الغريب كليًا عنها، ناهيك عن النجدة الأخرى القادمة إليها، والمتمثلة في وجود الضابط ماهر ؛ وإن لم تعلم بعد السبب الحقيقي لقدومه٣ نقطة!
 
١٣



رغبته في تجنيد فئة جديدة، تنضم للعمل معه، وفق شروطه الصارمة، قد أصبح أمرًا مؤجلاً حاليًا، بعد تدهور الأعمال مؤخرًا، وتعليق بث الجديد من المحتوى المثير على موقعه. فرك آسر رأسه بيده، محاولاً البحث عن وسيلة لتعويض الخسائر المتزايدة، خاصة بعد أن رأى انخفاض الأرباح، والمشاهدات عليه؛ لكن تعذر عليه الوصول للحل السحري، في وقت قياسي. تلفظ بسبةٍ لعينة، وأغلق الحاسوب النقال في عصبيةٍ، ليريح ظهره للخلف، على الأريكة الجالس عليها. تحرك بؤبؤاه نحو بقعة الدماء الجافة، التي ما زالت آثارها باقية على السجادة، ليعود بذاكرته لأيامٍ مضت، حينما تهورت فيروزة وسكبت القهوة الساخنة على لوحة مفاتيح حاسوبه القديم، في لحظة هوجاء منها.
,
, آنذاك خرج عن شعوره، واختطف الفنجان من يدها، ليقبض عليه، ثم رفعه للأعلى، وانهال به على جانب رأسها في ضربة عنيفة مباغتة، جعلت نظراتها تبرق، وجسدها يتصلب. كرر الضربة بقساوةٍ أشد، فترنحت على أثرها، وتفجرت الدماء من رأسها، طُرحت أرضًا، وسكنت أطرافها، ركلها بقدمه في جانبها وهو يصرخ بها بوعيدٍ مُهلك:
, -أنا هوريكي أيام سودة!
,
, لكزها بعنفٍ مرة أخرى، على أمل أن تنتفض بألمٍ؛ لكنها بقيت ساكنة، تأملها بنظراتٍ محتقنة، مليئة بالغضب والغيظ، سريعًا ما تبدلت للقلق والارتعاب، مع ظهور بركة من الدماء أسفل رأسها، خشي أن تكون ضرباته العنيفة قد أحدثت الأسوأ، جف حلقه، وانحنى جاثيًا إلى جوارها، ناداها بصوتٍ أظهر خوفه على نفسه:
, - فيروزة! بلاش الحركات دي!
,
, وضع يده على كتفها يهزها منه، بقيت كما هي، لا حراك في جسدها، شحب وجهه، وحملق فيها بنظراتٍ مذعورة، دقق النظر في جرح رأسها، كان غائرًا، مخيفًا، الدماء تتدفق منه، تراجع في ذعرٍ، ومد إصبعيه نحو عنقها، ألصقه به متفقدًا نبض قلبها، شعر بوجوده، فتنفس الصعداء، وتساءل بأنفاسٍ مضطربة:
, -العمل إيه دلوقتي؟
, شعر بتلاحق دقاته، وقد تدارك حجم الكارثة التي زج بنفسه فيها، غمغم في هلعٍ:.
,
, -أنا كده هاروح في داهية! والناس في البلد دي مابترحمش.
,
, أعمل عقله بكامل طاقاته، محاولاً إخراج نفسه من تلك الورطة المهلكة، توهجت نظراته حينما طرأ بباله أن يحول المسألة برمتها لحادثة عرضية غير مقصودة، لا دخل له بها، ومُلقيًا باللوم عليها، لإهمالها في الانتباه لنفسها، لهذا قام آسر بتعديل وضعية جسدها، فأمسك بها من كتفيها، وقلبها على بطنها، لتبدو كما لو أنها تعرقلت في خطواتها، دون وعيٍ، فانكفأت على وجهها. نهض من جوارها، واتجه بخطوات شبه راكضة نحو الحمام، جال بنظراتٍ سريعة باحثًا عن الدلو الفارغ، وجده في الزاوية، فأمسك به، وملأه بالمياه، ثم أضاف مقدرًا كبيرًا من مسحوق الغسيل، ليحمله بعد ذلك نحو الخارج.
,
, وقف بجوار جسدها المستكين، نظرة أخرى ألقاها عليها، قبل أن يشرع في تنفيذ باقي خطته، حيث ألقى بكميةٍ لا بأس بها على الأرضية، لتصبح زلقة للغاية، وبحذرٍ انحنى مجددًا عليها، قاصدًا نزع ثيابها الفوقية عنها. تعمد آسر أن يخفف من ثيابها المحتشمة، لتظهر نوعًا ما على أريحيتها، بقميصٍ منزلي قصير، شبه عاري، وكأنها كانت منهمكة في تنظيفها للمنزل بحريةٍ كبيرة، غير مكترثٍ بما يظهر من جسدها للغرباء حينما ينظرون إليها، لتكون تلك وسيلته الرخيصة لتشتيت الأنظار عنه. لم ينسَ كذلك إحضار الممسحة، ورفع بعض الأثاث، ليظهر المشهد منطقيًا. انتبه كذلك لفنجان القهوة الملوث بدمائها، أخذه إلى حوض المطبخ ليغسل الآثار من عليه، ثم نزع ثيابه عنه، وولج إلى الحمام مجددًا ليبلل كامل جسده بالمياه، فيبدو كمن انتهى لتوه من الاستحمام.
,
, وما إن تأكد من إنجاز خطواته بالترتيب، حتى لف جسده بمنشفة قماشية، ثم سحب نفسًا عميقًا استعاد به انضباط أعصابه المرتبكة، وبدأ يهلل في فزعٍ؛ وكأنه قد تفاجأ بما أصابها:
, - فيروزة حبيبتي، إيه اللي حصلك؟
, تعمد أن يجثو إلى جوارها لتبتل المنشفة مكان ركبتيه، ثم نهض من مكانه، وهرول نحو باب المنزل مكملاً صراخه المستنجد باللغة الانجليزية:
, -النجدة! أريد المساعدة هنا، زوجتي فاقدة للوعي.
,
, في أقل من دقيقة نجح في إحداث جلبة بالمكان، وتجمع في منزله بعض الجيران، ينظرون في فضولٍ للجسد الساكن على الأرضية؛ لكن لم يجرؤ أحدهم على لمسها أو تحريكها، انضم إليهم الحارس الأمني كاران، اخترق الكتل البشرية، ليجد جسدها مستلقيًا في وضعٍ أقل ما يمكن وصفه بأنه مخيف. اعترته صدمة مرتاعة عليها، متوقعًا ألا تكون تلك الحادثة عابرة أو بمحض الصدفة، عكست نظراته المسلطة على وجه آسر شكوكه الكبيرة نحوه. لم يضيع الوقت، وهاتف الإسعاف على الفور، آملاً ألا يكون قد تأخر كثيرًا على إنقاذها.
,
, استفاق آسر من شروده على رنين هاتفه المحمول، التفت برأسه نحو الجانب، والتقطه من جيبه، لينظر إلى شاشته، تجهمٌ عظيم استبد بكامل وجهه، دمدم بلفظة مزعوجة، قبل أن يجيب على الاتصـال:
, -مرحبًا سيدي.
, تلقى توبيخًا من الطرف الآخر، جراء الخسائر المتوالية، فقال بنوعٍ من التعهد:
, -سأعوض كل شيء، فقط أمهلني بعض الوقت.
, اخترق الصوت الغاضب أذنه قائلاً له:
, -إن لم تصلح الأمر سريعًا، ستكون نهايتك!
,
, وقبل أن يستجدي رب عمله أنهى المكالمة معه، لتزداد تعابيره إظلامًا، قذف بالهاتف في عصبيةٍ على الأرضية، وهتف في غضبٍ:
, -هو أنا ناقص! هلاحق على إيه ولا إيه؟!
,
, -كيف حالك الآن؟
, تساءل كاران بتلك الكلمات المهتمة، بعد أن أخبره الطبيب هاني باستعادة فيروزة لوعيها، ليأتي على الفور لزيارتها، محتفظًا لنفسه بتلك الأخبار السارة، وملتزمًا بالتعليمات المشددة حول التكتم على خبر إفاقتها. نظرت في اتجاهه بعينين تعكسان حملاً ثقيلاً من الهموم، قبل أن تتقوس شفتاها لتظهر بسمة امتنانٍ له وهي ترد:
, -بخير.
, حاول أن تكون جملته التالية بلغتها الأم، عندما تعهد لها:.
,
, -سينال الحقير عقابه.
, أطبقت على جفنيها في ألمٍ، مقاومة انجرافها وراء ذكريات إهدار حريتها مع شبيه البشر المسمى بزوجها. فتحت فيروزة عينيها، ونظرت ناحيته، لتردد بقليلٍ من التفاؤل:
, -أتمنى.
, قاطع حديثهما دخول الطبيب هاني لغرفتها، أبصرت ابتسامته البشوش المحتلة وجهه، في حين ألقى الأخير نظرة مهتمة عليها وهو يسألها:
, -إيه أخبارك يا مدام فيروزة؟ حاسة بإيه النهاردة؟
, ردت بتنهيدة بطيئة:
, -الحمد****.
,
, لثوانٍ تفقد الأوراق المثبتة في الحامل المعدني على حافة فراشها، وقال بهدوءٍ:
, -التقارير بتقول إنك في تحسن..
, لم تنطق بشيء، فاستأنف قائلاً، وعيناه تتطلعان إليها:
, -قريب هتخرجي من هنا.
, عكست تعبيراتها وجومًا مغلفًا بالألم، فأكد عليها بلهجةٍ غير ممازحة:
, -بس مش هترجعي عند الحيوان اللي متجوزاه.
, قالت بانهزامٍ، وهي تطرق رأسها للأسفل:
, -أنا عايزة أرجع بلدي.
, -هايحصل يا فيروزة!
,
, رفعت رأسها فجأة للأعلى، بعد سماعها لتلك الجملة، من صوتٍ كان مألوفًا كليًا لها، ارتسم الارتياح على ملامحها الذابلة، وقد رأت الضابط ماهر يلج إلى الغرفة، رفرفت بعينيها لتتأكد أنها لا تتوهم وجوده، اضطربت أنفاسها، وهتفت تناديه غير مصدقة أنه هو:
, - ماهر بيه!
, قال هاني بابتسامة عريضة، بما يشبه التساؤل:
, -إيه رأيك في المفاجأة دي؟
,
, شعرت بوخزٍ في عينيها مصحوبًا بحرقةٍ بسيطة نظرًا لتجمع العبرات فيهما، لم تخجل من هذا، فبعد معاناتها المتواترة، كانت بحاجة للبكاء والتنفيس عن مشاعرها المكبوتة، كذلك تلقيها لكل تلك المساعدات، من هؤلاء الغرباء عنها، جعلها أكثر حساسية عن ذي قبل. تحرك ماهر نحو فراشها، ليبدو قريبًا منها، دارت نظراته على آثار الكدمات الظاهرة على ذراعيها، فلم تشفَ بعد كامل تورماتها القديمة، استنشق الهواء، ونطق بهدوءٍ أخفى خلفه ضيقه الشديد:.
,
, -سلامتك يا فيروزة.
, افتقرت للشجاعة لتشكو له جريرة سوء اختيارها، لزوج لم يعاشرها بالمعروف، ولم يمنحها سوى الألم والقسوة؛ لكنه بادر بإزالة حاجز الصمت الواضح، ليتطرق لهذا الموضوع الحرج، بإخبارها:
, - آسر خدعنا كلنا زي ما خدعك يا فيروزة، مش إنتي بس اللي ضحيته.
, بجهدٍ لا بأس به كبحت رغبة غريزية في البكاء، وسحبت نفسًا عميقًا تُحجم به مشاعر ضعفها. استقام ماهر في وقفته، ووعدها مرة أخرى:.
,
, -وقريب هتاخدي حقك منه، بس٣ نقطة
, بتر جملته قبل اكتمالها مما أصابها بالقلق، رفعت عينيها إليه، وسألته بقلبٍ يدق في خوفٍ:
, -بس إيه؟
, لم يكن من السهل عليه إطلاعها على القادم؛ لكن لا مفر، حتى تسير خطته على ما يرام، بدت ملامحه مزعوجة، واكتسب صوته لمحة من الضيق وهو يجيب عليها:
, -لازم ترجعيله مؤقتًا.
, هتفت رافضة دون منح نفسها أي فرصةٍ للتفكير:
, -مش هايحصل!
, تفهم عزوفها المنطقي عن العودة إليه، ومع هذا تمسك بطلبه قائلاً:.
,
, -عشان يتحاسب على كل جرايمه معاكي ومع غيرك، أنا محتاج إنك تتعاوني معايا، ورجوعك ليه هيسهل علينا نوصل لأدلة تدينه في جرايم تانية، توصله لحبل المشنقة.
, تشبثت برفضها الشديد، لتصيح بتشنجٍ:
, -أنا مش هارجعله تاني، ده كان هيقتلني.
, رد بتريثٍ:
, -عارف ومقدر٣ نقطة
, اِربدت بشرتها بحمرةٍ محتقنة، بينما اكتسب صوته إيقاعًا جادًا وهو يتابع:.
,
, -إنتي مش لوحدك، كلنا معاكي، في تعاون كامل بين الجهات الرسمية لحمايتك، وفي نفس الوقت تكليف بالقبض على آسر واللي وراه.
, ضغطت على شفتيها بقوةٍ؛ لكن نهج صدرها في انفعالٍ. راقب هاني اضطراباتها باهتمامٍ، وتحولت أنظاره نحو ماهر الذي واصل حديثه:
, -واحد زيه مش هايكون شغال لوحده، في رؤوس كبيرة بتحركه.
, تمسكت برفضها، وهتفت بصوتٍ متألم:.
,
, -يا ماهر بيه أنا غلطت مرة لما سكت عن اللي عمله فيا، و كاران شاف أذيته ليا، مش هاضيع حقي تاني.
, رد كاران مؤمنًا على أقوالها:
, -نعم، لقد تآذت بشدة، لا يمكن عودتها إليه.
, رمقه ماهر بنظرة ضائقة، قبل أن يبعد عينيه عنه، لينظر إليها برجاءٍ، فامتناعها عن التعاون معه، سيزيد الموقف صعوبة، طرد الهواء من رئتيه، وقال على مهلٍ:
, -صدقيني مش هايلمس شعرة منك.
, علقت عليه بتهكمٍ ساخط:
, -إزاي إن شاء****؟
, قال بغموضٍ مثير للفضول:.
,
, -بالخدعة يا فيروزة.
, لم تبدُ مهتمة بمعرفة التفاصيل، وصاحت معلنة تمسكها برغبتها في الرحيل:
, -أنا مش عايزة غير إني أرجع لأهلي.
, تعهد لها بجديةٍ تامة:
, -و**** كل ده هيتم، بس لما نقبض عليه.
, حملت نبرتها طابعًا من السخرية وهي تعقب عليه:
, -إذا كان الشرطة مش عارفة تمسكه، أنا اللي هاعرف؟!
, تغاضى عن استهجانها قائلاً:
, -أيوه، وبدون أي مجهود.
, تساءلت بتبرمٍ:
, -فزورة دي؟
, أجابها نافيًا:
, -لأ، حاجة بسيطة جدًا.
,
, قطبت جبينها بعبوسٍ، واستدارت برأسها في اتجاه هاني الذي أردف مسترسلاً في شرح معالم الخطة الغامضة:
, -مدام فيروزة احنا هندعي إنك فقدتي الذاكرة مؤقتًا، مش فاكرة أي حاجة سوى إن جوزك بيحبك.
, استنكار ممتزج بالنفور اعتلى تعبيراتها، احتدت نظراتها نحوه، وهتفت في دهشةٍ لازمها الازدراء:
, -نعم؟!
,
, على الرغم من توفير ما يلزمها من احتياجات أساسية، مع معاملة لائقة، تهون عليها لياليها القاسية، إلا أن بقائها في مكانٍ يعج بأمثال معتادي الإجرام كان لا يليق بسيدة مثلها، لم تجابه شيئًا مذلاً كهذا طوال حياتها. وضعت همسة يدها على كف والدتها المسنود على حجرها، مسحت عليه بحنوٍ، وخنقت دموعها التي تنازع للتحرر من حدقتيها، قبل أن تنطق بتفاؤلٍ لم يكن مقنعًا:
, -هانت يا ماما، هتخرجي قريب.
,
, سحبت يدها من أسفلها، وقالت بنبرتها البائسة:
, -مش باينلها يا همسة خروج.
, بلعت الغصة العالقة في حلقها، ورسمت بسمة لطيفة على محياها، لتضيف بعدها:
, -متخافيش يا ماما، المحامي قالنا إن دي إجراءات لازم تتعمل في القضايا اللي من النوع ده.
, ردت عليها بتحسرٍ لا يخلو من الاستهجان:
, -شوفتي مرات خالك؟ عمالة تقول إيه للكل؟
, هتفت في حنقٍ مغلولٍ ضدها:
, -تقول اللي هي عايزاه، المهم النتيجة في الآخر.
, أكدت عليها آمنة من جديد:.
,
, -اقسم ب**** يا بنتي ما أعرف حاجة عن مراته التانية، ولا عمري حتى شوفتها.
, تعقدت تعبيراتها، وصاحت بضيقٍ:
, -هو أنا مش عارفاكي يا ماما،؟ ده مافيش أغلب منك٣ نقطة
, تضاعف الحزن على وجهها، فأضافت مهونة عليها الأمر:
, -إن شاء**** **** هيظهر براءتك قريب.
, تنهدت قائلة بإحباطٍ بائن عليها:
, -يا رب، عشمي فيه كبير٣ نقطة
, للحظة صمتت آمنة عن الكلام، لتتساءل بعدها بقلبها الملتاع:
, - فيروزة كلمتك؟
, أجابتها همسة نافية:
, -لأ لسه.
,
, أخبرتها بهاجسٍ ما زال يراودها إلى الآن:
, -و**** أنا حاسة إنه جرالها حاجة، مكانتش بتغيب عنا المدة دي كلها.
, أخفت ابنتها قلقها هي الأخرى عليها أيضًا، لتقول بوجهٍ عابس؛ وإن كانت نبرتها تُظهر العكس:
, -إنتي في إيه ولا إيه يا ماما؟ خلينا نطلعك من هنا، وبعد كده نشوف أحوالها.
,
, اكتفت بهز رأسها، وأخفضتها محدقة في علب الطعام الموضوعة أمامها، لم تتناول سوى لقيماتٍ معدودة مما أحضرته لها، فمن لديه الشهية ليأكل في مكانٍ كهذا؟!
,
, أعطى إشارته للمعاون الجالس إلى مسافة قريبة منه، ليبدأ في تسجيل أقواله، بعد سماح الطبيب له باستجوابه؛ وإن تعذر الحصول منه على ردود واضحة. تطلع المحقق إلى خليل المستلقي على ظهره، بقيت أنظاره عليه عندما استطرد يسأله بلهجة جادة:
, -أستاذ خليل بتشك في حد معين يكون ورا قتل المرحومة سماح
, نحيبٌ خافت صدر منه لسماعه لهذا اللقب الموجع، ففراقها ما زال يؤثر به كثيرًا. أعاد المحقق كلامه:.
,
, -عايزك تهدى كده، وتركز، عشان تقدر ترد على أسئلتي..
, بالكاد سيطر على نوبة بكائه، والمحقق يكمل بهدوءٍ:
, -خلينا نوصل للي عمل فيها كده، ويتعاقب على جريمته.
, منحه خليل إشارة من عينيه، كتعبير عن تجاوبه معه. لفظ المحقق الهواء من صدره، وسأله بصيغة أخرى:
, -تفتكر مين ممكن يأذي مراتك؟
, أظهر صعوبة في الرد عليه، عندما حرك شفتيه ليقول:
, -مـ، عرفـ، ش.
, هز رأسه بإيماءة روتينية، وتابع أسئلته له:.
,
, -الجيران بيقولوا إن في واحدة زارت مراتك قبل وفاتها بحاجة بسيطة، عندك خبر عن الموضوع ده
, انعكست علامات الاستغراب على محياه، فنادرًا ما كانت تستقبل زوجته الراحلة أحدًا في منزلهما، لعق شفتيه، ورد نافيًا:
, -لأ
, أكمل المحقق استجوابه الرسمي، وقال بنظراتٍ ثاقبة؛ وكأنه يتعمد بهذا أن يراقب ردة فعله:
, -في كلام تاني إن أختك هي اللي كانت عندها.
, تمتم خليل مرددًا اسمها بدهشة عظيمة، كما لو أنه يتساءل:
, - آمنة؟
,
, أكد عليه المحقق بصوته الجاد:
, -أيوه، واحدة من الجيران شافتها عندها.
, نفى خليل بكلماتٍ متقطعة، آمل أن تسعفه في إيضاح الحقيقة:
, -أختـ، ي ما، تعـ، رفش سـ، ماح، أنا، مقولتـ، ش، لحد، عنها.
, رد عليه المحقق بنظراته الذكية:
, -بس بنتك قالت إن عمتها كانت هي اللي عندها.
, ظل خليل يؤكد عليه بجهدٍ شديد:
, - آمنة ما، تعــ، ملش كده.
, -طيب هل بتشك في مراتك الأولى إنها تكون ليها صلة بالموضوع؟
, نطق بإرهاقٍ مضاعف:
, - حمـ، دية!
,
, استأنف المحقق توضيحه:
, -وخصوصًا إن أولادك **** يرحمهم ماتوا بنفس الطريقة اللي اتسممت بيها بنتك، ده بعد ما حصلنا على التقارير الطبية اللي بتؤكد ده.
, بهتت ملامحه، وتقلصت عضلات وجهه، فبدا وكأنه ينازع للنطق بما يعجز اللســان عنه، استجمع بمجهودٍ زائد نفسه ليخبره:
, - حــ، مدية تـ، عملها.
, سأله بهدوءٍ شديد، رغم الوهج الظاهر في عينيه:
, -إيه دليلك على إنها ممكن ترتكب جريمة بشعة زي دي؟
, جاوبه بملامحٍ تحولت للاحتقان:.
,
, -هـ، ي قـ، ادرة، معندهــ، اش قلب، ولا بتـ، حب حد.
, علق المحقق بمنطقية:
, -بس ده مش كلام يتاخد بيه في المحكمة.
, ظل خليل يكرر رغم صعوبة نطقه، بانفعالٍ شديد:
, - حمـ، دية تـ، عملها.
, حاول المحقق استخراج المعلومات منه، وفهم أسبابه؛ لكن دون جدوى، فقد بقي يردد بألمٍ وحرقة:
, -هي، حمــ، دية!
,
, سعى المحقق لتهدئته، ومع هذا فشل، تشنجت أطرافه، وزاد احمرار وجهه، لذا طلب الطبيب المتابع لحالته التوقف عن استكمال التحقيق، بعد ملاحظته للضرر الذي لحق بجسده، جراء انفعالاته المتعصبة، استجاب له الأول، وأنهى استجوابه له، واضعًا المزيد من النقاط الهامة في الاعتبار.
,
, تنهد كأنه خرج من مهمة شاقة، بعد انتظاره لأيامٍ، ليحصل على تفريغ كاميرات محال المنطقة، حيث أظهرت في محتواها، دخول امرأة ما، مختبأة في ****ٍ أسود، لا يُبين معالم وجهها، إلى البناية القديمة، لتمكث بالداخل لبعض الوقت، قبل أن تخرج بعد برهةٍ. هيئتها الجسمانية أشارت لتطابقها الكبير مع حمدية، على عكس آمنة التي بدت مكتنزة إلى جوارها، وأقصر في القامة. حامت الشكوك حول الأولى، وتأكد من صحتها بعد إطلاع الجارة أم دعاء على صورة فوتغرافية تم التقاطها لها بالقسم، لتؤكد أنها من رأتها بالداخل، قبيل إعطائها لمفتاح منزلها لجارتها الفقيدة. تبقى أمام المحقق مهمة أخيرة، تحتاج للتعامل فيها بأبوة أكثر عن مهنيته المعتادة.
,
, رهبة التواجد في مكانٍ كهذا لا يمكن تخيلها على صغيرة مثلها؛ لكن لا مفر من استدعائها لسؤالها شخصيًا، فربما بشاهدتها تظهر الحقيقة كاملة، وبكل ودٍ وألفة، أجلس المحقق الطفلة على الأريكة الجلدية، في حضور ابنة عمتها وزوجها، لإشعارها بالأمان، وكذلك لسؤالها بعد تبديد مشاعر الخوف في نفسها، قدم إليها لوحًا من الشيكولاته، وسألها بلطفٍ:
, -بتحبيها يا رقية ولا لأ؟
, أجابته بتلقائية:.
,
, -ماما قالتلي ناكل حتة صغيرة عشان ماتوجعش أسناني.
, مسد على رأسها، وقال بنفس الوجه المبتسم:
, -برافو، إنتي كده شطورة.
, تركها تعبث بالورقة المغلفة للوح الشيكولاته، ثم ناداها بصوتٍ كان خافتًا:
, - رقية!
, نظرت إليه، فتابع بابتسامةٍ ظهرت مقتضبة:
, -لو سألتك على حاجة ممكن تجاوبي عليا؟
, اكتفت بالإيماء برأسها، فواصل حديثه في هدوءٍ:
, -يا ترى خالتو اللي زارت ماما ولا عمتو؟
, ببساطةٍ منحته جوابًا مباشرًا:
, -أنا معنديش خالتو.
,
, في نفس الأثناء تحفزت همسة في جلستها، وتطلعت بنظراتٍ مترقبة مليئة بالخوف إلى وجه الطفلة، خاصة مع سؤال المحقق الواضح:
, -يعني عمتو هي اللي جت عندها؟
, أتاه ردها قاطعًا:
, -آه.
, انعكست علامات الجدية على تعابيره، وبرزانةٍ أكمل أسئلته:
, -كانت بتيجي كتير؟
, أجابت الصغيرة نافية:
, -لأ
, تنفس بعمقٍ، ولاحقها بسؤاله التالي:
, -طب وعرفتي منين إنها عمتو؟
, جوابها لم يحمل أي مراوغة عندما أخبرته:
, -ماما قالت كده.
,
, نظرة مطولة منحها للطفلة، قبل أن تضيف ببراءة:
, -بس الكيكة بتاعتها وجعت بطني، أنا مش عايزة أكلها تاني.
, شهقت همسة في ارتعابٍ، فتشتت نظرات المحقق عن الطفلة، ليتأمل قسماتها المذعورة، عاود التحديق في وجه الصغيرة، وسألها على مهلٍ:
, -وإنتي عرفتي منين إنها بتاعتها؟
, تلكأت في إجابتها قبل أن تغمغم أخيرًا:
, -ماما قالتلي دي من عمتو.
,
, تضاعفت مخاوف همسة مع اعتقادها الشديد بأن الطفلة بعفويتها تلك، تزيد من توريط والدتها في هذه القضية الشائكة، لهذا تدخلت دون تفكيرٍ في الحوار، ونطقت بصوتٍ خرج مهتزًا، محاولة بهذا الدفاع عنها؛ وإن لم تملك الدليل المادي الملموس:.
,
, -يا فندم أنا عايزة أقول لحضرتك إن ماما كانت بتعامل رقية أكتر من بنتها من وقت ما عرفنا بوجودها، استحالة تأذيها، وهي فضلت أعدة معانا كام يوم، يبقى إزاي هتضرها؟ في حاجة غلط و****، ده احنا معرفناش عنها إلا من خالي.
, رمقها المحقق بنظرة غامضة قبل أن يقول:
, -أنا فاهم شغلي كويس يا مدام.
, هتفت مُصرة على البوح بما يعتري صدرها من هواجس مخيفة:.
,
, -و**** العظيم ما بأكدب، ماما متعرفش عنها حاجة، وأنا اللي جبتها من المستشفى ليها، استحالة تكون شافتها قبل كده، وآ٣ نقطة
, قاطعها محذرًا:
, -يا مدام أنا عارف بأعمل إيه، فلو سمحتي ماتدخليش.
, وضع هيثم قبضته على ذراع زوجته، وأخبرها بصوتٍ خافت؛ لكنه صارم:
, -خلاص يا همسة.
, التفتت نحوه تقول بنواحٍ:
, -يا هيثم و**** ماما بريئة.
, أخبرها مشددًا قبل أن تتلقى توبيخًا مزعجًا من المحقق:
, -سيبي الباشا يشوف شغله يا همسة.
,
, لم تستوعب وسط مخاوفها الزائدة، أن المحقق يستخلص الحقائق الكاملة من فم الصغيرة، لربطها بما جمعه من معلومات أخرى موثقة، وذات الصلة بالمرأة التي زارت والدتها القتيلة، ليكتمل المشهد الناقص، وتصبح الأدلة واقعية، غير قابلة للتشكيك٣ نقطة!
 
