NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الطاووس الأبيض (الملحق) | السلسلة الخامسة | ـ ستة أجزاء 5/11/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,833
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
14,902
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
➤السابقة



١
المشهد الأول عودة الأبطال

يتضمن الملحق مشهدين:
, -الأول استثنائي منفصل
, -والثاني فصل كامل متصل الأحداث
,
, #عودة_الأبطال
,
, ملأتها مشاعر البهجة والارتياح وهي تتجول بناظريها على الكورنيش الذي احتوى على عشرات من عربات الطعام المختلفة، معظمها تعمل فيه شابات صغيرات أثبتن بجدارة قدرتهن على تأسيس عملهن الخاص بالمحدود من المال، تذكرت حينها كيف كابدت وكافحت لتضع أول لَبِنة في بناء مشروعها، ورغم ما خاضته من صعوبات، إلا أنها نجحت أخيرًا في تحقيق أحلامها. كان الوقت يتجاوز العشاء بقليل، فراحت المنطقة تزدحم بالتدريج بالعائلات والصغار، الكل مستمتع بوقته هنا، فقد بات ذلك المكان هو البقعة المفضلة للجميع لتمضية أسعد اللحظات بها. سرعان ما خفضت من بصرها حينما شعرت بتلك الوخزة المباغتة، وضعت يدها على بطنها المتكور، وتحسسه بترفقٍ حذر، فقطعة منها تنمو بداخلها، ومع تعاقب الأيام، أصبحت متشوقة للغاية للقائها واحتضانها بين ذراعيها. التفتت "فيروزة" إلى جانبها عندما أحست باقتراب نصفها الآخر منها، جلس "تميم" مجاورًا لها، ومد يده ناحيتها بشطيرة ساخنة، رائحتها الذكية أثارت المعدة وفتحت الشهية. أخذتها منه وسألته بمكرٍ:
, -أوعى تكون اتخانقت مع البنت اللي عملتها؟
, رمقها بهذه النظرة المعاتبة قبل أن يتنحنح مرددًا:
, -خلاص بقى، أنا اتعلمت الدرس.
, ابتسمت في حبور، وعلقت وهي تقرب الشطيرة من فمها تمهيدًا لقضم قطعة منها:
, -شاطر.
, تناول مثلها خاصته، ثم تكلم لاحقًا بشيءٍ من الجدية:
, -تعرفي، أنا بفكر أعمل عربية للفواكه هنا، وتتباع بالواحدة للي عاوز يشتري لنفسه أو عياله.
, تحمست لاقتراحه، وانعكس ذلك على ملامحها، وأيضًا في نبرتها وهي تعقب عليه:
, -تصدق فكرة٣ نقطة
, أرادت المزاح معه، فغمزت له بطرف عينها مستأنفة كلامها:
, -وأنا هقف أبيع بنفسي كمان!
, رفع حاجبه للأعلى مبديًا استنكاره، فتحدته بهذه النظرة المغيظة، ليخبرها بعدئذ بلا ابتسامٍ:
, -لما تولدي نبقى نشوف الحكاية دي.
, رأت في قسماته هذا التعبير المستهزئ بها، فسألته بترقبٍ:
, -شكلك بتاخدني على أد عقلي؟!!
, بزغت ابتسامته وهو يرد:
, -أومال إيه يا أبلة!
, زمت شفتيها مغمغمة:
, -ممم.. أبلة!
, تركت ما تبقى من الشطيرة جانبها، وطلبت منه بلهجة آمرة قليلًا:
, -طب هاتلي ترمس، أنا نفسي فيه.
, جاراها في طلبها متسائلًا باهتمامٍ:
, -مش عاوزة حِلبة كمان وحمص؟
, هزت رأسها إيجابًا وهي تكلمه:
, -ماشي، وخليه يزود الشطة.
, حك مؤخرة عنقه للحظةٍ، ثم خاطبها في لهجةٍ جمعت بين الجد والهزل:
, -احنا نكلم الدكتور الأول نسأله ده مسموح ولا لأ، عشان آخر مرة مهزقني جامد.
, سألته في تحيزٍ وهي تعقد ما بين حاجبيها:
, -يعني عاوز يطلع للبت ترمسة في كتفها؟!!
, سألها مستهجنًا:
, -هي مش شهور الوحم دي كانت في الأول، ده إنتي فاضلك بتاع شهرين وتولدي.
, رفعت رأسها للأعلى في إباء، وأخبرته بثقة وهي تكافح لإخفاء بسمتها المستمتعة:
, -الوحم مالوش ميعاد.
, همهم معقبًا بقدرٍ من السخرية:
, -قصدك تقولي الوحم لا دين له!
, لم تتبين ما يردده بصوته الخافت، فكررت عليه:
, -مش سمعاك.
, سلط كامل نظراته عليها، وقال بهدوءٍ:
, -هنكلم الدكتور الأول ونشوف رأيه.
, استندت "فيروزة" بيدها على كفه، كمحاولة منها للنهوض من جلستها وهي تخبره:
, -طيب يالا لأحسن مش قادرة من رجلي.
, عاونها على الوقوف، وجعلها تتأبط ذراعه بعدما جمع أشيائهما الخاصة، ليبدأ كلاهما في المشي معًا بتمهلٍ حذر. وقعت عينا "تميم" على ما ترتديه في قدميها، فاسترعى ذلك انتباهه وفضوله. عاود النظر إليها معلقًا بمزاحٍ طريف:
, -حلو الشبشب بتاعي، مريحك؟
, قالت وهي تهز رأسها بخفة:
, -يدوب .. ده اللي دخل في رجلي.
, وقبل أن يفكر في انتقاد اختياراتها الرجالية، هتفت تحذره وهي تشير بسبابتها:
, -واعمل حسابك هشوف إيه ينفعني في دولابك، وهاخده.
, حرك رأسه موافقًا قبل أن يؤكد لها بمحبةٍ عظيمة:
, -إنتي معاكي الأصل يا ست الأبلوات!
, أراحت رأسها على جانب كتفه وهي تتهادى في خطاها، لتهمس له بعشقٍ ما زال نابضًا في كل ذرة فيها:
, -وهو في أجدع من الأصل اللي أنا حبيته؟!
 
٢
المشهد الثاني

النهار كان لطيفًا، والأجواء هادئة، رغم أن الوقت اقترب من الظهيرة تقريبًا، إلا أن بداية فترة الامتحانات للطلبة جعلت الغالبية تعكف عن الذهاب إلى أماكن التنزه، وحتى الأسواق، فأصبح فقط من يحتاج لابتياع الطعام وما ينقص المنزل هو المتواجد فقط في محيط المنطقة.
