NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الطاووس الأبيض | السلسلة الرابعة | ـ واحد وسبعون جزء 4/11/2023

٤١

ريثما يترجل أفراد عائلته من السيارتين، كان تميم قد تحرك ليقف خلف صندوق سيارته، حتى يخرج الحلوى التي اشتراها للعروس وأسرتها كهدية تعزي من روابط الود، وتأصل من العلاقات الطيبة بين العائلتين. التفت برأسه للجانب ليتطلع إلى والدته التي أقبلت عليه، ثم ألقى نظرة عابرة على شقيقته وزوجها سراج، حيث كان كلاهما مشغولان بتدليل الصغير سلطان، عاد ليحدق في وجه أمه متسائلاً:
, -شكلي حلو يامه؟
,
, تأملت ونيسة ابنها في قميصه الكحلي، وبنطاله الجينز، بنظرات فخورة، لتجيبه قائلة في مدحٍ واضح:
, -الصلاة على النبي مافيش بعد كده.
, ابتسم في استحسانٍ لرأيها الداعم، فتابعت في نبرة داعية:
, -**** يجعل في وشك القبول، ويزرع محبتك في قلبها.
, أمن من ورائها برجاءٍ شديد:
, -يا رب، يا رب.
, ما إن تأكد من وقوفها إلى جوار والده، حتى سبقهما في خطاه ليقف بجوار جده، ثم استطرد هاتفًا في نبرة جادة وهو يمد ذراعه إليه:.
,
, -تعالى يا جدي، اسند عليا.
, تعلق الجد سلطان في ذراعه، واستدار ناظرًا إليه وهو يسأله في نبرة مهتمة:
, -ها جبت الحاجة الحلوة لعروستك؟
, رفع تميم ذراعه الآخر معلقًا في حماسٍ:
, -أيوه، شيكولاتة، ومن أفخر الأنواع كمان.
, امتدح اختياره قائلاً:
, -**** ينور، دلعها عشان تشوف أيام حلوة.
, قبل أن يفكر حفيده في الرد عليه؛ وإن كان بنوعٍ من المزاح، تدخل بدير محذرًا بلهجةٍ متشددة:.
,
, -بيبقى يدلعها ويناغشها براحته بعد الجواز يابا، قبل كده هيتسك على دماغه.
, أدار سلطان رأسه للناحية الأخرى ليخاطبه في مرحٍ:
, -الكلمة الطيبة صدقة يا بدير، خليه ياخد ثواب فيها، ويسمعها كلمتين حلوين.
, وافق بدير أبيه الرأي، وأبدى تبريره الحازم موضحًا:
, -وماله، طالما في وجود حد مننا أو من أهلها، غير كده هيتحسب الكلام ضده مش ليه.
, امتثل تميم لأمر والده الصارم، فقال في طاعة غير منزعجة:
, -حاضر، هبقى أخلي معايا محرم.
,
, تلكأت في خطواتها نسبيًا وهي تسير نحو الرصيف، بعد أن تركت رضيعها لزوجها يحمله. رفعت هاجر طرف عباءتها، لئلا تتعثر في مشيتها بسبب طولها الزائد، أنزلتها بمجرد أن صعدت على الرصيف، واستدارت تكلم سراج بوجهٍ مبتسم:
, -لو عودته على الشيل هيتعبك، اسمع مني.
, بادلها ابتسامة عذبة وهو يرد في سرورٍ:
, -خليه يتعبني هو وأمه، على قلبي زي العسل.
, حذرته مشيرة بسبابتها أمام وجهه:
, -مترجعش تشتكي بعد كده!
,
, قال في عفويةٍ وهو يرمقها بنظراته المحبة:
, -الشكوى لغير **** مذلة.
, عبست من رده التلقائي، وهتفت محتجة بتبرمٍ:
, -بقى كده، ماشي.
, أدارت رأسها للأمام، وأسرعت في خطاها لتسبقه؛ لكن التف ذيل عباءتها حول كعب حذائها، وكادت تُطرح أرضًا، لولا أن قبض سراج على ذراعها، ليحول بينها وبين السقوط هاتفًا في خوفٍ شديد:
, -حاسبي.
, ساعدها على استعادة اتزانها، ثم أبعد يده، فعاتبته في دلالٍ:
, -أهوو شوفت، كنت هقع على وشي بسبب زعلي منك.
,
, حملق فيها مدهوشًا، ورفع حاجبيه للأعلى متسائلاً في استهجانٍ:
, -هو أنا قولت حاجة غلط؟
, ضمت قبضتها، وثنيت ذراعها، ثم وضعته أعلى منتصف خاصرتها لتعلل له بتعابيرها المتجهمة:
, -المفروض لما حاجة تضايقك تقولي، مش تكتم في قلبك وتسكت، أنا محبش كده.
, حافظ سراج على نقاء ابتسامته وهو يخبرها بغير كذبٍ:
, -عينيا.
, عادا للسير مجددًا بتلكعٍ وهما يتهامسان في محبةٍ لا يمكن إنكارها، زجرتهما ونيسة في حزمٍ:
, -يالا يا ولاد، بلاش عطلة.
,
, عندئذ مال سراج على زوجته يهمس لها في أذنها بتنهيدة محملة بالشوق:
, -بكرة لما يتقفل علينا باب هاقولك أحلى كلام، ومش هاخلي حد يقاطعنا.
, خفضت من صوت ضحكاتها النضرة، وأنذرته بعبثية متراقصة في نظراتها إليه:
, -طب بس بقى لأحسن المرة الجاية أبويا يشوفنا، ويزعقلنا.
, تصنع الجدية وهو يعقب عليه:
, -كله إلا الحاج بدير!
,
, انفتح الباب على آخره، وبدأ الضيوف في الولوج واحدًا تلو الآخر، و آمنة تقف عند الجانب تستقبلهم في حرارة شديدة، انتظر تميم حتى النهاية ليطأ أعتاب المنزل، اختلس النظرات سريعًا علَّه يُبصرها عند أي زاوية؛ لكنها لم تكن في الأرجاء، غامت ملامحه قليلاً، ثم قدم الهدية الشهية إلى حماته، مصحوبة بابتسامةٍ لبقة، فمنحته الأخيرة ترحيبًا زائدًا، ليلحق بعدها بأفراد أسرته، وصوتها من خلفه يكرر:.
,
, -يا مراحب بالناس الغالية، تسلم إيديكم ورجليكم.
, تساءلت ونيسة في لطافةٍ:
, -إزيك يا آمنة؟ عاملة إيه؟ وأخبار صحتك إيه؟
, أجابتها بعد تنهيدة سريعة:
, -الحمد**** في أحسن حال.
, رددت في ودٍ:
, -دايمًا يا رب.
, حرك خليل كرسيه المدولب ليدنو من ضيوفه الأعزاء ملقيًا عليهم التحية:
, -س، لام علي، كم.
, أسرع تميم ناحيته ليدفعه وهو يقول في أدبٍ:
, -خليك زي ما إنت يا عم خليل، احنا جايين لحد عندك.
,
, علقت آمنة كنوعٍ من المجاملة وهي تستقر في واحدة من الأريكتين الشاغرتين:
, -شرفتونا يا جماعة و****، ونورتونا، ده احنا زارنا النبي.
, تفاوتوا في سرعة ردودهم؛ لكنهم قالوا جميعًا:
, -عليه الصلاة والسلام.
, أحضر هيثم مقعدين من مقاعد السفرة ليضعها بغرفة الصالون، في المساحة الخالية، وتنحى للجانب حتى تمر زوجته، وتجلس على واحدٍ منهما، أحنى رأسه عليها يسألها، وقد لاحظ الإعياء على وجهها:
, -إنتي كويسة؟
,
, أجابت بإيماءة من رأسها:
, -أه الحمد****.
, ضيق عينيه ناحيتها، كأنما يتفرس في قسماتها المتعبة، وقال بصوتٍ خافت في غير اقتناعٍ:
, -بس لون وشك مش مريحني.
, تنهدت في عمقٍ طاردة الإرهاق من داخلها، وأخبرته ببسمة لطيفة:
, -معلش، ده تلاقيه من تعب الأيام اللي فاتت، إنت عارف ماما كانت قالبة البيت فوقاني تحتاني.
, احتج على المبالغة في تصرفات والدتها قائلاً وهو يكز على أسنانه:.
,
, -مش عارفة إيه لازمتها حملة النضافة دي كل شوية، ما يراعوا ظروفك شوية، ولا لازمًا يعني أتكلم مع أمك.
, اختطفت همسة نظرة سريعة على الحاضرين، لتتأكد من عدم متابعة أحدهم لنقاشهما شبه المحتدم رغم انخفاض صوتيهما، ثم مدت يدها ووضعته على قبضته المسنودة في حجره تستجديه برجاءٍ:
, -خلاص يا هيثم، مش وقته، الناس هتاخد بالها.
, ظل متمسكًا باعتراضه مبررًا سبب تشدده:.
,
, -معلش يعني محدش هينفعني لو جرالك حاجة، إنتي ولا اللي في بطنك.
, مسحت براحتها على يده المضمومة، وهمست في نعومةٍ:
, -حبيبي، حصل خير.
, رمقها بنظرة حادة قبل أن يحرك فكيه لينطق منذرًا:
, -عمومًا ليا لي كلام مع أمك بعد الليلة دي ما تتفض.
, لم تجادله، وتطلعت إلى الأوجه المحيطة بها؛ لكن ما إن وقعت عيناها على والدتها حتى هتفت بها تأمرها في جديةٍ:
, -الحاجة الساقعة بسرعة يا همسة.
,
, أومأت برأسها متمتمة بابتسامةٍ صغيرة وهي تنهض مجددًا:
, -عينيا يا ماما.
, انزعج هيثم من إرهاق زوجته بالكثير من الطلبات، خاصة أنها باتت في أشهرٍ متقدمة من الحمل، نهض بدوره ليتبعها وهو يقول بصوتٍ عكس القليل من تجهمه:
, -منورين يا جماعة.
, فقط تولت آمنة الرد عليه بضحكة مفتعلة:
, -تعيش يا جوز بنتي، دايمًا تعبينك معانا.
, تجاهل التعليق عليها، ولحق بزوجته وهو يبرطم بكلماتٍ مبهمة إلى أن اختفى عن الأنظار.
,
, دقائق من الثرثرة الفارغة في عدة مواضيعٍ روتينية عمت بين الحاضرين، تخللها الكثير من النظرات الشاردة المتعلقة بالباب، على أمل أن يكون تميم أول من يراها وهي قادمة؛ لكنها أطالت في الظهور، مما ضاعف من الأشواق بداخله، يا ليته ما وافق على اقتراحها المعذب له، أما كان الآن يتنعم بنعومة ودفء أحضانها؟ أطلق زفرة بطيئة محبطة، وأدار رأسه في اتجاه شقيقته التي تساءلت بمكرٍ؛ كأنما قرأت ما يدور في خلده:.
,
, -أومال فين عروستنا القمر؟
, قبل أن يعاتبها بنظرته الصارمة، جاءه صوتًا يشتاق لسماعه في كل ثانية:
, -أنا موجودة.
,
, نبض قلبه بشدة، واستدار في لهفةٍ ليتطلع إليها ملء عينيه، وهو لا يدرك أنه يبتسم لها في ابتهاجٍ ونشوة. التقت نظراته الساهمة بنظراتها الضاحكة، في لحظة توقف فيها الزمن عن الدوران، لتنفذ من خلالها إلى القلوب. في خلال تلك اللحظة العابرة، كانا –عن طواعية ورغبة حقيقية- قد سرقا منها ذكرى أول ملاطفة بصرية بينهما، ودا لو دامت للأبد!
,
, تشتت حدقتا فيروزة اللامعتين ببريق عاطفة لا تكابر لإظهارها حين وقفت هاجر للترحيب بها، فأخذتها الأخيرة في أحضانها، وقالت في ألفة شديدة، وتلك النظرة الماكرة تنطلق من عينيها، لتصوبها نحو شقيقها:
, -يا أهلاً بخطيبة أخويا العسل.
, تراجعت عنها فيروزة وسألتها في هدوءٍ رغم الضجيج الصادح بداخلها:
, -إزيك يا هاجر؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟
, ردت بضحكة مرحة:
, -الحمد**** في أحسن حال، وخصوصًا لما شوفتك.
,
, حافظت على رقة بسمتها وهي تعقب على مجاملتها اللطيفة:
, -دايمًا يا رب.
, أكملت دورها في تحية كافة الموجودين، فيما عدا تميم! ضنت عليه عن عمدٍ، وبقليل من الدلال، بترحيب يشبع الجوع المتزايد بداخله للارتشاف من نهر عشقها. تلفتت فيروزة حولها لتنتقي المكان الذي ستجلس فيه؛ لكن الجد سلطان رشح لها الاختيار الأمثل بقوله الذي لا يرد:
, -تعالي جمبي يا حبيبتي.
,
, وكأنه يفعل المستحيل للتقريب بين قلبين أتعبتهما مشاق الحياة وخياراتها القاسية، لذا جعلها تجلس في المنتصف بينه، وبين تميم على الأريكة العريضة، بعد أن طلب منه التحرك للالتصاق بالمسند. نظرة امتنان سددها حفيده إليه، أعقبها نظرة متوترة لأبيه الذي احتفظ بصمته المحذر.
, شمل سلطان العروس بنظرة أبوية حانية قبل أن يمتدح زينتها غير المبهرجة:
, -ماشاء****، زي القمر.
, أخفضت رأسها قائلة في نبرة وديعة:
, -شكرًا لحضرتك.
,
, أصابتها لبكة فجائية حين سمعته يأمر حفيده في طرافةٍ:
, -ما تديها الحاجة الحلوة يا واد، ولا عايزها تقول عليك بخيل؟
, هتف تميم مدافعًا عن نفسه بابتسامته العريضة:
, -هو أنا لحقت؟ على طول أهوو.
, كان قد احتفظ بحقيبة كرتونية صغيرة، لا تتجاوز في حجمها حجم كف اليد، لم يعطها ل آمنة عند ولوجه للمنزل، قدمها إلى عروسه الجالسة إلى جواره قائلاً بوجه ينيره وهج الحب:
, -اتفضلي، يا رب تعجبك.
,
, تناولتها منه دون أن تمس أصابعه أناملها، ونظرت إلى ما بداخلها، لتجد علبة من الشيكولاتة الدائرية الشهيرة ذات الأوراق الذهبية، ومعها بطاقة صغيرة، بالطبع لم تملك من الشجاعة أو الجراءة ما يجعلها تُظهرها للعامة وتقرأها علنًا، التفتت برأسها لتنظر إليه عن هذا القرب الخطير، وهسهست بخفوتٍ:
, -شكرًا، هدية طعمها حلو.
, علق مغازلاً إياها دون احترازٍ بصوتٍ خافتٍ مسموعٍ فقط لها:
, -مش أحلى منك.
,
, برقت عيناها مذهولة لجرأته، وقبل أن ينكشف أمر مداعبته المتوارية، ويتم إحراجه بشدة، كانت آمنة قد تكلمت عاليًا:
, -على إيه التعب ده؟ ده خيركم سابق يا جماعة.
, تنحنح تميم قائلاً في جديةٍ زائفة وهو يلصق جسده بمسند الأريكة:
, -دي حاجة بسيطة للعروسة.
,
, العالم أمام سحر النظرات الفيروزية ما زال حائرًا! فكيف له أن ينأى ببدنه عن تعويذة جعلته أسير حبها؟ كانت في صمتها كالوقود الذي يحتاجه ليأجج من النيران المندلعة في صدره، وفي كلامها كالشلال الذي يغمر الأنهار الضحلة بفيض مائه، آه لو يلمس الشفاه ويتذوق الرحيق الكامن فيهما! تنهيدة تلو أخرى تحررت من رئتيه؛ لكنها زادت من أوج الرغبة بداخله.
,
, من زاويته، جاهد تميم ليحفر في ذاكرته كل إيماءةٍ تصدر عنها، الابتسامة الرقيقة، الضحكة المهذبة، وحتى النظرة المثيرة التي تمنحها له من طرفها. لم يتوقف عن الابتسام لهنيهة، وكأن كل الأمنيات تحققت في قربها المُهلك! بالكاد حاد بعينيه عنها عندما نادت والدتها:
, -يالا يا جماعة السفرة جاهزة.
, ردت عليها ونيسة في ودٍ:
, -**** يديم لمتنا وجمعتنا.
,
, بعد دقيقتين تقريبًا، استقر الجميع في مقاعدهم حول المائدة المتخمة بصنوف الطعام الشهية، ولحسن حظه جلست فيروزة في مواجهته، ليتمكن من النظر إليها مباشرة، دون الحاجة للالتفاف. تحولت عينا تميم نحو آمنة التي استطردت تخاطبه:
, -دوق كده يا ابني، وقولي رأيك في الأكل.
, رد مجاملاً وهو يدس المعلقة في صحن الأرز:
, -تسلم إيدك يا حماتي، كفاية تعبك.
, رمقته بنظرة ذات مغزى وهي تؤكد له:.
,
, -ده فيروزة واقفة معايا من طلعة النهار عشان تساعدني في تحضير الأكل.
, ما هذا الكذب الذي تسمعه علنًا؟ اتسعت عينا فيروزة في صدمة جلية بعد ادعاء والدتها غير الحقيقي، وتوقفت عن مضغ الطعام، لتسعل قليلاً، ثم ما لبث أن استدارت لتنظر إليها في استنكارٍ معكوسٍ على ملامحها. تجاهلت آمنة نظراتها المستهجنة، واستمرت تقول في ثقة لتدعم أكذوبتها:
, -دي عليها حبة وصفات تجنن.
, قالت رقية في تلقائية:
, -بس دي كانت بتلعب معايا.
,
, صححت لها آمنة بعد نحنحنة مسموعة:
, -بعد ما نمتي يا كوكي، ويالا خلصي طبقك كله عشان يدعيلك.
, حينئذ ضاقت عينا فيروزة أكثر بتحذيرٍ غير منطوق لوالدتها، لئلا تضيف المزيد من الادعاءات؛ لكن سرعان ما التفتت لتحدق في تميم وهو يردد مبتسمًا:
, -أكيد هايكون نفسها حلو لأمها.
, سددت له نظرة حادة فيها لمحة من الضيق، وقبل أن تنطق موضحة الحقائق، بادر الجد مازحًا:
, -حتى لو غير، تميم هياكل وهو ساكت، بدل ما يقضيها نواشف.
,
, أمنت عليه فيروزة بجدية غير ساخرة:
, -بالظبط يا جدي٣ نقطة
, انخفضت نبرتها على الأخير، لتبدو وكأنها تكلم نفسها وهي تتم جملتها:
, -بلاش سقف الطموح يعلى أوي.
, ابتلع تميم ما في جوفه، وقال بنفس الوجه المبتسم:
, -صح يا جدي، أنا هاكل عشان الطبق يدعيلي.
,
, انفلتت منها ضحكة صغيرة، جعلتها تتحرج بشدة لتحول الأنظار إليها، مما اضطرها للتحديق في صحنها، وكأنها مشغولة بتناول الطعام، في أقل من لحظات التهى الجميع عن التحديق بها ليتحدثوا عن أمرٍ آخر؛ لكنها لم تتوقف عن اختلاس النظرات إليه. حقًا مقاومة تأثيره بات مستحيلاً، كيف له أن يفعل ذلك ببساطة؟ أن يحرك الماء الراكد أسفلها، لتصبح أخرى غير تلك التي كانت عليها، أنثى مليئة بالحيوية، الشغف، والرغبة في الحياة!
,
, تحول البلكون المتسع بعد انتهاء الغذاء، إلى حلقة عائلية اجتمع فيها أفراد الأسرتين للتسامر، في أجواء معبأة بالمودة والألفة. استغل سراج هذا الاجتماع –وبعد مداولة سريعة مع زوجته- ليقوم بالإعلان بصوتٍ شبه مرتفع، موجهًا كلامه إلى عائلة فيروزة:
, -إن شاء**** جوازي على هاجر الأسبوع الجاي، أنا قولت أعزمكم بنفسي على الفرح.
, انطلقت زغرودة مجاملة من آمنة، أعقبها ترديدها الفرح:.
,
, -ألف ألف مبروك، **** يتمم على خير
, في حين رد عليه بدير مصححًا زلة لسانه غير المقصودة:
, -هما مش محتاجين عزومة، دول أصحاب فرح يا ابني.
, لم تخبت ابتسامة سراج وهو يرد:
, -أكيد طبعًا يا حاج بدير، هما من الأهل والأحباب.
, وجهت فيروزة تهنئتها ل سراج فقالت:
, -مبروك يا معلم سراج، **** يتمم بخير.
, رد يشكرها وهو يومئ برأسه:
, -تسلمي يا رب، وعقبالك.
,
, حادت بنظراتها عنه لتحدق في هاجر، وهنأتها هي الأخرى قائلة وهي تربت على جانب ذراعها:
, -مبروك يا هاجر، تساهلي كل خير يا حبيبتي.
, هدهدت الأخيرة رضيعها بين ذراعيها، وهتفت ضاحكة:
, -**** يبارك فيكي يا حبيبتي، وعقبالك يا رب عن قريب، عاوزين الفرح يدق بابنا.
, تورد وجهها قليلاً، فتجاوزت عما تشعر به من حرجٍ، لترد في هدوءٍ محايد:
, -**** يسعد الجميع.
,
, أحضرت رقية طائرتها الورقية، واخترقت أرجل الجالسين، لتتمكن من المرور والوصول إلى تميم المرتكن بظهره على حافة سور الشرفة، رفعتها إليه وقالت في مرحٍ طفولي:
, -عايزة أطيرها, تلعب معايا؟
, لم يرد طلبها، وانحنى جاثيًا على ركبته ليغدو في مستوى نظرها، وسألها مبتسمًا:
, -تحبي نطيرها فين؟
, أعطته الطائرة، وقفزت في مكانها مرددة في لهفةٍ:
, -فوق، في السطوح.
, هز رأسه ممتثلاً لطلبها:
, -ماشي.
, استدارت رقية تخاطب أبيها:.
,
, -هاروح معاه يا بابا.
, هز رأسه بالإيجاب، وعلى وجهه ابتسامة متفائلة، بينما استقام تميم واقفًا، وشبك يده في كفها الصغير، ليبدأ السير معها من خلف المقاعد؛ لكن استوقفه اقتراح جده النزق:
, -خد عروستك معاك، هتطلعوا لوحدكم كده؟
, خفق قلبه بشدة لمجرد الفكرة، وانتفضت عواطفه تزأر للظفر بلحظات مميزة بتواجده معها، ابتلع ريقه، ونظر نظرة خاطفة نحو أبيه الذي تجهم قليلاً، فأمسك التردد بصوته وهو يقول:
, -لو، هي، تحب؟
,
, ثم حمم مضيفًا، وعيناه تنظران إلى والده، كأنما يستأذنه:
, -إيه رأيك يابا؟
, أجابه بدير بلهجةٍ جمعت بين الشدة واللين:
, -طالما في حد معاكو معدنيش مانع.
, أحرقت الرغبة في تحقيق ذلك اللقاء أوصاله، وألهبت عواطفه بشكلٍ لا يمكن تحمله، أخفى مشاعره تحت غطاءٍ من الهدوء، وكرر طلبه على فيروزة بأسلوبٍ لبق:
, -تجي معانا يا أبلة؟
, رمقته بنظرة غامضة قبل أن تمنحه جوابها:
, -أكيد، بس همسة تيجي معايا.
,
, امتقعت ملامح وجه هيثم لمجرد طرح الفكرة، وقبل أن يعترض سبقته زوجته رافضة بتنهيدة متعبة:
, -لأ مش قادرة أتحرك، خلوني أعدة في مكاني، أنا كده كويسة.
, أسندت آمنة أكواب المشروب الغازي بعد أن ملأتها، واقترحت في غير مبالاة وهي تجلس إلى جوار حماة ابنتها:
, -ما تطلعوا لوحدكم، هيجرى إيه يعني؟
, اِربد وجه فيروزة بالضيق لهذا القدر من التساهل المكشوف، بينما علقت ونيسة بابتسامةٍ مبتورة لتخفف من وطأة الأمر:.
,
, -بيتكسفوا يا آمنة، ومايصحش برضوه، خليهم على راحتهم.
, جاءها مبررها فجًا بعض الشيء بعد ضحكة مصطنعة:
, -ما هو لازم ياخدوا على بعض، أومال هيتجوزوا عمياني.
, لم تكن فيروزة راضية عما يحدث، وكادت ترفض الاقتراح برمته، لولا أن استطردت هاجر قائلة في حماسٍ:
, -خلاص أنا و سراج رايحين معاهم، خلينا نشوف المنظر من فوق.
, ردت عليها آمنة في استحسانٍ وبحماسٍ زائد:
, -ده تحفة، هيعجبك أوي.
, غمغم بدير من بين أسنانه في خفوت:
, -يكون أحسن.
,
, من بين كل الحاضرين، كان يخشى –بشدة- قلبتها الوشيكة، رأى تميم الكدر بائنًا في وجهها، وتوقع أن ترفض التواجد معه، لكنه لم يمانع من المجازفة وسؤالها بحذرٍ:
, -إيه رأيك يا أبلة؟ جاية معانا؟
, دفعتها هاجر من كتفيها، وقد تولت الإجابة عنها:
, -وهي هترفض ليه؟ تعالي معايا.
,
, لم تترك لها الخيار، فاضطرت فيروزة أن تنساق معها نحو الخارج، والغيظ من تصرفات والدتها غير المستساغة ظاهرًا في عينيها. تلكأت في حركتها، وتعمدت التباطؤ خلال صعودها للأعلى، كما أنها لم تتوقف عن النفخ عاليًا كتعبير عن انزعاجها، حتى أصبحت الأخيرة في الوصول والانضمام إليهم. تسمرت قدماها عند المدخل، وكتفت ساعديها أمام صدرها لتراقب تميم بصمتٍ مشحون، لن تنكر أن الغيرة قد بدأت تتسلل إليها لانشغاله كليًا عنها، وإن كان مع الصغيرة، بدا مهتمًا بجعل الطائرة تحلق عاليًا وكأنها المهمة المستحيلة.
,
, باعدت نظراتها عنه لتحدق في سراج و هاجر المشغولين بالتقاط بعض الصور التذكارية مع الرضيع، هسهست في غيظٍ:
, -وأنا جاية أتفرج عليكم ولا إيه؟
, لوت ثغرها متابعة تبرمها المغتاظ:
, -شكلي أنا العزول اللي بينكم!
, ظلت على تلك الحالة، توزع نظراتها على الجانبين، والكدر يتملك منها، سرعان ما انتفضت في وقفتها، وارتخا ذرعاها عندما سمعت تميم يناديها:
, -تعالي يا أبلة، مستنينك.
,
, حفظًا لماء الوجه، رفعت أنفها للأعلى، وادعت عدم اكتراثها، فقالت بفتورٍ وهي تداعب طرف حجابها:
, -عادي، خدوا راحتكم.
, نادتها رقية في تلهفٍ:
, -يالا يا فيرو، عايزين نطيرها سوا.
, أجلت أحبالها الصوتية، وقالت بكبرياءٍ في غير محله:
, -علشان خاطرك بس.
,
, ثم سارت بتكاسلٍ في اتجاههما، إلى أن وقفت في مواجهة تميم، نظرة سريعة منحتها له، متوقعة أن ينظر إلى ما سواها؛ لكنها وجدته يطالعها بإمعانٍ وتدقيق، وتلك الابتسامة العجيبة تنير ثغره، يا للوقاحة! ألا يكف عن التحديق أبدًا ناحيتها بهذه الطريقة؟!
, حمحمت مجددًا، وتساءلت مستفهمة:
, -المفروض أعمل إيه؟
, أشار لها بعينيه نحو بكرة من الخيط السميك موضحًا دورها:
, -امسكي طرف الخيط كويس، بس أوعي يفلت منك.
,
, تطلعت إليه بنظرة مليئة بالثقة قبل أن تنطق في عنجهية أعجبته:
, -لا أطمن، اللي بمسك فيه مش بسيبه.
,
, أسبل تميم عينيه نحوها، وعمق من نظراته المتيمة وهو يتأملها عن لهفةٍ وتوق، كأنما يبحث عن المنفذ إلى حصونها المنيعة، لعله يجد في نهاية السعي السبيل للاستحواذ على قلبها وعقلها، شعرت فيروزة بنظراته تخترقها كالسهام الصائبة، فنالت من تلك العضلة الكائنة بداخلها، وجعلتها صريعة لعواطف رائعة لم تتصور أن تبزغ بها، وتصرخ دون صوت؛ كأنما تريد منه ألا يتوقف عن إغراقها بهم، أحست بالدماء الدافئة تسري في عروقها، تمدها بترياق الحياة، وهو يؤكد لها بكلماتٍ موحية:.
,
, -وأنا مش عاوز إلا كده، ماتسيبهوش أبدًا٣ نقطة!
 
٤٢

صناعة الذكريات الرائعة لا تحتاج سوى لأناسٍ يجيدون إدخال السعادة على النفس، بطرقٍ بسيطة غير مصطنعة أو متكلفة. وجدت فيروزة نفسها تتأمل المشهد من حولها، بعد أن صعد الجميع واحدًا تلو الآخر إلى السطح لينضموا للبقية، مررت نظراتها على هاجر وهي تشاكس رضيعها، ومن خلفها زوجها الذي يستحثه على مواصلة السير بمفرده، ثم انتقلت ببصرها نحو ونيسة ووالدتها، حيث جلست الاثنتان قريبتان من بعضهما البعض تثرثران في حماسٍ وألفة.
,
, حركت عينيها نحو خالها، فرأته يلوح بيده خلال حديثه مع بدير، والجد سلطان، لم تُبقِ نظرها عليهم كثيرًا، فتابعت التحرك بحدقتيها نحو توأمتها الجالسة في ركنٍ منزوٍ مع زوجها بالقرب من حافة السور. تنهيدة سريعة حررتها من صدرها لتعاود التطلع إلى تميم وهو يلاعب الصغيرة رقية، أمعنت النظر إليه أثناء لهوه العفوي معها، أطالت في تأملها كأنما تمنح خيالها الفرصة لحفر ملامحه في أعماقها، أمسك بها وهي تنظر إليه بهذه الطريقة، فراحت تظهر ابتسامة لطيفة على وجهه وهو يسألها:.
,
, -في حاجة؟
, تداركت نفسها، وأبعدت نظراتها الحرجة عنه، لتحدق في الأفق الممتد أمامها وهي تدعي بلجلجة طفيفة:
, -لأ، ده أنا بشوف بتعملوا إيه مع الطيارة.
, لف الخيط حول معصمه ليجذب الطائرة الورقية قليلاً، وأجابها وهو ما زال محافظًا على ابتسامته العذبة:
, -الخيط جامد، مش هيتفك بالساهل.
, هزت رأسها وهي تعقب بإيجازٍ:
, -كويس.
, استراحت فيروزة بساعديها على حافة السور، وتابعت حوارها الهادئ معه:.
,
, -تعرف دي أول مرة الكل يتجمع هنا على السطح.
, نظر إليها تميم مدهوشًا، وتساءل بنبرة مهتمة:
, -بجد؟ إنتو مابتطلعوش تقعدوا هنا؟
, هزت رأسها نافية بعد زفيرٍ سريع:
, -لأ، قليل أوي..
, ظهرت لمعة حزينة في مقلتيها وهي تكمل مسترسلة:
, -كان زمان أيام بابا **** يرحمه، بس بعد كده بطلنا، ويدوب لو في غسيل كتير عاوز يتنشر، أو سجاد يتحط عشان ينشف.
, أشار بيده الطليقة معلقًا:
, -ده المنظر من هنا تحفة، حرام ماتستغلوش المكان.
,
, بقيت أنظارها مسلطة على أمواج البحر المتلاطمة وهي ترد:
, -فعلاً.
, خفق قلبها بتوترٍ عندما سمعته يضيف عن قصدٍ:
, -إن شاء **** نبقى نوضبه سوا.
, التفتت ناظرة إليه في عينين ضيقتين، فصحح مبتسمًا:
, -كلنا يعني.
, بادلته الابتسام برقةٍ وهي تقول:
, -إن شاء****.
,
, نغزات متفرقة انتشرت في أسفل ظهرها، وأنحاءٍ متفرقة من جسدها، حاولت التغاضي عن مقدار الألم الذي تشعر به يأتيها من وقتٍ لآخر، ولم تبدِ أي شكوى لأحدهم، خاصة حينما سكنت أوجاعها إلى حد ما. عند ذلك الجانب الهادئ، فضَّلت همسة المكوث مع زوجها المنزعج، بعيدًا عن البقية، لئلا يلاحظ أحدهم مدى الضيق الظاهر على محياه، رغم عدم تصريحه العلني بهذا. نظرت إليه في مودةٍ، واستطردت تسأله:
, -أجيبلك حاجة تشربها؟
,
, زجرها محتجًا في حدةٍ رغم خفوت صوته:
, -هو إنتي عاوزة تفضلي كده نازلة طالعة؟ ارحمي نفسك شوية، وارتاحي.
, حاولت الابتسام وإخفاء الألم عن وجهها، وقالت في لطفٍ:
, -يا حبيبي أنا عاوزاك تكون مبسوط.
, رد عليها بنفس التعابير المتجهمة:
, -هابقى مبسوط لما أمك تخف عنك شوية، حرام اللي بتعمله فيكي ده، ما تراعي حالتك شوية.
,
, وجدت صعوبة في التنفس بانتظام، وبدأ الشحوب في الزحف على وجهها، مع ظهور ذلك العرق البارد، وتجمعه عند جبينها. سحبت شهيقًا طويلاً، لفظته على مهلٍ، وراحت تكلم زوجها بتريثٍ:
, -معلش يا هيثم، ما إنت عارف الظروف، ولازم أكون معاها، وإيدي بإيدهم.
, دمدم بغضبٍ من بين أسنانه:
, -الكلام ده لما تكون بطنك فاضية، مش قربتي خلاص تولدي.
, كانت منهكة الملامح وهي ترد:
, -هانت.
, علق في تبرمٍ، وقد تحولت نظراته نحو الطريق:.
,
, -و**** شكل موال أختك ده مش هيخلص.
, حاولت مجاراته في الحديث بنفس النبرة الهادئة؛ لكن النغزات عادت لمهاجمتها، قاومت شعور الألم، ورجته في مودةٍ:
, - هيثم، قولنا إيه؟ بلاش تخليني أزعل.
, أطبق بيده على فمه بعد أن غمغم سريعًا:
, -أديني قاعد ساكت أهوو.
, تقوست شفتاها عن بسمة راضية حين عقبت عليه:
, -تعيش يا حبيبي.
,
, أخذت همسة تسحب أنفاسًا عميقة، تحبسها للحظةٍ قبل أن تطلقها من صدرها، لعلها بهذا تثبط من الوخزات الحادة التي عادت للنيل منها، حمدت **** أن زوجها نهض من جوارها ليجري مكالمة هاتفية، وإلا لرأى ما أصابها، ونالت القليل من تقريعه المستاء، وإن كان محقًا في معاتبتها. انتبهت لصوت رقية القادم من جانبها وهي تناديها:
, - هموسة.
, استدارت ناحيتها، وتساءلت في حنوٍ:
, -أيوه يا كوكي، عايزة حاجة؟
,
, أجابتها وهي تشير بيدها نحو الأسفل:
, -عاوزة الكورة.
, أفسحت لها المجال لتمر، فانحنت رقية لتلتقط الكرة الصغيرة الخاصة بالرضيع سلطان، والتي انحشرت إلى جوار المقعد، لاحظت الماء المنسكب من بين قدمي ابنة عمتها، فاعتدلت واقفة، وتساءلت في فضولٍ حائر:
, -إيه المياه دي؟
, ضاقت عينا همسة بشكٍ، وردت على سؤالها بتساؤلٍ متحير:
, -مياه إيه يا حبيبتي؟
, أخبرتها الصغيرة بعفويةٍ:
, -تحتك.
,
, على الفور تحولت أنظار همسة إلى الأسفل، واعتلت الدهشة تعابيرها، لتتساءل بعدها في استغرابٍ:
, -إيه ده صحيح؟
, للحظة نظرت إلى كوب مشروبها المسنود على الحافة، وقالت في نفس اللهجة الحائرة:
, -أنا مكبتش حاجة.
, عندئذ ضربتها وخزة عنيفة جعلت أنة متأوهة تنفلت من بين شفتيها:
, -آه..
, وقفت رقية تتطلع إليها في توجسٍ، وسألتها بعفويةٍ:
, -إنتي كويسة.
,
, كتمت همسة تأويهة متألمة أخرى، ودارت بيدها على بطنها المنتفخ تتحسسه في رفقٍ. عاد إليها هيثم، وشملها بنظرة فاحصة قبل أن يسألها في خيفةٍ معكوسة على وجهه:
, -مالك يا هموس؟ حاسة بإيه؟
, أطبقت على جفنيها، وأجابته بصعوبةٍ:
, -مش عارفة، بس في مغص جامد أوي، وحاسة بوجع رهيب في ضهري.
, ظن أنها تعاني من آثار إرهاق اليوم، لهذا عنفها في ضيقٍ:
, -أنا قولت من الأول إنك في الآخر هتتعبي.
,
, انسابت دفعة من المياه بغتةً من بين ساقيها؛ كما لو أن أحدهم سكب شيئًا بقوة، مما جعل كلاً من هيثم و رقية يتراجعان للخلف كردة فعلٍ تلقائية، ليتساءل بعدها الأول في قلقٍ أكبر:
, -يا ساتر، إيه ده كمان؟
, صرخة مليئة بالألم انفلتت من جوفها، يتبعها استغاثة صريحة:
, -إلحقني يا هيثم، أنا شكلي بولد، آآآآه.
, بصوتها المرتفع لفتت همسة الأنظار إليها، وأكد على وجود خطب ما صياح هيثم المستنجد:
, -الحقونا يا جماعة.
,
, هرولت فيروزة ركضًا نحو توأمتها تناديها في هلعٍ:
, - همسة!
, بينما نهضت آمنة واقفة لتردد بجزعٍ:
, -بنتي.
, في أقل من دقيقة حاوط الجميع همسة التي كانت تتلوى وتصرخ بألمٍ واضح، أسندتها فيروزة من جانبٍ، وتولى هيثم الجانب الآخر لحثها على السير، في حين تحركت آمنة من خلفهما تدعو في رجاءٍ شديد:
, -جيب العواقب سليمة يا رب، دي كانت كويسة وبخير.
, قالت ونيسة مفسرة ما يحدث معها:
, -شكلها ولادة يا آمنة.
,
, صرخت همسة مجددًا، وتوقفت عن السير، وقد انحنت بجسدها للأمام، واضعة يدها أسفل بطنها، كأنها تخشى سقوطه، لم يستطع هيثم تحمل رؤيتها تتألم بهذا الشكل، فلف ذراعه حول خصرها، وانحنى ممررًا ذراعه الآخر من أسفل ركبتيها ليحملها، وهو يردد على مسامعها:
, -متخافيش يا همسة، إن شاء **** تعدي على خير.
, هتف بدير يأمر ابنه في جديةٍ:
, -جهز العربية يا تميم بسرعة تحت البيت عشان ننقلها على المستشفى.
,
, هز ابنه رأسه في طاعة، بينما اقترح سراج في تهذيبٍ:
, -وأنا هاخد الحاج بدير، والحاج سلطان معايا في العربية.
, استوقفت آمنة ابنتها الأخرى، وأملت عليها أوامرها في لهفةٍ:
, - فيروزة، انزلي بسرعة تحت هاتي شنطة الولادة بتاعة أختك، هتلاقيني حطاها جمب الدولاب بتاعي، جبيها وحصلينا على المستشفى، وخدي رقية معاكي.
, أومأت برأسها قائلة وهي تسرع في خطاها:
, -على طول.
, لم يتوقف لسان آمنة عن الدعاء وهي تهبط الدرج:.
,
, -عديها على خير يا رب.
, ارتفع الصراخ طوال مسافة النزول للأسفل، تشنج جسد همسة، وتعلقت بذراعها حول عنق زوجها تشكو له:
, -آآآه، مش قادرة.
, لم يعرف بماذا يجيبها، بذل قصارى جهده لنقلها إلى السيارة، وضعها بالمقعد الخلفي، واستقرت آمنة إلى جوارها، وهي تخبرها:
, -امسكي نفسك يا حبيبتي، كلها شوية ويشرف ابنك بالسلامة.
,
, تحرك هيثم ليجلس سريعًا إلى جوار ابن خالته، فضغط الأخير على دواسة البنزين لينطلق بالسيارة نحو المشفى، وقلبه قبل عقله متروكٌ لدى وليفه الذي لم يأتِ معه.
,
, مر الوقت بطيئًا للغاية عليه، كأن الثواني ترفض أن تمضي، ذرع هيثم الردهة الممتدة أمام غرفة العمليات جيئة وذهابًا في توترٍ مختلط بالخوف، تعلق قلبه بزوجته المحتجزة بالداخل، وأحس بالمزيد من الخوف يتسلل إليه مع شعوره ببطء مضي الزمن، حاول الجلوس إلى جوار الجد سلطان، فلم يمكث سوى لدقيقة أو أكثر بقليل، لينتفض واقفًا بعدها وهو يتساءل في قلقٍ:
, -هما اتأخروا جوا كده ليه؟
,
, رفع الجد رأسه لينظر إليه، وأخبره بيقينٍ واضح في صوته:
, -إن شاء**** خير، اطمن يا ابني، احنا كلنا هنا وبندعيلها.
, تضرع هيثم مناجيًا المولى، والخوف يعتصر فؤاده:
, -يا رب كملها على خير، يا رب تقوم بالسلامة.
, في الركن المقابل، وعلى المقاعد المعدنية، أخذت آمنة تقول بما يشبه النواح:
, -مكانش لا على البال ولا على الخاطر إنها تولد النهاردة، ده احنا كان لسه ميعادنا مع الدكتور الأسبوع الجاي، عديها على خير يا كريم.
,
, طمأنتها ونيسة الجالسة إلى جوارها بقولها الهادئ:
, -**** لما يأذن، إن شاء**** تطلع من جوا، ونطمن عليها.
, ركزت آمنة نظرها للأعلى، وراحت تزيد من دعائها:
, -يا رب اجعلها ساعة سهلة من عندك.
,
, رغم أن الرواق عج بأفراد العائلتين، إلا أنه لم يبصرها بين المتواجدين، بدت وكأنها قد اختفت عن المشهد بعد أن أحضرت الحقيبة للمشفى، توتر تميم من اختفائها، وشعر بالسخافة إن تطرق لسؤال أحدهم عنها، سحب هاتفه من جيبه، وتردد في الاتصال بها، بيد أن القلب حسم الأمر بإجراء المكالمة؛ لكن قوة إرسال الشبكة لم يسعفه، فقد تعذر عليه إتمام الاتصال. زفر في سأمٍ، وأدار رأسه نحو الطبيب الذي ظهر لتوه في منتصف الممر، ليستمع إليه وهو يتساءل عاليًا:.
,
, -لو سمحتوا فين زوج المريضة؟
, هرول هيثم ناحيته مرددًا بصوتٍ مليء باللهفة والخوف:
, -أيوه أنا.
, أخبره الطبيب ببرودٍ:
, -عاوزينك تحت في الحسابات شوية.
, حدجه هيثم بنظرة نارية، فقد توقع أن يطمئنه عن وضع زوجته، لا أن يطلب منه الذهاب وهو في تلك الحالة المنزعجة، تدخل تميم عارضًا خدماته:
, -خليك إنت هنا يا هيثم جمب مراتك، وأنا نازل تحت.
, لم يكن في حالٍ جيد يسمح له بالاعتراض أو الرفض، بل إنه تقبل عرضه بترحابٍ واضحٍ:.
,
, -طيب، يبقى كتر خيرك يا تميم.
, ربت ابن خالته على كتفه قائلاً في ودٍ:
, -على إيه يا ابني، ده احنا إخوات.
, ربما في انصرافه فرصةً للتواصل معها، لهذا لم يتلكأ في سيره، وابتعد عن الردهة، متجهًا نحو طريق المصعد، ويده تعبث بشاشة الهاتف.
,
, حملته قدماه نحو المصعد؛ لكن لصدمته وجدها جالسة عند المقاعد المعدنية المرصوصة في البهو الخاص بهذا الطابق. قفز قلبه فرحًا، وحاول تهدئة انفعالاته السارة برؤيتها ليبدو هادئ الملامح. دنا منها تميم، كانت مغمضة العينين، ومنكسة الرأس، تدفن وجهها بين كفيها، استقر في هدوءٍ حذر في المقعد الشاغر بجوارها، سمعها تردد في خفوتٍ:
, -يا رب احفظها، يا رب ما تضرنا فيها.
, أمن عليها في صوتٍ خفيض:
, -أمين يا رب العالمين.
,
, انتبهت فيروزة لوجوده، واعتدلت في جلستها لتنظر إليه بوجهٍ مطبوع عليه باللون الأحمر آثار أناملها الضاغطة عليه، بادر بسؤالها في استغرابٍ مهتم:
, -إنتي هنا؟ ليه مش موجودة مع الجماعة هناك؟
, لم تجبه، وسألته في قلقٍ لا يمكن إنكاره:
, -في جديد؟ عرفتوا حاجة؟
, هز رأسه نافيًا وهو يخبرها:
, -لأ لسه، بس إن شاء**** خير.
,
, أراحت فيروزة ظهرها للخلف، وضمت يديها معًا لتسندهما في حجرها أعلى حقيبة يدها، صمتت لهنيهةٍ قبل أن تستطرد قائلة؛ كأنما ترغب في مشاركته مخاوفها الدائرة في عقلها:
, -أنا خايفة أوي على همسة، قلبي مش مطمن، شكلها كان تعبان أوي، واحنا مخدناش بالنا منها.
, ودَّ لو استطاع محاوطتها من كتفها، وأخذها إلى صدره ليضمها، علَّها تشعر خلال ضمته القوية بالأمان والاحتواء، تنهد سريعًا، وقال بعد لحظة من التفكير:.
,
, -أول ولادة بتبقى صعبة.
, لم تتوقع رده، فضحكت في عفويةٍ، وسرعان ما دخلت في نوبة ضحك غريبة، جعلت عيناها تدمعان بشكلٍ غريب، ومع هذا لم يقاطعها تميم، بل إنه استمتع برؤيتها هكذا، وظل يراقبها في سرورٍ، حاولت فيروزة التوقف عن إطلاق الضحكات؛ لكنها استصعبت إيقافها، وقالت بقهقهة مصاحبة لكلامها:
, -إنت بتكلم زي ماما على فكرة.
, رفع ذراعه ليمرره أعلى رأسه، وقال بابتسامةٍ صافية:.
,
, -ما أنا مش عارف أقول إيه، وبعدين كنت بسمع أمي تقول كده.
, نظر تميم إليها ملء عينيه، وأضاف في حبٍ لا يتمكن من إخفاء علاماته:
, -المهم عندي إنك إنتي بخير.
,
, نجحت في السيطرة على نوبة ضحكها، وبادلته النظر بامتنانٍ، رغم ذلك الشعور المريب بعدم استطاعتها الرد على عذب عباراته، بدت وكأنها تريد منه الاستمرار في الكلام، وهي فقط تصغي إليه، تقلصت عضلات وجهها عندما رأته ينهض، ضاقت عيناها بشكلٍ غريب، وسألته في تلهفٍ استنكرته لاحقًا:
, -إنت رايح فين؟
,
, شعوره الجميل -في هذه اللحظة تحديدًا- باهتمامها العفوي به كان ممتعًا للغاية؛ لكنه كان مضطرًا للالتزام بالضوابط المفروضة بينهما مؤقتًا، إلى أن يجتمع الوليفان معًا، تحت سقفٍ واحد. دس هاتفه المحمول في جيبه، وأجابها:
, -نازل الحسابات.
, رأها تنهض من مكانها، وتطرح حقيبتها على كتفها وهي تخاطبه بنبرة عازمة:
, -طيب أنا جاية معاك، مش عاوزة أفضل لوحدي.
, أبقى عينيه عليها قائلاً بصوتٍ نبع من أعماق قلبه الغارق في العشق:.
,
, -وأنا جمبك.
,
, لم تتجاوز عقارب الساعة الخمس وأربعين دقيقة، ليخرج بعدها الطبيب المسئول عن إجراء عملية الولادة القيصرية لمريضته التي فاجأتها آلام المخاض وأوجاعه غير المحتملة، ليطمئن ذويها عن وضعها الصحي، خاصة أنها لم تخضع لولادة طبيعية كما كان يتمنى. رسم ابتسامة منمقة على محياه، واستهل حديثه مخاطبًا من التفوا حوله في شكل نصف دائرة:
, -ألف مبروك يا جماعة، المدام ولدت، وبخير، والبيبي كمان بخير، يتربى في عزكم.
,
, هلل هيثم في بهجةٍ عظيمة:
, -اللهم لك الحمد والشكر.
, بينما رددت فيروزة في سرورٍ كبير، وهي تضم قبضتيها إلى صدرها:
, -الحمد**** يا رب.
, في حين صاحت آمنة في رضا وهي تمسح بكفيها على كامل وجهها:
, -ياما إنت كريم يا رب.
, تساءل هيثم في لوعةٍ وهو يقبض على ذراع الطبيب ليوقفه:
, -طب هنشوفها إمتى؟
, بهدوءٍ حذر استل الطبيب ذراعه من أسفل يده، وأجابه بنفس الابتسامة اللبقة:
, -هي في الإفاقة، وشوية وهننقلها على أوضتها.
,
, عادت قبضته لتمسك به متابعًا سؤاله التالي، وبؤبؤاه يتحركان في توترٍ:
, -طب والنونو؟
, ربت الطبيب على جانب ذراعه، ثم أخبره موضحًا ما يتم إجرائه من خطواتٍ معروفة عند كل حالة وضعٍ:
, -مع الممرضة، بتنضفه، وهتلبسه هدومه، وشوية وهيكون في الأوضة مع مامته، أنا بس حبيبت أطمنكم.
, تنفس هيثم الصعداء، وراح يشكره في سعادة ظهرت علاماتها على تعابيره المشدودة:
, -كتر خيرك يا دكتور.
,
, منحه الطبيب ربتة سريعة على كتفه، قبل أن يجول بنظراته على الحضور وهو يقول:
, -مبروك مرة تانية، وحمدلله على سلامة الأم وابنها.
, استأذن بالذهاب، وغادر المكان، ليكرر هيثم من جديد في تضرعٍ شاكر:
, -الحمد**** يا رب.
, أقبل الجد سلطان عليه يهنئه:
, -مبروك يا هيثم، يتربى في عزك.
, احتضنه الأول في عفويةٍ شديدة، وأدمعت عيناه تأثرًا عندما نطق:
, -**** يبارك فيك يا جدي.
, اقتربت منه آمنة، وقامت بتهنئته هي الأخرى بابتسامةٍ عريضة:.
,
, -مبروك ما جالك يا جوز بنتي.
, رد بفتورٍ محاولاً مقاومة شعوره بالانزعاج منها:
, -**** يبارك فيكي.
, لاحقته بسؤالها التالي، وهذه اللمعة الغبطة تتراقص في حدقتيها:
, -ها ناوي تسمي حفيدي إيه؟
, أخبرها في نوعٍ من السماجة؛ كأنما يوبخها بشكلٍ مستتر:
, -أطمن على مراتي الأول، وبعد كده نشوف حكاية الاسم.
, هزت رأسها توافقه الرأي، وقالت وهي تستدير عائدة إلى مقعدها لتجلس في استرخاء عليه، بعد أن تجاوزت قلقها الغريزي:.
,
, -معاك حق، ده المهم دلوقتي، نطمن على همسة.
,
, استقرت الأوضاع أخيرًا، ومكثت همسة في غرفتها بالمشفى، بعد أن انضم إليها وليدها في سريرٍ صغير منفصل، كانت تئن بخفوت وهي تحاول تحريك جسدها، وسحبه للأعلى حتى تتمكن من الاعتدال في رقدتها. وضعت فيروزة الوسادة خلف ظهرها لتدعم من استقامتها، ثم سألتها في اهتمامٍ كبير:
, -حاسة بإيه يا هموسة؟
, نظرت إليها قائلة بوهنٍ:
, -مش قادرة، تعبانة.
, مسحت بمنديلٍ ورقي ما تجمع عند جبينها من عرقٍ، وابتسمت قائلة في لطافةٍ:.
,
, -معلش يا حبيبتي، دي ضريبة الأمومة، إن شاء**** هاتبقي بخير.
, حركت همسة رأسها للجانبين، وتساءلت في نفس الصوت المليء بالضعف:
, -فين ابني؟
, أشارت بيدها نحو الركن وهي تجيبها:
, -هناك أهوو، نايم زي الملايكة في سريره.
, صمتت للحظاتٍ مستسلمة للخدر الذي ما زال متفشيًا في عروقها، قبل أن تتساءل مجددًا
, -و هيثم فين؟
, تلك المرة أجاب هيثم عن توأمتها وهو يتقدم نحو فراشها:
, -أنا هنا يا همسة.
,
, عندئذ تحركت فيروزة مبتعدة، لتترك له المجال للبقاء بالقرب منها، وانضمت إلى النساء الجالسات على المقاعد بالجانب. امتدت يده لتمسك بكفها، مسح عليه بإبهامه، ومال عليها ليخبرها بصوتٍ خافت:
, -كلنا حواليكي يا هموس.
, رغم الإعياء البادي عليها إلا أنها ابتسمت لقربه، تابع كلامه معها قائلاً بحماسٍ:
, -ماشاء **** ابننا زي القمر، طالع لأمه أكيد.
, هنا تساءلت آمنة من جديد:
, -فكرتوا في اسم ليه؟
,
, سلط هيثم أنظاره عليها، وقال في ثقةٍ:
, -أيوه، أنا و همسة اتفقنا عليه من فترة.
, سألته بفضولٍ أكبر:
, -إيه هو؟
, عاود النظر إلى زوجته، ثم قال وهو يبتسم:
, - خالد.
, حلت الدهشة على قسمات النساء، وتفاوتت في درجاتها، فالاسم كان شبيهًا للغاية من اسم عمة الرضيع الراحلة خلود. غمغمت آمنة في تبرمٍ، دون أن ترفع من نبرتها:
, - خالد! ده عشان أخته ولا إيه؟!
, بادرت ونيسة بتهنئته على حُسن اختياره للاسم:.
,
, -عاشت الأسامي، **** يباركلكم فيه، ويجعله السند ليكم.
, قال ممتنًا وهو ينظر ناحيتها:
, -يا رب يا خالتي.
, استطردت هاجر مهنأة هي الأخرى:
, -مبروك يا هيثم يتربى في عزك.
, هز رأسه معقبًا عليها:
, -**** يبارك فيكي، تسلمي.
, بالرغم من انزعاجها من اختيار هذا الاسم تحديدًا، نظرًا لإيحائه الدائم لذكرى خلود بمحاسنها ومساوئها، إلا أنها لم تمنع نفسها من المشاركة في التهنئة، فقالت بلهجةٍ مالت للجدية:.
,
, -مبروك ما جالك يا هيثم، **** يحفظه ليكم.
, أدار زوج شقيقتها رأسه ناحيتها، وقرأ في وجهها أمارات الضيق، وكان ذلك منطقيًا، فلكلٍ منهما أسبابه في الفرح أو الانزعاج؛ لكنه صاحب الاختيار. اكتفى برسم ابتسامة متكلفة على ثغره، ورد عليها في إيجازٍ:
, -يا رب.
,
, لاحقًا، خرجت فيروزة من الغرفة، لتطمئن الرجال الجالسين بالخارج على حال شقيقتها، تحركت صوب البهو المجتمعين فيه بالطابق، كانت عيناها تبحثان عن تميم أولاً، وحين وجدته تلألأت بشكلٍ فاضح، لذا شتت نظراتها المضيئة عنه، لتتطلع إلى بدير الذي همَّ بالنهوض من مكانه لمخاطبتها في صيغة متسائلة:
, -أخبارها إيه دلوقتي؟
, ابتسمت وهي تجاوبه:
, -الحمد**** أحسن، اتفقوا يسموا البيبي خالد.
,
, لحظة من السكوت حلت على الجميع، بدوا مصدومين كذلك من الاختيار؛ لكنهم كانوا الأسرع في التغاضي عن الأسباب المعلومة أو حتى غير المعلومة، ليقوموا بالتهنئة واحدًا تلو الآخر. أردف الجد مباركًا في النهاية:
, -على بركة ****، **** يطرح فيه الخير والبركة، ويكون نعم الذرية الصالحة.
, ردت وهي تنظر ناحيته:
, -يا رب أمين.
, بإشارةٍ من عكازه نطق بدير في لهجةٍ جمعت بين الأمر والهدوء:.
,
, -مش بينا احنا بقى، بيتهيألي أعدتنا مالهاش لازمة.
, لا إراديًا اتجهت نظراتها نحو تميم، وبدت مصدومة نوعًا ما لذهابه المتوقع، بالكاد نجحت في ضبط وتحجيم انفعالها الغريب، واعترضت عليه بعبوسٍ:
, -ده إنتو الخير والبركة، خليكوا معانا شوية.
, برر لها بدير بمنطقيةٍ:
, -عشان تاخدوا راحتكم، وأختك كمان ترتاح من الدوشة، وعشان تقدر تفوق لابنها.
,
, ظهر الحزن في عينيها، ورأه تميم صريحًا، خاصة أنها كانت لا تزال تنظر إليه بهذه الطريقة، فأصاب ملامحه التجهم، وباعد نظره عنها بصعوبةٍ وهو ينفخ مطولاً. انتبه لصوت أبيه القائل:
, -نادي بس يا بنتي على هاجر، والحاجة ونيسة من جوا.
, ردت في اقتضابٍ:
, -حاضر.
,
, استدارت عائدة من حيث أتت لتنفذ طلبه، فقام تميم بتشيعها بنظراتٍ مودعة لها، تحوي في طياتها وعدًا بلقاءٍ قريب، وإن لم تر هذا مُطلقًا! رحلت كالنسمة العابرة؛ ولكن ظلت صورة وجهها الحزين تطارده ما بقي من يومه.
,
, -متشكر ياسطا.
,
, ردد ذلك الغريب تلك العبارة لسائق سيارة الأجرة، بعد أن ترجل منها وتلقى من نافذة بابها الملاصق له بقية نقوده. استقام واقفًا، وطوى المال في راحته، ثم وضعه في الجيب الأمامي لبنطاله الجينز مراقبًا ابتعاد السيارة واختفائها عن مرمى بصره. التفت بعدها نحو الرصيف، وصعد عليه ليسير بتؤدةٍ، ثم توقف للحظاتٍ في مكانه، وبدأ يدور بعينيه على معالمه ليتأكد من وجهته الصحيحة. أخرج ورقة شبه ممزقة من جيبه الخلفي، وقرأ ما فيها قبل أن يكرمشها ويعيد دسها في مكانها مرددًا لنفسها:.
,
, -هو ده البيت؟ العنوان مكتوب فيه كده.
, جال بنظراتٍ أكثر دقة على المكان، ثم تقدم نحو المدخل مكملاً حديث نفسه
, -أما اطلع أشوفهم.
,
, استمر في صعود درجات السلم إلى أن وصل للطابق الثاني، لم يتعذر عليه البحث عن ضالته، فكل طابق يحوي بابًا واحدًا، لهذا دنا من الكتلة الخشبية، وأخذ يدق عليها بقبضته المضمومة تارة، ويقرع الجرس تارة أخرى. تراجع خطوة للخلف متوقعًا أن يقوم أحدهم بفتح الباب؛ لكن لا استجابة على الإطلاق، لذا تحرك مجددًا ناحيته، وألصق أذنه بالباب ليرهف السمع.
, كان الصمت سيد الموقف، فارتد خطوتين للخلف متسائلاً في تحيرٍ:.
,
, -مافيش حس ولا خبر، هو محدش موجود ولا إيه؟
, فرك مقدمة رأسه في حيرةٍ أكبر، ثم حسم أمره قائلاً:
, -أجرب أشوف الجيران اللي تحت.
, هبط الدرجات للأسفل، وراح يكرر ما فعله من طرق مزعج على الباب، ومع ذلك لم يجد أي استجابة، فهسهس في امتعاضٍ:
, -برضوه، إيه الحكاية؟
, تحرك ليقف عند الدرابزين، وأطل برأسه من الفرجة الخاصة به متسائلاً في وجومٍ غير فرح:
, -فين الناس اللي هنا٣ نقطة؟
 