١٤


المواجهة، هي الخطوة الأخيرة المتبقية في تحقيقه، لتكتمل كافة الأركان، ويتم إثبات التهمة على المذنبة الحقيقية، قبل إرسال الأوراق الرسمية إلى الجهة القضائية، للنظر في تلك الدعوى، لهذا في الموعد المتفق عليه، وبعد استدعاء الأطراف المنوطة بالشهادة، انتظر المحقق قدوم كلاً من حمدية و آمنة من غرفة الاحتجاز للالتقاء بالشهود، وكانت البداية مع المرأة التي التقت بها حمدية مصادفة عند البقالة، حيث استدرجتها في الحديث لتخرج منها بمعلوماتٍ عن خليل مدعية آنذاك أنها قريبته. تعرفت عليها تلك السيدة على الفور، وهتفت مستخدمة سبابتها في الإشارة نحوها:.
,
, -هي دي اللي قابلتها يا سعات الباشا.
, تنفست آمنة الصعداء، ورفعت بصرها للسماء تشكر المولى سرًا، فدلائل براءتها تظهر تدريجيًا، في حين صرخت حمدية ناكرة معرفتها بهذه السيدة:
, -إنتي كدابة، هو أنا شوفتك قبل كده؟
, أكدت المرأة بشدة، وعيناها تشتعلان في غضبٍ لكذبها الواضح:.
,
, -أيوه شوفتيني، واتكلمت معاكي، بأمارة ما قولتيلي إنك معرفة الأستاذ خليل من البلد، ووريتك مكان بيته، ده أنا كان ناقصني شوية وأطلع شقتي تقعدي معايا.
, التفتت حمدية ناظرة نحو المحقق، وأصرت على كذبها بقولها:
, -محصلش.
, صاحت بها المرأة؛ وكأنها على وشك مهاجمتها:
, -إنتي كدابة٣ نقطة
, ثم نظرت إلى المحقق، وتابعت باقي جملتها، موجهة أصابع الاتهام نحوها:
, -يا بيه هي نفس الست اللي اتكلمت معاها، وأنا مابنساش حد شوفته.
,
, هز رأسه بهدوءٍ، بينما واصلت حمدية هتافها المليء بالإنكار:
, -دول بيفتروا عليا، أنا واحدة ولادي ماتوا، وراحوا مني، إزاي هـ٣ نقطة
, قاطعها المحقق بصرامةٍ:
, -مالوش لازمة الكلام ده.
, ثم أمر المعاون الجالس إلى جواره بتدوين ما حدث، وأخذ توقيع المرأة على أقوالها، لينتقل بعدها للشاهدة التالية؛ وكانت الجارة أم دعاء، والتي بدورها تعرفت أيضًا على حمدية، لتؤكد هي الأخرى، وكامل نظراتها عليها:.
,
, -أيوه يا باشا، دي الست اللي شوفتها عند سماح اللي يرحمها، وقت ما سبت مفتاح الشقة معاها
, احتقن وجه حمدية، وصرخت مستنكرة اعترافها بعصبيةٍ شديدة:
, -هو إنتي جاية ترمي بلاكي عليا؟
, قالت الجارة بنبرة متهكمة، ونظراتها الساخطة تتجول عليها:
, -أعوذُ ب****، الخِلقة دي سهل الواحد يفتكرها.
, سألها المحقق من جديد، لتكون الإجابة قاطعة كذلك:
, -يعني مش الست اللي واقفة جمبها؟
,
, وكانت نظراته موجهة نحو آمنة، تطلعت إليها الجارة، ونفت عنها التهمة دون تفكيرٍ:
, -لأ دي ماشوفتهاش قبل كده٣ نقطة
, حملقت مرة أخرى في ملامح حمدية المتجهمة بغلٍ، وأضافت مشيرة بإصبعها ناحيتها:
, -هي دي يا بيه، وحتى بالأمارة كانت لابسة ****، ورافعة البرقع عن وشها.
, نفت حمدية كلامها بالتمسك بكذبها، فرفعت نبرتها لتصيح في وجهها بحدة:
, -أنا ما عمريش لبست ****، حرام عليكي، اتقي ****.
,
, هددها المحقق بعد أن بدا صراخها خارجًا عن السيطرة:
, -اسكتي أحسنلك.
, رفضت الانصياع لأمره، وقالت ببكاءٍ حاولت استدعائه:
, -يا بيه دول بيفتروا عليا، أنا غلبانة ومظلومة٣ نقطة
, استشاطت نظراتها، واستدارت تحدج شقيقة زوجها بكل ما فيها من كراهية، واتهمتها علنًا:
, - آمنة هي اللي عملت كده.
, شهقت في ارتعابٍ، وقالت برجفةٍ مذعورة:
, -و**** العظيم ما حصل، أنا عمري ما فكرت أذي حد.
, قال المحقق ببساطة:
, -الحقيقة معروفة يا ست آمنة.
,
, هتفت حمدية بنزقٍ، وهي تلطم على صدغيها، لتثير التعاطف حولها:
, -كلكم موالسين مع بعض عشان تودوني في داهية، إنتو بتكرهوني ليه؟ عايزين تلبسوني حاجة معملتهاش، وعيالي لسه آ٣ نقطة
, لم يبدُ المحقق متأثرًا بما تفعله، بل بدا نافرًا منها، لم ينتظر انتهاء نوبة عويلها، وقاطعها بلهجته الرسمية الصارمة:
, -فوقي من شغل الجنان ده، إنتي في كارثة.
, أبعد نظراته عنها، وأكمل أوامره للجارة:
, -امضي على أقوالك.
, ردت عليه أم دعاء بخنوعٍ:.
,
, -حاضر يا باشا، ٣ نقطة
, ثم دمدمت مضيفة بتبرمٍ وهي تنهض من مكانها لتوقع بجوار المعاون:
, -منها لله الظالمة، يتمت البنت، وكانت هاتجيب أجل السُكان كلهم.
,
, صرفها المحقق ليأتي بالشاهدة الأخيرة، والتي حرص أن يستقبلها بنفسه، وبمفردها، ليزيل أي رهبة تعتريها، عندما ترى قاتلة والدتها بالداخل؛ وإن لم تدرك هذا حرفيًا. حدقت رقية في وجه كلتيهما بنظراتٍ قلقة متوترة، وجه حمدية الغاضب كان باعثًا على الانقباض، بينما تعابير آمنة الحزينة كانت تدعو للإشفاق. أجلسها المحقق على حجره، وسألها بصوته الهادئ:
, -مين فيهم عمتو اللي زارت ماما يا رقية؟
,
, لحظات من الترقب سادت على الجميع، في انتظار سماع قولها الفاصل، وزعت رقية أنظارها على الاثنتين، ونطقت أخيرًا بعد صمتٍ قليل:
, -دي عمتو!
, كان ذراعها يشير نحو حمدية، التي انفجرت صارخة بجنونٍ أكبر:
, -إنتي بتقولي إيه؟ مين دي اللي عمتو؟ هو أنا شوفتك قبل كده يا بت إنتي؟
, كانت على وشك الهجوم عليها، والإطباق على عنقها، لولا تحذير المحقق الصارم الذي أوقفها في اللحظة الأخيرة:
, -اهدي كده!
,
, انتحبت ترجوه، بدموع التماسيح التي لم تساعد في تقوية موقفها:
, -يا بيه كلهم متفقين مع بعض عليا، عايزين يلبسوني جريمة معملتهاش، عشان يطلعوا المجرمة الحقيقية براءة٣ نقطة
, ثم صرخت في وجه آمنة بقولها:
, -هي دي عمتها، ليه كلكم جايين عليا!
, كان صياحها بلا طائل، تجاهلها المحقق، وركز انتباهه مع الطفلة، ليبدأ في سؤالها بهدوءٍ، قاصدًا الاستماع مجددًا لتفاصيل زيارتها المشؤومة:.
,
, -ها يا رقية، قوليلنا عمتو دي عملت إيه عند ماما؟
,
, في موقف السيارات القريب من بلدته القديمة، صف شاحنته الصغيرة، تلك التي يعمل عليها حاليًا، أمام أحد المخازن، منتظرًا انتهاء العمال من تعبئة كراتين الزيت. تركهم يكملون مهمتهم على مهل، وأحضر لنفسه قهوة زهيدة الثمن من المقهى الموجود في الجهة المقابلة. رشفة تبعها بأخرى، قبل أن يمتزج مذاقها المرير العالق في جوفه، بطعم التبغ الرخيص الذي يدخنه. وقف شيكاغو مستندًا بظهره على مقدمة شاحنته الصغيرة، تلك التي يعمل عليها حاليًا، في نقل البضائع، من مكانٍ لآخر. تحركت أنظاره في اتجاه حمص الذي خاطبه بتبرمٍ:.
,
, -ها يا عمنا؟ خلصت ولا لسه؟ عايزين ننجز في أم الليلة دي، لسه مشوارنا طويل.
, قال بنوعٍ من التنمر:
, -مكانوش نفسين بنطيرهم في الهواء!
, علق عليه بتهكمٍ:
, -نفسين، تلاتة، إن شاء**** عشرة، خليك على وضعك، بس ماترجعش تبخ في وداني لما تسمع كلمتين مالهومش لازمة من المعلم ناجي.
, هتف في ضيقٍ، وهو يلقي بعقب سيجارته أسفل قدمه:
, -خلاص يا عم حمص، أدي السيجارة طفيناها٣ نقطة
,
, ثم سلط أنظاره على البضائع المتراصة فوق بعضها البعض، وتساءل:
, -النقلة اتوثقت ولا لسه؟
, أجابه حمص وهو يفرك كفيه معًا:
, -كله تمام وألسطا.
, حذره بلهجةٍ أظهرت انزعاجه:
, -مش عايزين حاجة تفلت مننا، المرة اللي فاتت لحقنا كراتين الصيني بالعافية.
, أوضح له بتعابيره المتجهمة:
, -الرك على الحمار اللي ربطهم، مشدش الحبل على الآخر.
,
, تأكد شيكاغو من عقد نهايات الحِبال في الخطافات المعدنية البارزة من صندوق شاحنته، ثم رفع رأسه للأعلى، ليلمح شخصًا يشبه في ملامح وجهه محرز، أمعن النظر فيه، ليتأكد منه، وتساءل بصوتٍ مسموع مخاطبًا رفيقه:
, -هو ده مش المعلم محرز؟
, نظر حمص إلى حيث أشار بعينيه، ورد مؤمنًا عليه:
, -أه هو.
, وجداه يستقل إحدى حافلات الأجرة ذات الحجم المتوسط، لكز شيكاغو رفيقه في كتفه قائلاً له:.
,
, -طب تعالى نسلم عليه، بدل ما يكون شافنا ويفتكرنا طنشناه.
, -معاك حق.
, تحرك الاثنان في اتجاه الحافلة؛ لكن خطواتهما كانت بطيئة نسبيًا، لم يستطيعا اللحاق به، فتوقفا في منتصف المسافة ينظران إلى بعضهما البعض، فقال شيكاغو بزفيرٍ لاهث:
, -المكروباص طلع، نبقى نشوفه عند الدكان.
, سأله حمص بنوعٍ من التطفل:
, -بس إيه اللي جايبه الموقف ده؟
, أجابه بعدم اهتمامٍ:.
,
, -تلاقي في مصلحة هنا كان بيخلصها، ما كان قايلنا زمان إن أهل أبوه من هنا٣ نقطة
, ثم التفت عائدًا إلى شاحنته وهو يتكلم بجدية:
, -طالما مايخصناش مالناش فيه.
, رد باقتضابٍ:
, -ماشي الكلام.
, أمره شيكاغو وهو يعطيه حفنة من النقود، قبل أن يستقر في مقعد السائق:
, -حاسب القهوجي وحصلني.
, على مضض غمغم حمص:
, -طيب.
,
, بعبارات اعتذارٍ متكررة، أبدى الزائر أسفه لتقاعصه في السؤال عن رفيقه طوال الفترة الماضية، بسبب تنقلاته وسفره لأكثر من مكانٍ في وقت قصير، وما إن علم بالكارثة التي حلت على دكانه، حتى هرع إليه يتفقده، والندم يبدو جليًا على قسماته. جلس ناجي على المقعد المجاور لفراش تميم، وأعاد على مسامعه من جديد بخجلٍ لم يخفه:
, -و**** ما كنت أعرف خالص، أنا مش عارف أقولك إيه، أنا مقصر معاك جامد يا صاحبي.
,
, تنهد قبل أن يعلق عليه:
, -حصل خير.
, هتف معترضًا بضيقه الواضح:
, -لأ محصلش، لو أعرف بس اللي عمل فيك كده هاجيبه من رقبته، وأرميه عند رجليك.
, لمحة من السخرية شابت نبرته وهو يخبره:
, -ما احنا عارفينه.
, برقت عيناه في اهتمامٍ، وسأله بتلهفٍ:
, -مين؟ أكيد حد غريب عن منطقتنا، ومايعرفكش؟ مظبوط؟
, بنفس الصوت الهادئ أجابه نافيًا:
, -لأ، ده قريب أوي مننا.
, صدمه جوابه، وصاح يسأله بتحفزٍ:
, -إزاي؟ مين اللي اتجرأ وعمل كده؟
,
, بعد صمتٍ قليل نطق بتعابيرٍ مكفهرة:
, - محرز.
, هبط رده على رأسه كالصاعقة، فانتفض واقفًا، ليردد بعدها بعدم تصديقٍ:
, -نعم؟ قول كلام غير ده!
, أشــار له تميم بيده ليجلس، وقال بصوتٍ لم يبدُ متأثرًا، رغم الضيق المختلج صدره:
, -زي ما سمعت.
, ألقى ناجي بثقل جسده على المقعد، وظل يدمدم بصوته المذهول:.
,
, -مش معقول، ده أنا ممكن أصدق إن أي حد يعمل كده إلا هو، ده إنتو معتبرينه ابن العيلة التاني، حتى الحاج بدير بيستشيره في كل كبيرة وصغيرة، ده غير إن تقريبًا كلمته مسموعة عند كل تجار السوق.
, انقلبت شفتاه وهو يعقب عليه:
, -أهوو ظهر وشه التاني، وأول ما بدأ كان معايا.
, هتف في غيظٍ عظيم:
, -**** يحرقه، أه لو بس أمسكه بإيدي٣ نقطة
, بجهدٍ تحكم في أعصابه، وسأله:
, -وعلى كده هربان فين ابن الـ (، ) ده؟
,
, ضاقت عينا تميم بشدةٍ، قبل أن يجيبه بنوعٍ من السخط:
, -وهو أنا لو أعرف هاسيبه مثلاً؟!
, قال في حرجٍ:
, -طبعًا لأ.
, أضــاف تميم قائلاً بعد تنهيدة مرهقة:
, -مسيره يظهر، والعيون كتير في كل حتة.
, رد عليه رفيقه مشددًا عليه:
, -اعتبرني من عيونك يا تميم، ولو شميت أي خبر عنه هابلغك.
, هز رأسه في استحسانٍ وهو يحدثه:
, -إن شاء****.
,
, مكث ناجي برفقته لوقتٍ لا بأس به، إلى أن حان موعد ذهابه، تركه مضطرًا، وبقي الأخير بمفرده، شاعرًا بالضجر من وجوده غير المستحب في المشفى، حرك أنظاره في اتجاه الطبيب الذي ولج للغرفة، ليتفقده كعادته يوميًا في مثل هذا التوقيت، سأله بروتينيةٍ، وهو يتفحص جانب جسده الأيمن بدقة:
, -إيه الأخبار النهاردة؟
, أجابه تميم بضجرٍ:
, -الحمد****، أنا كويس.
, ثم تطلع إليه متسائلاً بقليلٍ من الصبر المحسوس في نبرته:.
,
, -هو أنا هاخرج إمتى يا دكتور؟
, مازحه الطبيب بلطفٍ، وهو يواصل فحص جانب جسده الأيسر:
, -إنت زهقت مننا ولا إيه؟
, أخبره ببساطةٍ ودون مجاملةٍ:
, -إن جيت للحق أنا مابحبش أعدة المستشفيات.
, ابتسم الطبيب معقبًا عليه:
, -ومين بيحبها أصلاً، بس ده ضروري عشان مصلحتك.
, بنبرةٍ ملولة تابع إخباره بما يجيش في صدره:
, -بس أنا عايز أخرج من هنا، نفسي أرجع أقف على رجلي من تاني، واشتغل زي باقي الناس.
,
, اتجه الطبيب نحو حافة الفراش، مد يده وأمسك بالحامل المعدني المثبت به بعض الأوراق، دقق النظر فيها، ودوّن الجديد من الملحوظات، قبل أن يعاود النظر إليه ليتكلم معه بتفاؤلٍ:
, -هانت، التقارير قدامي بتقول إن التحسن كبير، وده شيء كويس جدًا٣ نقطة
, خبا الحماس من صوته عندما قال:
, -بس آ٣ نقطة
, سأله تميم في توجسٍ:
, -بس إيه؟
, بلع ريقه، ونطق بحذرٍ:
, -الموضوع اللي كلمتك فيه قبل كده، عن قدرتك الإنجابية.
,
, أغمض تميم عينيه قائلاً بألمٍ لن يشعر به أحد سواه:
, -أنا راضي بحكم ****.
, حاول الطبيب أن يبث روح الأمل فيه، فأكمل قائلاً:
, -ونعم ب****، كل شيء ليه علاج، وأنا نصيحتي ليك إنك تتابع مع دكتور أمراض ذكورة، هايفيدك أكتر، وماتحاولش تضغط على نفسك خلال علاقتك بمراتك، أكيد إنت فاهمني.
, بلع غصة مريرة في جوفه، وقال وهو يبتسم بحزن:
, -من الناحية دي اطمن يا دكتور، أنا منفصل.
,
, تفاجأ من تصريحه، فاعتذر الطبيب فورًا، وإحساسه بالحرج يغمره:
, -أسف مقصدش أتدخل في حياتك، أنا غرضي آ٣ نقطة
, قاطعه تميم منهيًا الحوار في تلك الجزئية تحديدًا:
, -مالوش لازمة الرغي فيه، أنا كده مرتاح٣ نقطة
, باعد بينه وبين نظرات الإشفاق الظاهرة على وجهه، ثم حملق في الفراغ مكملاً حديث نفسه بسخرية أشد مرارة:
, -وشكلي هافضل واخد أجازة على طول.
,
, كانت الأرضية الخشبية تهتز تحت قدميها، وهي تتحرك بخطواتها المتعجلة، لتهبط الدرج نزولاً للأدوار السفلى، علامات الاستنكار افترشت وجهها، ونظرات الغضب احتلت حدقتاها، كما لو أنها ستطلق الشرر بعد لحظات. التفتت بثينة ناظرة إلى ابنتها بتأففٍ، واستطردت تلومها بشدةٍ، بعد أن علمت مصادفة باحتفاظها بمقتنياتها الذهبية في منزل الزوجية السابق:
, -بقى ساكتة كل ده يا بت، وسيباهم هناك؟ مش خايفة يتسرقوا؟
,
, ردت عليها خلود ببرودٍ:
, -ما أنا قافلة عليهم الدولاب.
, هتفت بها بحدةٍ، وهي تدفعها بيدها لتخرج من مدخل البناية:
, -دولاب إيه ده اللي هايحوش الحرامي عنهم؟ **** يستر بقى، مدي يالا في خطوتك.
, تكلمت بتبرمٍ، ساحبة ذراعها من أسفل قبضتها:
, -ماشي يامه.
,
, واصلت كلتاهما السير المتعجل، إلى أن أشارت بثينة بيدها لإحدى عربات الأجرة، لتقلهما للمنزل الذي لم يكن بعيدًا، فقط إن استمرت بالمشي لربما وصلت خلال بضعة دقائق. توقفت السيارة أمام العمارة، فترجلت منها أولاً، وأعطت للسائق أقل من أجرته، وكأنها تمنّ عليه:
, -كفاية عليك كده!
, رد السائق معترضًا على إنقاص نقوده:
, -ده مايرضيش **** يا حاجة.
,
, تجاهلت تذمره، وسحبت ابنتها نحو المدخل، ثم أخبرتها بصوتٍ شبه لاهث، جراء المجهود العضلي الذي تبذله:
, -صحيح، خالتك كانت قالتلي إن المعدول ابنها احتمال يخرج على أول الأسبوع الجاي.
, توقفت خلود عن الحركة، وتجمدت محدقة في وجه والدتها التي استقرت في مكانها هي الأخرى، لتهتف الأولى بعدها بسخطٍ عكس نقمها الشديد عليه:
, -وأنا المفروض أعمله إيه؟ زفة وفرح، ولا أقف أتحزم وأرقص في وسط الحتة؟!
,
, أشــارت لها أمها لتمضيا قدمًا، وقالت ببرودٍ سمج:
, -ماتعمليش حاجة، أنا بأقولك من باب العلم بالشيء.
, لم تنكر أن نيران الحقد ما زالت متقدة بداخلها، تكره كل ما له صلة به، وما يذكرها بما خسرته، سنوات متعاقبة من عمرها، انتظارها الطويل لأجل الفوز بحبها، وفي الأخير كان نصيبها الهجر والتعاسة، ونيل لقب (مطلقة). طغى غليلها عليها، فلفت رأسها نحو والدتها، أثناء صعودها، تسألها بخبثٍ:.
,
, -صحيح إنتي هاتسيبي مرات ابنك تبرطع على مزاجها؟ أنا بيتي يتخرب وهي تعيش وتتهنى؟
, ردت بأنفاسٍ بطيئة، تحمل الوعيد:
, -أنا بس أفوق وأروقلها، وهاطلع البلى الأزرق على جتتها.
, سألتها بسخطٍ:
, -هتعملي إيه يعني فيها؟ وماتنسيش الشقة باسمها!
, بالغت والدتها في إظهار نقمها عليها بإسهابها المزعج:
, -محظوظة بنت الفقرية، مكانتش تحلم بكده، جوز وشقة و**** أعلم إيه تاني.
, رددت خلود بغيظٍ:.
,
, -النحس بس اللي راكبني أنا، لا طولت بلح الشام، ولا عنب اليمن.
, قالت بثينة من خلفها:
, -أنا قلبي حاسس إن معمولك عمل، لازمًا أوديكي عند شيخ يفكه.
, قلبت شفتيها، وتساءلت في سخريةٍ:
, -ومين بقى اللي عاملهولي؟
, ببساطةٍ أجابتها؛ وكأنها تختلق الأعذار لفساد حياتها:
, -أكيد واحدة حسداكي على النعمة اللي كنتي فيها، أخدة أجدع شاب في المنطقة، مع الحسب والنسب، و٣ نقطة
,
, كانت يائسة للحد الذي جعلها تصدق مجددًا، أن فيروزة هي من تقف وراء فشل زيجتها، توحشت نظراتها، وغلف حدقتاها كراهية مقيتة، لتنطق بعد من بين أسنانها، بزفيرٍ محموم:
, -مافيش غيرها!
, لم تفهم والدتها هسهستها، وسألتها:
, -بتقولي إيه يا خلود؟
, توقفت أمام باب منزلها، وأخبرتها بصدرٍ ناهج، يعبر عن انفعالها المتصاعد:
, -أنا شاكة يامه في بوز الإخص اللي اسمها فيروزة.
, لوت والدتها ثغرها، ونطقت في استياءٍ واضح، بنبرة أقرب للوم:.
,
, -هنرجع تاني للسيرة الفقر دي؟ أنا مصدقت إنك فوقتي من أوهامك.
, انفجرت تصيح بغضبٍ أدهشها:
, -هي يامه اللي استكترت عليا جوزي، وشغلت تفكيره، أكيد عملتله حاجة تسحره بيها، تكرهه فيا، ده كان قرب يبقى زي الخاتم في صوباعي.
, كتمت رغبتها في نهرها مؤقتًا، فهي أمام مهمة محددة، لفظت الهواء بقوةٍ، وأشارت لها بعينيها تأمرها:
, -خلينا نشوف الحكاية دي بعدين، وافتحي الباب، عايزين ننجز في يومنا.
,
, صرف كليهما من الغرفة، ليحظى بقدرٍ من الخصوصية معها، وذلك ليتسنى لها معرفة تفاصيل خطته دون مقاطعة سخيفة من كاران، أو تعليق موتر من الطبيب هاني. كان شاكرًا لمجهوداتهما في دعمها؛ لكنه بحاجة لبث الثقة في نفسها المذبذبة لتقبل بالتعاون معه عن اقتناعٍ تام. تنفس ماهر بعمق، ونظر بلا حرجٍ في عينيها، ليستطرد قائلاً بصوت اكتسب طابع الجدية:
, -بيتهيألي كده هنعرف نتكلم على راحتنا.
,
, ضغطت على شفتيها، ونظرت بشيء من الارتباك نحوه مع إتمامه لعبارته:
, - فيروزة أنا عارف إن اللي بأطلبه منك مش سهل، ومعاكي حق ترفضي.
, تلجلجت وهي تتهرب منه:
, - ماهر بيه، أنا متعودش أخذل حد طلب مني حاجة، بس الموضوع ده بالذات صعب أوي عليا.
, رجاها بخفوتٍ، وهو يميل بجسده نحو فراشها قليلاً:
, -أنا عايزك تسمعيني الأول قبل ما تاخدي قرارك النهائي، وفي كل الأحوال هرجعك مصر تاني.
,
, أومأت برأسها تستحثه على الحديث، بالرغم من الخوف المتسلل إليها:
, -اتفضل.
, أراح ماهر ظهره للخلف، وأردف يشرح لها:
, - آسر مكانش مجرد صاحب عمري أنا و وجدي، ولا حتى كنا بنعتبره المحامي النبغة، ده كان بيدخل بيوتنا، بيقعد وسط أهلنا، بيتكلم مع إخواتنا كأنه واحد مننا، ويمكن لما اتقدملك، كان صعب يترفض، باعتباره الشخص المناسب، اللي فيه كل الإمكانيات المناسبة.
, قالت في أسفٍ وألم، وهي مدركة كليًا لتبعات سوء اختيارها:.
,
, -معاك حق.
, سألها متحققًا:
, -تفتكري واحد دماغه داهية زي دي، مش عامل حسابه إزاي يأمن نفسه من الخطر؟!
, نظرت له بتوترٍ، فتابع بمنطقيةٍ:
, -سهل جدًا يطلع زي الشعرة من العجينة من أي ورطة يتحط فيها، طالما مافيش الدليل اللي نقدر ندينه بيه.
, ما أملاه عليها تعتبر افتراضات لا يمكن استبعاد حدوثها، وأضاف عليها بلهجته الجادة:.
,
, -كمان مصادرنا الخاصة قالت إنه شغال في حاجات مشبوهة، ده غير تجارة المخدرات، يعني متورط في غسيل أموال، بيدير مواقع ليها علاقة بـ٣ نقطة
, لحظة من التردد سيطرت عليه قبل أن يوضح لها:
, -بالدعارة.
, اشتعل وجهها في حمرةٍ غاضبة لتصريحه الأخير، ورمشت بعينيها في حرجٍ أكبر، عادت لتركز انتباهها معه وهو يختتم حواره قائلاً:
, -فمتستبعديش يعمل أي حاجة عشان يجبرك تكوني معاه، وتنفذي كل أوامره.
,
, نكست رأسها في خزيٍ، وأخبرته بعد لحظة من الاستغراق في التفكير:
, -للأسف هو عمل كده.
, تقلصت تعابيره متسائلاً:
, -إزاي؟ طلب منك حاجة معينة؟
, قبل أن تتراجع عن رأيها، تسلحت بشجاعتها لتطلعه على الحقيقة، وقالت بلعثمةٍ خفيفة:
, -هو، فبرك فيديوهات ليا، وبيهددني بيها٣ نقطة
, اختنق صوتها، وظهرت به لمحة من العصبية حينما تابعت مؤكدة، وعيناها تلمعان بعبراتٍ حبيسة:
, -بس أقسم ب**** مش أنا اللي موجودة فيها.
,
, لم يشكك في أقوالها، وطمأنها بهدوءٍ:
, -سهل نثبت تزييفها، وبالعكس ندينه كمان بيها، ما هو التكنولوجيا زي ما فيها الجانب الإيجابي فيها برضوه الجانب الوحش.
, تشعبت روحها المستنزفة بقدرٍ من إحساس الارتياح، وسألته بلهفةٍ:
, -بجد يا ماهر بيه؟
, رد دون جدالٍ:
, -أيوه طبعًا، وأكتر من كده كمان، هنسجنه، كل بس اللي عايزه منك، تمثلي دورك كويس.
,
, سرت عدوى الارتجاف في بدنها، وانتشرت في كامل أوصالها. بلعت ريقها في حلقها الجاف، ونظرت إليه قائلة:
, -بس أنا خايفة.
, بتمهلٍ خاطبها:
, -طبيعي تخافي، لكن أنا واثق إنك هتنجحي.
, لم تكن متيقنة من نجاحها، شعرت بمزيدٍ من الخوف يزحف إليها، انتبهت له مجددًا عندما أكمل:
, -في جزء يخصنا هنقوم بيه، من تأمينك، وزرع أجهزة تنصت عالية الدقة في المكان، وجزء تاني عليكي.
, انزوى ما بين حاجبيها وهي تسأله:
, -إيه هو؟
,
, جاءها جوابه واضحًا، ومباشرًا:
, -اعتراف شفهي منه بجرايمه.
, احتجت باستهجانٍ كبير:
, -حضرتك بتطلب مني المستحيل٣ نقطة
, ثم توقفت لهنيهةٍ عن الكلام، قبل أن تضيف، وهي تشير بيدها:
, -ده حاول يقتلني عشان بوظتله جهاز، إزاي هقدر أخليه يعترف ببساطة إنه آ٣ نقطة
, بملامحٍ جادة قاطع استرسالها:
, -بالحيلة يا فيروزة، أومال احنا قولنا هتدعي إنك فاقدة الذاكرة ليه؟ ودي مهمتك تستخدمي مهارتك كزوجة جميلة في استدراجه.
,
, حملقت فيه مطولاً بعينين تائهتين، ما لم يعلمه الضابط ماهر أو غيره، أن آسر أبعد ما يكون عن التأثر بمفاتنها الأنثوية، إن أرادت حقًا استغلالها في إثارته، وسلب عقله، فهي من وجهة نظره منقوصة الإغراء، لا تصلح إلا للسخرية والازدراء!
,
, توسدت أحضانها، مستشعرة الدفء الأمومي النابع منها، بعد أن عشش الحزن قلبها وملأه بالهموم الثقيلة، فمنذ إطلاق سراحها، تبدلت أحوالها للأفضل قليلاً، وأصبحت في حالة من الغبطة والانتشاء، رغم قساوة الحقائق المفجعة، إلا أن براءة والدتها عنت لها الكثير. أبعدت آمنة رأس ابنتها عن صدرها، ونظرت لها بحنوٍ، قبل أن تقول لها:
, -مش كفاية بقى كده يا همسة؟
, ارتمت مجددًا في أحضانها، وقالت بابتسامةِ رضا:.
,
, -عايزة أشبع منك يا ماما، إنتي مش متخيلة الأيام دي عدت عليا إزاي.
, تنهيدة معبأة بأوجاعٍ كبيرة تحررت من صدرها، لتقول بعدها:
, -الحمد****، **** أظهر الحق، واتنصفت في النهاية، مع إن قلبي موجوع على ولاد أخويا.
, اعتدلت همسة في جلستها، وحدقت في والدتها بنظراتٍ منزعجة وهي تردد:
, -**** ما يسامحها، هي اللي عملت فيهم كده، قلبها الإسود خلاها تيجي على الكل، وتأذي الأقرب ليها.
,
, تساءلت آمنة في توترٍ، وعيناها تفتشان عن الطفلة:
, -أومال فين رقية؟ أنا مش سمعالها حس.
, ابتسمت وهي تخبرها:
, -موجودة عند الحاج بدير.
, حل الضيق على ملامحها، وهتفت في إنكارٍ حرج:
, -يادي العيبة، كمان مشيلينه هم البت؟
, ردت موضحة الأمر لها:
, -لا بالعكس يا ماما، ده بيعاملها ولا كأنها حفيدته.
, همّت بالنهوض، وقالت في عزمٍ:
, -طب تعالي نروح نجيبها، وبعد كده نطلع على أبوها، ميعاد زيارته جه.
, هزت رأسها هاتفة:
, -ماشي.
,
, تساءلت آمنة وهي تتجه نحو غرفة نومها بقلبٍ ظل مشغولاً على قطعة منها:
, -مافيش جديد برضوه عن فيروزة؟
, ضمت شفتيها في أسفٍ، قبل أن تنطق نافية:
, -لأ يا ماما.
, رفعت والدتها رأسها للسماء، لتتضرع للمولى في رجاءٍ كبير، وذاك الهاجس مازال يزعجها:
, -استرها يا رب عليها.
,
, راقبه من مسافة شبه آمنة، تحول دون رؤيته له؛ لكنه ضجر من الانتظار والترقب، كان يريد الصعود إليها، فما معه من أموال قد نفذ، وباتت هي مصدره المتاح للإتيان بما ينقص عليه. استغرق محرز في أفكاره اللئيمة، إلى أن وصل لفكرة داهية، حتمًا ستكون لها مفعول السحر، في إعطائه الغطاء الجيد، لذا بمجهودٍ بسيط، وحيلة مستهلكة، ادعى بالكذب قيام ذاك الشاب المرابط أمام بناية بثينة بالتربص بالفتيات، يعاكسهن جيئة وذهابًا، بكلماتٍ خادشة للحياء، فاستثار حمية الرجــال، والتفوا حوله يتجادلون معه، مما منحه فرصة ذهبية للتسلل إلى الداخل. قفز الدرجات علوًا ليصل إلى طابقها، ودق الباب منتظرًا فتحها له، لم يجد أي استجابة منها، فاختلج وجهه تعابير الغضب، ولعنها بألفاظٍ نابية، قبل أن يتوعدها:.
,
, -وربنا ما هاسيبك، مش بعد العز اللي دوقتيه على إيديي تطنشيني دلوقتي.
, توارى في بقعة معتمة بالطابق العلوي عندما سمع وقع أقدام آتية من الأسفل، رفع رأسه يراقب القادم بحذرٍ شديد، تقوست شفتاه ببسمة شبه فرحة، وقد لمح بثينة تدس المفتاح في القفل، منتظرة أمام عتبة منزلها مع ابنتها، همهم لنفسه في نشوةٍ:
, -ده أنا حظي من السما.
,
, بمجرد أن قامت بفتحه، حتى وثب في خفةٍ، وتبعهما سريعًا، ليلحق بهما قبل أن تقوما بغلقه. شهقت خلود في فزعٍ، عندما شعرت بيدٍ تجذبها من **** رأسها، انتزعه عنها، ودفعها للأمام ليتمكن من وصد الباب ورائه، جحظت بعينيها في ارتعابٍ عند رؤيته، وزاد اتساع بؤبؤيها مع إشهاره لمديته الحادة، شُل تفكيرها لحظيًا من أثر المفاجأة، وقبل أن تفكر في الهروب قبض عليها بذراعه، لفه حول عنقها، ولامس بطرف المطواة الحاد جلد عنقها. قاومته خلود برجفةٍ عظيمة، ثم صرخت مستغيثة بوالدتها:.
,
, -الحقيني يامه!
, عادت بثينة إلى ابنتها، وهي تحمل في يدها حقيبة يدها المعبأة بالمشغولات الذهبية، تفاجأت هي الأخرى بوجوده في صالة منزلها، ارتخت أناملها عن الحقيبة، وظهرت أمارات الرعب على ملامحها، كانت على وشك الصراخ، لولا أن حذرها مهددًا بلهجةٍ صارمة:
, -لو فتحتي بؤك، هادبح بنتك قصادك.
,
, تحولت أنظارها المذعورة نحو خلود، لم يكن بالمازح، وطرف ذاك النصل الحاد يغرز في عنق ابنتها. كتمت بظهر كفها فمها، لتؤمئ بعدها برأسها كتعبيرٍ عن طاعتها التامة له. تحرك محرز في اتجاهها، ساحبًا معه ابنتها الأسيرة، مُخاطبًا إياها بلومٍ:
, -مش قولتلك هاجيلك تاني، افتكرتيني بهزر معاكي؟
, هزت رأسها بالنفي، فصاح متسائلاً بتشنج:
, -فين الفلوس؟
, تقطع صوتها وهي تخبره كذبًا:
, -ملحقتش أجيب حاجة.
,
, رمقها بتلك النظرة النارية، ليهدر بها بهياجٍ:
, -عليا بردك؟ ده إنتي نايمة على كنز يا ولية، أومال الألوف اللي كنتي بتاخديها مني راحوا فين.
, واصلت كذبها بقولها:
, -مش هنا يا محرز.
, هدير صوته المنفعل ارتفع أكثر حينما سألها:
, -أومال فين؟ شكلك عايزة تخلصي من بنتك..
, ثم غرز النصل أكثر في جلدها لتصيح خلود في ألمٍ، نظرت الأخيرة إلى والدتها، وفي عينيها استجداءٍ مرتعب، ثم رجتها بشدة:.
,
, -إديله يامه اللي هو عايزه، بدل ما يموتني٣ نقطة
, وقبل أن تختلق كذبة مكشوفة، بادرت خلود مقترحة عليه:
, -دهبي موجود في شنطة أمي، خده يا محرز، كله ليك، أنا مش عايزاه.
, برقت عيناه في اهتمامٍ، بينما انحنت بثينة تمسك بالحقيبة، ضمتها إلى صدرها؛ وكأنها ترفض المساومة به مقابل حياة ابنتها. صــاح محرز يأمرها:
, -هاتي الشنطة يا ولية؟
, سألته بعينين بارزتين، وقد ازداد تشبثها بالحقيبة:.
,
, -هتعمل بالدهب ده كله إيه؟ ده حق بنتي، اللي طلعت بيه من جوازتها.
, بينما هتفت خلود تتوسلها، وهي ترى بأم عينيها جدالها العقيم معه:
, -يامه إديهوله.
, ألصقت بثينة الحقيبة بصدرها أكثر، وصرخت في ابنتها:
, -إنتي مش فاهمة حاجة، محرز ده طماع، خربها على نفسه، وعايز يخربها علينا احنا كمان.
,
, أدرك محرز من تصرفها الأرعن، أنها لن تمنحه ما يريد، إن لم يكن جادًا في تهديده، لهذا مرر النصل بقساوة على عنق ابنتها، قاصدًا إحداث شقًا غائرًا فيه، وهو يقول لها بنظراتٍ امتلأت بقساوةٍ خالية من الرحمة:
, -الظاهر إنك مستغنية عن بنتك.
,
, اللون الأحمر القاني الذي تفجر بغرازة من جلد ابنتها، أكد لها تنفيذه الصادق لتهديده، خاصة بعد أن تركها تصارع الموت، لوسة عقلية أصابت بثينة، بعد رؤيتها للمشهد الدموي العنيف، صرخت في هلعٍ، واندفعت نحوه تهاجمه؛ لكنه تفاداها بمهارةٍ، ومد قدمه ليعرقلها، فتكومت بجسدها الممتلئ بالشحم على الأرضية، وقبل أن تستفيق من صدمة ارتطامها الموجع، كان مُطبقًا على فكها، يعتصره بقبضته بقوةٍ. رفع محرز مديته للأعلى، وبنفس النصل الملوث بدماء ابنتها، غرزه بوحشيةٍ في لسانها قاصدًا قطعه، وهو يخبرها بصوتٍ كالفحيح:.
,
, -كنتي اشتريتي حياتك وحياة بنتك يا خالتي٣ نقطة!
 