, عاودت "فيروزة" أدراجها بعدما انتهت من تأمل الشارع شبه الفارغ، لتدنو من صغيرتها الغافلة في عربة الأطفال الخاصة بها، والمجاورة لمكتبها. وجهها الملائكي وابتسامتها العفوية التي تصدر عنها كل حين، جعل إحساسها بالسرور والرضا يتعاظم بداخلها. تأكدت "فيروزة" من تغطية جسد طفلتها لئلا تصيبها لفحة من الهواء فتبرد، ثم استقرت جالسة خلف مكتبها، لتواصل تدقيق أوراق الحسابات الموضوعة أمامها، راجعتها بتركيزٍ إلى أن قطع انتباهها صوت مساعدتها المتسائل:
, -هروح يا أبلة أجيب حاجة أكلها من الكشك اللي جمبنا.
, رفعت بصرها ناظرة إليها، وخاطبتها باسمة في لطافةٍ:
, -طب استني هاتيلي معاكي كيكة ولا حاجة مسكرة.
, ثم مدت يدها لتمسك بحقيبتها وأخرجت من حافظتها ورقة نقدية، ناولتها إياها، وأصرت عليها:
, -والحساب عندي.
, رفضت مساعدتها بحرجٍ:
, -لأ يا أبلة، خير **** موجود.
, حافظت على نقاء بسمتها الصافية وهي تصر عليها:
, -أنا عارفة، بس دي حاجة بسيطة.
, أخذتها منها وقالت بامتنانٍ:
, -تعيشي لينا يا رب.
, ردت بإيجازٍ دون أن تشوب بسمتها شائبة:
, -حبيبتي.
, شيعتها بنظرتها إلى أن غادرت محلها، فاتجهت ببصرها نحو الأوراق، جمعت ما انتهت منه جانبًا، وخاطبت نفسها:
, -ناقص بس أضيف فواتير الأسبوع اللي فات، ويبقى كده قفلت الحساب.
, تنبهت لصوت وقع الأقدام حين ولج أحدهم للداخل، نظرت إليه بإمعانٍ، فوجدت مظهره الخارجي مُريبًا، مما وترها إلى حدٍ ما، لم يكن مهندم الثياب، وكان يدير رأسه بتوتر للخارج كل بضعة ثوانٍ، رأت في ملامح وجهه المتجهمة تعبيرًا غامضًا جعل شعورًا غريزيًا بالقلق ينتفض بداخلها. انتصبت في جلستها، وسألته بصوتٍ جاد:
, -خير يا أستاذ؟ أساعدك في حاجة؟
, في البداية لم ينطق بشيء، ظل يتلفت حوله بطريقة باعثة على المزيد من القلق، كادت على وشك الحديث؛ لكنه جعلها تبتلع حروف كلماتها في جوفها عندما هدر فجأة يأمرها بعدائية مخيفة، وقد أشهر مدية في وجهها:
, -اِبقي بالمعلوم!
, نظرت له في ذعرٍ، ورددت وهي على حالة تامة من الذهول الممزوج بالخوف:
, -إنت بتعمل إيه؟
, استمر على صياحه المهدد ملوحًا بيده في الهواء:
, -اتطرشتي؟ اطلعي بكل الفلوس اللي في الدرج وإلا هشق بطنك!!
, لم يكن بالممازح لتواجهه، أشارت له بيدها وهي تكلمه في صوتٍ مرتجف:
, -طب اهدى.
, لكونه على معرفة بطبيعة جريمته التي يرتكبها في وضحِ النهار، كان فاقدًا للصبر، متوترًا للغاية، لذا هلل بها في تهديد صريح جعل قلبها ينقبض بقوةٍ:
, -يالا يا ولية ماتخلنيش أعملها معاكي إنتي والبت دي.
, تحولت نظراته النارية تجاه طفلتها، فانتابها كل الرعب، دون إضاعة للوقت، هزت رأسها بإيماءات متواترة وهي ترد:
, -طيب حاضر، هديك كل اللي إنت عاوزه.
, اندفعت بجسدها أمام عربة طفلتها لتشكل درعًا يحميها، ثم مدت يدها لتفتح الدرج السفلي لتأخذ منه المال الموضوع فيه، انتفضت مرتجفة في هلعٍ عندما صرخ بها مرة أخرى:
, -انجزي في يومك!
, أخبرته في الحال:
, -حاضر، و**** بلملك كل حاجة.
, تخشبت في موضعها وقد سمعت مساعدتها تصيح في ذعرٍ:
, -يا لهوي يانا! مين ده؟!!
, نظرت ناحيتها فرأتها تفر راكضة لتستغيث بمن في الخارج، فحاول ذلك المجرم اللحاق بها وهو يهتف في خوف مماثل لها؛ لكنه مخلوطٍ بالعداء والتهديد:
, -اقفي عندك!
, جاء صوت المساعدة مجلجلًا على الأخير:
, -الحقونا يا خلق، حــــــــــــــــــرامي!
, بغريزة أمومية دافقة، استدارت "فيروزة" تجاه عربة الطفلة، انتشلتها منها، وضمتها إلى صدرها لتحميها، وصوت مساعدتها لا يزال يطلب النجدة ممن يتواجدون بالخارج.
,
, ٢٥ شرطة
,
, لم يكن من النوع الكسول المتراخي في عمله، بل كان حريصًا أشد الحرص على مراجعة كل شيء بنفسه، والوقوف على رأس الحاضرين، ليتأكد من عدم وجود ما ينقص. وضع "تميم" يديه أعلى منتصف خصره مراقبًا ما يقوم به العمال من تعبئة الخضار والفواكه الطازجة في الأقفاص البلاستيكية تمهيدًا لرصها في الشاحنة الخاصة بأحد عملائهم. نظر تجاه أحد رجاله عندما كلمه بصوتٍ شبه لاهث:
, -توريد البحر جاهز على التحميل يا معلم.
, استحسن المجهود المبذول لإنهاء الكثير من العمل في وقت قليل، وقال وهو يربت على كتفه:
, -عاش.
, التفت بجسده دفعة واحدة عندما جاء صوتًا من خلفه يناديه بما أثار في نفسه الفزع:
, -الحق يا معلم "تميم"!
, قطب جبينه متسائلًا:
, -في إيه؟
, بالكاد التقط الرجل أنفاسه، وأخبره مشيرًا بيده:
, -بيقولوا في حرامي عند محل جماعتك.
, كالمذعور اندفع ركضًا نحو الطريق المؤدي لمقر عملها وهو يتوعده بشراسة جمة:
, -نهاره إسود.
, في التو سارع الحاج "بدير" باستدعاء كافة المتواجدين ليلحقوا بابنه صائحًا في صوتٍ آمر:
, -نادوا الرجالة أوام وحصلوا "تميم".
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٣

الهروب من المأزق الذي وضع نفسه فيه كان مستحيلًا مع الحشد الغفير الذي تجمهر كسرعة البرق، فأصبحت الاختيارات المتاحة أمامه محدودة للغاية، لم يكن لديه أي مهرب، لهذا احتمى ذلك الخارج عن القانون بالمحل، وحاصر الأم وطفلتها بتهديده لكلتيهما بمديته.