٤٣

بخفة وتدبر، أفرغت مشروب (المُغات) الساخن، في الفناجين البيضاء المصنوعة من الفخار، لترصها بعدها بتوازنٍ في الصينية العريضة، فاليوم هو اليوم المنشود للاحتفاء بقدوم أول حفيدٍ لها، لهذا لم تدخر وسعها في إبراز سعادتها بمجيئه إلى الدنيا. استخدمت قطعة من القماش لتمسح البقايا المنسكبة على سطح الرخامة، وكذلك حول الفناجين. التفتت آمنة باحثة عمن يأتي لحمل الصينية الثقيلة عنها، وإعطاها للضيوف المتواجدين بباحة المنزل، حيث يُقام الاحتفال بمرور أسبوع على ميلاد الرضيع خالد.
,
, خرجت من المطبخ تلقي نظرة على من بالصالة، وجدت فيروزة تحمل بين ذراعيها صندوقًا كرتونيًا يحوي على أكياس الفول السوداني، ناداتها قبل أن تخرج من باب المنزل:
, -يا فيروزة!
, استدارت الأخيرة ناحيتها، وسألتها:
, -أيوه يا ماما، في حاجة؟
, هتفت بها تأمرها وهي تشير بذراعها في الهواء:
, -سيبي اللي في إيدك وتعالي شيلي المغات للناس اللي تحت.
, أخبرتها ابنتها بإشارة من رأسها:
, -طب هودي دول وأطلعلك.
,
, أصرت على تنفيذ مطلبها بقولها شبه الصارم:
, -خلي الفول بعدين، المهم المغات، الناس المفروض تشربه قبل ما يبرد.
, اعترضت على تشددها قائلة:
, -هو مش هيلحق، دي دقيقة.
, ظلت متمسكة برأيها مرددة:
, -معلش، الفول الناس بتاخده وهي ماشية.
, رضخت فيروزة أمام إلحاحها، وانحنت واضعة الصندوق بجوار الباب وهي تغمغم:
, -طيب يا ماما.
, بدأت بالسير في اتجاه المطبخ؛ لكن استوقفها صوت قرع الجرس، فالتفتت عائدة إليه وهي تقول:
, -ثواني أشوف مين.
,
, بقيت والدتها واقفة في مكانها تتابع من زاويتها البعيدة ما يحدث، في حين قامت فيروزة بفتح الباب لتجد تميم واقفًا عند أعتابه، بوجهه المبتسم، وعيناه الضاحكتان، ابتسمت تلقائيًا لرؤيته، وشعرت بالسرور يتصاعد بداخلها لحضوره، انتبهت له وهو يُلقي عليها التحية، وكامل نظراته عليها:
, -مساء الفل.
, استقامت في وقفتها، وسوت بيدها مقدمة **** رأسها الأزرق، قبل أن ترد في رقةٍ:
, -مساء النور عليك.
,
, ما أحلاها حين يتبدل على جسدها الأقمشة المزركشة، فتبدو كالطاووس الذي يتباهى بألوان ريشه الجاذبة للأنظار، بالكاد أبعد عينيه الهائمتين عنها، ليلمح من مكانه والدتها وهي ترمقه بنظراتٍ متربصة، تنحنح مرحبًا بها وهو يرفع يده إلى جبينه:
, -مبروك يا حماتي، يتربى في عزكم.
, دنت منه لتبادله الترحاب الودود:
, -**** يبارك فيك يا معلم، عقبال نهار فرحتنا بعوضك إنت و فيروزة.
,
, برقت عينا الأخيرة في استنكارٍ لدعوتها الصريحة، وانسحبت مغادرة المكان وهي شبه تركض، لا تعرف إن كان من عبارتها المحرجة، أم لرغبتها الغريبة في حدوث مثل تلك الأمنية، أن يجتمعا معًا، وتغدو العلاقة بينهما في مسارها الطبيعي. سمعت صوته يردد في رجاءٍ:
, -إن شاء****، دعواتك يا حماتي.
,
, انتظرت لما يقرب من الدقيقة بداخل المطبخ، متوقعة انصراف تميم، ثم حملت بحذرٍ تام الصينية المتخمة بالفناجين، مشت على مهلٍ حتى أوشكت على الوصول إلى باب المنزل، عندئذ انتبهت لوجود تميم الذي استطرد عارضًا عليها دون تأخير:
, -عنك يا أبلة، دي تقيلة عليكي.
, سيطرت على انتفاضة مصدومة لبقائه، وهتفت معترضة:
, -لأ، أنا تمام، عارفة أتعامل.
, تمسك بطلبه، وأصر عليها بلطافةٍ تجعل الرأس العنيد يلين:.
,
, -عشان ماتدلقش منك، هتكسفيني؟
, نظراته الساهمة التي تحتويها، وقسماته الناطقة بشيءٍ تحب دومًا رؤيته على وجهه، جعلاها تتراجع عن عنادها، ابتسمت قائلة وهي تناوله إياها:
, -طالما إنت مُصر، اتفضل.
, أخذها بحرصٍ من يديها، لتشعر بإزاحة هذا الثقل المزعج عنها، انتصبت بكتفيها، وهمهمت بصوتٍ شبه خافت:
, -أوف، كانت تقيلة.
, على ما يبدو التقطت أذناه شكواها العفوية، فعلق في عذوبةٍ:
, -التقيل يخف عشانك.
,
, لم تخفِ ابتسامتها المرحة، ونظرت إليه بطريقة جعلت قلبه يخفق في بهجةٍ، من كان يظن أن تتألف الأرواح في نهاية المطاف! انتظر تميم تحركها قبله؛ لكنه تفاجأ بها تنحني لتحمل الصندوق الكرتوني، اعترض على ما تفعله هاتفًا:
, -لازمتها إيه تشيلي الكرتونة، شوفي إنتي محتاجة إيه تنقليه، وأنا موجود عشانك.
,
, تلك الكلمات البسيطة المباشرة، وغير المصطنعة، دومًا تزيد من شعورها بالأمان في وجوده، لم تكن مجرد أقاويل تُردد لملء أذنها بالفارغ من الكلام، لحجب الحقيقة عنها. كان كما تراه، داخله كخارجه، نقيًا، مليئًا بسماتٍ قلما تجدها في الرجال! أحاطت فيروزة الصندوق بذراعيها، وألصقته بصدرها، ثم أخبرته عن عزيمة أظهرتها له:
, -بسيطة يا معلم، وبعدين أنا سيباك للتقيل.
, أشار بعينيه نحو الصينية التي يحملها مُعلقًا بطرافةٍ:.
,
, -ما هو واضح، اختبار قدرات.
, لم تعد تخجل من الضحك في حضرته، بل أدركت أنها عرفت كيف تضحك معه، وكيف يكون للابتسام معنًا حقيقيًا بمشاركته الحديث غير المتكلف.
,
, تلك المرة جاء سائرًا، لم يملك من المال الكافي ما يخوله لاستئجار عربة خاصة لإيصاله إلى وجهته دون مشقة، بالكاد استعان بما معه من مدخرات، لركوب المواصلات العامة حتى يصل لبيته. في مرته السابقة ذهب مثلما أتى خالي الوفاض، لهذا اضطر أن ينتظر لبضعة أيامٍ لئلا يعود فارغ اليدين. رأى في مرمى بصره أحد الأكشاك عند الناصية، اتجه إليه على الفور، توقف بالقرب من مالكه، وناداه في لهجةٍ شبه جافة:
, -بقولك يا أخ٣ نقطة
,
, انتبه له صاحب الكشك، فتابع مشيرًا لواحدٍ من المباني القصيرة:
, -مش ده بيت خليل العربي؟
, نظر الرجل إلى حيث أشار، وأكد بإيماءة من رأسه:
, -أه اللي هناك ده.
, لوح هذا الغريب بيده قائلاً بملامحٍ مالت للتجهم الشديد:
, -طب متشكر.
, تقدم في سيره نحو البيت، وعيناه تفحصان المكان بتدقيقٍ، رأى الصخب المحاوط بالبناية، والإنارة المعلقة على الجدران، امتلأ قلبه بالحقد، وراح يدمدم مع نفسه في غضبٍ متزايد:.
,
, -واضح إن عندهم زيطة وزمبليطة، أه طبعًا، هو هيفرق معاه حاجة، ماهو عايش ملك زمانه.
, واصل تحركه مكملاً بنفس النبرة المغلولة، والشرر ينطلق من حدقتيه:
, -أنا جاي عشان أخد حقي منه، مش هاسيبه يعيش في الميغة دي لوحده!
,
, هبوط درجات السلم معًا كان ممتعًا، فقد أصبح وسيلتهما المتاحة للدردشة اللطيفة المحملة بالعتاب الرقيق. ترك تميم خطيبته تنزل أولاً، وتبعها في خطواتٍ متمهلة حذرة، حين وجدها تقتضب في الرد عليه، تجاذب أطراف الحديث من جديد معها، فاستطرد قائلاً بابتسامةٍ عريضة:
, -أنا رنيت عليكي إمبارح قبل ما أنام.
, نظرت إليه فيروزة نظرة سريعة محملة بقدرٍ من الغيظ، قبل أن تخبره في تحفزٍ:.
,
, -أه شوفت مكالمتك الصبح، أصلي كنت نمت.
, عقب عليها بتفهمٍ:
, -ما أنا قولت كده برضوه، نوم العوافي عليكي.
, استفزها رده البارد، فأخذت تهاجمه دون أن ترتفع نبرتها، وعيناها تشتعلان غيظًا:
, -وبعدين في حد يكلم خطيبته متأخر أوي كده؟ مش في أصول؟
, صمت لهنيهة قبل أن يتكلم في تهذيبٍ:
, -معاكي حق.
, استمرت في تعنيفه بتحيزٍ:
, -بتتصل قبل الفجر، وأنا بصحى من بدري، ما ينفعش أفضل سهرانة كل ده!
,
, تغاضى عن كل ما قالته أمام جملتها الأخيرة، وكأنه منحته شعورًا عظيمًا بالرضا، ابتسم ببلاهةٍ وهو يسألها:
, -هو إنتي كنتي مستنياني؟
, تداركت زلة لسانها، وتصنعت العبوس وهي ترد:
, -وإن يكن، ده مش موضوعنا.
, اعتذر منها بتنهيدة عاشقة:
, -حقك عليا، غصب عني و****، كان عندنا توريد في الميناء، وكان لازمًا نخلصه قبل ما المركب تطلع، أنا مايهونش عليا زعلك.
, ترفعت عن النظر إليه، وقالت موجزة:
, -ماشي.
,
, اقتضاب ردودها خير دليل على انزعاجها، لم يكن ليتركها تحمل ضغينة ناحيته، خاصة بعد أن تطورت العلاقة بينهما بشكلٍ إيجابي وفعال. استمر في اعتذاره قائلاً:
, -خلاص بقى ماتشليش مني، ده شغل، و**** ما كنت بلعب.
, هزت كتفيها قائلة بقليلٍ من التجهم:
, -عادي.
, ألح عليها قائلاً وهو يسبل عينيه:
, -طب عشان خاطري.
, نظرت إليه بعينين ضيقتين، فتابع ضغطه الرقيق للقبول باعتذاره في التقصير معها:
, -طب عشان خاطر جدي؟
,
, زمت شفتيها للحظةٍ، وقالت بابتسامةٍ مغرية:
, -عشانه بس.
, تصنع الغيرة، وهتف بتذمرٍ:
, -وربنا هو محظوظ بيكي أكتر مني.
, كبتت ضحكة شقية أرادت الظهور، ورسمت الجدية على ملامحها وهي تخبره في لهجة حازمة:
, -طب يالا عشان نفرق المغات على الناس.
, استمر في مشاكستها فأردف قائلاً بكلماتٍ موحية:
, -ممكن تحوشيلي كيس فول، أصل غاوي سوداني، وخصوصًا لما يكون من إيديكي.
, هزت رأسها نافية، وأغاظته عن عمدٍ بتصريحها:
, -لأ، هدي نصيبك لجدي.
,
, ضحك من خلفها، وقال وهو يتخذ حذره في خطواته الأخيرة من الدرج:
, -مش بقولك محظوظ، **** يزيده.
,
, بعيدًا عن الحشد المجتمع، وقفت هاجر بجانب زوجها تتابع مكالمته الهاتفية مع أحد الأشخاص، ظلت صامتة إلى أن أنهى الاتصال، فراح يخبرها بفحوى المكالمة، لما لها من صلةٍ بابتياع الناقص من لوازم توضيب منزل الزوجية. كررت عليه سؤالها بحاجبين معقودين؛ كأنما تشكك في احتمالية حدوث ذلك:
, -إنت متأكد إن المنجد هايجيب المراتب القطن بكرة؟ ولا هيغير كلامه زي المرة اللي فاتت؟
, أجابها بإيماءة مؤكدة من رأسه:.
,
, -أيوه، لسه قافل معاه، وهاروح الشقة استناه قبل الميعاد.
, مطت شفتيها للحظةٍ قبل أن تعقب في غير اقتناعٍ:
, -خير إن شاء****.
, قبل أن ينتقلا للحديث عن أمرٍ آخر، قاطع حوارهما ذلك الغريب ذي الملامح المكفهرة، استطرد الأخير هاتفًا بوجهٍ منقلب:
, -سلام عليكم.
, تفرس سراج في تعابيره، ورد التحية في تحفزٍ:
, -وعليكم السلام.
,
, بينما رمقته هاجر بنظرة شملته من رأسه لأخمص قدميه، انتابها هاجس غريزي بأن وراء ذلك الرجل المتجهم خطبٌ ما، تركت لزوجها مهمة التواصل معه، واستمعت للرجل وهو يتساءل مستفهمًا:
, -بقولك يا أخ، هو فين الأستاذ خليل العربي؟
, تحولت أنظار سراج ناحية إحدى الزوايا، وأشار بيده كذلك وهو يجاوبه:
, -هناك، اللي قاعد على الكرسي ده.
, أمعن الغريب النظر إليه وقد اشرأب بعنقه، ما إن تأكد من ملامحه حتى قال بغير ابتسام:.
,
, -تمام، شوفته، متشكر.
, رد عليه سراج في اقتضابٍ لا يخلو من حيرةٍ:
, -العفو.
, شيعته هاجر بنظراتٍ متفرسة متحيرة، وتساءلت بعد انصرافه:
, -مين ده؟
, أجاب زوجها بنوعٍ من التخمين:
, -مش عارف، بس جايز يكون حد قريبه.
, لم تقف كثيرًا عند تلك المسألة، وقالت وهي تنقل رضيعها من كتفها الأيمن للأيسر:
, -احتمال.
, مد ذراعيه ليحمله عنها قائلاً بحنو أبوي:
, -هاتيه، إنتي شلتيه كتير.
, لم تجادله، وأعطته له قائلة بتبرمٍ:
, -مش مريح نفسه.
,
, احتضن سراج الرضيع، وأخذ يداعبه بإصبعه، والصغير يستجيب لملاطفاته بغمغمة غير مفهومة، تطلع بعدها إلى زوجته وهو يقول في فرحةٍ:
, -سبيه براحته، **** يباركلنا فيه.
,
, اخترق الغريب الصفوف المتراصة بعشوائية، وتركيزه بالكامل منصب على خليل، لم يحد بنظراته النارية عنه، بدا وكأنه يحمل في صدره ناحيته كرهًا كبيرًا، تعابيره عبرت عن القليل من هذا البغض. وقف أمامه بشحمه ولحمه، وشرع يحدجه بنظرات قاسية شرسة، في البداية لم يكن خليل منتبهًا له؛ لكن حين حط ذلك الظل الطويل على رأسه، أدار وجهه إليه ليتطلع في صدمةٍ إلى آخر من توقع رؤيته بعد كل تلك الأشهر. هتف الأول قائلاً بنبرة مالت للتهكم عن التوضيح:.
,
, -أبو نسب!
, برزت اللعثمة أكثر في صوت خليل وهو يردد مذهولاً:
, - ح، حُسني؟!
, هدر الرجل بنبرة أقرب للصياح مستخدمًا كفيه في التلويح:
, -إيه يا عم، خلاص مصدقت سوحتني برا، عشان تطنشني وتقطع الجوابات، إيش حال ما أنا أخو مراتك اللي اتخدت غدر..
,
, جف حلق خليل، وظل يُطالعه بنفس النظرات المصدومة؛ كأنما حلت مصيبة قاسمة للأظهر على رأسه بظهوره علنًا أمام عائلته التي تجهله كليًا، انقبض قلبه بتوجسٍ شديد، وشحب لون وجهه المنهك و حُسني يسأله بصوتٍ مليء بالاتهام:
, -فين حق أختي سماح٣ نقطة؟
 
٤٤

بحركةٍ شبه فاقدة للتركيز، حاولت غلق أزرار كنزتها، بعد أن انتهت من إرضاع وليدها الذي بدا هشًا للغاية وهي تحمله بذراعها. ضمته همسة بالذراع الآخر إلى صدرها، ثم رفعته بحذرٍ على كتفها، وأخذت تربت على ظهره برفقٍ حتى يتجشأ، وتفرغ ما امتلأت به معدته من الهواء. اتجهت عيناها نحو الباب حين سمعت الطرقات عليه، وهتفت في نبرة لم تكن عالية نسبيًا:
, -اتفضل.
,
, أطل زوجها برأسه بعد أن فتحه، فابتسمت لرؤيته، ولج إلى الداخل، وأغلق الباب من خلفه، ليسألها في اهتمامٍ:
, -رضعتيه يا حبيبتي؟
, أومأت برأسها وهي ترد، ويدها ما تزال تمسح على صدر الرضيع:
, -أيوه يا هيثم.
, ثم ما لبث أن ابتسمت وهي تكمل:
, -السُرة الحمد**** وقعت.
, قال في رضا وهو يجلس على طرف الفراش إلى جوارها:
, -طب خير، **** يباركلنا فيه.
, ردت بعد تنهيدة بطيئة:
, -يا رب.
,
, راحت تداعب الرضيع في حنوٍ للحظاتٍ، حتى استكان، وغفا على كتفها، أخفضته بين ذراعيها، وتطلعت إلى زوجها الذي كان مأخوذًا به، ظهر التردد على محياها وهي تخاطبه:
, -بقولك آ..
, انتبه لها متسائلاً:
, -إيه يا هموس؟
, لعقت شفتيها، وتابعت بنفس النبرة المفعمة بالارتباك والندم:
, -تفتكر فيروزة هتزعل مني، لو عرفت إني اللي أصريت على اختيار اسم ابننا مش إنت؟!
, بدا غير مهتمٍ بمسألة علمها من عدمه، وقال في جديةٍ:.
,
, -مش لازم نقولها كل حاجة، ده شيء يخصنا احنا وبس، كفاية إنها تفرح لابننا، وتتمناله الخير، مش عايزين منها أكتر من كده.
, اعترفت له بما يضيق في صدرها:
, -أنا مش متعودة أبقى كده، حاسة نفسي وحشة أوي وأنا بخبي عليها.
, كان هيثم هادئ الملامح وهو يخبرها بوجهة نظره المنطقية:.
,
, -يا همسة لازم تفهمي إن احنا دلوقتي بقالنا حياتنا الخاصة، ماينفعش نحشر فيها حد لمجرد إننا عاوزين نرضيه، ولا يحس إنه مهم عندنا، ده اتفاق بيني وبينك، اتناقشنا، وقررنا، وخلاص..
, نظرت إليه بغير كلامٍ، فأكمل على نفس الشاكلة:
, -وبعدين في الأول ولا في الآخر ده ابني، وهيشيل اسمي، ولو مكانش عاجبني مكونتش وافقتك عليه.
, ردت بنبرةٍ مالت للحزن، وقد نكست رأسها للأسفل قليلاً:.
,
, -أكيد و**** كل نيتي خير، يعني اعتبرته زي تكريم لأختك **** يرحمها.
, هتف في غير مبالاة وهو يمد يده نحو ذقنها ليرفع وجهها إليه:
, -مش الكل عِرف إن ده اختياري، ماتشليش هم بقى.
, شعرت بالرضا عن التوافق الحادث بينهما في كل أمر يخوضاه معًا، وابتسمت قائلة في ارتياح:
, -**** يخليك ليا.
, نهض من مكانه على مهلٍ وهو يكرر عليها مجددًا:
, -سيبك من الكلام ده، ماتوجعيش دماغك بيه.
, هزت رأسها بالإيجاب قائلة:
, -طيب.
,
, أشار بيده نحو الباب متابعًا:
, -المفروض ننزل نشوف الناس اللي مستنيانا تحت.
, ضبطت همسة من ثيابها المتهدلة قليلاً وهي تقول:
, -أنا خلصت خلاص، هبص على نفسي في المراية بصة أخيرة وخلاص.
, أحنى جسده عليها ليحمل رضيعه عنها وهو يداعبه في محبة أبوية تزداد يومًا بعد يوم:
, -تعالى يا حبيبي في حضن أبوك.
,
, بدا وكأن ماضيه التعس يطارده بعد أن ظن أن السكينة قد حلت عليه، استمر خليل في التحديق لوجه صهره بنظراتٍ جمعت بين الخوف من الفضيحة، والرهبة من كشف ما كان يرتكبه خلسة لكسب أموالٍ غير شرعية. شحب لون بشرته أكثر مع استمراره في تهديده الضمني:
, -خلاص حُسني رجعلك، ومش هايسيب حقه، أنا ماتكلش أونطة!
, ازدرد ريقه، وحاول الكلام؛ لكن حُسني واصل على نفس المنوال الغاضب:
, -وبقولهالك من تاني، أنا يا فيها لا أخفيها.
,
, تلعثم وهو يجاهد لصد تهديداته:
, -أن، ا، مكون، تش آ٣ نقطة
, سئم صهره من لجلجته المستفزة، وهدر به بوقاحةٍ فجة:
, -متعمليش فيها بتموت، والروح بتطلع، وإنت جن مصور!
, صوته المرتفع جذب الأنظار إليهما، واستمرار حُسني على نفس الوتيرة الحانقة جعل الفضول يشيع بين المتواجدين لمعرفة تفاصيل الخلاف العميق بينهما. بمجرد أن لاحظ تميم توتر الأجواء، ترك ما في يده، ودنا من هذا الغريب يسأله في لهجةٍ غير متساهلة:.
,
, -إنت مين يا جدع إنت؟
, رمقه بنظرة احتقارية، ونعته بما بدا أقرب للسُبة:
, -طرأنا، مايخصكش.
, ما أسهل استثارة أعصابه بتلك الطريقة! اخشوشنت نبرة تميم وهو يرد بغضبٍ متصاعد في صدره، ويده تسبقه في جذبه من ياقته:
, -ما تتكلم بأدب.
, ضرب حُسني ذراعه ليتحرر من قبضته وهو يهتف في حقدٍ:
, -إيدك يا شبح!
, جاءت فيروزة هي الأخرى على إثر الأصوات المحتدمة، وتساءلت في قلقٍ، ونظراتها تجول على كافة الوجوه المشحونة بالحنق والغضب:.
,
, -في إيه يا جماعة؟
, لم يحبذ حُسني تدخل الآخرين في شئونه، فحدجها بنظرة ازدرائية قبل أن يزجرها قائلاً وهو يشير بكفه نحو خليل:
, -محدش ليه فيه، احنا نسايب في قلب، وبنصفي الحساب اللي بينا.
, رددت في ذهولٍ لا يخلو من الصدمة:
, -نسايب!
, استغرقها الأمر بضعة لحظات لتجد الصلة التي تجمع بين الاثنين، حملقت فيه بنظراتٍ قوية، بينما تلفت حُسني حوله كأنما يفتش عن أحدهم قبل أن يتساءل بصوتٍ جعله أجشًا:
, -وفين البت رقية؟
,
, ثم نادى عاليًا ليزيد من جذب الانتباه إليه وهو يتجول في الأرجاء:
, -بت يا رقية، إنتي فين يا بت؟ تعالي لخالك!
, أتت الصغيرة على صوته المألوف بعد تكرار ندائه، وفزعت عند رؤيته، تجمدت لوهلةٍ في مكانها، مستعيدة في ذهنها تقريعه البدني المؤذي لها حينما كانت تخطئ في أمر بسيط، التصقت لا إراديًا بساق ابنة عمتها، وشفتاها تتحركان لتنطق برعشة ظاهرة عليها:
, -خالو.
, وقعت أنظاره عليها، فأشار لها بيده لتقترب منه وهو يأمرها:.
,
, -تعالي يا بت.
, أخفت وجهها عنه، وتشبثت بساق فيروزة، فلفت كلتا ذراعيها حولها، كأنما تستنجد بها دون أن تنطق. اغتاظ خالها من عدم تجاوبها مع أمره، وهمَّ بالانقضاض عليها لجذبها عنوة؛ لكن اعترض تميم طريقه بجسده ليقضي على أي فرصة للاقتراب من إحداهما، وهدر بها في تشنجٍ:
, -مكانك، هي سايبة؟!
, نظر له شزرًا قبل أن يعلق في لهجةٍ متهكمة تدعو لشحذ قوى الغضب ضده:.
,
, -قول للقُطة دي تركن على جنب، وتسيب البت، بدل ما تجيب لنفسها التهزيق!
, لم يتحمل تميم سماع مثل تلك الإهانات اللاذعة الموجهة لنصفه الآخر، لم يشعر بنفسه وهو يندفع لا إراديًا نحوه لينقض عليه، جاذبًا إياه بقبضتيه من ياقته في قساوةٍ متضاعفة وهو يهتف به بعنفٍ:
, -إنت اتجننت؟
, حدق فيه حُسني مشدوهًا من حركته المباغتة، بينما تابع تميم تهديده الصارخ له وهو مستمرٌ في جذبه من عنقه:
, -إياك تغلط فيها لشقك.
,
, خشيت فيروزة من تصاعد الأمور، وتطورها للأسوأ، فاندفعت تناديه في خوفٍ غير مصطنع:
, - تميم!
,
, رغم الخفقة التي عصفت بقلبه لسماعه اسمه مجردا من على شفتيها، إلا أنه ظل ثابتا على وضعه العنيف المهدد بإحراق الأرض ومن عليها، تابع دفعه بعيدًا عن الأعين المراقبة لهذا الشجار الوشيك، حتى وصل به إلى بقعة غير مزدحمة، وتبعتهما فيروزة، والصغيرة، وأبيها؛ لكنها توقفت عند مسافة آمنة، لتنأى بابنة خالها من أي خطرٍ في حال تعقد الأمور.
,
, رأت آمنة ما يحدث من على بعدٍ، وقلبها يدق في توجسٍ، حاولت إلهاء الموجودين عن الشغب الدائر في محيط باحة المنزل، وطلبت من مشغل الموسيقى رفع الصوت للتغطية على بوادر الشجار الملحوظ، وما إن تأكدت من ابتعاد تميم ومن معه عن أعين الضيوف حتى هرولت في اتجاهه، وهي تتساءل بجزعٍ، وعيناها مسلطتان على الغريب:
, -صلوا على النبي يا جماعة، في إيه بس؟
,
, كأنه لم يسمع شيئًا منها، ظلت يداه قابضتان على حُسني وهو يحذره بلهجةٍ غير متسامحة:
, -كلامك معايا أنا، ولم لسانك بدل ما أطربأها على دماغك.
, رد الأخير هازئًا منه:
, -لأ كده خوفت.
, أطبق تميم بقبضته على ياقته أكثر، واستخدم ساعده في وضعه على عنق ذلك المستفز، قاصدًا الضغط على مجرى تنفسه وهو يهدده من بين أسنانه:
, -إنت عاوز تعمل نمرة على الكل؟ هات آخر الحوار.
,
, جاوبه دون مراوغة بنبرة غير مريحة، وهو ينظر في اتجاه الصغيرة:
, -عاوز بنت أختي.
, هنا تضاعفت رجفة رقية، وبدأت في البكاء خوفًا منه وهي تتوسلها:
, -مش عاوزة أروح معاه.
, ارتابت فيروزة من رهبتها منه، وامتلأ رأسها بالشكوك والهواجس، ومع هذا طمأنتها بقولها:
, -متخافيش يا حبيبتي، إنتي هتفضلي معايا
, أتاه تعليق تميم حاسمًا للأمر، وقد أخفض ذراعه الآخر نحو ياقته ليمسك به جيدًا؛ لئلا يفلت منه:
, -مافيش بنات، حِس أبوها في الدنيا.
,
, قال في سخريةٍ فجة، ونظراته تتحول ناحية خليل:
, -أبوها، الوقيع ده؟
, هزه تميم في عنفٍ وهو يخبره بنفس اللهجة المليئة بالتهديد:
, -الوقيع ده أنا ممكن أجيبك تحت رجله في ثانية، تستسمحه يرحمك من اللي هيتعمل فيك مني.
, حاول حُسني الضحك للاستخفاف به؛ لكن خرجت ضحكاته متقطعة، ثم استطرد قائلاً بعدها بطريقته المتهكمة:
, -إيه يا عم الشبحنة دي كلها؟ ماتخشش بصدرك أوي كده.
,
, لم يعد بمقدوره ضبط أعصابه أكثر من ذلك أمام استفزازه الناري الحاقد، لذا مد تميم قدمه ليعرقله من ساقه، ثم طرحه أرضًا على ظهره، وكور قبضته استعدادًا للكمه بشراسةٍ، أوشك بالفعل على تلقينه درسًا قاسيًا، لولا أن جاء والده، وتدخل في اللحظة الأخيرة ليأمره بلهجةٍ لا تُرد:
, - تميم، لم الليلة، مش وقته!
, اعترض عليه وهو لا يزال جاثيًا فوقه:
, -يا حاج ده جاي يقل من الموجودين، مش عامل اعتبار لحد.
,
, أتاه رده حازمًا وحاسمًا:
, -حاسبه بعدين، مش قصاد الغُرب.
, لم يرد أمره، ونهض عنه قائلاً في طاعةٍ:
, -ماشي الكلام يابا.
, لكنه لم يترك هذا المقيت في مكانه، بل جذبه بغيظٍ من رقدته المهينة، ثم دفعه دفعًا نحو الخارج ليطرده وهو يقول في نبرة حمئة:
, -يالا من هنا.
, نفض حُسني ذراعه عنه، وهتف به في غلٍ:
, -ماتزوءش!
, هدده تميم مجددًا وهو مستمرٌ في إبعاده عن المكان:
, -أخرج بأدبك بدل ما أسحلك.
, رفع الأخير سبابته مهددًا بغير خوفٍ:.
,
, -ماشي، أنا طالع المرادي يا فتوة المنطقة، بس حقي مش هاسيبه، وهاخده بالقانون.
, بقيت أنظار تميم عليه وهو يدمدم بكلماته الغاضبة المتوعدة أثناء خروجه من باحة البيت، ظل واقفًا في مكانه حتى تأكد من ذهابه نهائيًا، حينئذ استدار عائدًا إلى حيث تقف فيروزة مع أبيه، وخالها، والصغيرة رقية، وأيضًا والدتها. سمع الأخيرة تردد بما يشبه الولولة وهي تلطم على صدغيها برفقٍ:.
,
, -يادي الفضايح، احنا كنا ناقصين، الناس هتقول إيه دلوقتي؟
, رد عليها بدير بصوتٍ هادئ:
, -محصلش حاجة، اهدي يا حاجة.
, وجهت آمنة كلامها إلى شقيقها تسأله بنبرة لائمة:
, -مين ده يا خليل؟
, نظر إليها نظرة العاجز الخائف من افتضاح أمره، لم تملك من الصبر أدنى ذرة، لهذا كررت سؤالها عليه بإلحاحٍ حانق:
, -إنت ما بتردش ليه؟ ده مين؟
,
, أحس بالوهن يسري في جسده، فلم يعد قادرًا على تحريك مقعده، دارت عيناه اللاتين غلفهما سحابة من الضباب على من حوله متسائلاً في ضعفٍ:
, -ف، ين رق، ية؟
, أظهرتها فيروزة له بعد أن كانت تختبئ خلفها وهي تخبره:
, -معايا يا خالي.
, أشار ناحيتها قائلاً بصوتٍ مختنق:
, -هاتيها.
,
, اندهشت فيروزة من الحالة الغريبة التي سادت على ملامحه، وانعكست على أطرافه، تركت الصغيرة تركض ناحيته، لتجلس في حجره، فضمها إليه بكل قوته؛ كأنما يخشى فقدانها، شتت نظراتها الحائرة عنهما لتتطلع إلى والدتها التي استمرت في نواحها:
, -شايفة العكننة؟
, أطلقت زفرة سريعة، وقالت بوجومٍ:
, -خلاص يا ماما، محصلش حاجة.
, ظلت تشكو في تحسرٍ:
, -الناس تقول علينا إيه دلوقتي؟ الموضوع مش هيعدي كده على خير من غير ما الناس تتكلم.
,
, تلقائيًا تحركت أنظار فيروزة مع تميم الذي انفرد بوالده بعيدًا عنهم، ثم انتبهت لوالدتها، وعلقت بجديةٍ:
, -وارد يحصل في أي بيت مشاكل، ده العادي، محدش ضامن الظروف.
, في تلك اللحظة انضمت همسة إليهما، والفضول مستبدٌ بها، دارت بعينيها في الأرجاء وهي تتساءل
, -في إيه يا جماعة؟ الجو مكهرب ليه؟
, ردت عليه فيروزة باقتضابٍ عابس:
, -بعدين يا همسة.
,
, لم تجادلها توأمتها كثيرًا، وانسحبت في خفةٍ لتعود إلى زوجها ورضيعها، بينما انشغلت فيروزة بالنظر إلى تميم، أصبحت لا ترى سواه في تلك اللحظة، ثبتت نظراتها عليه، وراحت تفكر فيه بشكلٍ كبير، تبدلت الكثير من الأمور عنه، بعد أن شاهدت بأم عينيها استبساله في الزود عن الضعيف باستماتة، لامت نفسها لأنها كانت تظن في وقت من الأوقات أنه يفعل ذلك لاسترضائها، واستثارة إعجابها؛ لكن على العكس كان مقدامًا مع من يحتاج إلى دعمه بلا شروط، وقتئذ أدركت أنها كانت حمقاء لعدم اكتشافها مبكرًا هذا الجانب الرجولي الشهم منه، امتلأت نظراتها نحوه بالاعتزاز والزهو، وأخذت تخاطب نفسها في عتابٍ تشوبه ابتسامة صغيرة ساخرة:.
,
, -ليه حق يضايق مني عشان غباوتي٣ نقطة!
 
٤٥

بين طرفة عينٍ وانتباهتها كان قد اختفى عن أنظارها كالسراب، أقل من دقيقة التهت فيها عن التطلع إليه لتخاطب توأمتها التي استبد بها فضولها لتستعلم عن سبب بوادر الشجار المريب، التفتت بعدها لتنظر إلى رمز المروءة فلم تجده، أصابتها تعاسة غريبة، وشعرت بانقباضة مزعجة تعصف بقلبها. تحركت فيروزة من مكانها ودارت حول باحة المنزل الخلفية لتفتش عنه بين المتواجدين؛ لكنه كان غير موجودٍ، حاولت البحث عنه وسط عائلته، فلم تجد سوى والدته وشقيقته وزوجها، أما هو وأبيه وجده فلم يكونوا حاضرين.
,
, نالت منها الحيرة، وتوقفت في مكانها، والضيق يكسو وجهها، كتفت ذراعيها أمام صدرها، ورددت مع نفسها في استياءٍ متعاظم:
, -للدرجادي ماليش اعتبار عندك؟ تمشي من غير ما تقولي إنك ماشي!
, دنت منها آمنة تناديها، فلم تنتبه لها، كررت عليها النداء بتذمرٍ:
, -مش سمعاني يا فيروزة؟ عمالة أنادي عليكي من بدري.
, استدارت ناحيتها لترد بعصبيةٍ ملحوظة عليها:
, -أيوه يا ماما، في إيه؟
,
, أشارت لها بيدها نحو بعض الجالسين عند الأركان وهي تأمرها بنوعٍ من التوجيه:
, -شوفي مين ماخدش أكياس الفول وفرقي عليه، خلينا نلهي الناس في الأكل، بدل ما يركزوا في البهدلة اللي حصلت من شوية.
, قطبت جبينها مغمغمة في خفوت بائس من محدودية تفكيرها الحالي:
, -ده اللي همك.
, لم تفهم والدتها ما الذي تقوله، فتساءلت، وعيناها تتجولان على الضيوف:
, -بتقولي إيه؟
, هتفت في غير صبرٍ:
, -حاضر يا ماما، حاضر.
,
, ثم غادرت بعدها في خطوات عصبية لتنفذ طلبها، و آمنة من ورائها تتطلع إليها بدهشة وهي تتساءل:
, -مالها دي كمان؟!
,
, انقضى ما تبقى من اليوم على خير بالنسبة للجميع فيما عدا هو، كان وحده مثقلاً بالهموم والضيق. انزوى خليل بغرفته، مصطحبًا معه طفلته الصغيرة، أصر على مبيتها معه بالرغم من اعتياد الأخيرة على النوم مع عمتها أو ابنتها. بقي ماكثًا على مقعده المدولب، شاعرًا بعدم قدرته على السير أو تحريك أي طرفٍ من جسده كما كان يفعل قبل سابق؛ وكأن العجز قد تمكن من أوصاله. تأملها بنظراتٍ حزينة لا تعكس معها سوى الخوف، تساءل صوت ما في عقله:.
,
, -هتعمل إيه يا خليل؟ حُسني مش هيسكت، ده جاي وناوي على الشر.
,
, عاد بذاكرته إلى الوراء، حيث كان يمتهن وظيفة تسفير الشباب إلى الخارج، عن طريق اللعب بأحلامهم، وإيقاعهم في فخ الثراء السريع بمجرد أن يطأوا البلدان العربية المتخمة بالثروات التي لا تعد ولا تحصى، آنذاك رأى سماح مع شقيقها حُسني، شريكه في تصدير الوهم. لفتت أنظاره، وانشغل عقله بها، قاوم التفكير فيها؛ لكنها سلبت لبه، وازدادت الرغبة بداخله في الزواج بها، بالطبع لصغر سنها، ولقدرتها على تعويضه عما يفتقده في علاقته مع زوجته حمدية.
,
, بالنسبة له بدت صفقة مناسبة أن يتزوجها في مقابل منح شقيقها فرصة وهمية للسفر إلى الخارج، معتقدًا أن حيله وألاعيبه ستنطلي عليه مثل الآخرين؛ لكن الأخير كان أكثر ذكاءً عن البقية لم يرتضِ بالأمر، وقيده بشروطٍ مادية أثقلت كاهليه ليوافق على تزويجها له، واضطر أن يرضخ لطلباته للظفر بحياة هانئة مع فتاة لطيفة تُجيد دب مباهج الحياة في روحه التعسة. سارت الأمور على ما يرام لبعض الوقت، وبدأ يدفع له بانتظامٍ كلما سنحت له الفرصة لتسفير أحدهم للخارج؛ لكن مع التدقيق الأمني، والحملات المكثفة للقبض على وكلاء مكاتب السفر الوهمية، أنهى خليل عمله في هذه المهنة الخطيرة، واقتصر على بعض المعاملات الحسابية غير المضرة للحصول على مالٍ إضافي، وحين فقد حُسني عمله الآخر، بات مزعجًا له، يُطالبه إما بسداد باقي المستحقات التي لم تُدفع بعد، أو بفضح أمره بين أفراد عائلته، خاصة أن يملك من الأوراق القانونية ما يُدينه بشدة.
,
, حيئنذ ظهر آسر على الساحة، وكان كطوق النجاة له، وسيلته الفعالة للخروج من المأزق الذي وقع فيه، فاستغل معارفه، وصلاته الجيدة في الحصول على تأشيرة للسفر لأحدهم، وأعطاها له مقابل تزويج فيروزة به، لم يمانع خليل مُطلقًا التضحية بغيره للنجاة ببدنه، اعتبر أنها صفقة رابحة للجميع، وبالفعل حصل على أوراق السفر، وساوم حُسني على أن يعطيه باقي الإيصالات وما يُدينه في مقابل منحه تأشيرة السفر المضمونة لإحدى الدول العربية.
,
, ولمعاشرة حُسني الجيدة ل خليل، شعر أن بالأمر خدعة ما، لهذا وافق على إعطائه نصف الأوراق والإيصالات، وتأجيل البقية لحين استقراره في العمل؛ لكن ما لم يعلمه كلاهما أن التأشيرة لا تضمن فرصة الحصول على عملٍ جيد، مجرد وسيلة مضمونة لدخول البلاد، فاعتقد خليل بمغادرة صهره أن الكابوس قد انتهي، هو لن يعود مطلقًا، سيتدبر أمره، ويعمل بأي مهنة كبديلٍ عن العودة فارغ اليدين.
,
, لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وحدث ما لم يكن في الحسبان، عاد شريكه في بيع الوهم، وبعد مجيئه، لن تكون الأمور كسابق عهدها! حتمًا سيطالب بالدين، ويهدده بفضح أمره أمام الغرباء قبل الأقرباء إن لم يدفع ما يخرسه للأبد.
, أفاق من شروده على نفس الصوت النادم المردد في رأسه:
, -هتصرف إزاي؟ بعد ما خلاص بقيت في عيون اللي حواليا مجني عليه ومظلوم، هابقى جاني ونصاب.
,
, نظر مطولاً إلى ابنته النائمة، وتنهد مضيفًا في توجسٍ:
, -ده غير إن بنتك مالهاش سند غيرك.
, رفع رأسه للسماء، وأخذ يتضرع في حيرةٍ بصوتٍ غير منطوق:
, -دبرها من عندك يا رب.
,
, لم تتوقف عن قضم أظافرها وهي تجوب في جوانب غرفتها بعصبيةٍ وتوتر، اختفائه المريب دون وداعٍ يليق بها جعل الغضب يتصاعد بداخلها، لو لم تكن حاضرة وشاهدة على المشادة العنيفة بينه وبين هذا الغريب لما تساهلت معه. انتظرت فيروزة اتصاله بها ليطمئنها عليه، ولم تحاول مهاتفته كعقابٍ ضمنيٍ له. وقفت أمام نافذتها، تنظر للظلام الحالك بعينين مشتعلتين، انتفضت في لهفةٍ حين سمعت صوت الرسائل بهاتفها، ليعلن عن وصول رسالة متأخرة. اتجهت إلى تسريحة المرآة لتلتقط هاتفها، فتحته، وقرأت رسالته الموجزة بصوتٍ خافت؛ كأنما يسألها:.
,
, -صاحية؟
, بأناملٍ عصبية كتبت له الرد وهي تنطق به كذلك:
, -هيفرق معاك يعني؟ ما إنت خدت في وشك ومشيت، كأنك مصدقت.
, انفلتت منها شهقة صغيرة وقد اهتز الهاتف في راحتها ليعلن عن اتصاله بها، ترددت في الإجابة مباشرة عليه، وتعمدت التلكؤ وهي تحترق لهفةً للرد. رفعت أنفها في إباءٍ، وضغطت على زر قبول الاتصال قبل أن يتوقف الرنين، لتهتف بعدها في تجهمٍ:
, -أيوه، خير؟
, لفظ زفيرًا مهمومًا من صدره قبل أن يقول بهدوءٍ:.
,
, -أنا عارف إنك زعلانة مني، بس كان لازم أمشي.
, علقت عليه في جدية واضحة:
, -وأزعل ليه؟ هو أصلاً زعلي يهمك؟
, جاءها رده صادقًا، نابعًا من أعماقه، مما جعل نبضاتها تتسارع:
, -كل حاجة فيكي تهمني، ومقدرش أبدًا أزعلك، ده إنتي الغالية عليا.
, لانت نبرتها الجافة قليلاً، وسألته في فضولٍ لا يخلو من حيرة:
, -طب مشيت ليه؟
, سكت لحظيًا قبل أن يجاوبها:
, -أبويا طلب مني ده، عشان كان عارف إني مش هسكت.
,
, أكملت ما اعتبرته منقوصًا من اعترافه في صيغة تساؤلية:
, -بسبب قريب خالي؟!
, أكد بعد صمتٍ بسيط:
, -أيوه، أنا صعب شوية في عصبيتي مع اللي يمس اللي بحبهم.
, التفت سبابتها حول خصلة من شعرها وهي تعقب بإيجازٍ:
, -خدت بالي.
, أضاف تميم أيضًا في نفس النبرة الهادئة:
, -ده غير إن جدي كمان كان محتاج يرجع البيت.
, حررت خصلتها عن سبابتها، وسألته:
, -هو كويس؟
, أجابها في تمهلٍ:
, -أه الحمدلله٣ نقطة
, بدأت نبرته تتحول للعبثية حين أتم جملته:.
,
, -مش هتسألي عني طيب أنا عامل إيه؟
, تلونت بشرتها بحمرةٍ طفيفة، ورواغته الرد بآخر مبطن:
, -مش لما تسأل إنت الأول.
, أطلق ضحكة قصيرة، ليقول بعدها بلطفٍ:
, -صح، أخبارك إيه يا أبلة؟
, تنحنحت قبل أن تجيبه في جدية مصطنعة:
, -الحمد**** يا معلم.
, عابثها عن قصدٍ، ليزيد من ربكتها، ومن الحمرة الساخنة المتدفقة إلى خديها:
, -مافيش تميم كده حاف من غير معلم، ولا الحاجات الحلوة مش بتطلع غير في الخناقات؟!
,
, حمدت المولى أن اتصالهما كان صوتيًا فقط، وإلا لرأى بأم عينه تأثير كلماته العذبة عليها، عضت فيروزة على شفتها السفلى لثانية، وتلعثمت في نعومةٍ وهي تبرر قائلة:
, -ما أنا خوفت بصراحة عليك تعمل حاجة كده ولا كده، والبني آدم ده مستفز، وناوي على شر.
, أطربه ردها، وجعله في حالة انتشاء ونشوة، لذا هتف متسائلاً في لهفة محسوسة في صوته:
, -بجد خوفتي عليا؟
,
, أمام شوقه الظاهر ارتبكت أكثر، وبدا التردد واضحًا عليها، ألح عليها بصوته الهادئ؛ كأنما يرجوها:
, -ما تبقيش بخيلة عليا كده، اكسبي فيا ثواب.
, أطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التفوه بكلمة؛ لكن سرعان ما تخلت عن عزوفها المتردد لتعترف له وهي تخبئ عينيها بيدها الآخرى؛ كأنما تخشى أن يرى خجلها اللذيذ:
, -أه خوفت..
, هنا صاح مهللاً، كمن حاز على نصرٍ عظيم:
, -يا فرج ****! أيوه بقى، مرة من نفسي.
,
, قهقهت ضاحكة من أسلوبه المرح، وحاولت المناص من رومانسيته المغرية بقولها:
, -طب يالا عشان عاوزة أنام.
, ردد مستنكرًا:
, -إيه ده، الوقت الحلو بيخلص بسرعة ولا إيه؟!
, مازحته وهي تضحك:
, -إنت اللي جاي في الوقت الضايع.
, علق عليها مؤكدًا بما بدا تحديًا لها:
, -خلاص هعمل حسابي المرة الجاية اتصل من بدري، وأخد وقتي كله من أوله.
, لوت ثغرها في غرورٍ، وقالت معلنة قبولها عرضه:
, -أما أشوف.
, ودعها بقليلٍ من الغزل اللطيف:.
,
, -ماشي يا ست البنات، مساءك قمر، زيك.
, لم تختفِ الابتسامة السعيدة من على وجهها وهي ترد:
, -تصبح على خير.
, سمعت تنهيدته قبل أن يقول:
, -وإنتي من أهله.
, لم تضغط فيروزة على زر إنهاء الاتصال، ونفضت بيدها شعرها في الهواء، قبل أن تستقيم واقفة وهي تغمغم:
, -ناس ماتجيش إلا بالعين الحمرة.
, قفزت في مكانها مصدومة حينما سمعت تعليقه:
, -أنا مقفلتش الخط على فكرة، بس أي حاجة منك راضي بيها.
, ارتعشت في حرجٍ شديد، ورددت بربكةٍ كبيرة:.
,
, -إنت لسه موجود، س، سلام.
, عندئذ تأكدت من الضغط على زر الإنهاء وهي تنظر إلى شاشته بعينين متسعتين في ذهولٍ حرج، تركت الهاتف على الفراش، ودفنت وجهها بين راحتيها هاتفة في خجلٍ، وهي تشعر بالسخونة المنطلقة من كامل بشرتها:
, -ياني على الكسفة!
,
, جاء في موعدٍ كان متأكدًا فيه من عدم تواجدها بالمنزل، ليلتقي بخالها الذي طلب مقابلته في التو، استقبلته آمنة بترحابٍ كعهدها به كلما أتى إلى المنزل، أغلقت الباب من ورائه، وأشارت له بيدها ليتوجه نحو الردهة الواصلة بين غرف البيت وهي تخاطبه:
, -اتفضل يا ابني، خليل مستنيك جوا في الأوضة.
, قال في ابتسامةٍ صغيرة:
, -شكرًا يا حماتي.
, سألته وهي تسير خلفه:
, -تحب تشرب إيه؟
, توقف عن المشي ليقول معتذرًا بلباقة:.
,
, -مالوش لزوم.
, أصرت عليه في ألفةٍ ومحبة:
, -ودي تيجي، مايصحش و****، ده بيتك.
, أخبرها بعد لحظةٍ من التفكير:
, -خلاص، إن كان ولابد يبقى شوية شاي.
, هزت رأسها قائلة:
, -حاضر، من عينيا.
, أشارت من جديد نحو غرفة خليل ليكمل سيره نحو بابها وهو يشكرها:
, -تسلميلي يا رب.
, لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ كامل، كان مواربًا بعض الشيء، ومع هذا طرق تميم عليه مستأذنًا بالدخول:
, -السلام عليكم، موجود يا عم خليل؟
, أتاه رده عاليًا:.
,
, -وعلي، كم الس، لام، اتفضل.
, دفع الباب بيده، وجال بنظرة سريعة على الحجرة ليحدد مكان مُضيفه، وجد الصغيرة رقية تركض ناحيته لترحب به في سعادة كبيرة:
, -عمو تميم!
, استقبلها في أحضانه، وربت على ظهرها برفقٍ وهو يسألها:
, -إزيك يا حلوة؟
, ابتعدت عنه، لترفع عينيها إليه وهي تجيبه بتعابيرها البشوشة:
, -كويسة.
, هتف خليل بلهجةٍ شبه آمرة:
, -نروح ن، لعب برا شوية يا كوكي؟
, أدارت رأسها بتلقائية نحو أبيها، وقالت في طاعةٍ:
, -حاضر.
,
, لكن قبل أن تنصرف خاطبت تميم في براءةٍ:
, -عايزة أطير معاك الطيارة تاني.
, هز رأسه بالإيجاب وهو يؤكد لها:
, -حاضر، طلباتك أوامر يا حلوة.
, ودعته بتحريك كفها في الهواء، وغادرت الغرفة لتترك الاثنان بمفردهما، طلب خليل من ضيفه في حرجٍ طفيف:
, -ممكن ت، رد الباب؟
,
, أومأ برأسه موافقًا، وأغلق الباب قبل أن يتجه إلى المقعد الآخر الشاغر بالغرفة ويجلس عليه، أمعن النظر في ملامح خليل التي اكتسبت طابعًا جديًا غريبًا، ظل يتفرس فيه وهو يستطرد متسائلاً:
, -كنت عاوزني في إيه؟
, أخفض خليل من نبرته قائلاً بحذرٍ واضح:
, -هاقولك، بس توع، دني قبلة محدش ي، عرف حاجة٣ نقطة
, استشعر تميم خطورة الأمر، وتضاعف إحساسه مع إكماله لعبارته بما يشبه التشديد:
, -وخصوصًا ف، فيروزة.
,
, ثبت كامل نظراته عليه، واكتست تعابيره بالجدية وهو يعلن قبوله بوضع الأمر في طي الكتمان:
, -ماشي الكلام.
,
, تذكرت أنها تركت ما استلمته من المطبعة في غرفتها، ولم تأتِ به أثناء ذهابها للعمل اليوم، لهذا غادرت دكانها مبكرًا –في غير موعدها- لتأتي بالمطبوعات الورقية، لئلا يظل العمل غير متكملٍ. صعدت فيروزة الدرجات في نشاطٍ وهمة، ويدها تعبث داخل حقيبتها لتأتي بمفتاح الشقة، تفاجأت بنزول تميم على نفس السلم، تسمرت في مكانها، وطالعته بعدم تصديق، انفرجت شفتاها عن صدمة بائنة، لتسأله بعدها بنفس الملامح الذاهلة:.
,
, -إنت كنت فوق وأنا معرفش؟
, على ما يبدو تفاجأ هو الآخر بتواجدها، فنظر إليها مصدومًا لوهلةٍ، مع طريقة تطلعه إليها سرعان ما استبدت بها الهواجس، وظنت وقوع مكروه ما، فتابعت متسائلة دون أن تمهله الفرصة للرد:
, -في حاجة حصلت؟
, أجابها نافيًا، وقد تقوست شفتاه عن ابتسامةٍ صغيرة:
, -لأ، كله تمام.
, سألته بنبرة مالت للتحقيق:
, -أومال كنت بتعمل إيه عندنا؟
,
, غازلها بتجرؤ غير نادم، لعله بهذا يصرف ذهنها عن التفكير في أي شيءٍ قد يثير الشكوك ناحيته:
, -جاي أشوف القمر.
, لم تترك لمعسول كلامته التي تطرب آذانها الفرصة لتُلهيها عن معرفة الحقيقة، ما زالت تستريب من وجوده، تقدمت في خطاها، واقتربت منه متسائلة بشكلٍ مباشر:
, -اتكلم جد، في إيه؟ أنا حاسة إن الزيارة دي مش طبيعية، هو قريب خالي جه تاني؟
, كانت فطنة الذكاء، لا يسهل خداعها، لذا راوغها في رده:
, -وأنا هعرف منين؟
,
, ضاقت نظراتها وهي تزيد من ضغطها عليه لتكشف سبب مجيئه المريب:
, -طب عيني في عينك كده؟
, من الغباء أن يترك فرصته معها تضيع سدى، لهذا استغل تميم عرضها السخي، وأسبل عينيه نحوها قائلاً بابتسامةٍ عذبة:
, -هو أنا أطول أبص في عينيكي الحلوين دول؟!
, خجلت من طريقة تحديقه بها، وتجاوزته لتقول في عبوسٍ زائف:
, -إنت بياع شاطر على فكرة، أنا مش عارف أخد معاك لا حق ولا باطل.
, أدار رأسه ناحيتها ليتبع حركتها، وادعى البراءة قائلاً:.
,
, -ما هو لو في حاجة أنا هاقول على طول.
, اغتاظت من محاولته التذاكي عليها، واستفزته بقولها المتعمد:
, -ماشي، طيب فرصة إنك هنا عشان تاخد الشبكة بتاعتك.
, بقيت ابتسامته مشرقة على وجهه، واعترض في لباقةٍ:
, -لأ خليها شوية.
, زوت ما بين حاجبيها قائلة بعنادٍ:
, -هترجع في كلامك معايا؟ إنت وعدتني.
, صعد إلى البسطة الواقفة عليها، وأكد لها بتعابيرٍ مسترخية:
, -وأنا عند كلامي، بس تفتكري لو دخلت على أمي بعلبة الشبكة هتعمل إيه؟
,
, نظرت إليه نظرة حائرة، فتابع موضحًا:
, -أقل حاجة هتقلب الدنيا، ويجي في بالها إننا فركشنا لا سمح ****، وهتعكنن عليا، وهتبقى ليلة نكد على الكل.
, رفعت حاجبها للأعلى مرددة:
, -للدرجادي؟!
, أومأ برأسه قائلاً في لهجةٍ جمعت بين الجد والهزل:
, -أه، إنتي متعرفيش أمي، **** ما يجيب لا هم ولا غم علينا.
, ضاقت عينيها بشكٍ وهي تعقب عليه:
, -ماشي، هصدقك.
, من جديد أسبل عينيه اللامعتين ناحيتها متسائلاً برجاءٍ:.
,
, -مش ناوية تحني عليا ونقرب البعيد؟
, رمقته بنظرة مترفعة قبل أن توجز في ردها:
, -بعدين.
, رفع كفيه في الهواء قائلاً بنبرة غير ممانعة:
, -أنا مستني، طالما في الآخر هنكون سوا.
, بدأت في الابتعاد عنه، والاقتراب من باب منزلها وهي تخبره ممازحة:
, -ما احنا مع بعض أهوو.
, قال بنبرةٍ ذات مغزى وهو يستند بيده على الدرابزين:
, -أيوه، بس أنا طمعان نقرب أكتر كمان.
,
, طنين خفقات قلبها المتلاحقة كاد يصم أذنيها، تمالكت نفسها، وادعت عدم تأثرها، لتقوم بدس المفتاح في قفله بالباب، استدارت ناحيته، وقالت وهي تدفع الكتلة الخشبية لتتوارى خلفها:
, -يبقى ادعي بذمة.
, سلط كل نظراته عليها، وهتف يُكلمها في لهفةٍ مغلفة بالشوق:
, -ده أنا مش هاقوم من على سجادة الصلاة!
, لم تخبئ ابتسامتها الناعمة وهي تقول بنبرةٍ موحية:
, -هيبان.
, هلل في صوتٍ غير مرتفع، ويداه مرفوعتان للأعلى كأنما يدعو:.
,
, -يا مهون يا رب.
, ودعته فيروزة بنظرة ضاحكة من عينيها، لتظل تلك الذكرى الجميلة حيّة في ذهنه، طوال الساعات القادمة من يومه المشحون بالكثير من المستجدات الواجب عليه تنفيذها، للذود عن أقرب الأحباء إليه٣ نقطة!
 
٤٦

بعصبيةٍ وتشنج، انتقل من درجٍ إلى آخر، ليفتش عن غرضٍ بعينه، دون أن يعبأ بالفوضى التي يُحدثها، حيث تنشطت ذاكرته في الأيام الأخيرة بذكرى قيامه بعمل نسخة احتياطية لمنزل زوج شقيقته، فعندما كان في زيارة عادية لها ببيتها، أثناء وجود خليل معها، استغل فترة بقاء الأخير بالحمام للاغتسال بعد عودته من العمل، وانشغال سماح بإعداد الطعام بالمطبخ، ليتسلل إلى داخل غرفة نومهما، لم يبذل أي عناء في إيجاد غايته، حتى الصغيرة رقية لم تكن على قدرٍ من الوعي لتدرك ما الذي يفعله بالداخل، فتابعت اللعب في غرفتها ببراءةٍ.
,
, ما إن تأكد حُسني أن الأمور تسير على ما يرام، حتى أخرج قالب من الصلصال كان يحتفظ به في جيب قميصه، آنذاك قام بوضع ذلك المفتاح المميز الخاص بمنزله الآخر على جانبي القالب، فانطبع تصميمه عليه، ثم بنفس الحذر أعاد وضع القالب في جيبه، وأكمل باقي زيارته دون إثارة الشكوك والريبة.
,
, دار في خلده أن يُقدم على تلك الخطوة الخبيثة من غير علمه، إذ ربما احتاج لمساومته في يومٍ ما، إن استمرت أحواله على نفس المنوال البائس دون أي تحسن يُذكر، فتفكيره الجامح أوهم له أنه يضع الهام من الأوراق، وكذلك النقود، عند زوجته الأولى. وقتئذ اتجه حُسني إلى أحد معارفه ممن يقومون بصنع نسخ للمفاتيح، وحصل على نسخته، وظل محتفظًا بها لحين الحاجة، ومع تطور الأوضاع وحصوله على عملٍ بالخارج تناسى تلك المسألة، إلى أن خسر ما لم يملك، وعاد كما ذهب خاوي الوفاض.
,
, برقت عينا حُسني بشدة، والتمعت في انتشاء حين وجد ضالته المنشودة، رفع المفتاح المنسوخ أمام نظراته الطامعة، وراح يردد مع نفسه في نشوةٍ عارمة:
, -دلوقتي بس هعرف أخد حقي٣ نقطة
, قست عيناه على الأخير وهو يتم جملته بنبرة لا تبشر بخيرٍ أبدًا:
, -وبزيادة.
,
, لا تعرف ما الذي دفعها، لإلقاء نظرة على ألبومات الصور الفوتوغرافية القديمة، المحتفظة بها في قاع دولابها، أخرجتهم ونيسة بتمهلٍ، وأخذت تنفض الغبار عن الغطاء الخارجي الذي تشقق بفعل عوامل الزمن، ثم راحت تتأمل كل صورة على حدا، كأنما تسترجع شريط ذكرياتها القديم. توقفت أمام صورة قديمة جمعتها بشقيقتها بثينة، ازدحمت حدقتاها بسحبٍ من الدموع، بدأت في الانسياب في صمتٍ، لتتحول بعد بضعة دقائق لنهنهات متألمة.
,
, رأى بدير زوجته على تلك الحالة المهمومة، فجلس إلى جوارها على طرف الفراش، وربت على كتفها بحنوٍ، فاندفعت تبوح له بنوعٍ من الشكوى، وبما يضيق به صدرها:
, -أنا مقصرة مع أختي أوي، المفروض أكون جمبها، حتى لو هي مش عاوزاني.
, بصوتٍ رزين وهادئ علق عليها:
, -إنتي بتعملي اللي عليكي، واحنا متابعين مع الدكتور بتاعها، سواء هيثم كان على علم بده ولا لأ.
, كفكفت بظهر يدها دموعها المنسابة، بينما أكمل بدير كلامه الموجه إليها:.
,
, -والدكتور آخر مرة بلغنا إن التحسن بطيء، ولسه الزيارة مش مرحب بيها.
, أظهرت اعتراضها على ما أخبرها به بترديدها المنزعج:
, -يعني هنسيبها لوحدها كده مقطوعة؟
, رد نافيًا دون أن تتبدل نبرته الهادئة:
, -لأ طبعًا، بس بنمشي حسب التعليمات.
, امتدت يدها لتسحب منديلاً ورقيًا من العلبة الموجودة على الكومود، نفخت فيه أنفها، ودعت لها بصدقٍ
, -**** يهونها عليها، ويخفف عنها..
, ثم نظرت إلى زوجها، وواصلت الكلام بصوتٍ ما زال منتحبًا:.
,
, -الحكاية مش سهلة خالص، مافيش أم تستحمل خسارة ضناها قصاد عينيها، ما بالك كمان بقطع لسانها، لطفك يا رب.
, عقب بدير في تريثٍ:
, -مشيئة ****، وإرادته.
, أضافت ونيسة في توترٍ وهي ترمش بعينيها:
, -بيني وبينك يا حاج، ساعات بحس بتأنيب الضمير، رايحة أجوز ابني وأفرح لولادي، وسنوية خلود لسه مجاتش، ده غير إن آ٣ نقطة
, لم يستسغ هذا النوع من الحديث، فقاطعها في نبرةٍ حازمة:
, -الأعمار بيد ****، والحي أبقى من الميت.
,
, ردت عليه مبررة بقدرٍ من القلق:
, -ما أنا عارفة، بس الحزن جوا الواحد وآ..
, مرة أخرى قاطعها بقوله الجاد:
, -هيفيد بإيه الحزن، لا عمره هيرجع اللي راح، ولا هيخلينا ننسى اللي حصل، وفي النهاية كله بأمر ****.
, أدركت أنها لن تصل في نقاشها العقيم معه إلى أي شيءٍ، خاصة أنه يُحادثها بمنطقية، وهي تحاوره بعاطفتها الأنثوية. طردت تنهيدة ثقيلة من صدرها قبل أن تقول:
, -ونعم ب****.
, أوصاها بتشددٍ طفيف:.
,
, -ركزي مع ولادك، وسيبيك من الهم دلوقتي، **** أنعم علينا بالفرحة، بدل ما نقول اللهم لك الحمد والشكر، ندور على الغم ونغرق نفسنا فيه؟!
, أحست بالحرج أمام كلماته العقلانية، فأومأت برأسها هاتفة في طاعة:
, -حاضر يا حاج.
,
, لملم طرفي قفطانه القطيفة معًا، ونهض من مجلسه، ليسير في خطوات شبه سريعة، وهو يسعل سعالاً متقطعًا، قاصدًا الاتجاه نحو باب منزله، بعد أن سمع الطرقات القوية عليه، كانت سعاد الأسبق في الوصول إليه؛ لكن زوجها استوقفها بأمره الصارم:
, -استني عندك، أنا اللي هفتح.
, ثبتت في مكانها، وقالت في انصياعٍ:
, -ماشي يا حاج.
,
, تراجعت بضعة خطوات للخلف، وسلطت أنظارها على الباب الذي فتح على مصراعيه، لتجد إسماعيل يتساءل في فضولٍ، وهو يتفرس بعينيه ذلك الغريب المرابط أمامه:
, -خير يا ابني؟
, أجاب عليه الرجل متسائلاً في لهجةٍ رسمية:
, -ده بيت إسماعيل أبو المكارم؟
, جاوبه بصوتٍ عبر عن تحيره:
, -أيوه، ده أنا، في حاجة؟
,
, اقتربت سعاد بحذرٍ لتعرف ما الذي يدور، ودون أن تظهر في مرمى البصر، في حين فتح الرجل دفتره الورقي، وأخرج منه ورقة ما، ناوله إياها وهو يخبره بنفس الطريقة الرسمية:
, -اتفضل الإعلان ده يا حاج.
, أخذها منه، ونظر إليها في غير فهمٍ، قبل أن يعاود سؤاله بحيرةٍ أكبر:
, -إعلان إيه ده؟
, استمر الرجل في تأدية عمله الرسمي الذي جاء من أجله، فأدار دفتره للجانب، وأشار نحو أحد الأسطر وهو يخاطبه بغموضٍ:
, -وقع هنا بالاستلام الأول.
,
, اغتاظ إسماعيل من أسلوبه الفظ في التعامل، وصاح به في انفعالٍ شبه ظاهر في صوته:
, -مش أفهم الأول بوقع على إيه؟
, تطلع إليه الرجل قائلاً بسماجةٍ:
, -ده إعلان بقضية مرفوعة عليك يا حاج.
, اتسعت عيناه في دهشة عجيبة، وهتف متسائلاً بصدمةٍ:
, -قضية! يا ساتر يا رب، من مين؟ وليه؟
, بسّط له الرجل طبيعة الإنذار القضائي بقوله:
, -ده إعلان بمنعك من التصرف في أموالك.
,
, شهقت سعاد من خلفه، ولطمت على صدرها في إنكارٍ صارخ، بينما جحظت عينا زوجها في ذهولٍ أكبر، وصاح مستنكرًا بشدة:
, -نعم؟ إيه التخاريف دي؟ مين اللي عامل كده؟ ده مالي بتعبي وشقايا؟ مسرقتوش من حد؟!
,
, نظر له الرجل بجمودٍ، كأنما اعتاد على مثل تلك الانفعالات الثائرة من الأشخاص حين يتلقون إنذارات قضائية، لم ينبس بكلمةٍ، وطالعه بنظرة أوحت بانزعاجه من مماطلته. هدر به إسماعيل مجددًا وهو لا يزال على حالة الاستهجان تلك:
, -أكيد في غلط، إنت متأكد يا ابني؟
, هز رأسه مؤكدًا بهدوءٍ يناقض الثورة الحادثة أمامه:
, -أيوه يا حاج، ده شغلي، واللي رافع عليك الدعوة هو آ٣ نقطة
,
, قبل أن يتم جملته للنهاية، ظهر على الساحة فضل، برقت عيناه بوميضٍ خبيث، وقاطعه قائلاً بقوةٍ أصابت والده بالصدمة الشديدة:
, -أني يابا.
, تحولت حدقتاه المدهوشتان ناحيته، فلم يعد يرى ذلك الرجل، تركز كل بصره عليه، فبدا وكأن عيناه ستبرزان من محجريهما من هول صدمته فيه، تلجلج لسانه وهو يسأله في عدم تصديقٍ:
, -إنت، يا فضل؟
,
, بجحودٍ لا يضاهيه شيء نطق ابنه البكري عن ابتسامةٍ شريرة، وبكل ثقة، ودون أن يظهر الندم على تقاسيم وجهه:
, -أيوه، حقي، وهخده.
,
, داعب إصبعها وجنته الناعمة بحنوٍ، قبل أن تنخفض يدها لتضبط من وضعية رابطة العنق الصغيرة، ذات اللون الأحمر الداكن، والمعقودة على شكل أنشوطة، لتكتمل هيئته الأنيقة بعد أن ألبسته الحُلة الجديدة. ابتسمت فيروزة للرضيع في سرورٍ، ومدحته بابتسامةٍ غير متكلفة:
, -عسل أوي في البدلة.
, دنت همسة من توأمتها، وألقت نظرة إعجاب على وليدها المستلقي على الفراش، لترد بعدها في رضا:
, -مجايب خالته الجميلة.
,
, التفتت ناحيتها لتخبرها بمحبةٍ:
, -**** يقدرني وأجيبله كل حاجة حلوة.
, احتضنتها همسة في تلقائية، وعلقت بنبرة راجية:
, -حبيبتي **** يخليكي، وعقبال ما أشيل عوضك يا رب.
, تجاوزت عن كلامها الموحي الأخير، وسألتها لتغير من مجرى الحديث:
, -أومال فين جوزك؟ من بدري ماشوفناهوش هنا عندك.
,
, بالطبع لكون أفراد عائلتها قد قضوا النهار بأكمله في ضيافة همسة وزوجها لحين انتهاء مراسم الزفاف الخاصة ب هاجر، فقد لاحظت فيروزة غياب هيثم معظم الوقت، إلا من بعض الدقائق العابرة خلال الساعات الطويلة الماضية. حاولت التأكد من ألا يكون سبب عزوفه عن القدوم له علاقة بها، خاصة أن الأمور بينهما كانت إلى حدٍ ما جيدة، لا يشوبها أي تعكير أو كدر. ظلت أنظارها المتفرسة على وجه شقيقتها وهي توضح لها في عفويةٍ:.
,
, -موجود تحت مع الرجالة عشان يظبطوا فِراشة الفرح والكوشة، ما إنتي عارفة هاجر ودماغها، حلفت ما تعمل زفتها في قاعة، وصممت تبقى طالعة من بيت أبوها.
, هزت رأسها في تفهمٍ، وقالت بابتسامةٍ منمقة:
, -هي تستاهل كل خير.
, رمقتها همسة بتلك النظرة الماكرة وهي تضيف:
, -عقبال ليلتك إنتي كمان.
,
, تعمدت فيروزة ألا تلتفت لقولها، أو تُلقي له بالاً، فمشاعرها العاطفية شأنًا خاصًا لا تحبذ مشاركة الغير في التعبير عنها، تحركت مبتعدة عن الفراش وهي تكلمها:
, -أنا هشوف كوكي لبست ولا لأ.
, استوقفتها همسة متسائلة في اهتمامٍ:
, -هتنزلي عند العروسة؟
, هزت كتفيها مرددة في غير اكتراثٍ:
, -هي عندها اللي يساعدها، ماظنش هتحتاج حاجة مننا.
, التوت شفتا همسة ببسمة عبثية وهي تخبرها:
, -برضوه لازم نقف معاها، احنا من العيلة.
,
, منحتها فيروزة نظرة صارمة قبل أن تقول بجمودٍ:
, -أما أجهز، هاشوف هعمل إيه.
, ظلت شقيقتها محتفظة بملامحها الوديعة وهي تُطلعها على خطواتها التالية:
, -ماشي، وأنا يدوب أرضع خالد، وأكمل لبسي.
, وقفت فيروزة عند أعتاب الغرفة، ثم أمسكت بمقبض الباب قائلة بهزة طفيفة من رأسها:
, -خدي راحتك.
,
, أغلقت الباب بمجرد أن وطأت للخارج، ووضعت يدها على صدرها تتحسس ذلك المتلاحق في نبضاته، تنفست بعمقٍ لتهدئته، وراحت تقاوم التفكير في رؤيتها لمن بات القلب يهواه، فإن كانت تدعي الجمود في وجود الآخرين، فما يحدث داخلها ينبئ بثورة قادمة من المشاعر الجياشة، فقط تنتظر اللحظة المناسبة لتحريرها من قيودها.
,
, رغم أن الوقت ما زال مُبكرًا على بدء فقرات الزفاف، إلا أن بعض أهالي المنطقة أصروا على المجيء منذ اللحظات الأولى، والمشاركة في أفراح عائلة سلطان، والمعروفة دومًا بأنها تحتل القمة في كل شيء؛ جودة التنظيم، السخاء والكرم الظاهر فيما يتم تقديمه من مأكولات ومشروبات، والاحترام الواضح لكل من يُبدي ودّه وتقديره لأي فردٍ من العائلة. كان تميم على رأس الموجودين لاستقبال الحضور بحفاوةٍ، وأيضًا للتأكد من إتمام كل شيء مثلما اتفق مع منظمي الحفل. جال بنظراتٍ غير مدققة على الأوجه الجالسة في السرادق، إلى أن لمح ناجي قادمًا من على بُعد، حينئذ تجهمت ملامحه، وأصبحت نظراته أكثر جدية وتحفزًا، رفع ذراعه للأعلى ليشير إليه، فبادله الأخير الإشارة، وأسرع في خطاه ناحيته، التقط أنفاسه مستطردًا الحديث:.
,
, -مبروك يا كبيرنا، وعقبال ليلتك.
, قال تميم في لهجةٍ رسمية، وبتلهفٍ ملحوظ، وعيناه تتابعان حركة العفوية لإخراج سيجارة من علبته المحتفظ بها في جيبه:
, -**** يبارك فيك، قولي في جديد عندك؟
, بنوعٍ من الغرور أجابه:
, -طبعًا، وإلا مكونتش جيتلك وأنا إيدي فاضية.
, استعجله مرددًا في غير صبرٍ:
, -ها، إيه الأخبار؟
, أشعل سيجارته، ولفظ دخانها الذي سحبه دفعة واحدة قبل أن يجاوبه مسترسلاً في التوضيح:.
,
, -سافر على شغلانة مضروبة، مالهاش ورق، وفعلاً مكانش الخال يعرف بده، اللي جابها كان عاملها زيارة، ويبقى يضربها بعدين ولا يقلبها فيزا عمل.
, ضاقت عينا تميم بطريقةٍ غامضة، وسأله في إيجازٍ:
, -وبعدين؟!
, أخبره مزيدًا في إيضاحه:
, -البيه حاول يمشي أموره في أي حاجة لحد ما يلم القرشين اللي بعترهم، ولما جاب حق التذكرة هوب طيران راجع على هنا.
, احتدت نظرات تميم متسائلاً:
, -والأفلام بتاعة زمان؟
, انقلبت تعابيره وهو يؤكد له:.
,
, -كان مدورها معاه، تسفير غير شرعي، والأغلب مراكب.
, صمت تميم مليًا، كأنما شرد في عالمٍ خاص به، يوازن فيه الأمور بطريقة تمكنه من التعامل معها بالأسلوب المناسب. طال سكوته بشكلٍ دعا للاسترابة، مما دفع ناجي لسؤاله:
, -ناوي على إيه يا ريسنا؟
, أخبره بغموضٍ:
, -أديني بلف الحوار كله في دماغي، وهشوف٣ نقطة
, هز ناجي رأسه، فتساءل رفيقه في جديةٍ:
, -بس مظاهرش هنا ولا هنا؟
, أجابه نافيًا:.
,
, -لأ، بعت الرجالة في المطارح اللي قولتلي عليها، بس لا حس ولا خبر.
, أومأ برأسه وهو يعقب عليه:
, -ماشي الكلام، المهم تأمن على بيت الجماعة.
, أكد عليه ناجي بجديةٍ غير مشكوكٍ فيها:
, -من الناحية دي اطمن، عامل ورديات قصاد بيت الجماعة، رجالتنا واخدين بالهم.
, استحسن اهتمامه بالأمر، وربت ربتة سريعة على جانب ذراعه وهو يرد:
, -زي الفل.
, تساءل ناجي بعدها وهو ينهي تدخين سيجارته:
, -ها تؤمر بحاجة تانية؟
,
, ضرب على كتفه بقوةٍ قليلة وهو يقول:
, -**** يكرمك، عيش بقى مع معلمين السوق.
, التفت برأسه للخلف، وهتف متحمسًا:
, -تمام يا كبير، ومبروك مرة تانية.
, رد بغير ابتسامة:
, -**** يبارك فيك.
, شيعه بنظراتٍ شبه شاردة، وقد بات عقله مشغولاً بهذا اللئيم غير المرحب به، زفر الهواء من رئتيه، وتساءل مع نفسه في تحيرٍ كبيرٍ:
, -يا ترى ناوي على إيه يا حُسني؟ شكل نابك أزرق، ونيتك سودة!
,
, كان واجمًا، متجهمًا بعض الشيء، ملامحه تعكس تفكيره العميق في أمرٍ ما، سرعان ما عاد من سرحانه المنزعج، عندما انزلقت عيناه على من هجرت سماء النجوم العالية، لتهبط إلى أرض عشقه، وتغدو بين العامة بدلالها ونعومتها الرقيقة، السارقة للقلوب قبل الأنظار. أحس تميم بشفتيه تتقوسان عن بسمة صافية، تبدد معها الضيق الذي احتل صدره، خاصة حينما التقت الأعين ببعضها البعض في لقاءٍ حصري، اقتصر على كليهما.
,
, منحته فيروزة بسمة جمعت فيها بين الرقة والحنو، كأنما تنامى بداخلها إحساسًا مؤكدًا برغبته في الظفر بقدرٍ من هذا الشعور المفعم بالألفة والود. ومثلما اعتادت حين تلقاه، أن تتجمل في بهاءٍ تضمن به بقاء كامل أنظاره عليها لأطول مدة، وإن كانت ترى مقاومته المستميتة لتأثيرها الطاغي عليه، فتجده يتحاشى النظر إليها، كأنما يبخل عليها بنظرة مرضية لها كأنثى.
,
, تهادت في خطواتها، وهي تضبط بيدها أطراف كنزتها النبيذية، تلك التي فضلت ارتدائها على بنطال أسود مصنوعٍ من القماش، مع ****ٍ من اللون الذهبي، تتخلله تشبيحات متفرقة من نفس لون الكنزة. أطبقت على جفنيها لثانيةٍ قبل أن تعاود النظر إليه، تقدمت ناحيته بثبات، لكن ما بين ضلوعها لم يثبت، كان يقفز في فرحةٍ وانتعاش، كأنه حظى بجنته على الأرض، أبقرب الحبيب يتبدل الحال من حالٍ إلى حال؟ هكذا كانت تشعر.
,
, رسمت ابتسامة لطيفة على ثغرها، واستهلت تحييه:
, -مساء الخير عليك.
, ذابت القسوة، وتلاشى التجهم مع نعومتها المزلزلة لكيانه، بالكاد حافظ على ثباته في حضرتها، وقال بابتسامة عريضة للغاية لا تخلو من الغزل:
, -مساء النور على القمر.
, لامست بيدها طرف حجابها المتدلي على كتفها، كأنها وسيلتها لتخفيف التوتر المُربك الذي انتابها، ثم تنحنحت بصوتٍ خفيض، وردت بعدها وهي ترفرف برموشها:.
,
, -مبروك ل هاجر، هي شوية ونازلة، أنا بصيت عليها، وكل حاجة تمام.
, هز تميم رأسه في استحسان، وقال ضاغطًا على كلمته الأخيرة:
, -على خير يا رب، وعقبالنا..
, حاولت ألا يبدو تأثير نواياه الصادقة نحوها ظاهرًا عليها، أخفضت من نبرتها حين عقبت عليه:
, -إن شاء****.
, تفاجأ من ردها، ونظر إليها في ابتهاجٍ، حاولت الهرب من نظراته التي تحاصرها، وادعت وهي تشير بيدها:
, -أنا هشوف رقية، بدل ما تتوه وسط الزحمة.
,
, انسحابها التكتيكي كان ضروريًا لئلا تنجرف مشاعره نحو التهور، سرعان ما استعاد رشده، وسألها في لهجةٍ غير ممازحة:
, -قوليلي في حد ضايقكم الأيام اللي فاتت؟
, تعجبت من تحوله للجدية التامة، وسألته بنفس الوتيرة القلقة:
, -تقصد خال رقية؟
, أجابها في إيجازٍ، وما زالت ملامحه تنم عن الجدية:
, -أيوه.
, ردت نافية:
, -لأ، من ساعة السبوع ماظهرش تاني.
, زم شفتيه للحظةٍ قبل أن يقول مقتضبًا:
, -كويس.
,
, ساورتها الشكوك، وتفشت في رأسها، لهذا ظلت باقية في مكانها لتسأله بنبرة المحقق:
, -هو إنت عرفت حاجة ومخبي علينا؟
, استقام في وقفته، ليبدو أكثر شموخًا ومهابة، ثم وضع يديه في جيبي بنطال بدلته الكحلي ليقول في تمهلٍ:
, -لأ، بطمن بس عليكم.
, لن تنكر أنها تشعر بالفخر لوجودها بقربه، فمثله يدعو للتباهي بالاقتران به، تدللت عليه، وابتسمت قائلة في مرحٍ:
, -العيلة كلها طبعًا.
,
, نظر مباشرة في عمق عينيها، حتى شعرت أنه بنظراته الدافئة قد نفذ إلى مواطن الضعف بداخلها، ليحتل -بلا مقاومة منها- كامل كيانها، خاصة عندما صاحب ذلك قوله الهادئ:
, -وإنتي قبلهم٣ نقطة!
 
