NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول فانتازيا وخيال عربية فصحى إيكادولي [أوبال] (للكاتبة حنان لاشين) | السلسلة الثانية | اثنتا عشر جزء 1/12/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,833
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
14,769
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
➤السابقة



1

دروب أُوبال
, كان المطر يهطل بغزارة، الماء الطاهر يغسل كلّ شيء؛ ظهور الخيول الصهباء، وقمم الجبال البيضاء، والصخور الملساء، وشاطئ البحر اللازورديّ القريب، وجذوع الأشجار، وسعف النخيل الأخضر، وأسقف البيوت، وجدران القصور، وأعشاش الطيور، كلّ شيء في مملكة البلاغة أنقى وأزهى تحت زخّات المطر، حتى النفوس ووجوه البشر.
, زمرة من الخيول كانت تركض في تناسق بديع وعلى إيقاع واحد، أصوات حوافرهم وهي تقدح الأرض يتناغم مع ضربات قلوبهم المتلاحقة، كانت قوائمهم تصطف على التوازي بشكل أنيق وهم يتسابقون وقد وحّدوا سرعتهم وكأنّهم نسيج واحد، خفّ المطر شيئًا فشيئًا حتى صار كدمع العين هتونًا رقيقًا، وانبثق قوس المطر يزين صفحة السماء ويصافح خط الأفق من بعيد. صهل فرس منهم فعلت جلجلة رفاقه بأصوات صافية مُسْتَدقة، ثُمّ تقدّمهم فلاحقوه ضبحًا* حتى وصلوا أخيرًا لبستان واسع أخضر مدهام. كانوا عشرة من الخيول العربية الأصيلة لولا تدرّج ألوان أجسادهم وتلك العلامات التي وسموا بها وفرقتهم عن بعضهم البعض لصاروا نسخة واحدة متكررة لا يفرق بينهم البشر بجملة النظر من بعيد، كان كبيرهم كستنائي اللون ذو غرّة بيضاء ملأت جبهته وامتدت على قصبة أنفه، وكان محجلًا* فزادته قوائمه البيضاء الأربعة أناقةً وجمالًا، بينما استقرّت على صدره لطخة بيضاء على شكل نجمة تشبه الوسام. مالوا بأعناقهم يمينًا ويسارًا وهملجوا* في البستان قبل أن يجتمعوا حول زعيمهم. لو كنت خيلًا لأجفلت منهم، ولو كنت من البشر لأجفلت منهم أيضًا! فتلك الأصوات التي تعالت عندما هدأ كريرُ صدورهم لم تكن أصوات خيول أبدًا، بل كانت من أصوات البشر!
, هامش:
, محجلًا: المُحَجَّل من الدَّوابّ هو ما كان البياض فيه في موضع الخلاخيل أو القيود وفوق ذلك
, الضبح: صوت أنفاس الفرس إذا أسرع في العدو وذُكرت في القرآن وهي ليست صهيلا ولا جلجلة.
, الهملجة: هي حسن سير الدابة في سرعة، وهي ما يفعله الفرس عندما يقارب بين خطاه ويمشي في سرعة وبخترة.
, قال زعيمهم وقد اصطفوا أمامه في حالة من الخشوع:
, -فلنستوطن هذا البستان، المكان هادئ وجميل وبعيد عن صخب البشر.
, طالعته فرسٌ فاتنةٌ بعينيها الكحيلتين وأمالت عنقها بلطف وقالت:
, -البستان رائع بالفعل يا "حَيزوم"، وكأنني رأيت هذا المكان من قبل!
, قال وهو يرنو إليها:
, -ربّما مررنا به سابقًا يا "جُمانة"٢ نقطةلكنني لا أذكره!
, صهل الفرس "أبهر" والذي كان يتابع حديثهما باهتمام شديد ثم قال:
, -إذًا فلنبق هنا، وليكن لنا هذا البستان بيتًا ومأوى
, سأل الفرس "أجدل" وهو يقترب منهم:
, -وهل سيتركنا البشر؟ إنهم يلاحقوننا من بستان لآخر، ومن غابة لأخرى منذ شهور، مللنا من الفرار منهم.
, قال زعيمهم"حَيزوم" بجدية شديدة:
, -خُلقنا لهذا، وكرامة الفرس الأصيل ركوبها.
, حمحم فرس أسود بغضب وقال بحنقٍ شديد:
, -ألم نتفق على أن نختَار فُرساننا بأنفسنا؟، وأن نطرح كل من لا يليق بظهورنا أرضًا ولا نلتفت إليه!
, رفع "حيزوم" رأسه قائلًا:
, -نعم٣ نقطةاتفقنا على هذا يا "برق"، فالخيل أعلم بفرسانها، تشعر بهم وبأرواحهم عندما يركبونها، وما زلنا نبحث عنهم، وسنظل نبحث عنهم وإن فرقتنا الحياة.
, دمعت عينا "الجُمانة" واقتربت من زوجها "حَيزوم" وقالت تلومه:
, -لا تذكر الفراق أرجوك!
, انصرفت الخيول عن "حَيزوم" وزوجته "الجمانة"، فقد حمحم بعضهم جوعًا وعطشًا ومضى كلّ منهم يبحث عمّا يسدّ به جوعه، فانفردا تحت شجرة بلوط عظيمة، سكنت إليه فقال يؤنسها:
, -لا تخافي يا جُمانة لن أتركك أبدًا، فروحي أسيرة لديك.
, راقت لها كلماته فطابت نفسها، اقترب منها فمالت برأسها على عنقه، فاجأهما صوت الرعد فارتجف قلبها، انزوت تحت شجرة البلوط وألصقت رأسها بجذعها العتيق، بينما تقدّم "حَيزوم" يراقب صفحة السماء مع رفاقه، هناك شيء غريب يحدث هنا، قوس المطر يزداد اتساعًا، ألوانه تزداد قتامة شيئًا فشيئا ثُمّ هاهي تتوهّج وتشتد وضوحًا، سطع ضوء قوي فاعمى أعينهم للحظات تلاه وميض متراقص وغريب، انبثقت من كلّ الجهات دروب مختلفة، لكل درب منهم بوابة عجيبة تختلف عن الأُخريات!، تختلف في الشكل، تختلف في اللون، وتختلف في ما تخفيه خلفها من عوالم مبهمة لا يدركون كنهها، راودهم شعور جميل وهم يراقبون الدروب بألوانها الخلابة والمحاطة بهالات فضية، وأخرى نارية، إحساسٌ رائع لا يقاوم، بدت وكأنّها تناديهم ليدخلوها، وكأنّها تجذبهم كالمغناطيس وهم لا يملكون المقاومة، قوّة ما تسيطر على عقولهم، ويا لها من قوّة!، صاح "أبهر" بحماس شديد:
, -ما أروعها!
, قال "حيزوم" مسحورًا بجمالها:
, -ما رأيت مثلها من قبل يا "أبهر"!
, ثُمّ صمت هنيهة يرهف السمع وقال:
, - أسمعتم النداء؟
, أجابوه بصوت واحد:
, -سمعناه٢ نقطةسمعناه٢ نقطة
, ثُمّ صهلت الخيول بحماس، الجميع سمع النداء، قال "حيزوم" بنبرة حازمة:
, -فلنكن من اليوم خيولًا لتلك الدروب، خيول "أوبالس"٣ نقطةوسنجيب هذا النداء
, صاح "أبهر" بحماسٍ أكبر:
, -ونعم الرأي سيّدي
, قال "حَيزوم" وقد لمعت عيناه:
, -إذًا فلنتسابق والذي سيعُود من دربه أولًا هو الفائز
, -هناك الكثير من الدروب، سندخلها جميعًا؟
, -لا٣ نقطةيكفي سبعة منّا، ولتبق "البيضاء"، و"الجمانة"، و"الشقراء" هنا بالبستان
, سأله "أبهر":
, -لماذا هنّ بالذات!
, طالعهن "حيزوم" بنظرات تشي بالكثير ثُمّ قال:
, -لابد من بقاء الأمّ، و الزوجة، والابنة هنا، ليكون هذا البستان بيتًا ووطنًا لنا حتى نعود إلى هنا مرّة أخرى!