, -لو حد قرب هجيب أجلها!
, بكت الطفلة خوفًا، وزادت "فيروزة" من ضمها لها لتأنى بها عن بطش ذلك الأهوج المتهور، أولته ظهرها، وحاولت قدر استطاعتها تهدئته؛ لكنه كان فاقدًا لذرات العقل، اتجهت أنظارها تلقائيًا نحو الباب عندما سمعت الصوت المألوف يهدد بقوة جعلت شعورًا مريحًا بالأمان يتخلل إليها:
, -ما يخدش الروح غير اللي خالقها!
, عفويًا نطق لسانها باسمه في صوتٍ هامس:
, -"تميم"!
, صاح المجرم يهدده بعدم الاقتراب، وذراعه الممسك بالمدية موجهًا صوب زوجته وطفلته:
, -أحسنلك ماتخشش هنا بدل ما أسيح دمـــهم!
, بصوت يضاهيه في التهديد واصل "تميم" الاقتراب منه هادرًا:
, -قبل ما تفكر تعملها هتكون متكوم على الأرض.
, لم يمهله الفرصة للرد، حيث اندفع تجاهه، وانقض عليه كالثور الهائج، مُلقيًا بثقل جسده عليه، مما جعله يفقد اتزانه من هول المفاجأة، تمكن "تميم" من إيقاعه أرضًا، وأطبق عليه بكله ليشل حركته. لم يكد يفيق المجرم من صدمة سقوطه، حتى وجده يعتليه، ويثبته بثقل جسده، ليكيل له عددًا لا بأس به من اللكمات القاسية، فملأت وجهه بالتورمات والانتفاخات، ومع ذلك حاول دفعه عنه، وإيذائه بمديته؛ فصرخت "فيروزة" في هلعٍ محذرة زوجها:
, -حاسب يا "تميم"!
, استطاع تفادي الضربة المباغتة منه في مهارة، واختطف المدية من يده، ليقذفها بعيدًا، ثم توعده بلا رحمة:
, -قسمًا برب العزة لهخليك عبرة للكل.
, وكأن أتونًا من الجحيم قد فُتح لتوه، لم يترك "تميم" موضعًا في جسده إلا وأبرحه ضربًا، لينهض بعدئذ عنه، ليركله بقدمه في عنفٍ جاعلًا إياه يصرخ من الألم المبرح. لم يحاول أي فرد التدخل، اكتفوا برؤيته يفرغ فيه جم غضبه، لكونه يستحق ذلك العقاب، خاصة مع تكرار حوادث السرقات بالإكراه في المنطقة، وكذلك الأماكن المجاورة.
, لحظاتٍ، وجاء الحاج "بدير" إلى المحل، ليجد ابنه على وشك إزهاق روح ذلك المجرم، فأقبل عليه يرجوه:
, -ماتضيعش نفسك عشان واحد زيه.
, لم يصغِ إليه، وراح يجرجره أرضًا تارة، ويركله تارة أخرى، إلى أن توسلته "فيروزة" هي الأخرى بصوتٍ شبه باكٍ:
, -عشان خاطر بنتنا يا "تميم".
, رد عليها والده مؤيدًا ما تقول:
, -اسمع الكلام يا ابني.
, اضطر على مضضٍ الاستجابة لهما، واستفاق من نوبة الغضب الهوجاء التي سيطرت عليه، ليأمر بعض رجاله ممن لحقوا به في صوت لاهج:
, -كتفوه وهاتوه على التلاجة، ورقوا عليه لحد ما البوليس يجي!
, انصاع له رجاله، وقاموا بسحب ذلك المجرم بعد تقييد يديه، وجره إلى الخارج، وسط تصفيق وتهليل الحاضرين، ليقوم بعدها الحاج "بدير" بالربت على كتف ابنه قليلًا، كنوعٍ من التقدير المعنوي له، بينما وجه "تميم" حديثه إلى زوجته يسألها بصدرٍ ما زال يتحرك علوًا وهبوطًا جراء انفعاله:
, -إنتي كويسة؟
, أجابته وهي ما تزال تحتضن ابنتها:
, -أيوه.
, امتدت ذراعه لتطوقها من كتفيها مخاطبًا إياها:
, -تعالي معايا.
, زوت ما بين حاجبيها متسائلة في شيءٍ من التحير:
, -والمحل؟
, هتف بزفيرٍ حانق:
, -يندقع دلوقتي.
, كانت متفهمة لضيقه، ومع ذلك أصرت على البقاء قائلة:
, -ده في شغلي وحاجات ناس وآ٣ نقطة
, قاطعها قبل أن تستكمل جملتها للنهاية، موجهًا حديثه هذه المرة لواحدٍ من العمال:
, -إنت يا ابني تقف هنا ناضورجي لحد ما الداخلية تشرف.
, رد عليه بلا جدالٍ:
, -أوامرك يا معلم.
, ابتسمت "فيروزة" في امتنانٍ شاكر لاهتمامه بذلك، وسارت معه نحو الخارج وهي متنعمة بإحساس الأمان الذي يغمرها دومًا بغزارةٍ في قربه.
,
, ٢٠ شرطة
,
, ظنت أنها مجرد حادثة عابرة ستمضي مع ما يمضي من مشكلات معتادة؛ لكن تلك المرة تحديدًا رفض تمرير الأمر مرور الكرام، بالكاد انتظر ذهاب الشرطة، ليظهر واحتجاجه الشديد رافضًا مواصلتها للعمل في محلها، فاعترضت على ما اعتبرته قراره المجحف بعنادٍ مقابل له، فأخبرها بغير تساهلٍ، دون مراعاة لكونهما لا يزالا في باحة الدكان، والمارة ينظرون إليهما بفضولٍ متحير:
, -مليون مرة قولتلك احنا مش محتاجين الشغل ده، وإنتي برضوه مصممة تركبي دماغك، وأهوو اللي كنت خايف منه حصل.
, لم تترك صغيرتها، وراحت تهدهدها في رفقٍ وهي ترد عليه بتصميمٍ:
, -ده وارد يحصل مع أي حد، مش أنا بس، والحمدلله الموضوع اتلم.
, نظر لها بغير اقتناعٍ، ولوح بيده في الهواء مغمغمًا:
, -**** أعلم المرة الجاية هلحقك ولا لأ!
, ردت عليه بتبرمٍ:
, -إنت بتقول أي كلام وخلاص.
, اغتاظ من عدم مبالاتها، وصاح في لهجة من يقرر لا من يخير وهو يشير بيده:
, -ماشي، بقى كده، طب اسمعيني بقى، أنا جبت الناهية في الموضوع ده، المحل هيتفقل!