٤٧

الفرار، ثم الفرار، ثم المزيد من الفرار، كان الاختيار المناسب حتمًا، إن أرادت أن تحافظ على ثباتها المتزعزع في وجوده، ألبضعة كلمات عادية، منقحة من أي عبارات خادشة للحياء، كل هذا التأثير القوي عليها؟! لم تصدق فيروزة نفسها حين شعرت بهذه الرعدة الخفيفة تسري في أوصالها ابتهاجًا لشعورها باهتمامه الواضح بها. انزوت عن محيط أنظاره؛ لكن بقي القلب مُعلقًا بمن نجح في احتلال ثناياه والتربع على عرشه. انتقت لنفسها مكانًا بين الحضور في المقدمة، لتبدو قريبة من العروس، إن احتاجت إلى شيءٍ، فلبت ندائها بمحبة صافية. جلست إلى جوارها همسة، ومعها رضيعها النائم، لتلحق بهما آمنة، والصغيرة رقية.
,
, تبقى القليل على بدء مراسم الزفاف، والعروس ما تزال في منزلها بصحبة والدتها، في تلك اللحظات العاطفية الخاصة، حانت من فيروزة نظرة خلفية تبحث بها عن تميم، رأته يصافح أحدهم بحرارة، والضحكات العفوية تملأ وجهه، لحظها السعيد التقط نظراتها السارحة فيه، فخجلت، ووجلت، واستدارت محدقة أمامها وهي تشعر بدقات قلبها تعلو وترتفع، حتى كاد ضجيجه يصم آذانها. عنفت نفسها في صوتٍ هامسٍ للغاية:.
,
, -في إيه يا فيرو؟ ما تهدي كده.
, بالكاد منعت نفسها من النظر إليه، وكأن العين لم تعد ترتوي بما يطفئ لهيب الظمأ فيها إلا برؤياه!
,
, حاولت الالتهاء بالحديث مع شقيقتها، علَّها بهذا تسكت الصوت المنادي في رأسها باختلاس النظرات إليه، وبإرادة كاملة منها انصاعت لرغبات العقل تلك المرة، وراحت تدير رأسها في حركة بطيئة حذرة لتتطلع إليه، ويا له من شعور عظيم يزيد من إحساس الألفة والمودة بداخلها كلما أبصرته يضحك، أو يبتسم، بل يمكن الجزم بأنها شعرت بالغيرة لكون تلك الضحكات العفوية مع غيرها.
,
, عبوسٌ طفيف سيطر على ملامحها سرعان ما تبدل لابتسامة خفيفة حين طلبت منها همسة بلطفٍ:
, -ممكن تشيلي لودة شوية، لحد بس ما أشوف هيثم عاوز مني إيه.
, امتدت ذراعاها نحوها، التقطته منها، وضمته إلى صدرها بحذرٍ وهي تُبدي ترحابها:
, -ماشي يا حبيبتي.
,
, تابعتها بنظراتها وهي تسير في تعجلٍ، تتجه نحو زوجها، في حين ضجرت رقية من الجلوس ساكنة، وتعلقت عيناها بالصغار الذين يلهون أمام خشبة المسرح، نهضت من مكانها استعدادًا للذهاب؛ لكن أنذرتها عمتها بجديةٍ:
, -خليكي هنا يا كوكي، بلاش شقاوة!
, زمت شفتيها محتجة في عبوسٍ طفولي:
, -عايزة ألعب.
, حذرتها آمنة من جديد بنبرة غليظة:
, -وتبهدلي نفسك؟ ده لسه الفرح مابدأش.
,
, كتفت رقية ساعديها، وعادت للجلوس وهي تنفخ عاليًا في سأمٍ، فتدخلت فيروزة لإقناعها بالقبول:
, -سبيها يا ماما، هي بتلعب قصادنا.
, بادرت بالاحتجاج مجددًا
, -بس فستانها هيبوظ، وجايز تقع، و..
, قاطعتها قبل أن تنهي ما بدأت من كلام:
, -معلش، دي برضوه عيلة، مش هتفضل متقيدة في مكانها طول الوقت، لما الفرح يبدأ تبقى تقعد جمبنا.
,
, تنهدت آمنة بعمقٍ، ثم استدارت تنظر لوجه الصغيرة الرقيق، لانت ملامحها واستسلمت، ثم شددت عليها بإشارة من سبابتها كذلك:
, -طيب ما تروحيش بعيد، ولو التفت وملاقتكيش هعاقبك.
, صدحت ابتسامة سعادة على وجهها، وتلاشى هذا التجهم مع موافقتها، ركضت لتنضم لبقية الصغار وهي تردد:
, -حاضر.
,
, ابتسمت فيروزة لبراءتها، وودت لو عاد بها الزمن إلى الوراء، وكانت لا تزال صغيرة، تلعب بلا همٍ، وتبيت ليلتها بلا خوفٍ من المجهول. انتشلها من شرودها السريع صوت والدتها المتساءل:
, -مافيش جديد عندك؟
, نظرت ناحيتها، وردت متسائلة بقليلٍ من الحيرة
, -جديد إيه؟
, أخبرتها ببساطة عن قلقها:
, -يعني محدش كلمك في كتب كتاب ولا جواز؟ بقالنا فترة على وضعنا!
, تجهمت كامل قسماتها، وهتفت قائلة في اعتراضٍ مستاء:.
,
, -مش وقته الكلام ده يا ماما.
, ردت بسخافةٍ وضيق:
, -أومال إمتى وقته؟ ما هو كله أهوو **** كرمه وبيتجوز، إنتي بس اللي هتعملي فيها بنت بارم ديله.
, هسهست في غيظٍ:
, -استغفر **** العظيم يا رب.
, استمرت والدتها في الضغط عليها بسؤالها المُزعج:
, -ها مردتيش عليا؟
,
, أظهار أسبابها لها لن يجعلها تفهم ببساطة ما الذي تحاول فعله قبل أن تُقدم على تلك الخطوة الفاصلة في حياتها، هي تستمتع بما يتنامى بداخلها من مشاعر نقية، تُعايش وتحفر في أعماقها ذكريات حلوة تكون سلواها في المستقبل، لذا أشاحت فيروزة بوجهها بعيدًا عنها، وقالت في برودٍ:
, -لما يبقى في جديد هاقولك، حلو كده.
,
, رمقتها آمنة بنظرة حادة، مزعوجة، رافضة لعزوفها عن الزواج، تفكيرها المحدود يوهمها أن ابنتها تدلل على من لا يصلح التدلل معه، إطالة مدة الخطبة تعني إعطاء الفرصة لغيرها للقفز عليها، ومحاولة إيقاعه بالحيلة لإنهاء تلك الخطبة المزعومة والزواج بأخرى مستعدة لهذا، لم تبتسم وهي تعقب عليها:
, -ماشي، **** يهديكي لنفسك.
,
, تحفز في وقفته، وبدا على أَهُبة الاستعداد، حين اصطفت السيارة المألوفة على مقربة من سرادق الفرح، اعتلى ثغر تميم ابتسامة اعتزاز، سرعان ما امتزجت مع نظرة الفخر التي أطلت من عينيه، عندما ترجل رفيقاه المقربان منها. تحرك دياب أولاً ناحية الباب الخلفي ليُخرج طفله، ثم حاوط كتفيه بذراعه، واستحثه على السير للأمام بتلكؤٍ ملحوظ، ليلحق بهما منذر. ما إن أصبح ثلاثتهم على مقربةٍ من تميم حتى هلل صائحًا في مزاحٍ:.
,
, -و**** كنت هزعل لو ماجتوش.
, امتدت يد منذر لمصافحته، قبل أن يجذبه إلى صدره لاحتضانه وهو يبادله الترحاب الحار:
, -هو احنا نقدر نتأخر عنك، مبروك يا تميم، وعقبالك.
, تراجع عنه تميم، والتفت ناظرًا إلى دياب الذي خاطبه ممازحًا:
, -يا عم إنت عاوز تنكد عليه من تاني، هو كده حلو.
, عاتبه منذر بنظرةٍ ذات مغزى:
, -الجواز بقى نكد دلوقتي؟ ما كان حلو من كام شهر.
, رد عليه شقيقه الأصغر متصنعًا العبوس:.
,
, -ده بقى تأديب وتهذيب وإصلاح، وتقويم، وكل حاجة تخيلك تمشي عدل.
, قهقه منذر ضاحكًا، وشاركه تميم الضحك، ليتبع ذلك قول الأول الطريف:
, -مع مراتك أيوه، **** يكون في عونك يا دياب.
, علق عليه بطرافةٍ مماثلة:
, -ده أنا ساعات بخاف منها وربنا، صعبة في زعلها، فاكر لما اتخانقت مع الجزار، دي مابيهمهاش حد.
, أخبره تميم مبتسمًا في مرحٍ:
, -كل الستات كده، عاوزين كتالوج عشان نفهمهم.
, عندئذ كرر منذر سؤاله عليه بنظراتٍ موحية:.
,
, -طيب مش هنفرح بيك بقى؟
, في حين اعترض دياب بنفس الأسلوب المتسلي:
, -برضوه؟! ليه عاوز تجيبله النكد؟
, أجاب عليه تميم وهو ما زال يقاوم الضحك:
, -لما **** يأذن، هتلاقيني دخلت القفص برجليا.
, أنذره دياب بإصبعه المرفوع أمام وجهه:
, -ومترجعش تزعل، وتقول ندمان.
, هز رأسه نافيًا:
, -لأ يا سيدي مش هشتكي.
, جذب الصغير يحيى ذراع والده، وطلب منه بنوعٍ من الإلحاح وهو ينظر نحو حفنة من الأطفال يلعبون على مقربة منه:
, -بابا عاوز ألعب هناك.
,
, ألقى دياب نظرة شمولية على البقعة المشار إليها، كأنما يُقيم مخاطرها بنظراته الثاقبة، ثم أبدى موافقته المشروطة بلهجةٍ جمعت بين الجد والهزل:
, -ماشي، بس مضايقش حد، والعب مع البنات الحلوة بس.
, رد يحيى في حماس مرح وهو يعدو ركضًا:
, -حاضر يا بابا.
, ما إن انصرف الصغير حتى عاتبه تميم في خشونةٍ:
, -في حد يعلم ابنه كده؟
, غمز له مبررًا بعبثية:
, -خليه يجرب حظه من بدري، أومال يحصله كبت زي ناس؟
,
, رفع منذر كفيه للأعلى كأنما يبرئ ساحته، وأتبع ذلك معترفًا في لطافةٍ:
, -اتكلم عن نفسك، أنا مبسوط مع جماعتي.
, حدج تميم رفيقه العابث بنظرة صارمة قبل أن يوجه كلامه الجاد إليه/
, -ده أنا لو عندي بنت وإنت جاي تخطبها لابنك، وربنا لأنشف ريقكم قبل ما أوافق.
, شاركه منذر الرأي مؤمئًا برأسه:
, -لو تميم يعملها معاك وش.
, فرد دياب ذراعيه في الهواء، وأحنى جذعه كأنما يؤدي تحية احترامٍ لشخصية وقورة وهو يردف مازحًا:.
,
, -هو احنا نطول نناسب الفخامة كلها!
, لم يكبت تميم ضحكه المستمتع، وجاراه في مزاحه مرددًا:
, -أيوه، اضحك عليا بكلام السوق، أصلها بيعة سهلة، ده إنت متعرفنيش، أنا عند أهلي وناسي ببقى صعب جدًا.
, علق وهو ما زال مبتسمًا، وبغمزة سريعة:
, -يا عم الصعب نسهله عشانك.
, استمر تميم على جديته معه، فقال:
, -برضوه هطلع عين ابنك، وعينك قبل منه.
,
, لَحَظ منذر اتخاذ الأمر منحنًا جادًا فيما بينهما، فهتف يلفت انتباههما بلهجةٍ بدت شبه عالية ولا تخلو من المرح:
, -إنتو بتكلموا في إيه؟ مش لما تتجوز الأول، وربنا يكرمك بالذرية الصالحة، والعيال تكبر، وتشيل الهم بدالنا، تبقى تتشرط عليهم، يعني خدلك كام سنة.
, -على رأيك، عملنا زي اللي جابوا السلَّبة قبل الجاموسة.
,
, التجمعات الطفولية كانت وسيلة فعالة لاجتذاب الصغار للعب تحت أنظار البالغين، خاصة حينما تكون في مساحة مغلقة. تحمست رقية لمشاركة مثيلاتها من الفتيات، ممن يرتدين الأثواب البيضاء في الأعراس، للهو والمرح. بضعة دقائق انقضت وانضم المزيد من الأطفال للمشاركة، وقع الاختيار من غالبية الصغار على لعب الغميضة، وبدأوا في الركض في كل الاتجاهات، وما هي إلا لحظات وصدحت أصوات الصراخ الحماسي في الأجواء.
,
, تحولت واحدة من تلك الصرخات الضاحكة إلى شهقة مفزوعة، حين جذب اجتذب أحدهم الأنشوطة التي تزين ثوبها، كمحاولة للإمساك بها خلال اللعب. ورغم أنها انتُزعت دون قصدٍ، إلا أنها أصيبت بالجزع، وتوقفت في مكانها مشدوهة، مرتعدة الفرائص. انحنت رقية لتلتقطها من على الأرض، وقد تقوست شفتاها للأسفل في حزنٍ لا يمكن نكرانه. دنت منها إحدى الفتيات تسألها:
, -مالك؟ مش بتلعبي معانا ليه؟
,
, أجابتها في عفويةٍ، وعيناها تغرقان في الدموع:
, -الولد ده قطعلي الفيونكة٣ نقطة
, ثم أشارت بيدها نحو واحدٍ من الصبية بالتحديد، نظرت إليه صديقتها، وحاولت تهوين الأمر عليها، فقالت:
, -متزعليش، مش باينة، محدش هياخد باله.
, هزت رأسها نافية، وردت بصوتٍ باكٍ:
, -عمتو هتزعق عشان اتقطعت.
, عضت الطفلة الأخرى على شفتها السفلى في حيرة، وأخبرتها بعد لحظة من التفكير السريع:
, -ممكن تتربط كده.
,
, وقامت بتجربة ما هداه إليها تفكيرها المحدود؛ لكن محاولتها باءت بالفشل، ارتاعت الصغيرة أكثر، وراحت تردد في بكاءٍ أكبر:
, -أنا خايفة، هتزعقلي جامد، وممكن تضربني.
, أشفقت عليها الطفلة الأخرى، واقترحت عليها في صوتٍ جاد:
, -قوليلها إن الواد ده قطعها، دي مش غلطتك.
, ثم أمسكت بها من معصمها، وأضافت بنبرة مهددة:
, -وأنا كمان هزعقله قصادك.
,
, اتجهت الاثنتان للصغير الذي تسبب في إفساد مظهر الثوب الرقيق، وبدأت الطفلة الأكبر سنًا في توبيخه، وتهديده بجديةٍ، خاصة مع كونه غريبًا عن المنطقة، فزأر يحيى يرد مدافعًا عن نفسه في حمئة عجيبة:
, -مكانش قصدي، وإنتي ملكيش دعوة.
, اغتاظت منه رقية، فراحت تهدده هي الأخرى بشجاعة رغم الرجفة الظاهرة في صوتها:
, -إنت وحش، هاقول لبابا عليك.
, نظر في اتجاهها، ورد بوقاحةٍ، كأنه لا يكترث لتهديدها:
, -قوليله، بابايا هيضربه.
,
, اتسعت عيناها في صدمة، وناطحته الطفلة الأخرى الرأس بالرأس، وكالت له من التهديدات المصحوبة ببعض الشتائم لتهينه، فواصل الرد عليهما بصوتٍ تعمد جعله حادًا وقويًا، مما جعل رقية تغادر راكضة بحثًا عن المساعدة اللازمة بعد أن تحول الأمر لمشكلة حقيقية، كانت فيروزة في مرمى بصرها، لهذا بدت الخيار المناسب لإيجاد الحل.
,
, بين الفنية والأخرى، كانت فيروزة تدور برأسها على محيط المكان من حولها، لتتأكد من بقاء ابنة خالها تحت ناظريها، خاصة مع بدء ازدحام السرادق بالمدعوين، تجمدت عيناها على الصغيرة حين رأتها ترنو إليها بخطى راكضة، زوت ما بين حاجبيها، وسألتها في اهتمامٍ ملحوظ يشوبه القليل من القلق:
, -في إيه يا كوكي؟
, التقطت أنفاسها لهنيهة قبل أن تشكو إليها بصوتٍ جمعت فيه بين اللهاث ونهنهة البكاء:.
,
, -في ولد قطع الفيونكة بتاعة الفستان.
, نظرت إلى الأنشوطة الموجودة في راحة يدها، وتناولتها منها، ثم فحصت الثوب بعينين مدققتين قبل أن تخبرها مبتسمة في لطفٍ لتهون عليها الأمر:
, -حبيبتي، خلاص متزعليش، أنا هصلحهالك.
, ظلت رقية على عبوسها وهي تضيف:
, -عمتو هتزعل.
, طمأنتها فيروزة بنفس الأسلوب الحاني:
, -مش هنقولها، وهي مش هتاخد بالها.
,
, من زاويتها استطاعت رقية أن تلمح الطفل الفظ وهو يسير منفردًا، رأته ينظر إليها، قبل أن يخرج لسانه من فمه ليغيظها، فصاحت في تذمرٍ وهي تشير بيدها ناحيته:
, -بصي هو الولد ده، وقال هيضرب بابا كمان.
, هنا برزت عينا فيروزة في غضبٍ مستنكر، واستدارت ناظرة إليه حيث أشارت ابنة خالها، ثم هتفت تتوعده بتحفزٍ واضح:
, -إيه الكلام ده؟ أنا هبهدله، عيب مايصحش يقول كده، لازم نحترم الكُبار.
,
, لم تمضِ دقيقة إلا وكانت فيروزة واقفة قبالة يحيى، حاصرته عند الزاوية، وحدجته بنظرة قاسية، بعد أن اشتاطت غضبًا وغيظًا من تصرفه الفظ، بدأت في تقريعه على سوء فعله؛ لكنه تجاهلها، وأخذ يركل كومة من التراب أسفل قدمه ليبعثره. تصاعد الحنق بداخلها أكثر، وهتفت صارخة في وجهه:
, -ينفع تعمل كده في فستانها؟
, بفتورٍ علق عليها:
, -مكونتش أقصد.
, هدرت به بتشنجٍ وهي تستخدم يدها في التلويح:.
,
, -اللي مايقصدش يعتذر عن الغلط اللي عمله، مش يقول كلام وحش للأصغر منه.
, وزع يحيى نظراته ما بين هذه الشابة الغاضبة الغريبة عنه، وبين الصغيرة المبتسمة في نشوة انتصارٍ عجيبة، ظهر الكدر في عينيه، وصاح متوعدًا الاثنتين، وهو ينحني بجسده للأمام، ليفر في خفة من حصار ذراعها المفرود قبالته:
, -أنا هاجيبلكم بابا.
, شيعته بنظراتٍ مستشاطة، وردت عليه بصياحٍ قوي:
, -هاته، يعني هخاف منه!
,
, بقيت أنظارها عليه رغم اختفائه في الزحام، ورددت مع نفسها باستهجانٍ:
, -إيه العيال دي؟!
,
, بوجهٍ متوهج بحمرة الغضب، اتجه يحيى إلى أبيه، بعد أن شق طريقه وسط الحشد المتجمهر في السرادق، لم يجد صعوبة في إيجاده؛ لكن الأخير نظر إلى ملامح طفله العابسة بشدة، والقلق يعتريه، خاصة مع تلك النظرة الحانقة التي تطل من عينيه. سحبه بعيدًا عن الصخب المحاوط بهما، وسأله مستريبًا:
, -في إيه يا يحيى؟
, أخبره بعد زفيرٍ حاد، وهو يدير رأسه في كافة الاتجاهات إلى أن حدد بقعة بعينها:
, -الناس اللي هناك دول بيزعقولي.
,
, حملق ناحية الوجهة المُشار إليها، وتابع متسائلاً في تمهلٍ، ليفهم سبب نشوب الشجار قبل أن يبادر بالرد الرادع:
, -عملت إيه؟
, تردد قبل أن يجاوبه كاذبًا:
, -آ، ولا حاجة.
, استشعر دياب من ملامح صغيره المهتزة وجود خطب ما، الحكاية منقوصة، إكمالها يتطلب الذهاب منه إلى الطرف الآخر ومعرفة التفاصيل قبل تقييم الوضع بأكمله، قبض على معصمه، وسحبه خلفه هاتفًا بنبرة حازمة لا ترد:
, -تعالى نشوف الحكاية.
,
, تثاقلت خطوات يحيى وهو يتبعه مجبرًا، فقد أدرك أنه وقع في مأزق بسبب رعونته الطفولية، وتباهيه غير الضروري مع صغيرة لا حول لها ولا قوة، قبل أن يتصاعد لتهديدٍ نزق مع شابة بالغة، الآن عليه تحمل العواقب!
,
, احتدت نظرات فيروزة على الرجل القادم في اتجاهها وهو يجذب معه الطفل المشاغب، الملامح المألوفة لكليهما معًا، بالإضافة لبعض المشاهد غير واضحة المعالم لمواقف سابقة بدأت في اقتحام عقلها، لتذكرها بأنها رأتهما فيما مضى؛ لكنها لا تذكر حاليًا أين تحديدًا، لهذا سعت جاهدة لاعتصار عقلها عصرًا علَّ ذاكرتها تتنشط قبل مجيئهما.
,
, في البداية ساورتها الشكوك وهي تتحدث إلى الصغير، أما الآن مع حضور أبيه فقد تضاعف إحساسها بأنها تعرفهما من مكانٍ ما، تغاضت فيروزة مؤقتًا عن حيرتها، وبدأت بالهجوم أولاً، وأصابع الاتهام موجهة للاثنين:
, -إنت أبو الولد ده؟
, الطباع الحادة للنساء دومًا تكون من نصيبه، لماذا هذا الحظ الغريب معه؟ أمكتوبٌ على جبينه صالحٌ لتنفيس الانفعالات النسائية؟ امتعضت تعبيرات وجه دياب، ونظر لها نظرة مزعوجة وهو يرد مبررًا:.
,
, -أيوه، وأنا كنت جاي عشان آ٣ نقطة
, قاطعته قبل أن يختتم جملته بنفس الأسلوب المهاجم:
, -كويس إنك عارف إنه غلطان، يعني يصح اللي عمله ده؟!
, نفذ صبره من هجومها العدائي تجاهه، وهتف في استياءٍ وهو يرخي قبضته عن رسغ طفله الذي أخذ يُطالع رقية بنظراتٍ فاحصة حادة:
, -إديني فرصة أتكلم بس، هو أنا ملاحقك؟!
,
, هدرت به فيروزة في انفعالٍ؛ وكأن غضب الدنيا قد تجمع في عينيها، غير منتبهة لابنة خالها التي تنظر نظرة خجولة قلقة لهذا الفظ الصغير:
, -أيوه يعني عاوز تحور، وتغلوش على الموضوع، بحيث تطلعه منه زي الشعرة من العجينة.
, ضرب دياب كفه بالآخر معقبًا في استنكارٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، هو أنا لحقت أنطق؟
, ردت عليه في حدةٍ:
, -ما الجواب بيبان من عنوانه.
, صاح ساخرًا في صبرٍ نافذ:
, -يا ربي على الجنان، أنا **** مابيقطعش بيا!
,
, لم يصل الأمر بعد إلى جدالٍ يصُعب حله؛ لكنه أوحى ببوادر صدامٍ شرس، قد يلوح في الأفق، إن استمر على هذا التواتر المتزايد. انتبه تميم لوقوف طاووسه الصلد مع أحد رفيقيه العزيزين، فأسرع في مشيه لينضم إليهما، لم يركز في بادئ الأمر مع الطفلين الواقفين بمحاذاتهما عند كل جانب، واللاذين راحا يتابعان الصراع في صمت مشدوه، كأنهما لم يتسببا فيه منذ البداية.
,
, وقف تميم بينهما متسائلاً في توجسٍ، وقد رأى علامات التحفز والاستهجان على كليهما:
, -خير يا جماعة؟ في إيه يا دياب؟
, ما إن تيقنت من وجود الصلة به، حتى التفتت فيروزة تنظر إلى تميم في غضبٍ، وهتفت تشكو إليه بغيظٍ:
, -شوف صاحبك.
, تحولت أنظاره نحو رفيقه، وسأله متوجسًا:
, -عملت إيه؟
, على الفور نفى أي تهمة عنه بأمارات استهجان ملأت وجهه كذلك:
, -ولا أي حاجة.
, هنا استطردت رقية قائلة، وإصبعها الصغير يشير نحو يحيى:.
,
, -عمو تميم الولد ده بوظلي الفستان!
, أيدتها فيروزة بتحفزٍ واضح وهي تخاطب تميم:
, -سمعت؟
, اتجهت كافة الأنظار نحو يحيى، فزجره والده متسائلاً بنظرة صارمة:
, - يحيى! إنت عملت كده؟
, نكس رأسه في خزيٍ، واعترف بذنبه الصغير مُظهرًا ندمه:
, -مكونتش أقصد يا بابا.
, رفع دياب يده أعلى رأسه ليحك منابت شعره وهو يعلق في لهجة شبه مازحة:
, -يعني الغلط عندنا؟ يادي الكسفة اللي احنا فيها!
, مد يحيى ذراعه للأمام مشيرًا نحو رقية متهمًا إياها:.
,
, -بس هي زعقلتي جامد مع صاحبتها.
, ردت عليه رقية بتجهمٍ كبير وهي تضع يدها المتكورة أعلى منتصف خصرها:
, -وإنت قولت هتجيب باباك يضرب بابا.
, فاقت جملتها حد تصور دياب، فانزعج للغاية من تصرف طفله، ووبخه بصرامةٍ:
, -عيب كده يا يحيى، ماينفعش تقول الكلام ده.
, استمر الصغير في إحناء رأسه حرجًا من سوء فعله، بينما استطرد تميم هاتفًا في هدوءٍ، ليكمل مسعاه في إصلاح ما أفسده الصغار بلهوهم العفوي:.
,
, -يا جماعة حقكوا عليا أنا، احنا ساعة فرح، وماينفعش نزعل.
, شبكت فيروزة ساعديها، وتساءلت بحاجبٍ مرفوع للأعلى:
, -والفستان اللي باظ؟
, أخبرها دياب وهو يضع يده على صدره:
, -عندي، هاجيبلها عشرة بداله.
, نظرت له بترفعٍ قبل أن ترفض عرضه بكبرياءٍ عجيب:
, -لأ شكرًا مش عاوزين إحسان من حد.
, رد دياب مستنكرًا تعاليها المصطنع:
, -إحسان إيه؟ ده تعويض بسيط، وآ٣ نقطة
, قاطعته وهي تدير وجهها للجانب؛ كأنما تنأى عن الحديث معه:
, -مابنقبلش العوض.
,
, خشي تميم من تصاعد الأمور وتعقدها مجددًا، بسبب بعض التوافه، خاصة مع عودة طاووسه المشاكس لتلك النزعة المليئة بالعنجهية، في حضور رفيقه المتحفز دومًا للشجار على أصغر الأمور، لهذا لم يترك الأمر معلقًا، وتحرك في اتجاه خطيبته يرجوها بلطفٍ:
, -خلاص يا أبلة، دول ضيوفنا برضوه.
, هسهس دياب ساخرًا في صوتٍ خفيض متذكرًا لقب زوجته المميز:
, -أبلة تاني!
,
, النظرة المستجدية في عينيه، مع اقترابه الخطير، كانا كفيلان بتخليها عن عنادها، والإصغاء للصوت المنادي في رأسها بتلبية أمره في التو، ترققت نبرتها، ولانت ملامحها المتجهمة بشكلٍ ملحوظ عندما قالت:
, -عشان خاطرك بس..
,
, ابتسم في سعادة لتجاوبها معه، أمعقول ما يحدث بينهما من انسجامٍ يدعو خلايا الجسد للذوبان في إحساسٍ ناعم يفوق الوصف، ربما حظى في هذا الاحتدام العجيب بلحظةِ انتصارٍ خاصة به. أفاق تميم من هيامه اللحظي على باقي جملتها المحذرة:
, -وقول لصحابك تاني مايزعلوش اللي من طرفي.
, لم يستطع دياب منع نفسه من التعليق مازحًا وهو ينظر لطفله نظرة معاتبة:
, -صح، واللي مني مزعلني.
, عبس يحيى أكثر، فواصل والده توبيخه:.
,
, -في حد يعمل كده مع الحلوين؟
, حاول الصغير التبرير له:
, -و**** يا بابا آ٣ نقطة
, هتف مقاطعًا في حسمٍ:
, -بابا إيه دلوقتي؟ اتفضل قولها آسف، ولم الدور.
, أيده تميم في الرأي:
, -بالظبط.
,
, استحسنت كذلك فيروزة هذا التصرف، وقامت بدفع ابنة خالها في رفقٍ لتقف أمامها، وراحت تنتظر إقبال يحيى عليها ليُبدي ندمه على ما اقترف. أمسك التردد بخطوات الصغير، وتلكأ وهو يسير نحو الأمام، تسمرت قدماه على بعد خطوة من رقية، ونظر إليها بوجهٍ غير مبتسم وهو يقول:
, -سوري.
,
, ثم أحنى رأسه على وجنتها ليقبلها في سرعةٍ وسط دهشة الجميع، ثم انسحب مختبئًا خلف والده، تلون وجه فيروزة بالغيظ، وصاحت في إنكارٍ شديد وهي تجذب ابنة خالها إلى جوارها:
, -إيه ده؟
, حمحم دياب هاتفًا في استهجانٍ زائف، وهو يبذل جهده لإخفاء ابتسامته:
, -أنا قولتلك صالحها، مش بوسها، عيب كده.
, برر له يحيى تصرفه بعفويةٍ وهو يرفع رأسه لينظر إليه:
, -ما إنت قولتلي قبل كده الحلوين لما نزعلهم يتصالحوا ببوسة.
,
, حك دياب مؤخرة عنقه بيده متمتمًا في خفوتٍ حرج:
, -هو أنا قولتلك كده؟!
, احتدت نظرات تميم ناحية رفيقه، ولكزه في جانب ذراعه بخشونةٍ طفيفة قبل أن يسخر منه بوجه منقلب؛ لكنه لا يرتقي لحد الضيق:
, -ونعم التربية والأخلاق٣ نقطة!
 
٤٨

مسح بنظراتٍ ثاقبة المكان من حوله وهو يطل برأسه من سيارة الأجرة التي استقلها، ثم أشار إلى السائق بالتوقف عند إحدى الزوايا، فامتثل الأخير لطلبه، وأبطأ من السرعة، ما إن ترجل منها حُسني حتى أعطاه أجرته، دون أن يترك له الفائض. مشى قليلاً إلى أن وصل عند ناصية الشارع الرئيسي، سحب نفسًا أخيرًا من سيجارته التي أوشكت على الانتهاء، ثم ألقى بعقبها أسفل قدميه ليدعسه.
,
, خطا للأمام بحذرٍ، وعيناه ترقبان المنطقة بتركيز، ساعده هدوء الأجواء على التجول بحريةٍ، ظل يسير بحيطةٍ حتى بلغ بناية خليل، شمل محيطه بنظراتٍ فاحصة سريعة، فلم يجد أحدهم في الجوار، رفع رأسه للأعلى ليلقي نظرة على الواجهة، كانت إلى حدٍ ما معتمة، مما منحه الشعور بالأمان للإقدام على خطته، تسلل إلى الداخل، عابرًا المدخل بسهولةٍ، بعد أن وجد البوابةِ غير موصدة، كان السكون تامًا حوله، ومع هذا تنامى شعوره بالحقد وهو يصعد الدرجات للطابق العلوي؛ حيث شقة خليل، فهناك موطن الخبيئة المنتظرة، أو كما يتوهم. كز على أسنانه يتوعده وهو يدس المفتاح المنسوخ في القفل:.
,
, -هاخد اللي ليا منك، حتى لو فيها موتي، ما أنا كده كده ميت!
, لم يجد صعوبة في فتح الباب الخشبي، وطأ على مهلٍ وهو ينير كشاف هاتفه المحمول ليستكشف خطواته، أوصد الباب خلفه، وبدأ في مسعاه الذي جاء من أجله، السرقة!
,
, الأجواء المشحونة ببوادر التوتر تبددت بالتدريج، إلى أن تحولت إلى أخرى لطيفة مرحة، يطغى عليها المزاح والتعارف الودي، كأن شيئًا لم يكن، وهذا ما أراد تميم الوصول إليه. نظرت فيروزة بتركيز لا يخلو من تحفز إلى وجهه المبتسم وهو يتساءل في حذرٍ:
, -ها نقول صافي يا لبن؟
, أضاف عليه دياب مشيرًا بيده إلى صدره:
, -الغلط عندنا، واحنا طالبين السماح، ده حتى العفو عند المقدرة.
,
, سكتت لحظيًا كأنما تمنح نفسها الفرصة قبل أن تبدي قبولها بهذا التصالح النادم؛ لكن الصغير يحيى قال فجأة، وهو يتطلع في ابتسامة عابثة إلى وجه رقية، وأيضًا مستخدمًا سبابته في الإشارة ناحيتها للتأكيد أنه يقصدها:
, -لو لسه زعلانة، أبوسها تاني يا بابا؟
,
, خرجت شهقة مصدومة من بين شفتي فيروزة، أتبعها نظرة صارمة من عينيها إليه، ليقوم بعدها دياب بإخراس طفله بوضع كامل راحته على فمه هاتفًا في لهجةٍ مزجت بين الجد والهزل:
, -اتلم ياض، كده هنلبس في الحيطة!
, توجس تميم خيفةً من تجدد التوتر ثانيةً، فأدار ظهره نحو رفيقه وابنه، ليحجب الرؤية عن فيروزة، واستطرد يقول في نبرة شبه راجية:
, -خلاص حصل خير، مش كده؟
,
, ضاقت نظراتها ناحيته، فاتسعت ابتسامته المهذبة والمستجدية، لم تكن لترد طلبه، فأومأت برأسها وقد لانت تعبيراتها المشدودة، تنفس الصعداء، واستدار يواجه رفيقه معقبًا:
, -يبقى حليب يا إشطا.
, أردفت فيروزة تحذر الصغير وهي تلوح بإصبعها:
, -يا ريت ده ما يتكررش تاني، ماشي؟
, تساءل دياب مستفهمًا:
, -إيه اللي مايتكررش؟
, أجابته بشفاه مقلوبة، وهي ترمقه بتلك النظرة غير الراضية:
, -الحركات اللي بتعلمها لابنك، يبوس البنات، عيب كده.
,
, حمحم معلقًا بوجهٍ مال للجدية:
, -في دي معاكي حق٣ نقطة
, لكن سرعان ما غطته بسمة ساخرة وهو يختتم جملته؛ كأنما يريد إغاظتها كردٍ مناسب لأسلوبها السمج في إدارة الحوار:
, -بلاش بوس، نخليها أحضان.
, جحظت عيناها مذهولة من تعليقه، والتفتت ناظرة إلى تميم تلومه:
, -سامع صاحبك؟
, هتف على الفور مصححًا، والقلق يملأ وجهه:
, -بيهزر، وربنا بيهزر، ده إنتي مش عارفة دياب، غاوي يقلب الجد هزار.
,
, حاوط دياب كتف طفله، ورسم ابتسامة مصطنعة على وجهه وهو يخاطبها:
, -عمومًا احنا اتشرفنا يا، أبلة.
, تعمد الضغط على الكلمة الأخيرة كأنما يغيظها باللقب لا يوقرها، وقبل أن تفكر في الهجوم اللفظي عليه، استدار ساحبًا ابنه معه وهو يمتدحه بنبرة شبه هازئة:
, -تعالى يا رافع راس أبوك، يا اللي جالبله وجايبله الكلام.
, رغم سيره مع أبيه، إلا أن يحيى أدار رأسه نصف استدارة لينظر إلى رقية، لوح لها بيده مودعًا إياها:.
,
, -باي يا حلوة.
, بادلته رقية التلويح، فوكزتها فيروزة في جانب ذراعها وهي تنهرها:
, -بس يا كوكي، كده عيب.
, نكست الصغيرة رأسها في خجلٍ، في حين تكلم تميم قائلاً بلطافةٍ وهو يشير بعينيه نحو رفيقه وابنه اللذين ابتعدا عنهما:
, -لذيذ أوي يحيى، صح؟
, نظرت له في غير اقتناعٍ، قبل أن تنطق بتجهمٍ ساخر:
, -أه فعلاً.
, وجه تميم سؤاله للصغيرة، وهو ينحني للأمام ليبدو قريبًا من مستوى نظرها:
, -لسه زعلانة يا كوكي؟
,
, قالت نافية وهي ترمش بجفنيها:
, -لأ.
, استقام واقفًا، ثم أسبل عينيه نحو طاووسه المزعوج متسائلاً في صوتٍ تعمد جعله خفيضًا:
, -وإنتي يا أبلة؟
, منحته نظرة غامضة لا يتبعها أي تعليق، فاستطرد يهمس لها بنبرة ذات مغزى:
, -على فكرة، لو لسه مضايقة أنا ممكن أصالحك زي يحيى!
,
, مجرد تخيل الفكرة في رأسها، ومحاولته تقبيلها في وجنتها، جعل قلبها يخفق، وعيناها تتسعان، بل إنه حفز خلاياه، وجعل رعشة قوية تصيب جسدها، تراجعت خطوة للخلف في تلقائية، ورفعت سبابتها تحذره بتشددٍ غير ممازح على الإطلاق:
, -إياك، أنا مش بحب كده!
, أصابه الندم لرعونته، واعتذر في لباقةٍ:
, -حقك عليا، ده أنا بهزر وربنا٣ نقطة
, أبقى عينيه عليها وهو يتابع الكلام بحزنٍ زائف:
, -وبعدين أنا عارف نفسي، من يومي بائس، ومغضوب عليا.
,
, اهتزت شفتا فيروزة عن بسمة خائنة، وأدتها في مهدها لتبدو جادة؛ لكنه التقطها، فقال مبتسمًا:
, -بس مسير المايلة تتعدل، والدنيا تحلو معايا.
, داعبت كلماته فؤادها، وقاومت تأثيره اللذيذ عليها، ولئلا يبدو عليها تجاوبه مع السلس اللين من عذب عباراته، أشاحت بوجهها بعيدًا، وقالت بلهجةٍ جادة وهي تشبك يدها في كف ابنة خالها:
, -يالا يا كوكي عشان نتفرج على الزفة.
,
, شيعهما بناظريه إلى أن انغمسا وسط الحضور، فراح يردد مع نفسه في تهكمٍ، ودون أن تفتر ابتسامته:
, -عقبال زفتنا، اللي شكلها هتكون واحنا بنتخرج من الدنيا!
, رفع أنظاره للسماء، وأخذ يدعو المولى بصدقٍ:
, -يا رب يسرلي الحال، هون باللي فاضل، يا كريم!
,
, استعان بماسكةٍ معدنية ليتمكن من تحريك حجر الفحم على أرجيلته، فتزداد القطع توهجًا، وينبعث الدخان من خرطومها أكثر كثافة وقوة. حملقت سعاد في وجه ابنها الذي بدا مغايرًا عما اعتادت أن تراه، واصلت التحديق به بنظراتٍ مطولة مليئة بالحسرة والشعور بالخذلان، ظنت أنها تُطالع وجهًا شريرًا غير وليد رحمها، شخصًا آخرًا بدلته الأيام، وحولته لمسخٍ لا يعرف سوى القسوة والنكران. دنت منه وشملته بنظرة أخرى يكسوها الحزن والقهر، ولدهشتها بادلها النظرات المستخفة، لم يطرف له جفن، ولم يكترث لأمرها، بل إنه جلس في سموٍ على المصطبة الخشبية، كأنه يجلس على عرش سبأ. لفظت كتلة مشحونة من الهواء من صدرها الملتاع، وسألته بصوتٍ متلجلج:.
,
, -عملت كده ليه يا فضل في أبوك؟
, أدار وجهه نحوها، ونظر إليها في صمتٍ، فتابعت بنفس النبرة المتألمة:
, -هو يستاهل منك كده؟ بقى بعد العمر ده كله تبهدله في آخر أيامه؟
, ظهر الاختناق على صوتها وهي تواصل لومها:
, -هي دي وصية **** ليك؟ تحجر على أبوك؟!
, وكأنه لم يقترف جرمًا يلومه عليه أهل الأرض جمعاء، نظر لها شزرًا، ثم طرد دخان الهواء الحارق من رئتيه قبل أن يرد موجزًا بتعالٍ:
, -حقي!
,
, سألته في انفعالٍ بدأ في التزايد جراء طريقته المستفزة:
, -حق إيه؟ ده تعب أبوك وشقاه؟ عايز تاخده منه عافية؟ هو ده اللي اتربيت عليه.
, بجحودٍ مُطعم بصنوف القسوة المؤذية للروح أخبرها:
, -أه هاخده عافية وبالقوة، طالما قِبل إنه يبهدلني ويطردني من داري٣ نقطة
, احتدت نظرات سعاد نحوه، وحدجته بنظرة غاضبة اشتاطت مع قوله الفج:.
,
, -البيت ده معمول بفلوسي اللي كنت ببعتهالكم كل سنة، الطفح اللي كان بيتجاب من فوايد فلوسي اللي شايلها في البنك، إخواتي اللي اتجوزوا واتبغددوا كان من شقايا٣ نقطة
, تدلى فكها السفلي في صدمةٍ، بينما أكملت فضل في عدائيةٍ:
, -ده أنا صرفت وأنا في الغربة أد ما صرف هو مليون مرة، فيها إيه لما أحافظ على الفلوس اللي فاضلة بدل ما تضيع.
,
, تحولت ملامحه للشراسة؛ لكن نبرته انخفضت إلى حدٍ كبير، مستحضرًا في ذهنه مشاهد إذلاله في حضرة الغرباء لأكثر من مرة، فبدا وكأنه يُحادث نفسه بصوتٍ لم يتردد سوى داخله:
, -ما كفاية الذل اللي شفته، واللي راح مني عشان أفدي رقبتي.
, حسنًا لن تنكر سعاد أن مساهماته المادية قديمًا في تيسير شئون المنزل المالية، فاقت بكثير ما كان ينفقه زوجها، خاصة في أوقات تزويج إخوته، ومع ذلك عنفته في نبرةٍ مالت للحدية:.
,
, -أنت ومالك لأبيك، هتستخسر كام قرش ادفعوا؟ ما هو كله في الآخر ليك إنت وإخواتك بعد عمر طويل!
, هدر بها في حقدٍ، وقد اصطبغت حدقتاه بحمرة الحنق:
, -كام قرش! دي ألوف٣ نقطة
, كانت على وشك الرد عليه والاعتراض مرة أخرى؛ لكنه أسكت لسانها بتهكمه الصارخ:
, -بقولك إيه اللي متفهميش فيه، ماتكلميش فيه!
, أطل الكدر من عينيها حسرة على ما أنجبت، وعاتبته في استياءٍ مضاعف:
, -بتهين أمك يا فضل؟ دي أخرتها؟
,
, رمقها بنظرة احتقارٍ قبل أن يدس خرطوم الأرجيلة في فمه، فاستمرت سعاد في زجره:
, -طب اعمل حساب الناس، هايقولوا عليك إيه دلوقتي؟
, لوى ثغره هاتفًا في ازدراءٍ، بنبرة جعلها جافة صلبة كأنها زئير غاضب:
, -هو حد كان بيطلع من جيبه ويديني؟!
, ردت محتجة مجددًا على سلوكه المشين، والمرفوض بكل أشكاله:
, -بس إنت كده صغرت آ٣ نقطة
, قاطعها في خشونة غليظة وهو يرفع كفه أمام وجهه كإشارة لإسكاتها:
, -ملكيش دعوة، أنا حر في مالي وما أملك!
,
, ضربت كفها مرددة في تحسرٍ مقهور، وعيناها ترمقاه بنظرة العاجز، غير القادر على التصرف في شيء:
, -يا حزني على ما جابت بطنك يا سعاد!
, نهرها على بدء وصلة النواح السخيفة تلك بصياحه الجهوري:
, -ما كفاية ندب وتقطيم، دماغي ورمت.
,
, أخذت العبرات تتجمع في طرفيها أسفًا على ما أفنت عمرها في تربيته، غادرت المكان وهي تغمغم في يأس مقهور؛ لكن ذلك لم يهز شعرة من رأس ابنها الجاحد، بل زاده عنادًا وإصرارًا على المضي قدمًا في شروره:
, -من هنا ورايح أنا صاحب الكلمة٣ نقطة
, أظلمت نظراته، وغامت تعابير وجهه وهو يردد لنفسه بصوتٍ مسموع:
, -أنا الآمر الناهي في البيت ده!
,
, بعد أن انتهى العرس، وغادر أفراد عائلتها باحة البيت الأمامي، توارت هاجر بداخل حجرة نومها بمنزلها الذي أشرفت على إعداده بالكامل وفق رغباتها، اتجهت في خطواتٍ متهادية نحو مقعد تسريحة المرآة، وهي تحمل بيديها جزءًا من ثوب عرسها، لئلا تتعثر فيه، شعرت بالتوتر يجتاحها، بنفس شعور الرهبة يتفشى فيها، ربما امتلكت من الخبرة الزوجية ما يؤهلها لتيسير أمورها في تلك الليلة الخاصة بحنكة وحكمة، ومع هذا بدت خجولة عن المعتاد. احتفظت بأفكارها المتخبطة لنفسها، وغرقت في الصمت، فلم تشعر بوجود سراج حولها، تطلع إليها الأخير مبهورًا بجمالها، الحلم غدا حقيقة واقعة، ويا له من شعور أن تذوب في أحضان معشوقك!
,
, لم يتعجل في الظفر بما تخيله مؤخرًا، ولجأ للحوار العادي لإذابة الجليد بينهما، فقال في جديةٍ وهو ينزع رابطة عنقه المزعجة:
, -مش كنا جيبنا سلطان معانا؟
, نظرت هاجر إلى انعكاسه في المرآة من زاويتها، وخاطبته في نبرة أظهرت حرجها قليلاً:
, -و**** كان نفسي، بس أمي صممت يبات النهاردة بالذات معاها.
, أخبرها بإصرارٍ وهو يخلع عنه سترته:
, -إن شاء**** من بكرة هاجيبه، ابني مايبتش برا حضننا.
,
, أثلجت عباراته العازمة صدرها، وبددت أي مخاوفٍ كانت تراودها بشأن علاقته المستقبلية برضيعها إن اكتملت الزيجة على خير، حينئذ التفتت إليه ناظرة في عينيه مباشرة، وسألته بتلهفٍ وهي تنهض من مقعدها:
, -بجد يا سراج؟ إنت معتبره ابنك، ولا ده كلام بتراضيني بيه عشان تجبر بخاطري؟
, دنا منها قائلاً بتأكيد، وعيناه لا تنظران إلا لوجهها الناعم:
, -وربي المعبود أنا مابعتبروش إلا ابني من صلبي، والأيام هتثبتلك ده.
,
, أسبلت عينيها إليه، وقالت في ابتسامة رقيقة:
, -مصدقاك يا سراج.
, امتدت يده لتمسك بكفها، شعر بملمس بشرتها على جلده، وراحت يده الأخرى ترتفع للأعلى لتتلمس وجنتها الساخنة، أحس بفيضٍ من المشاعر المتأججة تغمره، تنهد بعمقٍ وهو ما زال يتأملها في انتشاء، ليقول بعدها في صوتٍ هامس، له تأثير عجيب في آسر حواسها:
, -بس إيه الحلاوة دي، قمر 14.
,
, خفضت من رأسها خجلاً من نظراته الساهمة، وتكلمت بتلعثمٍ طفيف وهي تنسحب بلطفٍ من أمامه:
, -بلاش تكسفني بكلامك الحلو.
, تبعها بنظراته المتحرقة شوقًا لارتشاف رحيقها المغري وهو يُحادثها:
, -هو أنا لسه قولت ولا عملت حاجة؟
, سارت نحو الدولاب، وادعت انشغالها بالتطلع إلى ما داخل ضلفتها، قبل أن تقول بلهجةٍ شبه جادة:
, -لا أنا تعبانة، ويدوب هاكل لقمتين وأنام.
, عاتبها في نبرة لينة:.
,
, -كده على طول، مش هنتسامر سوا؟ وناخد وندي؟ ده أنا مشاعري قايدة نار
, استدارت لتواجهه، وألصقت ظهرها بالضلفة الخشبية، ثم علقت في نعومة، كأنما تدلل عليه:
, -بكرة، ولا بعده.
, رفع رأسه مستغربًا جملتها قبل أن يهتف في حسمٍ:
, -بكرة ولا بعده! وربنا ما يحصل.
, -عيب يا سراج!
,
, قالتها بدلالٍ مثير، كأنما رددت كلامها بحروفٍ غير الحروف العادية، تلك الحروف التي تطلق إشارات الرغبة والنشوة في خلايا الجسد الساكن، تبعها زوجها في لهفة، والشوق يهتاج في وجدانه، أغلق الباب ورائه إيذانًا ببدء ليلة دافئة ستعصف بكيانها مشاعره الجارفة، وتنقلها إلى عوالمٍ حميمة تذوب فيها مرارًا وتكرارًا، متنعمة فيها بسحر الحب وإغوائه.
,
, على فراشه العتيق، وبين وسائده القديمة، استلقى إسماعيل بجسده الذابل وهو في حالة وهن شديدة، كأنما بلغ من العمر أرذله في بضعة ساعاتٍ، لم يأتِ بخاطره أبدًا أن يُقدم من جاء من صلبه على ارتكاب هذا الفعل المشين، وعلى حين غرة ليقسم ظهره، ويفتت ما بناه لسنواتٍ. الجحود وقسوة القلب سمتان في غاية البشاعة، إن اجتمعتا في نفس أحدهم، خاصة المظلمة، فلن ترى منه إلا السواد الأعظم، والبغض الذي لا يضاهيه شيء!
,
, وها هو قد اختبر بنفسه ظلام ابنه وإجحافه غير المنصف معه، كأنه عدو مقيت له لا والده الذي نشأ في كنفه. تساءل إسماعيل بغير صوتٍ، وهو يتطلع بعينين فارغتين لنقطة وهمية أمامه:
, -طب ليه يا فضل؟ أنا قصرت معاك في إيه؟
,
, الخذلان المصحوب بكسرة النفس جعل قلبه يعتصر ألمًا على ما أفنى في ولدٍ لم يكن إلا طالحًا، ناكرًا لكل شيء، حتى الإحسان! في النهاية كان كمن أنفق ماله على حديقة ظن أنها –في نهاية المطاف- ستصبح غناء، مليئة بما لذ وطاب؛ لكنها باتت خاوية على عروشها، فضاع ماله وجهده سدى!
,
, تزايد شعوره بالوهن يغزو جسده الضعيف، تخشبت أطرافه، وصار عاجزًا عن تحريكها قيد أنملة، بل إنه فقد الرغبة في هذا، كان على مشارف الموت بنظراته الخالية من الحياة، ووجهه الشاحب. فاضت من عينيه التعيستين عبرات احتوت على القهر، والحسرة، والألم، والانكسار. أحنى إسماعيل رأسه على صدره في خوارٍ مليء بالذل، وهذا الصوت ما زال يرن في عقله بحزنٍ عميق:
, -قلبي وربي غضبانين عليك، أنا مش مسامحك.
,
, ارتجفت شفتاه وهو يهسهس بصوتٍ متذبذب:
, -منك لله يا فضل، عمرك ما هتشوف طيب٣ نقطة
, اختنق الصوت المتقطع في جوفه وهو ما زال يردد:
, -روح **** لا يسامحك ولا يعفو عنك.
,
, كانت هذه كلماته الأخيرة، قبل أن يصير صوته حبيس جوفه، تقلصت عضلات وجه إسماعيل بشدة، جراء الألم الشرس الذي باغت عضلة قلبه المفطور، مزقته الوخزات الحادة، وانتشر تأثيرها في صدره، شهقات مكتومة بدأت تصدر منه قبل أن تتحول لخرخرات متقطعة. أرجع رأسه للخلف محاولاً التقاط أنفاسه؛ لكن لا جدوى، انهارت أجهزته الحيوية، وراح الجسد المعذب في صمت يستسلم لسكرات الموت، وما هي إلا بضعة ثوانٍ وارتخت كافة الأطراف، وثقل الرأس وتمايل للجانب معلنًا عن مفارقة الروح للجسد الفاني، ليتبع ذلك دمعة أخيرة نفرت من عين انطفأ نورها نهائيًا٣ نقطة!
 
٤٩

مكمن الأسرار الهامة، جرى في المعتاد أن يكون بداخل غرف النوم؛ حيث تتواجد الخزائن، والأدراج الموصدة، لهذا كانت وجهته منذ البداية محددة، فقط فتش –باستخدام إضاءة كشاف هاتفه المحمول- عن الطريق إلى الحجرة، وجد ضالته بغير مجهودٍ يُذكر، ورغم كون الأثاث مغطى بالملاءات والأغطية البيضاء لئلا تكسوه الأغبِرة، إلا أن المعالم الأساسية لكل قطعة كان بارزًا. فتح حُسني الباب، ودار بالإنارة المُركزة على الأركان في مرة سريعة، قبل أن يُعاود الكرة ثانية في تمهلٍ ليحدد موضع الدولاب.
,
, سار ناحيته بخطواتٍ مهرولة، أمسك بأول ضلفةٍ ليفتحها، ولكون الدولاب قديمًا، فقد كان موصدًا بالمفاتيح، جذب اللوح الخشبي في عنفٍ ليتمكن من فتحه؛ لكنه فشل، سلط الضوء على باقي الضلف متوقعًا تواجد مفتاح منسوخ في واحدة منهن؛ لكن دون جدوى! ضغط على أسنانه في غيظٍ، وهسهس لاعنًا:
, -إيه النحس ده؟ طب هفتحهم إزاي؟
,
, أعمل عقله بتركيزٍ محاولاً الوصول لحلٍ عاجل يُمكنه من فتح الدولاب، فكر في التفتيش في الأدراج، إذ ربما وضعت المفاتيح بواحدٍ منهم، بدأ مهمة البحث الدقيق، غير مكترثٍ بترك بصماته في الأرجاء، لحسن حظه وجد ما يرغب بالدرج الأخير في تسريحة المرآة، كومة من المفاتيح المطابقة لتلك المستخدمة في الدواليب. التقط الكمية كلها، واتجه عائدًا إلى الدولاب، يجرب واحدًا تلو الآخر إلى أن تمكن من فتح جميع الضلف، وشعوره بالانتشاء يزيد بداخله.
,
, لم يهتم حُسني بإعادة كل شيء إلى مكانه، بل بدا أكثر تصميمًا على إظهار تواجده بالشقة. انتقل من رف لآخر يفتش في كل ركنٍ وفي عمق كل زاوية باحثًا عن أيٍ من الأوراق التي تثبت تورط خليل في تزوير مستندات تسفير الشباب بصورة غير شرعية، أو أي دليل لأمر غير قانوني قد ارتكبه سابقًا لإدانته، وبالتالي تكون وسيلته في المساومة الجديدة، ومن منطق القوة!
,
, كان في غرفته وحيدًا، مهمومًا، متباعدًا عمن حوله، غير منشغل بالثرثرات الجانبية عن أجواء العرس الذي حضره بلا ذهنٍ أو تركيز. جال بخلد خليل أن يكون حُسني قد قام بزيارة حمدية في محبسها، ولربما عرف منها بعض التفاصيل الدقيقة مما لم يُفصح عنها له، انتقامًا منه، لكونه هجرها بعد جريمتها النكراء، لهذا زارها سرًا دون أن يُعلم أحدهم بهذا الأمر، مستخدمًا التصريح الذي كان بحوزته صبيحة اليوم التالي لتهديده، مدعيًا ذهابه إلى العلاج الفيزيائي.
,
, عاد بذاكرته إلى حيث كان اللقاء، حمدية بعباءتها الحمراء، إيذاءً بقرب تنفيذ حُكم الإعدام بها، وهو بعكازيه واقفًا في انتظار قدومها، قابلته بنظرة بها كل كره الدُنيا، وكأنه من استحثها على إلقاء نفسها في التهلكة، وإهدار أرواح الأبرياء ظلمًا وبهتانًا. بدت ملامحها أكثر وجومًا، ونظراتها أكثر عدائية، استطردت تخاطبه قائلة في ازدراءٍ بعد أن تُركت بمفردها معه في تلك الحجرة الرمادية الكئيبة:.
,
, -دلوقتي افتكرت تجيلي، وأنا بودع الدنيا؟
, حاول الاستقامة في وقفته، وأخبرها بتلعثمٍ:
, -إنتي اللي اخت، رتي يا حمدية ط، ريقك.
, صرخت به في عصبيةٍ:
, -وأنا عملت كده ليه؟ مش عشان خونتني؟ اتجوزت وعشت حياتك، وحرقت قلبي على نفسي، ومن بعدها عيالي.
, برر مدافعًا عن نفسه بلهجةٍ جاهد أن تكون غير مهتزة:
, -أنا مقص، رتش معاكي في حاجة، أنا كنت بعام، لك بما يرضي ****، ك، ل اللي كنتي بت، عوزيه كنتي بتلاقيه وزيادة.
,
, احتقن وجهها، وتحول لمزيدٍ من الإحمرار وهي ترد عليه:
, -ده حقي، وحق ولادي.
, رمقها بنظرة متأففة قبل أن يعقب في أسفٍ:
, -هت، فضلي زي ما إنتي، مش ش، ايفة إلا نفسك.
, لم تتحمل تلك نظرة الإشفاق في عينيه، فقست عيناها أكثر وهي تسأله:
, -جاي ليه يا خليل؟
, صمت ونظر إليها في تمعنٍ، فأكملت صراخها:
, -تشمت فيا؟ تشوفني قبل ما رقبتي تتعلق على حبل المشنقة؟
, انقلبت تعابيرها بشدة، وتابعت في اتهامٍ صريح:.
,
, -ولا تلاقي أختك وبناتها السو موصينك تعمل كده، ما إنتو كلكم بتكرهوني.
, دافع عن شقيقته قائلاً:
, -هما أح، سن منك، رغم ظلمي ليهم س، امحوني، وما تغيروش معايا.
, هتفت مؤكدة في حرقةٍ متهكمة:
, -أه طبعًا، لازم يسامحوك وياخدوك تحت جناحهم عشان يلهفوا كل حاجة في الآخر، ما إنت زي ما أنا شايفة رجليك والقبر.
, حدجها بنظرة غير نادمة، وقال بحدةٍ طفيفة:.
,
, -أنا كنت مف، كرك اتغيرتي، ن، دمتي على اللي عاملتيه، طالبة السم، اح قبل ما تقابلي وجه كريم.
, ضحكت في حقدٍ قبل أن تبتر قهقاتها المريضة لتخبره:
, -أطلب السماح منك إنت؟
, اشتاطت نظراتها على الأخير، وصرخت في تشددٍ:
, -لأ، مش هنولهالك يا خليل.
, تلون وجهها ببغضٍ يتضاعف مع كل لحظةٍ وهي تصرح له بشراسةٍ:.
,
, -تعرف أنا جزء من ناري برد لما قتلت مراتك، ولو رجع بيا الزمن كنت قتلتها بدل المرة عشرة، والمسخوطة بنتك اللي عايشة في نعيمي وحق ولادي اللي راحوا هدر، لو كنت فضلت برا كنت دبحتهالك، حسرتك عليها.
, عجز عن الرد عليها من صدمته، وحاول مجاراتها مرددًا:
, -إنتي بني آدمة آ٣ نقطة
,
, لم تعطه الفرصة لإكمال جملته، حيث انقضت عليه، بكل ما فيها من عدائية، شراسة، غضب، تريد الإطباق على عنقه، وخنقه، قست يداها على مجرى تنفسه وهي تتوعده:
, -أنا هقتلك إنت كمان، هي موتة ولا أكتر.
, باغتته الصدمة، فانتفض مفزوعًا، وترك عكازيه يسقطان على الأرض ليتسببا في إصدار صوتٍ عنيف لافت للأنظار، جاهد لتحرير رقبته منها، انحبست أنفاسه مع زيادة ضغطها المؤلم عليه، بالكاد انفلتت منه استغاثة متحشرجة:
, -الح، قوني.
,
, مع التطور المتلاحق في أقل من بضعة ثواني تدخل أفراد الأمن لتخليصه من براثنها، وإبعادها عنه، قال أحدهم كأنما ينهرها في غلظةٍ:
, -سبيه يا حمدية، ابعدي عنه.
, وتولت سيدتين تعملان في حراسة سجون النساء تكبيلها؛ لكنها صاحت في جنونٍ وهي تتلوى بجسدها للإفلات من القبضة الأمنية:
, -هموته، مش هاسيبه يعيش.
, صاح مسئول المكان بلهجته الآمرة:
, -خدوها من هنا.
, استمرت حمدية في صراخها المهتاج وهي تُجر جرًا إلى الخارج:.
,
, -هموتك يا خليل، هموتك وأقهرك على كل حاجة في حياتك.
, ارتخت أطراف زوجها في ذهولٍ، فألقى بثقله على المقعد القديم، محاولاً استجماع شتات نفسه، ولسان حاله يردد:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، لا حول ولا قوة إلا ب****.
, استفاق من هذا الشرود القاسي على شعوره بالثقل والضيق الشديدين، أخذ يخاطب نفسه في ندمٍ:
, -أنا كنت إزاي معمي كده ومش شايف السواد اللي جواها؟!
,
, من حديثه معها لم يتأكد إن كانت متورطة مع حُسني في تحويل حياته إلى جحيمٍ، فظل على وضعه الحائر، والهواجس المخيفة تسيطر على كامل تفكيره.
,
, بكل ما لذ وطاب، امتلأت مائدة السفرة بأصناف الطعام المطهو منزليًا، وكذلك المُعد في أحد المطاعم الشهيرة، ليحظى الزوجان بوجبة عشاء دسمة وسخية في ليلة عرسهما المميزة. بعد أن تذوقا بوادر السعادة والاقتراب الحميمي، جلس كلاهما عند الطاولة، ترأس مقدمتها سراج، بينما جلست زوجته على ميمنته، وراحا يتناولان المأكولات باستمتاعٍ لا يخلو من ضحكٍ وملاطفات مرحة، أججت من لهيب الشوق بداخلهما، وعززت من عمق الرغبات بينهما.
,
, أدار سراج طبق الدجاج المشوي للجانب، ليتمكن من نزع قطعة من اللحم الشهي بإصبعيه، ثم مد ذراعه نحو زوجته، وقرب اللقيمة من فمها قائلاً بإصرار تشوبه المحبة:
, -تعدميني لو مكالتيش اللقمة دي.
, أرجعت رأسها للخلف لتتجنب ملامسة الطعام لشفتيها، ورفضت بتهذيب وهي تشير بيدها:
, -و**** شبعت، مابقتش قادرة.
, ألح عليها بعينين تُطالعان إياها في هيام:
, -طيب قطمة صغيرة، حتة بس.
,
, استسلمت أمام نظراته السارحة في ملامحها بولهٍ؛ فأشعرها بتأمله الحالم، بأنه يُجالس إحدى ملكات جمال الكون، وقالت في نعومة متدللة:
, -دي وخلاص.
, فتحت فمها لتأكل اللقيمة من يده، ووجهها يبتسم، فاستطرد معلقًا في تحمسٍ:
, -ألف هنا.
, انتظرت هاجر لأقل من دقيقة حتى مضغت الطعام وبلعته، لتنهض من مقعدها، ويداها تجمعان الصحون المتسخة والفارغة. نظر لها زوجها مدهوشًا، وسألها:
, -إنتي هتعملي إيه؟
,
, أجابته في تلقائيةٍ وهي تنظر إليه:
, -هلم الأطباق، وأروق السفرة.
, نهض بدوره من مقعده، وأرجعه للخلف، ثم أمسك برسغها، ومنعها من إتمام عملها قائلاً بلهجةٍ غير ممازحة:
, -لأ سيبي كل حاجة في مكانها، مش عاوزك تعملي حاجة نهائي.
, اعترضت عليه بحاجبين معقودين:
, -ليه بس؟
, سلطت أنظارها على الأطباق المفرودة، وتابعت:
, -ده ربع ساعة وهاكون منضفة كل حاجة.
, أبعد سراج يدها قبل أن تمسك بالصحن، وقال في إصرارٍ:.
,
, -النهار ليه عينين، وفي اللي هايجي يريحك.
, حاولت المناص من قبضته اللطيفة، وتمسكت برأيها قائلة:
, -أنا مبحبش حد غريب يخش بيتي..
, تطلع إليها في تعجبٍ، وهي ما تزال تُخاطبه موضحة أسبابها:
, -ده غير الناس لو جت تباركلنا في الصباحية هايقولوا إيه والبيت متبهدل كده؟!
, مسح المكان بنظرة سريعة قبل أن يحتج:
, -فين البهدلة بس؟
, ردت مشيرة نحو مائدة الطعام:
, -هنا أهوو.
,
, ارتفعت يده لتلمس وجنتها في نعومةٍ قبل أن يخفض صوته ليكلمها بصوتٍ أقرب للهمس:
, -طب وهما أصلاً مالهومش دعوة باللي بيحصل في بيتنا.
, اعترضت في عبوسٍ مصطنع لتكمل:
, -يا سراج آ٣ نقطة
, قاطعها بابتسامةٍ مبتهجة مسبلاً نظراته نحوها:
, -عيون سراج.
, حاولت الفرار من أمام موجة مهددة بمشاعرٍ أخرى شغوفة أشعلت فتيل الرغبة بداخلها:
, -سيبني بس أخلص.
, احتضن كفيها بيديه، وغازلها بغمزةٍ من طرفه:.
,
, -أنا عايزك تركزي معايا، وتقوليلي كده، إنتي كل شوية بتحلوي بزيادة، إيه السر؟
, التوت رقبتها قليلاً في حياءٍ، وتحاشت النظر إليه قائلة بضحكةٍ خجولة:
, -****! ماتكسفنيش بقى يا سراج.
, امتدت ذراعه لتحاوطها من كتفيها، وأدارها ليسحبها إلى صدره قبل أن يجذبها لتسير في اتجاه العُش الشاهد على ميلاد حبهما:
, -أنا كده مش هعرف أسيب البيت وأبعد عنك بالساهل.
, ضحكت في نعومةٍ، فصاح مهللاً:
, -وربنا أنا أمي دعيالي في ليلة مفترجة.
,
, استمر في توجيهها بتؤدةٍ وهو يمازحها بكلماتٍ موحية، وتلك النظرة المتقدة تبرق في حدقتيه:
, -تعالي جوا هاقولك كلمتين إنما إيه حكاية.
, اعترضت في دلالٍ:
, -طب مش تستنى أما نحلي الأول.
, رمقها بتلك النظرة العابثة وهو يهمس لها:
, -أحلى وأنا معايا طبق الحلويات كله؟
, لكزته في صدره بغير قوةٍ وهي تتدلل عليه:
, -يووه عليك، مش هتبطل؟!
, غازلها عن قصدٍ وهو يحتويها في أحضانه:
, -أنا لسه ببتدي يا أم العيال.
,
, رفعت حاجبها متسائلة في دهشةٍ لا تخلو من غبطةٍ:
, -أوام عملتني أم العيال؟
, قال مؤكدًا بصدقٍ؛ كأنما لم يرَ سواها أمًا لأبنائه:
, -هو أنا أطول.
, حيئنذ شعرت بقوة المحبة الطاغية تجتاحها، بالرضا الكبير يملأ صدرها، وكأنها نالت في نهاية صبرها الطويل مكافأة **** لها، لفت ذراعها حول جسده، ودعت له في تنهيدةٍ:
, -**** يخليك ليا..
, انخفضت نبرتها بشدةٍ وهي تتم جملتها:
, -عوض **** مالوش زي، الحمد**** يا رب.
,
, اجتمعا بعد أن تفرقا، التقيا بعد أن تباعدا، أصبحا بمرور الأيام أكثر تناغمًا، تفاهمًا، وانسجامًا؛ كأن برعم الحب الناشئ بينهما قد نضج، وأزهرت وريقاته. بات يومها لا يبدأ ولا ينتهي إلا بالحديث معه، ليغدو –بعد طول انتظارٍ- جزءًا أساسيًا من حياتها، لا تريد الاستغناء عنه، تبقى لها خطوة أخيرة، وأكيدة، توطيد هذا القرب بتلاحمٍ جسدي في إطارٍ شرعي، تذوب فيه الأرواح، وتتشكل في كيانٍ متحد. وقفت فيروزة عند نافذة غرفتها المضيئة، تداعب بإصبعيها طرف ال**** المحلول حول رأسها وهي تتأمل الطريق من زاويتها، ارتسمت ابتسامة رقيقة على ثغرها وهي تكمل حديثها بهدوءٍ عبر هاتفها المحمول:.
,
, -ما أنا قولتلك مالهاش لازمة الأعدة عند همسة، خليها تاخد راحتها في البيت.
, خاطبها معترضًا في انزعاجٍ لم تفهمه:
, -مجاتش من يوم ولا اتنين يا أبلة.
, أخذت تنظر إلى طلاء أظافرها، وانتقلت للحديث عما فعله رفيقه وابنه من مداعبات متجاوزة بعض الشيء، استطاعت أن تسمع صوت ضحكاته المستمتعة وهي تشتكي إليه، فتبدلت نبرتها للعتاب عندما نطقت:
, -لولا إنه كان صاحبك مكونتش عديت اللي حصل.
,
, نما إلى مسامعها صوت تنهيداته، فاستمرت تقول:
, -ما هو مش حتت ولد صغير يضحك على كوكي بحركاته دي.
, وقبل أن يُفكر في التبرير حذرته وهي تستند بيدها على حافة إطار النافذة:
, -ومتقولش إنهم عيال.
, سمعته يتكلم أخيرًا في إيجازٍ بعد صمتٍ غريب:
, -حاضر.
, بدت وكأنها غير راضية عن رده المقتضب، فعنفته دون أن تسيء إليه:
, -بس كده؟ ده ردك، إنت مابتكلمش ليه؟ وتاخد وتدي معايا، قول رأيك، هو أنا غلطانة في ده؟
, قال في هدوءٍ:
, -لأ.
,
, ظهرت رنة الاحتجاج في صوتها وهي تُعيد عليه سؤالها:
, -أومال مش بتقول رأيك ليه؟
, أخبرها ببساطة أربكتها في التو:
, -لأني عاوز أسمعك وبس.
, رغم البهجة التي شعت في روحها جراء جملته الصادقة، إلا أنها استنكرت في نعومةٍ:
, -يا سلام؟
, أكد عليها بما أنعش قلبها وملأه بدفعة من المشاعر الجياشة:
, -طبعًا، أنا لحد دلوقتي مش مصدق إني بكلمك عادي كده، إن بقى بيني وبينك حاجات ومحتاجات.
,
, كان حذرًا في التصريح عن مشاعره؛ لكن مضمونها المُبطن وصل إليه بكلماته التلقائية. على ما يبدو ما قيل لاحقًا من عذب الكلام لم تنتبه إليه، فقد استرعى انتباهها ذلك الظل المتحرك في باحة البناية، ركزت كل نظراتها عليه محاولة تبين ملامحه وسط الظلام السائد، دق قلبها في سرعةٍ تأثرًا بالرهبة المباغتة التي تسربت إليها، انطلق لسانها يتساءل في تحيرٍ مرتاع:
, -مش معقول، مين ده؟
,
, من صوتها الخائف توتر تميم، وتساءل بلهفةٍ قلقة:
, -في إيه؟
, جمدت فيروزة نظراتها على الوجه المبتسم في شرٍ بعد أن تحرك ليقف في بقعة مضيئة متعمدًا أن تراه، ليُعلم الجميع بوجوده في محيط العائلة، شَخِص بصرها فزعًا، وتصلبت في مكانها مصعوقة. رفع حُسني يده ليلوح لها صائحًا بصوتٍ جهوري تقريبًا لتتمكن من سماعه:
, -سلام يا قُطة..
,
, هبط قلبها بين قدميها، وتضاعف شعورها بالرعب وهو يواصل الكلام مؤكدًا لها أنها ليست مرته الأخيرة:
, -أنا جاي تاني، عشان أخد اللي ليا.
, فهمت بعبارته الموحية هذه أنه يقصد الصغيرة رقية، نظراته الخبيثة وملامحه الدنيئة أصابتها برجفةٍ كلية، لم تتوقف عن متابعته بنظراتها المرعوبة حتى غادر المكان، لتنتبه بعدها لنداء تميم من الطرف الآخر في تخوفٍ شديد:
, -ردي عليا يا فيروزة، في إيه اللي حاصل عندك؟
,
, تداركت نفسها، ولملمت بعثرتها اللحظية أمام هول المفاجأة المفزعة، لتخبره بأنفاس مضطربة وهي بالكاد تحاول السيطرة على نوبة الخوف التي تفشت في أوصالها:
, - تميم إلحق، خال رقية كان نازل من عند بيتنا٣ نقطة!
 