, ودّع "الجُمانة" بالتفاتة سريعة، وانطلق إلى أحد الدروب وافترق هو ورفاقه، وفور أن دلف كلّ منهم إلى درب من تلك الدروب المختلفة أبرقت السماء وأرعدت فجأة ثُمّ اختفى قوس المطر في الحال، وابتلعتهم الدروب وتلاشت معهم في غمضة عين، بقيت "الجُمانة"* في حيرةٍ شديدة، وبجوارها "البيضاء"* التي كانت ترعاها دومًا كأمٍ حنون، وانضمت إليهما "الشقراء"* تلك الفرس الفاتنة التي شغفها "أبهر" حبًا لكنّه لم يلتفت إليها أبدًا، كان دومًا مشغولًا عنها لكنها لم تتوقف عن حبّه للحظة، بل ويزداد تعلّقها به يومًا بعد يوم. سكنَّ وتلاصقن تحت شجرة البلوط وكأنّ على رؤوسهن الطير، وجلسن ينتظرن عودة الخيول السبعة:("حَيزوم"، "أبهر"، "أجدل"، "البحر"، "المسوّم"، "البرق")، وانضمت إليهم "الترياق" الأنثى الوحيدة التي سلكت دربًا من الدروب السبعة والتي كانت تنافسهم دائما بجسارة، كانت تركض بحماس شديد وصدرها يعلو ويهبط ويصدر كريرًا غريبًا، بدت عيناها تبرقان كجمرتين مشتعلتين بينما ابتلعها الدرب الذي دلفته في الحال. مرّ الوقت ثقيلًا ولم يعودوا للبستان٢ نقطةلم ينتهِ هذا السباق! لم يفز أيّ منهم بجائزة! وطال الانتظار.
, هامش:
, (أبهر، أجدل، المسوّم، البرق، الترياق، البيضاء، الشقراء، الجُمانة) كلّها من أسماء الخيول عند العرب في صدر الإسلام
, أما "حَيزوم" فقيل أنه اسم فرس جبريل عليه السلام في غزوة بدر، وأما أول من أطلق اسم "البحر" على الخيل فهو النبي صلى **** عليه وسلّم، والمقصود بالبحر هو كثير الجري الذي لا يصيبه التعب.
,
, ٨ العلامة النجمية
,
,
, أَيجيدور
, وقفت بردائها الفضفاض والأنيق في حفل زفاف شقيقها "أنس" على "مَرام"، تلك الفتاة الرقيقة ذات البسمة الملائكية والتي أخبرهم أنّه التقى بها في مملكة البلاغة! وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يردد فيها اسم "مملكة البلاغة" أمامها هي وأمام أمّها المسكينة، والتي أصيبت بصدمة عندما روى لها ابنها "أنس" ما حدث، وبعد أن فاجأها زوجها بما قصّه عن رحلته هو الآخر إلى هناك قبل زواجهما، ومن قبلهما الجدّ في شبابه، أسرار لم تعرفها من قبل تسببت في ارتباك الأسرة لفترة طويلة، وازداد ذهولها من حكايات جدّة "مرام"، و"مرام" نفسها عن تلك المملكة أيضًا. لم تصدّق "حبيبة" في البداية ما أخبروها به، لكنّها وأمام إصرار "أنس"، واجتماعه هو و"مَرام" على نفس التفاصيل، ولأنّها تثق بأبيها وجدّها بدأت شيئًا فشيئًا تتقبل الأمر على مضض، كما بدأت تتعايش مع خوفهم الشديد عليها كلّما رأت كابوسًا أو عندما كانت تتأخر في العودة إلى البيت، فقد كانوا يترقّبون اختفاءها في أيّ لحظة، بل كانوا يحاصرونها! ويراقبون كلّ شاردة وواردة تخصّها، مما أصابها بالضيق والاختناق وخاصّة من هلع أمّها عليها، أمّا والدها و"أنس"، فكانا يُكثران من النصائح والتوجيهات، وكان جدّها يطلب منها زيارته باستمرار وكانت تتهرّب منه، حتى أنّه أعدّ لها حقيبة خاصّة حتى تكون مهيّأة للرحيل في أيّ لحظة، أو الاختطافّ كما كانت تسميه هي بتهكّم، لكنّ هذا لم يمنعها من أن تسألهم من آنٍ لآخرَ عن رحلاتهم، وهم بدورهم لم يبخلوا عليها بوصف كلّ صغيرة وكبيرة مرّوا بها هناك، توقفت لمدة عام عن زيارة جدّها بالفيوم، ثُمّ اضطرت للذهاب عندما مرض مرضًا شديدًا وكان لا بدّ من زيارته ورعايته فزارته مع أسرتها وأقامت هناك لفترة قصيرة، لم تجرؤ خلال تلك الفترة على دخول المكتبة، وفي العام التالي ذهبوا جميعًا لقضاء إجازة العيد مع الجدّ بالفيوم، فدلفت المكتبة مرّة مع أبيها وكانت تتشبث بذراعه طوال الوقت وهما هناك، وأمّا هذا العام فالأمر مختلف، فاليوم هو موعد زفاف شقيقها "أنس"، وبعد أن أصرّ الجدّ على إقامة حفل زفافه ببيته الواسع والأنيق، والذي كان يشبه صالات الفنادق الشهيرة في تصميمه، فقد تم الإعداد للحفل ببيت الجدّ بترحيب من الجميع، وخاصّة أنّ غالب أفراد العائلة يقيمون هناك، وكان "أنس" أكثرهم سعادة بتلك الفكرة، لم تخبرهم "حبيبة" عن هذا الكابوس الذي رأته الليلة الماضية في منامها، فلم يكن الوقت مناسبًا لكي تخيفهم وقد تم بالفعل ترتيب كلّ شيء لإقامة حفل الزفاف ببيت الجدّ، ولأنّها كانت تعلم أن ظروف أخيها المادية لا تسمح بإقامة الحفل في أيّ مكان آخر، وأنّه وبعد خطبة دامت لثلاث سنوات لن يستطيع تأجيل زفافه مرّة أخرى فقد سبق وأجّله مرّتين، وهي تشفق عليه بعد أن عايشت معه ومع أبيها تلك الفترة العصيبة التي كانا يجمعان فيها المال لتهيئة مسكنًا يليق بـ"أنس" وعروسه "مَرام"، فهم رغم مظهرهم الذي يوحي بالثراء يعدّون من الطبقة المتوسّطة الحال، ففضّلت الصمت، وعدَلت عن قرارها بعدم حضور الحفل، والذي همست به لأمّها فقط، عندما لمَّحت لها بخوفها وقلقها من إتمام الزفاف بهذا البيت، فبكت أمّها فور أن علمت بما تفكّر فيه ابنتها، فكيف ستترك شقيقها ليلة زفافه!
, كان القلق ينهش رأس "حبيبة"، وظلّت تقرض شفتيها طوال الوقت، وتتنقل بين ضيوف الحفل بهذا الثوب الواسع الذي ارتدته مرغمة بعد إصرار أمّها، وعانت من بطانته الاسفنجية التي لجأت أمّها لتثبيتها به لينتفش ذيله وتخفي نحافة ابنتها، لجأت لخلع حذائها مرّتين لتريح قدميها، فهي تكره الأحذية ذات الكعوب العالية، لكنّها كانت تُسرع بارتدائه عندما تقترب أمّها منها، وكانت أمّها في كلّ مرّة تراها فيها تقوم بتفحّص ملابسها وحجابها وتضبطه وتؤنبها لأنّها لم تضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها كما تفعل الفتيات، شتّان بين ما يدور في رأس أمّها ورأسها الآن، فالأم تحلم بعريس وسيم لابنتها، والابنة تحلم بالهروب من هذا المنزل بأيّ طريقة، والتخلّص من هذا الحذاء.