, استشاطت غضبًا من تعسفه المتزمت، وتمسكت باعتراضها قائلة:
, -مش هيحصل.
, لم يرغب الحاج "بدير" في التدخل بينهما منذ نشوب جدالهما؛ لكن حينما وصل النقاش إلى طريقٍ مسدود، هتف بهما كنوعٍ من النصيحة المشوبة بالتحذير:
, -يا ولاد ماينفعش الزعيق كده في الشارع، الناس بتتفرج عليكم.
, أشاح "تميم" بوجه بعيدًا، وبرطم بكلمات غير مسموعة لهما، في حين تابع الحاج "بدير" كلامه مخاطبًا "فيروزة":
, -خدي بنتك وروحي عند الحاجة "ونيسة" دلوقتي.
, اعترضت عليه بتذمرٍ:
, -يا عمي آ٣ نقطة
, قاطعها مشيرًا بعكازه وهو يرفعه قليلًا عن الأرضية:
, -اسمعي الكلام يا بنتي.
, ألقت نظرة سريعة نحو زوجها قبل أن تستقر بعينيها على وجه حماها، لم تجد بُدًا من الامتثال له، فهزت رأسها مهمهمة في طاعة:
, -ماشي، حاضر.
, ثم عاودت التحديق في ظهر زوجها، وأكملت بتحفزٍ:
, -بس ماتخليهوش يبعت حد ورايا! أنا أعرف أحمي نفسي كويس٣ نقطة
, التفت "تميم" ناظرًا إليها بنظرات حانقة، وردد مستنكرًا في زفيرٍ متشنج:
, -سامع يا حاج؟
, أشار له والده بيده الأخرى ليكف عن الكلام، وخاطب زوجة ابنه في لينٍ:
, -شوفي يا بنتي، هو من خوفه عليكي بيتصرف كده، ما إنتي الغالية٣ نقطة
, ضاقت نظراتها نحو "تميم"، فتابع والده على نفس المنوال لإقناعها:
, -والواد اللي جاي معاكي هيشيل عنك البت بدل ما تتعبي بيها من طول السكة٣ نقطة
, كادت تنبس بشيءٍ، فأسكتها بابتسامته الوقورة:
, -مش عاوز اعتراض.
, رغم علامات الضيق الظاهرة على محياها إلا أنها هزت رأسها مرددة:
, -حاضر.
, غادرت بعدما اصطحبها أحد عمال الدكان، لينفجر "تميم" شاكيًا إلى أبيه عنادها وصلابة رأسها، فأخبره في هدوءٍ، محاولًا امتصاص غضبه الذي لا يزال مستعرًا فيه:
, -يا ابني بالراحة، الأمور ما تتخدش عافية.
, أمسك بالكرسي الخشبي ووضعه بجوار أبيه متابعًا شكواه المنزعجة:
, -أنا غلبت معاها، احنا مش محتاجين الهم ده، وهي ولا كأنها سامعة، الكلام يدخل من هنا، ويخرج من الجنب التاني.
, مد الحاج "بدير" يده نحو ذراعه ليجذبه منه قائلًا في نفس النبرة الهادئة العقلانية:
, -طب اقعد بس، وخلينا نتكلم بالعقل.
, نفخ في سأم، ومع ذلك لم يعارض طلبه، وجلس مجاورًاله ليصغي إلى ما يريد قوله، وعيناه المحتدتان تتابعان حركة العمال في نقل ورصالبضائع بالشاحنات.
 
٤

كان الملجأ لها، بل والمتنفس المتاح الآمن، حينما تقع في أي أزمة، ولا تُحسن التصرف أو التفكير فيها، لكون حديثه يحوي على ما ينفع ولا يضر، سردت عليه ما حدث منذ مطلع النهار إلى أن أرسلها الحاج "بدير" إلى هنا منعًا لتفاقم الأمور وتعقدها بين الزوجين. انتظرت "فيروزة" من الجد "سلطان" التعقيب على الموضوع، فتساءلت في حمئةٍ:
, -حضرتك شايفني غلطانة يا جدي؟
, سكت قليلًا، وتكلم في صوتٍ رزين:
, -لأ، بس لازمًا تعرفي إن جوزك خايف عليكي حتى من الهوا الطاير.
, كانت لا تزال بها لمحات باقية من العصبية والضيق، فظهرت في صوتها الذي ارتفع إلى حدٍ ما عندما هتفت بعنادٍ:
, -وده مايدهوش الحق يبهدلني بالشكل ده.
, سألها مستفهمًا دون أن تتبدل وتيرة نبرته الرزينة:
, -فين البهدلة بس؟
, أجابته في عصبيةٍ:
, -زعيقه ليا، وحلفانه عليا.
, برر لها تصرفه ببساطةٍ:
, -ساعة شيطان، وعدت.
, توقفت عن الحركة، لتكتف ساعديها قائلة في لهجة معترضة:
, -مع "تميم" لأ.
, انتبه كلاهما لصوت الطرقة الخفيفة على باب الغرفة، قبل أن تقوم "ونيسة" بفتحه، لتطل منه وفي يدها كوب من عصير الليمون، تقدمت ناحية "فيروزة"، وأخبرتها في وديةٍ:
, -خدي يا بنتي اشربي اللمون ده عشان أعصابك تهدى.
, رفضت تناوله منها هاتفة بوجه غائم التعبيرات:
, -مش عاوزة.
, أصرت عليها بحنو أمومي:
, -عشان خاطري.
, أمام إلحاحها اضطرت أن تتخلى عن رفضها، وتأخذه، رفعت الكوب إلى فمها لترتشف منه قدرًا بسيطًا، بينما الجد "سلطان" يخاطبها:
, -روحي ارتاحي دلوقتي، وبعدين أنا هتكلم معاه.
, استدارت ناحيته، واشترطت عليه بتزمتٍ:
, -ماشي، بس أنا مش هقفل محلي، ولو حكمت آ٣ نقطة
, قاطعها قبل أن تواصل إملاء شروطها عليه مرددًا في نبرة هادئة، لكنها في نفس الآن حازمة:
, -صلي على النبي، وكله هيعدي.
, تنهدت مليًا، ثم قالت:
, -عليه الصلاة والسلام.
, ربتت "ونيسة" على ظهرها وهي تدفعها برفقٍ للأمام لتستحثها على التحرك معها خارج غرفة الجد، فسألتها "فيروزة" بملامحٍ جادة عندما أصبحتا في الرواق:
, -فين "درة"؟
, جاوبتها وهي تشير بيدها نحو الغرفة الجانبية ذات الباب الموارب قليلًا:
, -نايمة جوا في أوضة "هاجر".