٥٠

كل ما فيها رقيق، ناعم، يدعو للتوق والرغبة، كان بحديثه معها يشبع جزءًا ضئيلاً من مشاعرٍ تُريد أن تتفجر كالعيون من أعماقها، ترك لصوتها مهمة تخدير حواسه، التسلل تحت جلده، وإشباع خلاياه بعذب تنهيداتها، حتى أصبح مدمنًا لكل ما يصدر عنها، صبر واصطبر، وأطال في انتظاره رغم الشوق الذي يُضنيه، لعَّل الروح –في نهاية السعي- تستكين بساكنها.
,
, التبدل السريع في نبرتها، وما أتبعه من إعلامه برؤيتها ل حُسني جعله يبلغ قمة غضبه وخوفه، انتفض كالمذعور عائدًا إلى داخل غرفته، كان الهاتف ما زال ملتصقًا بأذنه وهو يُخرج من ضلفة دولابه ثيابه ليرتديها على عجالةٍ، أمرها مشددًا وهو يلتقط مفاتيحه كذلك ليدسها في جيب بنطاله:
, -اقفلي الباب عليكم كويس، أنا جاي في الطريق.
, أتاه صوتها خائفًا وراجيًا:
, -حاضر، ماتتأخرش.
,
, وكأن صافرات الإنذار بإعلان الحرب قد انطلقت في الأجواء ليتأهب الجميع ويتخذوا وضعية الدفاع المستميت، خرج تميم مهرولاً من غرفته، ليتجه صوب باب المنزل، لم يملك أفضلية الوقت ليقف ويطيل الشرح والتفسير لعائلته عن سبب خروجه المتأخر، ليأتي التبرير لاحقًا. ما إن كان على السلم حتى هاتف ناجي بلهجةٍ غليظة قاسية:
, -إنت فين يا ناجي؟ والرجالة اللي بيأمنوا المكان مش موجودين ليه؟
, أجابه في اندهاشٍ:.
,
, -كله كان في الفرح يا ريسنا، احنا كنا بنقوم بالواجب وآ٣ نقطة
, قاطعه في حدةٍ:
, -أهوو اللي كنت خايف منه حصل، والبأف إياه موجود عند الجماعة.
, دون إضاعة وقتٍ في فهم التفاصيل أخبره في التو:
, -على طول هنكون عندك يا كبير.
, جاءه صوته صارخًا أكثر منه آمرًا وهو يهتف به:
, -أوام.
, أنهى المكالمة وهو يقفز آخر درجتين ليركض في اتجاه سيارته، ظل لسانه يردد في رجاءٍ:
, -**** يستر، عديها على خير.
,
, لم ينتظر إعادة تسخين المحرك، لتسير السيارة بسلاسة، بل إنه أدارها بخشونةٍ غير مكترث بالزمجرة الصادرة عنها، اشتاطت حدقتاه، واصطبغتا بحمرة غريبة وهو يصر على أسنانه مغمغمًا في هسيسٍ حانق:
, -اقسم ب**** لو مس حد منهم بشعره، لهخليه يقول حقي برقبتي من اللي هعمله فيه.
,
, عاد الرعب ليسري في بدنها بعد أن تناست ذلك الشعور، المطمئن قليلاً وسط هذه المخاوف المستجدة عليها أن هناك من تستند عليه بحقٍ، من أصبح بمواقفه جدارها المنيع، يزود عنها الأهوال بلا ترددٍ. امتثلت فيروزة لأوامر تميم، وجَرَت نحو باب منزلها لتتأكد من غلقه، أنارت معظم الإضاءة، وحاولت قدر المستطاع أن تغلق كافة النوافذ، وقلبها ما زال ينبض بعنفٍ. على إثر حركتها المستريبة في هذا التوقيت، خرجت آمنة من غرفتها تسألها وهي شبه ناعسة:.
,
, -في إيه يا فيروزة؟ ليه الدوشة دي؟
, بصوتٍ خافت عكس رجفتها قالت:
, -خال رقية كان موجود هنا.
, شهقت لاطمة على صدرها قبل أن تسألها في جزعٍ وهي تدور ببصرها في المكان:
, -هنا فين؟
, هزت كتفيها قائلة وهي تشير بيدها:
, -معرفش، بس أنا شوفته خارج من باب العمارة.
, لطمت مرة ثانية على صدرها وهي تولول بتوجسٍ أشد:
, -يا نصيبتي، لأحسن يكون ناوي على نصيبة.
, نظرت إليها نظرة مرتاعة مثلها، في حين تابعت آمنة متسائلة بنفس الصوت المفزوع:.
,
, -طب والعمل إيه؟ ده جايز يكون متفق مع شوية عصبجية يأذونا ولا آ٣ نقطة
, قاطعتها وهي تطبق على جفنيها محاولة ألا ينساق تفكيرها للأسوأ:
, -هو مشى أصلاً.
, هتفت والدتها تأمرها في نفس النبرة الملتاعة:
, -كلمي أختك قوليلها.
, علقت في استنكارٍ:
, -السعادي؟ هقلقها معانا يعني؟ تفتكري هتسيب بيتها وتجيلنا دلوقتي تشوف حل؟
, لوت ثغرها مرددة في تحير لا يخلو من خوف:
, -يعني هنتصرف إزاي؟ ده شكله مش ناوي يجيبها لبر.
,
, ظهر التردد على محياها إلى حدٍ ما وهي تخبرها:
, -أنا كلمت تميم وهو جاي في الطريق.
, على ما يبدو لم تلحظ خجلها من اللجوء إليه، وعقبت في استحسانٍ:
, -كويس، بس لازمًا نصحي خالك ونقوله.
, هزت رأسها توافقها الرأي:
, -ماشي.
, استدارت آمنة متجهة نحو الرواق لتسرع الخطى وهي تكلم نفسها:
, -استرها معانا يا رب، ده احنا غلابة.
,
, النظرة المتألقة في عينيها ناحيته في هذه اللحظة، كانت تحوي كل ما تمناه يومًا معها، وإن لم يرها فعليًا تنظر إليه، فقط لو استدار وأبصر ما يضمره القلب بحق، لتناسى هموم الدنيا وأثقالها. انشغل تميم مع من جاءوا معه لفحص شقة خالها بتدقيق، وليتأكد أيضًا من تأمين البناية، بعد التقصير الملحوظ في حماية الأغلى إليه. غادر رجاله الصالة، وتجمعوا بالأسفل في انتظار جديد أوامره، بينما بقي في موضعه يفكر بعمقٍ في الدوافع التي جعلت حُسني يقوم بتلك الخطوة الجريئة رغم تهديده الصريح له. التفت نحو فيروزة أولاً ليرى في عينها نظرة سلبت لبه، وجعلته طامعًا في المزيد، نظرةٌ لم يشبع منها بعد، بصعوبة توقف عن تحديقه كالمبهور فيها ليتكلم موجهًا أسئلته لوالدتها وشقيقها:.
,
, -مافيش حاجة ناقصة؟ إنتو متأكدين؟
, أجابت آمنة بإيماءةٍ من رأسها:
, -أيوه، الحاجات المهمة كنت طلعت لميتها وسيبتها تحت عندنا.
, أيدها خليل قائلاً كذلك:
, -حتى الده، ب، شايله في الدولاب جوا شكم، جية بقف، ل.
, تساءل تميم في تحيرٍ أكبر وهو يمرر يده أعلى رأسه:
, -يبقى كان جاي ليه؟
, قالت فيروزة بنوعٍ من التخمين، وقد انعقد حاجباها:
, -ممكن حركة يخوفنا بيها، أو كان عاوز يشوف سكة يعرف ياخد بيها كوكي.
, استبعد حدوث الأمر مفسرًا:.
,
, -ماظنش، لأنه مش هيورط نفسه في حاجة ممكن تتاخد قانونيًا ضده، وخصوصًا إن رقية حضانتها مع أبوها، ولو بفرض قدم ورق إنه مش قادر على رعايتها عمتها موجودة.
, اندهشت فيروزة لتحليله المستفيض، وسألته بدافع فضولي متنامي بداخلها:
, -إنت عرفت الكلام ده منين؟
, منحها نظرة كاملة وهو يجيبها بثقةٍ:
, -سألت المحامي عشان أطمن.
, تضاعفت التساؤلات في عقلها، ولم تمنع نفسها من الإفصاح عن أحدهم:
, -وإيه اللي يخليك تعمل كده؟
,
, كان رده تلقائيًا غير مراوغٍ:
, -بعد ما قعدت مع خالك كنت محتاج أعرف كام حاجة كده.
, باغتها اعترافه، وتساءلت في استهجانٍ؛ كأنما لم تبدُ راضية عن قدومه في غيابها:
, -هو إنتو اتقابلتوا وأنا معرفش؟
, رأى تعبيراتها المزعوجة، فاسترعى ذلك انتباهه، أحقًا استاءت لعدم لقائها به؟ شعر بالنشوة تغمره لمجرد الفكرة، فاستطرد ملطفًا:
, -دي دردشة عادية.
,
, لم يكن الوقت مناسبًا لنشوب أي جدالٍ، لهذا تجاوزت عنه مرغمة، وقالت بتعابير منقلبة نسبيًا:
, -أوكي.
, بقيت أنظاره عليها للحظاتٍ إلى أن قطعت تأمله السارح فيها آمنة بسؤالها:
, -طب المفروض نعمل إيه دلوقتي؟ نبلغ البوليس ولا آ٣ نقطة
, قاطعها بحزمٍ قبل أن تنهي جملتها:
, -هتقولوله إيه؟
, نظروا إلى بعضهم البعض بنظراتٍ حائرة، فتابع كلامه المنطقي:.
,
, -ده غير إن مافيش شهود تثبت إنه اقتحم الشقة، لأن معظم الحاجة زي ما هي في مكانها، يعني غرضه يدور على حاجة معينة، وملقهاش.
, هتفت فيروزة متسائلة في تحفزٍ:
, -يعني هنسيبه؟
, ركز عينيه عليها قائلاً بوجهٍ جاد:
, -لأ طبعًا، ليه حسابه.
, اقترحت آمنة في ترددٍ وهي تشير بيدها:
, -طب ما نتكلم معاه ونشوف غرضه.
, أدار رأسه في اتجاهها، وأخبرها بلهجةٍ لم تسترح لها فيروزة، حيث استشعرت خلالها نية مُبيّتة على القيام ضده بأمرٍ خطير:.
,
, -هيحصل.
,
, اشتعل صدره ولم يهدأ، وزادته نيران النارجيلة التهابًا، نفث الدخان في عصبيةٍ، وراح يشد نفسًا آخرًا يؤجج به الألسنة المندلعة بين ضلوعه، ظهرت حمرة الغيظ في عينيه، وامتزجت بغضبٍ لا يهدأ. راقبه زميله الجالس معه على المقهى الشعبي بنظراتٍ شبه ساخرة، قبل أن يهزأ منه علنًا:
, -يعني زي ما روحت زي ما جيت؟
, كز حُسني على أسنانه قائلاً باقتضاب متجهم:
, -أيوه.
, تكلم زميله في جديةٍ:.
,
, -وليه اللف والدوران ده كله؟ ما تطلب اللي إنت عاوزه وش.
, استخف باقتراحه البسيط معلقًا بوجومٍ حانق:
, -من غير ما يكون معايا حاجة أمسك رقبته بيها، ويكون تحت رحمتي؟!
, أخبره في نفس الهدوء المناقض لغضبه المتعصب:
, -مش معاك باقي وصولات الأمانة؟
, هز رأسه موضحًا، وخرطوم النارجيلة بين شفتيه:
, -أيوه، بس سهل يدفعهم، مالهومش قيمة أد كده دلوقتي.
, اقترح عليه في خبثٍ:
, -طب ما تلعبه بالحيلة؟
,
, انزوى ما بين حاجبيه في حيرةٍ وهو يسأله مستفسرًا:
, -إزاي؟ مش فاهمك!
, برزت ابتسامة شيطانية على محياه وهو يمتدح دهائه:
, -أنا بردك اللي هفهمك؟ ده إنت أستاذ في اللعب بالبيضة والحجر.
, زجره في صبرٍ نافذ:
, -ياض أنا مخي مقفل دلوقتي مش فايق أفكر، ولا أقرى عُقب الحكاية.
, حرك رأسه بإيماءة صغيرة قبل أن يميل ناحيته ليخاطبه على مهلٍ:
, -ساومه، فهمه إن معاك اللي أهم من الوصولات، واشتري منه وماتبعش.
, سأله ليتأكد مما استنبطه منه:.
,
, -يعني أقول معايا ورق مش موجود أصلاً؟
, رد مؤكدًا ببسمة صغيرة واثقة:
, -أيوه، بس اتكلم بقلب كده، حسسه إنه رايح في داهية وجُر رجله لحتتك، ساعتها هتلاقيه بقى زي الكتكوت المبلول.
, على ما يبدو لاقت الفكرة غير المتكلفة استحسانه، فاسترخى في مقعده، وغاص فيه قائلاً وهو يلامس بالخرطوم شفته السفلى:
, -طيب سيبني أمخمخ كده وأسويها في دماغي.
,
, أمسك زميله بكوب شايه ليرتشف الجزء الأخير الباقي منه، رفعه إلى فمه مرددًا في غرورٍ واضح:
, -سويها لحد ما تستوي، وادعيلي.
,
, استدعاء النوم في تلك الليلة، وبعد تلك التجربة الانفعالية، كان أمرًا مستبعدًا بالنسبة لها، تقلبت على جانبيها في سريرها كل بضعة دقائق، سحبت الغطاء أعلى رأسها لتمنح نفسها المزيد من الظلام، إلا أنها ظلت أبعد ما يكون عن الغفلة، وبالرغم من يقينها بأنه لم يتركها بمفردها، ووضعه رجالاً حول محيط المنزل لمراقبته جيدًا، إلا أن رهبتها كانت تتجدد بين الفنية والأخرى بداخلها.
,
, كان كمن يشعر بها، صدح رنين هاتفها، وشق السكون السائد في غرفتها، فانتفضت معتدلة بعد أن أزاحت الغطاء عنها، لتمد ذراعها وتلتقطه من على الكومود، ابتسامة سعيدة ارتسمت على محياها مع قراءتها للقب المعلم الذي يحتل شاشتها. استهلت حديثها في صيغة تساؤلية بعد ضغطة سريعة على زر الإيجاب:
, -إنت لسه صاحي؟
, تنهيدة عميقة التقطتها أذنها قبل أن يخبرها صراحةً:
, -وهايجلي نوم إزاي بعد اللي حصل؟
,
, أراحت فيروزة ظهرها على الوسادة، وأمسكت بخصلة من شعرها المهوش تلفه على إصبعها وهي تتساءل في صوتٍ مُرقق:
, -إنت خايف عليا؟
, اعترف لها بما نفذ إلى قلبها، وجعله ينتفض في ابتهاجٍ:
, -إن مكونتش هخاف عليكي، هخاف على مين؟
,
, صمتت كأنما تستمتع بتأثير كلماته على خلاياها الحسية، فتنقلها إلى عوالمٍ وردية، تشكلت في الفراغ من حولها، حيث تماوجت فيها الأحلام وازدهرت، أغمضت عينيها ليكتمل هذا الشعور الدافئ الباعث على الراحة والسرور، لم تشعر باستطالة سكوتها، فانتبهت لصوته المتساءل في جدية:
, -إنتي كويسة؟
, لم تخبت هذه الابتسامة الراقية عن وجهها وهي تعترف له بصوتٍ أقرب للهمس الناعم:
, -بقيت أحسن دلوقتي.
,
, وصله شعورها رغم عدم رؤيته لها، فقال كأنما يداعب وجدانها:
, -ده عندي كفاية.
,
, لوهلةٍ أحست بالندم لإرجائها تأجيل عقد القران، أليس من حق هذا القلب المتعب أن يستريح من الهموم التي تثقله؟ لماذا كل هذا التردد وهي متأكدة مما تكنه له؟ حتى في جلساتها الأخيرة مع طبيبتها ريم كانت لا تتوقف عن الحديث عنه، تأتي على ذكره في كل شاردة وواردة، لم ينقصها سوى إطلاق العنان لدفعة المشاعر المقيدة لتحلق في فضاء البهاء والهناء. مرة أخرى انتشلها تميم من شرودها اللحظي متسائلاً:.
,
, -مالك؟ ساكتة ليه يا، أبلة؟
, التردد الظاهر في نبرته وهو ينطق حروف لقبها جعلها تتحفز، فسألته في جديةٍ:
, -هو إنت مش عاوز تقول اسمي ليه؟ على طول بتناديني أبلة، وأنا بقولك يا معلم!
, سكت لبرهةٍ كأن الكلمات تاهت منه، لم تتعجل جوابه، وشاركته الصمت، لينطق أخيرًا بحذر:
, -إن كان عليا عاوز أناديكي بيه ليل نهار، بس الرك عليكي توافقي.
, فهمت ما يرمي إليه مع ختام عبارته، فتنهدت بصوتٍ مسموع، وقالت بما بدا موحيًا له:.
,
, -جايز **** ييسرها قريب.
, هتف في شوقٍ غارق في اللهفة:
, -يا ريت.
, ادعت تثاؤبها وهي ما تزال تبتسم، ثم استطردت متهربة منه:
, -هنام بقى، عاوز حاجة مني؟
, اعترفت شفتاه بما ترجوه الروح، والنفس:
, -عاوزك إنتي.
, دق قلبها في ربكةٍ، وقد كسا بشرتها حمرة ساخنة، استجمعت شتاتها الذي تبعثر مع وَجْده الثائر لتردد بتلعثمٍ خجول:
, -تصبح على خير.
, أنهت الاتصال في التو، قبل أن تسمعه يقول بكل ما ملأ قلبه من رجاوات لا تفرغ:.
,
, -تصبحي وإنت معايا وويايا.
,
, تهيأت لأداء **** الفجر قبل أن يبزغ خيط النهار الأول؛ لكن هذا الشعور الخانق، الجاثم على صدرها، منعها من التركيز، بالكاد انتهت من فرضها في الصالة، لتنهض بتثاقلٍ من على المصطبة، وسارت الهوينى في اتجاه الممر الصغير المؤدي إلى غرفة زوجها الذي ما زال حبيس جدرانها. دقت عليه الباب، ونادته وهي تدير المقبض لتفتحه:
, -يا حاج إسماعيل! الفجر هيروح عليك.
,
, كان موصدًا من الداخل، فانتظرت لهنيهة حتى يُجيبها؛ لكن لا شيء، لا شيء مُطلقًا! ألصقت أذنها بالباب، وواصلت الطرق، وهي لا تزال تُلح عليه:
, -إنت متعودتش تتأخر على فرض **** مهما حصل.
, وقفت في مكانها مُتحيرة، ثم كررت عليه بإلحاحٍ:
, -يا حاج إسماعيل، خصيمك النبي لتطلع.
, تابعت دقاتها المزعجة على الباب دون كللٍ، مما اضطر ابنها للنهوض عن فراشه ليعنفها في جحودٍ:
, -إيه يامه الدوشة دي؟ هتهدي البيت؟
,
, نظرت له شزرًا، وقالت في عبوسٍ:
, -بشوف أبوك، ولا ده كمان بقى مضايقك؟
, علق في سخطٍ صارخ وهو يدعك وجهه الناعس:
, -مش بالشكل ده، إيه! مش عارف أنام!
, عاتبته في استياءٍ مستنكر:
, -يعني مش كفاية إنه حابس نفسه في الأوضة من ساعة النصيبة اللي عملتها فيه، كمان مستخسر أشأر عليه؟
, برر لها فعلته النكراء بسماجةٍ غير نادمة مُطلقًا:
, -أنا عملت اللي فيه مصلحته ومصلحتي، وربنا عالم نيتي إيه!
,
, كلماته الأخيرة كانت تهكمية أكثر منها بلاغية، فغمغمت معقبة في ازدراءٍ وهي ترمقه بنظرة متحسرة:
, -أيوه، صح، نيتك الحلوة.
, حدجها بنظرة جوفاء، لا تحوي أدنى مشاعر المحبة لأبوين جاهدا لتربيته، ثم استدار مغادرًا مكانه، استوقفته سعاد هاتفة في صدمةٍ ذاهلة:
, -إنت هتروح تنام؟ ما تخش تكلم أبوك وتحِب على راسه.
, لم يلتفت ناحيتها عندما رد:
, -مش دلوقتي.
, صاحت به مغتاظة وقد انتفضت عروقها في حنقٍ:.
,
, -يا فضل راضي أبوك بكلمتين، إنت قهرته بعملتلك.
, نفخ عاليًا، واستدار ليواجهها وهو يهسهس في قنوطٍ:
, -يووه يامه، طيرتي النوم من عيني.
, هتفت في عصبيةٍ:
, -ما يطير ولا يروح في داهية، ده أبوك، واللي عملته فيه مش هيعدهولك بالساهل!
, ثرثرتها غير المجدية كانت كالصداع في رأسه، ليهرب من إلحاحها، أطبق بيده على المقبض، وهزه بعنفٍ ليفتحه وهو يقول في زمجرةٍ:
, -لو عاوزة تفتحي الباب أهوو.
,
, راح يدفع الكتلة الخشبية بكل غلٍ وغضب وقوة لبضعة مرات، إلى أن تمكن من انتزاع القفل من مكانه، فانفتح الباب على مصراعيه، ولجت سعاد بعدها في خطواتٍ متلهفة وهي تنادي:
, -حاج إسماعيل!
,
, وقف فضل عند عتبة الغرفة الفارقة بين الدخول والخروج، حائرًا في الإقدام أو الانسحاب، حك رأسه بأظافره، حسم أمره بالذهاب، فليس في مزاج يسمح له بتحمل توبيخات لاذعة، هم بالاستدارة والابتعاد؛ لكن صراخ والدته الفزع وهي تنادي على أبيه جمده في موضع قدميه:
, -قوم يا حاج، رد عليا.
, ببطءٍ وجل استدار ليواجهها، فوجدها منكفأة على جسد والده تهزه في عنفٍ، وهي لا تزال تصرخ به:
, -يا حاج إسماعيل! جرالك إيه؟ رد عليا يا حاج.
,
, هوى قلبه بين قدميه في صدمةٍ أولية، وتوقف عن التنفس للحظةٍ وهو يجبر عقله على استيعاب الموقف المريب وتفسيره، صراخ سعاد المفطور جعله يتدارك حقيقة ما يحدث، خاصة عندما ولولت:
, -أبوك مابينطقش يا فضل، أبوك مات٣ نقطة!
 
٥١

الذهاب إلى هناك، واستحضار أسوأ ما جابهته لكسر نفسها، وكشف سترها لم يكن مستحبًا على الإطلاق؛ لكنها مرغمة على ذلك، ليس من أجلها، وإنما لخاطر من جاءوا معها للقيام بهذا الواجب الضروري. انقباضة غير مريحة عصفت بقلبها والسيارة تقترب من حدود بلدتها، شعرت بوخزاتها القاسية تزداد في حدتها كلما تقلصت المسافة، انعكس تأثير تلك الزيارة على تعابير وجهها، فأصبح شاحبًا، ممتعضًا، يكسوه النفور.
,
, سحبت فيروزة نفسًا عميقًا تستجمع به شتاتها المبعثر، وراحت تجاهد لضبط أنفاسها المضطربة. رغمًا عنها اضطرمت النيران في صدرها، وبدأت أفكارها السوداوية في التزاحم بداخل رأسها المشحون، نعتته في سرها بالمقيت، النجس، النذل، وغيرها من الألقاب غير المستحبة على الأذن، فقد استباح ما ليس له متناسيًا صلة الدم والقرابة، ولم يتوقف أذاه عند هذا الحد، بل امتدت لأكثر من مرة كلما سنحت له الفرصة بهذا.
,
, أطبقت على جفنيها بقوةٍ، مقاومة سحبها لدوامة مظلمة، لن تجني منها سوى إهلاك أعصابها، وزيادة حجم الشروخ بها. ضمت أنامل يدها لتشكل قبضة متشنجة، والصقت يدها الأخرى بحقيبتها الموضوعة في حجرها، ظلت تكرر في نفسها بجملةٍ مُحفزة:
, -إنتي رايحة تعملي الواجب وبس، إنتي أقوى من جبان زيه.
, راحت تردد شبيه تلك العبارات في رأسها، لتستعيد انضباطها، وتحجم من الثورة المهددة بالانفجار إن التقت به وجهًا لوجه.
,
, لم يخفَ على تميم تبدل أحوالها، وانقلاب سحنتها بشكلٍ مرئي للعيان، خاصة بعد أن أصر على الذهاب مع عائلتها في هذه الزيارة الاستثنائية، استقل جميعهم سيارته: خالها يجلس إلى جواره في المقدمة، وهي بجوار والدتها وابنة خالها في المقعد الخلفي، أما عن توأمتها وزوجها ورضيعهما فقد ركبوا في سيارتهم الخاصة، وتحركوا خلفهم ليلحقوا بهم. حانت منه نظرة مدققة في المرآة العاكسة أمامه، بمجرد أن تباطأت سرعة السيارة عند مفترق الطرق، تأمل ملامحها العابسة بشدة في غضبٍ يشوبه التوعد والوعيد لمن أذاها. أقسم على نفسه بألا يسمح له بأن يمسها بسوء، سينحر عنقه إن ضايقها بكلمةٍ أو بنظرة!
,
, انتبه لصوت خالها عندما أشار له قائلاً:
, -خ، ش يمين من هنا.
, ألا يعلم الأخير عن معرفته الطريق إليه جيدًا؟ كأنما يحفظه عن ظهر قلب، ظل تميم على سكوته وهو يدير المقود لينحرف بالسيارة نحو زقاقٍ ضيق لا يتجاوز المترين، واصل الحركة بها في تؤدةٍ حتى خرج إلى طريقٍ آخرٍ تمتد على جانبيه مساحات مزروعة، تباينت في درجة اخضرارها. لدهشته تعجب خليل من عدم سؤاله، فنظر إليه متسائلاً بتحيرٍ:
, -هو إنت ع، ارف الس، كة؟
,
, أجاب بنظرة خاطفة إليه قبل أن ترتكز عيناه على المرآة الأمامية ليحدق في وجه طاووسه الحزين:
, -أيوه.
,
, الفضول تسلل إلى داخل فيروزة، رفعت رأسها لتنظر إليه، والتقت العينان التعيستان بالعينين المتحفزتين، أومأ برأسه ليطمئنها، فاستحضرت في ذهنها لحظة أن أطلعها باسترداد حقها ممن تجرأ عليها، لن تكون وحدها، هو معها، لن يتركها لمصيرٍ تجهله، سرعان ما غطى الألم حدقتيها، ولم تخبئ ذلك عنه، فقرأ في نظرتها العميقة إليه طلبًا خفيًا للسند، للدعم، وللمُلْتَجأ، منحها نظرة عطوفة حنون تخللها وعدًا بحمايتها، نظرته المجردة من أي أطماعٍ شهوانية –في هذه اللحظة- عنت لها الكثير. ابتسمت ابتسامة باهتة، ولم تنبس بشيء، فقال بصوتٍ شبه متحشرج مُعلمًا الجميع:.
,
, -أنا معاكو لحد ما نخلص مهمتنا ونرجع.
, دعت له آمنة وهي تمسح عبراتٍ متأثرة بفاجعة الموت عن صدغيها:
, -**** يباركلك يا ابني.
, عاد لينظر إلى وجهها؛ لكنها كانت قد غاصت في سكونها المستريب، فأبعد ناظريه ليحدق في معالم طريقه المعروف، وصدره يتضرج بالحقد المبرر.
,
, تاهت منها لفظة البدء في الحديث، حين رأتها جالسة على المصطبة تضرب بكفيها على جانبي رأسها وهي تهز جسدها باهتزازة متكررة حزنًا وحسرةً على فقيد سنوات عمرها الطويلة. بدت سعاد وكأنها ازدادت أعوامًا على أعوامها، وتمكن منها العجز عن آخر مرةٍ رأها فيها أحدهم، أيفعل شعور الفقد لعزيزٍ هذا التأثير المؤلم بالأحياء؟ نعم، ويزيد!
, تقدمت آمنة ناحيتها لتواسيها –وسط المعزيات من النساء- بصوتٍ منتحب:.
,
, -قلبي عندك ياختي، و**** العظيم ما مصدقة اللي حصل.
, رفعت رأسها المحني لتنظر إليها وسط غيمة الدموع التي تغطي عينيها، ثم استطردت تخاطبها بحرقة وهي تلطم على صدرها:
, - إسماعيل راح يا آمنة، خلاص راح ومعدتش راجع.
, وقفت قبالتها، وكفكفت عبراتها المنسابة بمنديلها قبل أن تنطق في نوعٍ من المواساة:
, -دي مشيئة ****، هو راح عند ****، وهيشوف علي، **** يرحمهم هما الاتنين.
, تقطع صوتها واختنق وهي تضيف:.
,
, -أيوه، بس راح وهو غضبان، محسور على اللي جراله.
, استرعت جملتها الغاضبة انتباهها، وسألتها في فضولٍ تلقائي:
, -هو حصل إيه؟
, قبل أن تفسر مقصدها، ظهر فضل في المشهد، وصاح في صرامةٍ جافة خالية من أدنى إحساس أو تأثر:
, -كفاية ولولة يامه، وخلينا نجهز للدفنة، وقت **** الضهر أزف.
,
, حدجته والدته بنظرة مليئة باللوم، كأنما تحمله الذنب بأكمله لموت أبيه قهرًا، واصلت نواحها الباكي متجاهلة إياه، بينما أولى فضل وجهه نحو الضيفة متسائلاً بملامح مكفهرة:
, -إنتي اللي جتي بس يا مرات عمي؟
, ردت نافية وهي تشير بيدها للخلف:
, -لأ، باقي الجماعة جوم معايا، هتلاقيهم بيعزوا برا.
, علق في عدائيةٍ وقد حلت الشراسة في عينيه:
, -اللي مات أبويا أنا، مش أبو حد تاني.
,
, اندفع كالثور الهائج نحو باب المنزل قاصدًا الاشتباك معهم دون أي مراعاة للظرف الحزين؛ كأنما كان يتحين الفرصة لإظهار بغضه وكراهيته. لحقت به آمنة تناديه:
, -يا فضل استنى، مايصحش كده.
, لم تستطع مجاراة خطواته الراكضة، فتوقفت عند العتبة تردد في توجسٍ وقد أُحيطت بمجموعة من النساء اللاتي امتلأ بهن بهو المنزل:
, -عديها على خير يا رب.
,
, ارتجفت يدها وهي تدير المقبض لتترجل من السيارة، حاولت التغطية على رهبتها المنبعثة من رواسب الماضي الموجعة، والتسلح بشجاعة تدعمت بوجوده، نفسًا تلو الآخر سحبته بعمقٍ لتهدئ به من روعها. مسحت فيروزة الباحة الخارجية للبيت بنظرة شاملة، رأت فيها تجمعات متفرقة لغالبية رجال بلدتها، تعرفت على معظم الأوجه المألوفة، وعزفت عن تحيتهم، كانت في قرارة نفسها قد عقدت العزم على نسيان كل ما له صلة بهذا المكان الذي شهد على واحدةٍ من مآسيها القاسية؛ لكن هذا الظرف تحديدًا أجبرها على المجيء إليه، لملمت شتاتها المهتز، وبدأت تدنو من البيت بخطواتٍ ثقيلة، شبه متراجعة، تستحثها على الارتداد والعودة من حيث جاءت.
,
, بذلت كل جهدها لتبدو جامدة، صلبة، شديدة البأس وهي تواصل السير، وحده من كان يعلم بترددها الخفي، استبقها تميم في خطواته ليعترض طريقها قائلاً بلهجةٍ جادة للغاية:
, -لو مش حابة تدخلي خليكي واقفة هنا.
, تلألأ في حدقتيها نظرة غريبة، غير هادئة، في عمقها تعكس غضبًا وكرهًا، وكل المشاعر الحاقدة. حافظت على جأشها وهي تخبره:
, -عشان مرات عمي متزعلش، ده غير الناس آ٣ نقطة
, قاطعها في صوتٍ متزمت غير مرتفع:.
,
, -ملكيش دعوة بالناس، محدش هيجبرك على حاجة مش عاوزاها.
, بقيت تنظر إليه وهو يؤكد عليها من بين شفتيه:
, -ولو حد من اللي هنا فكر يضايقك بحرف مش هايشوف طيب.
, الحماية، كانت ما ترجوه، وها هي وجدتها معه، ظهر خوفه عليها واضحًا عندما تابع:
, -أنا هنا جمبك وسندك.
, تدثرت بعاطفته الحقيقية، وارتخت تعابيرها المشدودة نسبيًا، قبل أن تقول في النهاية:
, -شكرًا على إنك هنا.
, عاتبها في لطفٍ، وكامل نظراته المتلهفة عليها:.
,
, -أنا مش محتاج شُكر يا..
, انخفضت نبرته للغاية عندما أتم جملته مناديًا إياها باسمها مجردًا، وبعذوبةٍ لفت رأسها:
, - فيروزة!
,
, في هذه اللحظة ارتعش قلبها، وارتج كيانها، لم ترَ سواه، فبدا وكأنه قد استحوذ على كل الفراغ حولهما، شردت في نظراته المثبتة عليها، تستمد منها القوة، الثبات، والشجاعة لمواجهة ما هو قادم، نجح بطريقته المثابرة في ترميم الشروخ غير الظاهرة فيها، قضى على الوَحَشة المخيفة في أعماقها، كان في عينيها يستحقها، لقد اكتفت به، واستأنست معه.
,
, لمح تميم من طرف عينه خالها وهو يقترب منهما بابنته الممسكة بكفه، فقال بصوتٍ شبه مسموع:
, -ماتجيش معانا الدفنة، خليكي في العربية، وعشان رقية كمان.
, كانت على وشك الرفض؛ لكن خالها أيده في الرأي:
, -أيوه، م، افيش داعي تب، قي موجودة، اس، تني مع بنتي.
, العبء الذي على صدرها خف قليلاً؛ لكنه لم ينزاح كليًا، ومع هذا كانت راضية عن القليل من السكينة التي نالتها في حضوره.
,
, للموت حُرمة، وهيبة، لم يعبأ بهما على الإطلاق، أعماه غضبه، وأفقده احترامه وسط الحاضرين، دفع فضل باندفاعه الأهوج أحد المعزيين عن طريقه، وخرج من باب منزله باحثًا بنظراتٍ نارية عن فيروزة تحديدًا، ما اعتبرها أكبر خسائره، وسبب جميع نكباته، تصاعدت الدماء إلى رأسه حين رأى أكثر من يمقته بجوارها، اشتاطت نظراته والتهبت على الأخير، لم يستطع كبح جماح نفسه، صاح مهللاً بزمجرة لفتت الأنظار:.
,
, -هي دي الأصول يا بنت عمي؟
, تحولت الأعين ناحيتها، فشعرت فيروزة بالخوف يتسرب إليها، ورغم هذا ثبتت، ولم ترتجف، بل أدارت رأسها لتحدق في وجهه القميء بكل بُغضٍ واستعلاء، أحس فضل بنظرتها المزدرية تصفعه على وجهه، فلم يجد سوى اتهامها علنًا:
, -جاية وجايبة الغريب معاكي؟ خلاص مافيش خِشا ولا حياء؟!
, حذره تميم بغلظةٍ، وبإشارة من سبابته، بعد أن تحرك خطوتين ليقف بجسده كالسد المنيع أمامها:
, -إياك تغلط!
,
, قال أحد الأشخاص المتواجدين في محيط البيت:
, -بالراحة يا فضل، مايصحش كده.
, التفت ليخاطبه موجهًا بكلامه اللاذع إهانته المتعمدة نحو فيروزة ومن معها:
, -ما هو إنت طلع العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب.
, توقع تميم ما كان متوقعًا بتواجده الثقيل السمج، إحداث الفوضى، وإثارة البلبلة، فتكلم في جديةٍ لا تخلو من تهديد:
, -أحسنلك تحفظ أدبك، وتصون لسانك، بدل الدفنة ما تبقى اتنين!
, انتفضت عروقه غيظًا منه، وصاح مصفقًا بيديه:.
,
, -سامعين يا ناس، هما دول اللي جايين ياخدوا بخاطرنا، شايفين.
,
, تعمد قلب الحقائق وتشويهها ليغدو في نظر الحاضرين المجني عليه لا الجاني، لم يكترث تميم بتصرفاته الغبية، وواصل تحذيره القاسي:
, -بلاش النمرة دي علينا، بدل ما تتهزق.
, تدخل فتحي قائلاً بوجهٍ جاد، وقد وضع يده على كتف فضل ليضغط عليه:
, -لِم الدور يا فضل.
, انتفض ثائرًا في غضبٍ مُضاعف:.
,
, -لأ يا حاج فتحي، أنا مسمحش للغريب اللي جه هنا، وأهاني سابق يحضر جنازة أبويا كده عادي.
, ردد أحدهم من الخلف في استنكارٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****.
, بينما أضاف آخر معاتبًا:
, -يا جدعان صلوا على النبي، بدل ما نشوف اللي راح مننا، واقفين نتخانق، ده حتى مش أصول، والميت ليه حرمته.
, جاء تعليق فضل وقحًا للغاية وهو يشير بيده نحو خصمه:
, -قولوا للدغوف ده.
, بادله تميم الإهانة بأخرى أشد إيلامًا لشخصه المُهان دومًا:.
,
, -ماتغلطش يا (، )!
, اشتعل وجهه بحمرة الغيظ، وهدر يولول كالنساء المكلومات:
, -شايفين يا ناس؟ سامعين؟ أديني بتشتم عيني عينك أهوو.
, واحدٌ من رفاق فضل تحرك خطوة نحو ابنة عمه التي تَرْقُب المشهد بنظرات ساخطة، ثم لوح لها بيده كأنما يطردها وهو يهتف بصوتٍ مرتفع:
, -بت يا فيروزة، خدي الجدع ده وامشي من هنا.
, اغتاظت من طريقته الفظة، وردت عليه بعنادٍ:
, -واحنا مش هنمشي.
,
, كان كمن يدعو لإلقاء حتفه، حيث نطق فضل بنزقٍ ناعتًا إياها مما أثار حفيظة الجميع:
, -فَجَرت بعد ما مات جوزها، وعينها بقت بجحة.
, لم تتحمل فيروزة صفاقته وكذبه، فصرخت به في حدةٍ:
, -احترم نفسك.
, ظاهره الهادئ تلاشى مع إهانتها المتعمدة، فتهيأ تميم للانقضاض عليه، بعد أن أخرج مديته من جيب بنطاله الخلفي، أشهرها في الهواء، وصاح بصوتٍ جهوري مخيف:
, -إنت لسانك هيتقطع النهاردة.
,
, شهقت فيروزة فزعًا وخوفًا على تميم، خاصة حين رأته يهجم بشراسةٍ مباغتة على غريمه ينتوي الفتك به، وتمزيقه إربًا، خلال ثانية واحدة تحول المكان إلى دائرة صغيرة مغلقة على من فيها؛ ف تميم قابض بكفه القوي على عنقِ فضل، والأخير يحاول المناص من قبضته الضاغطة على مجرى تنفسه بكلتا يديه، وفي نفس الوقت يخشى أن يمسه نصل المدية، فيُحدث به قطعًا أو ندبة تنضم لسابقاتها المتروكة في وجهه منه. بالكاد نجح من حولهما في الفصل بينهما، وتخليص رقبة فضل الذي راح يسعل بحشرجةٍ مزعجة.
,
, طبقًا للأعراف المتبعة، حين يأتي أجل أحدهم، وينتقل إلى جوار المولى عزوجل، تُترك الخلافات والمشاحنات جانبًا، ويتكاتف الجميع من أجل تقديم الدعم لأسرة المتوفي، من المفترض أن يكون الأمر هكذا، إلا معه! كان الوضع على النقيض، الغالبية في حالة تحفز وغضب، مشاعر الكراهية والعداء تعم الأرجاء.
,
, لم تبقَ فيروزة في مكانها، أبعدها تميم، وأبقاها بجوار السيارة، مع الصغيرة رقية لينأى بها عن أي خطرٍ قد يحيق بها. كانت معترضة على إقصائه لها؛ لكنه أخبرها مؤكدًا:
, -ده أحسن ليكي.
, احتجت بوجهٍ متقلص في عضلاته:
, -وأسيبك لوحدك معاهم؟
, قال بهدوءٍ واثق وهو ينظر إليها ملء عينيه:
, -متخافيش عليا، أنا أدهم.
, بداخلها عاصفة على وشك أن تنفلت من خوفها عليه، كانت في أقصى مراحل صدقها مع نفسها حين رجته:.
,
, -خد بالك، أنا لو أعرف إن ده هيحصل مكونتش جيت.
, ما لمسه منها جعل عالمه يهتز، ينتفض، يثور لأجل الذود عنها، رد عليها دون سكينةٍ:
, -كله مقدر ومكتوب، المهم عندي إنتي وبس.
,
, طمح في رؤية نفس المشاعر المهتمة في عينيها، ولم تبخل عليه، رأى مرة ثانية في دُرتيها عاطفة حقيقة موجهة إليه وحده، نبعت من قلبها، ونفذت إلى قلبه، فأوجدت بينهما جسرًا غير مرئي، تركها مضطرًا ليعود إلى حيث يقف الرجال، فأبصر فتحي وهو يفرد ذراعيه على استطالتهما لجانبيه بعد أن علق رأس عكازه على معصمه صائحًا في ضيقٍ:
, -ماينفعش كده، اهدوا يا جماعة، احنا في حداد، واللي راح غالي.
,
, ضم فضل شفتيه في تأفف ناقم، ونظر إلى تميم شزرًا، قبل أن يبعد عينيه عنه ليحملق في رفيق والده الذي أكمل حديثه مخاطبًا الجميع:
, -استعيذوا ب**** من الشيطان الرجيم، واقرأوا الفاتحة على روح حبيبي الغالي الحاج إسماعيل.
, ظلت أنظار فضل المستشاطة مسلطة على خصمه، وقال بزفيرٍ ثقيل:
, -أعوذ ب**** منك يا شيطان..
, ثم حاول إظهار القليل من الاحترام بختام عبارته:
, -ماشي كلامك يا حاج فتحي.
,
, هتف الأول في استحسانٍ رغم امتعاض تعابير وجهه:
, -**** يهديك يا فضل.
, حاول خليل التدخل، وأردف قائلاً بعتابٍ مستتر:
, -احنا واج، بنا نك، رم الضيوف، مهما كانوا م، ين، مش نِقل منهم، ومن ج، الك بيتك، ج، اب الحق عليك.
, احتقره فضل بإهانةٍ قاسية استنكرها المتجمهرين:
, -بلاش إنت تتكلم يا عم خليل، هتتعبنا معاك.
, صاح فتحي في استهجانٍ صارم:
, - فضل!
, برر وقاحته النكراء بقوله:
, -ده أنا خايف عليه، نفسه قصير.
,
, ليكتمل مشهد استفزازه، ظهر في الأرجاء رشيد، وحفنة من أقاربه، تلون وجه فضل بحمرةٍ حاقدة، وانعكست كذلك في نظراته إليه، نأى بنفسه للجانب ليهينه، وراح يرمقه بالمزيد من النظرات الازدرائية، لمحه وهو يمد يده لتعزية فتحي أولاً:
, -البقاء لله.
, رد عليه الأخير مبديًا عرفانه بقدومه:
, -شكر **** سعيك، ابن أصول طول عمرك.
, ثم ربت على ظهره يستحثه على السير معه:
, -تعالى يا رشيد.
,
, حينئذ أولاهما ظهره لتحقيره، ولم يستدر إلا عندما سمع صوته يردد:
, -البقاء لله.
, بترفعٍ وتعالٍ غير لائقين به، نظر فضل إلى يده الممدودة ناحيته وهو يدير رأسه في حركةٍ بطيئة، ثم استطرد هازئًا به بأسلوبه الفج رافضًا مصافحته:
, -وإنت كمان جاي عشان تاخد اللقطة؟!
, أبعد رشيد ذراعه، ورد إهانته بحنكةٍ:
, -لأ يا فلحوس، أنا جاي لأن الحاج إسماعيل يستاهل نزعل عليه، ده قبل ما يكون جد ولاد مراتي٣ نقطة
,
, تقوس جانب فمه في بسمة ساخرة ساخطة، تلاشت قبل أن تكتمل مع إكمال رشيد لعبارته بإهانةٍ ضربته في مقتل:
, -ولو كنت إنت مكانش حد وقف على تُربتك.
, اتسعت عيناه ذهولاً من رده المهين، وصاح في إنكارٍ:
, -سامعين قلة الأدب؟
, علق عليه رشيد في وقفته السامقة:
, -إنت اللي جبت التهزيق لنفسك.
, لم يتحمل سحق كرامته والدعس عليها من حاقديه، فصرخ في الواقفين:
, -بقولكم إيه، اللي يحضر يكون بأدبه، يا يغور في ستين داهية.
,
, موقفه الفاقد للاحترام جعله محط انتقاد المعظم، حيث احتج أحدهم على سلوكه المشين قائلاً:
, -الحاج إسماعيل لو كان عايش مكانش خلصه اللي حصل ده، وخصوصًا من ابنه.
, التفت فضل باحثًا عن مصدر الصوت، وقبل أن يبادر بإهانته كغيره، جاءت سعاد إليه، وصرخت فيه بمشاعرٍ ملتاعة وبقلبٍ مفطور:.
,
, -بتعمل إيه يا فضل؟ بتطرد أهل أبوك وناسه وحبايبه؟ عايز تحرمه في رقدته الأخيرة من اللي يقف يترحم عليه ويدعيله دعوة طيبة؟ خلاص مبقاش ليك كبير ولا رادع!
, اِربد وجهه بالغضب من استمرار وصلة إذلاله، رفع يده أمام وجهها يأمرها:
, -خشي مع الحريم جوا يامه.
, ثم اندفع ناحيته بعنفوانه الحانق ليُبعدها، فانتفضت رافضة لمسته وهي تصرخ به في ألمٍ:
, -ابعد إيدك ماتلمسنيش٣ نقطة
,
, تفاجأ الحاضرون بتصرفها، ونظروا لها مدهوشين، والفضول يزداد بداخلهم لمعرفة سبب هذا النفور، لم تتوقف سعاد عن لومه علنًا:
, -أبوك مات غضبان عليك، إنت هتشوف أيام سودة.
, جاءت إحدى النساء لاصطحابها لداخل المنزل وهي ترجوها:
, -تعالي يا أم فضل معايا.
, صاحت في صوتٍ صارخ:
, -اللي يقهر أبوه ويموته مش ابني.
,
, أشار فضل للمرأة بعينيه لإبعاد والدته، فحاوطتها بذراعيها لتسحبها معها، جرجرتها عنوة؛ لكن ظل صوتها يردد في حرقةٍ شديدة وهي تقاومها:
, -منك لله يا فضل، حرقت قلبه وقلبي، عمرك ماهتشوف طيب.
, انضمت أخرى إليها قائلة بتفهمٍ:
, -تعالي يا حاجة معانا.
,
, ما يحدث الآن كان مُهينًا للغاية، مرفوضًا بشكلٍ قطعي، فاتفاقه معه كان يُلزمه بعدم افتعال المشاكل إلى أن يصير قانونيًا المتصرف الوحيد في أملاك والده، وسكوته عما يحدث قد يجعل أصابع الاتهام تشير إليه، ويصبح معلومًا للجميع أنه المتورط في اقتراح منع إسماعيل من التصرف في أمواله، حاول فتحي تحجيم فضل، فدنا منه، وأوصاه بقسمات وجه مزعوجة على الأخير:
, -لِم الليلة يا فضل، كده الناس هتتقلب ضدك.
,
, كز على أسنانه مغمغًا في تبرمٍ:
, -يا حاج فتحي ما أنا مستحمل البهدلة وساكت٣ نقطة
, اتجهت نظراته الحسود نحو تميم وهو يكمل في نقمٍ:
, -بس أني مش عاوز الطِحش ده يحضر جنازة أبويا، دي للعيلة وبس.
, سمع تميم إهانته، وتحفز ضده مرة ثانية؛ لكن تلك المرة أراد إحراق دمه، واستثارته بتصريحه الهادئ:
, -ومين قالك إني غريب؟ ما أنا من العيلة، ولا مبلغكش إني خطيب ستك وتاج راسك؟!
,
, كان كمن ينفث دخانًا من أذنيه، أصاب هدفه في مقتل، وجعل رأسه يحترق من الغيظ والكمد، لا من الحزن والأسى، دمدم في هديرٍ مغتاظ:
, -سامع.
, ولتزيد من إحراق أمثاله من معدومي الكرامة والأخلاق، بصب الزيت على النار لتأجيج ألسنتها الملتهبة، وقفت فيروزة إلى جوار تميم تنظر إليه بنظرة المحبين المعروفة لأرباب العشق، لم تحد بلؤلؤتيها اللامعتين عن ملامحه الرجولية وهي تخبر الجميع بفخرٍ مُطعم بالعزم:.
,
, -أيوه، ده خطيبي، وكلها كام يوم وهيبقى جوزي٣ نقطة!
 