, كانت دقّات قلب "حبيبة" تتواثب كلّما لاح ضوء المكتبة من بعيد بحديقة بيت جدّها، وكانت الحديقة تعبق برائحة الأطعمة المختلفة، حيث امتدت الموائد العامرة بما لذّ وطاب من أوّلها لآخرها، قررت أن تكسر هذا الخوف الذي يعتصر قلبها وتدخل المكتبة في حضور كلّ هؤلاء الضيوف بالحديقة وعلى بعد خطوات من باب المكتبة، ظنّت أنّها ستأتنس بوجودهم قربها بالخارج، وأنّ وجودهم سيمنع حدوث أيّ أمر غريب، كان جدّها وفور وصولهم مباشرة قد أعطاها مفتاح المكتبة، وكأنّه يدفعها دفعًا لمواجهة الأمر، داست على تلك الهواجس التي تنقر رأسها وأدارت المفتاح في ثقب الباب، كانت الأتربة تغطّي أغلفة الكُتب، اكتفت بنظرة سريعة على المكان، وتنفّست بعمق وهي تحدّث نفسها أنّ هذا الكابوس لا يعني شيئًا، وأنّ الأمور تسير على ما يرام، كانت الغرفة تعبق برائحة الورق العتيق الممتزج برائحة الرّطوبة، وكانت باردة حتى أنّ "حبيبة" أجفلت من هذا البخار الذي كان يخرج من فمها بسبب دفء أنفاسها مقارنة بأجواء الغرفة، وعندما همّت بالخروج وهي سعيدة لأنّها تغلّبت أخيرًا على مخاوفها، انغلق باب المكتبة فجأة فشخصت بعينيها تجاهه، أطبق الصّمت على الغرفة وعُزلت "حبيبة" عن الخارج تمامًا، كانت ركبتاها تصطكّان وتشعر كما لو أنّها تسقط بهوّة سحيقة، اهتزّت جدران المكتبة، حلّقت فوقها الكتب وكأنّ هناك يدًا خفيّة تحرّكها، كانت صفحاتها تتقلّب بسرعة رهيبة، تصاعد صوت صراخ وكأنّ أحدهم يستغيث، كانت الأصوات تردد كلمة واحدة، حاولت أن تهرب لكنّ ساقيها تسمرتا بأرض الغرفة، كانت ترتجف وهي تحدّق في الكتب وهي تدور حولها في دوّامة، توقفت الكتب فجأة وظلّت معلّقة في الهواء للحظات ثم هوت على أرض الغرفة بانتظام في حلقة حولها ودوَّى صوتها بقوّة انخلع لها قلبها، تصاعد الغبار الذي كان متراكمًا على أرض الغرفة فشكّل هالة من الدخان الخفيف حوله، عادت صفحات الكتب تتقلّب بسرعة كطواحين الهواء، انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ، ثمّ انغلقت الأغلفة فجأة إلّا كتابًا واحدًا ظلّ مفتوحًا أمامها كانت تهتزّ كورقة شجر تتلاعب بها الرياح في فصل الخريف، احتقنت عيناها وتخشّب لسانها في فمها، رفعت يدها التي كانت ترتجف ووضعتها على صدرها، ثمّ بصعوبة حرّكت قدميها تجاه الكتاب وانحنت تنظر إليه، كانت صورة وجهها تظهر تدريجيًا على الصفحة الأولى وكأنّ هناك شبحًا يرسمها بينما هي تنظر! ازدردت ريقها بصعوبة وحدّقت مرّة أخرى فيها وكأنّها لا تصدق، أغلقت الكتاب لتقرأ عنوانه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح "أيجيدور"، فزعت عندما رأت الرمز الدّال على الرقم أربعة باللغة النوبية "كيمسو"، كان الرمز يشبه حرف الكاي باللغة الإنجليزية يعلوه خط أفقي٣ نقطة
, ــــــــــ
, K
, حيث أخبرها أبوها أكثر من مرّة أن تنتبه له إن ظهر لها في أيّ وقت أو أيّ مكان، أو حتى في الكوابيس والرؤى التي تراها خلال نومها، كان الرّمز مكتوبًا باللون الأحمر الكرزي على الغلاف من الخلف، بيد أنّ كلّ صفحات الكتاب كانت خالية من الكلام! تماما مثل كتاب "إيكادولي" الذي ظهر لأخيها وكانت صفحاته بيضاء وخالية من الكلمات، تذكّرت ما قصّه لها شقيقها "أنس" عن الأميرة "نَبرة" التي حاولت الكتابة في صفحات كتاب "إيكادولي" بدماء شاب نوبيّ يسمى "كلودة" كان "أنس" قد التقى به أثناء رحلته، وأنقذه من بين يديها وهو ينزف، اقشعر بدنها عندما تخيّلت الأمر، فغطّت وجهها بكفّيها في انزعاج شديد٣ نقطة
, أرادت أن تصرخ لكنّ صوتها لم يخرج من حلقها، حاولت أن تقف على قدميها لكنهما خانتاها، غضنت جبينها وأغمضت عينيها ووقفت مستندة على قبضتي يديها، ألقت نظرة على الكتاب بتحدٍّ وكأنّه عدوٌّ لها، التقطت الكتاب وهرولت نحو غرفتها، قررت تمزيق الكتاب، لكنّها لم تتمكّن أبدًا من تمزيق صفحة واحدة منه! لا بيديها ولا بأسنانها، بحثت عن مقصّ لكنّه لم يعمل ولم يخدش منه ورقة واحدة!، هرولت نحو المدفأة في غرفة المعيشة، وعلى حين غفلة من الحضور ألقت بالكتاب في النار ووقفت تراقبه بعينين متيقظتين، لكنّه بقي كما هو ولم يحترق!، زفرت بحنق، ووقفت تقلّبه في النار لعلّه يحترق، لاحظ جدّها ما تفعله، وكان ثوبها قد استحال لون أطرافه أسود من غبار المكتبة، واحمر وجهها من لهيب النّار، وكان جبينها يتفصّد عرقًا رغم برودة الجوّ فأدرك أنّ حفيدته قد رأت الرّمز! ناداها فالتفتت فزعة ثُمّ هرولت نحو غرفتها وأغلقت الباب، التقط جدّها الكتاب بساق حديدية كان يستخدمها لتقليب الحطب بالمدفأة ولحق بها.
, فتح جدّها الباب فجأة، ورآها تجلس على الأرض، فأسرع نحوها وقال بصوت واهن وهو يقرأ عنوان الكتاب:
, -"أيجيدور"
, حانت منه التفاتة نحوها وسألها:
, -هل رأيت حلمًا غريبًا يا ابنتي؟
, هزّت رأسها في صمت، وقالت بصعوبة:
, -نعم، الليلة الماضية
, كانت تخشّب رقبتها وتحدّق بطرف خفي للكتاب وهو بين يديّ جدها، وكأنّ هناك وحشًا سيخرج من بين دفّاته وينقضّ عليها في لحظة ما، سألها جدّها وهو يُربّت على كتفها:
, -لماذا لم تخبريني؟
, لاحظت نظرات جدّها القلقة فازدردت ريقها بصعوبة وقالت:
, - وسمعت فيه تلك الكلمة التي نطقتها للتوّ يا جدّي!
, -"أيجيدور"؟
, هزّت رأسها موافقة وقالت:
, -كُنت في مكان ما تحت الأرض، ربّما نفقٌ، أو ممرّ، أو زنزانة، لا أدري، سمعت صهيل خيول، وغقغقة صقور، ثُم سمعت نداء غريبًا بأصوات مرتعشة من عدّة أشخاص يمدون إيديهم إليّ والحطام حولهم في كلّ مكان، ورماد الحرائق يغطّي كلّ شيء، وكلّ منهم يصرخ مرددًا: "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"، ثُم رأيت امرأة شديدة الجمال ما رأيت كوجهها من قبل! وكانت تبكي في هلع وهي تتشبث بذراعي وتتألّم، فاستيقظت وصوت صراخها يتلجلج في أذني
, أشفق عليها جدّها وأسندها لتقف وقال وهو يسير معها نحو الطابق العلوي حيث غرفة الأشباح وهو يحمل الكتاب بيده الأخرى:
, -أسرعي يا "حبيبة"، يبدو أنّ هناك من يحتاجك! حان وقت الرّحيل
, قالت برهبة:
, -أرحل! إلى أين؟ هل تعي ما تقوله يا جدّي؟
, -نعم، لا تخافي، فقد رحلت "مرام" من قبل، وهي فتاة مثلك، ستلتقين بـالملكة "الحوراء" هناك
, كانت ترجف وتنتفض فزعًا، ستر الرداء اضطراب جسدها بالكامل واصطكاك ركبتيها وهي تسير بين المدعوين، تعثّرت وتعلّقت بذراع جدّها أكثر من مرّة وهي تصعد الدرج، ظنّ الجميع أنّها هي من تعين جدّها ليسير بينما كان هو من يدعمها ويثبّتها، أشار لابنه "كمال" برأسه وفي عينيه تستقرّ نظرة تشي بالكثير فأدرك "كمال" أن ابنته بها خطب ما، فلحق بهما وصعد الثلاثة للدور العلوي، قال الجدّ لأبيها الذي اغرورقت عيناه بالدموع عندما علم بما حدث، فقد كان يخشى على ابنته:
, -حان الوقت!