, توقفت عند العتبة محاولة رؤيتها من الفرجة الصغيرة، ابتسمت في رضا عندما رأتها هانئة في نومها، لتستدير بعدئذ محملقة في وجه حماتها عندما كلمتها:
, -خشي إنتي ارتاحي، إنتي شقيانة من الصبح، وأنا هصحيكي لما عمك الحاج "بدير" يرجع من برا.
, لم تنكر أنها شعرت بموجاتٍ من الإرهاق تجتاحها، وكأنها قد خرجت لتوها من سباقٍ للعدو لمسافات طويلة. تنهدت بعمقٍ، وسارت تجاه غرفة "تميم"، و"ونيسة" تكلمها في ألفة ومحبة:
, -قوليلي بقى، نفسك في إيه أعملهولك تاكليه؟
, قالت بلطفٍ:
, -كتر خيرك، أنا مش عاوزة.
, وكأنها لم تسمع رفضها من الأساس، فواصلت الكلام بأريحيةٍ ومودة:
, -طب بصي أنا عاملة صينية بطاطس، وفراخ متبلة وشوية محشي عجب، هعلق عليهم على النار، نص ساعة وهيكونوا جهزوا، وإنتي عارفة بقى أكلي، لا يُعلى عليه.
, ابتسمت "فيروزة" لأسلوبها الحاني المهتم بها، وولجت إلى داخل الغرفة لتستريح بها، بينما "ونيسة" تضيف في صوت جاد:
, -وأنا هتابع "درة" متقلقيش، لو صحيت هعرفك.
, تحرجت من اهتمامها الزائد، فقالت بتردد معكوس في نبرتها:
, -بس كده تعب على حضرتك!
, أطلقت حماتها ضحكة رنانة، وعلقت عليها في مرحٍ:
, -يا ريت كل التعب كده، ده إنتو ماليين علينا البيت وربنا.
, احتضنتها دون تفكيرٍ، وقالت وهي تريح رأسها على كتفها:
, -**** يخليكي لينا.
,
, ٣١ شرطة
,
, رأسها المشحون بعشرات الأفكار والخواطر جعل من العسير عليها الاستلقاء والغفوة لبعض الوقت. فكرت "فيروزة" في مهاتفة توأمتها للحديث معها، إذ ربما يخفف ذلك من وطأة الضغوط التي تملأ تفكيرها. كالعادة كانت "همسة" تستفيض في إخبارها بالمستجدات التي تحدث في حياتها، فأصغت إليها شقيقتها دون مقاطعة إلى أن فرغت مما لديها، واكتفت بتقديم النصح لها باقتضاب مستريب، فاستشعرت توأمتها من نبرتها وجود خطب ما، سألتها باهتمامٍ، فلم تكبت "فيروزة" مشاعرها المحتقنة، فقامت بمطالعتها على ما جرى وهي تدور حول نفسها في الغرفة، لتنهي استرسالها بقولها المُليء بالتحذير وقبل أن تجلس على حافة الفراش:
, -أنا حكيتلك اللي حصل، بس أمانة عليكي ما تقوليش لماما، مش عاوزة الحكاية تكبر عن كده.
, ردت عليها مؤكدة:
, -حاضر يا "فيرو"، بس حاولي تهدي الدنيا مع "تميم".
, صممت على رأيها بتعنتٍ:
, -و**** لو ركب دماغه فأنا مش هسكت، ده حقي!!
, استنكرت حدتها قائلة:
, -هي حرب؟
, قالت في تشدد متزايد:
, -احنا متفقين من الأول، أنا هشتغل ومش هبطل شغل.
, أنهت "همسة" المكالمة معها فجأة بترديدها الغريب:
, -طب بقولك إيه هكلمك بعدين عشان ماما ماتخدش بالها.
, ردت بعد زفرة سريعة:
, -أوكي، سلام يا "هموسة".
, أسندت الهاتف على الكومود إلى جوارها، ثم أراحت جسدها على الفراش، لتخاطب نفسها في تصميمٍ أكبر وهي تشبك ذراعيها أمام صدرها:
, -هي مش عافية يا "تميم"، أنا هشتغل مهما حصل!
 
٥

غلبها النعاس بعد برهة، فاستغرقت في نومٍ عميق، ممتد، وكأنها لم تنم هكذا سابقًا. دقت "ونيسة" على الباب بهدوءٍ لأكثر من مرة تستأذن بالدخول، فلم تجد منها استجابة، لذا فتحته بهدوء، وخطت على مهل تجاه السرير، هزتها برفقٍ لتوقظها وهي تهمس بالقرب من أذنها:
, -اصحي يا بنتي، السفرة جاهزة.
, بذلت "فيروزة" مجهودًا لتفتح عينيها، ونظرت إليها بنصف عين لتنظر لمن يخاطبها، لحظة مرة عليها قبل أن تستفيق كليًا وترى بوضوح ملامحها اللطيفة، فركت وجهها متسائلة باندهاشٍ:
, -في حاجة يا طنط؟
, أعادت تكرار كلامها بأسلوبها الأمومي الودود:
, -بقولك الأكل جاهز يا حبيبتي، قومي عشان تاكلي.
, نفضت "فيروزة" شعرها المهوش بيدها بعدما اعتدلت في رقدتها، وتساءلت في شيءٍ من التوتر:
, -هو "تميم" رجع؟
, أخبرتها باسمة مشيرة بيدها نحو الخارج:
, -من بدري، ولما لقاكي نايمة، سابك على راحتك.
, استغربت من عدم إيقاظه لها، وتجنبه الجدال معها، رغم أن ذلك هو ما توقعت حدوثه فور عودته، آخر ما كانت تذكره أنها لم تضع الغطاء على جسدها، إذًا حتمًا هو من اهتم بأمرها وهي غافية. تلقائيًا مدت يدها نحو هاتفها لتنظر إلى الساعة، اندهشت أكثر لمرور الكثير من الوقت، عاودت التحديق في وجه حماتها متسائلة بغير تصديقٍ:
, -هو أنا نمت كتير ولا إيه؟!!
, ربتت على ذراعها بحنيةٍ، وقالت:
, -ولا يهمك٣ نقطة
, ثم استحثتها على النهوض وهي تزيح الغطاء عنها:
, -يالا يا حبيبتي، اغسلي وشك، وحصلينا.
, اكتفت بهز رأسها، وسوت بيدها شعرها لتجمعه معًا عند كتفٍ، ثم أنزلت قدميها عن الفراش لتعيد ضبط هندامها، وتجهيز هيئتها، قبل الخروج من الغرفة لمقابلة من ينتظرها.
,
, ٢٠ شرطة
,
, كانت متحرجة إلى حدٍ ما وهي ترى الجميع في انتظارها، ألقت نظرة على طفلتها التي كانت تجلس في حجر جدها يداعبها ويلاعبها بمحبة كبيرة، لتنتقل ببصرها تجاه زوجها المتجهم، تجاوزته لتحدق في وجه الجد "سلطان" الذي أشار لها بيده لتجلس، سحبت المقعد، واستقرت عليه دون أن تنبس بكلمة، بينما أردفت "ونيسة" ملاطفة حفيدتها وهي تنتشلها من حجر جدها ليتمكن من تناول الطعام:
, -يا روح قلب ستك، ياختي على الطعامة، **** يحميكي ويحرسك من العين.