١٥

في العمر لحظة، يحسم فيها الإنسان اختياراته؛ إما بالسير على طريق الصراط، أو الانحراف نحو غياهب الضلال، وقد كان اختياره! ما زالت قبضة محرز تعتصر فك ضحيته الجديدة، أكمل قطع لسانها في لمح البصر، مثلما اعتاد أن يقطع ثمار الفواكه عن أغصانها العالقة في سرعة وحرفية، ووسط الدماء المتفجرة من فمها تابع لومه لها:
, -حياتكم مكانتش تسوى شوية دهب يا خالتي؟!
,
, تلوت بثينة بألمٍ شديد، وعيناها تبكيان في حرقةٍ أشد، كتم بيده صراخها المبتور، وعلى وجهه تلك النظرة المظلمة، اعتدل في وقفته، ناظرًا في اتجاه خلود، وجدها تسير بتعثرٍ، تترنح في خطواتها كلما سارت للأمام، أدرك أنها تحاول الفرار منه قبل أن يطالها، كانت كلتا يديها حول عنقها النازف، همَّ باللحاق بها؛ لكن أوقفته بثينة بالتعلق في ذراعه، فما كان منه إلا أن غرز المدية مجددًا في صدرها، ليصدر منها خرير متحشرج.
,
, تحرر منها بسهولةٍ، ولحق بابنتها التي أمسكت بالمقبض، وقبل أن تديره التف ذراعه حول رقبتها، جذبها بقوته الجسدية للخلف، وأعاد وضع النصل الحاد على جرحها الغائر ليكمل نحر عنقها، وهسيس صوته يُخبرها في أذنها:
, -أمك حكمت عليكي بالموت!
,
, اجتاحها ألمًا حارقًا ألهب أنسجتها الجريحة، مع زيادة تعميقه للنصل، حينها مر شريط ذكرياتها أمام عينيها، بكل حلوه ومُره: طفولتها المذبذبة، عزاء أبيها المحترق، آمال مراهقتها المُطعمة بالزواج من الرجل الوحيد الذي نذرت له قلبها، خطبتها لـ تميم ؛ فارس أحلامها، إيداعه السجن، انتظارها الطويل، لقائها معه الخالي من حرارة الاشتياق، ليلة زفافها، افتقارها لنشوة الحب في حياتها، تلهفها على الإنجاب، دسها لحبوب الدواء في طعام زوجها، شكوكها عن حبه لغيرها، خبر حملها، تلاه انفصالها، قتلها لما كان ينمو في أحشائها، انغماسها في أحزانها.
,
, رن في أذنيها كلام تميم الأخير لها، فتسابقت عبراتها المقهورة، وامتزجت بالدماء الساخنة، كانت في أعماقها تخشي من مواجهة الحقيقة، لم يكن يُحبها، ومع رحيلها المؤسف لن يذرف العبرات لفراقها، ستغدو سرابًا بمضي الأيام؛ وإن حزن عليها قليلاً، غمرها المزيد من القهر، لتخرج بعدها شهقة أخيرة محملة برائحة الموت، بأهةٍ مفطورة الفؤاد على حياة سلبت منها عنوة، ولم تنل في نهايتها إلا الشقاء، فارقت خلود الحياة للأبد.
,
, تراخت أطراف خلود، وهمد جسدها كليًا خلف ذراع محرز القابض عليها، لم يجفل للحظة، ولم تطرف عيناه رهبةً؛ وكأنما اعتاد على ذبح الأبرياء كلما تعارض وجودهم مع مصالحه. سحبها للخلف، وأسند ظهرها على الحائط، ليلقي نظرة أخرى على والدتها الغارقة في دمائها. جثا على ركبته ليتفقدها؛ لكن جذب أنظاره وهج الذهب البارز من حقيبتها، زحف سريعًا إليه؛ وكأنه تذكر سبب مجيئه منذ البداية بعد أن التهى بهما، نظر إلى القطعة المغرية بعينين طامعتين، قبض عليها بيده الملوثة بالدماء، برقت حدقتاه في توترٍ، عاد الآن إلى رشده، وأدرك أن بقائه في هذا المنزل قد طال كثيرًا.
,
, مسح يده في سترته الداكنة، ليخفف من الحمرة العالقة بها، ثم خبأ الحقيبة بداخلها، أسفل إبطه، ليهرع بعدها خارج المنزل، دون أن يهتم بغلق الباب ورائه، هبط الدرجات بخطواتٍ قافزة، اصطدم بإحدى الجارات وهي في طريقها للصعود للأعلى، نهرته بتزمتٍ، محاولة رؤية ملامحه:
, -ما تبص قدامك، متسربع على إيه؟
, لم تتمكن من تبينه، فمصمصت شفتيها، وأمسكت بالدرابزين متابعة صعودها وهي تدمدم بتبرمٍ:
, -معدتش حد بيراعي الأصول أبدًا.
,
, وقفت تلتقط أنفاسها بعد هذا المجهود المرهق لجسدها المسن، عند بسطة الدور التالي، قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في اندهاشٍ، فقد لمحت باب جارتها بثينة موارب، دفعها الفضول للاقتراب، ورؤية ما يدور بالداخل، خاصة مع انتشار بقع حمراء اللون على طول البلاط، وقبيل العتبة. أسندت يدها على الكتلة الخشبية لتحركها، وصوتها العالي يُنادي بألفةٍ:
, -يا أم هيثم؟ إنتي جوا ياختي؟
,
, وما إن فتحته، حتى اتسعت عيناها على آخرهما في فزعٍ لم تجابهه طوال سنوات عمرها، تراجعت للخلف وهي تنتفض، ثم صرخت صرخات متعاقبة بها استغاثات مليئة بالهلع:
, -يا نصيبتي! الحقونا يا خلق هووووو! قتلوهم!
, أحدث صراخها المرتفع صخبًا مدويًا، جعل الأبواب المغلقة تُفتح على مصرعيها.
,
, بأعجوبةٍ أفلت من الإمســاك به، عبر تسلله الخفي من منور البناية الخلفي، ليجد نفسه في الشارع الجانبي، ومنه انتقل إلى الأزقة الضيقة، إلى أن بات في مأمنٍ من أي تهديد من السكان، ومع هذا لم تهدأ دقات قلبه. انزوى محرز في بقعة معتمة، مخفية عن الأعين، نظر إلى يده المرتعشة، كور أصابعه ليتحكم في تلك الحركة اللا إرادية، أمعن النظر في الحمرة العالقة بكفه، ليشرد لحظيًا ويتحول كل شيءٍ إلى أطيافٍ وذكرى، خُيل إليه أنه عاد إلى سنوات طفولته الأولى، وفي أذنيه ترن الهمهمات المألوفة لأناسٍ رحلوا منذ زمنٍ عنه، عندما كان يعطف عليه أثرياء بلدته بالقديم من الثياب، والفضلة من الطعام. لم يفهم شيئًا آنذاك؛ لكنه كان سعيدًا بما يجودون عليه، معتقدًا أن ذلك السخاء نابعًا من محبتهم له، فيما بعد أدرك أنه من إحسانهم عليه.
,
, نقم محرز حياته الفقيرة المعدمة، تلك التي جعلته في أنظار الآخرين من ذوي العوز والحاجة، لا فارق بينه وبين المتسول المشرد سوى بأن والده يعمل كأجير لدى واحدًا من الأعيان، تصادق مع ابنه، ولازمه أغلب الوقت، فلم يعرف غيره. شاع التجهم في محياه وقد طفى في عقله ذكرى طمرها في أعماقه، تجسد المشهد بكامل تفاصيله في وعيه، ليجد نفسه في عمر الثانية عشر مع صديقه الوحيد، ينتظر منحه بالفتات المتبقي منه ليصير مثله، وعلى غير المتوقع نشب بينهما شجارًا من العدم، خلال تواجدهما بالقرب من المصرف الزراعي القديم، حينما مازحه رفيقه بنوعٍ من التفاخر، وهو ينظر للسماء التي اتشحت بالسواد:.
,
, -أبويا أغنى واحد في الناحية دي، يقدر يشتري أي حتة يشاور عليها بالناس اللي فيها.
, رد ساخرًا منه:
, -مش للدرجادي.
, أطلت نظرة احتقارٍ منه قبل أن يرد بوقاحةٍ؛ وكأنه يعايره:
, -إيش فهمك إنت، إذا كان أبوك وعيلتك كلها شغالين عندنا بالأجرة.
, بدأ الغضب يتصاعد في صدره، وحذره بأنفاسٍ مختنقة:
, -بلاش الكلمة ده!
, علق بنفس أسلوب الازدراء ليستفزه:
, -ما دي الحقيقة، وإنت نفسك شاحت اللي لابسه مني.
, هدر به في عصبيةٍ:
, -أنا مش شحات.
,
, ضحك ساخرًا منه قبل أن يهينه:
, -بلاش النفخة دي، أومال جايب الجلاليب دي منين؟ من أبعدية أبوك؟
, كور قبضته ضاغطًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصله، تنفس بعمقٍ، وانعكس على وجهه حمرته الغاضبة، أطلق زفرة بطيئة –ومسموعة أيضًا- من بين أسنانه، أنذره بعدها بصدرٍ يطق فيه الحنق الشديد:
, -متغلطش أحسنلك!
, أولاه الأخير ظهره، بعد أن رمقه بنظرةٍ متعالية، ثم قال بنبرة غير مبالية، لا تخلو من الاحتقار:.
,
, -اتكلم على أدك يا محرز، اللي زيك هايعيشوا ويموتوا خدامين عند اللي زينا.
,
, بلغ غضب محرز أقصــاه، وبات يسمع دقات قلبه المتلاحقة، لم يتحمل إهاناته الجارحة، أراد إسكات صوته المقيت المحتقر لشخصه، فوقعت أنظاره على حجرٍ مهمل على الأرضية الطينية، انحنى ليلتقطه، كان قاسيًا، وحاد الأطراف في راحته. قبض عليه بشدةٍ، وتبع رفيقه المتغطرس رافعًا الحجر للأعلى، لم يتردد للحظة حينما هوى به على رأسه قاصدًا سحقها، صرخ الأخير من الألم المفاجئ، ووضع كلتا يديه على موضعه؛ لكن عاجله قاتله بضربة أخرى قوية، أفرغ فيها كل ما يحتويه صدره من حقدٍ وغل، ولسانه يصرخ فيه:.
,
, -أنا مش خدام عندك، مش خـــــدام!
, استمر في عنفه المميت حتى هشم عظم رأسه، وجعله يهلك صريع الغدر، أفاق من نوبة هياجه على منظر الدماء المتفجر، واللحم المتناثر. هلع في ارتعابٍ، وألقى بالحجر على الأرضية الطينية، ناظرًا إلى راحته التي امتلأت بالشقوق والجروح الغائرة.
,
, انهار جالسًا قبالته، يحدق فيه بعينين ضائعتين، فاقدًا إحساسه بما حوله، تخشب كامل جسده، وبدا كالأصنام في جموده، استمرت تلك النظرات الشاردة على وجهه الشاحب، يراقب جثمان رفيقه الوحيد في صمتٍ، لا يعرف ماذا يفعل، غمره شعورًا عظيمًا بالندم، بكى مقتله، وأبدى حزنه على خسارته، لكن صدى كلماته الجارحة عاد ليفسد توبته قبل أن تبدأ، فتوقف عن البكاء، وتطلع إليه بوحشية، ليدمدم بعدها بصوته الباكي؛ وكأنه يلقي بالذنب عليه:.
,
, -إنت اللي عملت في نفسك كده! أنا قولتلك بلاش، بس إنت ماسمعتنيش.
,
, أخذ يردد تلك العبارات مرارًا وتكرارًا على أمل أن ينبعث مجددًا ليخبره بعفوه عنه؛ لكن فاضت الروح لبارئها، وبقيت يداه ملوثة بدمائه. فزع لرؤيتها على جلده، فغمسها في الطين علها تزيل آثارها القاتمة، وصوت أنفاسه اللاهثة يصدح في سكون الليل، يقاطعه صوت خرير المياه الجارية في المصرف. بقي على تلك الوضعية المضطربة لوقت طويل، استغرق في أفكاره السوداوية حتى لم يعد يدرك كم مضى عليه وهو جالس هكذا، في الأخير سول له شيطانه التخلص منه، ليواري الثرى عن جريمته، وإلا لهلك معه، لهذا استجمع نفسه، وقام بسحبه من ذراعيه نحو حافة المصرف، ليلقي بجثمانه في المياه، وما هي إلا لحظات وابتلعته ظلمتها الباردة.
,
, وقتها عاد إلى كوخه مرتعشًا، محمومًا، في حالة من الهذيان والرعب، ظن والده أن مسًا من الجنون أصابه، بناءً على التخاريف المنتشرة آنذاك، ولم يظن أحدهم أن ما طاله جراء شعوره المتعاظم بالذنب. لاحقًا طفت جثة القتيل على سطح المياه في إحدى البلدات المجاورة، فاعتقدوا أنه تعرض للسرقة والقتل، على يد أحد قطاع الطرق، ولم يتم التوصل إلى شيء يدين شخصًا بعينه، لتؤيد بعدها القضية ضد مجهول.
,
, أفــاق محرز من شروده على صوت أبواق متلاحقة، انتبه إلى نفسه، وانتظر هدوء الحركة من حوله، ليشرع بعدها في مواصلة هروبه قبل أن يتم الإمساك به.
,
, كقنبلةٍ مدوية انتشر الخبر المفجع في أرجاء المنطقة، وتزاحم مئات الأشخاص حول البناية لرؤية ما حدث، وكأن سبقًا صحفيًا بالمكان، كما تواجدت عربات الإسعاف لنقل الضحيتين، وفرض أفراد الشطرة طوقًا أمنيًا حول مسرح الجريمة ريثما يتم الوقوف على أبعادها الغامضة، وبدأ المحققون في استجواب الجيران والمارة، لجمع المعلومات المتاحة، علها تفيد في سرعة القبض على مرتكبها.
,
, روع هيثم وانفطر قلبه، مستعيدًا في ذهنه نفس الذكريات المؤلمة، فور سماعه لتلك الأخبار القاسمة للأظهر؛ هرع إلى منزل أبيه، لا يعرف كيف بلغه، اخترق الحشد، وقلبه يئن في حسرةٍ، بلغ الطوق الأمني، لكن منعته الشرطة من اجتياز الحواجز، صرخ بهياجٍ وهو يحاول المرور رغمًا عنهم:
, -دي أمي وأختي.
, أشفق عليه الحاضرون، وتدخل أحد الضباط ليهدئ منه، قائلاً بنوعٍ من المواساة:
, -شِد حيلك، واحنا مش ساكتين.
, هدر في ألمٍ شديد:.
,
, -هتعملوا إيه؟ وسعوا خلوني أشوفهم.
, تفهم الضابط لطبيعة انفعالاته، فالفاجعة ليست هينة، نظر إليه في أسفٍ، وربت على كتفه، بينما تجمع حوله عددًا من رجال عائلة حرب، ممن أرسلهم منذر لدعمه، الوقوف إلى جواره، وكبح جموحه ريثما يصل إليه، بعد أن اتخذت مؤامرة هذا القاتل شكلاً دمويًا رهيبًا.
,
, انهمرت الدموع من عينيها بغزارةٍ، وهي تجلس في مقاعد الانتظار بالمشفى تنتظر سماع ما يطمئنها عن شقيقتها وابنتها، بعد أن تم نقلهما إلى هنا، ذاك المكان الذي بات مستقرًا لكل من له صلة بها، لم يتوقف لسانها عن الدعاء، توسلت للمولى بكل ما تحفظه من عبارات مستجدية، على رجاواتها تستجيب، التفتت ونيسة نحو ابنتها هاجر، لم يختلف حالها عنها كثيرًا، فلطالما أحبت خلود وخالتها، على الرغم من عيوبهما، كانت بمثابة الأخت القريبة منها. انتفضت كلتاهما واقفتان عندما لمحتا الطبيب من على بعد، وجهه كان مرآة لأسفٍ كبير، ملامحه لم تنطق إلا بالوجوم، فالأخبار غير مبشرة، تحمل في طياتها الموت والحسرة، وقبل أن تصرخ إحداهما حذرهما بدير بلهجةٍ شديدة:.
,
, -مش عايز صوات، ده مقدر ومكتوب.
, هدرت فيه ونيسة بحرقةٍ متألمة:
, -دي أختي وبنتها يا حاج.
, قال رغم يقينه بأن الأسوأ قادم:
, -**** قال فصبرٌ جميل.
, بلعقت العلقم المرير في حلقها، وردت بنحيبٍ:
, -ونعم ب****.
, تقدم الطبيب بخطواتهٍ، أظهر وجهه وجومًا واضحًا، بحث بنظراته عمن يمكن أن يخبره بالتطورات، وكانت المبادرة من بدير الذي سأله:
, -طمنا يا دكتور؟
,
, في الخلف كان يقف هيثم مستندًا بظهره على الحائط، وإلى جواره زوجته، تردد بكلماتٍ مواسية مؤازرة، لم يسمع منها شيئًا، فعقله لم يكن معه، كان معلقًا بمن في الداخل، استقام في وقفته، واندفع نحو الطبيب بمجرد رؤيته، ليهتف بلوعةٍ:
, -أخبارهم إيه يا دكتور؟ في جديد؟
, نظرة الأسى في عيني الطبيب كانت غير قابلة للتشكيك، أنبئه قلبه بفجيعة أشد وطأة، وقد صار ما خمنه، فتكلم قائلاً بتمهيدٍ:.
,
, -حضراتكم عارفين إن احنا عملنا اللي علينا وزيادة عشان ننقذهم؛ لكن مشيئة **** فوق كل شيء٣ نقطة
, حبسوا أنفاسهم في ترقبٍ، فأكمل على مهلٍ، وقد أطرق رأسه للأسف متحاشيًا نظراتهم:
, -للأسف مدام خلود كانت واصلة المستشفى ميتة، ومقدرناش نسعفها٣ نقطة
, شهقات ما بين مكتومة وظاهرة خرجت من أفواه النساء، تبعها صوت بدير المردد في صدمة:
, -لا إله إلا ****، إنا لله وإنا إليه راجعون.
,
, في حين تجمد هيثم في مكانه؛ وكأنه لم يستوعب بعد رحيل شقيقته، حملق فيه بعينين فارغتين، تحجزان العبرات في حسرةٍ، وضعت همسة يدها على كتفه تضغط عليه، وصوت نحيبها الصامت يتسلل إلى أذنه؛ لكنه بقي على حالته المنكسرة، غير واعٍ لما يُقال. لعق الطبيب شفتيه، وواصل الإضافة بحذرٍ:
, -والوالدة في العناية، عندنا أمل كبير في نجاتها، ادعولها.
,
, نظرة خاطفة مررها على الأوجه الناظرة إليه، قبل أن ينسحب في عجالةٍ بعد انتهاء مهمته الشاقة، تاركًا إياهم يتجرعون مرارة فقد الأحبة، وعذاب فراقهم.
,
, جاءته الأخبار غير كاملة من رفيقه منذر، عن الاعتداء الغاشم من محرز على خالته وابنتها، ورغم ما بينهما من خلافات، إلا أنه لم يكن ليقبل أبدًا أن تنتقل المعارك لتضم النساء؛ كان رفيقه حذرًا في إطلاعه عليها لبشاعتها؛ لكن الأول لم يصمد لسماع المزيد. حاول تميم النهوض من رقدته التي طالت على فراش المرض، وقال بإصرارٍ عنيد، رافضًا المكوث بالمشفى، والإصغاء لصوت العقل:
, -أنا عايز أخرج دلوقتي.
,
, تدخل الطبيب لمنعه، وجاهد لإثنائه عن رأيه، فأخبره معترضًا
, -مش هاينفع، في خطورة عليك، الكسور مش سهلة وآ٣ نقطة
, قاطعه بعنادٍ أكبر:
, -إن شاء **** أموت، مش هافضل هنا لثانية واحدة.
, تعثر تميم في وقفته، وفقد اتزانه، فأسرع منذر لإسناده؛ لكنه لكزه رافضًا الشعور بالعجز، ربت عليه ورجاه:
, -اهدى بس، واللي عايزه هيتعمل.
, احتدت نظراته أكثر، والتفت يرمق الطبيب بعينين صارمتين، ليهتف بعدها بخشونة:
, -سمعتني، أنا هاطلع حالاً!
,
, وقف الطبيب حائرًا أمام إصراره، فاقترح منذر لتسوية الأمر:
, -هو هيتابع من البيت، اطمن يا دكتور، كلنا جمبه.
, استسلم قائلاً على مضضٍ:
, -ماشي، بس لازم يبقى في متابعة.
, رد تميم بفتورٍ، وهو يستند على عكازين طبيين:
, -إن شاء****.
, أخفض منذر صوته طالبًا من رفيقه التعقل:
, -ماتعملش في نفسك كده يا تميم.
, بصوته المحتقن سأله:
, -ناقص يحصلنا منه إيه تاني؟
, أكد عليه مشددًا على كلماته:
, -هيتجاب، و**** هيتجاب!
, نظر في عينيه قائلاً بحسم:.
,
, -يبقى وأنا واقف على حيلي، مش مرمي هنا.
, ساعده على ارتداء ملابسه، وإنهاء الأوراق المطلوبة للخروج من المشفى، وقبل أن يصل الاثنان إلى الخارج، التقيا بـ بدير، تطلع تميم إلى والده باندهاشٍ قلق، وسأله بوجهه المكتسب لعلامات الضيق:
, -خير يابا؟ في حاجة تانية؟
,
, أطرق رأسه للحظةٍ، كأنه يفتش عن كلمات مناسبة يستعين بها، لاحظ تميم تردد والده، فعمق من نظراته الفضولية نحوه؛ لكن لا مهرب من الحقيقة، رفع وجهه الحزين نحوه، وأخبره بوجومٍ:
, -البقاء لله، بنت خالتك في ذمة ****.
, وخزة مؤلمة اعتصرت قلبه، هتف غير مصدقٍ، بتعابيرٍ تحولت للشحوب:
, -إيه؟ إزاي؟
,
, مأتم وراء مأتم، اجتمع فيه الجيران قبل المعارف والأقرباء، لتقديم واجب العزاء فيمن له الصلة بتلك العائلة، وإن اختلفت أماكن التواجد، بالطبع كان على رأس الحاضرين اسماعيل وابنه، لمصاهرتهم مع هيثم. جلس كلاهما متلاصقين، بعيدًا عن الحشد المتجمهر عند مدخل السرادق؛ وكأنهم يخططون لأمر خطير. مال فضل على والده يهمس له للفت انتباهه:
, -بأقولك إيه يا حاج؟
, ضاقت نظراته نحوه متسائلاً بصوتٍ خفيض:
, -خير يا فضل؟
,
, قال بسماجةٍ وقحة:
, -مش تحس كده إن قدم بنات عمي شؤم.
, رمقه والده بنظرة مستنكرة، قبل أن يوبخه:
, -إيه الكلام الماسخ ده؟ مايصحش كده!
, تابع سخافته الثقيلة، غير مبالٍ باستهجانه:
, -الصراحة من يوم شبكة البت همسة، والمصايب نازلة ترف، فتحسها كده أقدام.
, دمدم مغتاظًا منه:
, -أعوذُ ب**** منك.
, انزعج من صده، وعاتبه:
, -جرى إيه يا حاج؟ ده أنا بأفضفض معاك كده في كلمتين محشورين في زوري!
, نهره والده بكلامٍ لاذع، وهو يصر على أسنانه:.
,
, -شغل الحريم ده تفكك منه يا فضل، وخليك راجل، تعرف امتى تكلم وامتى تسكت.
, اعتبرها إهانة ضمنية لفحولته، فغمغم بتشنجٍ:
, -ده أنا راجل غصب عن التخين، أومال كوم العيال دول جبتهم إزاي؟
, لمحة من السخرية غطت تعابيره، قبل أن يوضح له بكلماتٍ ذات مغزى، تمنى أن يعيها جيدًا:
, -الرجولة مش الخلفة وبس يا فضل، الرجولة حاجات تانية، بتظهر في المواقف، وتبين معادن الرجالة اللي بجد٣ نقطة
, تراجعت أنظاره عنه، واختتم حديثه:.
,
, -يا ريت بس تفهمها.
,
, في ركنٍ منزوٍ، اتخذ مقعده بعيدًا عن المعزيين، قاصدًا الاختلاء بنفسه، ووجهها اللائم بنظراتها الباكية يحتل مخيلته؛ وكأنها تدينه لتخليه عنها. توغل في أعماقه شعورًا كبيرًا بالذنب ناحيتها، اختنق صدره، واستبدت به هواجسه، فتفاصيل قتلها كانت مفزعة للأبدان، بدا على وجهه حزن راسخ، رفع تميم رأسه المنكس لينظر في اتجاه جده سلطان الذي استطرد قائلاً، وهو يجلس إلى جواره:
, -وحد **** يا ابني.
,
, أطلق زفيرًا طويلاً، وقال بغصةٍ موجعة:
, -لا إله إلا ****.
, تطلع الجد إلى وجه حفيده، رأى في عينيه ألمًا عميقًا، شعر بما يعتلي صدره من شجنٍ، فأردف يخبره وهو يربت على فخذه:
, -ادعيلها يا تميم.
, بعينين تحجزان العبرات الرقراقة سأله:
, -تفتكر أنا ظلمتها يا جدي؟
, أجابه بهدوءٍ؛ وكأنه يفهم ما يدور في نفسه:
, -كله مقدر ومكتوب.
, مسح تلك العبرة المتسللة من طرفه، وتابع باختناقٍ ظاهر عليه:.
,
, -لو كانت فضلت على ذمتي مكانش الكلب ده مسها!
, تطلع إليه الجد بنظراتٍ مطولة، ثم نطق بعد صمتٍ قليل:
, -محدش يملك في نفسه حاجة، الأعمار كلها بيد اللي خلقها.
, قال وشعوره بالذنب يعتصره:
, -بس أنا قصرت معاها، جيت عليها جامد.
, رد عليه بصوته الرخيم:
, -يا ابني متحملش نفسك فوق طاقتها، كل واحد مولود ومعروف هيموت امتى وإزاي، وده نصيبها، مالناش دخل في اختيار ****.
,
, طفرت العبرات بقوةٍ من عينيه، وقال بصوتٍ يملأه الشجن، باكيًا موتها:
, -مش قادر يا جدي، حاسس إني ظلمتها أوي، لو كنت صبرت عليها، جايز كانت فضلت عايشة وسطنا.
, هز رأسه معقبًا عليه:
, -لا راد لقضاء ****، ادعيلها، وأذكرها بالخير.
, لم يعد هناك ما يقال، ضغط تميم على شفتيه كاتمًا أنينه الحزين، بكاها في صمتٍ بمشاعرٍ صادقة. ارتفعت أنظاره للأعلى حينما حضر إليه منذر، ليخبره بلهجة جادة، وتلك النظرة الغائمة على وجهه:.
,
, -عرفنا مكانه يا صاحبي٣ نقطة!
 