, كان "كمال" يعلم أنّ الأمر ليس بيديه، وأنّها إن لم ترحل الآن ستتعرضّ للخطر، ولو تأخّرت في دخولها لغرفة الأشباح ستهاجم أسراب الغربان البيت كما حدث مع "أنس" من قبل عندما تأخّر وهو يتحدّث مع أبيه وجدّه، قال ليخفف عنها:
, -سيكون كلّ شيء على ما يرام، أثق بك يا "حبيبة"، وأعلم أنّك قويّة
, -حتى أنت يا أبي! ظننتك ملاذي الوحيد هنا!
, أشاح بوجهه في ألم وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
, -تعلمين أن قلبي يتمزّق
, ثُمّ قال بعد تردد وهو يعطيها نفس المفتاح الذي أعطاه من قبل لابنه "أنس":
, -اذهبي يا ابنتي ولا تتخلي عن يقينك ب****
, كان الجدّ يضع حقيبتها في غرفة الأشباح على الدوام، وقف الثلاثة أمام بابها وما زالت لا تُصدّق أنّها في تلك الساعة من الليل ستدخلها! قالت بتصميم:
, -لن أدخلها ولن أرحل من هنا!
, فتح أبوها باب غرفة الأشباح وأضاء المصباح، كانت الغرفة مهيبة، وخالية من الأثاث، رأت الحقيبة على الأرض، قال جدّها وهو يُشير إليها:
, -هذه حقيبتك، فيها الخنجر كما أخبرتك من قبل
, -لن أرحل!
, قال أبوها:
, -الوقت يداهمنا، أنتِ في خطر!
, -لن يحدث شيء، ولن تجبروني على الرحيل
, تركتهما وهرولت نحو غرفتها مرّة أخرى، في ذات اللحظة لاحظ "أنس" اختفاء أخته "حبيبة" فأجفل عندما تناهى إلى سمعه صوت نعيق الغربان الذي بدأ صداه يتردد في الأجواء وهي تحلّق فوق البيت في دوائر فسقط قلبه، وكان يودّع آخر المدعوين أمام باب البيت، فهرول نحو جدّه وسأله عن أخته فأخبره بما حدث، ذهب إلى غرفتها وحاول فتح الباب لكنّها كانت قد أغلقته بالمفتاح وجلست كالصنم على الفراش، دفع الباب بكتفه واقتحم الغرفة مناديًا عليها:
, -"حبيبة"!
, لم تُجبه ولم تلتفت نحوه، أمسكها من ذراعيها وأوقفها ثُمّ احتضنها وهمس في أذنها:
, -أعلم أنّك خائفة يا أختي، لكنّك الآن في خطر
, صاحت بغضب هادر:
, -خطر! الخطر هو ما تدفعونني للذهاب إليه وحدي؟ ألا تخافون عليّ!
, قال وهو يربّت على ظهرها:
, -وأنتِ الآن في حضني من يحميك؟
, قالت بثقة:
, -****
, -وهذا يقيني ويقينك الذي تربينا عليه يا "حبيبة"، لا تنسي أنّك الآن محاربة
, -لست محاربة٢ علامة التعجبولن ألقي بنفسي في النار وأزعم أنني لن أحترق! هذا جنون!
, -ادخلي غرفة الأشباح
, لم تجبه وبقيت على صمتها وعنادها، قال برجاء:
, -ثقي بي
, علا صوت نعيق الغربان، حلّقوا فوق البيت، حطّم الغربان بعض النوافذ، دلفوا المنزل، بدأوا يهاجمون الخدم، وعلا الصراخ والغربان تنقر أجسادهم، أمسكها "أنس" من ذراعها وركضا نحو غرفة الأشباح، وقال بجدية شديدة:
, -أنت الآن تعرضين كل من تحبينهم للخطر، وربّما تفقديننا جميعًا
, قالت غاضبة:
, -لم أعرّض أحدًا للخطر!
, -أنت تفعلين هذا الآن،٣ نقطة"حبيبة"، عندما تبدأ رحلتك سيختفي كلّ شيء هنا، لا تؤذيهم٣ نقطة
, -لا تقل هذا مجددًا، أنا لم أؤذ أحدًا!
, ازداد صراخ الخدم، أشفقت "حبيبة" عليهم وهم يصرخون، واعتصر قلبها عندما تخيّلت أنّ الغربان ستصل لأبيها وأمّها بعد قليل، نظرت لأخيها وكانت حائرة، في تلك اللحظة، كانت "مرام" قد لحقت بهم وصعدت الدرج بفستان زفافها الأبيض، ووقفت أمام الغرفة وقالت لـ"حبيبة" بثبات:
, "حبيبة"٣ نقطةلا تهربي واصطدمي بكلّ قوتك"
, التفتت نحوها وتذكّرت كيف كان "أنس" يروي لها عن "مرام" وكيف أنّ قوتها كمحاربة كانت في ثباتها على الحقّ، وليس في قوّة بدنها، فاستعادت رباطة جأشها، فهاهي فتاة مثلها قد ذهبت وحيدة وعادت على خير حال، قالت أخيرًا بصوت تخنقه العبرات:
, -حسنًا يا "أنس"٢ نقطةاخرج وأغلق الباب في الحال
, ربّت على كتفها وأسرع خارجًا وهي تطالعه بنظرة لم يرها على وجه أخته من قبل فانخلع لها قلبه، وأغلق الباب ووقف يستند برأسه عليه من الخارج وهو يصيح:
, -في أمان **** حبيبتي٢ نقطةفي أمان ****
, سكنت في مكانها للحظات كالصنم ثُمّ حاولت فتح الباب لكنّها فشلت، دارت حول نفسها وكانت تتخبّط في حيرة، أمسكت بحقيبتها، ووقفت تراقب الظلّ الذي كان يقترب من النافذة، اختفت كلّ الأصوات حولها، وعلا صوت خفق جناحين عظيمين، تراجعت "حبيبة" حتى التصق ظهرها بالجدار، ووقفت تراقب ظلّ هذين الجناحين وهو يقترب، كان حجم الظلّ يزداد شيئًا فشيئًا، دارت أنثى الصقر دورة واحدة في سقف الغرفة المرتفع فاهتزّ المصباح وتأرجح، ثُمّ هبطت وطأطأت رأسها وسكنت أمامها على الأرض، وقع في نفس "حبيبة" أنّ تلك هي "قطرة الدّمع" التي حملت "مرام" لمملكة البلاغة من قبل، فوقفت تحملق فيها تحت ضوء المصباح وهو يتأرجح، كانت عيناها تبرقان، لها ظهر أخضر زبرجدي، والجسد أبيض يخرج منه جناحان بديعان مبرقشان، وذيل عريض ومستدير عند نهايته، ذو طرف أخضر قاتم وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسها على الجانبين لون زمرّدي بديع يتصاعد قتامة حتى أعلى رأسها وكأنّه تاج!، ويمتد على الوجنتين كخطّ رفيع داكن يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين، بدت مهيبة الطلعة كالملكات.