, ظل ذلك الحاجز الوهمي قائمًا بين الزوجين، فحاول "تميم" إزالته بسؤاله الفاتر:
, -عاوزة ليمون على الشوربة؟
, ردت بجمودٍ متجنبة النظر ناحيته:
, -لأ، شكرًا.
, تكلم الجد "سلطان" مخاطبًا حفيده في صوت هادئ لكنه حازم وجاد:
, -اغرف لمراتك بزيادة شوية، وراضيها.
, اعترضت عليه بتبرمٍ:
, -يا جدي ده هي اللي مزعلاني!
, حينئذ خرجت عن طور صمتها، وهتفت محتجة عليه بغضبٍ متزايد:
, -أنا برضوه؟ ولا هو اللي زعقلي قصاد الناس عشان حاجة ماليش ذنب فيها؟
, التفت ناظرًا إليها، وصاح بها بتحيزٍ:
, -أنا مفهمك إن الحتة دي بقى فيها لبش، وإنتي عاوزة تفضلي شغالة، في حاجة مالهاش تلاتين لازمة.
, أغاظها بوصفه الجارح والمهين لطبيعة عملها، فانفعلت عليه بصوتها الحانق:
, -بقى أنا شغلي مالوش لازمة؟
, بدأت الطفلة تبكي تأثرًا بأصواتهما المرتفعة، فحاولت "ونيسة" تهدئتها، وقالت في جزعٍ مخاطبة الاثنين، خشية أن تتصاعد وتيرة الحدة بينهما:
, -صلوا على النبي يا ولاد، ده شيطان ودخل بينكم.
, همهمت "فيروزة" بصوت خفيض مصحوب بزفرة سريعة:
, -عليه الصلاة والسلام.
, لم يبدُ "تميم" راضيًا عن أي مبررات تُقال، كان يريد حسم الأمر نهائيًا، فتساءل بتهكمٍ:
, -إيه علاقة الشيطان بالحرامي؟!!
, كان الجد متسلحًا بصمته غالبية الوقت، يتبادل مع "بدير" نظرات ذات مغزى، إلى أن حانت اللحظة التي وجب التحدث فيها، وقتئذ صاح بصوتٍ أجش، أجبر الجميع على الالتفاف والنظر إليه عندما نادى:
, -"تـــميم"!
, رد عليه بملامحه المشدودة:
, -أيوه يا جدي.
, أنذره بنبرة لا ترد:
, -خف شوية.
, لم يعلق عليه، بينما هبت "فيروزة" واقفة، دفعت مقعدها للخلف، وأخبرته في تحدٍ معاندٍ كان كفيلًا بإشعال غضبه مجددًا:
, -طب عشان تبقى عارف، أنا مش هسيب شغلي حتى لو طلع عليا مليون حرامي.
, نهض مثلها ليواجهها وهو يهدر:
, -ابقي قابليني لو عتبتي أصلًا آ٣ نقطة
, قاطعه الجد "سلطان" بصوتٍ أكثر حزمًا:
, -أنا قولت إيه!
, تدارك غضبته المندلعة، وقال بوجه لا يزال محتقنًا:
, -حقك عليا يا جدي.
, أبدت "فيروزة" اعتذارها هي الأخرى من حدة تصرفها معللة ذلك:
, -أنا أسفة، بس حضرتك شايف بنفسك.
, تدخلت "ونيسة" في الحوار قائلة بعفوية:
, -خلونا ناكل يا ولاد، كل حاجة مسيرها تتحل.
, وجهت "فيروزة" حديثها إليها عليها وهي تسير نحوها لتأخذ ابنتها منها:
, -كتر خيرك يا طنط، أنا شبعت!
, استنكرت ذهابها من على المائدة قبل إكمال تناول طعامها بهتافها المنزعج:
, -يا بنتي هو إنتي كلتي حاجة؟
, هسهست بإيجازٍ لتغادر بعدها في الحال، وقد حانت منها نظرة مستنكرة تجاه زوجها:
, -الحمد****.
, صاحبها "تميم" هو الآخر بنظرته النارية، قبل أن يقول معقبًا في ازدراء:
, -أهوو ده اللي بناخده من الجواز.
, عاتبه "بدير" بملامح عابسة:
, -أوام نسيت الحلو اللي بينكم عشان مشكلة هايفة زي دي؟!!
, أضاف عليه الجد "سلطان" بصوته الجاد:
, -بالراحة، الحكاية مش محتاجة عافية ولا فتونة.
, جلس مجددًا، ورد عليهما بضيقٍ مستعر في صدره:
, -ما إنتو بنفسكم شايفين عمايلها!!
, اقتضب والده جبينه، وسأله في شيءٍ من الاستهجان:
, -إنت مفكر إن الزعيق هيحل الموضوع؟
, نظر إليه صامتًا، فتابع كلامه إليه على أمل ألا تتعقد الأمور كثيرًا:
, -وبدل ما تمنع خالص، شوف بديل يريحكم إنتو الاتنين.
, همَّ بالاعتراض عليه بترديده:
, -يابا آ٣ نقطة
, قاطعه بإشارة من يده جعلته يبتلع باقي جملته في جوفه:
, -وأوعى تفكر إن هي مالهاش ضهر ولا سند، احنا معاها، وهنعمل اللي فيه مصلحتها، دي من أهلنا.
, أطرق رأسه مغمغمًا:
, -عارف يابا.
, أمره الجد "سلطان" وهو يريح ظهره للخلف:
, -قوم ناديلها تاكل.
, اقترحت "ونيسة" بعدما لمعت نظراتها بشيءٍ من المكر، محاولة رأب الصدع بينهما:
, -بعد إذنك يا حاج، خليه ياخد الصينية دي، ويخش ياكل مع مراته سوا، وأهوو بالمرة يتصافوا على طريقتهم.
, استحسن فكرتها قائلًا بترحاب:
, -وماله.
, في التو أعدت "ونيسة" ما لذ وطاب في عدة أطباق، لتقوم برصها في صينية متسعة وهي تشجع ابنها:
, -يالا يا ابني، خدها لمراتك، وربنا يصلح حالكم ويهديكم.