١٦

ارتكن بظهره على الجدار الممتد لمدخل بنايته، بعدما انسحب بهدوءٍ من العزاء مستندًا على عكازيه الطبيين، بقي تميم لدقائق بمفرده، مترقبًا عودة رفيقه إليه، ونظراته تدور على الأوجه المارة من حوله. النظر في وجهه في تلك اللحظة يعني رؤية كافة تعابير الغضب، كظم ما يعتريه من مشاعر حانقة، ريثما تتضح له كافة الأمور الغامضة؛ لكن ما أراحه قليلاً معرفته لمكان اختفاء هذا النذل القاتل. انضم إليه منذر وهاتفه على أذنه، دون تأخيرٍ أنهى الاتصــال، وأخفض يده ليتطلع إليه، استطرد قائلاً دون مقدمات استهلاليةٍ:.
,
, -اتنين من رجالتي قريبين من الحتة اللي هو موجود فيها، هيسبقونا على هناك ويستنونا.
, علق متسائلاً باستهجانٍ يشوب صوته وملامحه:
, -واحنا إيه معطلنا؟ ما نطلع نجيبوه على طول ابن الـ (، ) ده!
, أجابه موضحًا له بقليلٍ من التعقل:
, -يخلص العزا وهنتوكل على ****، مش عايزين نلفت النظر لينا يا تميم، وخصوصًا إن في كذا حد من الداخلية هنا.
,
, نفخ في سأمٍ رافضًا المماطلة وإضاعة الوقت هباءً، فكل دقيقة تمر تعنى منحه فرصة للهرب قبل الإمساك به. وضع منذر يده على كتفه، ضغط عليه بأصابعه مؤكدًا عليه:
, -وربنا ما هيتساب.
, سأله تميم بنوعٍ من الفضول:
, -قولي إنت عرفت مكانه إزاي؟
, جاوبه وهو يدير رأسه للخلف:
, -من ناجي.
, تقطب جبينه في دهشةٍ، لينطق لسان حاله:
, -ناجي؟!
, أومأ برأسه بالإيجاب، وأكمل مسترسلاً:
, -أيوه، رجالته شيكاغو و حمص قالوا إنهم شافوه في بلده القديمة.
,
, ظلت تعابيره مليئة بأمارات الاندهاش، في حين أضاف منذر بوجهٍ مزعوج:
, -ده غير إننا مسكنا واحد من العمال عندك في الدكان، كان مشغله عين ليه عليك، يبلغه بكل خطواتك!
, احتقنت نظراته، وحلت غمامة غاضبة على تعبيراته عندما هتف في حدةٍ:
, -كمان، واحد من رجالتي دلدول عنده؟ وبيخوني؟
, استياءٌ صريح انعكس على وجه منذر الذي تابع:.
,
, -هانقول إيه بس، في ناس كده (، ) مايطمرش فيها اللقمة، وبعدين محرز ده طلع داهية، محدش يتوقع إن المصايب دي كلها يعملها.
, عقب رفيقه بغصةٍ حارقة:
, -اللي حازز في نفسي أكتر إني كنت مأمنه على أختي وأهلي ومالي، وفي الآخر يطلع (، ).
, أطلق منذر زفرة طويلة، تمتم بعدها:
, -هو استغفل الكل، ووقت الحساب جه.
, استقام تميم في وقفته، ومرر عكازيه أسفل إبطيه ليساعداه على السير، وقال بلهجةٍ قاتمة:.
,
, -شوفلنا العربيات يا منذر، أنا مش هاقدر أستنى لحد ما الناس تمشي، أبويا موجود وجدي، هما موجودين يسدوا مكانا.
, أدرك صديقه أنه لن يستطيع إثنائه عن رأيه، فتنهد مرددًا:
, -ماشي يا سيدي، هاشوف دياب وراجعلك.
,
, تركه بمفرده ليستدعي شقيقه، ويرتب معه في عجالةٍ ما قد يحتاجون إليه للانتقال بالعدة والعتاد للقبض على محرز، بجهد جهيد حاول تميم تثبيط الانفعالات الثائرة بداخله، فما زال إحساسه بالتراخي في حماية جزءٍ من عائلته يعذبه؛ وإن لم يعلم بعد بالمؤامرات الخبيثة التي حيكت ضده لإهلاكه.
,
, سحقًا لأمثاله من عديمي المشاعر، مقتنصي الفرص لإظهار الشماتة علنًا، هكذا كان فضل! يستمتع بنشوةٍ منفرة بإظهار نواقص غيره؛ وكأنما يخلو شخصه المقيت من العيوب، فحينما لمح تميم يقف بعكازيه، وعلامات الألم تبدو عليه كلما جاهد ليتحرك قليلاً على الرصيف، حتى أحس بسرور غريب يتفشى في روحه العليلة، ظن أنها فرصته المناسبة لرد الصاع صاعين له، والاقتصاص منه لإهانته الوقحة له، بكلماتٍ تستثير غيظه، وتجعل في نفس الآن غير قادرٍ على مجابهته. دنا منه، ورمقه بنظرة استعلاءٍ متشفية، قبل أن يستوقفه صائحًا بنبرةٍ شبه هازئة:.
,
, -سلامتك يا، معلم، مين اللي عَلم عليك كده؟ شكله واحد إيده طارشة، مايعرفش أبوه.
, لم يكن مراعيًا لمشاعر غيره الحزينة، وقاحته تخطت المقبول، استدار تميم ليواجهه، ونظراته توحي بغضبةٍ على وشك الاندلاع فيه، زجره متسائلاً بصوته الأجش:
, -عَلم عليا؟ إنت اتجننت يا بنى آدم؟
, واصل سخريته منه، غير مكترث بتبعات لغو لسانه الأحمق:
, -أومال اللي حصلك ده من إيه؟ أوعى تقول قشرة موزة مثلاً دوست عليها بالغلط وإنت بتنقل الأقفاص؟
,
, هدر به تميم بخشونةٍ، وهو يرفع عكازه في وجهه ليهدده به:
, -القفص ده هتلبسه في دماغك لو مغورتش من قدامي.
, أزاحه فضل بيده، قاصدًا دفع تميم بعدائية للخلف لطرحه أرضًا، رغم كون الأخير قد حافظ على اتزانه، إلا أن ذلك الوقح تابع استفزازه البارد بقوله السمج:
, -بالراحة يا معلم، لأحسن عروقك تطق، وإنت شكلك مش حِمل خناقة تانية.
,
, وقبل أن يضيف المزيد من العبارات المهترئة التف بغتةً حول عنقه ذراعًا قوية، لم يستطع المناص منها، فشل رغم محاولاته إبعاده، وأصبح أسيرًا لمن لم يستطع رؤية وجهه. ضغط منذر بعضلات ذراعه أكثر عليه، ليحبس الهواء عنه، وتساءل بهدوءٍ؛ وكأنه يتعمد إذلاله، وإظهاره بحجمه الحقيقي:
, -في إيه تميم؟ قولي الشِوال ده مضايقك في حاجة؟
, أجابه بتجهمٍ:
, -شايف نفسه البغل.
,
, تلوى فضل بجسده الممتلئ، وعجز عن تحرير نفسه، فقال بصوتٍ مختنق، وبوجهٍ مشتعل في حمرته:
, -أوعى كده..
, سدد له تميم نظرة استحقارٍ، بينما أكمل منذر كلامه، بنفس السيطرة المطلقة، قاصدًا إهانة هذا السمج:
, -ما تسترجل يا جدع، وتنشف كده؟ هو أنا لسه عملت حاجة، ولا إنت بتقلب حُرمة لما بتشوف الرجالة اللي بجد؟
, زادت مقاومة فضل لقسوته، وبدا على وشك البكاء من شدة الألم، تدخل دياب في الحوار قائلاً بتسلية:.
,
, -لأ سبهولي يا منذر، أنا إيدي بتاكلني عايز أضرب حد، ومعنديش مشكلة أعلقه على باب العمارة.
, ولأن الموقف لا يتحمل المزيد من التهكم، فأنهى تميم تلك السخافة هاتفًا بوجومٍ:
, -سيبوه!
, هز منذر رأسه احترامًا لرغبته، وتركه مع دفعةٍ غليظة للأمام، ليستدير فضل لمواجهته، رأه يفوقه طولاً وحجمًا، بالكاد إن تلقى لكمة طائشة منه لأعاد ترميم قسماته، بلع ريقه، وصاح بصوتٍ مهتز حاول أن يحفظ به ماء وجهه المُراق:
, -إنتو مجانين.
,
, استشعر منذر رهبته، وسأله بنظراتٍ مهددة:
, -مش كنت عامل فيها دكر؟ خوفت ليه؟
, تراجع بعيدًا عن محيطه خطوتين، وقال بلجلجة بائنة وهو يشير بيده نحو تميم:
, -أنا، كلامي مش، معاكو.
,
, على الجانب الآخر، اندفع هيثم خارج البناية، بخطواتٍ مهرولة أقرب للركض، ومن خلفه زوجته تحاول اللحاق بخطاه السريعة، لم يكن في حالةٍ جيدة، غضبه خرج عن حدود السيطرة، وربما إن تركته بمفرده لارتكب من الحماقات من قد يودعه في غياهب السجن. توسلته وهي تسعى لإيقافه بالتعلق بذراعه:
, -استنى يا هيثم، عشان خاطري ماتروحش وإنت في الحالة دي.
, نفض ذراعها، والتفت يحدجها بنظرة مشبعة بحمرة ملتهبة وهو يقول في تهكمٍ سافر:.
,
, -عايزاني أقعد مع الحريم أولول جمبك؟
, انزعجت من حدته، ولم تعاتبه تقديرًا منها لحالته النفسية؛ لكنه أكمل بنفس اللهجة المنفعلة:
, -وطبعًا أسيب الكلب اللي قتل أختي كده عايش حياته ومبسوط؟
, ردت برجفةٍ طفيفة، أظهرت خوفها عليه:
, -لأ، بس مش عايزاك تودي روحك في داهية.
, رفع إصبعه أمام وجهها، وأخبرها بلهجةٍ عبرت عن ألمه العميق:
, -حق أختي هاجيبه يا همسة، مش هاسيب دمها ولا ددمم أمي يروح هدر٣ نقطة
,
, أدمعت عيناها تأثرًا، فأضاف بنبرةٍ متشددة:
, -واطلعي يالا على فوق.
, أصرت على البقاء معه رغم تحركه، تبعته من جديد، وهتفت محتجة:
, -لأ يا هيثم، مش هاطلع، ومش هاسيبك تضيع نفسك إنت كمان.
, تجاهلها متجهًا إلى تميم ومن معه، وصوته الآمر يرن عاليًا:
, -اطلعي فوق
, توقفت همسة عندما رأت ابن خالته ورفاقه، استعطفتهم برجاءٍ:
, -بلاش تتهوروا، وخلوا الشرطة تجيب حق اللي راح، إنتو في غنى عن المشاكل.
,
, تكلم تميم قائلاً دون أن ينظر في اتجاهها:
, -المشاكل جت عندنا من زمان.
, صاح هيثم بها موبخًا إياها:
, -متوجعيش دماغي، هي كلمة، اطلعي اقعدي فوق.
, نظرت له بعتابٍ، تنفست بعمقٍ لتمنع نفسها من البكاء أمامهم، وأردفت تسأله بصوتٍ خرج مضطرمًا متقطعًا:
, -يعني ماليش خاطر عندك؟
, بنفاذِ صبرٍ هدر بها:
, -يوووه، كفاية بقى، أنا مش هاتكلم كتير.
, تحرك منذر ليقف إلى جواره، لف ذراعه حول كتفه ليهدئه، وأخبره بصوتٍ خفيض:.
,
, -بالراحة يا هيثم، الجماعة خايفين عليك.
, على عكسه فكر فضل في استغلال الموقف، وإظهار رجولةٍ زائفة ليكسب بها بضعة نقاطٍ يعيد بها كرامته المبعثرة، لذا خشن من نبرته، وهتف في همسة ؛ وكأن إحراجها أمرًا عاديًا:
, -ما تتلمي يا بت وتسمعي كلام الرجالة٣ نقطة
, هتف هيثم يحذره بعد أن تفاجئ من إقحام نفسه في شأن لا يخصه:
, -ماتدخلش!
,
, بينما تدلى فك همسة السفلي في صدمةٍ مليئة بالذهول، وحملقت في ابن عمها بعينين متسعتين، ليتابع هجومه الوقح عليها:
, -ولا مفكرة إن بعد ما اتجوزتي عيارك هايفلت، لأ ده أنا ممكن أكسر رقبتك فيها، إياكش مفكرة نفسك هتستعصي عليا؟ أختك وجبت رقبتها تحت رجلي.
,
, كلماتٍ نطق بها بعفويةٍ استرعت انتباه ذاك المحمل بهمومٍ كالجبال، قست عينا تميم، وهو يتطلع إليه، وقد استحوذ وجه فيروزة على خلايا عقله، لم يطرف جفناه، بل ازداد وجومًا وقسوة، استمر في مطالعته، كما لو كان يحاول بنظراته النافذة كشف غموض جملته المبطنة، تلك التي تخص الطاووس المهاجر، بقي كامل تركيزه معه، رغم الغيظ المستبد بـ همسة، والذي غلف صوتها وهي ترد ملوحة بيدها:
, -إنت بتكلمني كده ليه؟
,
, -إياكي ترفعي صوتك عليا!
, قال فضل عبارته الأخيرة وهو يهوي بكفه على وجنتها ليصفعها، كان تصرفه الأرعن كفيلاً بنزع فتيل غضب هيثم، حيث اندفع الأخير كالمجنون نحوه بكامل ثقله، تعلق بتلابيبه، ثم هزه بعنفٍ وهو يصيح به:
, -إنت اتجننت؟ بتمد إيدك على مراتي؟
, بدا فضل وكأنه سيبول على نفسه من خوفه الشديد، لعق شفتاه، وبرر تصرفه قائلاً بارتعابٍ شديد:
, -ده أنا بأدبها، عشانك يا أبو نسب.
, هدر به في غضبٍ أهوج:.
,
, -تقوم تضربها؟ هو أنا اشتكيتلك؟
, صاحب صياحه المنفعل لكمات متتابعة عنيفة في أنحاء وجهه، حتمًا ستترك أثرها عليه، ليطرحه أرضًا بعد ذلك، ويجثو فوق عنقه بركبته، قاطعًا عن مجرى تنفسه الهواء، في البداية لم يمنعه أحد، رأى من حوله أن يستحق هذا الجزاء لطيشه، لكن إشارة جادة من عيني تميم لـ دياب دفعت الأخير للتحرك نحوه، وبصعوبةٍ تمكن الأخير من انتشال هيثم من فوقه، وهو يخبره:
, -كفاية عليه كده، إنت ربيته يا هيثم.
,
, قاومه بشراسةٍ، وهدر بنفس النبرة الغاضبة:
, -لأ مش كفاية.
, أتى الحاج اسماعيل مهرولاً في اتجاههم، بعد غياب ابنه لمدة طويلة، خرج من السرادق للبحث عنه، وحدث ما كان يخشاه، وجده يتشاجر مع من هم أشد منه قوة، جحظت عيناه رعبًا عليه، وهتف متوسلاً السماح:
, -ب**** عليك تسيبه، حقك عليا أنا يا ابني!
, حينها انحنى منذر هو الآخر ليجذبه من كتفه، وهتف في أذنه:
, -إنت عملت معاه السليمة، سيبه!
,
, استعان بمساعدة شقيقه ليفصله عنه، فأخذ فضل يصدر أنينًا موجوعًا، وقال بنوعٍ من الشكوى، ملقيًا بالذنب على همسة في تبجح منفر:
, -شايف يابا، عشان مش راضي بالغلط من بنت عمي، يتكاتروا عليا، بقى هي دي المرجلة؟
, قال والده في ازدراءٍ؛ وكأنه لا يصدقه:
, -هو أنا مش عارفك يا فضل؟
,
, غمغم ابنه بكلماتٍ متبرمة غير مفهومة، لاعنًا إهانتهم المذلة له؛ لكنه لم يجرؤ على النطق بهذا علنًا، كان بحاجةٍ للمساعدة للنهوض، ولم يمد له أحد يد العون، حتى والده وقف كالمتفرج ينتظر قيامه، بمزيدٍ من الجهد استند على راحتيه، ليرفع جسده عن الأسفلت القاسي، بمجرد أن استقام واقفًا، اعترض تميم طريقه، نظر في عينيه بنظراتٍ تقدح شرًا، ارتعب الأول من طريقة تحديقه به، وانعكس الخوف على كامل وجهه، بدا صوت الأخير قريبًا منه، ثم أخبره بلهجة لا تعرف للمزح لونًا:.
,
, -لو فكرت تقرب من جماعة هيثم٣ نقطة
, اشتدت نبرته قساوة وحزم، عندما أتم باقي جملته:
, -ولا حتى أختها، عيالك هتتيتم!
, انتصبت كامل شعيرات جسده على إثر تهديده، أكدت نظراته الفارغة من الحياة جديته، شحبت بشرته أكثر، وتراجع بخطواتٍ متعثرة للخلف هاربًا من أمامه، كفرار الفريسة من الأسد الجامح.
,
, صراخ جنوني صدح في الأجواء، أجبر الجميع على الالتفات نحو المدخل، لتطل بعدها هاجر وهي تهتف مستغيثة، ويدها على رأسها المغطى ب****ٍ غير محكم:
, -الحقني يا تميم! ابني اتخطف!
,
, أصبح من الصعب ردعه، بعد وصوله لتلك المرحلة الحرجة، في مشواره المتخم بالجرائم النكراء، اِنقاد وراء جنونه غير المحدود، تاركًا عاطفته الأبوية وراء ظهره، ليشرع لاهثًا خلف ما ينجيه من الهلاك؛ وإن كان يعني هذا اختطاف رضيعه للمساومة به من أجل المال، بعد عقده لصفقة جديدة لتهريبه خلال البلاد، سلبت ما بحوزته من نقود ومشغولات ذهبية مطعمة بالدماء. استغل محرز عدم توقع الغالبية العظمى لقدومه خلال مراسم العزاء، ليختبئ في عباءة نسائية فضفاضة، وسوداء اللون، يزينها **** طويل يخفي وجهه، فيبدو كواحدة ممن جئن لتقديم هذا الواجب الضروري، ولكونه يعرف مداخل المنزل جيدًا، لم يجد صعوبة في التجول بحريةٍ ليصل إلى غرفة هاجر.
,
, كانت الأخيرة تنوح موت خلود، خلال بقائها مع حفنة من النساء في صالة منزلها، فرحيلها بتلك الصورة الشنيعة شكل صدمة أوجعت قلبها، خاصة مع تقاربهما الشديد، وأيضًا لكون القاتل زوجها، بكت مدمدمة بنحيبٍ:
, -آه يا حرقة قلبي عليكي يا أختي! كنتي غالية عندي.
, واستها إحدى السيدات قائلة:
, -هوني على نفسك يا حبيبتي، **** يرحمها برحمته الواسعة.
, ضربت بكفيها على فخذيها، وتابعت عويلها المليء بالشجن:.
,
, -لأ واللي قتلها جوزي؟ شوفتي النصيبة! هي الدنيا جرالها إيه؟
, ردت عليها أخرى وهي تزم شفتيها:
, -**** يلطف بيكي وبالست ونيسة.
, هزت جسدها للجانبين في حركة اهتزازية متكررة، وهي تواصل ندبها:
, -مابقناش ملاحقين على المصايب، منك لله يا محرز، أشوفك متعلق على حبل المشنقة، يا رب انتقم منه!
, ربتت عليها ثالثة، وطلبت منها بنوعٍ من التعاطف:
, -ماتعمليش في نفسك كده يا حبيبتي، وقومي شوفي ابنك، هو اللي باقي.
,
, التفتت ناظرة في اتجاهها، وعلقت باستهجانٍ شديد:
, -ابني؟ هاقوله إيه لما يكبر؟ أبوك ماشي يقتل في الناس؟
, أطرقت رأسها في أسفٍ، وقالت:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، معلش يا بنتي، ده النصيب.
, هتفت تلعنه في حرقةٍ:
, -نصيب منيل ومهبب، **** ياخد يا محرز.
,
, استندت على مسند الأريكة لتنهض من جلستها، سارت عبر الردهة في اتجاه غرفتها، ولم تنتبه للخطوات التي تتعقبها، ولجت إلى حجرتها، باحثة عن رضيعها المتواجد في فراشه، انحنت لتحمله بين ذراعيه، وما إن التفتت حتى وجدت محرز أمامها، شخصت أبصارها، وهمّت بالصراخ؛ لكنه أطبق على شفتيها بكفه، ولف ذراعه الآخر حول رأسها، شعر بحرارة أنفاسها المكتومة تحرق راحته، رمقها بنظرة ميتة أرعبتها، صر على أسنانه متسائلاً بغلٍ محموم:.
,
, -بتدعي عليا يا هاجر؟
, سرت ارتجافة رعب في كامل بدنها، صحبتها خفقات عنيفة كادت توقف نبض قلبها، الواقف قبالتها الآن يختلف كليًا عمن عاشرته، ليس هذا بزوجها الذي أفنت سنواتها لرعايته والاهتمام به، خفقة أخرى مرتاعة عصفت بها، حينما توعدها بفحيحه الذي جعلها تزداد جحوظًا:
, -أنا هاحسرك على ابنك.
,
, بغريزة أمومية متأصلة فيها، ضمت رضيعها بقوةٍ محاولة حمايته من بطشه الأعمى، الشرر المتطاير من مقلتيه أكد لها عزمه على تنفيذ تهديده. شحنت هاجر قوى هاربة منها لتقاومه بضراوةٍ دفاعًا عن وليدها؛ لكنه باغتها بضربة مؤلمة على مؤخرة رأسها، تبعها بأخرى عنيفة أفقدتها الوعي، ثم تلقف الرضيع منها، وحاوطه ب**** نقابه ليخفيه عن الأعين، ثم تسلل مثلما جاء خارج الغرفة، بخطواتٍ متعجلة، قاصدًا باب المنزل، ومنه قفز الدرجات هبوطًا للأسفل.
,
, تجمد مشدوهًا عند مدخل البناية، حينما رأى تميم ومن معه، اعتراه الخوف، وكاد يتراجع عن استكمال خطته الدنيئة لولا أن وقف الحظ في صفه، والتهوا بشجارهم الغريب، لينسحب في تخفي مثلما جاء، مع فارق أنه سرق ابنه الوحيد.
, حينما أفاقت هاجر من إغماءتها السريعة، فتشت بنظراتٍ مشوشة عن رضيعها، هتفتٍ بقلبٍ واجل:
, - سلطان، ابني!
, التقطت حجابها الأسود، طرحته على رأسها، وهرولت صارخة خارج غرفتها تصيح باهتياجٍ:.
,
, - محرز خطف ابني!
, واصلت هرولتها المذعورة، قافزة على درجات السلم، لم تهتم إن انكفأت على وجهها أم لا، المهم أن تلحق بفلذة كبدها قبل أن يطاله الأذى، في الأخير وقفت أمام شقيقها، وبأنفاسها اللاهثة المليئة بكل ما فيها من لوعةٍ وجزع استنجدت به:
, -الحقني يا تميم! ابني اتخطف!
, صراخها الملتاع جذب كافة الأنظار إليهم، فلم يعد للسكوت معنًا، هدر تميم آمرًا من حوله من رجالٍ أشداء:
, -يالا يا رجالة، مش هايطلع عليه نهار.
,
, وقبل أن يتقدموا نحو السيارات التي اصطفت أمام الرصيف، ظهر بدير في المشهد، ومن خلفه سراج، هتف الأول متسائلاً بشكلٍ عابر، رغم تعابيره القلقة:
, -إيه اللي حصل يا ولاد؟
, أجابه دياب مباشرةً:
, -الكلب خطف ابنه، شكله عايز يلوي دراعنا.
, جزع بدير للخبر، وردد في خوفٍ:
, -الكلب ده ممكن يأذيه!
, كلماته العفوية ضاعفت من ارتعاب هاجر، فاندفعت نحو شقيقها تتوسله بعينين غارقتين في الدموع:.
,
, -رجعهولي يا تميم، أنا مش عايزة أخسره، متوجعش قلبي عليه.
, لامست بلهفتها المحترقة قلب سراج، فاربدت تعابيره بالحنق والغضب، سلط أنظاره على شقيقها، ورأه يضع قبضته على كتفها ليخبرها بنظراتٍ أظهرت وحشية يفهمها جيدًا:
, -هارجعه يا هاجر.
, هزت رأسها بإيماءات متتالية عبرت عن تصديقها المطلق لوعده، ثم أمرها بصوته الخشن:
, -اطلعي فوق، وخليكي مع أبويا وجدي، ماتنزلوش من البيت مهما حصل
, التفت منذر نحوه مقترحًا عليه:.
,
, -أنا هاسيب كام حد من رجالتنا هنا يأمنوا الجماعة، ماشي؟
, وافقه الرأي، واستدار مواجهًا أبيه:
, -خد بالك منهم يابا، الليلة نهاية محرز.
, لم يبدُ والده مصدومًا من عزيمة ابنه القاطعة، فالعائلة تأتي أولاً، وقبل أي شيء، صدّق عليه بتشجيعه للمضي قدمًا للنهاية:
, -رجع حق اللي راحوا كلهم يا تميم.
, قامت همسة باحتضان هاجر، وسحبتها نحو الداخل، بينما أسرع سراج في خطاه حاسمًا أمره:
, -أنا جاي معاكو برجالتي.
,
, لم يلقَ معارضة من الرجال، على ما يبدو صحت مقولة عصر الشهامة لم ينتهي بعد، اتفق الجميع على الوقوف معًا لردعه، فكلما كثر الحشد، كلما دبوا في قلب هذا الوضيع الرعب!
,
, حافظ مؤقتًا على جموده الهش حتى يصل إلى هناك، حينها فقط سيظهر غضبه الكاسح، ولن يأبه لشيء، سيفنيه عن بكرة أبيه. مرت الدقائق كأنها ساعات، رغم انطلاق السيارات تتبع بعضها البعض بسرعات تجاوزت المسموح، ركز تميم كامل أنظاره على الطريق، وسأل منذر الجالس خلف المقود بصوته الأجوف:
, -فاضل كتير؟
, أجابه باقتضابٍ يخفي خلفه شحنة من الغضب المكبوت:
, -هانت يا صاحبي.
,
, استمر في قيادته لما يقرب من النصف ساعة، ظهرت تشنجات أصابعه خلال إدارته للمقود بين الفنية والأخرى، حاولت الاسترخاء لكنه فشل، فالورطة تلك المرة ليست بالهينة، وربما تحصد بعض الأرواح معها. قبيل الانعطاف للجسر المؤدي للبلدة المنشودة، استطرد منذر يُعلمه:
, -وصلنا خلاص
, تحفز تميم في جلسته، وتقلصت جميع عضلاته مسببة له ألمًا لا يمكن احتماله، غالب أوجاعه ليظهر استعداده بقوله الصارم:.
,
, -الكلب ده بتاعي، أنا اللي هحاسبه.
, رد دون جدالٍ:
, -ماشي الكلام.
,
, -الفلوس هاتكون عندك في ظرف يومين، بس إنت خلصني.
, عبر هاتفه المحمول، نطق محرز بتلك العبارات بصوتٍ بدا متجهمًا، ووجهه يداعبه القلق العميق، استدار ناظرًا نحو رضيعه الذي شرع يهمهم ببكائه، حاول إسكاته بحمله بيده الأخرى وهدهدته؛ لكنه فشل بسبب عصبيته الواضحة، أسنده على فراشه الحقير، وأكمل مكالمته بلهجةٍ غاضبة:.
,
, -ملكش دعوة هاتصرف إزاي، إنت ليك أكل ولا بحلأة؟ وبعدين ما إنت سيبتلك الدهب كله، يعني تعتبر خدت فوق حقك وزيادة.
, أطلق زفرة مسموعة، واختتم معه المكالمة بترديد:
, -أيوه هنتقابل في نفس المكان، سلام.
, ضغط على زر إنهاء الاتصال، ودس هاتفه في جيب بنطاله، ثم لف بذراعه الآخر الرضيع ليحتويه، نظر إليه بغرابةٍ، وأردف يكلمه بابتسامة ساخطة على زاوية فمه:.
,
, -مين كان يصدق يا سلطان إني أعمل فيك كده؟ بس هاعمل إيه، ما أنا روحي بقيت على كف عفريت!
, تململ الصغير بين ذراعيه، وتلوى ببكاءٍ أصبح مزعجًا، فتش بعينيه عما يمكن أن يستخدمه لإلهائه لبعض الوقت، فقد غفل في غمرة تفكيره الدنيء، عن إحضار ما يلزم لرعاية رضيعٍ مثله يحتاج للطعام والشراب في هذا المكان المقفر:
, -اهدى شوية على نفسك، أنا كده مش عارف أركز.
,
, شوش صوت الرضيع الباكي، على الأصوات الحثيثة المتسللة، والتي اقتربت من كوخه البائس الواقع على مقربة من المصرف الصحي. مع نجاحه في إخراسه لم يرتاب في شيء، بالنسبة له بدا الوضع طبيعيًا. نظرة مدققة ألقاها دياب عبر سدات الغاب المعقودة معًا، ليحصر المتواجدين بالداخل، لم يجد سواه، حاول وسط الإضاءة الباهتة أن يتفحص المكان، لينقل الصورة كاملة لأقرانه، وما إن أكمل مهمته، حتى عاد إليهم مثلما جاء بحيطة أكبر، انخفض بجسده، وهمس بصوتٍ شبه لاهث لمن معه:.
,
, -الكلب موجود لوحده.
, رائحة المكان الكريهة، أصابت المتواجدين بالغثيان والنفور، تغاضوا عنها مرغمين، ليبادر منذر متسائلاً بتعابيرٍ جادة:
, -هنطلعه برا إزاي؟
, هتف هيثم بتهورٍ من بين أسنانه المضغوطة:
, -سيبوني أطلع أجيبه من رقبته!
, أمسك به منذر ليثبته في مكانه، محذرًا إياه بصرامةٍ:
, -هي مش فتونة ولا فرد دراع دلوقتي يا هيثم.
,
, على مضضٍ تحامل على نفسه، بينما تنفس تميم بعمقٍ، وأشار لهما بيده ليصمتا، ثم أخبر الجميع بصوته الأجوف:
, -في دماغي فكرة، هي صحيح فيها مجازفة، بس مقدمناش إلا كده.
, تفقه ذهن منذر لما طرأ في بال رفيقه، وسأله بصوته الخفيض:
, -أوعى تكون ناوي تحرق العشة عليه؟
, عقب عليه بنظراتٍ غاب عنها الإشفاق:
, -مافيش غير كده، ده هيجبره يطلع برا.
, استطرد سراج يقول في توترٍ حقيقي:.
,
, -أنا خايف على الواد الصغير، بعد الشر النار تمسك فيه، مافيش حاجة مضمونة.
, أدار تميم رأسه في اتجاهه ليخاطبه:
, -هو جمب واحد اللي هنولع فيه، وفي نفس الوقت نهجم برجالتنا من الجمب التاني.
, سأله بقلقٍ أكبر:
, -طب لو فكر يدبح ابنه!
, إن كانت نفسه الخبيثة بمثل هذا السوء، فلن يتمكن بالطبع من رده، رجا تميم **** ألا يتهور بأملٍ مغلف بالشك:
, -إن شاء**** مايحصلش.
,
, التزم كل رجلٍ بمهمته الخطيرة، واضعين جميعًا في المقامِ الأول حياة الرضيع، وبدأوا في محاصرة الكوخ من كافة الاتجاهات، حتى لا يجد محرز مهربًا بعد تضييق الخناق عليه، وعند الإشارة المتفق عليها، أُلقيت على ذاك الجانب من الكوخ البعيد عن الفراش، زجاجة مليئة بمادة الكيروسين، فوهتها تسدها قطعة قماشٍ مشتعل طرفها، فالتقطت سدات الغاب النيران بلهفة الجائع، واضطرمت سريعًا فيه، أتى صوت محرز المذعور مخترقًا سكون الليل، انتفض خارجًا من الكوخ حاملاً الطفل بين ذراعيه، تسمر في مكانه عندما رأى تميم يواجهه بعكازيه، استدار باحثًا عن مهربٍ آخر، فوجد كل المخارج مسدودة برجالٍ قساة في تعاملهم.
,
, دار حول نفسه، وذراعاه يشتدان على الرضيع، هدر مهددًا بتشنجٍ:
, -اللي هايقرب مني هاموته.
, رد عليه تميم بصوته القاتم، المليء بالتهديد الصريح:
, -جرب تلمسه، وساعتها هتتمنى الموت ومش هتنوله!
, في حين أضاف منذر بنبرة جليدية، تعبر عن استعداده للتضحية:
, -كلنا مسيرنا نموت يا محرز، مش فارق مين الأول، بس إنت كده كده رايح.
, هدر هيثم مرددًا بحرقة شديدة، وقلبه يدق في عنفٍ:.
,
, -قتلت أختي، ورميت أمي بين الحياة والموت في المستشفى، ومن قبلهم نوح، فكرك هاسيبك تعيش للحظة؟
, التفت ناحيته، وأخبره بلمحةٍ ساخرة:
, -ده أنا ريحتكم منهم، هو إنت فاهم إنهم ملايكة؟ دول مايفرقوش عني.
, تحركت عينا محرز نحو تميم، وخاطبه ويده تلتف حول عنق الرضيع:
, -اللي إنت فيه كان بأوامر الست خالتك.
,
, حملق فيه الأخير بتعابيرٍ ذاهلة جعلت محرز يستمتع بانتشاءٍ برؤيته على حالته المصدومة؛ وكأنه ظفر بنصرٍ ساحق؛ لكن صوت هيثم المستنكر شتت أنظاره عنه ليستدير مجددًا ناحيته عندما هلل:
, -إنت كداب.
, بكل برودٍ دمدم عاليًا:
, -مش محتاج أكدب، هي متتخيرش عني، و خلود كان فاضلها تكة وتطلب مني أقتل أبو الرجولة من تاني، ده يعني لو كانت فضلت عايشة!
,
, التفافه حول نفسه للرد على الصيحات الغاضبة، جعله غير منتبه لذاك الزاحف على بطنه، بطول حافة المصرف الصحي، ليصل إليه في غفلةٍ منه، وقد نجح بعد مجهودٍ مضني، انتظر سراج اللحظة المناسبة، ليرفع جسده المغطى بالطين عن الأرض، وينقض عليه. في غمضة عين هب قابضًا على قدمه اليسرى، وعرقله منها بكل ما أوتي من قوة ليسقطه على جانبه، وكردة فعل سريعة، استغل تميم تلك الفرصة الغالية، لينتفض على الفور، متخليًا عن عكازيه، وملقيًا بثقل جسده عليه، فقد كان الأقرب إليه من تلك الناحية. لكزه بكوعه في فكه، وانتشل من براثنه الرضيع، وأبعده عنه.
,
, حاوط سراج الرضيع ببدنه، وزحف به لبقعة آمنة، بينما تعانق جسدا تميم و محرز في قتال بالأيدي، جعلهما يدورا في دوائر متواترة قادتهما نحو حافة المصرف، وقبل أن يهوى كلاهما في أعماقه المظلمة، امتدت أيادي منذر، و دياب، و هيثم للإمساك بـ تميم من ساقيه، ألمًا مبرحًا اجتاح نصفه السفلي مما جعله يصرخ بشدة، شعر وكأن عظامه تنفصل عن بعضها البعض مع شدة الجذب، خاصة بعد تعلق محرز في عنقه، تشبث الأخير به، وهتف بأنفاسٍ ملتهبة، وتلك النظرة الخبيثة تكسو عيناه:.
,
, -مش هاموت لوحدي.
, غالب تميم أوجاعه القاتلة، ووضع أصابعه في عيني ذلك الجاحد يريد اقتلاعها وهو يخبره:
, -ساعتك أزفت خلاص.
,
, بين طرفة عينٍ وانتباهتها، ارتخت قبضتي محرز عن عنقه، مستسلمًا لمصيره الأسوأ على الإطلاق، سقط وحده في القاذورات النجسة، ضرب بذراعيه المياه الملوثة عله يبقى على سطحها؛ لكنها رحبت به بحفاوة بين بقاياها الآدمية، أدرك حينئذ أنه غارقٌ فيها لا محالة، اشتد صراخه الجنوني المجلجل لوهلةٍ قبل أن تسحبه نحو أعماقها الكريهة..!
 