, ضمّت جناحيها وألصقتهما بجسدها، حدّقت في "حبيبة" بعينيها المخيفتين، ثُمّ غطّست رأسها في جسدها. مرّت لحظات طويلة على "حبيبة" استيقظت فيها كلّ حواسها، كانت ترهف السمع بشدّة وتنتظر أن تبدأها هي بالكلام، وهذا ما حدث بالفعل عندما قالت بصوتها المهيب:
, -أنا "قطرة الدمع" يا "حبيبة"، سنرحل حالًا، فالأمر جدّ خطير، ولا بدّ أن نسرع لنتمكن من لقاء "الحوراء" فقد لا نلتقي بها مرّة أخرى
, -لماذا٣ نقطة
, أرادت "حبيبة" أن تتحدّث معها قليلًا، لكنّ"قطرة الدمع" لم تتركها لتكمل كلماتها، وطارت فجأة بضربة جناح واحدة واستوت على رأسها، فاقشعر بدن "حبيبة" ووقفت منكمشة وهي ترفع عينيها إلى أعلى، كانت "قطرة الدمع" متعجلة وكأنّ هناك من يطاردها، بسطت أنثى الصقر جناحيها في الهواء، ثُمّ احتضنت وجه "حبيبة" بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطت وجهها كلّه بريش جناحيها ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهتها وعينيها وأذنيها وخديها، لم تترك إلا أنفها وفمها لتتمكن من التنفس والكلام. شعرت"حبيبة" بجسدها يخدّر، وسرى في نفسها شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسدها وكأنّها ريشة في جناح الصّقر! حاولت فتح عينيها٢ نقطةكانت تظنّ أن ريش جناح "قطرة الدمع" ما زال يغطيهما، لكنّها فوجئت بنفسها تطير فوق بحر لازوردي واسعٍ وفي وضح النهار!
, كانت البروق تتوالى وتشق صفحة السماء وكأن هناك سيفًا عظيمًا من لجين يضوي، اقتربت "قطرة الدمع" وهي تخفق بجناحيها بينما تحمل "حبيبة" بمخالبها وتحلّق فوق البحر، والتي كانت تقاومها بعصبية شديدة، وتتأرجح في الهواء وتحاول التملص من بين مخالبها، ما زالت تستنكر ما يحدث لها، وما زالت ترفض الأمر، يا لها من فتاةٍ عنيدة!
, رجف قلبها عندما أرعدت السماء، اقتربت سحابة هشّة شاهقة البياض منهما وانبثق ضوء قويّ من بين طيّاتها وترجرج شعاعه وكأنّه يلوّح في السماء، ثُمّ سقط على وجه "حبيبة" فشعرت بخفّة وانشراح، لم تحترق! لم تتبخّر، لم تتلاشَ في الهواء!
, انعكس الضوء من جبهتها على سطح ماء البحر وقد انحدر منه شعاع لطيف ملوّن اختلط بأمواج البحر، حتى الزبد ترقرق وتهادى وكأنه يتراقص فرحًا وطربًا مما أذهل "قطرة الدمع" التي أصدرت صيحة غريبة تردد صداها في الأجواء وقالت برهبة:
, -"أيجيدور"!
, سحب الضوء رداءه الملوّن واختبأ في حضن السماء التي أرعدت فجأة وأبرقت مرّة أخرى فأصيب جناح "قطرة الدمع" بشرارة من شرارات البرق التي ملأت الأجواء، بدأ ريشها يدخّن ويحترق فألقت بـ"حبيبة" في ماء البحر رغمًا عنها ومالت نحو الغابة القريبة من الشاطىء، هوت وسقطت بسرعة شديدة واختفت بين الأشجار.
, غاصت "حبيبة" في ماء البحر واختفت تحت سطحه وأحاطتها الظلمة من كل صوب، كاد ثوبها الثقيل ببطانته الاسفنجية يُغرقها فقد التفّ على جسدها وأعاقها فلم تتمكّن من السباحة، شعرت بدوّامات الماء تدور خلف ظهرها وكأنّ الماء يدفعها دفعًا تجاه سطحه، رفعت رأسها أخيرًا وشهقت ثُمّ بدأت تضرب الماء بذراعيها سابحة نحو الشاطئ، خرجت منه و الماء يقطر من ملابسها وهي تركض حافية القدمين بعد أن فقدت حذاءها عندما سقطت في الماء، سارت بين مجاميع الأشجار الكثيفة بحثًا عن "قطرة الدمع" هنا وهناك، كانت تنادي عليها وهي تسير بصعوبة بين الأحجار، وتكرر النداء كلما توقفت لتلتقط أنفاسها.
, بعينين نابهتين، وبجبهة واثقة، وبرأس متعاليةٍ بكبرياء، وبصدر يرحب بالحياة والموت معًا، حيث الروح محلّقةً في رحاب **** وقفت "حبيبة" بقامتها متوسطة الطول وقوامها المشدود متأهّبة لما هو قادم، علت وجهها غيمة حزن للحظات، بدأت تجول بعينيها اللوزيتين وتمشّط المكان، لها نظرة تشبه نظرات أخيها "أنس"، تذكّرت تحذير جدّها مرارًا لكي لا تُكرر ما فعله شقيقها من قبل، عندما اندفع راكضًا في الغابة ولم ينتظر لقاء "المغاتير"*، ولكنّها أُرغمت على خوض تلك الغابة، وهاهي وحيدة الآن!
, هامش: لقب لمجموعة من الفرسان وهم من شخصيات الجزء الأول، والمغاتير لقب يطلق على نوع من الإبل البيضاء النفيسة جميلة المظهر وغزيرة الوبر، يقول عنها أهل البادية: المغاتير نور القلب.
,
, بدأت تتحسس بيسارها الخنجر وكتاب "أيجيدور" بحقيبتها القماشية المبتلّة، أخبرها جدّها أنّ عنوان الكتاب كلمة نوبية تعني أنقذني، وكانت صيحة "قطرة الدمع" بتلك الكلمة عندما رأت البرق تتردد في أذنيها.
, رفعت كفها الأيمن لتتحسس القلادة وأظهرتها من أسفل حجابها ودارت بعينيها في المكان مرّة أخرى، متأهّبة كانت، تنتظر زعيم "المجاهيم"* ليظهر أمامها فجأة. رفعت رأسها وحدّقت في السماء مرارًا، كانت ترزح تحت موجة من المشاعر المختلطة، خوفٍ، وحذرٍ، وتأهّبٍ، وسخطٍ شديدٍ على هذه الرحلة التي أرغمت على المضي فيها، ورغبة شديدة في البكاء، لكنّها لن تبكي أبدًا٢ نقطةلن تبكي!
, هامش: المجاهيم لقب يطلق على مجموعة من الجنّ وهم من شخصيات الجزء الأوّل، رجل جهم الوجه أي كالح الوجه، ومعنى جهمه جهمًا أي استقبله بوجه كريه، ولقب المجاهيم يطلق على بعض أنواع الإبل النجدية السوداء ، كبيرة الحجم وضخمة العظام، تتحمل الظروف القاسية بكل تضاريسها وتحولاتها المختلفة
,
, في طفولتها لم يكن البكاء خيارها الأول عندما كانت تقع في ورطة ما أو تفقد لعبتها، بل كان الخيار الأخير، والآن وهي في التاسعة عشرة من عمرها فلن يكون البكاء ضمن خياراتها المتعددة، فهي تكره البكاء! وتراه ضعفًا لا يليق بها.
, تذكرت نظرات "أنس" وهو يروي لها ما مرّ به. وتلك التفاصيل الصغيرة التي روتها لها "مرام" عن كل من التقت بهم في مملكة البلاغة، (أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، المجاهيم، كومبو، الحوراء، سامي كول، وحراس المكتبة)*، كانت تحفظ أسماءهم جميعًا وتسترجعها الآن. مرّت لحظات ثقيلة قبل أن ترى طيفًا يقترب، هناك من يشقّ طريقه بين الأشجار٣ نقطة بغُرّتها الناعمة، وعينيها اللامعتين، وظهرها المستقيم وذيلها المرتفع بأناقة، كانت تلك الفرسٌ تهرول نحوها بخفّةٍ ورشاقة، ترفع وتخفض رأسها وكأنّها تحييها!
, هامش:
, أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، الحوراء، حراس المكتبة، وقطرة الدمع من شخصيات الجزء الأول برواية "إيكادولي"
, اندهشت "حبيبة" عندما رأتها تقترب، جمالها الأخّاذ عقد لسانها، رفعت كفّها ببطء وبحرص شديد ووضعتها على رأس الفرس، تخشّب جسدها للحظات،كانت تترقب ردّة فعلها، تعجبّت عندما رأتها تغمض عينيها وتستعذب لمس كفّها لرأسها بلطف! همست بصوت مرتعش:
, -كم أنت جميلة، ما أروع عينيك!