 
٦
الأخير


كانت أعصابها مشدودة، تتوالى عليها مشاعرها المنفعلة كإعصارٍ قاسٍ، يجرف كل ما يقف في طريقه، لذا بمجرد أن رأته يلج للغرفة، استعدت للنهوض وتركه بمفرده، لم تكن بحاجة للمواجهة معه، أو حتى الجدال، لئلا تحتد علاقتهما ويحدث الأسوأ، لذا قامت بحمل الصغيرة على ذراعٍ، غير مكترثة بالصينية التي جاء بها، بينما طالعها "تميم" بنظرة غامضة بعدما وضع الصينية على الكومود، اتجه إليها، ثم استوقفها من ذراعها الآخر قبل أن تغادر متسائلًا في صوتٍ خشن؛ لكنه خفيض:
, -رايحة فين؟
, اضطرت لترك طفلتها أرضًا حتى تتمكن من مجابهته، استقامت في وقفتها السامقة، وخاطبته في قدرٍ من العصبية:
, -سيبالك الأوضة تقعد فيها براحتك، وأنا هافضل في أوضة "هاجر".
, ظلت قبضته ممسكة بذراعها، بل اشتدت قليلًا عليها، مما دفعها لحدجه بنظرة محذرة، تجاوز نظرتها المعنفة تلك، ليستطرد راجيًا بهدوءٍ، وقد لاحت في حدقتيه هذه النظرة الدافئة:
, -ماتمشيش .. عشان خاطري.
, صوته الرخيم المليء بهذه النبرة الحانية، والمصحوب بنظرته الشغوفة تلك، كانت تربكها، فهي تعرف جيدًا كيفية النفاذ إلى داخلها لتؤثر فيها، في الحال اتخذت موقفًا دفاعيًا، ومناهضًا له، حيث نفضت ذراعها لتتحرر منه، وقالت في تصميمٍ، مباعدة عينيها عنه:
, -"تميم"، أنا مش عاوزة أتخانق، بجد تعبت، كفاية أوي اللي حصل برا.
, تركتهما الصغيرة يتجادلان بلا مبالاة، وهرولت ركضًا في مرح وبراءة نحو الباب الموارب لتخرج من الغرفة، حاولت "فيروزة" اللحاق بها، فمنعها من بلوغها بالإسراع تجاه الباب، في التو أغلقه بيده، واستند عليه، لتقف مشدوهة في مكانها وهي تحدجه بنظرة حادة، تنهد "تميم" مليًا، واستطرد قائلًا ببرود بعدما سد عليها الطريق بجسده:
, -متقلقيش عليها، هي مع جدودها.
, تحَّينه للوسائل الماكرة للانفراد بها كان مغيظًا لها بدرجة كبيرة، ناهيك عن كونه موترًا لها، لهذا رفعت إصبعها أمام وجهه تحذره، وقد اكتسبت بشرتها حمرة منفعلة:
, -بص لو بتعمل ده كله عشان أسيب الشغل فمش هيحصل.
, علق عليها بتبرمٍ طفيف:
, -شوفي إنتي اللي بتفتحي المجال للخناق.
, تقدمت خطوة تجاهه، وردت عليه بتشنجٍ:
, -عشان عارفة دماغك فيها إيه، مش هترتاح غير لما تعمل اللي إنت عاوزه.
, رمقها بنظرة طويلة لم يقطع خلالها تواصله بقطعتي الفيروز المتأججتين، ثم مد يده ليحتضن صدغها، داعب وجنتها الساخنة بإصبعه في رفقٍ وهو يخبرها بقلبٍ صادق:
, -أنا عاوزك تكوني بخير، في أمان، بعيد عن اللبش اللي موجود في الشارع.
, لم تتقبل لمساته الملاطفة، تلك التي يحاول بها اللعب على وتيرة إحساسها، فأبعدت يده قائلة بصوت جاد:
, -احنا مش عايشين معزولين عن الناس، وارد ده يحصل في أي وقت وفي أي مكان.
, ضاقت نظراته بشكلٍ ملحوظ، فأكمل في تحدٍ وهي تضع يدها أعلى خصرها:
, -ولو حصل وحد اتهجم عليا، فأنا كفيلة أدافع عن نفسي.
, سدد لها نظرة مستخفة قبل أن يسألها ساخرًا:
, -إزاي؟
, اغتاظت من استخفافه بقدرتها في الزود عن نفسها، فكورت قبضتيها، وضربته في صدره بقوةٍ وهي تجاوبه عمليًا:
, -كده هو.
, تفاجأ بما تفعل، وحاول صد لكماتها غير الدقيقة المتدافعة عليه بكفيه المفرودين وهو يكتم ضحكاته، ليعلق أخيرًا:
, -طيب بالراحة، خلاص خوفت.
, اشتاطت حنقًا من طريقته الهازئة منها، فصاحت به بتعصبٍ أكبر:
, -إنت بتضحك عليا؟!
, رغم قوة ضرباتها إلا أنها لم تجدِ نفعًا معه، فقد نجح في إيقافها قبل أن تمسه، ليردد بمزاحٍ:
, -ما هو محدش بيضرب حد بالغشومية دي.
, مع استهتاره، واستهانته المتواصلة، تمكن منها غيظها المتزايد واستحوذ عليها، فبلا إعادة تفكير قررت إصابته في مقتل، لذا رفعت ركبتها، وركلته أسفل بطنه بأقصى طاقاتها، ليتأوه من الألم المباغت الذي نال من معدته ودفعه للانحناء.
, أظهرت "فيروزة" تشفيها لنجاحها في إيلامه وهي تبتسم ابتسامة عريضة:
, -أنا بضرب كده تحت الحزام.
, كز على أسنانه كاتمًا ألمه، وحدجها بنظرة قاسية مهمهمًا في صوتٍ خفيض:
, -بقى ينفع كده آ..
, استقامت واقفة في زهو لتطالعه بهذه النظرات المتفاخرة قبل أن تزيد في إغاظته بنجاحها في تسديد ضربة موفقة ضده:
, -عشان تعرف إني مش سهلة!
, لم تدم فرحتها طويلًا، ولم تعرف ما الذي حدث في التو، فالأمر كان كلمح البصر، حيث شعرت بذراعه تطوقها من خصرها بعدما انقض عليها، ليحملها في خفة، ويتجه بها نحو الفراش، ألقاها عليه وهو معها، وقبل أن تحاول لملمة شتات نفسها والنهوض، وجدته يمسك بها من رسغيها، ويسحب ذراعيها أعلى رأسها، ليثبتهما، كما نجح كذلك في تحجيم حركتها بقواه الجسمانية، فأصبحت أسيرته تمامًا. حاولت "فيروزة" المناص منه وهي تصيح في ضيقٍ:
, -حاسب يا "تميم".
, بادلها نظرة مستمتعة مغيظة لها، قبل أن يتكلم في شيءٍ من التباهي:
, -انشفي يا أبلة، واجمدي كده، إيه مش عارفة تخلصي نفسك؟
, استفزها أسلوبه المسيطر، فهتفت تنتقده:
, -إنت بتستقوى عليا؟
, أرخى قبضتيه عن رسغيها قليلًا، وقال بنبرته التي تحولت للدفء:
, -عمري ما أعمل كده!