١٧


بين المخلفات الآدمية النجسة، غاص جسده الفاني إلى حيث بدأت جرائمه، وانتهت نوائبه، دون أن تُذرف دمعة واحدة على فقدانه؛ وكأن بموته قد أراح العالم من شره. بحرصٍ مختلط بالحيطة سحب الرجال الثلاثة تميم بعيدًا عن الحافة، وصوت صراخه المتألم يصدح في سكون الليل، حملوه معًا بحذرٍ إلى مسافة آمنة، ليمددوه على ظهره على الأرضية. تساءل منذر أولاً في جزعٍ:
, -قولي حاسس بإيه؟
, أجابه بصوتٍ تبين منه مدى ألمه الشديد:.
,
, -رجلي، مش قادر.
, تفهم ما يمر به بسبب الجذب الشديد الذي تعرض له من الجانبين، وقال بلهجةٍ جادة:
, -تحب ننقلك على المستشفى.
, رد دون جدالٍ:
, -يا ريت.
, بعزمٍ أخبره في الحال:
, -على طول يا صاحبي، هاجيب العربية قريب من هنا.
, بينما أضاف دياب بنفس الاهتمام الجاد:
, -اطمن، هاتبقى كويس بأمر ****، وكلنا معاك.
, رد دون شكٍ:
, -عارف.
, وزع تميم نظراته الشاكرة على من حوله، لتتحرك عيناه بعشوائيةٍ وهو يتساءل:
, -فين سلطان؟
,
, أتاه صوت سراج مطمئنًا، وذراعاه تضمان الرضيع إلى صدره:
, -متقلقش عليه، هو معايا وفي أمان.
,
, ابتسم له في حبورٍ، وقد رأه يهدهده في حنوٍ، يعطف عليه وكأنه من صلبه، على الرغم من العداء القديم بينهما إلا أنه كان الأسبق في نجدته في كل موقفٍ يحتاج فيه للمدد. اكتفى بنظرات العرفان بالجميل، ولم يعلق عليه. نظرة جانبية حانت منه في اتجاه هيثم الذي بدا شاردًا، وجهه يعكس حزنًا عميقًا، امتدت يده لتمسك بذراعه، فالتفت الأخير ناحيته يطالعه بخزيٍ، قبل أن يخفض رأسه مستشعرًا مدى خذلانه له. استطرد تميم قائلاً بصوته المرهق:.
,
, -إنت ملكش ذنب في أي حاجة حصلت.
, رغم يقينه بصحة ما حدث، بناءً على طبيعة شخصية والدته الطامعة، إلا أنه لم يستطع إعفاء نفسه من الذنب، نكس هيثم رأسه متحاشيًا نظراته، ليردد بغصةٍ:
, -هو أنا قادر أرفع عيني في عين حد فيكو؟
, أخبره بعد لحظة من السكوت:
, -مافيش حد بيشيل شيلة حد، وكل واحد في النهاية خد جزائه.
, كان في أعماقه يخشى من مواجهة الحقيقة؛ لكن لا فرار منها، فقال بمرارةٍ:.
,
, -أنا مش عارف أزعل على أختي وأمي، ولا أروح٣ نقطة
, قاطعه دياب مشددًا قبل أن تسيطر عليه هواجسه:
, -أمك تبرها لحد آخر نفس، حتى لو كانت إيه، محدش بيختار أهله.
, الإضاءات الأمامية القوية لسيارة منذر جذبت الأنظار نحوها، فهتف سراج بصوته المرتفع:
, -يالا يا رجالة.
,
, تحامل تميم على نفسه، وحاول الاعتدال في رقدته؛ لكن ألمه أبى أن يتركه دون معاناة، بمساعدة الرجال الأشداء حملوه بحرصٍ نحو السيارة، ليستلقي في المقعد الخلفي بمفرده، وما إن جلس منذر خلف المقود تساءل بلهجته المليئة بالجدية:
, -الحكاية مش هتعدي كده، إنت عارف ده؟
, نظرات حائرة تبادلها الاثنان قبل أن يتكلم تميم في النهاية:
, -أيوه، بس خليني أروح المستشفى الأول، وبعدها هتصرف.
,
, أخبره منذر بنبرة عازمة، حاسمًا هو الآخر أمره:
, -إنت مش هتشيل الليلة لوحدك، احنا معاك فيها.
, لم يكن يملك من الطاقة الذهنية –أو البدنية- ما يدفعه للنقاش معه، فكامل قواه قد استنزفت بالكامل، كان في حاجة لفسحة من الوقت ليستعيد خلالها قدرته على التفكير واتخاذ القرار. استمر منذر في تحديقه به، وسأله بصوتٍ هادئ:
, -هنبلغ البوليس؟
, صمت للحظاتٍ ليفكر في الأمر، فبادر بإخباره، كنوعٍ من الإيضاح:.
,
, -مش عايزك تقلق، كل حاجة مترتبلها
, علق عليه بعد زفرة تحمل أنات التعب:
, -إزاي يعني؟
, أجابه بابتسامةٍ بسيطة:
, -أنا عامل حسابي، فاكر لما قولتلك إني بعت اتنين من رجالتي قبلنا؟
, هز رأسه بالإيجاب، فأكمل:
, -كنت موصيهم يصوروا كل اللي هايحصل من بعيد، كأنهم معديين بالصدفة، فمافيش حاجة هتدينك.
, رد على مهلٍ، وتعابير الرضا ترتسم على محياه:
, -مش عارف أقولك إيه يا منذر؟
, -استدار ليحدق في الطريق مرددًا بارتياحٍ بسيط:.
,
, -متقولش حاجة، احنا إخوات.
,
, راحت تتابع بقلبٍ مرتاع، ونظراتٍ مليئة باللوعة والخوف الطريق من نافذتها، لم تتجلس للحظة، ولم تتوقف عن الدعاء، عقلها مفصول عمن حولها، تنتظر بترقبٍ مذعور قدوم شقيقها بابنها المختطف، أشفق الجميع عليها بعد انتشار خبر اختطافه على يد أبيه القاتل. لمسة حانية من والدها على كتفها جعلتها تدير رأسها نحوه، انسابت بغزارة عبراتها الحارقة، شهقت قائلة بصوتٍ متقطع، معبرة له عن هواجسها:.
,
, -خايفة على ابني يابا، هو مالوش ذنب.
, قال بيقينٍ لا تشكيك فيه:
, -ربك هينجيه، خلي عندك إيمان ب****.
, عادت لترفع بصرها للسماء، وتوسلت بتضرعٍ شديد، وعيناها تتسابقان في ذرف العبرات:
, -يا رب إنت عالم بحالي، ماتضرنيش في ابني أبدًا.
, قال مؤمنًا عليها:
, -أمين يا رب.
, رن هاتفه في يده، فنظر إلى شاشته قبل أن يجيب على الهاتف، وصوت ابنته يلاحقه:
, -مين يابا؟
, أشار لها بيده لتصمت، ونطق بتريثٍ:
, -أيوه يا تميم.
,
, لم يكن ابنه المتصل، بل تولى منذر المكالمة عنه، وأخبره بإيجازٍ عما حدث. تابعت هاجر سكوت والدها بقلبٍ يخفق في قلقٍ، طلت نظرات ارتياعٍ من عينيها، حبست أنفاسها، وضمت قبضتيها إلى صدرها في توجسٍ متعاظم، انتابها هاجس لخطي من حدوث الأسوأ، فلاحقته متسائلة ببوادر هلع، عندما طال صمته:
, -لاقاه؟ عرف يوصله؟
, أشار لها بعينيه لتصمت، هدوء والدها أكد لها أن الأمر ما زال بخير، وازداد تأكيدًا بترديده بعد برهةٍ:.
,
, -ألف حمد وشكر ليك يا رب.
, سألته على الفور، وقد تعلقت بذراعه:
, -ابني معاه صح؟
, أومأ برأسه مُجيبًا إياها وهو يضغط على زر إنهاء المكالمة:
, -الحمد**** عرف يجيبه، بس آ٣ نقطة
, بتر عبارته بشكلٍ جعل الرعب يدب في قلبها، سألته بنظراتٍ شاخصة:
, -بس إيه؟ جراله حاجة؟
, قال نافيًا، والعبوس يملأ ملامحه:
, -لأ، محرز مات.
, لم تبدُ آسفة على وفاته، ولم تتعاطف معه، بل ظنت أنه نال ما يستحق عقابًا لجرائمه، ودمدمت بصوتٍ تحول للحنق:.
,
, -منه لله الظالم، عقابه عند ربنا٣ نقطة
, عادت اللهفة لتكسو تعابيرها، وسألته:
, -هيرجع تميم بيه امتى؟
, أجاب بتنهيدة مرهقة:
, -مسافة الطريق.
, ضمت هاجر يديها معًا، وركزت كامل أنظارها على الطريق، ولسان حالها يدعو برجاءٍ كبير:
, -ردهم سالمين يا رب.
,
, نظرات متأملة، محملة بالشوق والحنين، سلطها على النافذة العلوية، طامعًا أن يلمحها إن أطلت منه، رغم عدم تأكده من حدوث ذلك؛ لكن قلبه التواق منحه الأمل الزائف، فهو لم يشبع بعد من رؤيتها، الدقائق لم تعد كافية، احتفظ عقله بصورة طيفية لملامح وجهها المليء بدموعه الفرحة بعد أن سلمها رضيعها، ضمته بشدة، وكأنه سينفذ إلى ضلوعها، رغبة منها في حمايته من شرور البشر، خاصة والده الحقير منعدم المشاعر والضمير، كم تمنى سراج في تلك اللحظة أن يرزقه **** بطفل منها ينال عاطفتها الكبيرة! تذكر صوتها الباكي وهي تشكره بعينين متلألأتين:.
,
, -كتر خيرك يا معلم سراج.
, خفقة موترة ضربت فؤاده، وجعلت دقاته تتلاحق، صوتها الناعم المليء بالشجن، كان له أكبر الأثر على نفسه، شعر وكأن الكلمات فرت من على طرف لسانه، فقال بتلعثم المراهقين:
, -ده واجبي يا، ست البنات.
, أخفضت هاجر نظراتها لتنظر إلى شاله الصوفي، والذي لف به الرضيع ليحميه من البرد، كانت على وشك نزعه عنه، فأصر عليها بخوفٍ غير مصطنع وهو يشير بكفيه:
, -و**** لتخليه، أنا مش عايزه.
,
, نظرت إليه بأهدابٍ رطبة، بسمة باهتة اخترقت الحزن السائد على وجهها، لتختفي بعدها كما تشكلت. شكرته مجددًا بخفوت، وانسحبت بوليدها للداخل، آلمه رؤيتها تقاسي في صمت، أراد لابتسامتها الرقيقة أن تدوم على شفتيها، أن يمسح عنها همومها، أن يسمع صوت ضحكاتها يجلجل عاليًا في سعادةٍ ومرح، فهل يُكتب له في يومٍ تحقيق هذا؟ حرر سراج تنهيدة ثقيلة من صدره بعد أن عاد لواقعه الخالي من وجودها، تحفز في جلسته، وأدار المحرك بمجرد أن استقر بدير إلى جواره في مقعد الراكب؛ كان الأخير شاكرًا لمعروفه معه، وأجزل له من عبارات الثناء والتقدير، فقال:.
,
, -و**** يا سراج يا ابني اللي بتعمله معانا كتير، غيرك كان آ٣ نقطة
, قاطعه بعتابٍ رقيق، وهو يوزع نظراته بينه وبين الطريق:
, -عيب كده يا حاج، و**** هتزعلني، في النهاية احنا كلنا أهل.
, حرك بدير رأسه بهزة خفيفة، وزفر مرددًا بكلماتٍ ذات دلالة صادقة:
, -**** يديم المعروف والخير بينا يا رب، فعلاً ما محبة إلا بعد عداوة.
, رد بهزة صغيرة من رأسه:
, -**** كريم، وحمدلله على سلامته يا حاج بدير.
, التفت ناحيته ليخاطبه بنبرة ودودة:.
,
, -**** يسلمك يا ابني، **** يكرمك ويصلح حالك.
, خرج صوت سراج مفعمًا بالألفة وهو يتابع حديثه معه:
, -كنت ارتاح يا حاج، مالهاش لازمة تتعب نفسك، كلنا واقفين مع تميم، محدش فينا قصر معاه.
, تهلل وجهه بأمارات الاستحسان، وقال بنوعٍ من المدح:
, -ونعم الصُحبة.
, واصل سراج إخباره، كتمهيدٍ مُسبق لإطلاعه على مسألة إعادة احتجاز ابنه في المشفى:.
,
, -مش عايزك تقلق يا حاج من كلام الدكاترة، إنت عارفهم بيحبوا يهولوا الأمور، صحيح هما يعني صمموا إن تميم يفضل كام يوم في المستشفى، بس إن شاء**** يقوم منها على خير، ويرجع يقف على رجليه.
, بدا هادئًا وهو يعقب عليه:
, -طالما فيه الصالح ليه، منقدرش نعترض.
, ٣ نقطة
,
, افترشت علامات الضيق وجهه، لم يكن راضيًا عما تم تنفيذه دون الرجوع إليهم، لكون الأمر مؤثرًا بشكلٍ كبير على ترتيباتهم السرية، تلك التي لا يعلم عنها أحد شيئًا؛ لكن خرج الأمر عن السيطرة، ومع جنون محرز فسدت كافة المخططات الحالية، وربما عرقلت مضيها في الطريق السليم. انتصب الضابط وجدي في وقفته بالغرفة الراقد فيها تميم، ووجه له توبيخًا بدا إلى حدٍ ما قاسيًا حينما أخبره بصوته المرتفع:.
,
, -كان لازم تستنانا، مكانش ده الاتفاق، إنت كده عملت اللي في دماغك.
, ظهر الألم على قسماته وهو يرفع جسده للأعلى مستخدمًا مرفقيه، ليريح ظهره على الوسادة الموضوعة خلفه. نظر في عينيه بقوةٍ، وعلل له بصوته المرهق:
, -يا باشا كل حاجة جت بسرعة، وزي ما شوفت أنا كنت هاروح فيها.
, رمقه بنظرة غامضة، لا تتوقف عن لومه، وردد مع نفسه بصوتٍ خفيض حائر:
, -كده الحسابات كلها اتلخبطت.
, سأله تميم بعينين ضائقتين:
, -لو في إيدي حاجة آ٣ نقطة
,
, رفع وجدي يده أمام وجهه ليقاطعه بلهجة جادة، كنوعٍ من إنهاء المناقشة:
, -خلاص يا معلم، في ظابط هايجي ياخد أقوالك.
, رد بإجهادٍ:
, -أنا موجود مش رايح في حتة.
, تركه متجهًا نحو الخارج، ويده تطلب الرقم الدولي الخاص برفيقه المقيم حاليًا بالخارج، وما إن أجاب عليه حتى اندفع يخبره بضيقٍ شديد:
, -ألوو، أيوه يا ماهر، عندي أخبار مش حلوة ليك.
, ٣ نقطة
,
, كالتاجر المفلس حينما تنضب مصادر تمويله، يُفتش في دفاتره القديمة، عله يجد بين المنسي دينًا غفل عنه، هكذا كان آسر مؤخرًا! فعندما ضاق الخناق عليه، وشحت الأموال المتاحة في يده، أخذ يبحث بين ملفاته القديمة عن تسجيل مرئي لإحدى زوجاته السابقات، ممن اشترين شرفهن بالنقود، رغبة في التخلص منه، ليقوم بابتزازها مجددًا، فتغدق عليه بالأموال، منعًا لتلويث سمعتها. وبعد وقتٍ طويل من مراجعة حقيبة الأسطوانات العتيقة وجد ضالته. ابتهجت أساريره، وشعر بنشوةٍ عارمة تجتاحه، خلل أصابعه بين شعره قائلاً ببسمة انتصارٍ خبيثة:.
,
, -كده مش ناقص غير أكلم المُزة٣ نقطة
, زادت ابتسامته اتساعًا وهو يضيف:
, -وهترجع تزهزه معاك من تاني يا آسر.
, ٣ نقطة
,
, أرجأ إطلاعها على الأخبار السيئة، لم تكن بحاجة لمعرفة كل شيء في الوقت الحالي، خاصة أن هذا الجزء لا يهمها، وإن كان ذو صلة وثيقة بقضيتها. سحب ماهر المقعد، وقربه من فراش فيروزة التي بدت أفضل حالاً عن ذي قبل، ومع هذا عكس وجهه وجومًا غير طبيعي، استشعرته حتى من نظراته نحوها، كانت على وشك الاستفسار منه؛ لكنها ابتلعت السؤال في اللحظة الأخيرة، تركته يستهل الحديث معها بقوله:.
,
, -في الوقت اللي آسر مش موجود فيه في البيت، رجالتنا زرعوا أجهزة التنصت في الشقة، ما عدا أوضة النوم والحمام.
, نظرت له بغرابة، فأكمل موضحًا بعد أن ضغط على شفتيه للحظة:
, -وده عشان خصوصيتك إنتي، مش حد تاني.
, ابتسمت له في امتنانٍ لمراعاته تلك الجزئية تحديدًا، فالشعور بأنها مراقبة من أعين غريبة لن يكون مريحًا على الإطلاق، خاصة حينما تتشارك الفراش مع ذلك النذل المسمى زوجها، انتبهت له بتركيزٍ أكبر وهو يشدد عليه:.
,
, -بس ده هيخليكي تقومي بالمهمة دي بنفسك، تسجليله من غير ما ياخد باله، بالجهاز اللي هايكون معاكي.
, أبدت استعدادها بمهمتها الجديدة، وقالت:
, -مافيش مشكلة يا ماهر بيه، عرفني بس إزاي أتعامل مع الجهاز.
, -دي بسيطة.
,
, نطق بجملته وهو يخفض أنظاره نحو هاتفه المحمول، فقد ورده اتصالاً هاتفيًا من أحد الأشخاص المكلفين بالتعاون معه في هذا البلد العربي. نهض ماهر من مقعده، وانسحب مستأذنًا من غرفتها ليجيب على مكالمته بعيدًا عنها، انعكس القلق على تقاسيمه، واستطرد يقول بصوتٍ حاول أن يبدو هادئًا:
, -خير يا فندم؟
, ٣ نقطة
,
, على مسافة بضعة كليومترات من تلك البلدة، أقيمت محطة حديثة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نمطٍ مستحدث، تخدم المنطقة ومن حولها من بلدات صغيرة. المحطة الرئيسية مقسمة داخليًا لعدة محطاتٍ صغيرة، كل واحدة تختص بدورٍ محدد خلال مراحل المعالجة، في البداية تتحرك كافة المخلفات المتجمعة عبر محطة الرفع، ليتم صبها عبر الأنبوب الواسع إلى المحطة التالية؛ محطة الغربلة، حيث يتم فصل المواد الصلبة، والحيوانات النافقة، وغيرها من الأشياء العالقة غير القابلة للذوبان، وهناك وقف أحد مسئولي المتابعة يراقب أداء العمل في منطقته تلك، نظراته كانت تدور بين الحين والآخر على المخلفات المتراكمة بالحوض المتسع. جاءه أحد المشرفين يشكوه:.
,
, -يا ريس في مشكلة عندنا في المحطة.
, سأله بتعابيره الجادة:
, -في إيه؟
, أجابه وهو يشير بيده:
, -منسوب الضخ قليل.
,
, في بعض الأحيان، تستعمل خطو الصرف الصحي في غير أغراضها المخصصة لها، حيث يقوم بعض المواطنين بتصرفاتٍ مضرة للبيئة دون وعيٍ أو إداركٍ لخطورة أفعالهم غير المدروسة من خلال إلقائهم للحيوانات النافقة، والمخلفات الزراعية الصلبة، والبقايا غير القابلة للتحلل العضوي في غير مناطق التخلص منها، مما يؤدي في الأخير لحدوث انسدادٍ أو عطب في إحدى المحطات. فكر مسئول المتابعة مليًا للحظة، وأمره:.
,
, -كلم الغطاس ينزل يشوف إيه اللي سادد المِجرى، مش ناقصين دوشة.
, أومأ برأسه قائلاً:
, -تمام يا ريس.
,
, ذهب سريعًا لاستدعاء الغطاس، فأعد الأخير أدواته ليهبط بواسطتها، إلى داخل مياه الصرف الخاصة بمنطقة الرفع، للكشف عن سبب هذا العطل. أزاح بعض الأغطية البلاستيكية الممزقة، وفروع الأشجار المقطعة، وبعض من الطحالب والبقايا النباتية، وجد كذلك طيورًا نافقة، أزاحها عن الفتحة، وكانت المفاجأة الصادمة حينما امتدت يداه لتجذب ما بدا وكأنه ذراعًا، في البداية لم يستوعب الأمر، إلى أن استمر في جذبه للكتلة الثقيلة، فظهرت له بقيتها، معالم جثة بشرية، مُلطخة بالأوساخ، برقت عيناه، خاصة مع تشوه أطرافها واختراق لحمها المهترئ لبعض الأغصان الخشبية الحادة. اضطرب تنفسه، وكاد يختنق بالأسفل جراء أصابته بصدمةٍ لحظية، سيطر على خوفه، وتركها تقبع في مكانها، ليصعد بتعجلٍ للأعلى محملاً بأخبارٍ ستقلب المحطة رأسًا على عقب.
,
, ٣ نقطة
,
, ممارسة تلك المهام غير القانونية لا تتم دون تخطيط منظم، أو ضوابط معينة، هناك أشخاص غير معلوم هويتهم، يقفون بالمرصاد لكل من يشرد عن القطيع، أو يتصرف وفق أهوائه دون الرجوع إليهم، اعتقادًا منه أنه قادر على إدارة أزمته وحده؛ لكن ذلك يدفعه للوقوع في المحظور. أمام واجهة غرفة مكتبه الزجاجية -والتي تمتد بطول الحائط- حملق ذاك الرجل المهيب في الفضاء الشاسع الممتد لمساحة لا نهاية له، وكأسه الممليء بالنبيذ يلامس شفتيه. لم يدر رأسه للواقف خلفه عندما سأله مستفسرًا بلكنته الأجنبية:.
,
, -ماذا قررت بشأنه؟
, تذوق النبيذ باستمتاعِ رجل خبير، وقال بنبرته الباردة:
, -أصبح ورقة محترقة.
, سأله ليتأكد من جديته:
, -إذًا أنت مع التخلص منه؟
, جاوبه رافعًا كأسه للأعلى، ويده الأخرى تندس في جيبه:
, -وفي أسرع وقت.
, حادثه بلهجته الرسمية:
, -كما تأمر سيدي.
, ٣ نقطة
,
, على حسب الموعد المتفق عليه، اختال في مشيته وهو يتجه نحو الطاولة المحجوزة باسمه في هذا المطعم الراقي المطل على الخليج، ساعدته ثقته الكبيرة في نجاح خطته على الظهور بمظهر القوة، خاصة مع استجابة ضحيته له، واستجدائها المستميت له بألا يتهور ويفسد حياتها المستقرة بذكريات الماضي المدنسة. مرر أنظاره على الجالسين من حوله، بدت الأجواء طبيعية، باعثة على الهدوء، حتى الخلفية الموسيقية عززت من هذا الشعور، غاص آسر في مقعده، واضعًا ساقه فوق الأخرى، تقدم نحوه أحد الندلاء بصينية تحمل قهوته، وضعها أمامه وهو يبتسم له بعمليةٍ، بدأ في ارتشافها على مهلٍ وهو ينتظر بترقب قدوم ضيفته، لمحها من على بعدٍ، فدفع مقعده للخلف لينهض مستعدًا لاستقبالها، دنت منه إحدى السيدات بخطواتٍ شبه عاجلة، ونظراتها القلقة تحوم حولها، طمأنها ببسمته المغترة عندما أصبحت في مواجهته:.
,
, -متخافيش، المكان ده محدش هيعرفك فيه٣ نقطة
, ثم أشار لها بيده لتجلس، وتابع بنفس الهدوء المستفز:
, -اتفضلي، مش معقول هنتكلم واحنا واقفين.
, بعصبيةٍ متوترة جلست قبالته، وضعت المرأة حقيبتها على الطاولة، وصاحت فيه؛ وكأنها تنذره:
, -اعمل حسابك دي آخر مرة هدفعلك فيها فلوس.
, أسبل عينيه معاتبًا إياها بنعومةٍ زائفة:
, -طب مش نسلم على بعض الأول ونشرب حاجة كده؟ ده احنا بقالنا زمن ماشوفناش بعض.
, صاحت في استهجانٍ منفعل:.
,
, -وأنا مش عايزة أعرفك تاني، إنت صفحة واتقفلت من حياتي.
, رمقها بنظرة محذرة قبل أن يرد عليها:
, -اهدي كده يا مدام، ماتنكريش إن لولا معرفتك بيا مكونتيش بقيتي هانم دلوقتي.
, احتقن وجهها من تلميحه القذر، وهدرت به:
, -إنت مش محترم!
, قست نظراته، وسقط القناع عن وجهه الحقيقي، ليواصل تهديدها بتبجحٍ مستفز:
, -هتغلطي فيا هزعلك، ماتنسيش الفيديو بتاعك لسه معايا.
, تضرجت بشرتها بمزيدٍ من الحمرة المنفعلة، وسألته بنبرةٍ متشنجة:.
,
, -إنت بتعمل كده ليه؟ هتستفاد من أذيتنا إيه؟
, ببرودٍ أجابها، وهو يرفع فنجان قهوته إلى شفتيه:
, -ده شغل.
, كزت على أسنانها متسائلة بهسيسٍ حانق:
, -بتعتبر ابتزازك ليا ولغيري بفيديوهات مش حقيقية شغل؟
, هز رأسه إيجابًا ليستفزها، فتشدقت قائلة بنزقٍ:
, -لأ ده بيتقال عليه حاجة تانية!
, رفع سبابته أمام وجهها الغاضب يحذرها بسخافةٍ باردة:
, -لسانك يا بيبي.
,
, لعنته بسبة لم تفارق ثغرها، ثم قامت بفتح حقيبتها لتخرج منها مظروفًا يحوي عملات أجنبية، مدت يدها به في اتجاهه، وقالت بغيظٍ واضح عليها:
, -خد، ومش هادفع تاني.
, سحب المظروف من أسفل يدها، وتلك النظرة المتوهجة تشع من عينيه، ثم قال بابتسامةٍ منتشية:
, -تسلمي يا حبي.
, وقبل أن يدس المغلف في جيب سترته، قبضة قوية أوقفت يده مصحوبة بلهجة آمرة:
, -عندك!
,
, رفع آسر عينيه للأعلى لينظر بذهولٍ صادم لرفيقه الذي حجب بطوله الفاره الرؤية عنه، لعق شفتيه، وردد بتعابير مدهوشة؛ وكأنه لم يفق من صدمته بعد:
, -مين؟ ماهر؟
, ابتسامة غرور، تتبعها نظراتٍ فخرٍ اعتلت قسمات وجه ماهر، ظل قابضًا على يده، وأخبره بنبرة بدت هازئة:
, -منور يا آسر.
, حاول أن يتمالك نفسه محاولاً السيطرة على انفعالاته، تنحنح بربكةٍ ملحوظة، وسأله بلجلجة بائنة في نبرته:
, -إنت، بتعمل إيه هنا؟ جاي زيارة؟
,
, وفي لمح البصر تشكلت حول الطاولة طوقًا أمنيًا من أفرادٍ ظهروا بملابسٍ رسمية، باعد آسر أنظاره المتوترة عنهم، ليحدق في وجهه عندما أخبره ببساطةٍ:
, -لأ، ده أنا جاي عشانك مخصوص، أقبض عليك.
, ارتفع حاجباه للأعلى في دهشةٍ، وسأله بوجهٍ بُهت بشكلٍ ملحوظ:
, -تقبض عليا؟
, اكتسى وجه ماهر بالجد عندما أكد عليه:
, -أه طبعًا٣ نقطة
, ثم تحولت أنظاره نحو المرأة التي تغيرت ملامحها للسرور، وتابع:.
,
, -هو أنا مقولتلكش إن الهانم مرتبة معانا عشان نمسك بيك مُتلبس؟
, انفجر مستنكرًا في غضبٍ جم:
, -ده كدب، أنا محامي، وده مقدم أتعاب اتفاق شغل بينا، يعني أقدر أطعن على المهزلة دي بسهولة.
, ربت على كتفه معلقًا عليه باحتقارٍ واضح:
, -اطمن يا اللي كنت صاحبي، مش هاتعرف تطلع منها المرادي، لأن كله متسجل صوت وصورة.
,
, برقت عيناه أكثر وهو محدق به مطولاً بتعابيره الذاهلة، فرغم باعه الطويل في استدراج السُذج من النساء للإيقاع بهن في شباكه الغريقة، لاستغلالهن واستنزافهن ماديًا حتى تفرغ حاجته منهن، إلا أنه لم يتوقع أن يتم الإمساك به بتلك السهولة، وعلى يد رفيقه، كان حدوث ذلك أبعد ما يكون عن الخيال. للحظة توقف تفكيره عن العمل، تضاربت أفكاره، وبدا مشتتًا، أعمل عقله بجهدٍ شديد ليصل إلى حل ينجيه من تلك المعضلة الشائكة. أحس آسر في خضم هذا الموقف بألمٍ يجتاح أسفل معدته، تغاضى عن حدته التي ازدادت تدريجيًا، وحاول أن يشرح لرفيقه معللاً بأكاذيب اجتهد في ارتجالها:.
,
, -إنت فاهم غلط يا ماهر، صدقني دي واحدة مش تمام، وضحكت عليا، وأنا كنت بأجاريها في اللي بتقوله، إنت تعرف عني كده؟ ده احنا عِشرة سنين، وأختك آ٣ نقطة
, قاطعه بحزمٍ:
, -ماتجيبش سيرة علا على لسانك.
, بالكاد تمكن من ضبط أنفاسه التي اضطربت، وهتف يرجوه، متلمسًا الفرصة لإعادة صياغة الأحداث:
, -ماشي حاضر، بس إديني فرصة أصلح سوء التفاهم اللي حصل ده، إنت لو سمعتني للآخر هتعرف إني مظلوم.
, قبض عليه من ذراعه، ليرد برسميةٍ بحتة:.
,
, -إنت هترجع معايا على مصر، وهناك هنتحاسب على القديم والجديد.
, تقلصت أحشائه بوخزاتٍ أعنف، وأحس بنيرانٍ حارقة تتصاعد في بدنه، تضاعف عرقه المتصبب من كامل جسده، تلقائيًا وضع يده أسفل معدته ليمسك بها، كز على أسنانه مستنجدًا:
, -بطني بتتقطع، الحقني يا ماهر.
, تجاهل ما قاله لينظر له باستخفافٍ، قبل أن يخاطبه بما يشبه التهكم:
, -مش شايف إن الحركات دي مهروسة؟
,
, لم يكن آسر بالمازح في إظهار ألمه، تقوس ظهره، وانحنى للأمام مقاومًا بضراوة الآلام التي تفتك به. ارتفع صوت لهاثه المتحشرج، وغرق جسده في عرقه الغزير، حتى دقات قلبه كانت تنبض بعنفٍ لم يستطع مضاهاته، نظرة خاطفة وسط الغيمة التي حطت على رأسه سددها لوجهٍ بدا مألوفًا له، تعمد ذاك الرجل الظهور في محيطه ليرسل له رسالة صريحة صامتة وهو يرفع فنجان قهوته للأعلى، تعني أنه قد صدر الأمر النهائي بالتخلص منه، وها قد نُفذت الأوامر. تضاعفت التشنجات في أطرافه، وترجرج كامل جسده، حتى لم يعد ماهر قادرًا على تثبيته. افترش آسر الأرضية بجسده، وفمه يريق سائلاً رغويًا غريبًا، شهقة أخيرة متحشرجة خرجت من أعماقه قبل أن يهلك صريع السم على مرأى ومسمع من الحضور المذهولين٣ نقطة!
 