, كانت تلك هي "الترياق" التي سلكت دربًا من تلك الدروب العجيبة تسابق رفاقها الستة، مرّ وقت ليس بالقليل عليها وهي تطوف بالغابات والبساتين بحثًا عن رفاقها لكنّها لم تعثر عليهم، ظلّت "حبيبة" تربّت على رأسها وتتحسس بلطف عنقها الذي كان لونه الأحمر القاني الضارب للسواد رائعًا وخلّابًا، اطمأنّت "الترياق" لها فقالت بصوت عميق له رنّة مميّزة:
, -السلام عليكِ
, قفزت "حبيبة" للخلف في ذعرٍ عندما سمعت صوتها، لكنّها سريعًا ما استعادت رباطة جأشها وطَمْأنت نفسها، فطالما الصقور تتكلّم هنا فما الغريب إن حدّثتها الخيول! ازدردت ريقها بصعوبة وردّت السلام باقتضاب، أحنت "الترياق" رأسها وكأنّها تحاول أن تشعرها بخضوعها لها وقالت:
, -أنتِ غريبة عن تلك البلاد، أليس كذلك؟ فتلك الثياب لا تشبه أيًّا من تلك التي رأيتها خلال جولاتي هنا وهناك.
, حرّكت "حبيبة" ثوبها ببطانته الإسفنجية السخيفة وقالت وهي تعصر طرفه بيديها:
, -نعم أنا غريبة
, -عمّ تبحثين إذًا أيتها الحائرة؟
, -عن "قطرة الدّمع"٣ نقطةهل تعرفينها؟ وهل سمعتِ عن "المغاتير"؟
, -لا٢ نقطةلم أسمع عنهما!
, -هل تعرفين أين قصر "الحوراء"؟
, -لم أسمع عنه أيضًا!
, أدركت "حبيبة" أنّ تلك الفرس لا تعرف أنّها محاربة، عادت تقترب منها ووضعت كفّها على رأسها مرّة أخرى ومررتها خلال غرّتها السوداء فأظهرت الفرس أُنسًا لفعلها مرّة أخرى وقالت:
, -اسمي "الترياق" وأنا من إناث خيول "أوبالس"
, قطّبت "حبيبة" حاجبيها وسألتها:
, -وماذا تعني "أوبالس"؟
, -لا أدري، هكذا أخبرنا زعيمنا "حَيزوم"، فنحن عشرة من الخيول لا نعرف إلّا بعضنا البعض، ولا نذكر ماضينا وقد ضللنا الطريق لفترة طويلة، كنّا نركض من بستان لآخر، نركض وحسب!، ولا نذكر إلّا أسماءنا فقط.
, -غريب أنّ اسمك عربيّ أصيل٣ نقطة "الترياق"!، وكذا اسم زعيمكم "حَيزوم"، أمّا لقبكم هذا الغريب فيبدو لي أنّه ليس بعربيّ أبدًا!٣ نقطةحسنًا أيتها "الترياق" فلنبحث معًا عن صديقتي بالغابة، هي أنثى صقر واسمها "قطرة الدمع" فهل ستساعدينني؟
, أحنت "الترياق رأسها واقتربت لتمكن "حبيبة" من ركوبها، ترددت "حبيبة" للحظات ثُمّ صعدت على ظهرها بحذرٍ شديد عندما تذكّرت أنّها فقدت حذاءها ولن تستطيع السير حافية في الغابة، فمن الجميل أن تستعين بفرس في رحلتها حتى تعثر على حذاء مناسب لها، وقالت بعد أن استوت على ظهر "الترياق":
, -سامحيني فملابسي ما زالت مبتلّة بماء البحر
, حمحمت الفرس وقالت:
, -تمسّكي جيّدًا ولا تقلقي٣ نقطةسأسير ببطء حتى تعتادي على ركوبي
, ومضت "حبيبة" تتجوّل في الغابة تبحث عن "قطرة الدمع" ومعها رفيقة جديدة بدأت تأنس بها، ساقتها إليها درب من دروب عجيبة فُتحت فجأة وظلّت معلّقة في الهواء بعد أن سقط المطر، شيئًا فشيئًا بدأت تعتاد عليها، انحنت "حبيبة" بجذعها للأمام، شعرت "الترياق" بأنفاس الفتاة الدافئة تلامس عنقها فبدأت تسرّع من هملجتها في الغابة، أسرعت٣ نقطةوأسرعت٣ نقطةوأسرعت، حتى شعرت حبيبة أنّها تطير، أصبحتا وكأنّهما كيان واحد يركض ويعدو، صوت حوافر "الترياق" وهي تدقّ الأرض أطرب "حبيبة"، كانت تحلم بالفروسية، كثيرًا ما تمنّت أن تمتطي فرسًا كهذه، كان هذا ضمن أحلام يقظتها، وها هي الآن تمتطي فرسًا جميلة ورشيقة، قطعا معًا مسافات طويلة في تلك الغابة، كان الجوّ باردًا ورطبًا، هدّأت "الترياق" من سرعتها وعادت بـ"حبيبة" للمكان الذي التقيتا فيه أوّل مرّة٢ نقطةلتبدأ الحكاية٣ نقطة
,
, ١٣ العلامة النجمية
,
, "قلعة الدَّيجور"
, نام قرص الشمس على صدر الأفق متدثرًا بزرقة السماء، ما زالت الغيوم عالقة، فاحت رائحة الرطوبة في الهواء، فقد ابتلّت جدران البنايات في حيّنا البسيط بزخّات المطر بعد أن أرخت السماء أجفانها المخضلة بالدموع. في بيت كان عامرًا بأنفاس أمي كنت أجلس ساكنًا على كرسي خشبي هالك متكئًا بمرفقي على سطح المكتب البارد في غرفتي التي أصبحت كمغارة "علي بابا" منذ بدأت كتابة تلك الرواية. نافذة مغلقة وأكوام من الأوراق والكتب والملابس هنا وهناك، كان يزعجني أن تحرّكها أمي عندما أشرع في الكتابة فأصدها وأمنعها حتى تيأس وتتركها على حالها لترضيني، وتخرج بهدوء لتغلق الباب المقيت الذي يفصلني عن حياتها البسيطة التي لا تدور إلا في فلكي، وهأنذا الآن عالق بين السطور لم أحرّك شيئًا من مكانه منذ فترة طويلة. أحاول إنهاء تلك الرواية قبل أن تلحق بسابقاتها، فلم أفلح يومًا في كتابة ختام لرواية! تراكمت الأوراق في درج مكتبي، وعلى الرفوف، وتحت فراشي، لا توجد نهايات للروايات التي أكتبها، ولا أدري ما السبب! أقف دوما عند نقطة ما وينضب فكري فجأة! أصاب بصقيع في رأسي وأعجز عن التفكير وكأنني لم أكتب من قبل، وأفشل في إتمام ما بدأته، كرهت هذا في نفسي كما كرهت نوبة الإحباط الشديدة التي تصيبني في كلّ مرّة. هذه الليلة، عزمت بشدّة على إكمال تلك الرواية، فتلك النهايات المفتوحة تبقى ملتصقة بروحي وجوارحي وأشعر بالثقل والهوان والضعف وكأنني أجرّها خلفي في كل مكان، وكأنّ شخوصها يطاردونني ويلومونني على ما فعلته بهم، مللت من تكرار سؤال الناس لي عن الجديد، وهم يعلمون أنني اعتزلتهم من أجل الكتابة، وها هو العام تلو العام يمر بلا ثمرة ترضي فضولهم. عطستُ عطسةً قويةً آلمتني على إثرها ضلوعي وشعرتُ بقشعريرة فقمت وارتديت معطفًا دخّاني اللون لم يمرّ على الكواء منذ فترة طويلة فوق منامتي الصوفية الزرقاء، وارتديت جوربًا أرجوانيًا قديمًا لأتدفّأ به، كان مثقوبًا لكنني لا أشعر بالدفءِ إلّا إذا ارتديته، أغلقت أزرار المعطف وعدت لمقعدي في الحال، بردت قهوتي فرشفت منها رشفةً ورحت أتلذذ بنكهتها على طرف لساني،كنت أحملق في أوراق دفتري وأقرض أظافر يدي اليسرى وأنتظر اقتناص فكرة ما لأكمل الفصل الأخير من الرواية عندما شعرت بشيء غريب!