٥٢

في نفس البلدة، ومع نفس الشخصية الحقيرة، وأمام ذلك الحشد المتجمهر، انطلق من بين شفتيها، اعترافًا خطيرًا، جعل قلبه يرفرف في الأفق البعيد، ومشاعره تهتاج في عاصفة عشقٍ لا حدود لها. جمعهما مكانٍ بعينه، واجتمعا في توقيتٍ معين، لتفيض بنفس الكلمات التي قيلت من قبل، آنذاك وأدت حبه في مهده؛ لكن اليوم غدت سبب ابتهاجه وسعده.
, بثباتٍ عجيب، وعينان لا ترمشان، أضافت فيروزة على مسامع الحاضرين:.
,
, -ولولا ظروف وفاة عمي كنا بلغناه بالخبر عشان يحضر ويكون شاهد على العقد.
, كأنما اشعلت فتيل غضبه، انفجر فيها فضل ينعتها بوقاحةٍ منقطعة النظير، غير عابئ بتبعات لسانه الأرعن:
, -يا بجاحتك، عاوزة تتجوزي وعمك لسه مادفنش؟
,
, ضاقت عيناها في غيظٍ من فظاظته؛ لكن سرعان ما تحولت تعابيرها إلى ذهولٍ مصدوم، حيث تأهب تميم للانقضاض على خصمه اللدود، فلم يمهد له وهو يكور قبضته، ليسدد أول لكمة في فكه، جعلته يرتد، ويترنح بشدة، من أثر المفاجأة المؤلمة، قبل أن يتوعده علنًا:
, -إنت ناوي على موتك النهاردة.
, بالكاد منعه الرجال المتواجدين من المساس به، وإلا لدك عظامه، وطحنها. تدخل فتحي قائلاً في رجاءٍ ليحتوي الموقف المتأزم:.
,
, -صلوا على النبي يا رجالة، بس ده لا وقته، ولا مكانه، الميت ليه حُرمة.
, رد عليه تميم في حمئةٍ:
, -كان رعاها البغل اللي واقف.
, احتمى فضل بأجساد الرجال، ليصيح بعدها مدعيًا البراءة، وحفظًا لماء الوجه:
, -شايفين الغلط؟ يرضيكوا البهدلة دي؟
, علق عليه فتحي بنظراتٍ غير راضية عن تصرفاته الوقحة:
, -ما إنت بردك يا فضل مش عامل اعتبار لا لكبير ولا صغير.
, نظر إليه شزرًا قبل أن يدمدم في حرقة:
, -دلوقتي بقيت أنا اللي غلطان؟
,
, حدجه فتحي بنظرة صارمة وهو يخاطبه:
, -ماهي دي مش أصول، وأنا غلبت أفهمك.
, هز رأسه معقبًا في ازدراءٍ ناقم:
, -ماشي يا حاج فتحي، أني الغلط راكبني، وأستاهل ضرب البُلغ٣ نقطة
, لم يكد ينهي جملته الساخطة تلك إلا وأشار بإصبع الاتهام نحو فيروزة، فقال علنًا:
, -بس الرك على اللي مارعتش الأصول، وجاية فرحانة بمرقعتها.
, فارت دماء تميم، وكاد يطيح به مجددًا، لولا أن تدخل خليل ليعنفه بخشونةٍ رغم اللعثمة الظاهرة في نبرته:.
,
, -بتسم، ي الجواز على سُنة **** ورس، وله مرقعة؟ إخص على كده.
, ثم بصق عليه في نفور صريح.
, ربت أحد الشيوخ الأجلاء على كتفه، ممن مشهود عنهم بسيرتهم الطيبة، وحنكتهم الخبيرة في حل المعضلات، ورجاه في ودٍ:
, -اهدى يا عم خليل.
, استمر فضل في تجاوزاته المسيئة، فتابع بافتراءٍ:
, -ما هو مش منطقي إنها تتسربع على الجواز كده إلا إن آ٣ نقطة
, لم يدعه الشيخ يكمل أكاذيبه، لهذا قاطعه محذرًا بغلظةٍ:.
,
, -عيب يا فضل الكلام ده، إياك وقذف المحصنات!
, كز على أسنانه مغتاظًا، والشيخ ما زال يخاطبه في تشددٍ:
, -أنا بحذرك، كلمة زيادة وأهل البلد هيسيبوك ويمشوا.
, اعترض عليه في غير رضا:
, -يا شيخنا آ٣ نقطة
, مرة أخرى قاطعه آمرًا الجميع:
, -بينا على **** الجنازة.
, لم يرُّده أحد، استجابوا له في طاعةٍ، وتركوا فضل في موضعه، يعض على شفته السفلى غيظًا، وكمدًا، لينصرفوا في اتجاه **** البلدة، بعد أن تولى حفنة منهم حمل النعش للصلاة عليه.
,
, في تلك الأثناء، نأى تميم ب فيروزته بعيدًا عن تلك الأجواء المحملة بالغضب، والكراهية، والعداوة الصريحة، أشار لها لتتبعه سائرة بخطواتٍ شبه متعصبة نحو السيارة، خاطبها في لينٍ محاولاً امتصاص الحنق المكبوت بداخلها جراء هذا الوضيع:
, -مالوش لازمة تعكري دمك مع الأشكال دي، هو عامل الشويتين دول عشان يلم الناس حواليه.
, نظرت إليه صامتة، فأكمل في هدوءٍ:.
,
, -واللي زي ده لما تعبريه وتديله قيمة أكبر من حجمه بيسوق فيها.
, تنهدت مليًا قبل أن تتكلم بقليلٍ من الأسى المعكوس على ملامحها:
, -معاك حق.
, لم يستطع كبح نفسه وهو يعترف لها:
, -زعلك عندي بالدنيا.
, مرة أخرى نظرت في عينيه لتجده مشاعر الحب تنتفض فيهما، قوست شفتيها قليلاً لتظهر ابتسامة باهتة عليهما قبل أن تهمس:
, -ما هو واضح.
,
, ودَّ لو استمر في تجاذب أطراف الحديث معها إلى ما لا نهاية؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، ظهر هيثم على الساحة بعد اختفاءٍ مريب لبعض الوقت، علم منه أن زوجته كانت مشغولة بإرضاع طفلهما، فتفهم حاجتها للبقاء في مكانٍ شبه معزول لتتمكن من إطعامه، تساءل الأول بفضولٍ وهو ينظر للوجوه المتحفزة:
, -في إيه يا ابن خالتي؟
, جاوبه في غموضٍ:
, -نمرة فكسانة كانت بتتعمل واتفضت.
, جاءه تعقيبه في صيغة تساؤلية:
, -من البغل طبعًا؟
,
, قال وهو يومئ برأسه، وبتعابيرٍ شبه متجهمة:
, -هايكون مين غيره.
, أضاف هيثم باستهجانٍ:
, -عمل حركاته الناقصة زي تملي.
, دون أن تتبدل تعابيره المزعوجة أكد صحة تخمينه:
, -بالظبط.
, انسحبت فيروزة في هدوءٍ لتنضم إلى توأمتها، وراحت تثرثر معها عما حدث قبل برهةٍ بعباراتٍ موجزة، ليظهر الاستياء على وجه الأخيرة مستنكرة سلوكياته المشينة. زمت همسة شفتيها، واستطردت معلقة وهي تهز ذراعيها في حركة متكررة ومتناغمة ليخفو رضيعها:.
,
, -بصراحة واحد زيه المفروض يحس بالقهرة وكسرة القلب بعد وفاة أبوه، بس هو بني آدم فظيع، معندوش إحساس ولا ددمم.
, بتأفف متزايد أخبرتها فيروزة وهي تدير رأسها في اتجاه تميم لتطمئن عليه من مكانها:
, -**** يخلصنا منه.
, عادت لتنظر إلى وجه شقيقتها عندما سألتها:
, -إنتي هتعملي إيه؟
, مسدت بيدها على حجابها لتتأكد من انضباطه على رأسها، ثم أجابتها مع زفيرٍ سريع:
, -هشوف هيتفقوا على إيه.
, لوت همسة ثغرها معقبة بجديةٍ:.
,
, -أنا رأيي نخلينا بعيد عن المشاكل، احنا مش ناقصين.
, بعد دقيقة تقريبًا، جاء تميم ومن خلفه هيثم ليقول الأول في لهجة آمرة، لا تخلو من بعض الصرامة، وعيناه تتطلعان إلى فيروزة:
, -إنتو هتفضلوا هنا.
, أضاف عليه ابن خالته في صوتٍ يماثله في الجدية:
, -بس مش هتستنوا في المكان ده، هنسيبكم عند حتة أمان عن هنا.
, وافقته همسة الرأي، وأبدت استحسانها قائلة:
, -كده أحسن.
, في حين تساءلت فيروزة في اهتمامٍ جاد:
, -فين يعني؟
,
, تبادل تميم مع ابن خالته نظرة سريعة قبل أن يأتيها رده:
, -بيت العمدة.
, سكتت لتفكر في اقتراحه المناسب للوضع الراهن، ثم التفتت ناظرة إلى همسة التي أيدت رأيه بقولها:
, -وأنا لسه كنت بقول ل فيروزة الكلام ده، مافيش داعي نكون سبب في أي مشاكل.
,
, لم تطل الكلام أكثر من هذا، فقد سرت همهمات شبه مرتفعة جعلت الأنظار تتجه نحو باحة البيت؛ حيث بدأ الحضور في التجمهر إيذانًا بخروج جثمان الفقيد، أشار هيثم بيده لزوجته، وللبقية قائلاً:
, -طب بينا، النعش اتحرك.
, تحركوًا تباعًا؛ لكن تميم تعمد التباطؤ في خطواته ليغدو سائرًا بجوار فيروزة، لم يستطع منع نفسه من سؤالها:
, -أنا عارف إنه مش وقته، بس ممكن أعرف حاجة؟
, احتفظت بملامح وديعة رقيقة وهي ترد:
, -اتفضل.
,
, تنحنح في خفوت ليجلي أحبال صوته، قبل أن يتشجع قائلاً بترددٍ طفيف:
, -اللي قولتيه قصاد الناس من شوية، كان بجد، ولا ده آ٣ نقطة
, فهمت ما يرمي إليه، كان يظنها تمزح، مجرد بضعة جمل تُخرس بها الألسن قبل أن تنهش في سيرتها، لهذا قاطعته قائلة بثقةٍ، وتلك اللمعة تضيء في عينيها:
, -أنا مابقولش حاجة وأرجع فيها يا معلم.
,
, حملق فيها مدهوشًا، فأسرعت الخُطى لتهرب من هذه النظرات الوالهة، الناطقة بأسمى معاني الحب، رغمًا عنه تشكلت ابتسامة ضاحكة مستبشرة على وجهه، وهو يردد لنفسه في سرورٍ سرعان ما أخفى أماراته من على تقاسيمه:
, -**** يرحمك يا حاج إسماعيل، موتك جه بفايدة.
,
, على الدرجة الرخامية الأولى للسلم الداخلي للبناية، جلس كلاهما معًا استعدادًا لتناول الوجبة الشعبية (الكُشري) بشراهةٍ، بعد أن تم تكليفهما بحراسة المكان ومراقبته طوال فترة غياب قاطنيه. نزع حمص الورق المفضض المغلف لعلبته، لضمان حفظ الحرارة به، ثم أفرغ كيسًا صغيرًا كان قد جاء مع الطعام بعد أن أزاح الغطاء البلاستيكي. تساءل شيكاغو وهو يفعل مثله:
, -حط دقة زيادة ولا لأ؟
, أجابه وهو يقلب محتويات علبته معًا:.
,
, -أه، أنا قولتله.
, عقب شيكاغو بوجهٍ شبه منقلب وهو يدس ملعقته في الخليط الساخن:
, -المرة اللي فاتت الصلصة كانت صايصة.
, تقوست زاوية فم حمص الممتلئ بابتسامةٍ ماكرة وهو يرد:
, -هو احنا سكتناله يعني؟ ما خدنا حقنا وزيادة.
, هز رفيقه رأسه بإيماءة راضية بعد أن تذوق أول ملعقة، لم يكترث بتناثر بقايا الطعام من جوفه وهو يخاطبه في لهجةٍ جادة:
, -بقولك صحيح، الواد الأص اتمسك بتُربة حشيش.
, اكتست تعابير حمص بالضيق، وتساءل مصدومًا:.
,
, -إنت عرفت منين؟
, بلع شيكاغو قدرًا من طعامه، وتابع الكلام وهو يمسح السائل المنساب من على طرف فمه بظهر كفه:
, -حد من المقاطيع اللي معاه حب يعلم عليه، وحبايبي بلغوني.
, غرَّز حمص ملعقته من جديد في علبته، ليضمن امتزاج المكونات معًا بعد إضافة الصلصة الحريفة إليها، ثم قال:
, -ده لبسه في الحيط.
,
, وضع شيكاغو بين أسنانه زجاجة المشروب الغازي، لينتزع غطاها ويفتحها، تجرع ثلثها في رشفة واحدة، ليطفئ اللهيب المندلع في جوفه، ثم تجشأ قائلاً:
, -الكلام الداير إنها تصفية حسابات قديمة.
, غامت ملامح وجه حمص وهو يكلمه:
, -عاوزين نشوفلنا حد تاني نستقضى منه حاجتنا.
, اقترح عليه بهدوءٍ:
, -في العُوكشة، إيه رأيك؟
, التوت تعابيره اشمئزازًا وهو يردد في غير رضا:
, -ده واد فقري، وجِلدة.
,
, (اطرق على الحديد وهو ساخن) عَمِل بتلك المقولة الشهيرة، فقضى ما تبقى من ليله يفكر، ويدبر، ويرتب أفكاره الشيطانية، ليبدو أكثر تسلطًا، وتطلّبًا وهو يفرض شروطه عليهم، ليخرج رابحًا من هذه القضية الخاسرة. قطع حُسني الطريق أشواطًا، استنشق آخر دفعة دخان من سيجارته، قبل أن ينهيها بإلقائها عند قدميه ليدعسها وهو يقترب من مدخل البناية. بدا في وضعية تحفز، وعيناه تبرقان بوميضٍ غاضب؛ لكن ما لبث أن تبدلت قسماته المشدودة إلى لمحات من الذهول والاستغراب عندما رأى الاثنين المرابطين عند السلم، خاصة مع الندوب وعلامات الشجار العنيفة المحفورة على وجهيهما.
,
, تردد لحظيًا، واستجمع نفسه قبل أن يظهر عليه ارتباكه من المفاجأة؛ حيث أنه لم يتوقع وجود أحدهم في هذا المكان، وتحديدًا هذه الأوجه الإجرامية. قرر تجاهلهما، والمرور بجوارهما في هدوءٍ لتجاوزهما؛ لكن شيكاغو استوقفه متسائلاً في صلابة:
, -رايح فين يا أخ؟
, حدجه حُسني بنظرة باردة، قبل أن يأتيه رده مثل نظرته:
, -وإنت مالك؟
, نهض من جلسته منتفضًا، وصاح بغضبٍ متصاعد في صدره، ونظرة حانقة تطل كذلك من عينيه:.
,
, -لأ مالي ونص وتلاتربع.
, انضم إليه حمص وترك ما في يده، ليقوم واقفًا، ويسأله بلهجةٍ محققة:
, -جاي لمين؟
, التفت ناحيته، ورد عليه بنفس الأسلوب الفظ:
, -يخصك في إيه منك ليه؟
, أجاب عليه شيكاغو بغلظةٍ:
, -كل اللي في الناحية دي يخصوني٣ نقطة
, سدد إليه حُسني نظرة نارية، أتبعها ببسمة هازئة مرسومة على ثغره، فما كان من شيكاغو إلا أن تابع بهديرٍ مهدد:
, -هاتنطق ولا أعمل معاك السليمة؟
,
, ضحك حُسني ساخرًا منه، قبل أن يتكلم بصعوبة وسط ضحكاته المصطنعة ليزيد من استفزازه:
, -****! هو إنت منهم؟
, ارتفعت نبرة حمص، ولكزه في صدره متسائلاً:
, -ماتلوكش في الكلام، جاي لمين؟
, لم يجبه، ونظر إليه بتعالٍ، كأنما يتحداه أن يتجرأ عليه، في حين استطرد شيكاغو صائحًا:
, -إنت لسه هتسأله، قلبه وشوف بطاقته.
, لم يأخذهما على محمل الجد، ووكز أحدهما في ذراعه وهو يحتقرهما بكلماته المزدرية:.
,
, -إيدك إنت وهو ياض، معدتش إلا إنتو يا كُناسة الشوارع، ده أنا أسويكم بالأرض.
, تحرك شيكاغو ليقف قبالته متحديًا إياه بجراءةٍ لا تخلو من نزعة التهديد:
, -كان غيرك أشطر٣ نقطة
, نظرة غامضة منحها لرفيقه، فهمها الأخير، وأومأ برأسه بخفة، قبل أن يأمره صراحةً:
, -رقده.
,
, تحولت أنظار حُسني على حمص ؛ لكن في لمح البصر كان كلاهما قد تكالبا عليه، وأسقطاه أرضًا، رغم المفاجأة المباغتة إلا أنه قاوم محاولتهما لتقييده، وظل ينازعهما إلى أن خارت قواه أمام عنفهما المتزايد، لهث وتقطعت أنفاسه وهو يسألهما في عصبيةٍ:
, -إنتو مين؟
,
, لم يبخلا عليه بقدرٍ من اللكمات، وبعض الوكزات واللكزات المؤلمة في صدره، وعنقه، ووجهه، حتى أجهزا تقريبًا على طاقته المشحوذة ضدهما، تمكن بعدها حمص من انتشال محفظته، ليخرج منها بطاقة هويته الشخصية، ولكونهما على علمٍ مسبق باسم الشخص المُراد الحيطة منه، كان من اليسير عليهما التعرف عليه، لوح بها إلى شيكاغو وهو يخبره بابتسامةٍ لم يفهم مغزاها سواه:
, -هو اللي عليه العين.
,
, خلت تعابير وجه شيكاغو من أدنى أمارات التعاطف وهو يهتف متوعدًا إياه:
, -نهارك ماطلعلوش شمس.
, أدرك حُسني أنه وقع في قبضة شرذمة من معتادي الإجرام، الندوب أصبحت أكثر وضوحًا، الشراسة باتت غير قابلة للإنكار، ازدرد ريقه غير الموجود في جوفه، وتساءل بصوتٍ جاهد لجعله غير مهتزٍ:
, -إنتو مين؟
, انطلقت شرارات عدوانية ممتزجة بانتشاء غريب من عيني شيكاغو وهو يخبره:.
,
, -احنا اللي هنسويك على الجانبين، لحد ما يبانلك صاحبك، بس قَبلَة نشحنك على الشونة!
, ارتجف قلبه رهبةٍ، وقاوم هذا الشعور بالخوف ليقول في عداءٍ، وهو يتلوى بجسده ليتحرر من قيدهما المحكم كرمقٍ أخير للنجاة ببدنه:
, -حاسب يا (، ) إنت وهو.
, تبادل حمص نظرة سريعة مع رفيقه قبل أن ينطق بلهجة لم تحمل سوى نية صريحة بإيذاء موجع، موجع للغاية:
, -ده بيغلط، نهارك كوبيا!
,
, الحنين إلى الماضي بكافة ما يحتويه من ذكريات، أمنيات، آمال، وقدر من الأحلام كان مطلوبًا في تلك الزيارة الاستثنائية، لتجاوز مرحلة الضغوطات المؤذية للنفس والمتلفة للأعصاب. أحست فيروزة بالدفء يتسلل إلى روحها بعد أن وطأت بيتها في البلدة، المكوث فيه لبعض الوقت كان مفيدًا إلى حدٍ ما، انتبهت إلى توأمتها القائلة بسعادةٍ ظاهرة عليها تناقض الظروف الحادثة:.
,
, -زي ما نكون سيبنا البيت إمبارح، كل حاجة في مكانها، وزي ما هي.
, لاذت بالصمت وهي تصغي إليها عندما أكملت بحماسٍ:
, -شوية تنضيف ويبقى زي الفل.
, اكتفت بهز رأسها، واتجهت سائرة نحو الباب لتساعد خالها على الولوج، ثم أزاحت الغطاء الأبيض عن إحدى الأرائك وهي تدعوه للجلوس:
, -تعالى يا خالي ارتاح هنا شوية.
,
, أطلق زفرة متعبة وهو يلقي بثقل جسده على الأريكة، أراح رأسه للخلف، وأغمض عينيه في إرهاقٍ واضحٍ عليه، ابتعدت عنه، وتحركت في اتجاه رقية التي أخذت تتجول في المنزل وهي تتساءل في فضول طفولي:
, -ده بيتنا يا فيرو؟
, أجابتها بابتسامةٍ صغيرة لطيفة:
, -أيوه يا كوكي.
, زمت الصغيرة شفتيها، ووضعت يدها على بطنها لتقول ببراءةٍ:
, -أنا جعانة.
, فتحت فيروزة سحاب حقيبتها لتخرج من داخلها ورقة مغلفة، قدمتها إلى ابنة خالها قائلة:.
,
, -معايا سندوتش جبنة، تاكليه؟
, هزت رأسها موافقة:
, -طيب
, ناولته إياه بعد أن فضت الورقة عنه، ومسحت على جانب وجهها بحنوٍ قبل أن تمرق في الردهة المؤدية إلى غرفتهما القديمة، حيث استقرت شقيقتها مع رضيعها. وقفت فيروزة عند عتبة باب الحجرة تسألها:
, -أومال فين جوزك؟
, جاوبتها بإشارة من رأسها:
, -واقف مع تميم برا، هيشوفوا هنعمل إيه بعد كده.
,
, تلقائيًا استدارت رأسها نحو الشباك الموصود الذي يفصل غرفتهما عن الخارج، كأنها تطمح أن تنفذ نظراتها عبرته لتصل إليه، فتشعر بقربه، ويشعر بوجودها حوله، توقفت عن التماوج في فضاءات خيالها الحالم مؤقتًا لتردد في تبرمٍ:
, -وطبعًا ماما مش هترجع دلوقتي من بيت عمي.
, اتخذت همسة حذرها وهي توضح لها على مهلٍ:
, -ما إنتي عارفة إن دي الأصول والعوايد، والمفروض على الأقل نكون كلنا هناك التلات أيام، بس عشان آ٣ نقطة
,
, لمحة من التردد انعكست في نبرتها قبل أن تستأنف كلامها بمزيد من الحيطة:
, -المشاكل وكده، فاحنا هنفضل هنا.
, كانت في غنى عن الغوص في المزيد من التعقيدات، والاستفزازات المستهلكة لطاقة الفرد على التحمل، تنهدت بعمقٍ قبل أن تعقب عليها في ملامح واجمة:
, -أيوه، عارفة، وربنا يهون.
,
, لو لم يكن قد تلقى ذلك الاتصال الذي أثلج صدره، وشَرَحه قليلاً، لربما بقي على حالته المستثارة، وذهب مرة أخرى إلى هذا الوغد الحقير لإشباعه بالضرب المبرح جراء زلات لسانه الوقحة، تلك التي لم يتوقف عنها حتى بعد دفن أبيه. لاحظ هيثم تبدل تعابير ابن خالته، فنظر إليه مستفهمًا، فأخبره في صوتٍ جاد:
, -الواد اتجاب.
, تساءل في تحيرٍ:
, -واد مين؟
, استخدم يده في الشَرحِ وهو يجيبه:
, -اللي اسمه حُسني، قريب مراتك.
,
, هز رأسه كمن تذكر الأمر، وعلق متسائلاً:
, -أه، افتكرته، طب كويس، وإنت ناوي معاه على إيه؟
, فرك تميم طرف ذقنه بيده؛ كأنما استغرق للحظةٍ في أفكاره الخاصة، لينطق بعدها بغموضٍ:
, -نخلص من الحوار اللي هنا، وأفوقله.
,
, -شكر **** سعيك.
, ردد تلك الكلمات وهو يمد يده لمصافحة أحد الأشخاص ممن جاءوا لتعزيته في وفاة والده، ثم عاد للجلوس مجددًا على مقعده الخشبي الموجود في المقدمة، ليدير رأسه إلى الحاج فتحى الذي استمر في توبيخه بصوتٍ خفيض:
, -يا غبي! أنا قولتلك تعمل كده؟ عاوز تلفت العين عليك؟
, صر على أسنانه مدمدمًا بنبرة خافتة، ووجهه مغطى بأمارات الضيق والغيظ:
, -يعني أسكت لما أشوف الطِحش ده قصادي؟ وأعمل فيها خروف؟!
,
, نظر له فتحي شزرًا، فاستمر يقول بنبرة مالت للارتفاع:
, -ده كان حقي أكله بسناني.
, حذره بإشارة صارمة من عينيه ليلتزم الصمت، ثم خاطبه في هسيسٍ كالأفعى:
, -أخد الحق صنعة، مش جهجهوني كده.
, رد بتبرمٍ وهو ينهض لمصافحة آخر:
, -أهوو اللي حصل بقى.
, عاود الجلوس، وحدق في وجه فتحي حين أكد عليه بخبثٍ:
, -لو سمعت كلامي هتكسب.
, ظل على تعابيره المكفهرة وهو يُحادثه بغير نفسٍ:
, -ما أنا سمعته سابق، وشوف جرى إيه لأبويا.
,
, كأن ما حدث لرفيق العمر لم يهز شعرة من رأسه، بل اعتبر أنه نال جزاء ما يستحق لفعلته السابقة مع أسيف، حين اتخذ صفها، وعارضه بشكلٍ جعله رغبته الانتقامية تتأجج فيه. استعاد إدراكه لما حوله، وقال بصوتٍ جاف تعمد تطعيمه ببعض الوعظ الديني، للتغطية على ذنبه:
, -لكل أجلٍ كتاب، عمره كان لحد كده، هنعترض على قضاء ****.
, رمقه فضل بنظرة حادة، في عمقها يظهر الاحتجاج؛ لكن سرعان ما قضى عليه فتحي في مهده بتبرير أسبابه:.
,
, -ولا كان عاجبك تبقى مرمي في الشارع رمية الكللابب، وخير أبوك يروح لغيرك؟
,
, أطال النظر إليه متذكرًا حياة التشرد التي عاشها لأيامٍ بعد أن قام والده الراحل بطرده من المنزل، حيث ذاق فيها القسوة، والمُر، والإهانة، والمعاملة الدُونية، ربما استمر هذا الوضع البائس لفترة أطول لولا أن انتشله فتحي من القاع باقتراحه اللئيم، وقتئذ حثته دوافع الكراهية، ونوازع الانتقام، للفُجر في الخصومة، والاقتصاص منه بدهاءٍ، فكان بإقامة دعوة قضائية تمنعه من التصرف في أمواله قانونيًا، وحدث ما صبا إليه، ونال القهر من إسماعيل، ومات كمدًا وألمًا.
,
, كالشيطان الذي يوسوس لضعاف النفوس، فيغريهم ويغويهم، إلى أن يسقطوا في الهاوية، سرى صوت فتحي على مسامع الجالس إلى جواره بقوله المليء بوعودٍ طامعة:
, -اصبر، ده أنا غرضي مصلحتك، ومعايا كل اللي نفسك فيه هيتعمل.
, نظر في عينه، وقال بإذعانٍ واضح:
, -ماشي يا عم فتحي، أديني وراك لحد ما أشوف أخرتها إيه.
,
, في نفسه الخبيثة لم يكن يريد طاعته إلا ليصل إلى غاياته في الظفر بكل شيءٍ كان على وشك الحرمان منه قسرًا: المال، الجاه، الحَسب، السُلطة، القُدرة، وقبل هذا، هي، لا لمحبةٍ خالصة فيها، وإنما لنزعة مريضة فيه٣ نقطة!
 
٥٣

نهنهات البكاء وآناته، كانت سائدة في كل بقعة محيطة بالمنزل، ليس للتضامن مع الوغد الجالس بالخارج على رأس المعزيين، وإنما تقديرًا للفقيد الذي كان لا يدخر وسعه لمساعدة الكثيرين في البلدة. كفكفت آمنة دموعها المنسابة، بعد أن عصفت بها ذكريات الماضي الموجعة لرحيل شريك العمر، حاولت مواساة سعاد في مُصابها؛ لكنها تفاجأت بها تخاطبها في لهجة آمرة، وجامدة تدعو للاسترابة:
, -خدي بناتك، وإمشي.
,
, توقفت عن البكاء لتنظر إليها مدهوشة، رأت في وجهها جمودًا أعجب، صمتت لوهلةٍ كأنما تستوعب الأمر، ثم هتفت مستنكرة:
, -إيه اللي بتقوليه ده يا سعاد؟
, بنفس الطريقة الجافة أحرجتها أمام النساء المجتمعات في بهو المنزل:
, -زي ما سمعتي، إمشي٣ نقطة
, تدرج وجه آمنة بحمرة خجلة للغاية، ونظرت إليها متحيرة؛ لكنها استمرت في لهجتها الآمرة:
, -خدي بعضك وامشي مع بناتك قبل ما الليل يجي، إنتي عملتي الواجب، وسعيكم مشكور.
,
, تحولت ملامحها للتجهم الشديد، وقامت من مكانها معلقة باستهجانٍ:
, -إنتي كده بتطرديني؟
, لم تحد سعاد بنظراتها المتجهمة عنها، وأخبرتها في صوتٍ لم يصدر منها مُطلقًا:
, -بعد كده هتشكريني.
, أمام سكوتها القاسي، ونظرات الدهشة الممتلئة بها الأوجه، انسحبت آمنة من عزاء السيدات، وهي تحني رأسها في أسفٍ، ليتبع ذلك ترديدها الحزين عند عتبة باب المنزل:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، بقى دي أخرتها؟!
,
, كادت تصطدم خلال سيرها المتعجل ب فضل الذي اعترض طريقها، تماسكت، وحافظت على اتزانها، لتنظر إليه في حسرةٍ، بادلها نظرات تحمل الإنكار لذهابها مبكرًا، وصاح متسائلاً:
, -رايحة فين يا مرات عمي؟
, رمقته بنظرة حادة، وتحركت إلى الجانب لتتجاوزه وهي ترد في نبرة شبه غاضبة:
, -اسأل أمك.
, تدلى فكه السفلي مندهشًا للحظةٍ، وتبعها بنظراته الفضولية متسائلاً في استغرابٍ حائر:
, -اسأل أمي على إيه؟!
,
, فرك بيده –في حركة سريعة متكررة- شعره عدة مرات وهو يتحدث هاتفيًا إلى أبيه ليطلعه على آخر المستجدات الخاصة بالعزاء، لم يكن ليخطو خطوة دون الرجوع إليه، خاصة هذا الأمر تحديدًا، اتقاءً لشرور النفوس الخبيثة. أطلق تميم زفرة طويلة، أضاف بعدها في جديةٍ:
, -تمام، هشوف الوضع إيه يا حاج، وأعرفك.
, بدت ملامحه إلى حدٍ كبير عابسة، وانعكس الضيق على نبرته أيضًا عندما تكلم إليه:
, -أكيد طبعًا، أنا عامل حسابي.
,
, استدار محدقًا في وجه ابن خالته، وقال موجزًا:
, -مسافة الطريق.
, ودعه دون أن تسترخي قسماته المشدودة:
, -حاضر يابا، في رعاية ****.
, بمجرد أن ضغط على زر إنهاء المكالمة، عاجله هيثم بسؤاله المتطفل:
, -هتمشي؟
, طرد الهواء من صدره في دفعة واحدة قبل أن يجاوبه:
, -لو كان ينفع كنت فضلت معاك، بس عشان الأصول وكلام الناس.
, أيده في رأيه متمتمًا وهو يُريح ذراعه على سقف السيارة:
, -معاك حق، الحكاية مش ناقصة عك، وهنا ما بيصدقوا.
,
, عقب عليه تميم في امتعاضٍ مستنكر:
, -الناس في أي حتة ما بتصدق تعمل من الحبة قبة، واحنا عندنا واحد عامل زي نافخ الكير.
, ابتسم في سخرية وهو يرد مخفضًا رأسه:
, -على رأيك٣ نقطة
, سكت لهنيهة، ثم رفع رأسه استعدادًا لإكمال جملته؛ لكنه لمح أحدهم يقترب منهما في خطى شبه مهرولة، وسط الفراغ الممتد من حولهما، استرعى الأمر كامل انتباهه، وقال بتلقائية:
, -بص هناك كده، في حد جاي علينا.
,
, تحولت عينا تميم إلى حيث ينظر ابن خالته وهو يسأله في اهتمامٍ:
, -فين؟
, صحح له مسار نظره قائلاً:
, -يمينك..
, أمعنا النظر في الكتلة البشرية المقتربة منهما، تلك التي بدأت تتضح معالمها، فنطق هيثم من جديد عاليًا:
, -مش دي حماتي اللي جاية من بعيد؟
, تفرس في هيئتها، وقال موافقًا:
, -أه هي٣ نقطة
, لكن ما لبث أن تساءل مُتعجبًا:
, -هي راجعة قبل ميعادها ولا إيه؟
,
, زم هيثم شفتيه للحظةٍ قبل أن يُحادثه وقد استدار بجسده كليًا ليغدو في مواجهتها:
, -باين كده.
, أطال تميم التحديق بها وهو يضيف:
, -دي كانت قايلة هتفضل لحد بعد العشاء هناك في بيت الحاج إسماعيل.
, اتفق معه في كلامه، فردد بتحيرٍ:
, -أيوه، أومال حصل إيه؟
, نظرة جانبية سريعة منحها له قبل أن يعاود النظر إليها قائلاً:
, -دلوقتي نسألها ونعرف.
, غمغم هيثم في توجسٍ:
, -**** يستر ومايكونش قل بأصله.
, أومأ بحاجبه هاتفًا:
, -هيبان.
,
, انتظرا قدومها إليهما، وبادر هيثم بسؤالها أولاً في نبرة مهتمة:
, -السلام عليكم، إيه الأخبار يا حماتي؟
, لم تتطلع إليه وهي ترد في وجومٍ مريب:
, -جهز العربية يا ابني، احنا ماشيين.
, لاحقها تميم بأسئلته متوقعًا حدوث الأسوأ معها:
, -ماشيين ليه؟ حصل إيه؟ حد اتعرضلك ولا ضايقك؟
, توقفت عن المشي لتستدير ناحيته، ثم أخبرته بما أصابه بالمزيد من الحيرة:
, -لأ، بس قُعدنا مالوش لازمة٣ نقطة
,
, أبعدت نظراتها عنه، وأكملت كلامها في جديةٍ منزعجة:
, -أنا هاخش أنادي على أخويا والبنات خلينا نلحق نمسك الطريق قبل ما الدنيا تضلم علينا.
, لم يعقب أحدهما عليها، ظلا صامتين إلى أن غادرت، فاستطرد تميم مخاطبًا ابن خالته:
, -شكل الموضوع كبير.
, ربت هيثم على كتفه قائلاً بهزة واضحة من رأسه:
, -الظاهر كده.
,
, الكدمات والتورمات التي افترشت أنحاء جسده، جعلته عاجزًا عن إيقاف شعوره بالألم، خاصة مع حركته العنيفة والمقاومة للقيد الإجباري المفروض عليه، حاول حُسني تحرير معصميه؛ لكنهما كانا مثبتان بحبلٍ غليظ في مسندي الكرسي الخشبي المربوط فيه، انتفض بصدره في قوةٍ، علَّ بمحاولته اليائسة يزحزح الأربطة عنه، ورغم ذلك المجهود الكبير إلا أنه فشل أيضًا. جال بنظراتٍ جمعت بين الخوف والترقب المكان من حوله، فلم يتبين سوى تفاصيلٍ قليلة منه، حيث كانت الإضاءة باهتة، الجدران مطلية بلونٍ داكن، لم يستطع تحديد ماهيته، القش، الأقفاص، الألواح الخشبية، وبعض الكراكيب القديمة متناثرة هنا وهناك. تخشب في جلسته غير المريحة على الإطلاق وقد سمع صوت همهمات خارجية، أدار رأسه في اتجاه مصدر الصوت، وتجمدت عيناه على بابٍ معدنيٍ يُسحب للأعلى، برزت حدقتاه على اتساعهما عندما رأى الاثنين اللذين تصارعا معه عند منزل خليل، رغم انحباس نبرته في البداية وتحشرجها إلا أنه صرخ فيهما بتشنجٍ:.
,
, -أنا فين؟ وإنتو مين؟
, ضحك حمص هازئًا منه، فواصل صياحه الهادر:
, -خاطفيني ليه؟ بيني وبينكم إيه؟
, تبادل شيكاغو الضحك مع رفيقه مما استفز مشاعره، وأغاظه، لهذا هدر مهددًا:
, -ده أنا هوديكم في داهية!
, مسح حمص على صدره في حركة دائرية، وأخبره بانتشاء مستمتع بإذاقته صنوف العذاب:
, -احنا الداهية يا (، ).
, تحقيره، والتقليل من شأنه استثار أعصابه بسهولة، لذا رد عليه بنبرة هجومية:
, -فكني وأنا هوريك مقامك يا (، ).
,
, دنا منه شيكاغو، وربت على صدغه بما بدا أشبه بالصفعات القاسية وهو يحذره:
, -ما تخدش الموضوع على صدرك أوي بدل ما تندم.
, التهبت بشرته، وظهرت أثار أصابعه على خده، فصرخ فيه بغلٍ:
, -إبعد إيدك، ده أنا هقتلك.
, كركر ضاحكًا قبل أن يبتر الضحكات المصطنعة ليقول بنوعٍ من الاحتقار:
, -مش هتعرف.
, استمر حُسني على صياحه الحانق لاعنًا الاثنين بكلمات نابية:
, -فكوني يا شوية (، )، ده أنا هطلع (، ).
,
, كتف حمص ساعديه أمام صدره، ورفع كفه ليمسح به على طرف ذقنه سائلاً رفيقه بنظرة ميتة:
, -هنسيبه يغلط فينا كده؟
, توحشت عينا شيكاغو بشكلٍ مرعب حين تكلم بابتسامةٍ أبرزت نزعته المبيتة للإيذاء:
, -لأ طبعًا، المعلم قال إيه، اللي يغلط يتأدب، وبالأصول.
, علق عليه حمص بتأيدٍ مبطن:
, -يبقى واجب نعرفه أصول منطقتنا.
, النظرات الوحشية التي قرأها في وجهيهما أوحت بشرٍ مستطر، هوى قلبه بين قدميه، وهلل متسائلاً بفزعٍ:
, -هتعملوا إيه؟!
,
, زادت بسمة شيكاغو اتساعًا قبل أن يميل ناحيته، ليدنو من أذنه، ثم هسهس له بفحيح كالأفعى:
, -إنت ضيفنا، وإكرام الضيف٣ نقطة
, برودة قارصة حلت ببدن حُسني، خاصة حين أتم جملته بنفس الصوت الخافت المفعم بالشراسة:
, -واجب علينا.
,
, استطالت فترة الصمت، وما تردد من بضعة عبارات طوال مسافة الطريق كان موجزًا، مُحايدًا، لا يشير إلى موضوعٍ بعينه، حتى نظراته إليها كانت إلى حدٍ ما متباعدة؛ وكأن هناك ما يسعى لإخفائه عنها بتجنبها. تنامى هذا الشعور بداخلها وهو يميل على خالها عند مفترق كل إشارة ليكلمه بصوتٍ خفيض، عجزت عن تفسير ما يتردد خلاله.
,
, أما عن والدتها فكانت أبعد ما يكون عنها، نظراتها تائهة، ملامحها واجمة، بالكاد تمنع نفسها من البكاء العميق، فقط تخونها الدموع بين الفنية والأخرى، فتمسحها بمنديلها الورقي المهترئ دون أن تنبس بكلمة. لم تستطع مقاومة الفضول المستعر بداخلها، فتساءلت عاليًا، لتبوح بما يعتمر رأسها من أسئلة متصارعة، لا تجد لها أي أجوبة:
, -في إيه يا جماعة؟ هو حصل حاجة؟
,
, التفت خليل برأسه ناحيتها لينظر إليها، وقال نافيًا بلا ابتسامٍ:
, -لأ، كله تم، ام.
, دققت النظر في وجهه، فرأت التردد ظاهرًا عليه، بل إنه تحاشى إطالة النظر، وهرب بعينيه منها، فتساءلت بغير اقتناعٍ:
, -متأكدين؟ أصل حاسة إن في حاجة غلط، أو إنتو مخبيين عنا حاجة؟
,
, الكذب عليها لم يكن متاحًا لديه، لهذا كان الحل الأسلم له التزام السكوت، وادعاء انشغاله بالقيادة، وذلك ما لم ينطلِ عليها! أولت وجهها نحو والدتها تسألها في إلحاحٍ:
, -وبعدين يا ماما إنتي مشيتي بدري ليه؟
, جمدت آمنة نظراتها على الطريق، ولم تعقب، فاستمرت ابنتها تسألها:
, -مش المفروض بنقعد ال 3 أيام؟
, محاصرتها بالأسئلة لن يأتي بفائدة، هربت من هذه الضغوطات بصياحها المزعوج:.
,
, -خلاص بقى يا فيروزة هو تحقيق؟ أنا دماغي مش فايقة!
, تعجبت من ردة فعلها المبالغ فيها، المناقضة لما كانت عليه باكر، خاصة أنها من كانت توصيها طوال طريق الذهاب بالصبر، وعدم افتعال المشاكل، إن مكثوا لمدة أطول في البلدة. هزت رأسها دون أن تشبع فضولها، ورددت:
, -طيب يا ماما.
, ألصقت فيروزة حقيبتها بصدرها، وراحت تتأمل الطريق من جانبها، وهي تخبر نفسها في نبرة عازمة:
, -عمومًا، لو في حاجة، فأنا مسيري أعرفها.
,
, تهادت سرعة السيارة، وتباطأت حين انعطفت من الشارع الرئيسي، لتتجه إلى الطريق الجانبي المؤدي إلى البناية. أوقفها تميم بمحاذاة الرصيف، ثم ترجل أولاً، دون أن يُبطل محركها، ومسح المكان بنظراتٍ فاحصة، متأملة قبل أن ينطق في صوتٍ هادئ:
, -حمدلله على السلامة، اتفضلوا.
,
, عندئذ ترجلت والدتها دون أن تنطق بشيء كعادتها الغريبة في الساعات الأخيرة، ولحقت بها الصغيرة رقية، في حين استعدت فيروزة للنزول بعدهما؛ لكنها لمحت بطرف عينها يد تميم وهي تمتد لتضغط على جانب ذراع خالها، كأنها إشارة خفية لأمر ما، فمكث الأخير في مكانه دون حراكٍ، ضاقت عيناها باسترابة، ولم تمرر ذلك على خير، تعمدت التلكؤ وهي تترجل من جانبها، وحانت منها التفاتة جادة ناحيته؛ لكنه لم يكن ناظرًا في اتجاهها، وهذا شيء غريب، غير مستساغٍ عليها! انتبهت إلى صوته يقول بعد نحنحة سريعة:.
,
, -أنا عاوزك في مشوار كده يا عم خليل.
, تركز بصرها على خالها، ورأته وهو يومئ برأسه قائلاً دون جدالٍ:
, -طيب.
, استُثير شعورها بالريبة، وتضاعفت أماراته بداخلها، مررت نظراتها المتفرسة على وجهي كليهما، وباتت شبه متأكدة أنهما يخفيان عنها أمر ما. لفت حول مقدمة السيارة، ومنعت تميم من ركوبها، بوضع يدها على بابها المجاور له، حملق فيها مندهشًا، وحاول الفرار من نظراتها المتشككة عندما سألته مباشرة:.
,
, -إنت واخده ورايح على فين؟
, حك طرف ذقنه قائلاً بصوتٍ هادئ، وعيناه تحاولان ألا تنظر إليها:
, -مشوار على السريع.
, انعقد حاجباها بشكلٍ واضح، مما زادها بأسًا على بأس، خاصة وهي تلاحقه بسؤالها التالي:
, -أيوه فين يعني؟
, أعطاها ردًا شبه مراوغ وهو يشير بيده:
, -حتة مش بعيدة، جمبنا هنا.
, ضاقت عينها بمزيدٍ من الشك، وسألته:
, -ليه؟
, قبل أن يفكر في منحها الجواب المناسب، حذرته مشيرة بسبابته:
, -ويا ريت تكون واضح معايا.
,
, التحايل عليها، وحياكة الأكاذيب لم يكن خيارًا مطروحًا، لهذا لم يجد بدًا من الاعتراف لها على مضضٍ:
, -هنقابل قريبه.
, كل لبيب بالإشارة يفهم، خمنت دون الحاجة للتفكير هوية الشخص المقصود، وأفصحت عنه علنًا في صيغة متسائلة:
, -خال رقية؟
, قال متجهمًا:
, -أيوه.
, منحته نظرة غامضة، تحوي غضبًا واضحًا، قد أخذ في التجمع في حدقتيها اللامعتين، قبل أن تتراجع من مكانها، لتعود إلى مقعدها بالسيارة وهي تردد في حسمٍ حازم:.
,
, -أنا جاية معاكو.
, احتج على قرارها غير الصائب هاتفًا في صدمةٍ:
, -استني بس، مافيش داعي لوجودك، ده الموضوع هننهيه في السريع.
, أغلقت الباب من خلفها بقوةٍ، ونظرت إليه من نافذتها صائحة بعنادٍ أحمق:
, -حتى لو هتخلصه في دقيقة، برضوه هاروح معاكو، فمتحاولش تمنعني.
, استند بقبضتيه على إطار نافذتها، ورمقها بنظرة معترضة معلقًا في انزعاجٍ:
, -إنتي عنادية أوي، وده ماينفعش، احنا مش رايحين نهزر.
, بادلته نظرة أكثر عِندًا وهي ترد:.
,
, -ومين قالك إني رايحة ألعب؟ أنا رجلي على رجلكم.
, أطبق على شفتيه مانعًا نفسه من الكلام المنفعل لحظتها، فنظرت إليه في تحدٍ وهي تأمره:
, -ويالا عشان مانتأخرش.
, تحلى مضطرًا بفضيلة الصبر، وسحب قبضتيه من على الإطار، ليردد في جديةٍ اكتسبتها نبرته وملامحها:
, -ماشي يا أبلة.
,
, كانت تعلم في قرارة نفسها أنه لم يكن راضيًا عن تصرفها المعاند له، وذلك لحرصه الواضح على عدم تعرضها للأذى، ومع هذا أصرت على الحضور، لتكون على رؤوس الأشهاد فيما سيحدث لاحقًا.
,
, ما قيل عنه بأنه مكان قريب بداية الكذب، والخداع، وربما كشف خطورة الأمر المخبئ عنها. غامت تعابير وجه فيروزة وهي ترى السيارة تبتعد عن العمران، لتخرج نحو الطرق السريعة، قبل أن تنحرف في طريق جانبي، بالكاد لمحته، لتنطلق لما يقرب من عشرة دقائق وسط ما يعرف باسم طريق الملاحات. تباطأت السرعة بالتدريج حينما اقتربت من مكانٍ شبه مهجور، في قلب الأحواض المائية، دارت بعينيها في المحيط الغريب الذي كانت تراه للمرة الأولى في حياتها، شعرت بالخوف يتسرب إليها، برعدةٍ خفيفة تضرب بدنها، قاومت هذا الشعور، ونظرت إلى تميم الذي استطرد مخاطبًا الاثنين:.
,
, -احنا وصلنا.
, ترجل أولاً ليلف حول مقدمة السيارة، حتى يساعد خالها على النزول، بينما تمهلت فيروزة في حركتها خشية ألا تزل قدماها على تلك الأرضية الطينية، وتتعرقل في سيرها. تساءلت في فضولٍ يشوبه التوجس:
, -هو احنا جايين هنا ليه؟
,
, ساد في نظرته إليها الأسف والضيق معًا، الأسف لكونها سترى جانبًا شبه إجرامي فيه لا يجيد السيطرة عليه حين تمس المخاطر أحبائه، والضيق لأنها ستعرف ما حرص على إخفائه عنها، لتحسين صورة خالها. تنفس تميم بعمقٍ، وأنذرها –كنوعٍ من التمهيد- قبل أن يتقدم في خطواته نحو الباب المعدني الموصود:
, -بصي يا أبلة، الشخصية اللي هتشوفيها مش ملاك، ولا حد يستاهل المعروف، فخدي بالك.
, توقعت حدوث الأسوأ، وقالت بعفويةٍ:.
,
, -شكل في مصيبة حاصلة جوا.
, لم يعطها الرد الشافي، وترك لها حرية تحديد مدى السوء بناءً على ما ستراه. كور قبضته، ودق على الباب المعدني بقوةٍ رن صداها في الفراغ الممتد وهو يهدر بصوتٍ أجش:
, -افتحوا يا رجالة.
, ما هي إلا لحظاتٍ، وسمع ثلاثتهم صوت الأقفال وهي تفتح من الداخل، ليظهر بعدها ناجي مرحبًا:
, -منور يا سيد المعلمين.
,
, تفاجأ بوجود فيروزة معه، ونظر إلى رفيقه نظرة متعجبة مستنكرة الإتيان بها إلى هنا، فما كان منه إلا أن قَلِب ملامح وجهه وهو يغمغم بصوتٍ شبه خافت:
, -متسألش.
,
, رائحة عطنة، مع روائح أخرى غير مستحبة عبقت الهواء فجأة، وتفشت فيه، لذا وضعت فيروزة يدها على أنفها لتسده، وتمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى رئتيها، والتأثير على معدتها التي تقلصت، وانقلبت. واصلت السير خلف الرجال، وهي تجاهد لمنع شعورها بالغثيان، تغلبت مرة واحدة على هذه الأحاسيس المنفرة عندما رأت –من على بعدٍ- وجه حُسني مكدومًا، وغارقًا في دمائه، اتسعت عيناها ذهولاً، وتسمرت في مكانها لهنيهة حتى تستوعب ما يدور، ثم صاحت بعدها في استهجانٍ شديد:.
,
, -إيه اللي بيحصل هنا؟
, انخفضت عيناها لتتأمله وهو مقيدٌ كالبهائم في مقعده، تراجع تميم في خطواته، بعد أن رأى ما اعتلى قسماتها من غضبٍ صريح، واتجه إليها، ليكون في مواجهتها، وقبل أن يفكر في تفسير أي شيء، تابعت استنكارها الصارخ موجهة أصابع الاتهام إليه تحديدًا:
, -عشان كده مكونتش عاوزني أجي؟ ده اللي هتحل بيه الموضوع بشكل ودي؟
, قبل أن يبرر أي شيء استأنفت هجومها المنفعل:.
,
, -لأ طبعًا، ده بالبلطجة، وشغل الفتونة، ولوي الدراع!
, رغم اختناق الجو بهذه الرائحة المقرفة، إلا أنه تنفس بعمقٍ ليثبط أي انفعالات تستثار حاليًا بداخله، خاصة أنها تعنفه أمام رجاله، وقال بهدوءٍ ممتزج بقدرٍ من التشنج:
, -في أشكال ماينفعش معاها إلا العين الحمرة.
, هاجمته بنفس الأسلوب المتعصب:
, -أه وبعدين، هتنتهي على إيه؟
, نظر لها بعينين محتدتان، فواصلت لومه وتقريعه بغلظةٍ:.
,
, -ترجع السجن تاني، وتكمل اللي باقي من عمرك محبوس، وتبقى الحكاية خلصت على كده.
, حذرها بصوتٍ هادئ لكنه حازم:
, -خلي الخناق بعدين، مش وقته.
, رفعت إصبعها أمام وجهه تنذره في تشددٍ، وملامحه قد اشتعلت على الأخير من طريقتها:
, -إنت لو هتستمر على الأسلوب ده في أي مشكلة تقابلك، يبقى أنا محتاجة أعيد تفكير في حاجات كتير.
, سحب نفسًا آخرًا عميقًا، قبل أن يلفظه دفعة واحدة، ليقول برجاءٍ مهذبٍ:
, -يا أبلة متكبريش الموضوع.
,
, صاحت في سخطٍ ساخر:
, -أكبره؟ ده على أساس إن خطف الناس حاجة عادية؟
, بالكاد ضبط أعصابه لئلا تنفلت، ورد مبررًا الإمساك به:
, -هو اللي جه لحد عندي برجليه، أنا مقربتش منه.
, أمرته في غير مزاحٍ، وبنظرة صارمة تملأ وجهها:
, -خلي رجالتك تفكه.
, حدجها بنظرة غريبة، توقعت فيها أن يرفض ما قالته؛ لكنه خالف توقعاتها، ونطق في عبوسٍ بائن:
, -ماشي كلامك.
,
, اندهشت من تصرفه رغم حالة الاستياء المسيطرة عليها، وتتبعته بنظراتٍ محتقنة، وهو يأمر رجاله بتحرير حُسني، انتفض الأخير ناهضًا من على المقعد وهو يشعر بخوار ساقيه، بالكاد وقف على قدميه، وانطلق مهددًا في عدائية صريحة:
, -ده أنا هوديكم في داهية، هسجنكم كلكم٣ نقطة
, تجمدت نظراته على خالها، وهو يكمل تهديده بإهانةٍ قاسية:
, -وأولكم خليل الكلب.
, شهقت فيروزة في استنكارٍ، بينما هاجت الدماء في عروق تميم وهو يحذره بغلظةٍ:.
,
, -ماتغلطش فيه بدل ما أقص لسانك.
, تصنع حُسني الضحك، وهدر هازئًا منه:
, -الفتوة الدكر ظهر يا جدعان٣ نقطة
, اشتاطت نظرات تميم، واكتست بحمرة أكثر غضبًا وحقدًا عندما تطاول متجرئًا على امرأته:
, -لأ وجايب السنيورة تتفرج عليا، نِمرة حلوة تكسب بيها بونط، حلو أوي، عشان تتحطوا في الكلبش لوكشة واحدة.
,
, ردّه عن الانقضاض عليه كان صعبًا، خاصة مع تحفزه الواضح للفتك به، اندفعت فيروزة للأمام، وتجاوزت الرجال لتخاطبه في صوتٍ مرتفع، حتى ينتبه لها:
, -اتكلم معايا أنا.
, تحولت نظرات حُسني ناحيتها، وأخذ يُطالعها بغموضٍ، أحست بنظراته غير المريحة عليها، والأصعب من ذلك إحساسها بالغليان المندلع حاليًا في تميم جراء ما تفعله، تغاضت عن هذا التفكير الموتر لتسأله بثباتٍ:
, -عاوز إيه؟
,
, أخذها على محمل الجد، وجاوبها بنظرات قوية مسلطة عليها كالصقر:
, -حقي كله.
, حاولت تهديده لردعه، فقالت متحدية، كمن تناظره في القوة:
, -إنت لو مفكر إنك بكده هتاخد رقية مننا تبقى غلطان، أولاً لأن القانون آ٣ نقطة
, قاطعها بتلميحٍ شبه فج جعل وجهها يحمر حرجًا من جراءته:
, -القانون ده لا مؤاخذة تبليه، وآ٣ نقطة
, قبل أن يتم جملته الوقحة نسبيًا، هدر تميم مانعًا إياه من التفوه بأي إساءات نابية وهو يندفع قبالته:.
,
, -لسانك لو طول معاها هاقطعه.
, تنفست فيروزة الصعداء لوجوده بقربها، فكيف سيكون التصرف إن وجه إليها ما لا يُسر من القول؟ سعت إلى لملمة الأمور قبل أن تتفاقم، وأعادت لغة الحوار إلى مسارها بنقاشه:
, -إيه طلباتك؟
, اتجهت عينا حُسني إلى خليل، وجاوبها مباشرة:
, -وصولات الأمانة اللي مع خالك٣ نقطة
, صمت للحظة قبل أن يكمل في ابتسامةٍ لئيمة:
, -بفوايدها.
, هنا صاح خليل محتجًا في حقدٍ:
, -إيه الك، لام ده، أنا س، ددت نص القيمة.
,
, اخشوشنت نبرة حُسني وهو يهب معترضًا على احتجاجه:
, -وحق غربتي؟ والنصباية اللي اتعملت عليا منك؟
, اِربد وجه خليل بالغيظ، وشعر بالضآلة وسره يُكشف على العلن، لم ترغب فيروزة في رؤية خالها في موقف العاجز الذليل، وتكلمت مرة أخرى تسأله:
, -كام يعني؟
,
, كأن الحظ ابتسم له بعد فترةٍ من الفقر المدقع، كانت تلك فرصته الذهبية للظفر بما يؤمن به مستقبله لسنواتٍ قادمة، فلا يمد يده، أو يُصاب بالعوز، عاد شعوره بالزهو يغمر جسده المتألم، حتى أنه تناسى أوجاعه مع الأحلام الطامعة التي اجتاحت عقله، أدار رأسه ناحيتها، كما التمع في عينيه الحقودتين وهجًا خبيثًا وهو يقوس ثغره قائلاً بجديةٍ:
, -نص مليون جنية يا قُطة٣ نقطة!
 
٥٤

هل يُجدي الندم بعد زلات الخطأ؟ ذلك السؤال ظل يتردد في رأسها بعد أن تداركت حجم الخطر الذي أوقعت نفسها فيه، بإصرارها غير الموفق على حضور مثل تلك النزاعات، ظنًا منها أنها قادرة على المناطحة كالرجال، دون أن يُستخف بها، وتُعامل كفريسةٍ سهلة المنال، فهي ليست في حضرة واحدٍ من الأشراف، وإنما تتعامل مع شرذمة من الأشرار. الأهم من ذلك، والذي استحوذ على تفكيرها لحظيًا قبل أن تُصدم بالمبلغ، إن عفا تميم عن ذلك الوغد، وأغفل عن وقاحته في الرد، فهل يغفر له تلميحاته غير البريئة نحوها؟ بالطبع لا، لن يسمح أبدًا بتمرير الأمر دون عقابٍ مؤلم.
,
, خرجت من شرودها السريع، وتجمدت في مكانها مذهولة أمام الرقم الضخم الذي طلبه، بينما هدر تميم في استنكارٍ غاضب:
, -كام؟!
, تولى شيكاغو لكز حُسني في كتفه محذرًا باستهزاء:
, -اظبط نفسك، إنت شطحت بخيالك.
, بينما صاح خليل محتجًا في حنقٍ:
, -دي، مش قي، مة الوصولات الفع، لية، آخرهم كان 50 ألف.
, نفض حُسني الأذرع الممسكة به، وراح يتجول بنظراته الواثقة على الأوجه المتطلعة إليه، قبل أن يركزها على خليل ليخاطبه بنبرة ذات مغزى:.
,
, -هي دي قيمتهم دلوقتي، ولو مش عاجبك هفتح بؤي وآ٣ نقطة
, قاطعه تميم في التو متسائلاً:
, -وبعد ما ندفعهم هتعمل إيه؟
, التفت ناحيته ليجاوب بابتسامة خبيثة:
, -ولا كأنكم تعرفوني، هنسى إن ليا بنت أخت.
, استجمعت فيروزة شتاتها بعد الصدمة الفورية لتقول بشيءٍ من المنطقية:
, -ادينا وقت نحضرلك الفلوس، هما مش جاهزين معانا.
, -هأو، على مين يا حلوة.
, النظرة الشرسة المنتفضة في عينيه مع نبرته القوية المحذرة جعلتها تجفل حين قال:.
,
, -احفظ أدبك في الكلام!
, رفع حُسني يده معتذرًا بسخرية:
, -لا مؤاخذة..
, ثم حملق في وجه تميم متابعًا كلامه في صيغة تساؤلية:
, -وإيه اللي يضمنلي ماترجعوش في كلامكم؟
, وقبل أن يحصل على الجواب، اتجه بناظريه إلى فيروزة كأنما يقصدها وهو يقول:
, -أصله شكله اتفاق حريم.
, احتدت نظراتها من وقاحته؛ لكن تميم بادر بإخراسه وإيقافه عند حده بقوله الصارم المزمجر:
, -حريمنا ب 100 راجل، وطالما ست الكل قالت كلمة، يبقى تبلع لسانك وتخرس.
,
, كذلك تدخل ناجي منذرًا إياه:
, -بعد إذنك يا معلم تميم، لو لسانه طال تاني بحاجة معجبتنيش هاقطعه.
, لم يخفِ حُسني بسمته الهازئة من استعراض العضلات المفتولة، والتراشق بالألفاظ الحادث أمامه، فقال في لمحةٍ من السخرية:
, -ماشي يا فتوات الحارة، قدامكم أسبوع، جهزوا الفلوس، وأنا مستني.
, إشارة من يد تميم ل فيروزة تأمرها بالتحرك دون أن ينطق، فامتثلت له بإيماءةٍ من رأسها، وبدأت بالسير معه؛ لكن استوقفها صوت حُسني الصائح:.
,
, -بس قبل ما أمشي عاوز عشراية حق بهدلتي هنا٣ نقطة
, استدارت تنظر إليه، فوجدته يستغل الفرصة ليقول مهددًا بابتسامةٍ وضيعة:
, -ولا يرضيكي يا قطة أطلع من هنا أعمل محضر في خالك؟
, اختلج الغضب قسماتها، وصاحت تنعته في غلٍ:
, -إنت واحد حقير!
, خرج تميم عن طور هدوئه الزائف، واندفع مُطبقًا على عنقه قاصدًا خنقه وهو يكز على أسنانه مدمدمًا:
, -مش قولتلك تخرس وتحفظ أدبك؟
,
, لم يتحرك أي من الرجال لمنعه من إيذائه، مما جعل الخوف يدب في قلب فيروزة، أحست بالخطر محدقًا به، فهرولت ناحيته ترجوه:
, -خلاص يا تميم، سيبه علشاني.
, اللعب على أوتاره الحساسة، وتحفيز الكامن في مشاعره، خلال المواقف المتأزمة، لن يكون مفيدًا الآن، توسلته مجددًا في خوفٍ متضاعف:
, -مايستهلش إنك تودي نفسك في داهية، سيبه، لو سمحت.
, لمعت عينا حُسني بنشوة الانتصار، وقال بصوتٍ مختنق:
, -اسمع كلامها، مش هينفعك موتي.
,
, رضخ مضطرًا، ولم يسكن ما اشتعل بداخله من نيران الغضب، حرره، وتراجع بعد أن أعطى نظرة صارمة ل فيروزة لتبتعد عن محيط ذلك اللعين، فاستجابت دون كلام، وأبقت على مسافة آمنة بينها وبينه حُسني الذي مسح بلسانه أسنانه الصفراء في فكه العلوي، وعلق ببرودٍ مستفز:
, -أنا نيلة النيلة، بس عاوز اللي يسكتني، عشان زعلي مش حلو.
,
, وقعت عيناه مصادفةً على السوار الذهبي الذي برز من أسفل المنديل الملفوف حول معصم فيروزة، ظهر وهجه المغري في حدقتيه الطامعتين، واستطرد يطلب منها بوقاحةٍ فجة:
, -هاتي الإسورة دي وأبقى كده مرضي.
, تلقائيًا التفت يدها على السوار لتحميه، وضمت كفيها معًا إلى صدرها، كأنما تخشى فقدانه، بينما هدر به تميم مرة ثانية في غضبٍ أهوج:
, -إنت اتجننت؟
, رد مبررًا وهو يتراجع خطوتين للخلف لينأى من بطشه المهدد:.
,
, -ده عرض وطلب، عشان أسهلها عليكم.
, زأر به تميم في نبرة خشنة قاسية:
, -هتاخد اللي عاوزه على الجزمة٣ نقطة
, ثم أشار إلى رجاله آمرًا:
, -طرأوه من هنا.
, ردد حمص بتحفزٍ وهو يشمر عن ساعديه لينقض عليه:
, -تمام يا ريسنا.
, في لمح البصر، كان شيكاغو ممسكًا بذراعه الآخر يكبله، ومن الخلف انضم إليهما ناجي، حاول حُسني الفكاك، وصاح في تذمرٍ محتج:
, -بالراحة عليا، أقبض همشي، غير كده هستموتلكم فيها.
,
, الأمر لم يكن من قبيل الصدفة أن يحمل ذلك المبلغ في جيبه، أو يزيد قليلاً؛ لكنه أحضر معه ما قد يلزم استخدامه، إن حدث طارئ ما، وتأزمت الأوضاع في وقت العزاء، لذلك لم يفكر تميم مرتين وهو يخرج من جيبه رزمة من النقود المطوية، ألقاها عند قدمي حُسني وهو يصيح به بصوتٍ جهوريٍ غاضب، للغاية:
, -خدهم، وغور من هنا.
,
, التواجد في هذا الخلاء المقفر، ليس بالطبع المكان المناسب للعتاب، أو حتى إبداء الاعتذار، لن تساعد الأجواء على تحقيق ذلك. حاولت فيروزة أن تبدو لطيفة، أن تبدد ما عمَّ من توترٍ ومشاعر حاقدة، دنت من مقدمة السيارة، تلك التي يجلس عليها تميم بعد أن أرسل حُسني مع رجاله بعيدًا عن هنا، لمحته من زاويتها فرأت الغضب ما زال مستبدًا بملامحه، بلعت ريقها، وضمت شفتيها معًا، وهي تردد بصوتٍ يرن في عقلها:.
,
, -**** يستر، وميكونش لسه مضايق.
, أطلت فيروزة برأسها من النافذة المفتوحة على خالها الجالس بالمقدمة، وهمست إليه:
, -هتكلم مع تميم دقيقة، وهنركب.
,
, منحها الموافقة، فاستقامت في وقفتها، وبدأت تشحذ قواها لتبدو متماسكة، ثابتة الانفعالات، انتفضت حين رأته يستدير لينظر إليها في وجومٍ، قبل أن يبتعد عن السيارة، ويمشي إلى الأمام بضعة أمتار، ترددت لحظيًا في اللحاق به؛ لكن لا مفر من المواجهة، تنفست بعمقٍ قبل أن تستجمع نفسها لتدنو من البقعة الواقف بها. بلغته، وصارت قبالته، توقعت أن ينظر ناحيتها، أن يمنحها الاهتمام الذي تحبه منه؛ لكن لدهشتها صار يحيد بعينيه بعيدًا عنها، كأنه ينبذ اقترابها، تأملت تعابيره، فوجدتها قاسية، صلبة كالحجر، قاومت الخوف الذي اعتراها لهنيهة من رؤيته على تلك الحال، وسألته بلطافةٍ:.
,
, -إنت زعلان مني؟
, نفخ في سأمٍ، ورد متسائلاً دون أن يمنَّ عليها بنظرة واحدة:
, -تفتكري إيه؟
, همَّت بالرد والتبرير:
, -أنا٣ نقطة
, لكنه قاطعها بغير تساهل:
, -راجعي نفسك، وبعدين قرري.
,
, أدركت من تلميحه المبطن خطئها الفادح في عدم الوثوق به أولاً، وثانيًا عدم توفيقها في انتقاء المناسب من العبارات حين تحدثت معه، هناك سمات مختلطة من العنجهية، التعالي، وربما عدم التقدير وهي تفرض عليه أرائها، لم تضع في الاعتبار أنها كانت تحادثه –أمام رجاله- بالمنطق أو التروي، وإنما تكلمت معه بلسانٍ شبه لاذع، قد يكون جرحه في بعض المواضع، وقد يكون احتوى على القليل من الاحترام لشخصه المهيب، ومع هذا لم يكن إلا صبورًا حليمًا معها. شعرت بالخزي من نفسها، وتحركت نحو مرمى بصره، وقالت في خجلٍ حرج:.
,
, -إنت عارف إني مكانش ينفع أسيب خالي يروح لوحده، وهو في ظروفه دي، وأكيد مقصدش حاجة من اللي حصلت جوا، أنا برضوه كنت بحاول أمنع كارثة من إنها تحصل.
, جمد نظراته الخالية من أدنى ذرة تعاطفٍ معها، قبل أن يسألها:
, -وأنا قصرت مع خالك؟
, ضغطت على شفتيها للحظةٍ قبل أن تهز رأسها نافية وهي تجاوبه:
, -لأ.
,
, باعد ناظريه عنها، وتطلع إلى الأفق بنظراتٍ غائمة، غير مسترخية، انزعجت لتجاهله المتعمد، وأحست بالضيق يضرب صدرها، تأملت ملامحه من جديد، فرأت في وجهه التواءة زاوية فمه في سخطٍ صريح، حاولت أن تبدي ندمها، فاعتذرت عن رعونتها قائلة:
, -أنا أسفة.
,
, الاعتذار المجرد من أدنى إحساسٍ بالمسئولية، أو إدراك فعلي للخطأ في تقدير مدى خطورة بعض المواقف من عدمها لم يكن مقبولاً له، استمر تميم على حالته المستاءة، واستدار لينظر إليها في غير رضا وهو يعنفها:
, -ماينفعش كل حاجة تاخديها عِند كده، لمجرد إنك عايزة تثبتي موقف.
, لم تنجح نظرته القاسية في منعها من التبرير بإصرارٍ:
, -ده غصب عني، أنا متعودتش حد يشيل المسئولية غيري، فصعب أتغير بين يوم وليلة.
,
, عقب في لهجةٍ صلبة يشوبها العتاب أيضًا:
, -بس سهل تعتمدي عليا، توثقي فيا، لكن اللي بشوفه منك غير كده، وده مش حلو.
, استحقت ذلك التقريع، وأحنت رأسها في حرجٍ وهي تخاطبه:
, -أنا فعلاً اتصرفت باستعجال، و٣ نقطة
, كأنه لم يسمع ما تقول، فقاطعها مجددًا وهو يهتف بنبرته الغاضبة رغم خفوتها:
, -إنتي يبقالك الكلام لو قصرت معاكي في حاجة.
, رسمت ابتسامة مهذبة على شفتيها وهي تواصل الاعتذار بوداعةٍ:.
,
, -خلاص، حقك عليا، أنا غلطانة، ماتزعلش بقى.
, تمهل في رده عليها، فتحرقت شوقًا للتأكد من عفوه عن زلتها؛ لكنه خيب رجائها، وأخبرها بعد صمتٍ قليل في فتور:
, -**** يسهل.
, هبَّ بها الضيق، فصاحت في تشنجٍ:
, -لو سمحت حاول تفهمني، قدر موقفي.
, انفعالها عليه بعد اعتذارها منه لم يكن في محله، أو حتى موفقًا، بل إنه زاد من الطين بلة، فراح يزيد من تقريعه لها:.
,
, -موقفك؟ ده على أساس إنك لما تظهري قلة الذوق، وتركبي دماغك وتمشي اللي فيها يبقى 100 100 وزي الفل؟!
, تدلى فكها السفلي وهي تطالعه بتلك النظرة الآسفة، حدجها بنظرة أخرى أشد جفاءً وهو ينهي عتابه اللاذع:
, -راجعي نفسك قبل ما تبرري حاجة.
, استدار تاركًا إياها في مكانها؛ لكن صوته تردد آمرًا:
, -ويالا بينا، ولا عاجبك الأعدة هنا؟
, -حاضر.
,
, قالتها بصوتٍ خفيض، وهي تطأطأ رأسها في ندمٍ مليء بالإحباط، قبل أن تقوم برفع رأسها لتعود إلى السيارة، وشعورها بالضيق يتعاظم بداخلها.
,
, حجرة الصالون تحولت إلى ما يشبه حلقة اجتماعات مغلقة، شديدة الأهمية، تُطرح فيها كافة الاقتراحات، لاختيار المناسب، وتنفيذه في النهاية. كان لابد من تواجد آمنة خلال تلك الجلسة، ومشاركتها في الرأي، إذ ربما تخرج بشيءٍ مفيد. كانت فناجين القهوة ممتلئة إلى ما قبل المنتصف، ومع هذا نهضت فيروزة وأحضرت العصير البارد ليشربه الجميع. أصغت إلى والدتها حين تساءلت في حيرة وهي تضع أمام كل فردٍ كأسه:.
,
, -هنتصرف في الفلوس إزاي؟ ده مبلغ كبير!
, نظر إليها خليل في عجزٍ وهو يقول:
, -مش ع، ارف، بس مش مع، ايا يغطي.
, ظل تميم مشدودًا في جلسته على الأريكة، متجاهلاً فيروزة، لا ينظر نحوها، يتابع ما يدور أن يعلق على كلامه، ومع هذا عقب على خالها ناطقًا بهدوئه الجاد:
, -ماتشلش هم يا عم خليل، أنا موجود.
, التفت الأخير ناحيته ليهتف في حرجٍ:
, -وإنت ذنبك إيه؟
, أضافت عليه آمنة بنفس التعبير المتحرج:.
,
, -احنا شاغلينك يا ابني بمشاكلنا، وإنت مش ناقص.
, دون أن يبتسم قال:
, -وأنا مش غريب.
, ردت آمنة في استحسانٍ شديد:
, -أكيد، ده إنت سندنا بعد **** سبحانه وتعالى.
, استقرت فيروزة في مقعدها المقابل ل تميم، وراحت تكلمه في جديةٍ، وكامل نظراتها عليه:
, -بس ماينفعش نورطك في حاجة ملكش يد فيها، كفاية الأذى اللي كان هيحصلك بسببنا.
, توقعت أن ينظر إليها باهتمامٍ، لكنه بدا غير مكترث بالتطلع إليها، وقال بصوتٍ جاف:
, -أنا مش ممانع.
,
, أصابها المزيد من الضيق لأسلوبه المتجافي، وأحست باعتصارة مؤلمة تعصف بقلبها، لم تخطئ للدرجة التي تستحق بها معاملة كتلك! تراجعت عن شرودها اللحظي لتتنبه إلى رقية التي اقتحمت الغرفة، لتقفز في حِجر تميم، وتتعلق بعنقه بذراعيها الرفيعين متوسلة إياه:
, -ماتخلهوش ياخدني يا عمو.
, تذمرت آمنة لوجودها، وقامت ناهضة لتوبخها:
, -إيه اللي جابك يا رقية؟ مش احنا قولنا بنتكلم كلام كبار؟ عيب نسمعه؟
,
, تشبثت أكثر ب تميم، والتصقت به رافضة الابتعاد عنه، دفنت رأسها في كتفه، وقالت ببراءة:
, -أنا مش عاوزة أمشي من هنا.
, مسح تميم برفقٍ على ظهرها، وهمس إليها مؤكدًا:
, -مش هايحصل، وده وعد مني.
, أبعدت رأسها عن كتفه لتنظر إلى وجهه وهي تبتسم، ثم قالت في مرحٍ قبل أن تعطيه حضنًا آخرًا:
, -أنا بحبك.
, بالكاد نجحت عمتها في انتشالها من حضنه، وسحبها بعيدًا عنه، أمسكت بها من رسغها، وجرتها خلفها قائلة بقسماتٍ شبه منزعجة:.
,
, -تعالي معايا.
, رغم مغادرتها للغرفة، إلا أن أنظار تميم بقيت معلقة بطيفها الراحل، ثارت بداخله رغبة مُلحة في الدفاع باستماتةٍ عنها، وعدم السماح مُطلقًا بالتفريط فيها. عاد الحوار إلى مساره مرة ثانية مع استئناف خليل للحديث بترديده:
, -أنا ك، نت محوش قرش، ين على جمب، يدوب يجيبوا 100 ألف.
, استطردت فيروزة مضيفة بلعثمةٍ حرجة:
, -وأنا معايا فلوس ورثي من آ٣ نقطة
,
, حثتها حواسها على النظر إلى وجه تميم في تلك اللحظة، فأبصرته متحفزًا، متقلص العضلات، لا ينظر ناحيتها، فبترت كلامها، وصححت من جملتها:
, -قصدي الميراث اللي خدته، حوالي 150 ألف.
, علق خليل بعد حسبةٍ سريعة:
, -ك، ده نص الم، بلغ.
, تساءلت آمنة وهي تستلقي في مكانها مرة أخرى:
, -هندبر الباقي منين؟
, اقترحت فيروزة في صوتٍ جاد، ونظراتها تزوغ أحيانًا تجاه تميم، علّها تجده يختلس النظرات ناحيتها:
, -ممكن نكمله لو بعنا حتة الأرض.
,
, ردت عليها والدتها وهي تسوي مقدمة **** رأسها بيدها:
, -بس دي صعب نلاقيلها مشتري دلوقتي بسعر مناسب.
, تكلم تميم بمنطقيةٍ، وعيناه تنظران إلى خليل:
, -فعلاً، ولو اتباعت بيع المضطر هتخسروا فيها كتير.
,
, ما هذا الشعور الذي يجتاحها بالاختناق وهي يتم تجاهلها عن عمدٍ من قبله؟ ثقلت أنفاسها، وبدأت تعابيرها في الانكماش تأثرًا للأمر، لقد نجح حقًا في إزعاجها بإظهار عدم مبالاته بشأنه، بل إنها تكاد تصل للجنون إن استمر على هذا المنوال. تركزت عينا فيروزة عليه في غيظٍ وهو يهتف:
, -في اقتراح عندي، ما تاخدوا الفلوس مني على سبيل السلف، بحيث ننجز في الوقت.
,
, انفجرت فيه بكل ما يعتريها من مشاعر حانقة، فخرج صوتها متعصبًا بشكلٍ يدعو للتعجب:
, -لأ طبعًا، نص مليون إيه اللي سلف؟!
, اندهش تميم لانفعالها الغريب، ونظر إليها بقليلٍ من الحدية، ثم علق بتريثٍ:
, -ما إنتي معاكي نص المبلغ، أنا هكمل بالباقي، دي رقية غالية عندي زي ما غالية عندكم.
, تحرج خليل من مساعدته السخية، وأردف معترضًا عليه:
, -و**** يا ابني٣ نقطة
, رفع كفه مقاطعًا في هدوءٍ مُصر:
, -مافيش جدال في الحتة دي يا عم خليل.
,
, طرحت فيروزة مشاعرها الناقمة جانبًا، وبدأت تتحدث في عقلانية، إليه بالأَخَص:
, -ممكن نوافق بس بشرط، ده بعد إذنك يا خالي.
, نجحت في اجتذاب نظراته إليها، وشعرت بالسرور يتسلل إليها لأنها ظفرت بانتصارٍ صغير، أخفت ابتسامتها السعيدة، وحافظت على جدية ملامحها وهو يسألها:
, -إيه شرطك؟
, حمحمت قائلة على مهلٍ وهي ترمش بعينيها:
, -أنا ممكن أديله فلوس المهر، ويعتبروا دين علينا نسددهولك.
,
, توقعت أن ينزعج للاقتراح، أن تتبدل تعابيره لشيء مغاير غير ملامح الصخر والوجوم؛ لكنه من جديد خالف ما كان متوقعًا بترحيبه:
, -دي فلوسك وإنتي حرة فيها.
, ردت عليه بحديةٍ؛ كأنما تصحح له لتغيظه فتذيب الجليد المغلف لوجهه:
, -بس دي مش فلوسي، دي فلوسك إنت.
, كان أكثر برودة مما مضى، وقال بترفعٍ:
, -المهر مابيتردش يا أبلة طالما هنكمل الجوازة، إلا لو كنتي هتنهيها.
,
, فزع قلبها، وانعكس هذا على الشحوب المريب الذي اجتاح بشرتها، فهتفت مستنكرة بشدة:
, -أنا مقولتش كده.
, أراح ظهره للخلف، وتكلم بنظرة قرأت فيها الجفاء:
, -براحتك يا أبلة.
, طريقة تلفظه بلقبها الذي اعتادت منه التدليل كان مختلفًا، يميل إلى الرسمية والجمود، لم تستطع تحمل المزيد من هذا الأسلوب، فاض بها الكيل، وانهار قناع جمودها، لذا كالطفل الصغير المتذمر، صاحت تعارضه وهي تلوي فمها:
, -خلاص نبيع أي حاجة عندنا.
,
, سألها مستحضرًا المنطق في حل الأزمة:
, -وعادي تخسروا ألوفات، وترموها كده؟ ده مش كلام ناس عاقلة وبتفكر.
, عاندته بتبرمٍ طفولي:
, -ماهو يا تقبل إنهم يكونوا دين، يا نلغي الاقتراح.
, ثم رمقته بنظرة مليئة بالإصرار، فما كان منه إلا أن قال ببرودٍ أكبر استثار بقايا هدوئها:
, -اللي إنتي عاوزاه يا أبلة.
,
, كانت كالترس الذي يدور في الفراغ، وهي تحاول استمالته إليها، بعد فشلٍ ذريع في جذبه لتبادل أطراف الحديث معها، فور أن انتهوا من تقرير مصير الأموال المدفوعة للمقيت حُسني. وقفت فيروزة مع تميم عند عتبة باب الشقة ترجوه بنعومةٍ ولطف:
, -خليك معانا شوية، منها ترتاح، وتاكل حاجة، ده إنت من الصبح دايخ ويانا من هنا لهناك، والأكل يدوب بيجهز.
,
, قابل دلالها المستحب إليه بجمودٍ عجيب، فقال بنبرة ساد فيها طابع الرسمية:
, -مالوش لزوم يا أبلة.
, ابتسمت قائلة بإصرارٍ وهي تنظر إليه ملء عينيها:
, -احنا مش هناخد وقت في تجهيز السفرة، دول عشر دقايق بالكتير.
, أولى وجهه شطر السلم مقتضبًا في الكلام معها:
, -شبعان٣ نقطة
, أوغر صدرها بعزوفه الصريح عنها، وساد في ملامحها تعبيرًا حزينًا، زاد وضوحًا مع ابتعاده وهو يخبرها:.
,
, -بيتهيألي مافيش حد هيضايقكم، وعمومًا أنا هسيب حد من طرفي قريب من البيت عشان لو في حاجة جدت.
, خرجت نبرتها راجية مستعطفة إلى حدٍ كبير وهي تطلب منه:
, -طب خليك معايا أنا شوية.
, أحست بغصةٍ تنتشر في حلقها، وبالوحَشة تعصف في كيانها حين رفض بجفاءٍ:
, -مش عاوز.
, كسا العبوس كل وجهها، وتقوست شفتاها للأسفل في ضيقٍ بائن، لم ينظر ناحيتها وهو يودعها بنفس اللهجة الرسمية:
, -سلام يا، أبلة.
,
, تأملت حالها بأسى، ما هذه الكآبة التي حلت بها لابتعاده الغاشم، اندفعت مقبلة عليه على بسّطة السلم، وسألته بصوتٍ مهموم:
, -أبلة! هو إنت لسه زعلان مني؟
, هبط الدرجات دون أن ينظر إليها، وكلمها في غير تعاطفٍ:
, -خدي بالك من نفسك، تصبحي على خير.
, نادته بصوتٍ مختنق وقد استندت بقبضتيها على حافة الدرابزين:
, - تميم! استنى!
,
, ندائها الناعم المحمل بالندم هز كيانه، جعل كامله يرتج؛ لكنه تسلح بجموده الزائف، وأطال في قساوته مودعًا إياها من جديد:
, -سلام عليكم.
,
, خشيت أن يكون بانسحابه الغريب على وشك هجرانها، والانزلاق من بين أصابعها، بل إنها توهمت أنه قد يعيد التفكير في مسألة ارتباطهما بشكلٍ جدي؛ كان ذلك جليًا عليه: في تصرفاته، في نبراته، في نظراته، وحتى في ملامحه. انقبض قلبها للفكرة، وهاجت مشاعرها السلبية وتفشت كالوباء في كل خلية حية تنبض بداخلها، أحست باضطراب أنفاسها، بثقلٍ يجثم على صدرها، تراجعت مبتعدة عن السلم وهي تردد لنفسها في توجسٍ حقيقي:.
,
, -يا ربي، هو أنا عكيت الدنيا أوي كده٣ نقطة؟!
 