, أسبلت عينيها تجاهه طالبة منه:
, -طب سيبني.
, انحنى عليها برأسه ليبدو قريبًا للغاية منها، عندئذ غمرتها موجات من الشوق والشغف، والرغبة في المزيد من هذا الوصال الدافئ، شملها بنظراته العطوف متحدثًا إليها في عبثيةٍ:
, -مش قبل ما نتصافى٣ نقطة
, لامس بشفتيه وجنتها، وتابع على نفس النهج العابث:
, -ده أنا أمي موصياني.
, ردت ساخرة:
, -يا سلام! ده على أساس إنك حمامة سلام يعني؟
, ضحك ملء شدقيه، وعقب عليها باسمًا، وعيناه تعاهدان إياها بما يسر النفس ويبهجها:
, -قولي قفص حمام، مش واحدة بس!
,
, ٢٥ شرطة
,
,
, حاولت جاهدة تجفيف شعرها المبتل باستخدام المنشفة القطنية، ومع ذلك ظل رطبًا، فقامت بلفه معًا في كعكة ضخمة، كذلك تلونت بشرتها بحمرةٍ خجلة، وهي تفكر فيما قد تظنه عائلة زوجها عنها. التفتت "فيروزة" ناظرة إلى زوجها الذي بدل ثيابه بأخرى نظيفة بعدما فرغ هو الآخر من الاستحمام، عاتبته في صوت خافت مرتبك:
, -مكانش ينفع اللي عملناه ده، هيقولوا علينا إيه دلوقتي؟
, على عكسها لم يبدُ "تميم" مهتمًا بالأمر، وكان هادئًا للغاية، بل مستمتعًا بالحميمية التي نشبت بينهما. سلط أنظاره عليها قائلًا بشيءٍ من الغرور:
, -عادي، راجل ومراته، والكلام خدهم لـ٣ نقطة
, بتر كلامه عن عمدٍ ليغمز لها بطرف عينه، فدنت منه في الحال، ولكزته في كتفه كنوعٍ من التوبيخ، قبل أن يصاحب ذلك قولها:
, -بس بقى.
, انتفضت كالمذعورة عندما جاء صوت "ونيسة" من الخارج يناديهما:
, -تعالوا يا ولاد.
, رد عليها "تميم" بنبرةٍ مسموعة لها:
, -حاضر يامه، طالعين أهوو.
, هسهست "فيروزة" في صوت خفيض، ما زال خجلًا:
, -أكيد مامتك خدت بالها.
, احتضن وجهها براحتيه، قبل أن يميل على وجنتها ليمنحها قبلة صغيرة وهو يخاطبها:
, -دي هتبقى مبسوطة لينا.
, لم تعلق بشيء، وسارت معه إلى خارج الغرفة، فاستقبلتهما "ونيسة" بوجهها البشوش الضاحك، في التو رفعت كفيها للسماء متمتمة بالدعاء:
, - الحمد**** يا رب، ألف بركة إنكم اتراضيتوا.
, حاوط "تميم" زوجته من كتفيها بذراعه، ودفعها للمشي معه قائلًا بسعادة بائنة على تعابيره، وظاهرة في عينيه المحبتين:
, -**** ما يجيب زعل يامه بينا.
, تساءلت "فيروزة" باهتمامٍ لتغطي على الخجل المستبد بها:
, -أومال "درة" فين؟
, أجابتها حماتها وهي تشير بيدها:
, -نامت مع جدك "سلطان".
, لمحة من الضيق ظهرت على محياها حينما تكلمت:
, -بس هي هتتعبه كده وآ٣ نقطة
, قاطعتها "ونيسة" قبل أن تتم جملتها قائلة بعد ضحكة مسرورة:
, -على قلبه زي العسل، وبعدين أعز من الوِلد ولد الولد، فما بالك بالغالي.
, في الحال أمن على كلامها "تميم" بدعائه المتضرع:
, -**** يديمكم في حياتنا.
, اتجه ثلاثتهم بعدئذ للصــالة، حيث يجلس الحاج "بدير" بمفرده، كان مشغولًا بمخابرة أحدهم في هاتفه، لم يتطفل عليه أحد، وتركوه على راحته، فاستقرت "فيروزة" بجوار زوجها، تبادلا معًا بعض الأحاديث الخافتة، بينما جلست "ونيسة" عند الأريكة المقابلة للطاولة البيضاوية التي تنتصف مجلسهم، استخدمت الأخيرة السكين لتقطيع حلوى البقلاوة التي أعدتها، ثم قامت بوضع القطع الشهية في صحن كل فردٍ على حدا وتقديمها إليهم. استطرد "بدير" مخاطبًا ابنه بعدما أنهى اتصاله الغامض:
, -شوف يا ابني، أنا لاقيت حل لمشكلتكم.
, تطلع الزوجان إلى بعضهما البعض بنظرات حائرة، زادت من تخبطهما، وبادر "تميم" متسائلًا بفضول مهتم:
, -إزاي؟
, أجابه وهو يمد يده ليمسك بطبق الحلوى الخاص به:
, -في دكان مقفول قريب مننا، على الناصية، لو تفتكر بتاع الحاج "عبيد" **** يرحمه.
, زوى ابنه ما بين حاجبيه للحظاتٍ معدودات، معتصرًا ذهنه ليتذكر ما يخص هذا الموضوع، بعد بضعة ثوانٍ من التفكير تكلم في تحيرٍ محسوسٍ في صوته:
, -أيوه، بس ده بتاع ورثة، وعليه مشاكل، وآ..
, قاطعه لمرة ثانية موضحًا له:
, -ما تشغلش بالك، المحامي هيخلص معاهم، ويراضيهم٣ نقطة
, ثم وجه حديثه إلى "فيروزة" مبديًا دعمه الكامل لها:
, -المهم عندنا بنتنا ما تبطلش شغل.
, قفز قلبها طربًا للنبأ السار، وهتفت من فورها في امتنانٍ:
, -أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه؟
, أمسك "تميم" بكفها، وركز بصره مع والده الذي ما زال يُكلمها:
, -**** يجعله فاتحة خير عليكي.
, ردت مبتسمة ابتسامة عريضة:
, -يا رب أمين.
, بعد لكزة خفيفة من كتفه لكتفها، مال "تميم" على زوجته ليهمس لها:
, -شايفة الدلع يا أبلة؟
, تبسمت على استحياءٍ، فزاد من ملاطفته اللفظية الخافتة:
, -ومش أي دلع! ده من الكبير نفسه.
, منحته نظرة هائمة، غامرة بالحب، وهي تخلل أناملها في أصابع كفه المحتضن لها، لتردد بعدئذ بحبورٍ ورضا:
, -**** يخليكم ليا.
, -تمت-
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%