, بدأ جسدي يتصلّب وكأنني أصبت بالشلل، خفوت شديد اعتراني وأحسست بدوار شديد ثمّ ثقلت أنفاسي، صرت أشعر وكأن كل شبر من جسدي تحول إلى رمال، ذرّة تلتصق بذرّة وتطبق عليها بقوّة وهناك من يحاول سحب هذه الذرّات، حاولت أن أصرخ لكنني لم أتمكن من تحريك شفتي ولا لساني، أغمضت عيني واستسلمت لهذا الشعور بالانسحاق والتلاشي، ازداد إحساسي بكون أطرافي كتلًا من الرمال، بدأت أشعر أن ذرات تلك الرمال تتطاير شيئًا فشيئًا وتتسرّب من بين أضلعي، وكأنّ روحي ترحل وتغادر جسدي وتصّعّد في السماء، شعرت للحظات بالخفة وكأنني فقاعة تسبح في الهواء، وفجأة داهمني إحساس قوي بالسقوط من مكان مرتفع وبسرعة شديدة ازداد لها خفقان قلبي، بدأ جسدي يؤلمني وكأن هناك من يهرس لحمي ويخمشه بمخالبه تارة ويدكُّها بقبضته تارة أخرى، وتوالت الضربات، ثم عاودني الإحساس بأن جسدي يتكوّن من حبّات رمال وهي الآن تتراكم فوق بعضها البعض، حتى أنني سمعت عَزيف* الرمال وهي تتحرّك، وفجأة! اندفع الهواء متدفقًا إلى صدري بقوّة فشهقت بصوت مسموع قبل أن أفتح عيني لأفاجأ بها أمامي، إنها الجميلة "جلاديولس"* تأمر أحدهم بحزم ولهفة:
, -أحضره إلى هنا في الحال!
, برداء حريري فاخر تنحدر اللآليء السوداء على أكمامه وأطرافه كانت تقف بشموخ وحولها الحراس،كان العقد يتألّق حول عنقها كفرع مرجان يلمع تحت سطح الماء، يعكس على بشرتها خيالات جميلة، وكانت عيناها تبرقان وهي تتفحص ملابسي بإزدراء، ما زلت أرتدي منامتي الصوفية الزرقاء وعليها معطفي البالي، جوربي الأرجواني القديم المثقوب ما زال على قدمي، رطوبة غرفتي ما زالت تلتصق بأنفي، وما زالت مرارة القهوة التي كنت أرشفها قبل أن أنتقل فجأة إلى هذا المكان الغريب على طرف لساني٣ نقطة
, هامش:
, "العَزيف" هو صوت الرّمال إذا هبّت بها الرّياح
, "الجلاديولس" نوع من الزهور يرمز لقوّة الشخصيّة ألوانه متعددة ويعيش لفترة طويلة.
, بملامح جميلة لكنّها صارمه وصوتٍ خالٍ من العاطفة قالت:
, -وأخيرا وصلت، أهلكنا انتظارك!
, قُلتُ بلهجة الذي أفاق من غيبوبة طويلة وكنت أشعر بالذهول:
, -"جلاديولس"! معقول! أأنتِ هي بالفعل؟
, ثُمّ ازدردتُ ريقي بصعوبة وقلت بخفوت:
, -لا بدّ أنني أحلم! أنت أميرة القلعة٣ نقطة"قلعة الدَّيجور"*
, -وما الجديد في هذا!
, قلت هامسًا وكأنني أخشي أن تسمع كلماتي:
, -إنّها٣ نقطةرواية من رواياتي٢ علامة التعجب
, هامش:
, الدَّيجور أي الظلمة، ويُقال ليل ديجور أي ليل مظلم شديد السواد، وجمعها دياجير
, راحت تطالعني بعينيها اليقظتين وقالت:
, -أين كتاب "أيجيدور" أيها المحارب؟
, قُلت متعجبًا:
, - "أيجيدور"٢ علامة التعجب وماذا تعني تلك الكلمة؟ ولم تنادِينني بالمحارب؟
, -لأنّك محارب!
, هززت كتفي وقلت باستنكار:
, -لست محاربًا يا "جلاديولس"
, لكزني أحد الحرّاس في صدري فأوجعني وقال بغلظة:
, - الأميرة "جلاديولس".
, كُنت أحتاج لوقت لكي أستوعب كلّ هذا، لست ببيتي، ولم أفقد وعيي، ويبدو أنّه ليس حلمًا فأنا أتألم من ضربة وجهها لي حارس أحمق! وأنا أقف الآن أمام أكثر شخصيات رواياتي شرًا وحقدًا ونفوذًا٣ نقطةوجمالًا أخّاذًا، لا أدري أين! ولا كيف! هذا شيء عصيّ على الفهم، لكنني بالتأكيد فقدتُ عقلي. عندما جلت بعيني في المكان بتفاصيله الدقيقة أصابتني نوبة هستيرية من الضحك، انخرطت في الضحك ببلاهة! كنت أرتجف وأنا أقهقه كالمجنون، ثُم شعرت بغصّة في حلقي وبدأت أشعر بالرّهبة عندما طالعت وجوه حرّاسها حولها وقد كانوا أيضًا كما وصفتهم في روايتي، وجوه مكفهرة مظلمة، وجماجم ضخمة مثقوبة بعيون قاتمة ضيّقة، يلهثون في جشع كالوحوش والعرق يغمر جبينهم بالكامل، كان المكان مقفرًا ومخيفًا، وكيف لا٣ نقطةوقد غابت الشمس خلف السحب السوداء التي أحاطت بهذا المكان من كلّ صوب، لا شمس، لا نور، لا مطر يغسل الأجواء ويخفف عنهم ما هم فيه من ظلمة، شُعلُ النار التي لا تنطفئ أبدًا هي مصدر الضوء، لا بدّ أن يحترق شيء ما لكي تنير "قلعة الدَّيجور" وما حولها، ولكي يستدلوا على الطريق ويمارسوا حياتهم بطريقة ما٢ نقطة لا بد من٢ نقطةنار٢ نقطةحريق٢ نقطةنهاية٢ نقطةرماد٢ نقطةأو فناء٢ نقطةهؤلاء قوم لا يعرفون النهار!
, قالت "جلاديولس" بعصبية شديدة:
, -فتِّشوه
, اقترب الحراس ففاحت من أجسادهم رائحة الحطب المحترق، قلّبوا ملابسي وخلعوا عني معطفي، وفتشوني بدقّةٍ شديدةٍ ولم يعثروا بالطبع على الكتاب الذي سألتني عنه الأميرة "جلاديولس"، غمغم أحدهم وهو يرشقني بنظرة حاقدة:
, -يبدو أنّه لم يلتقِ بحراس المكتبة بعد يا مولاتي، وربما فقد الكتاب!
, قالت بازدراء وهي تتأمّل شعري المُهمل، وملابسي البسيطة التي كنت أرتديها بالبيت ، وعيني المتعبتين والمحلّقتين بالسواد من السهر على الكتابة طوال الشهر الماضي:
, -تلك السحنة وهذه الملابس لا تليق بمحارب، لا يبدو محاربًا أبدًا٣ نقطة
, ثُم التفتت "جلاديولس" لأحدهم وقد كان يقف خلفي مباشرة فالتفتُ معها في ذات اللحظة فأصابتني قشعريرة عندما رأيت وجهه الذي كان قطعة من الظلام تسبح بين طيّات الثياب، لا ملامح ولا عينين! هذا ليس ببشر!٣ نقطةلا بد أنّه شبح أو ربّما من الجان٢ نقطة
, قالت الأميرة موجهة كلامها إليه:
, -يبدو أنّك فشلت في مهمتك
, قال بصوت أجشّ غاضبٍ وكأنّه نابع من بئر عميق:
, -"المجاهيم" لا يفشلون في مهامهم أبدًا، كانت الصقور تردد اسمه في الأجواء منذ فترة، هذا كاتب وليس بمحارب.