١٨



بدا على وجهه خيبة الأمل والتذمر، بعد تفقده للعرق النابض في عنقه ليتأكد من موته الذي كان صادمًا له، بالرغم من مقته لكل تصرفاته المسيئة. استقام ماهر واقفًا، ووجه أوامره لمن حوله بتطويق المكان أمنيًا، وعدم السماح لرواد المطعم بالخروج قبل استجوابهم كل فردٍ على حد، نظرًا لاحتمالية تورط أحدهم في قتله. اتجهت أنظاره نحو المرأة التي بدت غير راضية عن احتجازها، وصاحت في غضبٍ معترضة على إبقائها قسرًا:.
,
, -يعني إيه تحققوا معايا؟ إذا كنت أنا اللي مبلغة عنه.
, توجه ناحيتها، وأخبرها بهدوءٍ:
, -حضرتك فاهمة إن دي جريمة قتل، وده إجراء طبيعي هيتعمل مع الكل.
, سألته بنظرةٍ متشككة:
, -يعني أنا مش مقبوض عليا؟
, جاوبها نافيًا بنفس الأسلوب الهادئ:
, -لأ.
, لم يملك ماهر النية لاستمرار حديثه معها لولا أن بادرت بقولها الشامت:
, -الحمد**** إنه خد جزائه، ده ذنب كل واحدة جه عليها في يوم، مع إنه كان يستاهل أكتر من كده.
,
, استرعت انتباهه بكلماتها العفوية، فسألها مستوضحًا بطريقته المحققة:
, -قصدك إيه يا مدام؟
, هتفت بنقمٍ حانق:
, -يا فندم قناع الشياكة والبراءة اللي كان موريه للكل كان وراه صندوق أسود، مليان بلاوي شبهه.
, تنحنح طالبًا منها:
, -ممكن توضحي أكتر؟
, أخبرته دون الحاجة لأدنى رجاء لفعل هذا:.
,
, -حضرتك عارف إني مكونتش أول ضحية ليه يبتزها؟ أنا زيي زي غيري ضحك عليهم عشان فلوسهم، ولما يتكشف المستور يساومنا، إما ندفع ونخلص منه، أو يفضحنا بفيديوهات متلفقة.
, احتدت نظراته متسائلاً بنظراته الثاقبة:
, -إزاي؟
, بشفاه مقلوبة أجابته؛ وكأنها تشمئز لذكر ما هو متعلق به:
, -البيه اللي عامل نفسه محامي محترم كان بيدير مواقع دعارة وقلة أدب.
, رد عليها بهدوءٍ:
, -ما ده عارفينه.
,
, جاءه سؤالها نزقًا، صادمًا وهي ترمقه بنظرةٍ ذات دلالة قوية:
, -وحضرتك كنت تعرف إنه كان عاجز؟
, هتف مشدوهًا:
, -نعم؟
, أكدت عليه معلنة عن كامل أسراره:
, -أيوه زي ما قولت لحضرتك، جوازاته كلها كانت أونطة، كانت سِكة يجيب بيها تمويل لمشروعاته القذرة.
, دعاها للجلوس ليقول بلباقةٍ:
, -هستأذنك كده تحكيلي كل حاجة بالتفصيل.
, ردت موافقة على طلبه:
, -حاضر٣ نقطة
, ومع هذا أبدت سخطها على نهايته التي بدت غير مؤلمة بقولها:.
,
, -كان نفسي مايموتش بالسهولة دي، واحد زيه كان لازم يتجلد ويتعذب مليون مرة، يدوق المرار كله قبل ما يقول حقي برقبتي.
, بتريثٍ عقلاني تحدث إليها:
, -حسابه عند **** دلوقتي، يا ريت تسيبك من طريقة موته، وتقوليلي كل حاجة عرفتيها عنه.
,
, فرصة واتتها على طبقٍ من فضة؛ وإن لم تجدِ نفعًا الآن، لكونه أصبح ميتًا، لن تقتص منه؛ لكنها أرادت إطلاع الجميع، على ما احتواه صندوق أسراره الأسود من قاذوراته النجسة، ردت مبتسمة في نشوةٍ واضحة عليها:
, -هاعرفك بكل حاجة أعرفها عنه.
,
, حول فراشه المريح بغرفته المستقلة بالمشفى، اجتمع أفراد عائلته ورفاقه المقربين، في الوقت المخصص لزيارته للمكوث معه قدر المستطاع، ورغم تذمرات إدارة المشفى من التجاوزات غير المسموح بها، والتي قد تسبب في إرهاق المريض، إلا أنه تم وضع استثناء مؤقت له، بعد اللجوء لوساطات خارجية لتسهيل الأمر. تساءل الجد سلطان موجهًا حديثه للطبيب الواقف عند حافة الفراش، يدون بعض الملحوظات في الأوراق المثبتة بالحامل المعدني:.
,
, -يعني هيخرج امتى؟
, أجابه بابتسامةٍ لبقة:
, -قريب يا حاج، هو في تحسن، لكن وجوده دلوقتي هنا أفضل عشان مايحصلش مضاعفات تضره فيما بعد.
, سعل تميم قليلاً، وخاطب والدته المحدق بها:
, -سمعتي يامه، أنا كويس أهوو، بلاش قلق عليا.
, ربتت ونيسة على جانب ذراعه، ودعت له بابتسامةٍ متفائلة:
, -**** ما يسمعني غير كل خير عنك يا حبيبي.
, في حين أضافت هاجر من ورائها وهي تهدهد رضيعها:
, -حمدلله على سلامتك ياخويا.
,
, وجه أنظاره إليها متسائلاً بودٍ:
, -أخبار سلطان الصغير إيه؟
, ببسمة مشرقة أجابته، وهي ترفعه للأعلى قليلاً ليتمكن من رؤية وجهه:
, -الحمد****، بيبوس إيد خاله.
, هز رأسه في حبورٍ، وقال:
, -**** يحفظهولك.
, أردف بدير قائلاً بحماسٍ وهو يشير بيده:
, -بإذن **** الأيام الجاية العمال هتخلص توضيب الدكان، معدتش إلا حاجات بسيطة.
, استدار ناظرًا نحوه ليرد:
, -على خيرة ****.
, في حين علق منذر بدوره في نوعٍ من المزاح:.
,
, -بيتهيألي كده وجودنا معدتش ليه لازمة؟ الوضع بقى مستتب، وكله تمام.
, عقب عليه بدير بعتابٍ ودود:
, -متقولش كده يا ابني، إنتو أصحاب مكان.
, قال منذر مؤمنًا على كلامه:
, -أه طبعًا يا حاج، احنا بس هنشوف مصالحنا، ومواجدين معاكو.
, بمرحٍ أضاف دياب وهو يربت على كتف شقيقه:
, -هما يومين بالعدد، وهتلاقينا فوق دماغك يا تميم.
, التفت منذر يرمقه بنظرة متشككة، قبل أن ينطق ساخرًا منه:
, -مسمعتكش ست الأبلة، كانت سنجفتك.
,
, ضيق دياب نظراته، وأكد له بابتسامةٍ عريضة:
, -عيب عليك، ده أنا مسيطر برا وجوا.
, كتم ضحكة هازئة منه عندما رد:
, -إنت هتقولي يا دياب.
, ترديد ذلك اللقب الدارج بصورة عفوية، أعاد بقوةٍ إحياء ذكريات محدودة في خبايا عقله، كانت في وقت ما مصدر بهجته الوحيدة. حافظ تميم على جمود تعابيره غير المقروءة رغم الحزن الكائن في قلبه، ليبقى كما هو هادئًا، مبتسمًا، وإن ظل الألم مستقرًا في أعماقه، حتى يأذن **** بتغييره!
,
, في غرفة أخرى، بدت مريضتها وحيدة كليًا، لا أقارب يودونها، ولا معارف يبكونها، كانت بثينة تستقر على فراشها، الهدوء من حولها، فيما عدا صخبًا محدودًا ناتجًا عن طنين الأجهزة الموصولة به، كانت يقظة الوعي؛ لكنها فاقدة للنطق، رفرفت بجفنيها بوهنٍ حينما أطل عليها ابنها، تأكدت أنها لا تتوهم وجوده. وقف هيثم أمام فراشها، يتأملها بنظراتٍ آسفة مليئة باللوم والحسرة، تقدم نحوها ليبدو قريبًا من وجهها الذي تركز عليه، لم يجلس، ولم يمسك بيدها، ليواسيها؛ وكأنه استصعب إظهار إشفاقه عليها. تخشب في مكانه، في حين احتجزت مقلتاه عبراتٍ حارقة، صوته بدا مختنقًا عندما سألها:.
,
, -عملتي كده ليه فينا كلنا يامه؟
, نظرت له بعجزٍ، فتابع أسئلته المحملة بالذنب:
, -استفدتي إيه في النهاية؟
, فقط نظراتها بقيت مرتكزة عليها، قتل غصة احتلت حلقه حلقه، وخاطبها بألمٍ:
, -لا بقيتي أغنى واحدة في الحتة كلها، ولا بقينا كلنا حواليكي.
, غلف صوته المزيد من الشجن مع سؤاله التالي لها:
, -تقدري تقوليلي فين خلود دلوقتي؟
,
, لم يكن متعاطفًا مطلقًا مع محاولتها لتحريك كتفها المصاب وتقريب ذراعها منه، بل نبذ قربها بتراجعه خطوة للخلف، وقال كأنما يجيب على سؤاله الذي طرحه سابقًا كبديلٍ عنها:
, -ماتت، بس بعد ما اتعذبت عشان تحقق أحلامك إنتي٣ نقطة
, رأى الألم يجتاح عينيها؛ لكنه لم يرفق بها، بل زاد من لومه القاسي عليها، بصوته المتذبذب:.
,
, -إنتي خدتيها وسيلة توصلي بيها للي عايزاه، طمعتيها في حاجة عمرها ما كانت هتبقى ليها، وفي الآخر حصلها إيه؟
, طفرت الدموع من عينيه بغزارةٍ وهو يسألها:
, -طب بلاش هي، قوليلي أنا بالنسبالك كنت إيه؟
, المزيد من مشاعر الوجع والإحباط اجتاحته عندما استرسل في الإفراج عن مكنوناته:.
,
, -حاجة مهملة، واد خايب، مافيش فيا رجا لأني خرجت مع تحت طوعك، مع إنك زرعتي جوايا حقد وغل لجوز خالتي، ولأي حد في عيلة سلطان، وهما مايستهلوش كده، لومتي عليهم موت أبويا، حملتيهم كل الذنب، بس٣ نقطة
, توقف عن الكلام لهنيهةٍ، وصوت شهقاته يرتفع قبل أن يخبرها بحرقةٍ:
, -الحقيقة اللي محدش يعرفها إني٣ نقطة
,
, بالكاد أطبقت على جفنيها وهي تتأمله في صمتٍ إجباري، رأى تأثير حديثه عليها، توترت نظراتها، وتقلصت عضلات وجهها، أنين مبتور خرج من بين شفتيها، بصعوبة نطق معترفًا بالحقيقة الغائبة:
, -أنا السبب، أنا اللي حرقت دكانه بدون ما أقصد.
, اتسعت عيناها في ذهولٍ، فاستدار متحاشيًا نظرات عينيها الجوفاء، وقال بندمٍ:
, -غيري شال ذنب حاجة معملهاش، وأنا فضلت ساكت، خايف أتكلم وأقول الحقيقة وآ٣ نقطة
,
, لكنه عاد ليلتفت نحوها، ويرمقها بنظرة جامدة مسيطر عليها دموعه وهو يواصل إخبارها بمرارةٍ:
, -ونفس العيلة اللي بتكرهيها هي اللي واقفة معانا لحد النهاردة، هي اللي كانت بتدور على الحق عشان تحمينا كلنا، هي اللي إنتي اتفقتي تأذي ابنهم مع الكلب محرز، وبنتك اتقتلت على إيديه.
, كفكف عبراته بظهر كفه، وسألها بصدرٍ متهدج من انفعاله:
, -قوليلي يامه طلعتي بعد ده كله بإيه؟
, جاوبها بكف يضربه بالآخر:
, -ولا حاجة!
,
, نظرة ازدراء استحوذت على عينيه وهو يتابع بصوتٍ يملأه الشجن:
, -وريني بقى هتصلحي اللي فات إزاي بعد ما كله راح منك.
, غص بالبكاء مجددًا، حتى لم يعد يحتمل وجوده بقربها، تراجع مبتعدًا عنها بالمزيد من الخطوات، وخاطبها بلومٍ شديد:
, - خلود بقى هترجعيها إزاي؟ ها ياما؟ هي مش راجعة تاني٣ نقطة
, أولاها ظهره، واتجه إلى الباب ليغادر الغرفة؛ لكن قبل أن يخرج منها، أشار لها بسبابته ملقيًا بكامل اللوم عليها للمرة الأخيرة:.
,
, -ذنب اللي حصلها هيفضل متعلق في رقبتك يامه.
, نظراتها نحوه كانت زائغة، مشبعة بالعبرات، تبدو متأثرة بحديثه المؤلم، ومع هذا لم يكن قادرًا على تصديق مشاعرها كأم مكلومة، رانت من هيثم نظرة أخيرة منكسرة، لينصرف بعدها من غرفتها وهو موقن أن توبتها؛ وإن كانت بحق، لن تبعث الموتى من جديد.
,
, بدت أفضل عن السابق بكثير، اِلتأم جرح رأسها، كما تعافت كدماتها الظاهرية، وخفت آثارها في مختلف أنحاء جسدها؛ لكن لم تندمل بعد جروحها المعنوية. مسدت فيروزة بيدها شعرها وجمعته معًا بربطةٍ رأس صغيرة، لتتركه خلف جسدها على هيئة ذيل حصان، اتجهت إلى الفراش لتجلس عليه عندما سمعت نقرات خفيفة على باب غرفتها، تمددت وسحبت الغطاء على جسدها، ثم صاحت داعية الطارق للدخول:
, -اتفضل.
,
, تعلقت أنظارها ب ماهر الذي خطا ببطءٍ في اتجاهها، ابتسمت مرحبة به:
, - ماهر بيه، اتفضل.
, كعادته سحب المقعد، وقربه من فراشها ليجلس عليه، قبل أن يسألها في اهتمامٍ، وإن عكست تعابيره وجومًا غريبًا:
, -أخبارك النهاردة إيه يا فيروزة؟
, قالت بحماسٍ، محاولة إخفاء توترها:
, -الحمد**** أحسن، وجاهزة أقوم بدوري.
, رفع رأسه وأخبرها بغموضٍ:
, -لأ خلاص، مش مطلوب منك حاجة.
,
, استرابت من عزوفه عن إتمام مهمتها بعد التدريب المكثف الذي تلقته في الأيام الماضية، زوت ما بين حاجبيها في استغرابٍ، ثم سألته وقد اشتد كتفاها:
, -ليه؟ هو آسر كشف الحكاية؟ أنا مشفتوش خالص من يوم ما دخلت المستشفى.
, لحظة من الصمت سادت بينهما، تخللها نظرات غريبة نحوها، إلى أن قرر ماهر النطق في النهاية، فأعلمها بصوتٍ أجوف:
, - آسر مات.
, تطلعت إليه باندهاشٍ لوهلةٍ، قبل أن تردد في إنكارٍ ساخر:
, -مات؟ أكيد دي نكتة.
,
, رد عليها مؤكدًا بنفس الثبات الانفعالي العجيب:
, -دي الحقيقة.
, هتفت في استهجانٍ، وتلك الابتسامة المتهكمة تحتل زاوية فمها:
, -حضرتك بتهزر يا ماهر بيه؟ استحالة يموت بالبساطة دي!
, واصل إطلاعها على ما لم تعلمه بكلماتٍ انتقاها بعناية:
, -صدقيني يا فيروزة هو اتصفى.
, رددت في صدمةٍ مختلطة بالذهول:
, -اتصفى؟
, أومأ برأسه وهو يوضح لها:
, -أيوه، اتقتل، لأنه معدتش ليه لازمة عند اللي مشغلينه.
,
, افتر ثغرها على ذهولٍ كبير، بدت تعبيراتها ما بين الصدمة والاستنكار، لم يأتِ ببالها أن كابوسها المهلك للنفس، والمؤذي للروح انتهى هكذا فجأة، بعد أن سعت جاهدة لتتهيء نفسيًا لمكوثها معه، بتلفيق أكاذيب الحب والغرام. حملقت في وجه ماهر وهو يخبرها بحقيقة أخرى واقعة لا محالة:
, -إنتي كده بقيتي حرة.
, لم تعلق عليه، بقيت صامتة، نظراتها أوحت بأنها ما تزال تحت وقع الصدمة، ناداها بلهجة جادة:
, - فيروزة!
,
, انتبهت له، فأردف قائلاً بندمٍ محسوس في صوته:
, -أنا أسف.
, ضاقت عيناها نحوه، فاستفاض في توضيحه:
, -كنت هورطك في حاجة، وأنا مكونتش عارف طبيعة البني آدم اللي كنتي عايشة معاه.
, أدركت تلميحه الضمني، فغطت عليه بادعائها:
, -مش، فاهمة حضرتك.
, آثر عدم الضغط عليها لتؤكد له ما خاضته من معاناة ضرتها نفسيًا، وتابع بزفرة مسموعة عبرت عن استيائه من تسرعه في الدفع بها في شيء كهذا، دون إدراكٍ جيد لأبعاد مخاطرته:.
,
, -بس أنا فاهم، وسامحيني لأني كنت هأذيكي من غير ما أخد بالي.
, احتفظت بصمتها، بينما نطقت نظراتها عن الكثير من التخبط والحيرة، تأثير الخبر الصادم كان قويًا، يحتاج لمساحة من التفكير لاستيعابه، لم يجرؤ على التطلع إليها، وأكمل اعتذاره اللبق:
, -أحيانًا في شغلنا ده، بنضطر نبص على الحاجة من برا، اللي يخدم مصالحنا وبس، من غير ما نتأكد كويس إن كان في حد يتضر ولا لأ، فأنا أسف يا فيروزة.
,
, بدت أكثر إحساسًا بالضياع والتشتت، خاصة مع إضافته الأخيرة:
, -أنا مش عارف إن كنت أهنيكي على حريتك ولا أعزيكي، لكن كل اللي أقدر أقولهولك إنها فرصة تانية ليكي عشان تبدأي من أول وجديد، وتعيشي حياتك بجد.
, كانت بحاجة لقول أي شيء، لتظهر له تقديرها لمجهوداته؛ لكن الكلمات المناسبة لم تسعفها، فما كان منها إلا أن تمتمت بهدوءٍ، أخفت خلفه صراعًا من المشاعر المتضاربة:
, -شكرًا ليك يا ماهر بيه.
,
, نهض من مقعده، وقال متصنعًا الابتسام وهو يخرج من جيبه هاتفًا محمولاً:
, -تقدري تتواصلي مع أهلك يا فيروزة، ده رقمهم ومعاكي موبايل جديد.
, نظرت إلى ما وضعه على الفراش، ثم رفعت عيناها إليه عندما طلب منها:
, -بس أتمنى ماتحكيش عن اللي حصلك إلا لما ترجعي، يعني هايكون أفضل.
,
, اكتفت بتحريك رأسها بالإيجاب، قبل أن تنخفض عيناها نحو الهاتف، ارتكزت نظراتها الشاردة عليه، حتى أنها لم تتابع مغادرته للغرفة، كما لو أنها غاصت في ذكرياتٍ طويلة مؤلمة، أعادتها لأيامٍ تعيسة بائسة، مضت عليها بطيئة ثقيلة، ساحقة لكبريائها قبل صمودها.
,
, -اتفضلي يا أم البنات، ده نصيبك عن إيراد السنادي.
, قال اسماعيل هذه العبارة، وهو يضع على الطاولة الرخامية، أمام زوجة شقيقه المتوفي، رزمة من النقود الملفوفة برباطٍ مطاطي، خلال زيارته لها في منزلها مع ابنه فضل. نظرت إليه آمنة في امتنانٍ، وقالت كنوعٍ من المجاملة:
, -خلي يا حاج اسماعيل.
, رد عليها بإصرارٍ:
, -لازمًا الحق يوصل لأصحابه٣ نقطة
, ثم أسند رزمة أخرى إلى جوارها، وأتم جملته:
, -وده نصيب خليل كمان.
,
, شكرته على تعبه بترديدها:
, -تعيش يا حاج.
, أخبرها مقترحًا بعدم امتناعٍ وهو يلوح بيده:
, -ولو حابة تراجعي الورق والحسابات، أنا معنديش مانع.
, غامت تعابير فضل، واستنكر تصريحه الأخير، فقال:
, -هي هتخونك يابا ولا إيه؟
, نظر ناحيته قائلاً بصوته الرخيم:
, -معلش، الحق مايزعلش حد.
, ابتسمت له آمنة وهي تعيد تكرار امتنانها له:
, -طول عمرك أبو الأصول يا حاج اسماعيل.
, استدار فضل ناظرًا إليها، ثم طلب منها بوقاحةٍ طفيفة:.
,
, -ما تعلقيلنا على شوية شاي يا مرات عمي، دماغي اتفلقت من كتر الرغي.
, تحرجت منه، وردت وهي تنهض من جلستها:
, -حاضر يا ابني.
, انتظر انصرافها ليعاتب والده:
, -يابا إنت بتديها وش ليه؟ هي مالهاش حاجة عندنا، كتر خيرك أوي إنك قايم على الأرض وطالع عينك فيها.
, رمقه بنظرة محذرة وهو يسأله بلهجةٍ شبه غاضبة:
, -ده حق ****، عايزني أكله عليها عشان **** ينتقم مني دنيا وآخرة؟
, قال على مضضٍ:
, -لأ، بس احنا بنتعب، وآ٣ نقطة
,
, قاطعه خاتمًا حديثه معه في تلك الجزئية:
, -ملكش دعوة، طول ما أنا عايش هارد الحق لأصحابه.
, لم يكن راضيًا عن تصرفه، فأشاح بوجهه بعيدًا، وخاطب نفسه بصوتٍ خفيض عكس سخطه:
, -خليك كده طيب مع ناس ماتستهلش!
, انتبه لرنين هاتف آمنة، فمد يده ليلتقطه، حملق في الرقم الغريب الذي ظهر على شاشته، وحين دقق النظر فيه أدرك أنه لم يكن محليًا، تحفز بشكلٍ مريب، ونهض قائلاً:
, -هادي التليفون لمرات عمي.
,
, رد والده باقتضابٍ وهو يشير له بالانصراف:
, -ماشي.
, لكنه لم يفعل ما أخبره به، بل اتجه نحو الشرفة، ليضغط على زر الإجابة، قبل أن يلصق الهاتف بأذنه، أتاه صوت فيروزة واضحًا عندما نطقت بنعومةٍ محملة بالأشواق:
, -ماما.
,
, اعتلى ثغره ابتسامة خبيثة، حتى نظراته لم تبد بريئة، بدا وكأن خياله الجامح يصورها له بأشكال فاتنة مثيرة، تداعبه فيها بجراءة يرغب فيها، ليستثير حواسه للتجاوب معه. وضع فضل يده الأخرى على صدره يمسحه في حركة دائرية، وهتف بلعابٍ يسيل من جوفه:
, -أهلاً بالعروسة.
, على ما يبدو صُدمت لسماع صوته، فتبدلت نبرتها للجدية وهي تغمغم:
, - فضل؟
, قال باستمتاعٍ، وبابتسامة بلهاء لن ترغب فيروزة في رؤيتها حتمًا على وجهه:.
,
, -كويس إنك لسه فكراني يا بنت عمي.
, سألته مباشرة بجمودٍ:
, -فين ماما؟
, رد بنوعٍ من المماطلة السمجة:
, -مش تسألي عليا الأول؟
, هاجمته بحنقٍ واضح:
, -وأسأل عليك إنت ليه من الأساس؟ وبعدين إنت بترد مكانها ليه؟ اوعى يكون جرالها حاجة؟
, أجابها نافيًا ببرودٍ استفزها:
, -لأ، أمك صحتها أحسن مني ومنك.
, صاحت فيه بغضبٍ متصاعد في نبرتها:
, -**** أكبر عليك، إديها الموبايل خليها تكلمني.
, زاد أسلوبه استفزازًا بسؤالها:.
,
, -إيه دلوقتي افتكرتي إن ليكي أهل؟
, استمرت في صياحها الهادر به؛ وكأنها تهدده:
, -إنت يا بني آدم، أحسنلك تودي الموبايل آ٣ نقطة
, لم يمهلها الفرصة لإكمال جملتها، قطع عليها الاتصال، وقال ببسمة حقيرة قاصدًا استثارة أعصابها:
, -كده أحسن، خلي دمك يتحرق.
, ثم تعمد غلق الهاتف نهائيًا لتفشل في الوصول إليها؛ كما لو أنه بذلك يحقق انتقامه الغبي منها، التفت كالملسوع، حينما سألته آمنة فجأة، وقد تعجبت من وجوده بالشرفة:.
,
, -في حاجة يا فضل؟
, تلجلج وهو يدعي بالكذب:
, -لأ يا مرات عمي، كنت بأبص في الساعة، لأحسن موبايلي فصل.
, ثم رفع هاتفها الموجود في يده للأعلى، وواصل ادعائه:
, -وموبايلك كمان.
, لم تشكك في نواياه الدنيئة، وقالت معتقدة أنها أهملت في الانتباه لخاصتها:
, -أصلي بأنسى أشحنه.
, تعمد تغيير الموضوع متطرقًا لآخر بصورة ملتوية:
, -بأقولك إيه صحيح.
, بدت منتبهة له، وسألته:
, -خير يا فضل؟
, أخبرها بغموضٍ في صيغة سؤالٍ مبطن:.
,
, -مش ناوية تعفي بنت أخوكي؟
, لم يصلها مغزاه، فسألته مستفهمة:
, -قصدك إيه؟
, جاوبها بعد زفرة طويلة:
, -الزمن غدار يا مرات عمي، فخلينا نأمنها من بدري أحسن.
, ما زال عقلها في حالة من الحيرة، ولم يعِ بعد مراده، فكررت عليه سؤالها، عله تفهمه:
, -إنت بتكلم عن إيه؟
, بكل ما فيه من سماجةٍ قال؛ وكأنه أمر مفروغ منه:
, -نطاهرها يعني يا مرات عمي، إنت راح عن بالك الحكاية دي ولا إيه؟
, استنكرت تطرقه لتلك المسألة، وعارضته محتجة:.
,
, -هو أنا عملت ده لبناتي لما هاعملها لبنت أخويا؟
, لامها بوجهٍ مكفهر على ما اعتبره تقصيرًا جسيمًا:
, -ماهو عشان كده متنططين علينا، أنا خدتها من قاصرها وعملتها للبت بنتي.
, تدلى فكها السفلي في صدمة، ثم استجمعت نفسها، وسألته:
, -ومراتك سها وافقت؟
, قال بلهجة من لا يُخير أبدًا:
, -هي تقدر تنطق بكلمة، ده أنا أجيب رقبتها تحت جزمتي.
, برقت عيناها وهي تسأله:
, -وأبوك الحاج اسماعيل واقف على كده؟
, بوقاحةٍ كان رده عليها:.
,
, -أنا صاحب الكلمة في عيالي، مين ما كان مالوش يقول رأيه.
, اغتاظت منه، وللمرة الأولى واجهته بتحدٍ، فارضة رأيها عليه:
, -وزي ما إنت حر معاهم، أنا كمان مش هاعمل حاجة ل رقية، دي أمانة أبوها عندي.
, عقب بشيء من الزهو:
, -ما إنتي بتحافظي عليها، اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
, كان قرارها حاسمًا معه:
, -أنا هحافظ عليها، بس مش بطريقتك دي.
, استهزئ برأيها قائلاً:
, -بكرة ترجعي تندمي، وأنا نصحتك لوجه ****.
,
, رفعت الصينية الفارغة التي حملتها بيدٍ واحدة أمام وجهه، وقالت بتعابيرٍ واجمة:
, -اشرب الشاي يا فضل، زمانه برد.
, رددت جملتها قبل أن تنصرف، فتصاعد الغيظ في صدره مستهجنًا على أسلوبها غير الاعتيادي في التحاور معه، كور قبضة يده، وقال متعهدًا في نفسه، وعيناه تتبعان إياها:
, -بقى كده؟ ماشي يا مرات عمي، أنا مش ورايا غيرك إنتي وبناتك، وهنشوف رأي مين اللي هايمشي عليكم كلكم٣ نقطة!
 