٥٥

الجانب الآخر غير المعروف عنه، وتحديدًا إليها، كان يسود في التور، حين تبلغ قسوته منتهاها، وقت تعرض الأقرب، والأغلى إلى أزمةٍ ما. كان من التعقل بحيث لم يتصرف بغير تخطيطٍ أو تفكير، ادعى تصديقه لهذا الكذوب الطامع، وانطلاء خدعة اكتفائه بمبلغ مالي ضخم، فور أن يتلقاه، نظير بضعة إيصالات لا تستحق القلق لأجلها. أراده أن يقع في فخ الحيلة، أن يصدق بأنه بمقدوره الاحتيال على غيره، لتقوده قدماه إلى حتفه، ونهاية مصيره المغلف بالطمع.
,
, صدَّقَ تميم -بسذاجة مفتعلة، وحماقة زائفة- ما قاله حُسني خلال ابتزازه خال فيروزة، وأكد على كونه متهورًا قليل الحيلة، لن يستطيع صده، في حين أنه كان يجهز له فخًا محكمًا للتخلص منه، دون أي ريبة. ما كاد يفسد الأمر هو مجيء فيروزة ومحاولتها التفاوض مع حقيرٍ مثله، لن يكتفي بما يأخذه مُطلقًا، ففور أن تنفذ النقود من جيبه، سيعاود الكرَّة، ويطلب الأموال، بأي حيلة كانت مشروعة أم لا. تجاوز عن عصبيتها وانفعالها الزائد أمام رجاله ليمسك أعصابه، ويتصرف بحنكة، الأمر يدعو للتعامل بعقلانية ليحدث المراد في النهاية.
,
, في اللحظة التي ألقى فيها رزمة النقود عند قدميه خلال تواجدهم بهذا المكان المهجور، كان ناجي يقف من خلف حُسني، ولديه قطعة في ورقة مفضضة من (الحشيش)، دسها في جيبه دون أن يشعر، مستغلاً التهائه بجمع المال، بعدئذ جذبه بصحبة حمص و شيكاغو إلى الخارج، ثم استقل به سيارته إلى أقرب موقفٍ لنقل المواطنين بالمواصلات العامة، وهناك جاءت المهمة التالية لرجليه، بمراقبة ذلك الوغد دون أن يشعر بهما، ريثما يتم التقدم ببلاغٍ يفيد بقيام أحدهم بالترويج وبيع المخدرات عن طريق تلك المنطقة النائية، مستغلاً غفلة رجال الأمن عن معرفة هذا الأمر الخطير الذي يدور في الأرجاء.
,
, ألا يعود فارغ اليدين كانا من أقصى طموحه لهذا اليوم، شعر حُسني بالانتشاء يغمره من رأسه لأخمص قدميه، وجيبه مملوءٍ بمالٍ يكفيه لعدة أيامٍ، قبل أن يحصل على جائزته الكبرى. جالت في رأسه عشرات الأفكار الحماسية عما يمكن أن يفعله، وراح يسرح في خيالٍ متخم بالأحلام المبهجة. خرج من شروده الممتع على لكزةٍ في كتفه أعادته إلى أرض الواقع المزعج، نظر إلى جانبه فوجد أحدهم يعطيه مالاً ويطلب منه:.
,
, -قول للسواق اتنين ورا.
, نظر له بوجهٍ منقلب، وأخذ النقود ليعطيها لمن يجلس في الأمام مرددًا:
, -اتنين ورا يا أخ.
, نظرة مشمئزة صدحت على وجهه وهو يرى من يجلس حوله، ثم استطرد مرددًا لنفسه بنحنحةٍ خفيفة:
, -كفاية ضنك بقى.
, استمر في مخاطبة نفسي بآمالٍ واعدة:
, -الواحد محتاج يشبرق على نفسه، ويسيبه من العالم الفقر دي اللي تجيب ورا.
,
, عاد للتحليق في فضاءاته الواهية، فلم ينتبه للحديث الجانبي بين السائق ورفيقيه الجالسين في المقدمة، فقال الأول وهو يمعن النظر في أفراد الأمن الظاهرين على مدى البصر:
, -دي حملة ولا إيه؟
, قذف السائق سيجارته شبه المنتهية من نافذته، وعلق في تأففٍ:
, -**** يستر، الظابط اللي واقف فيها من النوع الرزل، وياما كدر ناس.
, رد عليه الأول محذرًا:
, -طب قول لحبايبنا في الموقف اللي جايين على نفس الخط ياخدوا بالهم.
,
, هز رأسه مرددًا بجديةٍ معكوسة على ملامحه قبل نبرته:
, -ما أنا هعمل كده لما نعدي منه.
, صوتٌ جهوري صدح في الفراغ الساكن آمرًا:
, -اركن الميكروباص ده على جمب.
, حمحم السائق قائلاً في طاعة واضحة وهو يخفض من سرعة السيارة:
, -حاضر يا باشا.
,
, قام بركن السيارة بمحاذاة الرصيف، وبدأ في تلقي أوامر الضابط التالية، من تفتيش المركبة بدقة، الإطلاع على هوية من يستقلونها، بالنسبة لمعظم الركاب كان الأمر روتينيًا ومعتادًا القيام بمثل تلك الحملات الأمنية، لهذا لم يرتابوا فيما يحدث.
, نظرة مدققة ألقاها الضابط على الأوجه المتفاوتة في ردات فعلها تجاهه، قبل أن يعطي أمره التالي:
, -نزلي الناس دي، وفتشهم.
,
, تذمر الركاب من تسلطه الواضح، وبدأت شكواهم في الظهور علنًا؛ لكنه أخرسهم بأمره الصارم:
, -واللي مش عاجبه، سيبه على جمب، لحد ما نشوفه على مهلنا.
, همَّ أحدهم بالاعتراض ساخرًا:
, -طب ليه يا باشا؟ ده احنا أنضف من الصيني بعد غسيله؟
, زجره بنظرة قاسية من عينيه:
, -إنت هتعارضني؟
, رد معللاً سبب احتجاجه:
, -أصل مايصحش اللي بيحصل ده، احنا ناس محترمة، ولا إكمن راكبين مكروباصات؟
,
, سار الضابط ناحيته، حتى أصبح واقفًا قبالته، ثم ربت بيده القوية على كتفه قائلاً بتهكمٍ:
, -الكلام ده لما يكون الخط معلهوش ديلرز مدارين وسط الناس المحترمين.
, التفت برأسه نحو أحد رجاله يأمره:
, -هاته، وشوف مزاجه.
, غمغم السائق في صوتٍ خفيض للغاية وهو يرى ما يحدث معه ومع الركاب من تسلط مزعج:
, -الليلة السودة بتبان من أولها.
,
, في تلك الأثناء لم يكن حُسني مشغولاً بما يحدث من تفتيش أمني، مثله مثل أي راكب آخر بادر بالتقدم للانتهاء من هذا الأمر السخيف؛ لكن سرعان ما اكتسبت تعابيره قلقًا متوترًا، حينما تم إخراج الورقة المفضضة من جيب بنطاله، جحظت عيناه في ذهولٍ للمفاجأة غير المتوقعة، ووقع قلبه بين قدميه في صدمةٍ عندما تم أخذ النقود المطوية من جيبه الآخر. احتج على سلبه ما كان يملك صائحًا:
, -دي فلوسي، واخدها فين.
,
, اقتاده الفرد الأمني ناحية الضابط قائلاً في لهجة رسمية:
, -تمام يا باشا، لاقينا معاه رزمة الفلوس دي، واللفة دي كمان.
, امتدت يد الضابط لتفحص أولاً الورقة المفضضة، قربها من أنفه، واشتم رائحتها المميزة دون أن يفضها، رفع أنظاره نحو حُسني متسائلاً بنظرة غامضة:
, -وده إيه ده كمان؟
, أمام ناظريه، فتحها، وجعلها في مستوى نظره هاتفًا في نبرة مليئة بالاتهام:
, -****! ده حشيش!
,
, برزت عينا حُسني في ارتعاب مفزوع، وصاح نافيًا هذه التهمة الصريحة:
, -وربنا مدسوسة عليا، دي مش بتاعتي.
, مط الضابط فمه للحظةٍ، وتساءل بنبرة محققة:
, -يعني طالما مش تعاطي يبقى إتجار؟ صح كده؟
, تهمة أكثر إدانة وقعت على كاهليه، فحملق فيه مدهوشًا، وقد اتسعت حدقتاه بشدة، خاصة والضابط يكمل:
, -ودول طبعًا فلوس البضاعة اللي بتلمها.
, على الفور أنكر ذلك بحمئةٍ:
, -لأ وكتاب ****.
,
, ضحك الضابط هازئًا منه قبل أن يتوقف عن الضحك ليخبره:
, -احلف من هنا للصبح، ده إنت ليلتك فل معانا.
, ثم استدار آمرًا أفراد قوته الأمنية:
, -خدوه لحد ما نشوف حكايته إيه.
, حاوطه العساكر من جانبيه، وقيدوا حركته في لمح البصر، أحس حُسني بانهيار عالمه الذي لم يكتمل سوى في وحي خياله، وهتف في توسلٍ:
, -يا باشا اسمعني.
, تجاهله الضابط، وعاد لممارسة عمله آمرًا سائق المركبة التالية بالتقدم نحوه:
, -اللي بعده.
,
, رغم صراخه الباكي إلا أن الجميع تجاهل ما يحدث مع حُسني، فما ينتظره الآن مصيرًا مجهولاً محملاً بمفاجآت غير سارة على الإطلاق.
,
, انزوى بعيدًا عن الضوضاء المنتشرة بالقرب منه، ليتمكن من الحديث هاتفيًا إلى رجله، كانت عينا ناجي مرتكزتان خلال مخابرته على تميم، حيث بدا الأخير أكثر وجومًا، وضيقًا، حاد بهما بعيدًا عنه ليتساءل في جديةٍ تامة:
, -عملت اللي قولتلك عليه؟
, أخبره حمص بنبرة متحمسة:
, -كله في التمام يا ريس، اترحل على كلبوش خلاص.
, لانت تعابيره الجامدة، وظهر عليها الارتياح وهو يعقب عليه:
, -زي الفل، خليه يتعلم هو وقف ضد مين.
,
, تساءل حمص في اهتمامٍ:
, -أي أوامر تانية؟
, قال في هدوءٍ وهو يلف ذراعه خلف عنقه ليدلكه:
, -لأ، ريحوا إنتو، وعدوا عليا عشان تاخدوا حلاوتكم.
, هتف في سرور منهيًا معه الاتصال:
, -ماشي يا كبيرنا، يدوم العز.
, بوجهه المبتسم عاد ناجي إلى المقهى، ليجلس على مقعده المواجه لرفيقه، وخاطبه في ابتسامة منتشية:
, -خلاص يا تميم، بقى بِخ.
, لم يبدُ على ملامح الأخير أدنى تأثر، ونطق في إيجازٍ:
, -كويس.
,
, أشار بعدها ناجي لعامل المقهى ليأتي له بكوبٍ من الشاي، ثم حملق في رفيقه متسائلاً بنوعٍ من الفضول الحائر:
, -بس مش حرام ترمي 10 ألاف جنية في الأرض؟
, نظر إليه نظرة غامضة قبل أن يكلمه وهو يشعل سيجارة أخرجها من علبتها:
, -ومين قالك إنهم راحوا هدر؟ ده الليلة خلصت كلها بكده.
,
, من وجهة نظره -مقارنةً بالتفريط في هذا المبلغ الضخم- كان التصرف معقولاً، مناسبًا إلى حدٍ كبير للتخلص من هذا الجشع الدنيء، ومع ذلك تساءل ليشبع نزعة الفضول بداخله:
, -على كده الجماعة يعرفوا باللي عملته؟
, نفخ تميم الدخان في الهواء، وقال بتعقلٍ واضح:
, -مالوش لزوم، خليها تيجي صدفة، عشان محدش يقول متورطين فيها.
, أبدى إعجابه بقراره، وعلق مبتسمًا:
, -صح الكلام.
,
, جاء العامل ومعه الصينية المحملة بكوبين من الشاي الساخن، رص كل واحدٍ أمام صاحبه، ثم انصرف بعد أن أسند كوب السكر الصغير في المنتصف بينهما. أمسك ناجي بالكوب من حوافه، تجنبًا للحرارة الساخنة، رفعه إلى فمه، وارتشف رشفة صغيرة قبل أن يضعه في مكانه مرة ثانية، لم يستطع كبح تطفله، وتجرأ متسائلاً بخفوتٍ:
, -مش ملاحظ إن حريمك زودوها شوية قصاد الرجالة وآ٣ نقطة
,
, اختلجت تعابير تميم غير المسترخية مسبقًا المزيد من أمارات الضيق، قاطعه قبل أن يواصل إتمام جملته في نبرة حازمة:
, - ناجي، إياك! إنت عارفني مابتسهلش في اللي يمس عيلتي.
, رد مبررًا نزقه:
, -أنا عارف و****، بس اللي أقصده تكون حِمش شوية، يعني زي ما إنت فاهم، لما بتسيب الحبل على الغارب للحريم، بيسوقوا فيها، ويركبوا، ويدلدلوا.
, رمقه بنظرة قاسية محذرة قبل أن يحرجه بفظاظةٍ:
, -مايخصكش برضوه٣ نقطة
,
, ثم نهض من كرسيه هاتفًا في صيغة يملأوها الصلابة:
, -خلص شايك، وحصلني، لسه ورانا شغل متعطل.
, رمش بعينيه مرددًا في حرجٍ:
, -ماشي، أوام.
, شيعه ناجي بنظراته المنزعجة نسبيًا وهو يبتعد عن المقهى بخطواتٍ شبه متعصبة، قبل أن يردد معه نفسه في تهكمٍ:
, -الواحد مايعرفش يتفك معاك في كلمتين!
,
, تعاقب الليل، وجاء النهار، ثم هبطت ستائر الليل الجديد على السماء فغطتها، لم تصدق فيروزة ما يحدث معها من تجاهل تام من ناحيته، وكأن شأنها لا يعنيه، شردت في الفراع تتساءل في تحيرٍ متزايد، أتراه لا يزال غاضبًا منها؟ ألم تبذل ما يكفي من الجهد لإظهار ندمها؟ زفرت في سأمٍ، وقالت كأنما تُحادث نفسها في عزمٍ متزعزع:
, -طيب هبعت أسأل عليه، وأشوف كده، جايز يكون مشغول.
,
, أرسلت إليه برسالة نصية، وتلهفت لمعرفة رده، خاصة حينما جاءتها إشارة إطلاعه على ما قامت بإرساله، ولصدمتها الكبيرة لم يعلق، فصاحت مستنكرة بملامح وجهٍ جمعت بين الذهول والاستهجان:
, -مش معقول، مابيردش على رسايلي مع إنه شافها!
, قررت مهاتفته، وراحت تهز ساقها في عصبيةٍ متوقعة أن يُجيب على اتصالها؛ لكن خابت ظنونها، واستمر على نهج تجاهله، فاشتاطت غيظًا من عنجهيته معها. كزت على أسنانها مرددة في استياءٍ:.
,
, -لأ كده كتير بصراحة، أنا مش عارفة أعمل معاك إيه؟
, تحركت عائدة إلى سريرها، وجلست عند حافته، تُفكر في حيرةٍ؛ ولكن بصوتٍ مسموع:
, -شكلك واخدها جد، طب أراضيك إزاي يا تميم؟
, شعرت بالصداع يضرب رأسها من كثرة التفكير، فتمددت على الفراش، وسحبت الغطاء على جسدها وهي تعترف لنفسها بندمٍ حقيقي:
, -دماغي دي ساعات بتوديني في داهية.
,
, من جديد عشش الحزن في قلبه، وتشعب في عروقه، ليغدو مسيطرًا على كامل وجدانه، حتى أن اليأس تفشى في روحه، فأصبح متشائمًا عن ذي قبل بدرجة كبيرة. كعادته في كل مرة تسوء فيها الأمور وتتأزم، يلجأ إلى متنفسه الوحيد، إلى من يثلج صدره بالكلمات، ويطيب أوجاعه بالآمال. تربع تميم جالسًا عند قدمي جده المستريح أرضًا على سجادته، وراح يشكو إليه ما امتلأ به الفؤاد من همومٍ وأثقال، فما كان من سلطان إلا أن نصحه برويةٍ:.
,
, -على الأقل إديها فرصة.
, أطلق زفرة بطيئة ثقيلة قبل أن يتابع شكايته:
, -يا جدي حاولت، بس في كل مرة يحصل فيها موقف أتدخل فيه، عشان أحل المشاكل اللي واقعة فيها، بتحسسني إن مش أهل للثقة دي، إني غريب عنها، ومابفهمش.
, أصغى إليه في إمعانٍ، ثم علق بهدوءٍ:
, -أعذرها، وإنت اتكلمت مع الدكتورة بتاعتها.
, أتاه تعقيبه مفعمًا بالضيق والإحباط:.
,
, -حصل، ومستعد استحمل بدل العذر مليون، بس ألاقي نتيجة، لكن في الآخر برجع معاها لنقطة الصفر.
, اليأس المستبد به كان كفيلاً لجعل الجد يدرك أن مسألة ارتباطهما على المحك، تفرس أكثر في تعابيره متسائلاً:
, -وناوي على إيه؟
, هز كتفيه قائلاً في صوتٍ شبه متألم:
, -مش عارف، هي ليها حرية الاختيار.
,
, لم يعلق سلطان، واستمع إلى صوت أنفاسه الثقيلة وهو يحاول ضبط نبرته، لئلا يشعر بما يعتريه الآن. بالحزن ذاته السائد في صوته اعترف إليه حفيده:
, -أنا بحبها، بعشقها لدرجة محدش يتخيلها، بس لو مش عاوزاني يبقى خلاص..
, دمعة نافرة طفرت من طرف، أزاحها بإصبعه وهو يضيف في مرارةٍ:
, -أنا مش عايز أكون نسخة من خلود، أتأذي من اللي بحبه لمجرد أفضل معاه والسلام.
, اعتدل سلطان في جلسته، وقال وهو يدير حبات مسبحته:.
,
, -**** يصلح حالك يا ابني.
, تصنع تميم الابتسام، ونطق معتذرًا:
, -دوشتك يا جدي معايا.
, رفع كفه معقبًا في تنهيدة شبه متعبة:
, -وأنا يعني بعمل إيه طول اليوم؟ أديني قاعد مستني اليوم اللي أرتاح فيه.
, غامت تعابير تميم أكثر لمجرد التفكير في خسارته، وهتف داعيًا المولى بصدق:
, -**** يديك طولة العمر، ويحفظك لينا، ده أنا من غيرك ولا حاجة.
,
, أنهى جملته وهو يميل على كف جده ليقبله في احترامٍ وتقدير، ليقوم سلطان بعدها بالربت على ظهره والدعاء له:
, -إن شاء**** هتتعدل قريب، ربك مع المنكسرين جابر.
,
, بعد اتصالٍ مبكر للتنويه بقدومهم للزيارة، تأكدت آمنة من إعداد حجرة الصالون وترتيبها بشكلٍ لائق ومنمق، لاستقبال ضيوفها الهامين، ما إن جاءوا على الموعد، حتى رحبت بهم بودٍ كبير وبمحبةٍ غامرة، لدرجة أنها غطت إلى حدٍ ما على مشاعر الحزن المتوقعة بالنسبة للفقيد الراحل قبل يومين؛ لكن من كانت تنتظره فيروزة غاب عن المشهد، ولم يأتِ مثلما ظنت. استطرد بدير كلامه قائلاً:
, -كان واجب نروح معاكو البلد.
,
, التفتت آمنة تنظر إليه وهي تخاطبه:
, -كفاية مجيتكم هنا يا حاج، وبعدين تميم ماسبناش للحظة.
, التطرق لاسمه جعل نبضاتها تتسارع شوقًا ولهفة إليه، أمازال على جفائه القاسي معها؟ ألم تشتاق العين لرؤياها؟ وَجِمت، وتآكل داخلها ضيقًا. حاولت الالتهاء عن حزنها البائن على محياها، وانشغلت بالاستماع إلى الحوارات الجانبية دون تعليقٍ أو مشاركة، جالت نظراتها التائهة على وجه ونيسة وهي تردد:
, -**** يجعلها آخر الأحزان.
,
, سمعت والدتها ترد بعد تنهيدة سريعة:
, -يا رب.
, قفز قلبها مجددًا في مكانه، حتى كادت تظن أن في قفزته المباغتة صوتًا فاضحًا لأمرها، حين تساءلت والدتها في تلقائيةٍ مهتمة:
, -أومال تميم فين صحيح؟
, أجابت ونيسة بابتسامةٍ صغيرة ولبقة:
, -كان واقف تحت من شوية، قال يوصلنا، وبعد كده يطلع يشوف الشغل اللي وراه.
, هزت رأسها هاتفة في تفهمٍ:
, -**** يقويه ويعينه.
, ساد حزنٌ أكبر على محياها وهي تفكر في أسى:.
,
, -بقى كده، موحشتكش خالص؟ إيه قسوة القلب دي؟
, قضيت ما تبقى من الزيارة شاردة في أفكارها التعيسة، راودتها الهواجس عن احتمالية تخلي تميم عنها، خاصة مع اقتصار حديث عائلته عن أمور العزاء، والموت، وما يحدث من خلافات تخص الميراث وغيره، لم يتم التطرق مُطلقًا للحديث عن مسألة خطبتها، أو حتى إتمام الزيجة، أو تأجيلها، مما عزز من تلك المشاعر السلبية بداخلها.
,
, ثلاثة أيام مروا عليها كأحمالٍ ثقيلة لا تنضب، ولا يخف ثِقلها. كاد يأسها يتملك منها، لولا أن هداها تفكيرها للكلام المباشر معه، فإن كان لا يحبذ وسائل الاتصال بكافة أشكالها، إذًا فلتكن المواجهة المباشرة، وليحدث ما يحدث، فليس هناك ما تخشى خسارته، بعد ذلك العذاب الموجع للقلب. لجأت فيروزة إلى حيلة القيام بزيارة مباغتة في منزلته، لتضمن تواجده، ولم تقدم على تلك الخطوة إلا حين رأته من نافذة منزل شقيقتها يصعد للأعلى، فاستأذنت توأمتها بالذهاب لبضعة دقائق للأسفل بحجة إلقاء التحية على الجد سلطان، ثم العودة إليها لإكمال العمل المنقوص.
,
, بكل ألفةٍ وعدم تكلف، تقابلت ونيسة معها، ومنحتها كل الترحيب الحار الذي تستحقه، مما اعتبرتها دلالة طيبة على عدم وجود أي خلافات مُبيتة، فأنى لها تستقبلها بهذه المحبة وهي لا تريدها؟ شعرت بالارتياح لذلك، وبدأت تعلل سبب زيارتها الاستثنائية:
, -أنا كنت فوق مع همسة، بنلم كام حاجة ناقصة، عشان نوديها على الشقة، وقولت أعدي أسلم عليكم، يعني ماينفعش أكون هنا، وماجيش.
, ابتسمت لها الأولى في صفاءٍ، وشكرتها بلطفٍ:.
,
, -كلك ذوق يا بنتي، ده بيتك، تنوري في أي وقت.
, اختطفت فيروزة النظرات نحو الردهة، محاولة الوصول بعينيها إلى باب غرفته الموصود من زاويتها؛ لكنها لم تتمكن، كانت تحتاج لتبديل موضع جلوسها، لتصبح الرؤية أكثر وضوحًا. رسمت ابتسامة صغيرة على ثغرها، وتساءلت:
, -أومال هاجر عاملة إيه مع عريسها؟
, جاوبتها بأريحيةٍ:
, -في نعمة والحمدلله، مبسوطة معاه، **** يهدي سرها، هي صبرت ونالت.
, حافظت فيروزة على ثبات بسمتها وهي ترد:.
,
, -هي تستاهل كل خير.
, أضافت ونيسة قائلة بعفويةٍ جعلت الشوق يدب في قلبها:
, -عقبال يا رب ما نفرح بيكي إنتي و تميم قريب.
, تضرج وجهها بحمرة طفيفة، وغمغمت في نبرة خجولة:
, -يا رب.
, البقاء بلا حراك في انتظار خروجه على إثر سماعه صوتها كان أمرًا سخيفًا، لذا استجمع جأشها لتسألها بسذاجةٍ مصطنعة:
, -صحيح هو مش هنا ولا إيه؟
, أخبرتها ونيسة بأسفٍ غير زائف وهي تستخدم يدها في الإشارة:.
,
, -نزل من شوية، قبل ما تيجي ب 5 دقايق، لو كان يعرف إنك جاية كان استنى.
, سرعان ما حلت غمامة من الإحباط على تقاسيم وجهها، اهتزت بسمتها اللطيفة، وبدأت متكلفة نوعًا ما وهي ترد:
, -أها، **** معاه.
, اقترحت عليها في جديةٍ حين لاحظت ضيقها:
, -تحبي أكلمه أقولك إنك هنا؟
, يا لحظها التعس! لن تتمكن من رؤيته، وستعود كما جاءت خالية الوفاض، معذبة الفؤاد! خرجت من سرحانها اللحظي لتعترض في تهذيبٍ:
, -لأ، مافيش داعي، خليه على راحته.
,
, كادت تُنهي زيارتها بعد أن فشلت في تحقيق مسعاها، لولا أن انضم إليهما الجد سلطان، فوقف في مكانه بطلته المهيبة مستندًا بكفيه على رأس عكازه، وجَّه حديثه إلى فيروزة قائلاً بلهجةٍ مالت للجدية:
, -كويس إنك موجودة.
, نهضت من مكانها لترحب به:
, -إزيك يا جدي؟
, رد في هدوءٍ تشوبه الجدية:
, -الحمد****، أنا عاوزك في كلمتين.
, توجست خيفة من أسلوبه الباعث على الريبة، ومع ذلك ردت:
, -أنا تحت أمرك.
, قال وهو يستقر في أريكته المعتادة:.
,
, -الأمر لله وحده.
, تجمدت عينا فيروزة عليه، متوقعة الأسوأ قادم في الطريق، انقبض قلبها، وتوترت حواسها حين استطرد مخاطبًا ونيسة ليصرفها:
, -بإيديكي الحلوة يا ونيسة اعمليلي فنجان قهوة.
, قامت من جلستها وهي تقول:
, -من عينيا.
, شكرها على مجهودها مظهرًا تقديره:
, -تسلميلي يا غالية.
, بصبرٍ فارغ انتظرت ابتعادها لتسأله بتعبيراتٍ قلقة:
, -خير يا جدي؟
, استنشق الهواء بعمقٍ، ليستهل بعدها مفتتح حواره معها:.
,
, -عارفة يا بنتي، المواقف هي اللي بتحدد معادن الرجال، في ستات هتلاقيها بتصنع راجل يكون ضهرك، تتسندي عليه، ويحميكي وقت اللزوم، وستات تانية يدوب أخرها تربي بغل عندها في البيت، لا ينفع، ولا يستر.
, تلك الدباجة الغريبة أكدت ما أنبأها به حدسها من وجودِ خطب ما بشأنها، بلعت ريقًا غير موجودٍ في حلقها، وعلقت بإيجازٍ:
, -فعلاً.
, لفظ دفعة من الزفير من صدره، وتابع بصوته الرخيم الهادئ:.
,
, -الراجل مهما كان صبور، وحمول، فبيجي عليه وقت مابيستحملش فيه قلة القيمة ولا الإهانة، حتى لو كان من عزيز عليه، ولا إنسان بيعزه.
, خمنت تلميحاته المبطنة، وهتفت تسأله دون مراوغة:
, -هو تميم اشتكالك مني في حاجة؟ أكيد قالك على اللي حصل مع خالي؟
, نظر إليها بثباتٍ، وقال منتقيًا كلماته:
, -مش شكوى على أد ما هو زعل من اللي حاصل.
, زاد العبوس في ملامحها وهي تبرر له:.
,
, -أنا خوفت عليه إنه يتهور، واتفاجئت بتصرفه، فاتعاملت بحدة شوية٣ نقطة
, لم ينطق معلقًا بشيء، فاستمرت في التوضيح، بشيءٍ من الندم:
, -بس لما قعدت مع نفسي وراجعتها، لاقيتني غلطانة، وبحاول أعتذرله، بس هو مش قابل.
, أتاها تعقيبه منطقيًا:
, -لو الراجل اتقل من احترامه، وخصوصًا من واحدة ست، صورته في عيون رجالته بتتهز، ودي مش أول مرة.
, استشعرت الخطر في استئناف علاقتها الشائكة مع تميم، فوَجل قلبها، وهتفت تقول في جزعٍ:.
,
, -أنا مقصدش و****، ده كان شيء تلقائي.
, حذرها سلطان بلهجةٍ غير لينة:
, -حافظي على هيبة راجلك، ده لو فعلاً شايفاه كده، راجلك مش غريب عنك.
, كادت تبكي خوفًا من خسارته، وهمست في تلعثمٍ:
, -يا جدي٣ نقطة
, أدار الجد عكازه بداخل راحته في حركة دائرية مستمرة، وأخبرها دون أن تتغير نبرته الجادة:.
,
, -إنتي غالية عندنا كلنا، وهنكون سندك على طول مهما حصل، حطي ده في راسك، اللي بيدخل وسطنا، بيبقى من أهلنا، مش شرط نسب ولا غيره، المهم يكون عاوزنا نبقى أهله.
,
, طفرت الدموع من عينيها تأثرًا، فراحت تفتش في حقيبتها عن منديلٍ ورقي تمسح به آثار بكائها الموجوع قبل أن تعود ونيسة، حاولت استعادة ثباتها، والظهور بمظهرٍ غير متأثر، خاصة مع إشغال سلطان للأخيرة بطلباتٍ مفتعلة، حتى اطمئن لعودة الأوضاع لشكلها الطبيغي، فراح يمتدح زوجة ابنه في ثناءٍ:
, -مافيش زيك بيعرف يعدل دماغي بقهوته.
, استأذنت فيروزة بالذهاب، وقد نهضت من مكانها، فاعترضت عليها ونيسة في دهشة:.
,
, -ما تخليكي أعدة، هو أنا لحقت أرغي معاكي.
, تصنعت الابتسام وهي تكرر اعتذارها بتهذيب:
, -مرة تانية، عشان ألحق همسة، زمانها ملبوخة مع ابنها.
, كانت حجة منطقية للهروب مؤقتًا بأحزانها ومخاوفها؛ لكن رغم هذا منحتها الفرصة لإعادة تقييم القادم من حياتها من منظورٍ مختلف تمامًا.
,
, ما عاد أي شيء يهم لديها سوى استعادة ما كانت عليه معه، ودَّت بشدة لو تمكنت من إعادة الزمن إلى الوراء، إلى حيث ما قد يُقال عنه مجازًا مُشادَّتهما الكلامية، وقتئذ لتركت له حرية التصرف كاملة في شأن عائلتها دون تشكيك أو تخوين، بلغ إحباطها منه مبلغه وقد أوشك الأسبوع على الانقضاء، فمن المفترض أن يكونا على اتفاقٍ واضح بشأن ما سيتم مع الجشع حُسني، كررت محاولة الاتصال به واستغلال تلك الحجة القوية للتواصل معه، وها قد أتت بمفعولها، لم يردّها؛ لكنه صدمها بإرجاء الحديث عن هذا الأمر لسببٍ لا تعلمه بعد.
,
, لم ترغب في سبر أغواره، ومناكفته، لئلا تزيد من إفساد العلاقة، حاولت أن تبدو مهتمة به، لا متلهفة بشوقٍ عليه، فتنحنحت متسائلة:
, -إنت مش ظاهر ليه؟
, جاوبها بفتورٍ:
, -عادي.
, شعرت بالجفاء في نبرته، ومع ذلك تابعت سؤالها التالي بتفاؤلٍ:
, -كله تمام معاك؟
, رد في إيجازٍ موجز:
, -أه.
, تغاضت مرة ثانية عن تباعده المحسوس، وانتقلت لسؤالٍ روتيني آخر مستهلك على المسامع:
, -خلصت شغلك ولا إيه؟
, علق ببرودٍ:
, -يعني.
,
, استفزها بطريقته المتجافية، فلم تتمكن من ضبط أعصابها، والتمسك بهدوئها الزائف أمام جموده القاسي، خرجت عن شعورها، وصاحت في تشنجٍ:
, -هو إنت مش طايق تكلمني؟
, كان مترفعًا –ومغيظًا- في جوابه:
, -مكونتش رديت.
, صرخت بكل ما اعتلاها من كبت وغيظ:
, -إنت رديت عشان اللي اسمه حُسني، مش عشاني.
, علق في لهجةٍ جافة للغاية:
, -عادي.
, بلغت ذروة استحمالها، فاستمرت في صياحها بصبرٍ نافذ:
, -على فكرة مش بحب الأسلوب الناشف ده.
,
, توقعت أن يتأثر لعصبيتها، أن يتراجع عن بروده؛ لكنه واصل إغاظتها بردوده المقتضبة:
, -براحتك.
, خبا صوتها المنفعل بعد صمت ثقيل سمع فيه أنفاسها المضطربة حين قالت بيأس تعيس:
, -هو أنا بتكلم معاك بالشكل ده؟ إيه اللي اتغير فيك؟
, رد بعد لحظة من السكوت:
, -أنا زي ما أنا.
, سألته في ألمٍ ظاهر في توسلها المستتر:
, -أومال في إيه؟
, أخبرها ببساطةٍ:.
,
, -مافيش، أنا بس قولت أعاملك زي ما بتعامليني، وخصوصًا قصاد رجالتي أو الغُرب، إيه الغريب في كده؟
, هذه المرة أبدت ندمها بصدقٍ:
, -أنا أسفة، خلاص أنا عرفت إني كنت قليلة الذوق جدًا، وغلطانة، حقك عليا، مش هيحصل تاني.
, لانت نبرته الجامدة وعاتبها:
, -هيفيد بإيه الأسف؟ وإنتي مستقلية بيا، وأنا عمري ما هحرجك قصاد حد، وأظنك مجرباني.
, أحست بالاختناق يسود في صوتها وهي تعيد عليه اعتذارها:
, -سامحني، مش هيتكرر، صدقني.
,
, زفرة ثقيلة سمعتها تخرج منه قبل أن يعقب:
, -**** يسهل.
, آلمها بُعاده القاسي، والتاعت بهجره الجافي، ظنت أن قلبه خلا من الميل إليها، فلم تعد تستهويه، استطاع أن يسمع رنة الضيق في صوتها وهي تستطرد:
, -إنت مكبر الموضوع.
, أوضح لها في هدوءٍ:
, -ماينفعش أصغره، ولا حتى أفوته، مهما كان الاحترام حلو ومطلوب، مالوش علاقة براجل ولا ست٣ نقطة
, صمتت والقلب يتألم، وزاد هذا الشعور مع إكمال تميم لجملته:.
,
, -لو مش عاوزة تقولي حاجة تانية، فأنا هقفل.
, تنفست بعمقٍ لتسيطر على بكائها الوشيك، ثم قالت ممهدة كإشارة تحذيرية:
, -أوكي، هي حاجة أخيرة، ويا ريت تسمعني كويس.
, رد في هدوءٍ:
, -اتفضلي.
, عرفت من أين تؤكل الكتف، كيف تُعيد الشريد إلى أوطانه، كيف تضمه إلى داخل دائرته، بكلماتٍ سريعة مباشرة جمعت بين التهديد والقبول نطقت فيروزة بثباتٍ ووضوح:.
,
, - تميم لو مسامحتنيش، مش هقولك إني موافقة يكون كتب الكتاب والدخلة على آخر الشهر، سلام٣ نقطة!
 
٥٦

الموافقة المشروطة، وما على شاكِلتها، من مساومات مغرية، كان غير مستلذٍ له، رغم تلهفه الحارق لسماع تلك الكلمات المُعلنة عن قبولها بالزواج منه، إلا أنه لم يكن مقتنعًا بالأمر. أراد أن تكون موافقتها نابعة من داخلها، لرغبة حقيقية منها في ذلك، وليس محاولة أخيرة يائسة لاسترضائه بعد جرح رجولته مرة بعد مرة. وقف تميم مشدوهًا في شرفة غرفته لبعض الوقت، لا يعرف بماذا يجيب أو يرد بعد أن أنهت الاتصال، تاركة له حرية الاختيار.
,
, حز في قلبه أن يراها مرغمة على حياةٍ لا تستسيغها، الموت أهون عليه من أن يشعر بأن حبه ميؤوس منه، ومن طرفٍ واحد. سحب شهيقًا عميقًا حبسه في صدره، قبل أن يحرره، وصوتٌ يتردد في رأسه:
, -مش ده اللي عاوزه منها!
, حملق في شاشة هاتفه متطلعًا في صورتها المحفوظة عليه، ووجهه يعكس حيرته وحزنه، وألمه، تساءل في مرارة:
, -ليه مش عارفة تحسي بيا؟
, بدأت سحابة من الدموع تزحف إلى حدقتيه وهو ما زال يسأل نفسه:
, -أنا إيه بالنسبالك؟
,
, أخفض الهاتف بعد ذلك، وهو يتنفس بعمقٍ ليسيطر على ما يعتريه من ضيقٍ متأثر، ثم تحرك عائدًا إلى الداخل، والهموم تثقل كاهليه. كان بحاجةٍ للمشورة، لسماع الرأي السديد، لما يرشده لفعل الصواب، لذا لم يتردد في الذهاب إلى جده، والاستعانة به، علَّ القلب الضائع يهتدي إلى مرساه.
,
, تقلبت على فراش من الجمر طوال ليلها، وهي تترقب وصول أدنى ردة فعلٍ منه، مضت عليها الدقائق طويلة، كأنها لا تريد الانقضاء، وعلى عكس المتوقع، جاء انتظارها بلا طائل، لم يصدر عنه شيء، أي شيءٍ مُطلقًا، مما استدعى شعور الإحباط بها. اعتدلت فيروزة في نومتها، وأسندت ظهرها لعارضة السرير، حملقت للمرة المائة في شاشة هاتفها، وهتفت في تذمرٍ يائس:
, -ده مافيش ولا أي ريأكشن منه؟!
,
, جال بخاطرها أمرًا مستبعد الحدوث، خشيت التفكير فيه؛ لكن لسانها نطق به بصوتٍ مهتز:
, -معقولة.
, بدأت الفكرة السوداوية من احتمالية عدم إتمام الزيجة تتوغل في رأسها، وزادت مع تفكيرها التحليلي الذي راحت تعبر عنه بكلماتٍ مقتضبة:
, -في حاجة غلط، إلا لو٣ نقطة
, نفت شكوكها بقولها المذبذب:
, -مش للدرجادي.
, حاولت شَطف تلك الهواجس عن تفكيرها، وركزت في أمرٍ آخر بدا منطقيًا، فحدثت نفسها:
, -طب افرضي إنه رفض أصلاً الاقتراح.
,
, برقت عيناها في ارتياعٍ وهي تردد:
, -معنى كده إنه٣ نقطة
, عجزت لوهلةٍ عن إكمال جملتها، وانعكست تعابيرها المفزوعة على وجهها، لتقول بعدها كإفصاحٍ خافت عن مخاوفها:
, -غير رأيه خالص.
, نفت ما راودها بادعائها غير الواثق:
, -لالالا، ماظنش، أكيد هو متمسك بيا.
,
, لم تكن واثقة بالفعل من هذا الكلام، ربما لفترة الجفاء الأخيرة التي سادت بينهما التأثير السلبي عليه، فعدل عن فكرة الزواج كليًا. تهدل كتفاها، وانتشر الحزن على ملامحها وهي تُعطيه أسبابه:
, -طب هيتمسك بيا ليه، وأنا عمري ما حسسته إني مهتمية بيه؟!
, تركت الهاتف من يدها، وكورت قبضتها لتضرب بها على الغطاء بضعة مراتٍ متتالية، وهي توبخ نفسها:
, -أنا غبية فعلاً، معرفتش أحافظ على الإنسان الوحيد اللي على طول واقف جمبي.
,
, ما آخر ذلك السكون المستنزف للأعصاب؟ ألن يخرج عنه ليثلج صدرها الملتاع؟ ألم يحن بعد إليها؟ أم تراه اعتمد القسوة سبيلاً؟ اعتصر الألم قلبها لمجرد التفكير في هذا الاعتقاد، وراحت تسأل نفسها كأنما تعترف بما يتعذر عليها نطقه في العلن:
, -هو أنا فعلاً بحبه؟
,
, منذ الساعات الأولى للنهار، كان تميم ماكثًا في غرفة جده، يريد منه النصيحة والمشورة، حكى له ما دار من مكالمة شبه حاسمة للقادم من حياته مع من يعشقها، بالطبع ليس بالأمر الهين عليه أن يبتعد عنها؛ لكن إن كان تواجدهما معًا مُقيدًا، فمع الوقت ستتحول براعم الحب النابضة في قلبه إلى مسوخ تقضي على كل ما هو طيب بينهما. لم يقاطعه سلطان، وتركه يفرغ ما في جعبته، إلى أن انتهى من الكلام، حينها جاء دوره، وسأله بهدوءٍ:.
,
, -إنت قررت إيه في النهاية؟
, أخفض رأسه، وحدق في نقطة وهمية عند قدميه، ليجاوبه بعدها بعد زفيرٍ قصير:
, -إنت عارف إني عايزها يا جدي، بس واضح إنها لأ.
, لم يعلق الجد، وتركه يسترسل في إبراز دوافعه:
, -بدليل إنها مطوحت في الميعاد من الأول، ودلوقتي الموضوع بقى مساومة عندها.
, قتل غصة مؤلمة علقت في حلقه وهو يتابع بمرارةٍ:
, -ودي الحاجة الوحيدة اللي ماينفعش أجبرها عليها.
,
, طالعه سلطان بنظرةٍ متعاطفة وحنون، حافظ على صمته ليكمل حفيده بتنهيدةٍ موجوعة:
, -لو غصبت نفسها على العيش معايا، مع الوقت هتكرهني، وده مش هتحمله.
, رد عليه جده بهدوءٍ:
, -سبيها على ****، محدش عارف الخير فين.
, هز رأسه باهتزازة خفيفة وهو يرفع عينيه إليه، ليضيف الجد بتفاؤلٍ:
, -بس وقت ما ربك يأذن، هتلاقي علامات التيسير قصادك.
, تنهد مطولاً قبل أن يخبره تميم بتعبيرٍ مبهم غير مقروءٍ:
, -كله خير، كله خير.
,
, قبيل الظهيرة، في هذا الوقت تحديدًا، تواجد في منزل عائلتها، وهو مُتيقنٌ من انشغالها بالعمل في محلها، لإطلاعهم على المستجد بشأن حُسني، وما وصل إليه –عبر محاميه- من أخبارٍ بعد تجديد حبسه. دار بعينيه على المكان وهو يشعر بالاشتياق إليها، إلى نظرة ناعمة منها، إلى كلمة رقيقة تصدر عنها، مصحوبة بضحكة متدللة تداعب الأوتار؛ لكن كيف للحظة عابرة أن تُبدل هذه المشاعر السامية إلى أخرى مُوغرة. تجاوز تميم عن لهفته، وغطى عليها بملامح جادة متصلبة، ثم أكد له بثقةٍ كبيرة:.
,
, -مش عاوزك تقلق يا عم خليل، الموضوع عندي، وخلاص اتحل.
, سأله في دهشة وهو يرمقه بتلك النظرة الحيرى:
, -إزاي؟ ده ال، مفروض كن، ا نجمع الف، لوس، ونديهاله.
, ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يخبره بغموضٍ:
, -**** كريم، وبعدين لا يفل الحديد إلا الحديد، المهم ارتاح، وبنتك في أمان.
, هتف خليل شاكرًا المولى:
, -الحم، د لله.
, ربت تميم على فخذيه استعدادًا للنهوض، وقال مستأذنًا:
, -طيب يا عم خليل، هاقوم أنا، ونتقابل تاني على خير.
,
, جاءت إليه آمنة تسأله في استغرابٍ:
, -إنت لحقت يا ابني، ده القهوة لسه على النار.
, اعتذر منها بلباقةٍ:
, -معلش، أنا كنت جاي في كلمتين على السريع وماشي، تتعوض وقت تاني.
, سألته بغتةً بما جعل دقات القلب تتسارع:
, -طب و فيروزة؟
,
, لاذ بالصمت مرغمًا، لا يريد الاعتراف لنفسه بأنه يتحين الفرص لرؤيتها بالرغم من ضيق صدره، لكنه قسا على شوق قلبه، وفعل ما لا يُحبذه، متحملاً تبعات اختياره المتجافي. عاد من شروده السريع، وتنبه إلى صوتها القائل بنوعٍ من العتاب اللطيف:.
,
, -دي هتزعل لما تعرف إنك جيت ومشيت من غير ما تشوفها، وبعدين مش كنت تستنى تعرف بالأخبار الحلوة دي معانا منك؟ ده حتى مزاجها مقلوب الأيام اللي فاتت، ومش على بعضها نهائي، فجايز ده كان يفرحها.
, أحزنه سماع هذا، وتلقائيًا انقلبت تعابيره، ليردد بعدها في جديةٍ:
, -هابقى أكلمها أطمن عليها.
, تصنع الابتسام ليخفي ضيقه المتفشي فيه، وقال بأدبٍ:
, -عن إذنك..
,
, خَفَّض من نظراته في احترامٍ، وتقدم في خطواته، ليصل إلى باب الشقة وهي من خلفه تهتف:
, -إذنك معاك يا ابني.
, أوصلته إلى الخارج وهي تدعو له بصدقٍ:
, -**** يباركلنا فيك، ويخليك لينا.
, منحها نظرة ممتنة قبل أن يهبط درجات السلم، والألم ما زال مستبدًا بقلبه، ألم يأن الوقت بعد لتشعر به بحق؟!
,
, حينما ضاقت بها السبل، وعجزت عن إيجاد الحل المنطقي لمعضلتها، لجأت إلى طبيبتها النفسية، إذ ربما مع استفاضتها في البوح بما يمتلئ به عقلها من مخاوف وهواجس، أرشدتها وسط دوامتها اللا متناهية إلى الدرب الصحيح. اتفقت فيروزة على لقائها في دار رعاية المسنين، وقت الظهيرة، في الحديقة المورقة. كانت المقابلة تسير على ما يرام، بها الكثير من التفريغ العاطفي للكبت المشحون بداخلها، إلى أن تلقت هذا الاتصال، خرجت عن مألوفها المعتاد، وراحت للحظاتٍ فيما يشبه الغيبوبة الذهنية، بعد أن أطلعتها والدتها هاتفيًا على زيارة تميم للمنزل، وفي غيابها، كأنما تعمد فعل ذلك ليتجنب الالتقاء بها، سرعان ما انتفض فيها الغضب وهتفت بكدرٍ متزايد في صوتها:.
,
, -كان موجود، ومسألش عليا؟!
, علقت والدتها في هدوءٍ:
, -قال هايكلمك.
, بالكاد سيطرت على نبرتها المحتدة، وقالت:
, -طيب يا ماما.
, سألتها آمنة مستفهمة:
, -هتتأخري؟
, ردت بوجومٍ شديد:
, -لأ، هخلص اللي ورايا، وأرجع.
, جاءها تعقيبها مختتمًا المخابرة:
, -ماشي يا فيروزة، مع السلامة.
, ألقت بالهاتف على الطاولة في عصبيةٍ، لتتطلع إلى طبيبتها بنظراتٍ مستشاطة، قبل أن تتابع شكواها إليها بتشنجٍ:.
,
, -سمعتي بنفسك يا دكتورة ريم، متجاهلني بشكل كامل، يعني خلاص خد القرار.
, امتصت حنقها الظاهر عليها بسؤالها في نبرة هادئة وذات دلالة مباشرة:
, -طب ليه ماتفسريش الموضوع على إنه حاجة تانية؟
, على ما يبدو لم تستوعب وسط غيظها المغزى وراء هذا السؤال، فاستمرت على عصبيتها عندما ردت:
, -حاجة تانية إيه؟ ده أنا قولتله موافقة نكمل الجوازة.
, طلبت منها ريم بتريثٍ متعقل:.
,
, -من فضلك إهدي، ده مش أسلوب للنقاش، ولو اعتمدتي على الطريقة دي في الكلام معاه هتتفهم غلط.
, نظرت إليها بعينين ضيقتين، وأطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التعليق، في حين بادلتها ريم نظراتٍ خبيرة وهي تواصل تعرية الحقائق لها:
, -هيعتبرك بتقللي من احترامه، ومافيش تقدير ليه.
, نفس العبارات المعاتبة تكررت على مسامعها بشكلٍ آخر، مع اختلاف الشخصية، بذلت جهدًا لتضبط من أعصابها، واعتذرت في عبوسٍ:
, -أسفة.
,
, ردت عليها بمنطقيةٍ:
, -الاعتذار ممكن مايكونش مُجدي لو وصلتي في الخلاف لعدم الاحترام.
, كانت كمن يتجرد من دروعه في إسقاطها الحر معها، احتدت نظراتها المستنكرة إليها، ومع ذلك استأنفت ريم كلامها اللاذع بأسلوبٍ رزين وهادئ:
, -ده اللي عاوزة أوصلهولك يا فيروزة، صحيح إنتي قولتي موافقة فعلاً، بس موافقة مرهونة بشرط معين، يعني حطيتي حاجة قصاد حاجة.
, رمشت بعينيها في ضيقٍ عارم، و ريم ما زالت تتكلم بغير تحيزٍ:.
,
, -وده طبعًا مرفوض عند راجل بطباع تميم، دمه حامي، وليه شخصية قوية ومستقلة، محتاج اللي قصاده يحترمه، ويديله التقدير اللي يتناسب معاه.
, تصلبت في جلستها، واستقام كتفاها وهي تريح ذراعيها على الطاولة، لتقول بعدها في استياءٍ منزعج:
, -أنا كده مابقتش عارفة أعمل معاه إيه.
, لاحت بسمة رقيقة على ثغرها وهي تخبرها:
, -الموضوع بسيط جدًا، حطي فيه ثقتك، وحسسيه بده.
, عقبت على الفور في حمئةٍ ظاهرة في نبرتها:
, -طب ما أنا بعمل كده.
,
, أتاها تبريرها منطقيًا، ويحمل اللوم في طياته:
, -أيوه، بس بعد إيه؟ لما الدنيا تكون اتعقدت.
, اِربد وجهها بالمزيد من علامات الضيق، وتضاعف مع استمرارها في تقريعها بشكلٍ مهذب:
, -وده يعتبر سوء تصرف منك.
, ردت بشيءٍ من العجرفة:
, -ماشي، بس يخليه يرفضني؟
,
, الأسلوب المُعاند، والمتخم بنزعة التعالي المكروهة، كان غير مقبول في التعامل معه، لهذا أرادت ريم الإشارة إلى تلك السمة التي اتخذت مسارًا كبيرًا في الظهور ضمن طباعها المستحدثة مؤخرًا، عن طريق اللجوء لحيلة ذكية، لوضع يدها على ذلك العيب الخطير. لفظت الهواء من رئتيها، وأخبرتها ببسمة هادئة:
, -وده مضايقك؟ ماهو عرض وطلب، ليه مستغربة؟
, سادت رنة الغيظ في صوتها وهي تجيبها:.
,
, -يعني أنا بالنسباله واحدة بتفرض نفسها عليه؟ أومال فين المشاعر الحلوة، اللي كان بيلمح بيها؟ اختفت فجأة؟
, زمت شفتيها للحظةٍ قبل أن تخبرها ببساطة:
, -هتظهر، بس مش في وقت الأزمات.
, كانت على وشك الاحتجاج عليها؛ لكنها أسكتتها بإشارة مرفوعة من يدها قبل أن تكلمها بهدوئها المعتاد:.
,
, -وبعدين ما تنسيش لازم المشاعر بينكم تكون متبادلة، مش من طرف واحد بس، والطرف التاني مستقبل فقط، أو يحسس اللي قدامه إنه بيمن عليه لما يتعاطف معاه، كده مش علاقة سوية، دي بوادر لعلاقة فاشلة.
, أرجعت فيروزة ظهرها للخلف، وشبكت ساعديها وهي تمط شفتيها في تجهمٍ شديد، راقبتها ريم بنظراتها المتفرسة، وداومت على معاتبتها بأسلوبها الرقيق، فقالت:.
,
, -زي ما هو بيستوعبك وقت عصبيتك، هو متوقع منك إنك تعملي كده كمان معاه، مش تمني عليه، ولا تقابلي دعمه بعدم تقدير وإهانة.
, هاجت مشاعرها من جديد، وانتفضت مدافعة عن نفسها:
, -أنا مقصدتش، كان غصب عني، وفي نفس الوقت كنت بحميه من مصيبة كان هيقع فيها لو اتهور، ليه دلوقتي عاوز يبعد؟
, امتد النقاش في تلك الجزئية لبعض الوقت، ما بين شدٍ وجذب، إلى أن تساءلت ريم في الأخير وهي تنظر في عين مريضتها مباشرة:.
,
, - فيروزة إنتي بتهربي من إجابة السؤال اللي سألتهولك أول ما تكلمنا، بتلفي وتدوري ومش عاوزة تجاوبي عليه، إنتي بتحبيه ولا لأ؟
, تحاشت النظر إليها، لئلا ترى صراع التخبط الدائر في رأسها، سمعتها تقول في هدوءٍ:
, -لو قدرتي تجاوبي على السؤال ده بصدق قصاد نفسك، هتعرفي إنتي عاوزة تعملي إيه معاه، وهتحددي هتكملي اللي جاي من حياتك إزاي٣ نقطة
,
, بلغ الحوار مُنتهاه معها، فأنهته بجملة تحذيرية لخصت اللقاء، ووضعتها عند أول الطريق:
, -غير كده إنتي بتعملي حواجز، وهتفضلي عند نقطة الصفر، مع الفرق إنك هتفقدي الحب، والأمان، والسند اللي بجد.
,
, لفتها مشاعر الغضب، الكدر، الألم، والحزن، بعد تلك المصارحة المتخمة باللوم والتوجيه؛ اللوم لإساءة التصرف في أمورٍ تتطلب حنكة وذكاء، والتوجيه لاستعادة ما هو على وشك الفقد بالحكمة والتروي. مكثت فيروزة في دكانها بمفردها، بعد أن صرفت مساعدتيها مبكرًا، لتنزوي مرة أخرى وسط دوامة أفكارها المتصارعة. تنهيدة سريعة لاحقتها بأخرى وهي تُعيد على نفسها ذلك السؤال بعينه؛ حيث نطقت به بصوتٍ خافت مهموم:.
,
, -ليه دخل حياتي من الأول لما هو مش عاوزني في الآخر؟
, فركت جبينها بإصبعيها وهي تستند بمرفقها على سطح مكتبها، قبل أن تتساءل في جديةٍ:
, -طب وأنا؟ عايزاه ولا لأ؟
, وجدت الأفكار السوداوية طريقها إلى عقلها المرهق، فقالت في نبرة محبطة:
, -هتفرق في إيه؟ كل اللي كنت بستناه وبحلم بيه بيروح قبل ما يبتدي.
, لكن ما لبث أن قاومت ذلك الزحف المهلك بتأكيدها:
, -بس هو غيرهم.
, لمع في حدقتيها وميضًا حزينًا وهي تتمتم باشتياقٍ:.
,
, -على طول معايا، وفي ضهري.
, تقوست شفتاها للأسفل ليتكمل مشهد العبوس على وجهها وهي ما زالت تُخاطب نفسها:
, -أنا اللي اتصرفت غلط من الأول، عاملته على إنه غريب، وهو أقرب واحد ليا.
, استوت على مقعدها، ولملمت أشيائها المبعثرة في حقيبتها، لتردد في عزمٍ شديد الجدية:
, -لازم أتكلم معاه، مش هسيب الموضوع متعلق كده.
, نهضت من مكانها، وتابعت استرسالها أحادي الجانب مقررة بحسمٍ:.
,
, -النهاردة هنهيه، يا نكون سوا، يا إما كل واحد يروح لحاله.
,
, أوصدت باب محلها، ووضعت القفل بين مقبضيه، لتنطلق بعدها سائرة في اتجاه دكان عائلة سلطان بخطواتٍ متحفزة، شبه متعجلة، وصوت دقات قلبها يصم أذنيها من فرط قلقها. تنفست فيروزة بعمقٍ لتضبط انفعالاتها المتوترة، واستعدت لتعبر من الزقاق الضيق إلى الشارع الواسع، حيث يتواجد الدكان على ناصيته، بدا الطريق خاليًا من السيارات؛ لكن أحدهم قطعه بغتةٍ ومن الاتجاه المعاكس، بالكاد نجت من اصطدام وشيك، وتراجعت للخلف وهي تسمع صوت صرير احتكاك المكابح بالأسفلت، تجمدت في مكانها مشدوهة، قبل أن تتحول نظراتها المرتاعة نحو السيارة، وقائدها الأرعن.
,
, التقطت أنفاسها المضطربة من الصدمة المباغتة، واستدارت توبخ المخطئ بحدةٍ:
, -مش تحاسب، في ناس ماشية على الأرض.
, أطل صاحبها برأسه من النافذة، وصاح بها بفظاظةٍ أدهشتها كليًا، وألجمت لسانها للحظة:
, -إنتي اللي غبية، وعامية، ما تفتحي وتبصي قدامك، ولا هو رمي بلا؟!
, استفاقت من ذهولها المؤقت لتهدر به في غضبٍ متصاعد:
, -احترم نفسك، يعني غلطان وبجح؟ ده بدل ما تعتذر؟!
,
, ترجل من سيارته ليواجهها، وقال في إهانةٍ فظيعة جعلت الأنظار تتجه إليهما:
, -اعتذر ليه يا (، )، يخربيت أبو اللي علمكم المشي.
, على إثر نعته النابي، اتسعت عينا فيروزة في ذهولٍ، قبل أن تتبدل للقساوة، تجمع غضبها على الفور، وراحت توبخه في تشنجٍ:
, -أما إنت واحد قليل الأدب، ومش محترم بصحيح.
, لم ترده نظراته القاسية، بل إنه تقدم ناحيتها هادرًا بصوتٍ جهوري، وملوحًا بذراعه في وقاحة جريئة:
, -تعالي علميني الأدب يا (، ).
,
, احتج أحد المتواجدين على أسلوبه غير اللائق في الحديث إليها، واقترب منه يعنفه في غير رضا:
, -عيب الكلام ده٣ نقطة
, نظر له الرجل الغريب باستخفافٍ، فتابع ذلك الفرد تقريعه:
, -مايصحش تتعرض لبنات الناس بالشكل ده؟
, حاد بنظراته المتأففة عنه ليمنح فيروزة نظرة احتقارية مشمئزة وهو يخاطبه بطريقته الفجة:
, -دي واحدة صايعة و(، ).
,
, شهقة أخرى مستنكرة انفلتت من بين شفتيها على إثر سبابها المهين لها، كان ذلك الرجل وقحًا للدرجة التي جعلت المتجمهرين يزومون في استهجانٍ شديد لوضاعته المتجاوزة معها.
,
, في تلك الأثناء، بين رجاله وقف شامخًا، صلدًا، حازمًا، يُلقي الأوامر هنا وهناك، ليتأكد من إنجاز المطلوب في وقتٍ وجيز. أعطاه أحد عماله ورقة ليتطلع عليه، فقرأها في إمعانٍ قبل أن يزيل آخرها بتوقيعه، استدار برأسه نحو آخر يناديه في جزعٍ:
, -إلحق يا معلم تميم!
, سأله بحاجبين معقودين:
, -في إيه؟
, جاوبه العامل بصوتٍ لاهث:
, -جماعتكم بيتخانقوا على أول الشارع.
,
, برزت عروقه وانتفضت في كامل جسده مع تلك الكلمات المستثيرة للأعصاب، اندفع كالثور الهائج ركضًا ولسانه يتوعد بحنقٍ جم:
, -ليلته مهببة!
,
, اختطف النظرات خلال اندفاعه الغاضب ليعي من المقصود بجماعته، فالعامل لم يفصح بشكلٍ مباشر عن هوية من تتعرض للاعتداء، أنبأه قلبه بأنها المقصودة، وصدق النبأ حين رأها تنفعل في وجه أحدهم، اخترق صفوف البشر التي أعاقته عن بلوغها بدفعهم لجانبيه بكلتا قبضتيه، سمع نعت ذلك الوغد الوقح إليها، فاشتد هياجه، وهدر بصوتٍ زلزل صداه في الأرجاء:
, -إيه اللي بتقوله ده يا (، )، قسمًا ب**** ما سايبك النهاردة.
,
, لم يستطع أي فرد منعه من الوصول إليه، بل يمكن الجزم بأنهم اتفقوا فيما بينهم دون ترتيب على إفساح المجال له للانقضاض عليه. ترك تميم العنان لنوبة غضبه المندلعة لتنفجر في وجهه، لكمه بقساوةٍ، بعد أن أطبق بقبضته القوية على عنقه، تفاجأ الرجل بهذا الهجوم الغاشم عليه، وحاول صده إلا أنه فشل أمام سيل اللكمات العنيفة، حتمًا فسدت ملامحه، وامتلأت بالتورمات والكدمات المختلفة.
,
, لم يستغرق الأمر سوى أقل من دقيقة لتدرك فيروزة أن حاميها على وشك زهق حياة أحدهم للذود عنها، لمجرد أنه سمع بالأمر، رغم الجفاء والتباعد بينهما. رأته في كامل غضبه واهتياجه، هوى قلبها جزعًا عليه، ونادته بصراخٍ مرعوبٍ وقد رأت الآخر يلكمه في فكه كمحاولة بائسة لحفظ ماء وجهه بعد بعثرته:
, - تميم، خد بالك.
,
, لف تميم ساقه حول ركبة الرجل، ثم ثناها في خفةٍ وسرعة ليطرحه أرضًا، فارتطم جسده بالأسفلت الصلب، وصاح متألمًا، لم يعبأ بصراخه الموجوع، وجثا على صدره بركبته ليثبته على وضعيته المستلقية، ثم أطبق على عنقه مجددًا، وأخذ يخمش في جلده بأظافره وهو يزيد من ضغطه القاسي على مجرى تنفسه. بصق عليه وهو يواصل تهديده العدواني الشرس:
, -عامل فيها راجل على واحدة ست؟ طب قابل الرجالة اللي بجد.
,
, قاومه الرجل قدر استطاعته رغم الألم المنتشر في بدنه، حاول النهوض؛ لكن تميم كان يعيده لاستلقائه الأول بتحكمٍ واضح، التقط الرجل بيده حجرًا لمحه من طرف عينه، وحاول إصابته به في لحظة غادرة؛ لكن فيروزة صرخت لتنبيهه:
, -حاسب يا تميم!
,
, تفادى الضرر الجسيم الذي كان من الممكن أن يصيب وجهه على إثر تحذيرها، وسدد بكوعه لكزة عنيفة كادت تطيح بفك الرجل؛ لكنها جعلت خيوط الدماء تتفجر من بين أسنانه. وجدت فيروزة نفسها تتراجع بشكلٍ لا إرادي للخلف، لتنخرط وسط النساء بعد أن تجمع بعض الرجال حول تميم لإقصائه عن الرجل الذي سيهلك بين براثنه، إن استمر على نفس النهج العنيف معه. نجحوا في إبعاده، وشكل البعض بأجسادهم حاجزًا يحول بينهما، ثم قال أحد عجائز المنطقة كمحاولة للسيطرة على الموقف قبل أن يتفاقم، ويتطور للأسوأ:.
,
, -صلوا على النبي يا معلم، اهدى كده.
, توعده تميم بعدائيةٍ وهو يمسح العرق من على جبينه:
, -مش هاسيبه ابن (، ) ده!
, رد عليه الكهل بهدوءٍ:
, -إنت عرفته غلطه.
, مضت فيروزة في طريقها إليه، إلى أن أصبحت بجواره، توسلته في رجاءٍ شديد:
, -عشان خاطري، خلاص، سيبه.
, التفت ناحيتها فرأى الخوف متجليًا على قسماتها، كررت عليه استجدائها:
, -بلاش تضيع نفسك، ده واحد مايستهلش، عشان خاطري.
, بالكاد استجمع نفسه، وصاح بهديرٍ غاضب:.
,
, -غور من هنا يا (، ).
, تنفست فيروزة الصعداء لاستجابته المحمودة، ورمقته بنظرة ممتنة دون أن تبتسم، بينما نهض الرجل من رقدته المهينة، بمساعدة أحدهم، عاونه على المشي إلى أن بلغ سيارته، استقلها بعدها هاربًا وهو يئن من الألم الشديد.
,
, ما إن تأكد تميم من رحيله، حتى عاود النظر إلى فيروزة بعينيه المشتعلتين، لن تنكر أنه دبت في أوصالها رعدة خائفة، تجاوزتها بنظرة تقدير إليه، قابلها بجمودٍ، ثم أبعد ناظريه عنها، ليصيح في زمرة البشر المحتشدة:
, -خلاص يا جدعان، الحكاية اتفضت.
,
, بدأ أهالي المنطقة في التفرق والابتعاد، كلٌ ذهب في طريقه، لتخلو الساحة بعد أقل من دقيقة من الزحام. أصبحت فيروزة بمفردها معه، وقبل أن تفكر في الكلام، أمرها بلهجة من يقرر:
, -تعالي!
,
, تبعته في صمتٍ حكيم؛ لكنها لم تتوقف عن اختلاس النظرات إليه وهي تسير باعتزازٍ معه، غمرها ذلك الشعور الدافئ الذي افتقده -بوجوده- طوال فترة خصامهما، ودَّت لو رجعت بالزمن للوراء وتصرفت بتلك الطريقة، لربما فازت بأكثر من مجرد محاولة غير مضمونة للتصالح، ونيل الغفران.
, أشار لها بالجلوس على المقعد المواجه لمكتبه بداخل الدكان، وسألها في اهتمامٍ، وعيناه تشملاها بنظراتٍ فاحصة لتتأكد من سلامتها:
, -إنتي كويسة؟
,
, ردت بعد ضغطة حرجة على شفتيها:
, -الحمد****..
, غالبت التردد الذي أمسك بلسانها لتطمئن عليه، فسألته أيضًا باهتمامٍ يفوقه:
, -حصلك حاجة؟
, رد نافيًا وهو يتحرك مبتعدًا عنها ليقترب من مدخل الدكان:
, -لأ.
, بقيت نظراتها المتلهفة عليه، تفحص بعض الخدوش التي أصابت وجهه، وهو يعطي العامل أمره الصارم:
, -قفل بقيت الطلبية، وماتسلمش الحاجة من غير إذن التوريد.
, رد الأخير دون جدالٍ:
, -حاضر يا ريس.
,
, لم تكن إصابته تدعو للقلق، بضعة أيامٍ وستختفي آثارها بالكامل، كأنها لم تكن. أطالت النظر، واستطالت فيه باستمتاعٍ؛ كأنما تعوض ما فاتها من حرمانٍ بغيابه عنها، عاهدته رجلاً وهو يعمل، وأكثر رجولة وهو في أشد المواقف خصومة. أحست بفيضٍ من المشاعر الغريبة يجتاحها في تلك اللحظة، مشاعرٌ تتوق إلى الارتماء في أحضانه، الشعور بالقوة تحتويها وهي محاصرة بين ذراعيه، أفاقت من تماوج أفكارها الحالمة عندما اقترب منها، وسألها بلهجةٍ مالت للرسمية:.
,
, -جاية هنا ليه؟
, رغم إحساسها بالحرج لأسلوبه المغلف بالجمود، إلا أنها تمسكت بهدوئها، وسألته في صوتٍ رقيق معاتب، وتلك النظرة التواقة تطل من لؤلؤتيها:
, -هو إنت مش عاوز تشوفني؟
, جلس على كرسيه، وقال مصححًا دون أن تلين نبرته:
, -مش القصد، بس في حاجة حصلت عندكم؟
, هذه الرسمية المستفزة جعلت الخيالات الحالمة تتلاشى، وتحل محلها ما خشيت الاعتقاد فيه من أفكارٍ سوداوية، تنهدت سريعًا، ثم عبست وهي تجيبه باقتضابٍ:
, -أه، في.
,
, سألها بصيغة شبه آمرة:
, -إيه؟ قوليلي.
, أطلقت زفرة سريعة مغتاظة من جفائه، ونطقت مرة واحدة:
, -إنت.
, رفع حاجبه للأعلى متسائلاً في قليلٍ من الاستغراب:
, -أنا؟!
, أومأت برأسها مؤكدة في عتابٍ لم يصل للحدة:
, -أيوه، طالما إنت مردتش عليا في اللي قولتله، فأنا فهمت إنت عاوز إيه.
, مرر يده على رأسه، وسألها وهو يريح ظهره للخلف:
, -إيه اللي فهمتيه؟
, أجابته بشيءٍ من العصبية دون أن ترتفع نبرتها:.
,
, -إنك غيرت كلامك، ومش عاوز الجوازة تكمل، بس محروج تقولي كده، فأنا جاية النهاردة عشان أعفيك من الحرج ده.
, نظر لها مليًا بلا تعقيب، فاغتاظت مجددًا من صمته، وسألته:
, -كلامي مظبوط؟ صح؟
, رفع ناظريه عنها ليحدق في العامل الذي جاء متسائلاً:
, -نجيب إيه يا معلم؟
, أشار بعينيه إليه وهو يجاوبه:
, -هات ليمون للأبلة.
, التفتت ناظرة للعامل تعتذر له:
, -شكرًا، مش عايزة حاجة، فمافيش داعي تتعب نفسك.
,
, وكأنها لم تنطق بشيء، أمر العامل بلهجته الحازمة:
, -روح، هات الليمون، ومتتأخرش.
, استدارت فيروزة تنظر إلى تميم بنظرات مغتاظة، فتجاهلها، وحدق في وجه العامل الذي هز رأسه في انصياعٍ وهو يرد:
, -تمام يا معلم.
,
, عاودت التحديق هي الأخرى في العامل، لتجده انسحب من محيطهما، سحبت شهيقًا عميقًا، حبسته لثوانٍ في رئتيها قبل أن تحرره وتدير رأسها في اتجاه تميم، تطلعت إليه مجددًا بثبات، ثم استطردت قائلة بغصةٍ محسوسة في صوتها:
, -عمومًا أنا مش هاخد حاجة مش بتاعتي، المهر والشبكة جاهزين في أي وقت تقدر تبعت تاخدها، والفلوس اللي دفعتها ل حُسني هرجعهالك معاهم.
,
, بادلها نظرات جامدة، غامضة، لم تطرف عيناه، ولم ترتخِ ملامحه، بل راح ينقر بأصابعه على سطح المكتب وهو يسألها في إيجازٍ:
, -وبعدين؟
, اكتفت فيروزة من معاملته القاسية، وتعلمت درسها بحقٍ، هبت واقفة، وعلقت حقيبتها على كتفها لتخبره بتعابيرٍ مكفهرة:
, -خلاص كده، وكتر خيرك يا معلم على اللي عملته معانا كلنا.
, توقف عن النقر، واعتدل في جلسته، ثم سلط كامل أنظاره عليها وهو يأمرها:
, -اقعدي.
,
, زوت ما بين حاجبيها مرددة في استنكارٍ:
, -نعم.
, تحفز في جلسته، وخاطبها بهذه اللهجة الحازمة:
, -اللي سمعتيه، اقعدي، أنا مردتش عليكي لسه.
, عاندته في غيظٍ:
, -أنا محدش يديني أوامر، وخصوصًا لو مافيش بيني وبينه حاجة.
, نهض واقفًا ليبدو أكثر مهابة عن ذي قبل بتعابيره الصارمة، ونظراته المهددة، أحست برعشة طفيفة تصيب ظهرها، وتنتقل سريعًا إلى أطرافها وهو يكز على أسنانه محذرًا:.
,
, -والحكاية مخلصتش يا أبلة، اقعدي بدل ما اعمل مصيبة تانية، أنا جايب أخري.
, استسلمت على الفور، وتخلت عن عنادها، لتعاود الجلوس في مقعدها وهي تغمغم بخفوت:
, -استغفر **** العظيم.
, لم يجلس مثلها، بل دار حول المكتب وعيناها ترقبانه بتوترٍ متحفز، ابتعد عن محيطها ليتوجه إلى واحدٍ من عماله، أمره في صوتٍ قوي جعلها تخشى مجادلته في لحظات عصبيته:.
,
, -مش أنا قولت تحط الرصة دي هناك، الربع نقل هاتحملها كمان شوية، كفاية لكاعة، ولا لازم يعني أعملها شغلانة معاكو؟!
, اندهش العامل من حمئته، ومع هذا قال في طاعة:
, -حاضر يا معلم، هنخلصها في السريع.
, أعطاه أمره التالي بنفس الأسلوب:
, -وافتح سكة من الناحية دي، العربيات مش هتعرف تعدي.
, قال وهو يسرع الخطى لتنفيذ ما تلاه عليه:
, -أوامرك يا كبير.
, رجع إليها تميم وهو يسير معتدًا بنفسه، فتنحنحت ناهضة لتخبره بوجهٍ شبه متورد:.
,
, -لو مشغول نتكلم وقت تاني.
, جلس هذه المرة مواجهًا لها، وقال بغير ابتسامة:
, -خلاص فضيتلك.
, ظلت واقفة تحملق فيه من مستوى نظرها بتوترٍ حائر، أرادت النفاذ إلى داخل رأسه لتعرف ما الذي يفكر فيه بشأنها، الغموض المحاوط به جعلها في حالةٍ من التخبط، اللوعة، والرغبة! دبت فيها رجفة خفيفة عندما أمرها:
, -اقعدي.
, استجابت لأمره بامتعاضٍ ظاهر على ثغرها، وراحت تنظر إليه في تحفزٍ وقد بدأ يخاطبها من جديد بجديةٍ:.
,
, -شوفي يا أبلة، لما طلبت إني اتجوزك لأني عاوز ده فعلاً، لا بعتبر الموضوع زي أي جوازة والسلام، ولا شايفك واحدة كويسة، تنفع تبقى مراتي، إنتي أعلى وأغلى من كده بكتير.
, أخذت تعابيرها المشدودة تلين جزئيًا، خاصة عندما تابع:
, -مش عاوزك تبقي مجبورة ولا مغصوبة على الجواز، لمجرد بس ترضيني أو ترضي غيرك.
, أحنت رأسها على صدرها قليلاً، وأصغت إليه وهو يواصل معاتبته لها بعتاب المحبين:
, -زعلي منك معروف سببه إيه.
,
, بترددٍ بائن على محياها، وواضح في نبرتها كذلك، أسبلت عينيها قائلة:
, -أنا بعترف إني اتصرفت غلط، مكانش ينفع أكلمك بالشكل ده، بس و**** كنت خايفة عليك تتهور.
, سكت، وترك لها المجال لتتكلم، فأردفت في هدوءٍ:
, -الواحد ساعة الغضب مابيفكرش كويس، وإنت عصبيتك صعبة حبتين.
, رمقها بتلك النظرة الغامضة، العميقة، وهي ما زالت تخاطب ودَّه بلين الكلام:.
,
, -بس بعد كده لما راجعت نفسي اتأكدت إن كان ممكن أتكلم بأسلوب تاني، والنتيجة هاتكون أحسن.
, عقب عليها بجملةٍ استرابت منها:
, -ساعات اللسان بيسبق التفكير، وللأسف ده ممكن يضيع الحلو.
, سألته بتوجسٍ، وقد خبا التورد الدافئ من وجهها:
, -قصدك إيه؟
, لم تهتز تعبيراته وهو يخبرها بصوته الجاد:
, -قصدي إني مش هربط موضوع مسامحتي بالجواز، فلو إنتي عاوزة الليلة تنتهي لحد كده، فده عشانه اختيارك إنتي، مش لأني ماسمحتكيش.
,
, انخلع قلبها مع قراره الصادم لتوقعاتها، واعترضت في ذهولٍ:
, -بس آ٣ نقطة
, قاطعها مؤكدًا بإشارة من يده أمام وجهها لتسكت:
, -إنتي هتفضلي غالية، وليكي قيمتك مهما حصل.
, تطلعت إليه بنظراتٍ مصدومة، قابلها بنظراتٍ تعكس كبريائه الجريح:
, -وأنا عاوز الاحترام والود بينا يزيد بالجواز مايقلش.
, بلعت غصة مريرة في حلقها، وردت بصوتٍ شبه خافت:
, -تمام، فهمت.
, قام من مقعده ليتابع بنفس الصوت الجاد:
, -خدي وقتك وفكري براحتك من غير أي ضغوط.
,
, تبعته بنظراتٍ شبه تعسة وهو يتحرك مبتعدًا عنها عند مدخل الدكان، نظر مرة ثانية نحوها، بحزنٍ مناقض للجمود الذي استحوذ على نظراته قبل قليل، ثم خاطبها في صوتٍ هادئ مستسلم وهو يدس يديه في جيبي بنطاله:
, -وأنا قابل بأي قرار ليكي.
, نهضت بدورها، وعدلت من وضعية ذراع حقيبتها على كتفها، قبل أن تنطق في صوتٍ شبه مختنق:
, -طيب، شكرًا يا معلم على كل حاجة.
,
, الخذلان، يا له من شعورٌ مؤلم! يسحب معه كل ذكرى طيبة وجميلة، فقط إن سمحت له بالاستحواذ على الجيد في حياتها. بدأت فيروزة بالسير؛ لكنها توقفت قبالته لتواجهه في وقفته السامقة، ثبتت عينيها عليه وهي تقول في تصميمٍ:
, -قبل ما أمشي، أنا مابرجعش في كلمة قولتها طالما مقتنعة بيها، وإلا مكونتش قولتها من الأول٣ نقطة
, حدق في نظراتها إليه بتعاطفٍ خفي، فأكملت على نفس المنوال:.
,
, -بس لو الطرف التاني مش عايز أصلاً، وقتها يبقى الكلام مالوش لازمة.
, لمعت عيناها بدمعاتٍ متسللة، حين تابعت بنبرة مالت للندم:
, -وساعتها الحلو اللي جوايا مش هيظهر، ويروح زي حاجات كتير حلوة بنتمناها وتضيع مننا في لحظة عناد.
, علق عليها بتنهيدةٍ خافتة:
, -الغالي بيبقى غالي عشان اللي بيقدره.
, أتاه ردها تلقائيًا، محملاً بالمشاعر العميقة:
, -وإنت أكتر من غالي.
,
, منحته نظرة أخيرة فجَّرت فيه ذلك الجمود القاسي، قبل أن تحيد بعينيها بعيدًا عنه استعدادًا لذهابها، تحرك تميم ليسبقها في خطواتها، اعترض طريقها بجسده، فارتدت بشكلٍ عفوي للخلف، نظرت إليه باستغرابٍ متحير، تلونت شفتاه ببسمة خفيفة، أتبعها نظرة دافئة في عمق جوهرتيها متسائلاً:
, -موافقة تتجوزيني يا أبلة؟
,
, وكأن وهج الحياة النابض قد أعاد النضارة إلى بشرتها، سرعان ما تبدل الحزن بفرحةٍ حيَّة لا يمكن إنكارها، ابتسمت في رقةٍ وهي تجيبه بمراوغةٍ يشوبها الدلال:
, -إنت عارف الرد.
, جاءها تعقيبه متحديًا، وبنظرة ذات مغزى:
, -طب الشهر فاضل عليه 12 يوم، واخدة بالك من ده؟
, أشرقت، وتفتحت، وظهر البهاء عليها. ضحكت فيروزة في صفاءٍ قبل أن تقبل التحدي بقولها:.
,
, -طبعًا، الرك بقى على اللي يعرف يخلص كل حاجة فيه، من توضيب شقة، وتجهيز عفش وآ٣ نقطة
, أشعلت جمرات الحب بداخله، تلك الجمرات التي لم ينطفئ لهيبها يومًا، قاطعها تميم بثقةٍ، وهذه النظرة المغترة تسود في عينيه:
, -كله بأمر **** هيخلص.
, زادت من مستوى التحدي، فأخبرته بإشارة من حاجبها:
, -وريني شطارتك.
, انتصب في وقفته المهيبة، وازداد ثقة على ثقة وهو يؤكد لها بما لا يدع مجالاً للشك في قدراته:
, -أنا أد القول، يا أبلة.
,
, ابتسمت في نعومة مغرية، جعلت القلب يرفرف في سماء الحب، لترد بعدها:
, -متأكدة من ده..
, تقدمت في خطاها ناحيته، طالعته بنظرة شغوف أوحت بالكثير، والكثير مما ينتظره، بل إنها جعلت عاصفة من العواطف المحمومة تنطلق في كيانه، مالت نحوه قليلاً، فبدا صوتها قريبًا، دافئًا، تلفح حرارته صدغه، وهي تهمس له، بما بدا أقرب للاعتراف بهيمنته المستحبة إليها:
, -ما هو ماينفعش حد غيرك يكون المعلم تميم سلطان٣ نقطة!
 