١٩

كان يراهن –بقوةٍ- على سجيتها الساذجة، فأمثالها من النساء محدودات التفكير، لن يستطعن -بما اعتبره عقولهن الناقصة- مضاهاة ذكائه الخارق، سيطرت عليه فكرة بغيضة، كان واثقًا بشدة أن آمنة لن ترتاب في أمره، إن أفسد هاتفها المحمول عن قصدٍ. وبكل ما فيه من خسةٍ ونذالة قام فضل بالعبث فيه، ليصبح قطعة من الخردة، لا تصلح لشيء. ابتسم في انتشاءٍ، وقال بزهوٍ مريض:
, -زي الفل! **** على دماغك يا أبو الأفضال!
,
, استمر في التفاخر الزائف بنفسه قائلاً؛ وكأنه يصنع المعجزات:
, -آه لو كان البلد دي فيها اتنين منك، كنت عملت العجب.
, وقبل أن تستريب زوجة عمه فيه، ترك الهاتف موصولاً بشاحنه، وعاد إليها متسائلاً بلهجةٍ جادة:
, -أومال مافيش أخبار عن بنتك فيروزة؟
, تنهدت قائلة بتعاسةٍ معكوسة على قسماتها:
, -لا و**** يا فضل، **** يرد الغايب.
, تحدث من زاوية فمه قائلاً:
, -تلاقيها مصدقت يا مرات عمي٣ نقطة
, وزاد الطين بلةٍ باتهامها كذبًا:.
,
, -ما هو في ناس بطرانة، أول ما القرش يجري في إيديها تنسى أصلها، وفصلها.
, استاءت من إساءته لابنتها، ودافعت عنها بضيقٍ:
, -بس فيروزة مش كده.
, استفزها بأسلوبه الوقح، فقال ليوغر صدرها ناحيتها:
, -وتسمي تطنيشها ليكي إيه؟ ده حتى المثل بيقول اللي مالوش خير في أهله مالوش آ٣ نقطة
, لم يكن ينقصه سوى صراحته الفجة ليثير أعصابه، والظروف لا تحتمل مضايقاته المستمرة، لذا قاطعه اسماعيل محذرًا، بتعابيرٍ غير راضية:
, -ملكش دعوة يا فضل.
,
, رد بتذمرٍ:
, -هو أنا قولت حاجة غلط؟
, نهض والده من جلسته، وصاح بلهجةٍ اكتسبت الجدية، منهيًا سخافاته اللا محدودة:
, -لا غلط ولا صح، بينا من هنا، لسه مشوارنا طويل.
, بامتعاضٍ كبير غمغم؛ وكأنه طوع بنانه:
, -ماشي يا حاج، اللي تشوفه.
,
, أوصلتهما آمنة إلى باب المنزل، وأغلقته بعد ذهابهما، لتستدير عائدة إلى غرفة ابنتيها، حيث تغفل رقية على الفراش الذي احتضنهما سابقًا، راقبتها بشرودٍ وتفكيرها المهموم ازداد قلقًا وحزنًا على ابنتها، عاتبتها بصوتٍ لم يتحرر من حلقها:
, -بقى كده يا فيروزة أهون عليكي؟ كل المدة دي ومافيش مكالمة منك؟
, أطرقت رأسها بأسى، وتابعت في خيبةِ أمل:
, -**** يهدي الحال.
,
, بقامته الطويلة، وكتفيه العريضين، وقف أمام مدخل الدكان، على مسافة مترين، يحملق بنظراتٍ كلها تركيز، على العاملين الواقفين على السلالم الخشبية، فالاثنان يحاولان بجهدٍ تعليق اليافطة الخشبية الجديدة. لم يتوقف سراج عن إرشادهما لضبطها في المنتصف، خاصة أنه من أصر على إهدائها لعائلة سلطان، كنوعٍ من تجديد روابط الود والمحبة بينهما، ارتفعت نبرته عاليًا وهو يملي بأوامره:
, -هاتها يمين شوية، اوعى تفلت منك.
,
, وضع يده أعلى خاصرته اليسرى، وأشار بذراعه الآخر متابعًا أمره:
, -كده زي الفل.
,
, استمر على تلك الحالة المهتمة لدقائق أخرى، حتى انتهى العاملان من تثبيتها، فأثنى على مجهوداتهما، وأعطاهما من المال ما جعل نواجذهما تظهر. تأملها لبرهةٍ بإعجابٍ قبل أن تنخفض نظراته لتحدق في بقعة مجاورة لمدخل الدكان، حيث اعتاد الحاج بدير الجلوس على مقعده الخشبي، وأمامه طاوله صغيرة مستديرة يضع عليها فنجان قهوته. ابتسم من تلقاء نفسه وقد انتعشت ذاكرته بذكرى رؤيته ل هاجر للمرة الأولى، وبدا وكأن الأمر قد حدث بالأمس القريب.
,
, آنذاك كان متواجدًا مصادفة بالدكان، منتظرًا إفراغ إحدى شاحناته لحمولتها الثقيلة، خفق قلبه بتوترٍ، حين أبصرت عيناه وجهًا نضرًا، يعكس لطافةٍ محببة للنفس مقبلاً عليه، تلبك في جلسته، وأخفض نظراته سريعًا مستشعرًا بحرجٍ غير مبرر، خاصة مع صوتها الناعم المتساءل:
, -فين تميم يابا؟ المفروض يوصلني المدرسة دلوقتي، عاوزة ألحق الدرس.
, أجاب بدير بلهجته الجادة:
, -أخوكي خد العربية يخلص مشوار، شوية وهتلاقيه جاي.
,
, زمت شفتيها للحظة قبل أن تنطق بتبرمٍ:
, -بس أنا كده هتأخر عليه، ومش هالحق الشرح من أوله.
, وجد سراج لسانه ينزلق من تلقاء نفسه مقترحًا:
, -أنا معايا العربية، تعالوا أوصلكم يا حاج مطرح ما تحبوا.
, اعترض بدير بتعابيره الجادة:
, -لأ يا ابني مايصحش.
, أصر عليه سراج ببسمة صغيرة، وعيناه تتقاتلان لعدم النظر ناحيتها:
, -ما احنا أعدين مابنعملش حاجة، وعقبال ما الرجالة ينزلوا البضاعة نكون روحنا وجينا.
, أخبره بحرجٍ لم يخفه:.
,
, -أنا كده هتعبك.
, رد متمسكًا برغبته:
, -تعب إيه بس، العربية موجودة، ومافيش حاجة ورايا٣ نقطة
, نظرة سريعة اختطفها نحوها قبل أن يضيف بلجلجة خفيفة:
, -بينا يا حاج عشان، ست البنات، تشوف مصلحتها.
, شكره بدير مبديًا عرفانه بجميله:
, -تعيش يا ابني٣ نقطة
, ثم وضع يده على كتف ابنته ليدفعها نحو سيارته وهو يأمرها بهدوءٍ:
, -تعالي يا هاجر.
,
, وكأنه بلغ قمة سعادته في لحظة مميزة، حينما استضافها في سيارته، وجلست بالمقعد الخلفي، أحس بدقات قلبه تتصاعد في فرحة غير مسبوقة، رغم أن الأمر لا يستحق؛ لكن وجودها معه بأدبها الواضح، وحياءها الخجل أعطاه لمحة من السرور. ظل سراج جالسًا في سيارته عندما ترجلت مع والدها بالقرب من مدرستها، راقبها بعينين تلمعان بشدة، لم يعرف أنه كان يبتسم، اختفت بسمته وتجهم وقد أرهف السمع لتعليقًا سخيفًا يأتي من جواره:.
,
, -شايف الراجل الشايب ده ماسك مُزة طلقة.
, اتجهت أنظاره المحتدة إلى حيث مصدر الصوت، فرأى شابين يتسكعان على بُعد متر من جانب سيارته، وعلى ما يبدو لم ينتبها لوجوده بها. أضاف الآخر بلهاثٍ طفيف:
, -احنا نستناها أما تخلص، ونجرب حظنا معاها.
,
, لم يستطع سراج ضبط أعصابه، تصاعد غضبه المحموم إلى رأسه، وشعر بحتمية إخراسهما بعد أن يلقنهما الدرس الذي يستحقانه. هبط عن سيارته، صافقًا الباب بعنفٍ لينتفض الاثنان على إثر قوة الصوت، وقبل أن يتفوه الشاب الأول بكلمة، سبقته لكمة في فكه جعلت الحروف تتحول لصراخ متألم، ثم ناول الآخر ركلة قاسية في ركبته، أجبرته على الانحناء والتأوه، قبل أن يوجه قبضته المتكورة إلى أسفل معدته، وكل ذلك مصحوبًا بلعناتٍ مهينة لكليهما. واصل سراج تعنيفهما بشراسةٍ مفرغًا كامل شحنته الغاضبة فيهما، إلى أن خرج بدير من المدرسة، أسرع ناحيته متسائلاً:.
,
, -في إيه يا سراج؟
, صمت للحظاتٍ ريثما ركض الشابان هاربين من أمامه، فالتفت ناحيته ليرد وهو ينفض كفيه معًا:
, -مافيش حاجة يا حاج، دول شوية عيال ناقصة رباية كنت بأعرفهم غلطهم.
, مسح بدير براحته على ظهره ليحثه على التحرك قائلاً له:
, -طب تعالى احنا نرجع الدكان، البت لسه قدامها ساعتين، وهايكون تميم رجع يبقى يروحلها.
, رفع رأسه للأعلى ليلقي نظرة أخيرة على المبنى، وقال بتنمرٍ خفيف:
, -ماشي يا حاج.
,
, جلس عند قدمي والدته، على حشية من القطيفة، تفترش الأرضية، حيث اعتبرها جلسته المفضلة حينما يفضفض معها بأريحية تامة. استدار سراج برأسه مركزًا نظره مع حركة يديها وهي تقشر ثمرة البرتقالة، وأضاف بتنهيدة شبه حارة، وخياله يجسد له طيفًا لوجهها الناعم:
, -أما يامه بنته دي حكاية! تقول للقمر قوم وأنا أقعد مطرحك.
, ضحكت أمه ضحكاتٍ صغيرة عذبة، وقالت في استمتاعٍ:
, -للدرجادي يا سراج؟
,
, أكد عليها بعينين تشعان بوهجِ الحب:
, -وأكتر يامه.
, أزاحت والدته البقايا البيضاء عن الفصوص، وناولتها لابنها وهي تخبره:
, -اللي أعرفه إن مرات الحاج بدير ست كُمل، وبنتها ستات الحتة بيتكلموا عن أدبها وأخلاقها، بس محالفنيش الحظ أشوفها.
, علق عليها وقد ارتخت نظراته:
, -تسلمي يامه، ما أنا يدوب لمحتها بالصدفة، ساعة ما وصلتها مع أبوها.
, ضحكت مجددًا، ومازحته:
, -ما إنت من ساعتها حالك متشقلب.
, أطرق رأسه متسائلاً بحرجٍ:.
,
, -هو أنا باين عليا؟
, ردت مؤكدة بتسليةٍ وهي تعبث برأسه:
, -ده أنا أمك وعرفاك أكتر من حالك، **** يجعلك نصيب معاها.
, عاد ليتطلع إليها مرددًا برجاءٍ:
, -يا رب ادعيلي يامه٣ نقطة
, تناول فصًا مما معه، لتسيطر على نبرته مظاهر الجدية وهو يكمل:
, -أنا عمال اسأل وأطأس من بعيد لبعيد كده، عشان أعرف إن كان في حد متكلم عليها ولا لأ٣ نقطة
, توقف للحظة ليبتلع ما في جوفه، ثم تابع:.
,
, -وماينفعش اكلم أخوها كده خبط لزق، دمه حامي، ومابيستحملش الهوا على أهل بيته، جايز يفهمني غلط.
, اقترحت عليه باهتمامٍ:
, -خلاص شوفلك حد من القريبين منهم اسأله، واللي فيه الخير يقدمه ****.
, بدا مترددًا وهو يخاطبها:
, -في دماغي اتكلم مع محرز، أنا شايفه مناسب، باعتباره دراع الحاج اليمين، هاخد وأدي معاه بالمحسوس.
, حذرته والدته بملامحٍ جادة:
, -بس خد بالك في الكلام معاه.
, اكتسى وجهه بالجد، وقال مؤمنًا عليها:.
,
, -اه اطمني، أنا هافهمه إني طالب القُرب، مش حاجة تانية لا سمح ****.
, أبدت ترحيبها بإقدامه على تلك الخطوة، وأضافت:
, -خلاص يا ابني، وأنا هازور الست أمها وربنا يكتبلك كل خير يا ابني.
, هلل بابتسامة اتسعت معها نظراته المتفائلة:
, -ايوه يامه ادعيلي.
,
, ليلتها انتظر بكل ما يعتريه من لهفةٍ وأشواق عودتها إلى المنزل، لتطلعه على نتائج زيارتها الودية لعائلة بدير، لم يستطع التركيز في عمله، ولم يبقَ لوقت متأخر في دكانه بالسوق، ولم يجرؤ على إيصالها، آثر البقاء بعيدًا متحملاً تبعات الانتظار المشوق. كالأطفال الصغار وقف سراج أمام الباب عندما عادت يستنطقها بصبرٍ نافذ:
, -ها شوفتيها يامه؟ وإيه رأيك؟
, قالت بزفيرٍ لاهث وهي تنزع دبوس طرحتها عنها:.
,
, -طب سيبني أخد نفسي كده.
, تبعها نحو أقرب مقعدٍ جلست عليه، ووقف فوق رأسها يلح عليها:
, -طمنيني ب**** عليكي.
, رفعت عينيها إليه، وردت بعد ابتسامةٍ باعثة على الراحة:
, -مش مخطوبة، ولا في حد متكلم عليها خالص.
, هلل في سعادة غامرة:
, -اللهم صلي على النبي، أيوه كده.
, أكملت والدته حديثها بما يشبه المدح:
, -والشهادة لله هما عيلة زي الفل، تشرف بصحيح، وأنا رأيي أول ما تطلع نتيجة مدرستها تكلم أبوها على طول.
,
, دون تفكيرٍ حسم أمره قائلاً:
, -اتفقنا يامه، هاكلم الحاج بدير، وأرتب معاه.
, لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وتوترت الأجواء من لا شيء، ليصبح ما تمنى حدوثه يومًا في مهب الريح، بل وتحولت مشاعر الألفة لعداءٍ بغيض، بسبب الشائعات المغلوطة التي انتشرت على الألسن، دون أن يُعرف مصدرها، لتصل في نهاية المطاف لشجار دموي، تبعثرت فيه ما ظن أنها صداقة الرجال.
,
, أفاق سراج من شروده الذي طال على صوتٍ مزعجٍ لأحد العمال، فتدارك نفسه، ونفض ما دهمه من ذكرياتٍ، ليتحرك في اتجاه سيارته، والحنين يحتل قلبه، بل ويستحثه على استعادة ما كان له يومًا.
,
, سمح له الطبيب بالخروج من المشفى، والعودة إلى منزله، بشرطِ ألا يبذل مجهودًا يضر بجسده، خاصة ساقيه، لانعكاس الضرر الأكبر عليهما جراء حادثته الأخيرة، فأكد عليه تميم التزامه بهذا؛ وإن لم ينفذ كافة أوامره، فبعد مكوثه لما يقرب من أسبوع متنقلاً بين الغرف، عندما يشعر بالملل، لا يفعل شيئًا مهمًا، ضجر من حاله، وأحس بأن الإعياء لن يفارق بدنه ما لم يعود إلى عمله، لذا قرر الذهاب إلى الدكان، وقضاء نهاره هناك. اعترض عليه والده، فسأله بتجهمٍ غير راضٍ:.
,
, -برضوه مصمم يا تميم؟
, قال وهو يمشط شعره بيدٍ، ومستندًا باليد الأخرى على عكازه الطبي:
, -أنا عايز أشوف الناس، تعبت من رقدة البيت.
, لام عليه تسرعه في قراره بإظهار احتجاجه الواضح:
, -ده إنت لسه خارج من المستشفى مابقالكش كام يوم؟ لحقت؟
, التفت ناظرًا إليه، ورد معاندًا:
, -يابا بأقولك زهقت، خليني أشغل بالي بالشغل.
, أمام إصراره تنهد بدير مغمغمًا:
, -أنا خايف عليك يا تميم.
, أكد عليه بهدوءٍ:.
,
, -ما أنا مش هاعمل حاجة تتعبني، هاظبط الدفاتر، وأشوف الفواتير اللي علينا.
, استسلم في الأخير لرغبته، ورضخ له معقبًا:
, -اللي يريحك.
, اقترب تميم من والده، وانحنى مقبلاً كتفه وهو يدعو له:
, -**** يخليك ليا يابا.
,
, وقفت عند أعتاب الغرفة تتطلع إليه بنظراتها المشفقة، كانت متفهمة للظروف النفسية السيئة التي يمر بها، احترمت رغبته في الانفراد بنفسه، والابتعاد عن الآخرين، معتقدة أن ذلك لن يدوم إلا لفترةٍ مؤقتة؛ لكنه تمادى في عزلته كثيرًا، فأصبح وحيدًا، لا يخاطبها إلا قليلاً، ولا يشاركها في أي مظهر من مظاهر الحياة اليومية. فاض بها الكيل، وعقدت العزم على إخراجه من بوتقة أحزانه. بكل ما فيها من ضيقٍ اندفعت لغرفة نومهما المعتمة، متجهة نحو النافذة، أزاحت الستائر عنها، لتسمح لضوء النهار بالتسلل إليها، والتفتت نحو الفراش المستلقي عليه، تعاتبه بعطفٍ، يتخلله القليل من الجدية:.
,
, -اللي إنت بتعمله يا هيثم ده ماينفعش!
, تقلب على جانبه، ساحبًا الغطاء أعلى رأسه، وقال بخشونةٍ:
, -سبيني لوحدي يا همسة.
, هتفت فيه باستياءٍ:
, -يعني عاجبك منظرك وإنت كده؟
, صاح بتعصبٍ، وهو يبعد الغطاء عن وجهه ليرمقها بنظرة واجمة:
, -يووه، ما تزهقنيش.
, أطلقت زفرة طويلة من صدرها، قبل أن تسحب شهيقًا عميقًا تثبط به مشاعرها المنزعجة، ثم دنت من الفراش، وجلست على طرفه، طالعته بنظراتها الحنون قبل أن تستطرد بنبرة راجية:.
,
, -يا هيثم أنا صعبان عليا اللي إنت عامله في نفسك، كل واحد بياخد في الآخر نصيبه، وربنا كاتبلهم كده.
, بضيقٍ يشوبه الحدة صاح بها:
, -وأنا مش عايز أشوف وش حد، أنا مبسوط كده.
, نفذ صبرها من عناده العقيم، وردت في عصبيةٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، بجد أنا تعبت، ومابقتش عارفة أعمل إيه معاك.
, أدار جانبه للناحية الأخرى، وقال ببرود استفزها:
, -تسبيني أنام.
, قست عينا همسة، وانتفضت ناهضة لتنذره بدمدمة غاضبة:.
,
, -ماشي يا هيثم، بس يكون في معلومك أنا مش هاسكت على كده!
, غادرت الغرفة، والعصبية تملأ تعبيراتها، كتفت ساعديها معًا، وهتفت بعزمٍ:
, -لازم حد يساعدني من عيلته، وأنا مش قادراله لوحدي.
,
, عملت بنصيحته الخبيرة بعد تفكيرٍ ملي، ألا تسرد ما مرت به هاتفيًا، فبعض المسائل لا يستحب قولها من على بعد، إذًا لترجئ مشاعر الدعم والمؤازرة ريثما تقابل عائلتها وجهًا لوجه، عل وجودهم يخفف من وطأة ما قاسته في غربتها، ويمنحها دفء قربهم السلوى والسكينة. طوال الأيام المنصرمة، لازمها ماهر في كافة خطواتها القانونية، للانتهاء من كل ما يتعلق ب آسر، فتطوي صفحته للأبد. اعتقدت فيروزة خلال محادثتها الأخيرة أن ما يقوم به معها بدافع الشفقة، خاصة لتوهمها بأنه قد تفقه لمسألة عذريتها، ليس لكون زوجها من يعاني من علة خطيرة؛ ولكن لاعتقادها الراسخ بأن تشوهها الجسدي هو ما حال دون إتمام زيجتها. ولم تتطرق للحديث عن هذا الأمر منذ تلميحه المتواري في المشفى، أبقت سرها لنفسها.
,
, بلغت أخيرًا نهاية السعي، وعادت إلى موطن أمانها، تاركة خلفها ماضيًا لا تفخر به، فقط لحظات الوداع من كاران، والطبيب هاني هي ما علقت في ذهنها، وجدت نفسها تبتسم ابتسامة باهتة، عندما تذكرت حديث الأول:
, -إن جئت لمصر، سأزورك حتمًا مع عائلتي.
, رحبت بهذا، وقالت بابتسامةٍ منمقة:
, -سأسعد بذلك.
,
, أعطاها تذكارًا –على هيئة بلورة- لتحتفظ به، فنظرت له مطولاً وبترددٍ، فتلك الهدية نشطت ذاكرتها بمثيلتها، عندما أهداها لها آسر قبل أشهر؛ لكنها تحطمت في لحظتها، بسبب حركة فجائية -لا تعلم إن كانت غير مقصودة أم متعمدة- من تميم، وقد كان بارعًا في إغاظته، واستثارة أعصابه من العدم. لاحت بسمة أكثر غبطة على شفتيها، وهي تستعيد المشهد في مخيلتها، برقت عيناها في دهشة غريبة مستنكرة تفكيرها فيه، غطت سريعًا على ابتسامتها بلمحة من الجدية، وردت في امتنانٍ وهي تشير بيدها:.
,
, -شكرًا لك كاران، على الهدية، وعلى كل شيء.
, أوصاها بلكنته التي مزجت بين العربية ولغته:
, -انتبهي لنفسك ف، اروزا.
,