٥٧

جاء إليه ملكومًا، مكدومًا، متكدرًا، تصرخ عظامه من الأوجاع الشديدة، ويصيح جلده من الجروح الغائرة التي لن تلتئم إلا بعد بضعة أيامٍ من العلاج الكثيف. جلس الرجل الغريب ببطءٍ على المصطبة، كأنما يخشى أن يتصدع ما تبقى متماسكًا منه، التفت ناظرًا إلى فضل بنظراتٍ حانقة، قبل أن يستطرد في الكلام بحرقةٍ:
, -احنا ماتفقناش على كده.
,
, وضع الأخير مَبْسِم النارجيلة بين شفتيه، وسحب نفسًا طويلاً، أجج به صدره المشتعل، قبل أن يطلق سحابة من الدخان، ليقول بعدها ببرودٍ، غير مكترث للحالة الشنيعة التي أصبح عليها:
, -خلاص هزودك قرشين.
, أغاظه فتوره في التعامل مع وضعه الحرج، وصاح مستنكرًا بغلٍ يصدح في نظراته أيضًا:
, -ده أنا كنت هروح فيها، جسمي كله اتخرشم ومابقاش فيا حتة سليمة.
,
, نقل فضل مبسم النارجيلة من يده لليد الأخرى، حتى يتمكن من دسها في فتحة صدر جلبابه، أخرج ورقة مطوية من النقود، أعطاها إلى هذا الغريب قائلاً بتعابيرٍ شبه ممتعضة:
, -يا عم خلاص ماتنوحش، خد دول٣ نقطة
, تناول منه الورقة، وتفحصها بعينين تشعان غضبًا، في حين تساءل فضل بسماجةٍ؛ كأنما فعل معه معروفًا كبيرًا يستحق الشكر عليه:
, -مرضي كده؟
, رفع الرجل الغريب الورقة نصب عينيه، وصاح في حدةٍ متعصبة:
, -إيه ده يا فضل؟ لأ ماينفعوش؟
,
, ألصق مجددًا المبسم بشفته السفلي، وتكلم بترفعٍ وهو يمن عليه بنظرة من طرف عينه:
, -أنا كلامي معاك كان إمسح بكرامتها الشارع، مكانش في اتفاق على ضرب وسحل، إنت اللي خالفت الاتفاق.
, هدر الرجل في غيظٍ أكبر:
, -لا يا شيخ؟!
, نفخ فضل الدخان بسماجةٍ باردة، فانتفض الرجل واقفًا، ونوبة من الألم الشديد ضربت في أوصاله، تحامل على نفسه، وهتف يلومه بحنقٍ متزايد:
, -ما إنت لو مرسيني على الفولة من أولها كنت عملت حسابي.
,
, علق عليه في سخافةٍ استفزته:
, -حد قالك ماتبقاش غشيم وتطول وقفتك معاها، هما كانوا كلمتين تهزيق على الطاير، وتخلع.
, تصاعدت الدماء في رأسه المكدوم، وارتفع صوته المحتج:
, -وأهوو حصل اللي معملتش حسابه، وروحي كانت هتطلع في إيد الجدع اللي جه يحمئلها.
, تصنع الابتسام السمج، وقال وسحب الدخان تنطلق من جوفه:
, -مردودلك في مصلحة تانية.
, زأر الرجل معترضًا بتهكمٍ ضاربًا كفيه معًا كعلامة على فض التعامل بينهما:.
,
, -مصلحة تانية؟ دي جبرت على كده، خلصت يا عمنا.
, ثم انحنى ملتقطًا طبق الفاكهة الموضوع أمامه ليأخذه وهو يضيف في عبوسٍ شديد:
, -وهات دول.
, رمقه بنظرة مزدرية موبخًا إياه بتأفف:
, -طفس!
,
, في تلك الأثناء، اشرأبت سعاد بعنقها لأكثر من مرة لتتمكن من النظر من عند زاويتها لصاحب هذا الوجه المألوف، اعتصرت ذهنها عصرًا لتتذكر أين رأته من قبل. في البداية خانتها ذاكرتها، وتعذر عليه معرفته؛ لكن مع سماعها لصوته الأجش، وتفرسها في تعابيره المليئة بعلامات الإجرام، استطاعت أن تتعرف عليه. أصابها الكدر لتواصله مع ابنها، وتساءلت بين جنبات نفسها عن الرابط الخفي الذي يجمعهما معًا، أنبأها حدسها أنه يدبر لكارثة ما سيئة معه، وإلا لما حرص على مقابلته هنا بالمنزل، بعيدًا عن أعين العامة من أهل البلد.
,
, انتظرت على أحرِ من الجمر مغادرته، لتخرج من مكمنها، وتذهب إلى ابنها، وقفت قبالته ترمقه بنظراتها الساخصة، قبل أن تبادر بسؤاله دون تمهيدٍ، وبنوعٍ من التحفز:
, -هو الواد الشُضلي ده بيعمل إيه هنا؟
, نظر إليها فضل من طرف عينه، وأجابها بغموضٍ لم تسترح له:
, -عاوزه في مصلحة.
, قطبت جبينها متسائلة في استهجانٍ:
, -مصلحة إيه اللي معاه؟ ده واد سوابق، وبتاع مشاكل.
, علق في جمودٍ، وتلك النظرة القاسية تنفر من عينيه إليها:.
,
, -مايخصكيش يامه.
, كظمت غيظها منه، وانتقلت لسؤالها الآخر في تحفزٍ أكبر:
, -طيب روحت المحكمة عملت إعلام الوراثة؟
, نفخ دخان النارجيلة عاليًا، ثم قال نافيًا بنفس الطريقة المتعجرفة:
, -لأ.
, اشتاطت نظراتها من تقاعسه المستفز، وسألته في حدة:
, -ليه يا ابني؟
, لوح بالمبسم في وجهها مبررًا بسخافة:
, -مافضتش.
, وضعت سعاد يدها أعلى منتصف خصرها، وسألته في تجهمٍ محفورٍ على ملامحها:
, -وهتروح امتى؟
, نفخ في صبرٍ نافذ قبل أن يجاوبها:
, -معرفش.
,
, استمرت في الضغط عليه بإلحاحها الزائد:
, -طب إخواتك البنات عاوزين حقهم في ورث أبوهم، ماينفعش العطلة دي.
, نظرة جافة، قاسية سددها إليها وهو يقول بنبرة حقودة:
, -بعدين، مستعجلين على إيه؟!
, هدرت به بانفعالٍ مستنكرة تعليقه:
, -ده حقهم، ولا ناوي تاكله عليهم؟
, ألقى بمبسم النارجيلة جانبًا بعصبيةٍ، وصاح في صوتٍ خشن مرتفع:
, -حقهم خدوه من زمان.
,
, تفاجأت والدته من رده، واتسعت عيناها صدمة لوهلة، سرعان ما تحولت إلى إنكارٍ شديد، فدنت منه ملوحة بيدها وصارخة في وجهه:
, -إنت بتقول إيه؟
, نهض بتشنجٍ من جلسته المسترخية، وانتفض يزمجر في احتجاج مغلول:
, -سنين بنبعتلهم كل شهر فلوس، إيه مابيشبعوش؟!
, هتفت تعارضه في استهجانٍ:
, -إنت هتحاسبهم على اللي كان أبوك بيعمله معاهم بطيب خاطر؟!
, اندفع في خطوات متعصبة ليتجاوزها متجهًا نحو باب البيت وهو يخبرها:
, -محدش ليه حاجة عندي.
,
, لحقته مرددة في استياءٍ كبير:
, -حرام عليك، هتاكل مال الورث بالباطل؟
, التفت يرمقها بنظرة نارية، انبعثت فيها شرور النفس البشرية، قبل أن يهدر في نقمٍ متزايد:
, -ده مالي وحالي، مش هفرط فيه لمين ما كان!
, لطمت سعاد على صدرها، وراحت تنوح في مرارةٍ:
, -هاقول إيه بس غير **** يخلص منك، إنت ظلمت أبوك وهو عايش، وبتظلم إخواتك وهو ميت، فكرك هتعدي كده من غير حساب؟
, نظر لها بغير مبالاة ليعقب في نوعٍ من الاستخفاف:.
,
, -هابقى استغفر ****، ما هو غفور رحيم.
, ثارت على ردوده المتلاعبة بالدين، واندفعت ناحيته تضربه في صدره بقبضتيها وهي تعنفه:
, -ياخي إنت جنس ملتك إيه؟ اتقي ****، ده الظلم ظلمات يوم القيامة.
, أبعد يديها عنه بقوةٍ، ورد في خشونةٍ، وعيناها تطقان بالشرر:
, -ده مالي وحالي، مش هفرط فيه، سامعة يامه٣ نقطة
, حملقت فيه مذهولة؛ كأنها ترى شيطانًا خبيثًا غير فلذة كبدها، تركها ترمقه بتلك النظرات المصدومة ليقول في حزمٍ:.
,
, -قفلي على السيرة دي نهائي، كفاية ورمتي دماغي بالهري ده.
, فتح الباب، وخرج مدمدمًا في حدةٍ:
, -الواحد مش عارف يلاقي الراحة في بيته.
,
, ثم صفق الباب في عنفٍ خلفه، لتنتفض سعاد في مكانها وهي ما تزال على حالتها تلك. لم تصدق ما تبصره عيناها، وما تسمعه أذناها من فجور وجحود لا قِبل لها به. أهذا هو وليد رحمها؟ أهذا من أرضعته لأشهر من لبنها؟ بالطبع لا، فمن تراه الآن هو مسخٌ مشوه لبقايا إنسانٍ عمَّ الظلام روحه. رفعت سبابتيها للسماء تدعو عليه بحرقةٍ، وقلبٍ مفطور:.
,
, -حسبي **** ونعم الوكيل، إنت مش هاتشوف طيب أبدًا يا فضل، مش هاتشوف نهائي بسبب جحودك ده!
,
, لو كانت السماء تُمطر ذهبًا، لما ابتهج وهاجت مشاعره بتلك الطريقة السارة. هرول تميم عائدًا إلى منزله، ومظاهر الفرحة تقفز من عينيه. وجد والده جالسًا إلى مائدة الطعام، أسرع ناحيته، وانحنى يقبل أعلى كتفه، ثم سحب المقعد وجلس على يساره متسائلاً بصوتٍ شبه لاهث من فرط انفعاله:
, -مجتش الدكان ليه يابا؟ ده أنا قاعد مستنيك على نار.
, أخبره أباه في هدوءٍ:.
,
, -يدوب خلصت أعدتي مع تجار سوق الجملة، وعمك عوف صمم يوصلني، وبالمرة طلع سلم على جدك.
, قال مبتسمًا بسعادة غير قابلة للإنكار:
, -فيه الخير.
, تساءل بدير في اهتمامٍ:
, -إنت كنت عاوزني في إيه؟
, جاوبه بفرحةٍ عارمة، تكاد تنطلق من عينيه قبل نبرته:
, -وافقت يابا خلاص.
, تعمد التلاعب معه قليلاً، فتساءل بشيءٍ من المراوغة مدعيًا عدم فهمه:
, -مين دي اللي وافقت؟
, غمز له قائلاً بابتسامةٍ نضرة:
, -اللي عليها العين يا حاج.
,
, بادله والده الابتسام، وقال في تغزلٍ:
, -صاحبة التفاح الصابح.
, أومأ برأسه إيجابًا وهو يرد بنفس التعابير المبتسمة:
, -أيوه يابا، خلاص هنتجوز على آخر الشهر.
, خاطبه بدير في لهجةٍ مالت للجدية:
, -ده يدوب مش فاضل غير حاجة بسيطة.
, هز رأسه مرة أخرى هاتفًا:
, -أيوه.
, تسأل بدير مستفهمًا، وقد انعكس على ملامحه طابع جدي:
, -طب وظروف وفاة عمها وآ٣ نقطة؟!
, قاطعه مؤكدًا:
, -ماظنش في مانع عندهم، وإلا مكانتش أكدت عليا.
,
, ربت بدير على جانب ذراعه متمنيًا:
, -**** يقدملك اللي فيه الخير.
, كانت ونيسة تمشي الهوينا وهي تحمل وعاء الشوربة الساخن، لئلا تُقذف محتوياته خارجه مع أي اهتزازة مفاجئة. وضعتها في منتصف المائدة، ورفعت ناظريها إلى ابنها قائلة بتلقائية:
, -شوية شوربة إنما إيه تُرم العضم.
, رد تميم بحماسٍ كبير يفوق المعتاد منه:
, -تسلم الأيادي يا ست الكل، يا مدلعانا.
, ابتسمت لثنائه، وقالت في ودٍ:
, -يسلملي حسك يا غالي.
,
, همَّت بالتحرك، والعودة إلى المطبخ لإحضار باقي الطعام؛ لكنه استوقفها بقوله الفرح:
, -خلاص يامه هتجوز على آخر الشهر.
, حملقت فيه مدهوشة للحظةٍ قبل أن تعم الفرحة سائر ملامحها، لتردد في سعادة عارمة:
, -بجد، **** أكبر، مبرووك يا ضنايا.
, راحت تُطلق الزغاريد ابتهاجًا بالخبر السعيد، فقهقه تميم ضاحكًا في نشوةٍ لمظاهر تعبيرها العفوية عن نبأ زواجه، وردد في امتنانٍ:
, -دي ببركة دعاكي ليا يامه.
,
, لم تكف عن إطلاق الزغاريد إلى أن تقطعت أنفاسها، فتوقفت للحظاتٍ حتى تلتقط أنفاسها من جديد، عندئذ طلب منها تميم بتهذيب:
, -عاوزك تكوني مع الجماعة تشوفي إيه ناقصهم، عشان احنا مزنوقين في الوقت.
, أشارت بسبابتها نحو عينيها قائلة:
, -عينيا يا حبيبي، ده يوم المُنى.
, نهض تميم بهدوءٍ من مكانه، وقال وهو يشير بيده نحو الردهة:
, -أما أخش أفرح جدي، وأناديله عشان يتغدى.
, استحسن بدير ذهابه، وخاطبه داعيًا في حنوٍ:.
,
, -وماله، **** يزيدك من الفرحة والهنا.
, تحرك في خفةٍ تجاه الممر المستطيل الممتد بين غرف المنزل، وصوت الزغاريد يلاحقه، شاعرًا بدبيب السعادة ينتفض في كل ذرة من خلاياه الحسية.
,
, طرقاته على باب حجرته بدت أشبه بالقرع المبهج على الطبول، كأنما يعزف مقطوعة موسيقية ذات ترانيم خاصة، استأذن تميم بالدخول قبل أن يلج للداخل، أَلِف جده جالسًا –كعادته- على مقعده، وممسكًا بمصحفه الشريف بين يديه يقرأ فيه بعض آيات الذكر الحكيم. دنا منه قائلاً دون تمهيدٍ، وابتسامة عريضة تنير صفحة وجهه:
, -حصل المراد يا جدي.
, رفع سلطان ناظريه نحوه وهو يختتم بترتيلٍ عذب ومسموع لما يقرأه حاليًا:.
,
, -إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ..
, كأنما جاءه الرد السماوي على لسان جده، فتمتم في خشوعٍ:
, -صدق **** العظيم.
, انحنى جاثيًا على ركبتيه أمامه، ثم أضاف في عينين تدمعان فرحة:
, -فعلاً يا جدي، دي مكافأة **** لصبري.
, وضع سلطان كفه على كتف حفيده، وربت عليه بضعة مرات قائلاً في صوتٍ رخيم:
, -**** يراضيك من وسع، وكل ما ترضى باللي كاتبهولك، هيدهشك بعطائه.
,
, لم يخجل من الدموع التي انسابت تأثرًا على صدغيه، وردد في رضا كبير:
, -ونعم ب****.
, امتدت يداه لتحتضن كف جده، دلكهما برفقٍ، وركز بصره عليه متابعًا:
, -أنا فرحان أوي يا جدي، النهاردة بس حسيت إن الحياة دبت في روحي.
, ابتسم الجد في سرورٍ لرؤيته مبتهجًا، وقال في نبرة ذات مغزى:
, -ولسه لما تتدلع مع مراتك، وتاخدوا على بعض٣ نقطة
, اتسعت بسمة تميم أكثر، وتحولت إلى الضحك والجد يكمل جملته بمزاحٍ:.
,
, -بس ماترجعش تشتكي لما النكد يبدأ!
, بادله الضحك المرح، وقال دون أن تخبت بسمته الصافية:
, -هو أنا ليا لي مين غيرك ينصحني؟
, ثم قرب كفه من فمه ليقبله في توقيرٍ، ودعا له بحبٍ لا شك في قوته:
, -**** يديمك فوق راسي.
, استل سلطان يده برفقٍ من بين راحتيه، ومسح بها على خده الندي قائلاً في عطفٍ:
, -ويباركلي فيك يا حبيب جدك.
,
, كما للموت سكرات، فإن للحب دلالات! أحست فيروزة بالضجيج يعم في كيانها، وتحديدًا تلك العضلة النابضة بين ضلوعها، لم تسكن، ولم تهدأ، ولن تستكين إلا بإتمام العهود. بدت متقبلة لهذا التغيير الشامل دون الشعور بالتردد أو الخوف، يمكنها الآن الإعلان صراحة عن رفع رايات استسلامها لسلطان العشق. صعدت درجات السلم المؤدية إلى طابق منزلها في نشاطٍ غير مسبوق، وصوتٌ يصرخ في رأسها بإلحاحٍ:
, -أيوه أنا بحبه..
,
, خجلت وتوردت بشرتها لهذه المصارحة الجريئة غير المنطوقة؛ وراحت تؤكد لنفسها:
, -ومسيري هاقولهاله، وهيحس بيا أكتر ساعتها.
, أخرجت مفتاح البيت من حقيبتها، دسته في قفله، وانزلق يُفتح في يسرٍ، وطأت الصالة ملقية التحية، وهي محملة بالآمال والتطلعات لحياة مشرقة تمحو بها مساوئ الماضي. وجدت والدتها جالسة على واحدة من الأرائك، تضع رقية بين ساقيها لتتمكن من تمشيط شعرها، أقبلت عليها قائلة بعد نفسٍ عميق:.
,
, -ماما، أنا عندي ليكي خبر مهم.
, نظرت إليها في اهتمامٍ، وسألتها:
, -خير يا بنتي.
, -إن شاء**** كتب الكتاب والدخلة آخر الشهر.
, على ما يبدو صُدمت بالخبر، وانعكست علامات صدمتها على محياها، لتهتف بعدها في غير تصديق:
, -آخر الشهر ده؟
, هزت رأسها إيجابًا وهي ترد:
, -أيوه يا ماما.
, ظهر القليل من التردد على قسماتها وهي تبرر لها:.
,
, -بس يا بنتي، الظروف اللي احنا فيها، وعمك **** يرحمه مفاتش على وفاته أد كده، والناس هتتكلم وتقول وتعيد.
, اختلج وجه فيروزة الضيق سريعًا، واشتاطت قائلة في تزمتٍ:
, -مالناش دعوة بحد، إنتي ليالك أنا وبس، ولا مش من حقي أفرح؟
, أجابتها بحذرٍ:
, -لأ من حقك، ده اليوم اللي بستناه٣ نقطة
, ابتلعت آمنة ريقها وهي تراقب انفعالات ابنتها المتزايدة، ثم أضافت على استحياءٍ يشوبه القلق:
, -بس مرات عمك هتزعل، وهاتقول مرعناش الأصول.
,
, على خلاف المعهود في مثل تلك الظروف الحزينة، كان من المفترض أن يتم إرجاء أي مناسباتٍ سارة، لحين مرور بعض الوقت على التعافي من المشاعر المؤلمة الخاصة بفقدان أحدهم؛ لكن لأنها لم تعد تكن مثل هذه المشاعر التقديرية لأمثال هؤلاء، ممن تناسوا صلة الرحم، فقد أصبح الوضع سيان بالنسبة لها، تجاوزت عن همومها، وتعاملت مع المسألة بشكلٍ شبه عادي، لن توقف حياتها على أحدهم، وتحديدًا من استباحوا ما لا يخصهم لأجل أهواءٍ مريضة وشكوكٍ لا صحة لها، لمجرد الخوض في عرضها، والنيل من سمعتها.
,
, هنا ارتفع الغليل في صوتها وهي تخبرها بألمٍ ما زال ينبض كلما تذكرت أحداث الماضي:
, -ومين امتى حد منهم كان راعى الأصول معايا؟ كفاية اللي عملوه فيا، سيبني أعيش حياتي، وأرمي اللي حصل ورا ضهري.
, لم تحاول إفساد فرحتها، يكفيها ما ذاقته من آلام وأوجاع بقيت آثارها لوقتٍ قريب، هزت رأسها بالقبول وهي تكلمها:
, -إنتي معاكي حق، اعملي اللي يريحك، وربنا يقدم اللي فيه الخير.
,
, رغم الغضب الثائر في صدرها، إلا أنها لم تدعه يتملكها، ويطغى على فرحتها المنتظرة، حولت فيروزة نظراتها عن والدتها لتحملق في ابنة خالها التي استطردت قائلة ببراءة:
, -هلبس الفستان الأبيض يا فيرو؟
, مالت ناحيتها، وطبعت قبلة حانية على وجنتها وهي تؤكد لها:
, -طبعًا يا عيوني، أحلى فستان لأحلى كوكي في الدنيا.
,
, احتضنتها رقية في عفويةٍ، فضمتها ابنة عمتها إلى صدرها، أطبقت على جفنيها للحظاتٍ تستعيد في ذهنها لقائها الأخير مع تميم، عادت إلى تحليقها الوردي في أفق الأحلام، فأشرقت ملامحها مرة ثانية كوردةٍ بتول تفتحت، وأينعت، وصارت أشهى وأجمل مع أول ضوءٍ للنهار لامس براعمها النقية.
,
, أرادت التهيؤ نفسيًا لما هي مقبلة عليه، خاصة مع تكرار التجربة، ومعايشة تفاصيلها الموترة للأعصاب بشكلٍ أو بآخر. قامت ريم بدورها مع مريضتها على أكمل وجه، منحتها بعض النصائح الهامة للتعامل مع الموقف، ولم تدخر وسعها في مساعدتها على إزاحة رواسب الماضي الموجع، وإحلال الذكريات الطيبة محمودة الأثر كبديلٍ عنها، لتتخذ موضعها في بواطن نفسها. امتدت يد فيروزة لمصافحتها بحرارةٍ في ذلك اللقاء الأخير الذي يجمعها بها، واستطردت تشكرها في امتنانٍ:.
,
, -حقيقي يا دكتورة ريم إنتي كنتي زي مراية لنفسي، وقفتي جمبي في أصعب المواقف، وعمرك ما يأستي مني أبدًا، رغم إن اللي مريت بيه كان يهد جبال.
, ردت عليها طبيبتها تدعمها في ثقة:
, -مكونتش هنجح لوحدي يا فيروزة، لو مكانش عندك الرغبة والإرادة إنك تتخطي المحن دي، صدقيني ولا كنت هاقدر أعمل حاجة.
, ابتسمت فيروزة لمؤازرتها الكبيرة، بينما تابعت الأخيرة على نفس المنوال الهادئ:.
,
, -كتير غيرك فِضل حابس نفسه جوا دوامة الماضي، مرضاش يتحرك، قفل على نفسه، بس لأنك إنسانة قوية وعندها عزيمة عملتي المستحيل، ورجعتي وقفتي على رجليكي بشجاعة وصمود.
, غمرها إحساسًا عظيمًا يدعو للاعتزاز والفخر بما أنجزته، سحبت يدها من راحتها، وكررت على مسامعها:
, -شكرًا يا دكتورة ريم، حضرتك دلوقتي بقيتي أكتر من أخت ليا، بعتز بصداقتك ومعرفتك.
, أخبرتها ريم في ودٍ وهي تشبك كفيها معًا:.
,
, -ده أنا أتشرف بده، ولو احتاجتي مشورتي أو مساعدتي في أي حاجة، وفي أي وقت، فأنا موجودة.
, -أكيد.
, قالتها فيروزة وهي تستعد للانصراف بصدرٍ منشرح، وتعابيرٍ بشوشة، فاليوم فعليًا قد أسدلت الستار على ماضٍ ولى بكل ما فيه من مآسٍ، وبدأت في الولوج لمرحلة أخرى أكثر نضجًا من حياتها.
,
, خلال الأيام التالية، جرى العمل على قدمٍ وساق، فتحول منزلها إلى ما يشبه خلية النحل، الكل يتسابق لتجهيز ما ينقص، واستكمال ما يحتاج لإعادة توضيب، قبل مجيء اليوم الموعود. لم تصدق فيروزة عينيها حين رأت (عش الزوجية) وقد صار مُعدًا لاستقبالها كعروسٍ جديدة، شتان الفارق بين ما كان عليه بيتها المتواضع مع شبيه الرجال آسر، وبين رمز الرجولة تميم، فالأخير أثبت لها -عن جدارةٍ واستحقاق- أنه قادرٌ على الإيفاء بوعده مهما واجه من عراقيل.
,
, لحُسن حظها أنها لم تطل في مدة الانتظار، وإلا لقضت المزيد من ساعات الليل ساهدة، حالمة، وطوال النهار تغرق في أحلام يقظتها الوالهة. تركت العنان لقلبها ليختبر هذه المشاعر الجميلة بكامل طاقاته، منحت نفسها الحرية الكاملة، وتحررت من القيود التي وضعتها لتمنع نفسها من الوقوع في الحب، والتلفح بنيران العشق. لأول مرة تشعر أنها طليقة، غير نادمة على اختيار هذا الدرب لتسلكه، بل بدت مؤخرًا تلوم نفسها على تأجيل تلك الخطوة لشكوك واهية.
,
, تبقى لها فقط حسم أمر الذهاب إلى مركز التجميل بدلاً من التزين في منزلها، عارضت رغبة تميم في التواجد بواحدٍ من المراكز الشهيرة التابعة للفندق المقام به مراسم عقد القران؛ لكنها رضخت أمام عناده وإصرار من حولها، لتعم في النهاية البهجة على الجميع بقبولها.
,
, وفي اليوم المنشود، كان الجميع على أهبة الاستعداد لوضع اللمسات الأخيرة، لإسدال الستار على قصة غرام لطالما ظن تميم أنها لن تكتمل، ولن يجتمع بها إلا بمشيئة المولى وإرادته جلَّ وعَلا! بالطبع بذل جهده لرؤية العروس خلسة؛ لكن مُنع كليًا من الظفر بلمحة منها، وقفت له هاجر بالمرصاد، وأغاظته بتشددها الزائد، فوقف عند باب غرفتها بالفندق كالذليل يرجوها:
, -يرضيكي تعملي في أخوكي حبيبك كده؟
,
, ردت بتسلية، كأنما تعانده عن قصدٍ، وهي تسد بجسدها الفرجة المواربة التي تمنعه من رؤية من بالداخل:
, -أه يرضيني، لسه الوقت مجاش عشان تشوفها.
, ألح عليها بنظرةٍ تدعو للتعاطف معه:
, -ده أنا هشوف إن كان ناقصها حاجة كده ولا كده.
, لم تشفق على حاله المتلهف، وقابلت إلحاحه ببرود مستفز:
, -إنت مش المفروض تروح للحلاق تتوضب، وتلبس؟
, اغتاظ من تشددها المُبالغ فيه، ورد في تجهمٍ:
, -أنا أخرى رباعية وأكون جاهز، إنما إنتو يومكم بسنة.
,
, -بالظبط كده، يومنا بالسنة، نشوفك السنة الجاية.
, مد قدمه ليمنعها من غلق الباب، وحاول دفعه برفقٍ وهو يتذلل إليها بمحبةٍ أخوية:
, -ماتبقيش بايخة، ده أنا وقفت جمبك، وعملتلك الحلو كله.
, شهقت قائلة في فزعٍ، وبلامح مرتاعة بشدة:
, -إيه ده أبويا ده ولا مين اللي جاي هناك؟
, مع نظراتها المتسعة التفت برأسه للخلف ساحبًا قدمه، وتساءل في توترٍ:
, -فين؟
, أشارت بعينيها لنقطة وهمية وهي تؤكد له:
, -هناك.
,
, أدار رأسه الناحية الأخرى لينظر إلى حيث أشارت؛ لكنه تفاجأ بها تغلق الباب بحدةٍ لينتفض مصدومًا على حيلتها الساذجة التي انطلت عليه، سمع صوتها وهي تناكفه من الداخل بضحكاتٍ مستمتعة:
, -لا مؤاخذة يا تميم، بس دي العوايد.
, كور قبضته بقوةٍ، وضرب على الباب الموصود في غيظٍ وهو يتوعدها بمزاحٍ:
, -طيب يا هاجر، ليا لي كلام مع جوزك.
,
, انصرف بعدها مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه؛ لكن ما لبث أن راح يُمني نفسه بالأمنيات، والآمال، فقال في زفيرٍ مزعوج:
, -معلش، اصبر، فات الكتير.
,
, ساعدها الإرهاق اليومي قبيل هذه الليلة على النوم بعمقٍ، وإن كان لساعات قليلة؛ لكنها ألهت عقلها عن التفكير فيما هي مقبلة عليه من مصيرٍ رجت أن يكون أفضل مما مضى، خاصة أن الوقت قد أزف لكشف المستور عن سرها الخطير، ذاك الذي لم تطلع عليه أحد سوى طبيبتها. كانت فيروزة تخشى من ردة فعل تميم إن عَلِم بعذريتها، وأدرك أنها لم تخض تجربة الزواج الكامل من قبل، كيف تبوح له بأنها لم تحظَ بليلةٍ دافئة تتخلى فيها الفتاة عن تاج العفة، لتغدو امرأة مفعمة بالأنوثة الشهية؟
,
, وتَّرها التفكير في الأمر، وأرعبها إلى حدٍ ما، لولا النصائح الذهبية التي ظلت تمليها ريم على مسامعها، طوال جلساتها العلاجية، لتتعامل مع هذه المسألة برويةٍ وهدوء، علَّها تمضي بها على خيرٍ إن وصلت إلى ليلة الزفاف.
,
, مكثت بغرفتها المحجوزة مسبقًا بالفندق، واستقرت على المقعد بعد أن ارتدت ثوب عرسها، بمساعدة شقيقتها ووالدتها فقط. تأكدت من تغطيته لكافة جسدها، حتى عنقها، كانت ياقته مستطالة بالقدر الذي لم يظهر من رقبتها شيئًا، كأنما تخشى أن ينظر أحدهم إلى ندوبها، ويعايرها بها بنظرة أو كلمة مبهمة. عادت إلى المقعد، وجلست عليه، لتقوم إحدى فتيات مركز التجميل بلف ساترًا ذي وجهين من القماش والبلاستيك حول الثوب للحفاظ على عدم تلطيخه خلال تزيينها.
,
, أحنت فيروزة رأسها للأمام، تاركة لمصففة الشعر تصفيف خصلاتها قبل أن تجمعه في عقدة، لتضع فوقه حجابها الأبيض، لمحت والدتها وهي تضع الطعام في صحنٍ صغير لتطعمها، فتذمرت في إرهاقٍ:
, -ماليش نفس يا ماما.
, ردت عليها آمنة وهي تملأ الملعقة بالأرز المختلط بالبطاطس الموضوعة بالفرن:
, -ده لسه اليوم طويل، قوتي قلبك بلقمتين.
,
, انتفضت معدتها وزمجرت لرؤية الطعام، ففتحت فمها، ولاكت ما قدمته لها. نظرت آمنة إلى همسة المشغولة بوضع مساحيق التجميل على وجهها هي الأخرى، وحادثتها في صوتٍ شبه ممتعض:
, -مش كنا طلعنا من البيت أحسن؟ لازمتها إيه التكاليف دي كلها؟
, علقت همسة بضحكة مرحة:
, -خطيبها مصمم يعملك أحلى حاجة، حد يقول للدلع لأ؟
,
, ابتسمت فيروزة على استحياءٍ، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار الذي حين يتطرق إلى سيرته يصيبها تلقائيًا بالخجل الممزوج بالتوتر:
, -أومال مين كان على الباب؟
, أجابت هاجر تلك المرة وهي تنضم لباقي النساء:
, -العاشق الوالهان خطيبك.
, دق قلب فيروزة في ربكة، وتلبكت بشكلٍ شبه فاضح وهي تتوسلها:
, -ماتخلهوش يدخل يا هاجر ب**** عليكي، أنا لسه مجهزتش، ومش مستعدية وآ٣ نقطة
, ضحكت في استمتاعٍ قبل أن تقاطعها قائلة بطرافةٍ:.
,
, -اطمني، في أسد قصر النيل واقف على الباب.
, تنفست في ارتياحٍ، وبدأت في استعادة هدوئها بعد عاصفة اللهفة التي اجتاحتها، وكادت تطيح بثباتها الزائف لمجرد توقع قدومه إلى هنا. عدَّلت من وضعية رأسها، ونظرت إلى المصففة تطلب منها بلباقةٍ:
, -من فضلك ماتحطيش ميك آب كتير، مش بحب الأفورة.
, امتدحت الشابة حُسنها، فقالت في إعجابٍ ظاهر في عينيها قبل نبرتها:
, -ما شاء**** عليكي، إنتي مش محتاجة أصلاً.
,
, بقلبٍ لم يعد يحمل بين ثناياه سوى المحبة، الشوق، والاشتياق، وقف تميم بشموخٍ أمام باب القاعة المخصصة لإقامة الأفراح يستقبل مدعويه، تعجب المعظم لتواجده بدلاً من الاختفاء والاستعداد كالبقية؛ لكنه خالف المعتاد، وانتظر بنفسه وصول المعظم. كان من أوائل الحاضرين للتهنئة رفيقاه العزيزان منذر و دياب، واصطحبا معهما والدهما، وزوجة الأول، والابن الأكبر للأخير. بعد أن اتجه طه للجلوس مع رفيقه بدير، بقي الأصدقاء معًا يتسامرون في مرحٍ، استطرد منذر قائلاً فيما يشبه المداعبة:.
,
, -أخيرًا عملتها.
, ردد تميم ضاحكًا في سرورٍ:
, -الحمد****، أنتم السابقون، ونحن اللاحقون.
, علق عليها في رجاءٍ:
, -**** يتمم على خير، ويجعلها نعمة الزوجة.
, قال رافعًا كفيه للمساء مُؤَّمنًا عليه:
, -اللهم أمين.
, أومأت أسيف برأسها تهنئه في لباقةٍ واضحة، وهي تهدهد رضيعها:
, -ألف مبروك.
, نظر ناحيتها بنظرة سريعة، ارتكزت معظمها على الصغير، وقال في تهذيبٍ:
, -**** يبارك فيكي، عقبال فرحتكم ب زين.
, هتفتٍ في لطفٍ:
, -شكرًا على ذوقك.
,
, أشار تميم بيده نحو القاعة مرددًا:
, -إنتو أصحاب فرح، مش محتاجين عزومة.
, قهقه منذر في مرحٍ، وقال وهو يتناول رضيعه من زوجته ليحمله عنها:
, -أكيد.
, تحركت أنظاره نحو دياب الذي هتف في حماسٍ وهو يلقي بكفه في باطن راحة رفيقه لمصافحته بحرارة:
, -أبو الصحاب.
, جذبه تميم إلى صدره ليحتضنه مرددًا:
, -حبيبي.
, تراجع عنه الأول، وراح يزيد من تهنئته الحارة بنفس الأسلوب المداعب:
, -مبروووك يا غالي، وربنا يجعلها جوازة السعادة والهنا.
,
, ابتسم لابتهاجه، وقال بملامح بشوشة:
, -**** يبارك فيك يا دياب.
, مال رفيقه عليه برأسه، وغمز له بطرف عينه هامسًا بما يشبه النصيحة المازحة:
, -ما تخلع يا ابني، بدل ما تلبس مؤبد.
, أشار له بكفه معترضًا:
, -لأ أنا راضي ومبسوط.
, لم يكبت ضحكته المتسلية وهو يعقب:
, -يعني أقصدك أطلع منها؟ هنياله يا سيدي.
, ربت على صدره بضربات خفيفة قائلاً:
, -متشكر.
, حمحم دياب مُضيفًا:
, -جماعتنا معرفتش تيجي، خلاص بقى على وش ولادة.
,
, رد عليه تميم في اهتمامٍ:
, -**** يقومها بالسلامة، وتعيش وتخاوي.
, هنا ارتفعت يداه للأعلى في احتجاج ساخر:
, -كفاية علينا كرم ****، أكتر من كده هقلبها مدرسة.
, كركر تميم ضاحكًا في استمتاعٍ على طرافته التي لا تنتهي، تبع بنظراته الصغير يحيى الذي تقدم منه بعد أن دفعه والده إليه وهو يأمره:
, -تعالى جمبي يا يحيى، بارك لعمك تميم.
, بوجهٍ يدور في كافة الاتجاهات، ونظراتٍ شبه زائغة تساءل الصغير في جديةٍ:.
,
, -مبروك، أومال فين كوكي الحلوة؟ عاوز ألعب معاها وأنا لابس البدلة الجديدة دي.
, حاوط دياب كتفي طفله قائلاً بنحنحةٍ خفيفة:
, -اللي مصيتني في كل حتة أهوو.
, حذره تميم بنظرةٍ شبه صارمة:
, -لِم ابنك يا دياب، ها، سامعني؟ بناتنا مش زي أي حد.
, اتسعت بسمته اللاهية وهو يرد بعد نحنحة مقتضبة:
, -احم، ده حبيب أبوه، وبيراعي الأصول.
, عقب تميم بغير ابتسامٍ:
, -أه طبعًا، وأبوه معروف، بيراعيها على الآخر.
,
, مسح دياب في افتخارٍ على صدره هاتفًا بابتسامة يختلجها الضحك:
, -أومال!
,
, لاحقًا، تنقل تميم من طاولة لأخرى لتحية ضيوفه مرة ثانية، وهو ينظر في كثيرٍ من الأحيان إلى ساعة يده، شعر بالوقت يمرُ بطيئًا، أضناه الانتظار، وأحرقه الشوق. تقدم ناحية الطاولة الجالس بها جده، مال عليه، يقبله من أعلى كتفه، ثم سأله في نبرة مهتمة:
, -ناقصك حاجة يا جدي؟
, أجاب سلطان نافيًا:
, -لا يا ابني، الحمد**** في نعمة٣ نقطة
, ثم زوى ما بين حاجبيه متسائلاً في هدوءٍ جاد:
, -المهم فين عروستك؟
,
, أشار حفيده إلى نقطة ما بالفراغ وهو يجيبه:
, -قربت تنزل من فوق.
, سأله الجد ببوادر ابتسامةٍ صغيرة؛ كأنما يؤكد له على أهمية التحلي بفضيلة الصبر:
, -شوفت آخرت الصبر الجميل إيه؟
, أومأ برأسه مؤكدًا:
, -فعلاً يا جدي، رضا **** مالوش حدود.
, دعا له جده في سرورٍ:
, -**** يرزقك السعادة والخير، ويديم نعمه في حياتك.
, -اللهم أمين.
,
, قال جملته المقتضبة تلك، وهو ينحني مجددًا على رأس جده ليقبله في احترامٍ، قبل أن يستقيم واقفًا لينظر إلى أبيه الذي انضم إليهما، هنأه الأخير في حنوٍ واضح:
, -مبروك يا ابني.
, أقبل عليه يحتضنه في سعادةٍ وهو يقول:
, -**** يبارك فيك يابا.
, وَجَّه بدير إليه سبابته مشددًا عليه:
, -مش هوصيك بقى، راعي **** في مراتك، وصونها، عشان تحفظك وتصونك في غيبتك.
, هز رأسه في طاعة وهو يردد:
, -حاضر يا حاج.
,
, شعر تميم بيدٍ قوية تربت على ذراعه، فالتفت تلقائيًا نحو الجانب ليجد سراج واقفًا إلى جواره يخبره في حماسٍ:
, -المأذون وصل يا عريس.
, ابتهجت أساريره هاتفًا بقلبٍ يرقص طربًا:
, -زي الفل.
, أشار له بدير بيده قائلاً:
, -طيب، يالا عشان تشوف عروسك.
, استأذن بالذهاب من جده، وأسرع في خطاه نحو الخارج، ولسانه يردد في تضرعٍ:
, -اكرمنا يا رب، وكملها على خير.
,
, استقبلته والدته ببهو الفندق المتسع بعد أن اجتمعت مع بعض نساء العائلة للترحيب بالضيوف، وكذلك للتواجد مع العروس، حين تهبط من غرفتها استعدادًا لبدء مراسم عقد القران، ومن ثم إقامة حفل الزفاف. احتضن تميم والدته في محبة أمومية شديدة، تراجع عنها لترفع كفيها إلى وجهه تمسح عليه بودٍ، دمعت عيناها وهي تخبره في صوتٍ دافئ:
, -زي القمر يا ضنايا.
, قبَّل أعلى رأسها متكلمًا في امتنانٍ:
, -**** يباركلي فيكي يامه.
,
, دعت له ونيسة من جديد وهي تضبط رابطة عنقه لتضعها في منتصف ياقة قميصه الأبيض:
, -**** يفرح قلبك زي ما بتراضينا دايمًا.
, اتسعت ابتسامته السعيدة وهو يخاطبها متضرعًا:
, -يا رب أمين.
, في دلالٍ وعبثية، دنت هاجر من شقيقها تمازحه:
, -عروستك حكاية يا تميم، قمر ماشاء ****.
, رمقها بنظرة مغتاظة من فعلتها السابقة، وتصنع العبوس معاتبًا:
, -دلوقتي رضيتي عني؟
, وضعت يدها أمام فمها وهي تضحك، لتضيف بعدها:.
,
, -أه خلاص، الحظر اتفك، مش هنوصيك عليها بقى، دي الفاكهة بتاعتنا.
, ظل على عبوسه الزائف وهو يعقب عليها:
, -الناس كلها بتوصيني عليها، طب مافيش توصية ليا أنا؟ وربنا ده أنا غلبان، وطلع عيني الأيام اللي فاتت.
, تدللت في حديثها معه، فقالت:
, -معلش بقى، هي تستاهل الحلو كله.
, هز رأسه هاتفًا في إذاعٍ:
, -وماله، لأجل الورد يتسقي العليق.
,
, راودته كل الأماني، وعبثت بمخيلته كل الأحلام الرومانسية، الهادئة منها والجامحة، حين اقترب منها، وهي توليه ظهرها بثوب عرسها البهي، تنتظر قدومه إليها، ليصطحبها إلى البهو الفسيح، حيث ينتظرهم الجميع. بدا وكأن العالم خلا إلا منهما، اضطربت دقات قلبه، وأخذت تتسارع في عدوٍ محبب إليه، تنفس بعمقٍ ليهدئ من هذا الهائج الثائر بصدره، تقدم أكثر إليها، ليلتف حولها، حتى أبصرتها عيناه، ويا ليته ما نظر إلى حُسنها الآخاذ، وفتنها المُذهبة للعقول!
,
, سلبت لبه، وسرقت قلبه، تدلى فكه في دهشةٍ وهو يجوب بعينين فاحصتين لكل تفصيلة فيها من رأسها لأخمص قدميها؛ كأنما يريد لكل هذا البهاء والسحر أن ينطبعا في ذاكرته للأبد. كان ثوبها كقطعة فريدة، غير متكررة، صممت خصيصًا لأجلها، مرصعًا بقطعٍ لامعة صغيرة الحجم تغطي منطقة الصدر، وتمتد حتى الخصر الذي يضيق قليلاً، ثم يبدأ في الاتساع بطبقات قماش التل المتراصة فوق بعضها البعض إلى أن تصل لنهايته. لم تكن بحاجة لوضع كمياتٍ مهولة من مساحيق التجميل، بل القليل كفاها، وجعلها في أبهى صورها.
,
, انفرجت شفتاه تقول في استحسانٍ عظيم:
, -اللهم صلي على النبي، ماشاء**** على الجمال، هو في كده.
, بصوتٍ شبه مهتز من فرط التوتر الخجل، حذرته فيروزة وهي ترفرف بجفنيها:
, -ما تبالغش!
, دار حولها دورة كاملة، ليملي عينيه من سحرها الآخاذ، ثم بَسط كفيه مرددًا في عبثيةٍ لذيذة، وهذه النظرة الشقية تطل من عينيه:
, -هو أنا قولت حاجة لسه؟
,
, تشعبت حمرة دافئة في بشرتها النضرة، وتحاشت النظر إليه وهي تستشعر ارتفاع خفقاتها المرتبكة. أنقذها من مداعباته المتغزلة بها مجيء توأمتها، فقالت وهي تنحني لتضبط طرحة الثوب الممتدة على الأرضية اللامعة:
, -خلوا الرغي بعدين، المأذون جه تحت، عاوز يكتب الكتاب، عشان نبدأ بعد كده الزفة والفرح.
,
, تفاجأت فيروزة بإحضار تميم لهذه الفرقة الشعبية، المتخصصة في إحياء الأفراح بقرعهم المميز على الطبول والمزامير. حقًا لم يرتضِ أبدًا إلا بإقامة كل ما له علاقة بحفلات الزفاف، دون أن يتغاضى عن أي تفصيلة واحدة، وإن كانت غير هامة بالنسبة لها، كأنما يعوضها عما فات ولم تستطع معايشته. انعقد حاجباها إلى حدٍ ما، ورمقته بتلك النظرة المندهشة وهي تسأله:
, -برضوه صممت تعمل زفة؟
,
, بهدوءٍ مناقض لتلك المشاعر المهتاجة في كيانه، تطلع تميم بنظراتٍ هائمة، والهة، تشع فيضًا من المحبة الخالصة، إلى حبيبته التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاقتران باسمه، تأنق بابتسامة في غاية العذوبة، وحادثها بتنهيدة عاشقة، بل تكاد تنطق بكل ما تغنى به شعراء الغرام:
, -الغالي للغالي يا أبلة، فيروزة ٣ نقطة!
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٥٨