, تنهدت على مهلٍ وهي تستفيق من دوامة شرودها، على إثر الهزة العنيفة التي أعادتها لأرض الواقع، حملقت من نافذة الطائرة لوهلةٍ، عندما بدأت تستقر على مدرج الهبوط، باعدت أنظارها، وأغمضت عينيها بقوةٍ، ثم حبست أنفاسها في ترقبٍ. ومع زيادة الاهتزازات تشبثت بقبضتيها في مسندي مقعدها، أحست بأمعائها تتقلص، ربما لرهبتها من المجهول الغامض الذي ينتظرها بالأسفل، خف الشعور القابض لصدرها تدريجيًا، بإعلان المضيفة عن وصول لأرض الوطن. فتحت فيروزة عينيها، ورفرفت بهما لعدة مراتٍ، قبل أن تدور بعشوائية على الأوجه المتباينة في فرحتها، على عكسهم كانت واجلة القلب، متخبطة الفكر. تطلعت أمامها بنظراتٍ بدت تائهة وهي تسأل نفسها:.
,
, -يا ترى مستنيني إيه هنا؟
,
, في ميعاد الزيارة اليومي بالمشفى، جاءت إليه على الموعد بالضبط، ومعها طفلته، لتقضي الأخيرة وقتها بصحبته، فتنعم بأحضانه الأبوية، وإن لم يضمها فعليًا. جلست رقية على الفراش بجوار أبيها، وأمامها على المقعد استراحت عمتها، استطردت الأخيرة تُعلمه بما أقدمت عليه:.
,
, -أنا دفعت يا خليل فلوس المستشفى من نصيبك في الإيراد، ونصيبي هاحطه في مصروف البيت، ومتقلقش على رقية كل اللي نفسها فيه هاجيبه، وربنا يقومك بالسلامة.
, قال بصعوبةٍ، وفي عينيه استجداء عاجز:
, -خ، رجيني، من، ه، نا.
, قطبت جبينها مرددة في استنكارٍ:
, -أخرجك؟ هو ده ينفع؟
, كرر عليها بصوتٍ متقطع:
, -ع، اي، ز أرجع، ب، يتي.
, اعترضت على رغبته موضحة له:
, -يا خليل الدكاترة هنا واخدين بالهم منك، وآ٣ نقطة
, قاطعها بنبرةٍ بدت باكية متوسلة:.
,
, -طل، عيني، يا، آمنة.
, لم تتحمل رؤيته يستعطفها، فنهضت من مكانها، وانحنت نحوه لتربت على كتفه قائلة:
, -حاضر يا خويا، اللي إنت عاوزه هاعمله، هدي نفسك بس.
,
, ارتفعت وتيرة القلق في عروقها النابضة، عندما توقفت السيارة أمام مدخل منزلها، دفعت الأجرة للسائق، وترجلت منها تنتظر مساعدته لها في إخراج حقيبتها، شكرته على ذوقه، وبدأت في شحذ طاقتها المعنوية لتبدأ بالسير نحو الداخل. للغرابة شعرت بأن المنزل لم يعد كما كان سابقًا، السكون المريب من حولها عزز هذا الشعور بقوةٍ، في الأغلب كانت أصوات صراخ أبناء خالها ترن في جنبات المكان، وتوبيخات حمدية تكاد تسمعها من ناصية الطريق، بالإضافة لصوت المذياع أو التلفاز من شقة والدتها؛ لكن لا شيء، فقط حفيف الهواء يحيطها.
,
, جذبت قميصها الأسود للأسفل، ولفظت زفيرًا ثقيلاً من صدرها، مستشعرة انقباضة قوية في قلبها، غالبت توترها، وكبحت هواجسها لتصعد إلى الأعلى. أمسكت بحقيبة يدها، وفتحتها لتفتش عن المفتاح فيها كلزمة تلقائية معتادة. توقفت عن البحث متذكرة أنها تركته قبل أن تسافر في رحلتها المشؤومة، التي ستظل روحها مدموغة بآثارها. بعد تفكيرٍ متأنٍ وطويل، توصلت إلى قرار بدا الأنسب لها، يقيها من الحقد والشماتة، لما لا تكون معاناتها مقيدة، حبيسة وجدانها؟ ربما في هذا السلامة لروحها قبل غيرها.
,
, شعرت فيروزة بالخجل من نفسها، ليس لأنها كانت ضحية لمخادع حقير، وإنما لتحميل أسرتها عبئها من جديد. عبست ملامحها من واقعية أفكارها، وبدأ الحزن يطفو على نظراتها، حاولت أن تخفي آلامها، لترسم ابتسامة مفتعلة على ثغرها وهي تطرق على الباب، وكيف تُنير وجهها بسمة كهذه ومن المفترض أنها تحتدُ على زوجها؟ تراجعت عن هذا، وفضلت أن تكون تعبيراتها عادية.
,
, دقت الباب مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، ظل السكوت هو سيد الموقف، مما أخافها كثيرًا. ألصقت حقيبة سفرها بباب المنزل، واتجهت للدرج لتصعد إلى شقة خالها، بالنسبة لها، لم يكن وجه زوجته حمدية من الأوجه المستحب رؤيتها بعد رحلة شقائها، فتطفلها السمج لن تطيقه حاليًا. تحاملت على نفسها، وواصلت صعودها، طرقت على بابه، ثم قرعت الجرس، ولدهشتها لم تجد أدنى استجابة، وكأن المنزل هجره قاطنيه! دب الخوف في قلبها، وتساءلت بملامح باهتة:.
,
, -هما راحوا فين كلهم؟
, لعقت شفتيها ورددت بتوجسٍ:
, -**** يستر ومايكونش حصلهم حاجة.
, عاتبت نفسها بقسوةٍ لتقاعصها عن إعادة الاتصال بوالدتها:
, -مكانش لازم اتأخر كل ده عنها.
,
, بحثت في حقيبتها عن هاتفها المحمول، ولسوء حظها نفذت بطاريته، فانزعجت أكثر. طرأ ببالها أن تتوجه لبيت توأمتها، فمن المحتمل أن تكون والدتها في زيارة لها، أراحها ذلك التفكير، ودون ترددٍ استدارت مغادرة المكان، وآمالها معقودة على اللقاء بكلتيهما هناك.
,
, تصارعت بداخلها الكثير من المشاعر المتضاربة، وهي تخطو خطواتها المتمهلة إلى داخل بناية عائلة سلطان، فبين جدرانه شهدت على وقائع مؤسفة، أجبرتها على اختيار طريق مملوء بالشوك، لتتأذى وحدها بوحشيةٍ على طول دربه. حاربت فيروزة أوجاعها المغموسة بنزيف قلبها، لتتقدم في خطاها. أمسكت بالدرابزين، ودفعت جسدها للتحرك للأعلى، مضت سريعًا في صعودها، مانعة عقلها من التفكير في شيء.
,
, توقفت أمام باب منزل توأمتها، طرقت عليه بقبضتها المضمومة، بعد أن قرعت الجرس، ثم تراجعت خطوة للخلف وهي تسحب أنفاسًا عميقة تهدئ به من توترها. انتظرت مطولاً قبل أن تكرر المحاولة، وذاك الهاجس المزعج والمتساءل يلح في رأسها، أين ذهب الجميع؟ لم تجد استجابة بسيطة تشير لوجود أحدهم بالداخل، ازداد قلقها، وانعكس على وجهها الشاحب. تجمدت قدماها عند الدرج وهي تفكر في حلٍ أخير، لم يعد غيره لتلجأ إليه.
,
, هبطت للطابق السفلي، وصوت دقات قلبها المتوتر يرتفع بين ضلوعها، نازعت شيئًا بداخلها، أربكها على نحو غريب، قبل أن تجد نفسها واقفة في مواجهة الباب الخشبي. تنفست فيروزة بعمقٍ، واستجمعت جأشها لتدق عليه، وتلك الرعشة الخفيفة تتسرب إلى جلدها. في خطوةٍ متخاذلة منها، فكرت في التراجع قبل أن تلامسه؛ لكن فسدت أمنيتها بفتح الباب بغتةً، ليجد الهائم في أحزانه، طاووسه المهاجر، بشحمه ولحمه، قد عاد إلى وطنه العزيز، يناظره عن قربٍ خطير، بدا –لعمره- مستحيل التحقيق. خفق الفؤاد بخفقةٍ، بعثت بقوتها نبض الحياة فيه من جديد، وانفرجت الشفاه تنادي بهمسٍ يملأه الحنين:.
,
, - فيروزة!
 
٢٠



في مشورته الحكيمة كانت المساعدة الخبيرة التي تحتاجها، للتعامل مع حالته العنيدة، لجأت بعد تفكيرٍ مضنٍ إلى الجد سلطان طالبة منه الوقوف بجوارها، لإخراج زوجها من حالة الاكتئاب المستبد به مؤخرًا، خاصة بعد انعزاله عن الجميع، وعزوفه عن البوح بما يعتريه من مشاعر مثقلة بالهموم، خشيت من تدهور وضعه، وربما حدوث الأسوأ، فبدا ذلك الاختيار الملائم حاليًا، وعلى طرف الفراش جلست همسة في مواجهة مقعده الجالس عليه، ثم سألته بتوترٍ، وهي تتطلع إليه:.
,
, -يعني هتكلمه يا حاج؟
, أكد عليها بصوته الهادئ:
, -أيوه يا بنتي، هاطلعه، ومعايا بدير كمان.
, شكرته بامتنانٍ شديد:
, -**** يخليك ليا، أنا مش عارفة من غيركم كنت هاتصرف إزاي.
, بابتسامةٍ صافية تعكس حنانه الأبوي أخبرها:
, -ده ابننا، واللي مر بيه مش سهل، ولولا إن الواد **** بيحبه مكانش اتجوز واحدة بنت أصول زيك.
, قالت ببسمةٍ بدت شبه باهتة:
, -**** يكرمك.
, رد مؤكدًا من جديد ليشد من أزرها، فلا تستسلم أمام عناده العقيم:.
,
, -دي الحقيقة، الست اللي بجد هي اللي بتبقى في ضهر جوزها، تاخد بإيده وقت ما يكون عاجز، تفهمه من غير ما يتكلم.
, زفرت ببطءٍ، وعقبت:
, -**** يصلح حاله.
,
, على نحوٍ غير مسبوقٍ أو متوقع، باتت الآمال المستحيلة قيد التحقيق، مجرد رؤيتها أمام ناظريه كان مُرضيًا له، مشبعًا لجوع قلبه الشغوف لذاك الدفء الناعم الذي خلا منه. ربكتها البائنة، نظراتها التائهة، لمحات الحزن الظاهرة، حفزت كامل حواسه على التركيز معها، لتتضاءل أكبر همومه وتندمل في حَضرتها الآسرة. ابتسامة صادقة عذبة عرفت الطريق إلى شفتيه، عندما نطقت بصوتٍ يشوبه الخجل:
, -سلامو عليكم يا معلم.
,
, القليل منها يكفيه، بل ويغنيه عن أوجاع ما قساه. رد تميم بقلبٍ يرقص غبطةً على أنشودة العاشقين:
, -وعليكم السلام٣ نقطة
, ثم تنحى للجانب مستندًا على عكازيه، كدعوة صريحة منه للدخول إلى منزل عائلته، قبل أن يرددها علنًا، ووجهه ما زال مشرقًا بابتسامته:
, -اتفضلي.
,
, نظرة حرجة ألقتها فيروزة ناحيته، قبل أن تخفضها سريعًا، متذكرة حديث توأمتها السابق عن الحادث المؤسف الذي تعرض له، آلمها آنذاك ما سمعته؛ لكنه رؤيته على تلك الحالة أوجعها بقدرٍ ما. أجبرت نفسها على النظر مجددًا إلى وجهه الهادئ، حاولت الاعتذار عن الدخول، وقالت مبررة بنوعٍ من التردد:
, -أنا كنت، جاية عند أختي فوق، بس خبطت كتير ومحدش فتحلي.
, أخبرها بهدوءٍ مشيرًا برأسه، ومديرًا إياه نحو الداخل:.
,
, -هي موجودة عندنا جوا، مع جدي.
, قفزت علامات الاستفهام إلى تعبيراتها، وتساءلت بشكلٍ آلي:
, -عندكم؟ ليه؟ في حاجة؟
, هز كتفيه نافيًا:
, -مش عارف.
, ظل على حالة التردد تلك، وضغطت على شفتيها قائلة باقتضابٍ:
, -شكرًا.
, أصر عليها بحماسٍ جعل آلامه تتبدد في لحظة؛ وكأن عظامه لم تُطحن أبدًا:
, -مايصحش تفضلي واقفة برا كده، اتفضلي جوا٣ نقطة
, وقبل أن تتمسك برفضها شدد عليها عن قصدٍ، ليبث فيها الأمان:
, -دي أمي وأختي كمان موجودين، يعني اطمني.
,
, قضمت شفتها السفلى، وردت:
, -مافيش داعي أزعجكم.
, انزلق هاتفًا من تلقاء نفسه، ونظرة عتاب تكسو وجهه:
, -تزعجي مين، ده بيتك..
, قطبت جبينها بشكلٍ ملحوظ، فصحح لها بعد نحنحة خافتة:
, -قصدي يعني زي بيتك.
, حاولت أن تبتسم وهي تعقب:
, -شكرًا يا معلم.
,
, أمام إلحاحه الواضح استجابت فيروزة لدعوته، وبدأت في التحرك، لتلج إلى داخل منزله وهي تمسح بعينيها المكان، في حين تسمر تميم في مكانه يرقبها بإشراقة غطت على ما كان به من تعاسة، لم تعرف ضيفته أن السعادة في تلك اللحظة تنتفض بقوةٍ بين ضلوعه، حتى تأثيرها الكبير انعكس بقوةٍ على ملامحه حينما أضافت بعفويةٍ:
, -حمدلله على سلامتك صحيح، زعلت حقيقي لما عرفت.
,
, هتف من خلفها بحبورٍ يخالطه الحماس، ذاك الذي استغرب منه؛ كأنما لم يحزن مطلقًا:
, -**** يسلمك، كله من عند **** خير٣ نقطة
, للحظة التقط أنفاسه، وأكمل مؤكدًا لها:
, -وبعدين أنا دلوقتي كويس وبخير.
, ندم على جملته الأخيرة، وتجهم قليلاً ربما كانت كلماته متسرعة، فاهتمامها بالسؤال عنه قد يفتر لمعرفتها هذا، تدارك تشتته اللحظي، وتابع بجديةٍ، وعيناه تنظران إليها:.
,
, -لا مؤاخذة الكلام خدني ونسيت أعزيكي، البقاء لله، وربنا يصبرك، دي مشيئة ****.
, استغربت بشدة لمواساته الغريبة، وسألته بملامح شديدة الجدية، ودون أن ترف عيناها:
, -وإنت عرفت منين؟ أنا مقولتش لحد.
, أثار ردها استرابته بشكلٍ عجيب، فمن البديهي أن يعزيها في وفاة أبناء خالها؛ لكن ردة فعلها كانت مدعاة للشكوك، توجهت أنظار كلاهما نحو الصوت الأنثوي المتسائل:
, -مين يا تميم؟
,
, بتنهيدة عكست أشواقًا تفاجأ بها شخصيًا، هتف ناطقًا باسمها بين شفتيه؛ كما لو كان ترديده لحنًا عذبًا تُطرب له الآذان:
, -دي الأبلة فيروزة يامه.
, سماعها لاسمها يتراقص بتلك الطريقة على لسانه -وبهذا الاهتمام المليء بالمشاعر- الغريب داعب شيئا ما بداخلها، تغاضت عنه لتنظر في وجه ونيسة التي أقبلت عليها لترحب بها بألفةٍ:
, -يا أهلاً وسهلاً يا بنتي، شرفتينا.
, بابتسامةٍ صغيرة قالت:
, -إزي حضرتك يا طنط؟
,
, احتضنتها ونيسة ومسحت على ظهرها بحنوٍ، ثم تراجعت عنها متسائلة:
, -أخبارك إيه يا بنتي؟
, أطلقت زفرة بطيئة قبل أن تجيبها:
, -الحمد****.
, نظرت فيروزة من فوق كتفها، عندما سمعت صوت شقيقتها يأتي من الخلف وهي تشكر أحدهم قبل أن تغلق الباب خلفها:
, -كتر خيرك يا حاج، تعيشلنا، أشوفك على خير يا رب.
, تحركت ونيسة للجانب، لتظهر توأمتها أمام عيني همسة، لم تصدق الأخيرة وجودها، وهتفت صائحة في صدمة:
, - فيروزة!
,
, ودون أن تضيع الوقت هرولت ناحيتها لتحتضنها بكل ما تحمله من ودٍ، وشوق، وتهلفٍ، وحنين. بقيت في أحضانها للحظات قبل أن تنطق بنبرة متأثرة، وعيناها تحجزان العبرات فيهما:
, -وحشتيني أوي أوي يا فيرو، كنت هاتجنن عشان أوصلك، حاجات كتير حصلت وإنتي مش هنا، أنا محتاجة وجودك أوي معايا.
, مسحت فيروزة بيدها على جانب ذراعها، وردت بتنهيدة معبأة بالهموم:
, -وأنا خلاص رجعت.
,
, تلك الكلمات الموجزة لامست قبل المعذب من خلفهما، فمن المفترض أن يترك تميم الشقيقتين تتحدثان على انفرادٍ، احترامًا لخصوصيتهما؛ لكنه بقي على غير عادته، لإشباع توق الروح لساكنها. انتبهت حواسه، وبدا واجمًا عندما تساءلت همسة بتلقائية:
, -وفين آسر؟ هو رجع معاكي؟ واقف تحت؟ ولا وصلك؟ ولا عمل إيه؟
,
, مع تلك الأسئلة المتلاحقة تسلل الحزن إليه، ليذكره أن الطاووس المهاجر إن عاد إلى وطنه، فلا يعني ذلك أنه يخصه! سرى مفعول الألم في عروقه، وشعر بالوهن يزحف إليه. اليأس، الاستياء، الحزن، وكافة المشاعر السلبية هاجمته في لحظة، أوهامه المخادعة مصيرها الفناء! استدار منسحبًا من المكان بخطواتٍ شعر بثقلها، في نفس الأثناء سادت لحظة من السكون المغلف بالتردد الأجواء، حسمتها فيروزة بإخبار الجميع بنزقٍ، وعلى حين غرة:.
,
, -لأ، آسر، مات.
, وكأن الحياة بُعثت فيه من جديد، بدا كمن يتلقى إنعاشًا بجهاز الصدمات القلبية ليعود من السراب إلى حيث الأمل. خفق قلب تميم في ذهولٍ، واتسعت عيناه مصدومًا، حتى خلايا عقله عادت لتعمل بكامل طاقاتها، التفت مستديرًا ناحيتها ليتأكد من أنه لم يتوهم سماع ذلك، وراقب تعابير همسة المتسائلة في صدمةٍ:
, -يعني إيه مات؟
, بينما رددت ونيسة بنفس التعابير المصدومة، وهي تضع يدها على صدرها:.
,
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، هو إيه اللي حصل في الدنيا؟
, ثم ربتت على ذراع فيروزة تواسيها بإشفاقٍ:
, -البقاء لله يا بنتي، قلبي عندك و****، ده إنتي لسه عروسة جديدة.
, خجلٍ ممزوجٍ بالألم انتشر في وجهها، فكلماتها وإن كانت عادية؛ لكنها لامست جرحها العميق. ابتلعت فيروزة غصة مليئة بالعلقم، وجاهدت لتتجاوز تلك اللحظات بثباتٍ انفعاليٍ عجيب، تدربت عليه كثيرًا في ليالي غربتها الموحشة. سألتها همسة في فضولٍ حزين:.
,
, -إزاي مات؟
, لم تمنحها الجواب، وقالت بنوعٍ من الهروب:
, -هابقى أحكيلك بعدين، مش وقته..
, غالبت حشرجة طفيفة في صوتها، وأكملت بقلقٍ:
, -بس فين ماما؟ أنا عديت عليها ملقتهاش موجودة في البيت.
, أجابتها على الفور:
, -تلاقيها مع رقية عند خالي في المستشفى.
, انقلبت شفتاها، وتساءلت في استغرابٍ:
, - رقية! وفي المستشفى؟ مين دي كمان؟
, لم ترغب في إطلاها على الأخبار غير السارة دفعة واحدة، وقالت بعد زفيرٍ حزين:
, -ما هو في حاجات كتير حصلت.
,
, فهمت عزوفها عن التحدث بأريحية هنا، وقالت بتعابيرٍ جادة:
, -طيب يالا بينا، بلاش نضايق الناس بوجودنا.
, عبارة في غير موضعها استنكرتها ونيسة، وعاتبت فيروزة عليها:
, -و**** أزعل منك، تضايقونا إيه بس؟ ده احنا عيلة واحدة.
, ردت بحرجٍ:
, -شكرًا لحضرتك يا طنط، كلك ذوق.
, تساءلت همسة بصوتٍ خفيض:
, -شنطك فين؟
, أجابتها بنفس الصوت الخافت:
, -عند البيت.
, أومأت برأسها تخبرها:
, -تعالي نروح على هناك.
, هتفت ونيسة طالبة من ابنها:.
,
, -وصلهم يا ابني في سكتك، مش التاكسي مستنيك تحت؟
, اعترضت فيروزة مبدية تقديرها لظروفه:
, -لأ يا طنط، مافيش داعي، السكة مش بعيدة، احنا هنمشيها، و٣ نقطة
, التفتت ناظرة إلى تميم بنظرة مهتمة نفذت إليه كالسهم المارق:
, -ومش عايزين نتعبك يا معلم.
, قاطعها تميم قائلاً بلطفٍ:
, -ما هو التاكسي موجود، أنا مش هاعمل حاجة تتعبني.
, احتجت عليه بعنادٍ:
, -بس آ٣ نقطة
, رفع يده قائلاً بجديةٍ وهو يستدير ليتحرك:
, -خلاص يا أبلة، مش قضية يعني.
,
, لم تجادله، وتنهدت بصوتٍ مسموع لتتبعه مع توأمتها على مهلٍ، حتى يتمكن من هبوط الدرجات دون تعجلٍ. ناظرته فيروزة عن قربٍ مستغلة عدم انتباهه لها، لتجده رغم ما مر به مازال متماسكًا، صلبًا، يجابه آلامه بشجاعةٍ يحسد عليها. لم تدرك أنها أطالت النظر نحوه، فعندما استدار عند بسطة السلم، أمسك بعينيها المتطلعتين إليه، فبادلها نظرة كانت تلمع بشيءٍ ما كذب الفؤاد رؤيته!
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%