بدت في تلك اللحظة المميزة وكأنها ثمرة ناضجة، تشتهيها الأعين، يطيب أُكلها، وها قد حان وقت قطفها. شعرت فيروزة أمام تلك النظرات المتيمة التي يرمقها بها، كأنما حلقت فوق السحاب، تلقائيًا استحضر عقلها مشاهد سريعة مبهمة لمراسم عقد قرانها الأول، كانت بغير فرحة، تؤدي دورها كأي عروسٍ، دون الشعور بشيء سوى الرهبة والقلق مما هو قادم، أما اليوم فمع نادئه العذب بحروف اسمها، تخللتها مشاعر غريبة، استثارت حواسها، وداعبت أعماق أعماقها.
,
, نفضت عن رأسها الذكريات المزعجة، وجعلت كامل تركيزها منصبًا على ما تعايشه الآن، رجفة طفيفة عصفت بها مجددًا، لا رهبة من المجهول، وإنما توقًا للتقرب أكثر منه، أيمكن للحب أن يسمو بالمشاعره بهذه الطريقة؟ جاءها الرد في بواطن عقلها بالإيجاب.
, أشار لها تميم لتتعلق في ذراعه وهو يخاطبها بتنهيدة حارة مفعمة بالمزيد من الأشواق، ليستحثها على التحرك:
, -مش يالا بينا.
,
, برجفة خفيفة مدت ذراعها نحو خاصته، تأبطته في ترددٍ خجل، وشعورٌ مغري بالاحتواء قد بدأ في التسلل أسفل جلدها، ربما روى القليل من ظمأ القلوب العطشى. بمجرد أن لامسته أحست بثقل أنفاسه، وبتصلبٍ طفيف يسيطر عليه. سحبت –هي الأخرى- شهيقًا عميقًا حاولت به ضبط الانفعالات المضطربة التي اجتاحتها حاليًا مع اقترابه الموتر لها. نظرة جانبية خاطفة منحته لها، فرأته ينظر إليها ملء عينيه بمحبةٍ تفوق الوصف؛ كأنما لا يبصر سواها، ومن ينظر لغير القمر وهو يمتلكه بين راحتيه؟ توهجت بشرتها، وشاعت فيها حمرة متدرجة، اختفت جزئيًا أسفل مساحيق التجميل؛ لكن أثرها الدافئ شعرت به كليًا.
,
, سارت على مهلٍ لئلا تتعثر في أطراف ثوبها الطويل، ومن خلفها لحقت بها توأمتها، تنحني كل بضعة خطواتٍ لتفرد لها ما يلتف من القماش أو يتعقد. صدحت الزغاريد المبتهجة حين خرجت إلى العلن، كانت الفرحة غير مزيفة، صادقة، نابعة من قلوبٍ صافية، طافت بنظراتٍ سريعة على الوجوه المحدقة بها، فوجدتهم قد اتفقوا جميعًا على إظهار مشاعر الود والسعادة لكليهما.
, تقدمت ونيسة أولاً لاستقبالها، وراحت تهنئها بعد زغرودة عالية:.
,
, -مبروك يا بنتي، **** يتمم بخير، ويرزقك سعادة الدنيا والآخرة.
, تشكلت بسمة ناعمة على ثغرها، وردت بصوتٍ شبه مهتز من الخجل الممزوج بالحياء:
, -**** يبارك فيكي يا طنط.
, حملقت فيها فيروزة وهي تخاطب ابنها، بما يشبه الوصية:
, -عروستك بين إيدك أهي، تحافظ عليها، مش هوصيك.
,
, عفويًا أرادت النظر إليه وهو يعلق على والدته، فوجدته يحدق فيها بنظراته العميقة، التي تنطق بشغفٍ نفذ إلى وجدانها على الفور من مدى صدقه، ارتفع دبيب قلبها، وصار كالمجنون وهو يؤكد عليها:
, -يامه اطمني، دي محطوطة جوا قلبي.
, قطع تواصلهما البصري مجيء آمنة التي وقفت أمام ابنتها تبارك لها:
, -ماشاء**** يا بنتي، **** يفرح قلبك ويسعدك.
, ابتسمت وهي تعقب عليها:
, -**** يبارك فيكي يا ماما.
, أوصتها هي الأخرى على زوجها:.
,
, -خلي بالك منه، ده سيد الرجالة، وحطيه جوا عنيكي.
, طأطأت رأسها في استحياء، وهمست بصوتٍ متلجلج من ربكتها:
, -حاضر.
, أن تكون محط الأنظار في ليلة كتلك احتاج لبذل جهد جهيد للبقاء في سكينة، وإن كان القلب في أوج حماسه وانفعاله السار.
,
, أصر بدير على عقد مراسم القران أولاً، قبل الشروع في إقامة أي مظهر من مظاهر الفرح، ليكون ابنه على حريته مع زوجته، بعد أن طال انتظاره وترقبه لهذا اليوم المنشود. تحولت مقدمة القاعة بعد عشر دقائق، إلى مجلسٍ يضم المأذون الشرعي، وكيل العروس، وعدد لا بأس به من الشهود، في حين جلست فيروزة على مقعدها بالكوشة، وحولها النساء المبتهجات من العائلتين. تساءل المأذون بصوته الهادئ وهو يدور بنظره على من حوله:.
,
, -مين وكيل العروسة؟
, تكلم خليل قائلاً وهو يتحفز في جلسته:
, -أنا إن شاء****.
, هز رأسه في استحسانٍ، وتساءل مجددًا:
, -على بركة ****، والشهود جاهزين؟
, أجاب عليه تميم وهو يشير بنظراته إليهما:
, -جدي إن شاء****، وصاحبي منذر.
, حرك المأذون رأسه بإيماءة بسيطة، قبل أن يقول:
, -تمام، إيدك يا عريس.
,
, تعانقت الأيادي معًا، وحُبست الأنفاس لوهلةٍ، ليردد بعدها المأذون في صوتٍ هادئ جهوري مستخدمًا الميكروفون ليصل الصوت لجميع من في القاعة:
, -بسم **** نبدأ.
,
, غاصت في أمانيها وأحلام يقظتها خلال عقد القران، تنظر من عليائها إلى كل من جاء للحفل لمشاركتها فرحتها، لم تصدق أنه في بضعة أشهر تبدل بها الحال، وصارت واحدة أخرى غير تلك المضطهدة المغلوب على أمرها بعد معاناة امتدت لفترات طويلة، كانت اليوم أكثر قوة، إرادة، ورغبة في التنعم بمباهج الحياة، والعيش في صنوف الحب الجميل. رغمًا عنها، انعقدت المقارنات في رأسها، ويا ليت عقلها يكف عن ذلك الأمر! فشتان الفارق بين الليلتين، واحدة أجبرت فيها على ابتلاع مرارة الظلم، والارتضاء بمن أمطرها بمعسول الكلام، فقط للهروب من افتراءات الألسن، فعاشت أسوأ كوابيسها، وآخر بذل الغالي والنفيس لحمايتها من شرور البشر، دون أن يكترث لأمر سلامته شخصيًا، المهم أن تشعر في الأخير بالأمان، والسكينة، إلى أن استشعر قلبها حبه الصادق النابع من بواطنه.
,
, تدثرت بالعواطف الذكية التي راحت تنشط في ذاكرتها، مع كل موقف أثبت لها فيه أنه جديرٌ بها، وقتئذ أدركت أنه منحها أسمى معاني الحب العذري، ذلك الحب الخالي من الأطماع، والأهواء، خرجت من شرودها عندما تنبهت لصوت تميم وهو يردد في نشوة عارمة عمًّت أرجاء القاعة:
, -وأنا قبلت الزواج منك.
,
, اتجهت عيناها إليه وسط الزحام المحاوط به، لم تستطع تبين وجهه المختفي خلف من هم فوق رأسه، فحادت بنظراتها نحو شاشة العرض التي ركزت فيها على ملامحه، رأته في كامل بهجته، لم يكن مدعيًا، ولم يزف مشاعره، بل بدا متفاخرًا أنه حظى بها كزوجةٍ في النهاية بعد مشقة واجتهاد، حينئذ زاد شعورها بالاعتزاز والشوق، فرجلٌ مثله استحق امرأة مثلها!
,
, دقائق أخرى مضت عليها وهي تتلقى المباركات والتهنئات ممن حولها، إلى أن خف التزاحم، وظهر تميم من بين هؤلاء، عندئذ شعرت بخفقات متلاحقة تعصف بقلبها، دبت في شغافه ارتجافات الفرحة، وتفشت في أوصالها ارتباكة عظيمة، لم تهدأ باقترابه، ولن تهنأ إلا في أحضانه!
,
, وقف قبالتها يرمقها بنظرة مطولة، احتوت على الكثير مما أراد البوح به والتعبير عنه؛ لكنه امتنع مرغمًا عن ذلك، تقديسًا لما بينهما من مشاعر سامية، وعواطف غالية، لا يجوز الإفصاح عنها إلا في طقوس خاصة تليق بها. كانت كالحلم الذي اقترب كثيرًا من تحقيقه، وأوشك على الغوص في كافة تفاصيله، ومعايشتها بروحه ووجدانه، تقوست شفتاه عن بسمةٍ نقية، أضاءت وجهه أكثر وهو يستطرد مهنئًا بقليلٍ من الغزل:
, -مبروك يا جميل.
,
, رمشت بعينها في توترٍ، وقالت بصوتٍ خجول:
, -**** يبارك فيك.
, خفضت من رأسها لتجده يمد يده ناحيتها، فرفعت ناظريها إليه تسأله بنظرة متسائلة حائرة، فأجاب مفسرًا في تهذيب:
, -الزفة مستنيانا.
, اعترضت في ترددٍ واضح:
, -مكانش ليه لازمة وآ٣ نقطة
, قاطعها قبل أن تنهي جملتها بعشمٍ وصدق:
, -أنا بعيش معاكي كل حاجة كأنها أول مرة..
, رمقته بنظرة مليئة بالاهتمام، لمعت بشدة، وظهر التأثر عليها عندما تابع:
, -لأني عايشها بقلبي.
,
, منحته يدها في استسلام، وهي تطالعه بنظرة حانية، تحوي قدرًا من المشاعر الشغوفة، فاشتهى ضمها بشدة، ورغم ذلك قاومت رغبته الملحة، وأرجأها لوقت لاحق، حين ينفرد بها، عندئذ ستختبر معه كافة درجات الهيام، وهو يجيد التعبير باحترافيةٍ عن هذا!
,
, ثبتت في مكانها تصفق بيديها في وقارٍ، وهو أمامها يرقص مع رفاقه في بهجةٍ عارمة، كانت عيناها لا تفارقان وجهه، تتبعه في لهفةٍ أينما اتجه، كأنها تخشى أن تضيعه في لحظة تلتهي فيها عند متابعة غيره، ومن وقت لآخر التفت ناحيتها يمنحها ابتسامات ناعمة ونظرات شغوفة مليئة بالرغبة، قابلتها دومًا بنظرة متدللة مرحبة كأنما تحوي في باطنها على دعوة خفية لتذوق فاكهة الجنة الشهية.
,
, وقعت عينا فيروزة مصادفة على الصغير المشاكس، ذاك الذي راح يُراقص رقية في مرحٍ متحمس، تصنعت العبوس، وأرسلت إشارة صارمة إلى تميم بمجرد أن نظر ناحيتها، تطلع الأخير إلى حيث أشارت، فهز كتفيه مرددًا بضحكة حيرى:
, -طب أعمله إيه؟
, حدجته بتلك النظرة القوية، فرضخ أمام تحذيرها المبطن، وتحرك تجاه يحيى يطلب منه مبتسمًا:
, -تعالى ارقص معايا.
, رفض الصغير بعنادٍ طفولي وهو يتمايل بجسده:
, -لأ، أنا عاوز أرقص مع الأمورة دي.
,
, ردت عليه رقية بصوت مرتفع تصحح له:
, -اسمي كوكي.
, بادلها الصغير الابتسام، وعَرَّف بنفسه وهو يمد يده لمصافحتها:
, -وأنا يحيى.
, صافحته، فوجدته يجذبها إليه، ويضمها إلى صدره، فحانت من تميم نظرة جانبية نحو فيروزة فوجدها تحدجه غير راضية عن الانسجام الحادث بين الصغيرين، فتنحنح مناديًا على رفيقه:
, -يا دياب! حل الإشكالية دي بسرعة بدل ما يتنكد عليا.
, جاء إليه متسائلاً في دهشة:
, -إشكالية إيه؟
, عاتبه تميم بوجهٍ شبه جاد:.
,
, -ماينفعش اللي بيحصل ده، مرة بوس، ومرة حضن!
, رد عليه دياب بمزاحٍ وهو يمرر يده بين شعره:
, -لأ معاك حق، طب أداري عليهم بضهري ولا إيه؟
, رمقه بنظرة حادة قبل أن ينذره بغيظٍ:
, -بقولك لِم ابنك، تقولي أداري؟
, حافظ على ابتسامته المرحة وهو يخبره:
, -خلاص يا سيدي اعتبرني خطبتها لابني، ومؤجلين الخطوبة لكام سنة قدام عقبال ما ياخدوا الابتدائية.
, نظر له تميم في استخفافٍ قبل أن يعقب:.
,
, -إنت الكلام معاك ماينفعش، كل حاجة واخدها هزار٣ نقطة
, ثم التف نحو رقية يأمرها بلهجةٍ جادة وهو يتصنع الابتسام:
, -تعالي يا كوكي.
, اعترضت عليه، وقالت وهي تتمايل في مرحٍ:
, -عاوزة أرقص مع يحيى شوية يا عمو.
, هنا رد عليه دياب مبتسمًا على الأخير:
, -سمعت بنفسك.
, تركزت كافة الأنظار مع الصغيرين، خاصة يحيى الذي تكلم في هدوءٍ وهو يخرج من جيب سترته قطعة مغلفة من الحلوى:
, -أنا جبتلك شيكولاته من جوا، خدي.
,
, تناولتها رقية من يده وهي تبادله ابتسامة لطيفة، قبل أن تقول:
, -شكرًا.
, انتفض كلاً من تميم و دياب في صدمةٍ حينما أتت فيروزة بغتةً، وصاحت في استنكارٍ، كأنما أمسكت الجميع بالجرم المشهود، لا بتبادل قطعة من الحلوى اللذيذة:
, -ده اسمه إيه ده؟
, أجاب دياب بتعابيرٍ شبه جادة، تشوبها بسمة مهذبة:
, -بيصالحها، مش كان مزعلها المرة اللي فاتت؟
, حولت أنظارها نحو تميم، وسألته في تحفز:
, -وإنت موافق على كده؟
,
, تنحنح في خفوتٍ قبل أن يقول محايدًا:
, -الصلح خير.
, أوشكت على الاعتراض، لكنه سحبها من ذراعها، وحاوطها من خصرها بذراعه الآخر، ليلصقها بصدره، جذبها بعيدًا عنهم، وطوقه ما زال مُحكمًا حولها. مال على أذنها يهمس لها في عبثيةٍ:
, -بصي، احنا نسيبنا من العيال دلوقتي، وتعالي أقولك كلمتين كده حلوين تستاهليهم.
,
, حركته المفاجئة أربكتها بشكلٍ كلي، أحست بفيضٍ من المشاعر الغريبة المصحوبة برعشات متقطعة تجتاحها في غزوٍ كامل مباغت يضرب كل جزء حسي بها، تلعثمت وهي تحتج عليه:
, -بس آ٣ نقطة
, قاطعها مجددًا بصوته الهامس، المذبذب لكيانها، دون أن تخف قبضته عنها:
, -يالا بينا بس، ده أنا مصدقت إنك بقيتي ليا، وكلها شوية وأخدك في حضني.
,
, ارتج داخلها، وتزعزعت أعمدة الصلابة مع لهيب أنفاسه اللافحة لبشرتها. ادعت تماسكها، وبحثت بنظرها عن توأمتها، وجدتها على مقربةٍ منها، فطلبت منها:
, - همسة، عينك على كوكي.
, هزت الأخيرة رأسها موافقة، في حين استمر تميم في الابتعاد بطاووسه الصارم عن الصخب المحيط بهما، ليواصل كلامه إليها بلطافةٍ:
, -ده إنتي شكلك هاتبقي حماة صعبة.
, عند هذا القرب المغري أخبرته بابتسامة واثقة، ونظراتها اللامعة تكاد تنفذ إلى عمق عينيه:.
,
, -طبعًا، مش هاسكت عن الغلط.
, وجدته يخفض عينيه ليتطلع إلى شفتيها باشتهاء واضح، جعلها تهتز، خاصة حين غازلها بتنهيدة حارقة:
, -قمر، أوي.
, حاولت الانسلال من ذراعه المطبق عليها، والتحرر من هذا التهديد المحفز لرغباتٍ تتولد بداخلها؛ لكنها فشلت في الإفلات من حصاره المطوق لها، بلعت ريقها، وحذرته بصوتٍ متلجلج خجل:
, -مايصحش.
,
, استمر على قربه الخطير، وشدد من ضمه غير الكامل لها، وهو يخبرها بنبرة ذات مغزى بعد أن أصبحا شبه معزولين عن الزحام الموجود بالقاعة:
, -ده احنا لسه هنقول اللي يصح، واللي مايصحش لما نبقى لواحدنا.
, تلبكت، وسرت فيها رعدة لذيذة، قاومتها بعزمٍ متأرجح بين الثبات والاستسلام أمام تلك المغريات المتصاعدة. استجمعت شتاتها لتقول بغموضٍ حرج، معكوس في نظراتها التي بدأت في تحاشيه:
, -أنا كنت عاوزة أقولك على حاجة كده.
,
, دار في خلده أنها تعاني من آثار زائرتها الشهرية، فهتف في توجسٍ مفزوع:
, -أوعي تقولي ظروف، كده أبقى أنا نحس بجد!
, كتمت ضحكة خجلة على إثر ردة فعله الطريفة، وقالت وهي ما تزال على ترددها:
, -لأ، حاجة تانية مهمة.
,
, منحها نظرة مترقبة، غير متعجلة، كأنما يحبذ أن تطيل في سكوتها، ليزيد من تودده إليها بالتصاقه المتعمد بها، زاد التردد على محياها أمام شغفه الصريح، أرادت البوح بسرها؛ لكن تاهت منها الكلمات، كأنما لم تعرف كيف تبدأ في مفاتحته، وكيف تستطيع ذلك دون تمهيد مسبق عن هذه المسألة الحرجة؟ أتراه سيفرح حين يعلم؟ أم سيكون الأمر سيان لديه؟ لم تكتمل فرصتها بسبب مجيء ماهر وشقيقته، والطبيبة ريم. تطلعت إلى ثلاثتهم في سرورٍ، وبدأت ذراع تميم ترتخي قليلاً عن خصرها، ركزت بصرها على الأول وهو يخاطبها مبتسمًا في وقارٍ:.
,
, -مبروك يا فيروزة.
, ردت مبتسمة ابتسامة رقيقة:
, - ماهر بيه، **** يبارك فيك.
,
, آه لو استطاعت أن ترى نيران الغيرة المشتعلة في حدقتي تميم، وغيره يناديها باسمها متجردًا من أي ألقاب! انتفض جسدها فجأة وقد شعرت بذراعه القوي تحاوط خصرها من جديد وتشدد عليه، ألصقها به، كأنما يعلن صراحة أنها صارت ملكيته، غير مستباح لغيره بالتجاوز معها، وقتئذ استدارت برأسها نصف استدارة لتنظر إلى وجهه من هذا القرب الشديد، رأت تعابيره مشدودة، ملامحه متجهمة، نظراته تكاد تلفظ حنقًا. ازدردت ريقها، ونظرت بتوترٍ مرة ثانية إلى ماهر وهو يخاطب زوجها:.
,
, -مبروك يا عريس.
, مد يده لمصافحته، فوجدت تميم يبادله المصافحة بقوةٍ وهو يقول، دون أن تخف وطأة ذراعه على خصرها:
, -**** يبارك فيك.
, سحب ماهر يده، وخاطبه بلهجةٍ محذرة:
, -خد بالك منها، ولو زعلتها في يوم هتلاقيني فوق دماغك.
, للعجب صارت ضمة تميم لها أكثر تملكًا، ضاعف من إلصاقها بجانبه، حتى شعرت أنها ستذوب بداخله، حتى أن صوته صار أكثر تحكمًا وهو يعقب عليه:
, -اطمن يا باشا، هي في أمان معايا.
,
, حاولت فيروزة أن تخفف من التوتر الذي استشعرته بالترحيب بطبيبتها:
, -دكتورة ريم، كنت هزعل لو ماجتيش.
, بالكاد نجحت في التخلص من حصار تميم لتتمكن من احتضان الأخيرة وهي تخبرها في محبةٍ:
, -مقدرش محضرش فرحك، **** يتمم بخير ويسعدكم.
, تراجعت قليلاً عنها، وردت في ابتسامة صغيرة:
, -يا رب.
, ثم تركزت عيناها على رفيقتها، وسألتها في نبرة مهتمة:
, -فينك يا علا؟ اتأخرتي ليه؟
, قبل أن تبدأ في الكلام، أجاب عنها ماهر ساخرًا:.
,
, -عقبال ما لبست، واتزوقت، مفكرة نفسها العروسة.
, هتفت شقيقته تحتج في حنقٍ:
, -دي كلها حاجة بسيطة، ونتجوز.
, رد عليها بنفس الطريقة المستخفة:
, -ده بعد ما تطلعي اللي فاضل من عين وجدي.
, استغلت ريم فرصة انشغال فيروزة بالحديث، لتدنو من تميم، وتستأذنه في جديةٍ:
, -ممكن كلمة يا أستاذ تميم على جمب.
, تحرك مبتعدًا معها لعدة خطوات وهو يقول:
, -اتفضلي يا دكتورة.
,
, توقفا عند مسافة معقولة، لا تثير الاسترابة عند النظر إليهما، واستطردت تُحادثه على عجالة، لا تخلو من جدية:
, -أنا عاوزاك النهاردة يكون بالك طويل مع فيروزة، مافيش داعي للاستعجال في أي حاجة، سيبها تاخد عليك الأول، ده هيكون أحسن ليك وليها.
, قال بوجهٍ متبرم قليلاً:
, -**** يسهل.
, واصلت التأكيد عليه بنفس النبرة المحذرة:.
,
, - فيروزة مرت بتجربة صعبة، ومحتاجة مننا كل الدعم عشان تستعيد ثقتها في نفسها، وخصوصًا إنها بتعيد تجربة الزواج معاك.
, لم يستسغ تلميحها المتواري بانسياقه وراء شهواته –كحيوانٍ جائع يستعد لالتهام فريسته- بدلاً من احتوائها بالعطف والحنان، جَمُدت تعابيره، ورد في جديةٍ تامة:
, -يا دكتورة محدش هيخاف عليها زيي.
, ابتسمت في لباقةٍ وهي تواصل الكلام:
, -أكيد، وده مخليني مطمنة، بس برضوه ماتستعجلش.
,
, بزفيرٍ سريع قال وهو يدير رأسه نحو فيروزة:
, -إن شاء****.
, رأت الأخيرة ملامحه المزعوجة، فتحركت في تؤدة نحوهما وهي تتساءل بنظرةٍ حيرى، مستشعرة وجود خطب ما:
, -في حاجة يا دكتورة؟
, ردت نافية بنفس الوجه الهادئ:
, -لأ، ده أنا بوصيه عليكي.
, ساروتها الشكوك قليلاً مع محاولتها المكشوفة للهروب من نظراتها المتفرسة، انتبهت مرة أخرى ل تميم وهو يدعو ضيوفهما للمكوث:
, -اتفضلوا يا جماعة، شرفونا جوا.
,
, استعدت للذهاب خلفهم؛ لكنه استوقفها بإعادة إحكام الطوق القوي حول خصرها، تسمرت في مكانها، واستدارت ناظرة إليه باستغرابٍ حائر، فرمقها بنظرة تحوي حنان الدنيا ودفئها المغري، التفت ذراعه الأخرى حول ظهرها، وقربها برفقٍ إليه، لتستند بكفيها تلقائيًا على صدره، كأنما تمنع نفسها من الالتصاق به، أسبل عينيه نحوها ثم رجاها بخفوتٍ:
, -خليكي جمبي.
, سألته في تشككٍ بدأ يجوس بداخلها:.
,
, -في حاجة حصلت وإنت مش عاوز تقولي؟ طب دكتورة ريم قالتلك على حاجة؟
, رد نافيًا في استرابة:
, -لا أبدًا، دي بتوصيني عليكي.
, ابتسمت قليلاً، وهزت رأسها في تفهمٍ قبل أن تحاول المناص منه، لم يفلتها، وأصر على بقائهما هكذا، فتحرجت كثيرًا من وقفتهما الرومانسية، وهمست في ارتباكٍ:
, -ماينفعش كده.
, غازلها بنظراته الجريئة، وهتف في حرارةٍ وهو يزيد من ضمه:
, -هو إيه اللي ماينفعش؟ إنتي مراتي دلوقتي.
,
, تلوت بجسدها محاولة الفكاك منه، ووجهها ينطق بحمرة قوية، تلعثمت وهي تردد:
, -الناس بتبص علينا.
, لم يكترث لكائنٍ من كان، وراح يقول في تحدٍ مستمتع:
, -مالناش دعوة بيهم٣ نقطة
, من موضع يديها استشعرت تسارع نبضاته، كأنها تعترف لها بما يعجز اللسان عن قوله، انتفض ما بين ضلوعها، وذاب كليًا وهو مستمرٌ في مداعبة أذنها بحلو كلامه:
, -وبعدين هو حد يبقى في حضنه القمر، ويسيبه؟ ده يبقى أهبل!
,
, تراجع كلاهما عن بعضهما البعض في حرجٍ شديد، وقد صدح من خلفهما صوتًا معنفًا:
, -خلي جو الغراميات ده بعدين يا سي روميو.
, أطرق تميم رأسه في تحرجٍ، وقال بصوتٍ شبه متقطع مبررًا وقفته العبثية مع زوجته:
, -يابا ده أنا آ٣ نقطة
, قاطعه في تشددٍ:
, -يالا قدامي، ليكم بيت ترغوا فيه براحتكم.
,
, هز رأسه في إذعانٍ كامل، وأشار لزوجته بيده لتتأبط ذراعه، ثم مشى معها متصنعًا الجدية، قبل أن يميل برأسه عليها ليخبرها بصوتٍ خافت منزعج، وهو يراها تحاول بجهدٍ إخفاء ضحكاتها المرحة:
, -مش بقولك أنا محظوظ، أوي٣ نقطة!
 
٥٩

بمسحةٍ سريعة من طرف لسانه اللزج، على تلك الورقة، تمكن من لصق طرفيها معًا، ليحصل على سيجارة يدوية الصنع؛ لكنها محشوة بمخدر الحشيش. حشر ذلك الرجل الغريب سيجارته بين شفتيه، وراح يشعل طرفها بتأنٍ، ليسحب بعدها نفسًا عميقًا يؤجج به صدره المشتعل بالمزيد من الأنفاس المُذهبة للعقل، أطلق سحبًا من الدخان في الهواء الطلق، ثم تبادل مع رفيقه السيجارة، وسأله في صوتٍ خفيض مهتم:
, -جرب كده وقولي.
,
, تناولها من الآخر، وبدأ في استنشاق دخانها باستمتاعٍ واضح، ليعقب بعدها بأنفاسٍ معبقة بالتبغ غير البريء:
, -الصنف عالي المرادي.
, هز الأول رأسه في استحسان، وقال بغمزة من عينه الملتهبة من أثر ما يتجرعه من مواد مخدرة:
, -مش قولتلك، حتة معتبرة.
, وافقه الرأي، وعلق في تلذذٍ:
, -أصلي يا واد عمي.
,
, سار كلاهما على الطريق الزراعي شبه المعتم -والممتد على مدى البصر وسط الحقول- في تكاسلٍ وثقل؛ لكن صدحت أصوات ضحكاتهما المصحوبة ببضعة تعليقاتٍ خليعة، لتبدد السكون السائد إلا من أصوات نعيق الضفادع، وصرير الجنادب. تساءل الثاني وهو شبه مترنح في خطواته:
, -مش معاك حتة زيها؟
, أجابه وهو يشير إلى جيب قميصه:
, -معايا، بس دي شايلها لما نوصل مطرحنا.
, ألح عليه بلسانه الثقيل:
, -هاتها، ده لسه الطريق طويل.
,
, تساءل الأول في نبرة هازئة:
, -إنت خستعت ولا إيه؟
, نفى ادعائه مبررًا:
, -لا يا عم، ده بس عشان نتنشط كده ونفوق، دي الليلة شكلها فل.
,
, لم يبدُ ممانعًا لاستخدام القطعة الأخيرة، فوقف الاثنان عند بقعة شبه مضيئة، وقام الأول بإعداد سيجارة أخرى، بنفس القدر من الاهتمام والرعاية. أشعل طرفها، وتذوق طعمها بانتشاء كبير، ليعطيها لرفيقه فيجربها هو الآخر؛ لكنه تغاضى عن إطفاء عود الثقاب الذي استخدمه، وألقاه بإهمالٍ على كومة من المزروعات الجافة الموضوعة عند أول الحقل للتخلص منها باكر. بعد بضعة أنفاسٍ مصحوبة بلحظاتٍ من العبثية والمجون، انتبها إلى سحابة الدخان التي حاوطتهما، التفتا خلفهما، ليجدا ألسنة اللهب قد بدأت ترتفع للأعلى، وبخ الثاني زميله في عتابٍ شبه مهينٍ:.
,
, -يا دغوف مش تاخد بالك، كده هتقيد النار في الزرعة كلها!
, رد بغير مبالاة:
, -هي تخصنا أصلاً.
, حذره في شيءٍ من الجدية:
, -بس جايز حد يوعلنا.
, قال بضحكاتٍ قصيرة متقطعة:
, -ولا حد هيبقى دريان بينا٣ نقطة
, على ما يبدو بلغت عدم مبالاته أقصاها، فأخرج من جيبه زجاجة صغيرة، تحوي على مشروب مُسَّكِر، وقام بسكبه كاملاً على كومة الزرع، لتتوهج ألسنة اللهب، وتزداد حدة، ضحك مجددًا بصوتٍ غريب، ثم هتف في استمتاعٍ مريض:.
,
, -وأهوو خليها تصهرج وتصهلل.
, شاركه زميله الضحك الماجن، وعقب وهو بالكاد يحاول تمالك نفسه وسط نوبة الضحك الهيسترية:
, -أما إنت عليك حركات.
, راح الرجل يدندن في صوتٍ مرتفع ومزعج وهو يرقص حول النيران الحمئة:
, -نار، نار، نار، وأنا قلبي قايد نار.
,
, تمايل زميله بجسده معه، وطاف حوله في خلاعةٍ إلى أن انتشرت النيران في معظم الحقل، توقفا عن اللهو، وتعلقا في ذراع أحدهما الآخر للحفاظ على توازنهما، سارا مرة ثانية في ترنحٍ، والأول يتكلم في لسانٍ ثقيل:
, -طب بينا بقى بدل ما النفسين يطيروا.
, غادر الحقل، وألسنة اللهب تتصاعد للأعلى في نشاطٍ وقوة، كأنها كانت تتحين الفرصة للتوهج والانتشار، وها قد واتتها الفرصة لتأتي على الأخضر واليابس بلا هوادة أو رحمة!
,
, أصبح الهواء فيما حول المقهى الشعبي المتواجد على أطراف البلدة معبقًا بأدخنة النارجيلة المنتشرة بداخله وخارجه، واختلطت مع الدخان المنبعث من حجر المعسل، غطت الرائحة القوية للمدخنين على رائحة شوي اللحم، وأصبح مذاق ما يتناوله رواد المكان من أطعمة مصبوغًا بالتبغ والدخان. أشار فضل لعامل المقهى بيده ليبدل له حجر الفحم بعد أن انطفأت جذوته، واستدار ناظرًا إلى رفيقه حين كلمه في لهجةٍ شبه جادة:.
,
, -ما تشيلها من دماغك.
, التهب نظراته، وصارت أكثر شرًا وهو يعقب عليه في إنكارٍ ساخط:
, -أشيلها؟ ده أنا مافيش حُرمة استعصت عليا زيها٣ نقطة
, استكمل باقي جملته بين جنبات نفسه متذكرًا ما تعرض له من إذلال جسيم طال رمز فحولته:
, -غير ما النكبة اللي بقيت فيها بسببها.
, تنبه من جديد لرفيقه وهو يسدي له النصيحة:
, -يا عم شاور على أي واحدة تكون طوعك، وتحت رجلك.
, قال بغليلٍ مرتفع في صدره، وبعينين تطقان بالشرر:.
,
, -مافيش إلا هي، هاخدها وأكسر رقبتها.
, حك رفيقه جانب رأسه بالمبسم، قبل أن يدسه بين شفتيه وهو يضيف في مكرٍ:
, -صحيح، عرفت إن أم عيالك بطنها شالت تاني؟!
, زاد الكدر في عينيه وهو يعقب بقنوطٍ شديد:
, -وش البومة، أل يعني المشرحة ناقصة قتلى!
, تابع في خبثٍ، كأنما يقصد استفزازه:
, -ده بيقولك رشيد عامل عمايله، ومروق على أهل بلده بسبب حبلها ده.
, بدا غير مبالٍ بأمرها، ونطق هازئًا:
, -يعني جاب الديب من ديله!
,
, امتدت يده لتمسك بالكوب الزجاجي، وتجرع آخر رشفة في شايه قبل أن يغمغم قائلاً:
, -الناس بتحكي وبتتحاكى، هو أنا اللي بأقول.
, لوى ثغره مدمدمًا في حنقٍ محسوس في نبرته:
, -تلاقيها نمرة عاملها عشان يقول بيها إنه راجل وبيعرف آ٣ نقطة
, ثم ضحك ضحكة سخيفة مصطنعة كأنما يقصد بذلك منع نفسه من قول تلميحٍ خليع، وعاد ليتابع كلامه باستهزاءٍ:
, -فاهمني، وهو خروف لا بيهش ولا بينش.
, رفع رفيقه حاجبه متسائلاً في دهشةٍ مفتعلة:.
,
, -معقولة؟ قول كلام غير ده.
, أكد عليه بثقةٍ عجيبة:
, -أه يابا، هي كانت أول ولية تجيب عيل؟ ما أنا جايب منها كوم، وبعدين ما أنا رميتها لغيري، فَضلة، ماتسواش!
, حقده المرير تجاه سها، جعله يلفق الأكاذيب، ليظهرها بمظهر السوء، وإن لم يكترث لعواقب زلات لسانه. قطع لغوهما الفارغ نداء أحدهم المفزوع وهو يركض من مسافة بعيدة، تنبه جميع من في المقهى إليه، وعلى وجه الخصوص فضل، خاصة عندما خاطبه هذا الرجل بأنفاسه اللاهثة:.
,
, -إلحق يا سي فضل.
, نظر إليه شزرًا قبل أن يسأله بتأففٍ، وهو يحرر دفعة من دخان النارجيلة:
, -في إيه يا غراب البين؟
, أشار له نحو الفراغ وهو يجيبه في جزعٍ:
, -النار قايدة في الأرض بتاعتكم، جابت عاليها واطيها.
, انتفض واقفًا بعد سماعه لتلك الجملة الصادمة، ودفع بقدمه النارجيلة لتتبعثر محتوياتها على الكليم، وصوت صراخه المرتاع يصيح عاليًا:
, -بتقول إيه يا وش الفقر؟!
, أكد عليه من جديد وهو يحاول التقاط أنفاسه:.
,
, -النار ماسبتش شبر إلا وطالته.
, لطم بيديه على صدغيه هاتفًا في تحسرٍ شديد قبل أن يهرول كالمجذوب نحو أرضه المشتعلة:
, -يادي الخراب المستعجل اللي حط على دماغ الواحد.
,
, مر عليه وقت لا يعلمه سوى المولى عزوجل، وهو يترقب انتهاء فقرات حفل الزفاف التي ظن أنها لن تنتهي أبدًا، وصل المطاف إلى فقرة تناول قالب الحلوى، تأهبت فيروزة في جلستها على الكوشة، وظهر التوتر على محياها، حاولت التماسك، ومقاومة الخيالات التي راودتها بشأن ما يحدث من تجاوزات ومداعبات بين الأزواج في تلك اللحظة المرحة، أدارت رأسها في اتجاه تميم، واشترطت عليه بجديةٍ:
, -يا ريت اللي بنشوفه وبيحصل في آ٣ نقطة
,
, وصل إليه تلميحها المتواري دون الحاجة للمزيد من الإيضاح، فقاطعها مؤكدًا عدم ارتكابه لأي تصرفٍ قد يخجلها:
, -اطمني، كل اللي عاوزاه هيحصل.
, أحست بالارتياح لتفهمه العقلاني، خاصة أن بعض الأزواج لا يخجلون من وضع زوجاتهم محط الأنظار باختطاف قبلة جريئة على مرمى ومسمع من الحاضرين. تركت باقة الورد موضعها، ونهضت في تهملٍ لتشاركه ذكرى أخرى جديدة، ستضاف حتمًا إلى قائمة ذكرياتهما معًا.
,
, توقف الاثنان في منتصف القاعة تقريبًا؛ حيث تم وضع القالب الطويل، ناول أحد مشرفين التنظيم السكين للعروس، لتمسك به أولاً، قبل أن يضع تميم قبضته على يدها، شعرت بقوة أصابعه وهي تضم كفها، كأنما تحتويه في سطوة غير مشكوك فيها، نظرت إليه ملء عينيها بنعومة يشوبها التوتر، فرأته يمنحها كل ما تحتاج للشعور به وهي إلى جواره من أحاسيس صادقة، عاشقة، تفيض بالحب والحنان. تساءل مبتسمًا، وعيناه لا تبرحان صفحة وجهها النضرة:.
,
, -جاهزة؟
, هزت رأسها مرددة ببسمة رقيقة:
, -أيوه.
, ارتفعت يداهما معًا للأعلى، ليبدأ تقطيع القالب، وهبطتا بالتدريج في تناغم لطيف وهادئ، دون أن تحيد النظرات الساهمة عن بعضها البعض؛ وكأنها كانت فرصتهما المتاحة لعيش لحظة حالمة وهما عند هذا القرب. تدارك تميم استطالته في النظر إلى عروسه الجميل عندما خاطبه المشرف:
, -اتفضل يا فندم.
,
, حول عينيه ناحيته ليجده يمد يده بشوكة موضوع بها قطعة من الحلوى، أخذها منه، وقدمها للعروس وهو يبتسم لها، أمسكت بها بيدها وتناولت ما بها، فلم يعترض على تصرفها، وفعلت المثل معه، لتنتهي الفقرة بتصفيق المدعوين، وعودتهما إلى الكوشة مصحوبين بالزغاريد وموسيقى الأفراح.
,
, من تلك البقعة النائية عن الزحام، أخذ يراقب شاشة العرض بتعابيرٍ شبه عابسة، يتطلع إلى ما تبصره عيناه من محبة غير قابلة للإنكار بضيقٍ، ورغم محاولاته المضنية لتقبل الأمر، إلا أن هناك غصة كانت عالقة بحلقه، استدار هيثم مبتعدًا عما يشاهده، وتحرك برضيعه جيئة وذهابًا في نفس المكان يهدهده في رفقٍ، إلى أن أقبلت عليه زوجته، توقف عن السير، ونظر إليها وهي تخاطبه:
, -عنك يا هيثم، تلاقي خالد تعبك.
,
, قال بتجهمٍ ما زال معكوسًا على ملامحه:
, -لأ، معظم الوقت نايم.
, ابتسمت وهي تأخذه في أحضانها:
, -كويس.
, أشاح هيثم بوجهه بعيدًا عنها، ليخفي ضيقه البائن عليه، وتعلل بحجةٍ واهية:
, -أنا همر على الترابيذات، هاشوف إن كان حد ناقصه حاجة كده ولا كده.
, هزت رأسها مرددة من خلفه:
, -طيب، وأنا هاروح عند فيروزة.
,
, من الجيد أنها لم تكن ناظرة إليه، وإلا لرأت ضيقه المتزايد في مقلتيه، ففطنت إلى انزعاجه من حفل الزفاف المبهرج، ابتعد عنها قبل كشف أمره، وواصل السير حتى اعترض طريقه بدير، فاستوقفه الأخير، وأجال ناظريه عليه، استطاع بخبرته أن يلاحظ تبدل قسماته، حافظ على جمود تعابيره، وسأله في اهتمامٍ:
, -عامل إيه يا ابني؟
, بوجهٍ يعكس امتعاضه أجاب:
, -الحمد**** يا جوز خالتي.
, استحثه بدير على التحرك معه قائلاً:.
,
, -تعالى اقعد مع جدك شوية، بيسأل عليك من بدري.
, لم يجد بدًا من الفكاك منه، وقال مستسلمًا:
, -حاضر.
, سار معه إلى الطاولة الجالس عليها الجد سلطان ؛ حيث القليل من الهدوء، بعيدًا عن صخب الموسيقى المزعج، سحب هيثم المقعد، وجلس إلى جواره متسائلاً في جدية:
, -خير يا جدي؟
, لم يمهد سلطان في حديثه إليه، وسأله مباشرة دون مراوغة، وهو ينظر في عمق عينه التعسة:
, -مبسوط؟
, جاوبه بملامح مكفهرة:
, -مش عارف.
,
, صمت الجد، ولم يعقب متوقعًا أن يبوح بمكنونات صدره، وقد كان؛ حيث استطرد مستفيضًا بألمٍ محسوس في نبرته:
, -بس اللي ماتت دي كانت قبل ما تكون مراته أختي، وحازز في نفسي أشوف الحلو كله بيتعمل لغيرها.
, علق عليه سلطان بهدوءٍ:
, -محدش بياخد أكتر من نصيبه، وأختك **** كرمها وقتها، واتراضت، بس نصيبها انتهى معاه لحد كده، وراحت عند اللي أحسن مني ومنك، هتعترض على مشيئة ****؟
,
, استبد به ضيقه، وطفا على السطح، خاصة وهو يحتج عليه:
, -لأ، بس هي ملحقتش تفرح زي أي واحدة، اتاخدت غدر.
, تنفس الجد بعمقٍ، وخاطبه بلين الكلام، علَّه يقتنع:.
,
, -**** ليه حكمة في قضائه، افتكر قوله تعالى وهو بيقول في كتابه الكريم (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ? وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ?) شوف دلوقتي كلنا بندعي لأختك بالرحمة، والجنة، تخيل لو كانت فضلت على حالها، وظُلمها للغير، كانت هتلاقي اللي يدعيلها؟
,
, أطرق رأسه كأنما يفكر في حديثه، فتابع الجد على نفس الوتيرة الهادئة:
, -في يا ابني ميت بيتقال عنه ده ارتاح، وميت تاني بيتقال ده مُستراحٌ منه، يعني هتلاقي الناس فرحنا إنه مات، وتقولك كويس إن **** ريحنا منه.
, ضغط على شفتيه لهنيهةٍ، ثم زفر قائلاً:
, -معاك حق.
, شدد عليه الجد مجددًا بنبرة جمعت بين اللين والحزم:.
,
, -حط ده في راسك عشان ترتاح، إنت **** كرمك، وعوضك بزوجة طيبة، بتحبك، وعارفة إزاي تصونك في غيابك، ومش بس كده رزقك كمان بابن صغير من صلبك، هيكبر ويشيل اسمك، اجتهد إنك تزرع جواه الخير، عشان وقت العجز تحصد خيره.
, حرك رأسه بإيماءة صغيرة وهو يخبره:
, -حاضر يا جدي.
, مد سلطان يده ليربت على كتفه هاتفًا بودٍ:
, -**** يرزقك الرضا، ويصلح حالك.
, نهض هيثم من مكانه وهو يرد:
, -يا رب٣ نقطة
, ثم تلفت حوله متسائلاً:
, -أجيبلك حاجة يا جدي؟
,
, أجابه مبتسمًا في حبورٍ:
, -لأ، الحمد****، أنا مرضي على الآخر.
, أحنى هيثم رأسه على جبينه يقبله في تقدير، وقال ممتنًا:
, -**** يخليك لينا يا جدي، ودايمًا تكون لينا العون والسند.
, حافظ سلطان على نقاء بسمته وهو يدعو له عن طيب خاطرٍ:
, -**** يهديك ويراضيك.
,
, بالكاد تمسك بآخر ذرات صبره الذي طال، واستطال، وأوشك على الانقضاء من كثرة الترقب والانتظار، مع انتهاء مراسم حفل الزفاف على خير، أما آن له بعد أن يظفر بكُلها؟ انتظر تميم بجوار باب سيارة رفيقه منذر الذي أصر على قيادة سيارة الزفاف لإيصاله إلى منزله، على أن يتبعه شقيقه، وباقي المشاركين فيما يعرف ب (زفة السيارات).
,
, اختلس النظرات نحو طاووسه المتباهي، كانت كالملكة المتوجة، تحاوطها ذوات الحسن؛ لكنها أكثرهن بهاءً وتأثيرًا، ويا ليت الأعين تشبع من النظرات! فما عاد يعلم حاليًا سوى أن دمائه المتدفقة في عروقه أدمنت عشقها، وباتت تحترق شوقًا على جمرات العشق لنيل ودَّها، فأنى له الإتيان بالصبر وهو أسير تعويذة جمالها؟ حاد مرغمًا ببصره عنها ليتطلع إلى منذر وهو يخاطبه بمزاحٍ:
, -عاوزينك ترفع راسنا يا عريس.
,
, ابتسم في ثقةٍ قبل أن يرد:
, -من الناحية دي اطمن.
, تدخل دياب في الحوار هاتفًا بعبثية:
, -طبعًا، الخبرة كلها معانا.
, سكت واكتفى بالابتسام، فأضاف بنفس الطريقة المازحة:
, -كله بالحنية بيفك.
, علق عليه منذر ساخرًا، وضحكة تبعت كلامه:
, -ده بأمارة ما مراتك معلمة عليك.
, تنحنح قائلاً في حرجٍ طفيف وهو يدعك مؤخرة عنقه:
, -مش أوي، **** يجعل سيرتها خفيفة علينا، ده أنا هاخد تكديرة محترمة إكمن مخدتهاش معايا.
, رد عليه تميم بلطفٍ:.
,
, -تتعوض في مناسبات تانية.
, هز رأسه مغمغمًا:
, -إن شاء****.
,
, في تلك الأثناء، ساعدت كلاً من هاجر و همسة العروس على الاستقرار في المقعد الخلفي، وقمن معًا بضم أطراف الثواب وجمعه، لئلا يعلق بالباب حين يتم غلقه. لوحت فيروزة بعد ذلك لوالدتها التي كانت مشغولة بحمل الرضيع خالد، ثم بحثت بعينين تواقتين عن زوجها، رأته عند المقدمة يضحك وسط رفيقيه، فابتسمت لضحكاته العذبة، مستشعرة تلك الأحاسيس الشائكة اللذيذة التي لازمتها مؤخرًا، حين تكون قربه، فماذا إن انفرد بها؟ بالطبع لن يدخر وسعه في التعبير عمليًا وحسيًا عن مشاعره لها، توقفت عن الاستغراق في ضجيج أفكارها شبه الجامحة، وادعت التهائها بمتابعة ما تردده همسة من نصائح مرحة، لإضفاء جو من الرومانسية على العروسين، فما زادها هذا إلا ارتباكًا وتوترًا.
,
, تجمدت حدقتاها عليه وهو يستدير عائدًا للسيارة، ليستقر إلى جوارها، شعرت بتلاحق خفقات قلبها، باندفاعه العاصف بين ضلوعها؛ كأنما يريد التحرر والذوبان بين يديه. توالت الارتجافات الخفيفة على بدنها بشكلٍ لا يوصف، عندما وجدته يلتصق بها، شعرت بأن دروعها المنيعة، على وشك الانهيار، مع لطف عباراته الرنانة، حين يتغزل بها بالبسيط من الكلمات، لم تسكن مشاعرها المضطربة إلا حينما تخللت أصابعه كف يدها، نظرت أولاً إلى يديهما المشبكة معًا قبل أن ترفع حدقتيها إليه، لتجده يطالعها بما نفذ إلى جوهر الفؤاد توًا من فرط عذوبته. تقوست شفتا تميم عن بسمة صافية وهو يهمس لها:.
,
, -مبروك يا أحلى طاووس!
, زوت فيروزة ما بين حاجبيها في دهشة خفيفة، قبل أن تردد:
, -طاووس؟!
, مال نحو أذنها ليكرر مؤكدًا عليها، في نبرة متملكة، داعبت مشاعرها الأنثوية:
, -أيوه، طاووسي الأبيض!
,
, خفقة تبعتها أخرى أشد وطأة على قلبها، مصحوبة بتماوجات من المشاعر المرهفة، سيطرت على كامل بدنها، وبدأت في تأجيج جذوات الحب بحصونها، حاولت استعادة يدها من بين أصابعه؛ لكنه رفض، وأصر على الإمساك بها بهذا القيد شبه المحكم، ثم أخبرها بصوته الخفيض، وعيناه تنظران إليها بتصميمٍ:
, -مابقاش في بُعاد تاني.
 
٦٠

خيل إليه أن الجميع اتفقوا فيما بينهم، وتضافرت جهودهم -بشكل يدعو للعجب- من أجل تعطيله، ومنعه من الصعود مع عروسه لمنزل الزوجية، فعلى ما يبدو كل من تذكر مسألة ما راح يخبره بها، ليملأ رأسه ويشحنه بغير المستحسن من الأمور في تلك الليلة الخاصة. تذمر تميم في استياءٍ منزعج، وهو يلوح بذراعه في الهواء:
, -اللي عنده حاجة يا جدعان يأجلها، أنا عريس، والنهاردة دخلتي، و**** ما يصح اللي بتعملوه معايا.
,
, لم يكبت منذر ضحكاته العالية، وقال في تسليةٍ:
, -يا عم استمتع بآخر لحظات حريتك.
, رد عليه في غيظٍ:
, -أنا عاوز أتحبس.
, حذره دياب بمرحٍ واضعًا يده على كتفه:
, -وترجع بعد كده تزعل، وتقول يا ريتني، ده حتى دخول الحمام مش زي خروجه.
, علق عليه في تذمرٍ وهو يزيح يده عنه:
, -أدخله، وبعد كده اشتكي.
, غمز له مصححًا بمكرٍ:
, -ما إنت دخلته قبل كده؟ هتطمع؟
, رمقه بنظرة حادة قبل أن ينهره:
, -أهو الأر ده اللي جايبني ورا.
,
, ارتفعت أصوات الضحكات الرجولية الصاخبة، واستمروا على نفس المنوال المشاكس له، فقط من أجل اللهو معه، إلى أن أزف الوقت، وحانت لحظة صعوده، عندئذ شعر بالارتياح، وبدأ يشحذ قواه من أجل التمتع بساعاتٍ لا تعد ولا تحصى من نعيم الجنة في أحضانها.
,
, كان من الأسلم لها، أن تبدل ثيابها، بمساعدة والدتها، تجنبًا لما يمكن أن يحدث من نفورٍ متوقع إن وقعت عيناه على آثار ندوبها المحفورة على جانب كتفها، فتفسد ليلتها قبل أن تبدأ، ويحدث معها مثلما حدث سابقًا، الجفاء الكامل المصحوب بازدراء مهين. أرادت التمهيد له عن ذلك مسبقًا، قبيل تعرية جسدها، فلا تصبح –في اعتقادها- مثارًا للاشمئزاز. ضمت فيروزة طرفي روبها الحريري الأبيض معًا، وأحكمت ربط الوثاق حول خصرها، لئلا ينحل، ويُظهر القميص الموجود أسفل منه، والكاشف لمفاتنها كأنثى شهية.
,
, توسلت لوالدتها بعينٍ راجية:
, -خليكي يا ماما معايا شوية.
, رفضت آمنة بمنطقيةٍ، وهي تمسح على وجنة ابنتها المتوترة:
, -لأ مايصحش، جوزك يقول عني إيه؟ عزول بينكم؟
, أطبقت على شفتيها تكبت ترددها، فواصلت والدتها كلامها المعاتب في جديةٍ:
, -وبعدين خايفة كده ليه؟ إنتي مش اتجوزتي قبل كده؟
, شحبت بشرتها من المجيء على هذه النقطة الحرجة، وقالت في لعثمةٍ ظاهرة:
, -أيوه، بس آ٣ نقطة
,
, قاطعتها آمنة قبل أن تمنحها الفرصة للتبرير، لتشدد عليها:
, -خلاص جمدي قلبك كده، وإياكي تجيبي سيرة المرحوم، مافيش راجل بيحب مراته تتكلم عن واحد تاني قبله.
, بالجمود ذاته المسيطر الآن على تعابيرها سكتت فيروزة، ولم تفصح عن سرها، وشردت في أفكارها المتخبطة، خشيت آمنة من محاولة ابنتها إفساد ليلتها مع زوجها بالخوض في ذكريات الماضي، فكررت عليها تحذيرها:
, -افردي وشك، واضحكي، بلاش عكننة.
, على مضضٍ أخبرتها:
, -حاضر.
,
, تحركت آمنة تجاه الأريكة بعد أن حملت ثوب العرس، ثم فردته عليها بشكلٍ جمالي، ولملمت بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، لتحافظ على نظام الغرفة، أبقت فيروزة نظراتها القلقة عليها، وسألتها في صوتٍ مهتم:
, -طب إنتي هتعملي إيه دلوقتي؟ هترجعي البيت؟
, لم تلتفت ناحيتها حينما جاوبتها:
, -هطلع أبات عند أختك، والصبح إن شاء**** هشأر عليكي، قبل ما أروح البيت لخالك.
, اندهشت لبقائه منفردًا، وسألتها:
, -هو مش هيبات معاكو؟
,
, أجابت عليها بعد زفيرٍ متعب:
, -مرضاش خالص، بس سايب كوكي معايا.
, ردت وهي تسير نحو التسريحة لتمشط ما تمرد من خصلاتها:
, -تمام.
, تأكدت آمنة من إتمام كافة مهامها، وألقت نظرة شاملة على محتويات الغرفة، قبل أن تسير ناحية الباب. توقفت عند أعتابه، واستدارت توصي ابنتها مرة ثانية:
, -خدي بالك من نفسك، وأوعي تزعلي جوزك، راضيه دايمًا عشان **** يباركلك ويراضيكي فيه.
,
, شدت فيروزة من ياقتي روبها، لتظهر فقط مساحة صغيرة، تكاد تكون محدودة من عنقها، وقالت في إيجازٍ، بلا ابتسام:
, -إن شاء****.
, لوحت لها والدتها بيدها تودعها، ودعت لها بعاطفة أمومية، قبل أن تغادر البيت، :
, -**** يسعدك يا حبيبتي، ويرزقك بالخلف الصالح.
, ذهبت عنها، وبقيت بمفردها حبيسة مخاوفها، حاوطت نفسها بذراعيها، لتبث قدرًا من الدفء إلى جسدها، بعد أن استشعرت برودة غريبة تضرب أطرافها، تنهدت داعية **** في سرها:.
,
, -يا رب عديها على خير.
,
, تلكأ، وتذمر، وتحامل على نفسه، إلى أن ظهرت أخيرًا أمام عينيه، وقررت الانصراف. تصنع تميم الابتسام وهو يبصر حماته تدنو منه حاملة في يدها حقيبتها، قال بنوعٍ من المجاملة الزائفة وهو يقف بجوار إطار باب الشقة المفتوح؛ لكنه في قرارة نفسه يريد طردها:
, -ما لسه بدري يا حماتي؟
, ضحكت قائلة بلطفٍ:
, -بدري من عمرك يا ضنايا٣ نقطة
, توقفت قبالته، وربتت على كتفه عدة مرات داعية له:
, -تتهنى مع عروستك يا رب.
,
, تنحى للجانب قائلاً بابتسامةٍ عريضة:
, -**** يكرمك.
, خرجت من البيت، ووقفت عند مطلع الدرج تودعه من جديد:
, -تصبحوا على خير.
, قال في تعجلٍ وهو يحرك الباب برفقٍ استعدادًا لغلقه:
, -وإنتي من أهله، عن إذنك.
, لم ينتظر ردها، بل عاجل في دفعه لينغلق كليًا، حينئذ فرك كفيه معًا، وردد في نشوةً أخذت تتصاعد في بدنه:
, -أخيرًا التتار رحل، يا ساتر، ده أنا قولت هاقضيها كلام لحد ما النهار يطلع.
,
, سحب نفسًا عميقًا يثبط به المشاعر التي هاجت، واهتاجت، وأَنَّت من كثرة المماطلة. تنحنح تميم بصوتٍ شبه مرتفع مُخبرًا بقدومه، بعد أن عدا في اتجاه الردهة، ليصل إلى من تعذب مرارًا وتكرارًا ليبلغ معها نهاية سعيه الدؤوب. وقف عند باب حجرة النوم المقفول، طرق عليه برفقٍ، وتساءل في تحفزٍ متحمس:
, -إيه الأخبار؟
, أتاه صوتها مسموعًا من الداخل:
, -ثواني، وطالعة.
, هتف في تشوقٍ وهو يتراجع خطوتين للخلف:
, -ماشي يا قمر.
,
, انتزع سترته، وحل رباط عنقه، ثم فك زرار ياقة قميصه، وراح يتطلع إلى الباب بترقبٍ شديد، ولسانه يتمتم في خفوتٍ:
, -ليلتنا فل إن شاء****.
,
, أولى ظهره للباب متراجعًا لخطوتين، حينما سمع المقبض يُدار إيذانًا بفتحه، أراد الترفق وهو يتودد إليها، لعلمه بمدى الارتباك الذي يسري في أوصال العروس، في هذه الليلة تحديدًا، خاصة عندما تنفرد مع زوجها ويختلي بها، وبالرغم من سابق خبرته في الزواج إلا أنه استشعر بقوة أنه يخوض التجربة لأول مرة، لأنها تعتمد كليًا على جوارحه، مشاعره، وما ضمره الفؤاد، لا على ما فرضه العقل والمنطق.
,
, قصف قلبه مع صوت صرير الباب وهو يُفتح على مهلٍ، وتضاعف القصف عندما سمع صوتها الناعم يخاطبه:
, -الأوضة فاضية لو حابب تغير هدومك.
,
, ببطءٍ يتخلله كل الشوق، التلهف، الرغبة، والاشتياق، استدار تميم ناحيتها ليتطلع إليها بنظراتٍ شمولية، تجولت على مهلٍ مستمتع، بدءًا من تفاصيل وجهها، وانتهاءً بمسح قوامها. كانت جميلة بثوب عرسها، وصارت أجمل وأشهى بالحرير الناصع الملامس لجسدها. خجلت من نظراته التي تطوف عليها مرارًا وتكرارًا، كأنما يمنح نفسه كل الفرصة للنظر إليها بلا مقاطعة، ولا ممانعة. توردت بشرتها بحمرة دافئة تأثرًا بنظراته الشغوفة، وأخفضت رأسها في حياءٍ، استجمعت فيروزة جأشها لتتحرك، وسارت أمام ناظريه لتتجاوزه وهي تقول في لعثمة مرتبكة، كانت لذيذة على مسامعه:.
,
, -خد راحتك جوا.
, من فوره تحرك تميم ليعترض طريقها، فانتقلت للجانب المعاكس لتتجاوزه، وهي تشعر بتسارع نبضاته، وجدته يستوقفها باعتراضها مرة أخرى، تشجعت لتنظر إليه بنظرة متسائلة، فجاوب على سؤالها غير المنطوق يسألها بنبرة موحية:
, -رايحة فين وسَيباني؟
, تهربت من تلميحه المتواري، ورمشت بعينيها قائلة:
, -عشان مضايقكش.
, تعقدت ملامحه متسائلاً في إنكارٍ:
, -تضايقيني؟
,
, همَّت بتجاوزه، والهروب من محيطه؛ لكنه منعها من المرور، وامتدت قبضتاه لتمسكا بكفيها الباردين، ارتجفت مع لمسته الدافئة، ورفعت عينيها إليه، لتجده يرمقها بكل ما فيهما من حنانٍ، عمق من نظراته إليها، واستطرد يكلمها بأنفاسٍ تضطرم عشقًا:
, -إنتي مش عارفة أنا حلمت باللحظة دي كام مرة، وفضلت أستناها من إمتى٣ نقطة
, لمعت حدقتاها بدمعاتٍ خفيفة متسللة، تأثرًا بحديثه، خفق قلبها أكثر مع اعترافه الصادق:.
,
, -ده أنا مابطلتش دعاء، ولا حتى فقدت الأمل إن **** هيجمعنا في يوم.
, أسبلت عينيها ناحيته، وسألته في غير شكٍ:
, -للدرجادي؟
, قال بيقينٍ كامل، ونظراته تزداد عمقًا:
, -أيوه، ما أنا معرفتش أحب غيرك.
, لدهشتها، شعرت بنفسها تبكي فرحةً خلال سماعها لوصلة اعترافاته، تلك التي احتلت شغاف القلب، وتربعت في ثناياه، أمال رأسه ناحية شفتيها المرتعشتين هامسًا في هيامٍ واله:
, -إنتي أول وآخر حب في حياتي.
,
, اضطربت أنفاسها وهي تردد بصدرٍ شبه ناهج:
, -وأنا..
, اقترب بشفتيه من خاصتها متسائلاً بأنفاسٍ أحرقها لهيب الحب:
, -إنتي إيه؟
, خفضت من صوتها وهي تفتح قلبها لأول مرة معترفة له:
, -وأنا محبتش غيرك.
,
, تلامست الشفاه في نعومةٍ مغرية، فسرت عدة رعدات قاصفة، عاصفة، مهيجة للمشاعر، لثمهما تميم، ومنحها قبلة صغيرة، رقيقة، ممهدة لما هو آتٍ، لتزداد رويدًا رويدًا في عمقها، مع استمراره في تذوق رحيق شفتيها الشهيتين، أحست فيروزة بيديه تجذباها في تمهلٍ إلى أحضانه، استسلمت وهي تحت تأثير قبلاته الطاغية، مستشعرة باقتحام قوافلٍ من البهجة إلى أعماق أعماقها، تستحث فيها كل ما هو كامن للانتفاض، والاشتعال.
,
, حرر تميم كفيها؛ لكنه حاوط خصرها بذراعيه، شعرت به يضمها، ويلصقها بصدره، فأرخت راحتيها على كتفيه، دون أن تتحرر الشفاه، انسجما، وتناغما، وتناسا ما سواهما، بدا الانسحاب في تلك اللحظة أمرًا مستحيلاً، تلاحمهما المفعم بالرغبة والشوق جعلهما يتمتعان بكل ثانية، كأنها لحظة استثنائية لن تتكرر!
,
, تراجع تميم لمسافة لا تقدر بعقلة إصبع ليلتقط أنفاسه، ودقات قلبه تثور كالبركان الهائج من شدتها، همس مناديًا باسمها، كما لو كان يعزف مقطوعة فريدة:
, - فيروزة!
, عادت لتتنفس بعد أن توقفت للحظات عن الشعور بأي شيء سوى تيار المشاعر الجارفة الذي اجتاحها، وأباد ما بها من دفاعاتٍ ظنت أنها ستصمد للأخير. ردت النداء بآخر تائه، مغري، يدعو للمزيد في طياته:
, - تميم!
,
, تكررت القبلة، ولم ينتقص الشغف، بل تنوع، وتعدد، وأصبح له صنوفًا في التعبير عنه، بالكاد جارته في عِظم عشقه، وراحت ترجع رأسها للخلف وصدرها يلهث من فرط الحماس، أخذها تميم في حضنه، وأسند رأسها على كتفه، ليدور بيده صعودًا وهبوطًا على ظهرها في رفقٍ، تنهد مليًا، وأخبرها بحبٍ ما زالت جمراته تتقد:
, -ياه، أد إيه كان نفسي أخدك في حضني.
,
, تلقائيًا امتد ذراعاها خلف ظهره لتحاوطه، التصقت به مثلما التصق بها، حتى شعرت وكأنها ستذوب في أحضانه، أعطى تميم جبينها قبلة، وسألها في عتابٍ:
, -وعايزاني أسيبك كده بالساهل؟
, رفعت عينيها لتنظر إليه، وقبل أن تفكر في منحه الجواب، وجدته يرخي ذراعًا ليلفه حول ركبتيها، حملها في خفةٍ، فشهقت لحركته المفاجأة، وسألته في دهشة حرجة:
, -إنت بتعمل إيه؟
, هتف معترضًا بابتسامة بشوشة:
, -لأ، أنا من حقي أشيلك.
,
, ركلت بساقيها في الهواء، وتلوت بجسدها محاولة التحرر منه وهي تحتج في خجلٍ:
, -ماينفعش، نزلني لو سمحت.
, مازحها بنفس الوجه المسترخي في تعابيره:
, -يا أبلة أنا شيلتك وإنتي غميانة أكتر ما إنتي فايقة.
, كتمت ضحكتها المرحة، وعاتبته في دلالٍ أغراه:
, -برضوه أبلة؟ مزهقتش؟
, سار حاملاً إياها نحو غرفتهما قائلاً بنبرة ذات مغزى، وهذه النظرة اللعوب تتراقص في حدقتيه:
, -أزهق؟ ده أنا لسه هاقول أحلى كلام ليكي.
,
, واصل السير بها إلى أن مددها على الفراش، استلقت على ظهرها، وحاولت الاعتدال، قبل أن يغرقها بفيض مشاعره، قائلة بجديةٍ، رغم رنة التردد المحسوسة في صوتها:
, -طب، تميم، أنا لازم أقولك على حاجة.
, على ما يبدو لم يركز مع جديتها، والتهت حواسه بالتمتع بهذا الجمال المسجي أمامه، منحها ابتسامة نقية وهو يثني على ما وهبه **** لها من سمات تسلب العقول:
, -هو في كده، ماشاء ****، ده أنا قاعد مع حورية من حوريات الجنة.
,
, ضمت ركبتيها إلى صدرها، وطالعته بنظرة جادة، وهي ترجوه:
, -اسمعني بس.
, استلقى إلى جوارها، وأمسك بكفها يداعب جلده بإبهامه، نظر إليها في وجدٍ متعاظم، واستطرد هامسًا:
, -سيبك من أي حاجة تنكد علينا، الليلة ليلتنا.
, سحبت يدها من راحته، واعتدلت جالسة لتخاطبه في جدية تامة:
, -معلش، دي حاجة مهمة.
, جلس مستقيمًا هو الآخر، وأبدى استعداده لسماعها، فقال:
, -إيه يا حبيبة قلبي؟
, أمسك التردد بلسانها وهي تستجمع كل شجاعتها لتخبره:.
,
, -أنا، زمان لما حصلت حريقة الدكان٣ نقطة
, سكتت لحظيًا، فأكمل جملتها بمزيدٍ من التوضيح؛ كأنما يساعدها على تفريغ ما يجوس في صدرها:
, -بتاع عم غريب ؛ أبو هيثم **** يرحمه.
, هزت رأسها هاتفة:
, -أيوه هو.
,
, امتدت أصابعه لتداعب بشرة وجهها الرقيقة بحنوٍ رقيق، فاقشعرت من لمساته المغرية، تلك التي تبعث إشارات خفية لتأجيج الرغبة فيها، حاولت تجنبها قدر المستطاع، والتركيز على ما تريد قوله، سحبت نفسًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، وحادثته:
, -بص، أنا أصلي، يعني مكونتش حابة افتكر اللي حصل وقتها، لأنه كان مؤذي أوي ليا.
, علق عليها في هدوءٍ، وأصابعه تنخفض نحو كتفها لتمسح عليه في لينٍ:
, -كانت أيام وعدت، ماتفكريش فيها.
,
, أبعدت يده برفقٍ عن كتفها، وقالت برأس مطأطأ في توجسٍ:
, -المهم النار طالت جزء من جسمي، وعملت فيه زي آ، تشوه.
, تجمد في مكانه لحظيًا ومصدومًا من الوصف الأخير لما أصاب جسدها رغمًا عنها، كانت لا تزال مخفضة لرأسها في قلقٍ مرعوب وهي تواصل كلامها إليه:
, -أنا حبيت أقولك بده، عشان ما تتفاجئش، وتقرف مني.
, انتفض في استهجانٍ مستاء وهو يكرر في صيغة تساؤلية:
, -أنا؟ أقرف منك؟ إنتي بتقولي إيه؟!
,
, حاولت أن ترفع عينيها لتتطلع إليه وهي تبرر له أسبابها:
, -معلش، عشان آ..
, قاطعها قائلاً بصوتٍ حازم، حاسم، منهي لأي هواجس تدور في عقلها:
, -إنتي أنقذتيني من الموت يا فيروزة.
, هب ناهضًا من جوارها، وخلع قميصه عنه في حركة شبه منفعلة، فحملقت فيه مدهوشة، وسألته بعضلات وجه متقلصة، اِربد بها القلق الكبير أيضًا:
, -إنت بتعمل إيه؟
,
, استدار لتنظر إلى ظهره العاري، وأشار بيده الأخرى لموضع التشوه المنتشر فيه مرددًا في صوتٍ شبه حاد:
, -شايفة ده، لولاكي كان زماني مُت.
, انفرجت شفتاها عن صدمة ذاهلة، وتبعته بنظراتٍ تائهة لم تفق بعد من دهشتها وهو يجثو على ركبتيه أمامها، احتضن من جديد كفيها، وأردف يخبرها بصوتٍ شبه منفعل:
, -إنتي الملاك اللي **** بعته ليا يطلعني من وسط النار.
, تاهت منها الكلمات، وارتعش قلبها وهو ما زال يأسرها باعترافاته:.
,
, -كنت متأكد إني عارفك من زمان، بس معنديش حاجة ملموسة، لحد ما لاقيتك مرتبطة برسمة الطاووس، ساعتها زاد يقيني بإنك نفس البنت اللي رمت نفسها في النار عشاني، ومن غير ما تعرفني، عشان تنجدني من الموت.
, جف حلقها، ولم يكف قلبها عن الخفقان، وصوته يعاتبها في رفقٍ:
, -تقومي تقولي الكلام البايخ ده؟
, ارتجفت، وهي تهمس بألمٍ:
, -غصب عني، سمعته زمان، وقهرني.
,
, نهض جالسًا إلى جوارها على الفراش، ترك كفيها، واحتضن وجهها براحتيه، قربها إليه لتشعر بحُر أنفاسه عندما استطرد مزيدًا في اعترافه بعشقها:
, -إنتي غالية أوي، وغلاوتك كل يوم بتزيد في قلبي.
, ارتعشت شفتاها منادية باسمه:
, - تميم.
, قرب وجهها منه، وهتف مؤكدًا بصدقٍ خالص:
, -أنا بحبك.
,
, همست من بين شفتيها باسمه، بطريقة ناعمة، جاذبة، مغرية، كأنما تقدم له دعوة مفتوحة للتحليق في أفقٍ لطالما انتظره، وعاش وهمه في أحلامه المحرمة:
, - تميم!
, كادت شفتاه تلتصقان بخصتها وهو يتابع وصلة اعترافه:
, -أنا عرفت يعني إيه العشق معاكي.
, حركت وجهها لتلامس وجنتها صدغه، مرغتها فيه برفقٍ، وكررت نداء الإغراء الخفيض الناعم:
, - تميم!
, أغمض عينيه مستمتعًا بما يظفر به من درجات الإغراء والإغواء، ليردد في خفوتٍ:.
,
, -إنتي عطية **** ليا.
, انبعثت منها تأويهة مشبعة بدفءٍ لا قِبل لها به، وهي ما زالت تناديه، بما دغدغ روحه، واستثارها:
, - تميم.
, -واستحالة أفرط فيكي.
,
, قال عبارته تلك وهو ينحني على شفتيها يقبلها بشراهةٍ ورغبة، في حين امتدت يده الأخرى لتزيح عن كتفيها روبها برفقٍ، فانكمشت، وتصلبت، خشية إحساسه بالنفور منها، لم يمنحها الفرصة للفكاك منه، حاصرها بقربه المهلك، ضمها إليه، فكادت تذوي في أحضانه، وأغرقها بالمزيد من القبلات الجائعة، الباعثة على موجات من النشوة، والرغبة، فأخذها الدوار، تأوهت في صوتٍ حاولت كتمه وهو يلامس بشفتيه منحنى عنقها، لينخفض نحو موضع ندوبها، نادته بتنهيدة خافتة للغاية:.
,
, - تميم!
, لم تعرف ما الذي ادخره الزمن لها وهي بين أحضانه، فما حُرمت منه قسرًا، نالته نصرًا، غابا معًا عن الوجود، وهاما في ملكوتٍ خاصٍ بهما، مرت الدقائق عليهما كأنها أزمنة وأزمنة، هفا إليها، والتهف عشقًا، إلى أن صار كل ما بها مستسلمًا له، تحرَّقت للامتلاء، وتلهَّف للارتواء، عند المنتهى فاضت واستفاضت، وانكشف السر عنها.
,
, نهض تميم عنها، واعتدل محدقًا في صدمة غير متوقعة، متأملاً بشارة لم تأتِ في الحسبان أبدًا، بعد أن تفجرت ينابيع العشق، وأعطت دلالاتها الحيَّة، ليهتف في عدم تصديق:
, -مش معقولة، إنتي كنتي آ٣ نقطة
, أكملت الجملة عنه، بوجهٍ مشتعل من حمرة الخجل:
, -بنت بنوت.
, ظل على حالته المصدومة وهي تفسر له:
, -دي الحاجة التانية اللي كنت عاوزة أقولهالك.
,
, تهللت أساريره وابتهجت على الأخير، بل كاد يقفز من فرط سعادته وهو يتساءل في نفس الصوت المذهول، ويده تمر على أعلى رأسه:
, -يعني أنا أول حد؟
, تطلعت إليه بحياءٍ وهي تشد الغطاء على جسدها تغطيه؛ لكنه دنا منها معاودًا الجلوس ملتصقًا بها وهو يخبرها بغموضٍ:
, -دلوقتي أنا فهمت.
, نظرت بتحيرٍ وهي تسأله:
, -فهمت إيه؟
, أخذها في حضنه، وشدد من ضمه إلى جسده، ليحتويها، ثم قال مبتسمًا في نشوة عارمة:.
,
, -كلام الدكتورة، والتوصيات الغريبة.
, رمقته بنظرة مطولة جمعت بين الخجل من اعترافها والثقة في تقديره، عضت على شفتها السفلى، وهمست بتحرجٍ:
, -محدش يعرف بالحكاية دي غيرها، حتى ماما معندهاش خبر.
, رفعها بقبضتيه في خفة ليجلسها في حجره، ولفها كليًا بذراعيه، كأنما يحميها، ثم مال على أذنها يداعب طرفه بهمسه المشتعل:
, - فيروزة!
, لم تبعد نظراتها المليئة بالحب وهي تقول:
, -نعم.
,
, أحنى رأسه عليها، يريد نيل عشرات القبلات من العسل المصفى الموجود على شفتيها، بدت أشهى وأغوى وهي بين أحضانه، وألذ وأطيب وهي تمنحه أكثر مما تمنى في أقصى أحلامه، توغَّل تميم بنظراته الساهمة في عمق لؤلؤتيها الساحرتين، وهو يدنو بهوادةٍ مهلكة للأعصاب منها، لفح لهيب أنفاسه بشرتها الساخنة، وهيأها للمزيد من نوبات الحب العاصف وهو ينطق هامسًا:
, -إنتي قلبي، من غيرك أنا ميت٣ نقطة!
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%