, -وماذا سأفعل بهذا التافه! انظر إلى هيئته وثيابه الرثّة٣ نقطة
, شعرت بالدماء تتصاعد لرأسي، كرهت نظراتها لي ولثيابي، قال المسخ ردًا على كلماتها الأخيرة:
, -له دور في كل شيء يحدث هنا يا صاحبة الجلالة، وسيظهر المحارب ومعه كتاب "أيجيدور" لا ريب، فخطوطهما ستتقاطع هنا وسيكملان مهمة ما تتعلّق بالكتاب، احتَجِزوه لفترة وجيزةٍ وسيبحث المحارب عنه وعندها ستحصلين على الكتاب ستحلّ الأمور بشكل مختلف، ولن يحدث ما تخشين حدوثه، سأرحل الآن فقد وفّيت بوعدي وجاء دورك، لا تنسي وعدك ٣ نقطةلا تنسِي فنحن لا ننسى.
, قال جملته الأخيرة بنبرة لا تخلو من التهديد واختفى في لمح البصر بعد أن تركها وقد جمدت في مكانها للحظة وبدا عليها الخوف، لكنها حرّكت يدها في شعرها وهزّت كتفيها بخيلاء واستدارت ترفل في ثيابها السوداء محاولة إخفاء ما أصابها من هلع. سَبرتُ أغوار عقلي بحثًا عن كلمة "المجاهيم" لكنني لم أتذكر أنني كتبت عنها في رواياتي!، رحت أتخيل راجفًا كينونة هذه المخلوقات،كلّ شيء هنا أعرفه إلا هذا الذي يدّعي أنّه منهم! ولم أذكر أبدًا كتابًا بعنوان "أيجيدور" الذي سألتني عنه الأميرة! كما أنني لست محاربًا بالفعل!
, -ما اسمك؟
, باغتتني بسؤالها وكنت غارقًا في خواطري التي توالت كالبروق المتلاحقة حتى أنني تأرجحت في مكاني للحظة، أجبتها في الحال:
, -"يُوسف"
, قالت بغطرسة وجمود:
, -انقلوه إلى سجن قلعة الدَّيجور ريثما أفكر في أمره.
, قُلتُ بانزعاج شديد:
, -يا إلهي! هل تعين حقًّا مدى سخف ما تتكلمين عنه؟ سجن القلعة! حيث العذاب، والجثث المتفسّخة، ومخالب من حديد يرتديها حرّاس أغبياء في أصابعهم الغليظة و ينهشون لحم من يدخل إليهم بأمر منك٢ علامة التعجب
, التفتت بعصبية ورشقتني بنظرة مفعمة بالاحتقار وقالت:
, -قيّدوه في الحال، واسجنوه حتى نحاكمه .
, تمنيت لو انتهى الأمر هنا واستيقظت من نومي على صفعة من أحدهم ليوقظني من كابوس مزعج، أو بهزّة من يد حانية وهي ترقيني وتمسح على صدري كما كانت تفعل أمي، لكنّهم قيّدوني بالسلاسل وجرّوني خلفهم حيث يحيطنا الظلام من كلّ صوب، وفوق رؤوسنا السماء مدلهمّة يملؤها السحاب الأسود يملّس بعضه على بعض يتكثّف ويتداجي ويختنق، والجنود الغلاظ يحملون شعل النار يهتدون بها بين الأشجار، تتراقص انعكاسات اللهب على أكتافهم العارية، وقد أطلّت نيران "قلعة الدَّيجور" وسط الظلمة الحالكة من بعيد ونحن نسير تجاهها، هنا خفق قلبي بشدّة وخالجني شعور بالحزن٣ نقطة
, أين أنا؟
, وما الذي يحدث لي؟
, لقد ندمت تلك اللحظة أنني كتبت تلك الرواية بكل ما فيها من ظلم وقسوة، تذكرت الأميرة "هيدرانجيا"* وما حدث لها، لا أريد أن أعيش ما ستمرّ به تلك الجميلة، لا أريد أن أراه بعيني، راودني شعور بالذنب كاد يقتلني، شعرت بالوحدة وسرت معهم مشتت الفكر ثائر الوجدان أسيرًا لشخوص رواية مقيتة فشلت في أن أدوّن لها نهاية، ويبدو أن نهايتي ستكون على أيديهم هنا! ازددت غوصًا في تلك البيئة، وحياةً في هذا الحلم الغريب.
,
, هامش:
, "الهيدرانجيا" نوع من الزهور معناها القلب المخلص وهو من الزهور الأكثر شعبية واشتهر باستخدامه في باقات حفلات الزواج.
, ٥ العلامة النجمية
,
, مُوراي
, بذراعيه مفتولي العضلات وبقميصه الحنطيّ اللون والمفتوح على صدره النحاسي المكشوف كان يراقب أمواج البحر بلونه الرائق في صمت مهيب، السماء اللامتناهية برونقها تهدئ من روعه، كان يتمنطق بحزام عريض ماروني اللون بينما يعبث في أنشوطته ليحكم ربطها على بنطاله الكتّانيّ الفضفاض بعد أن خرج من البحر للتوّ، لا بدّ أن يعود الآن قبل أن يرخي الليل عباءته على المكان. على جبهته عَقد شريطًا بنفس لون حزامه، لا يدري لماذا يصرّ على تلك العصابة بلونها الماروني القاتم، ربّما لأنها بلون ثياب أبيه التي كان يرتديها ذاك النهار الذي خطفوه فيه من حِضنه منذ سنوات. عينان واسعتان انزوى فيهما حزن شديد، بينما انعقد بين حاجبيه غضب جارف، ورغبة حارقة في الانتقام. عندما نُزع من حِضن أبيه كان غلامًا صغيرًا في العاشرة من عمره يوشك على البلوغ، يلعب معه أقرانه من أبناء النوبة، بعد أن نزحوا في مجموعات من قريتهم في جنوب مصر، إثر معاناة قريتهم من ظلم شديد من أحد الأمراء، ورحلوا ليستقرّوا على شاطئ البحر الأحمر، وبدأ آباؤهم يمتهنون الصيد، فنشأوا وقلوبهم معلّقة بماء البحر الرائق، وعيونهم تذوب عشقًا في زرقته البديعة، كان يركض هنا وهناك، نقي السريرة، مشرق العينين على شفتيه استقرّت ابتسامة رائعة، يرى الدنيا جميلة بألوان طيفها السبعة، حتى انتزعوه من غيمة السعادة تلك ليلقوا به في ظلمة تلو ظلمة مع رفاقه، لا يعرف منهم إلا رفيق دربه وصديق طفولته الذي كان يلازمه كظله وقد سُرق معه في ذات اليوم. تمرّد الصغير فور أن اشتدّ عوده عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره وهرب من العصابة التي سرقته من أهله، وفرّ منهم وحيدًا بعد أن فشل في إقناع رفيق دربه الذي كان يستأنس به، استقر أخيرًا في قرية "الدحنون"* والتي اشتهرت بكثرة أزهار "خدّ العذراء" الحمراء في بساتينها، وفي الطرقات، وحول البيوت، حتى استحال كلّ انعكاس للضوء هناك أحمر مبهجًا زاهيًا وجميلًا.
, هامش:
, الدحنون : هي شقائق النعمان و هو اسم زهرة بريّة جميلة حمراء ارتبطت بالأدب العربي، قيل إنّها نبتت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة، عندما داسته الفيلة لما رفض الخضوع لملك الفرس بتسليم نساء العرب له في معركة ذي قار، ولهذا نسبت إليه، في الأردن وفلسطين والشام والعراق يطلقون عليها الدحنون أو الدحنونة أو الحنونة.
, التقى هناك بالعجوز "مِسكة" التي كانت تعيش وحيدة في دارها على أطراف القرية، يعتزلها الناس رغم طيبتها ولا يزورونها إلّا قليلًا مما لفت نظره إليها، سألهم عن السبب فأخبروه أنهم يتشاءمون منها، فقد عثروا عليها في قارب مع مجموعة من النساء نازحين من أرض بعيدة، كنّ جميعًا في قارب واحد، وكانت الناجية الوحيدة من بينهن!، جلست المسكينة بين جثث رفيقاتها ولم تجرؤ على الإلقاء بهن في البحر، ولما لاحت لها قوارب الصيادين استغاثت بهم، تعجّب من نظرتهم القاسية لها فقد رقّ لحالها فأحسن إليها، التمست فيه ابنًا بارًا لها وكان خير الابن وخير الجليس. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ يعمل لينفق على نفسه وعليها، وكانت تحنو عليه كثيرًا واعتبرته حفيدًا لها. كان "مُوراي"* شابًا قويّ الشكيمة، صعب المراس، شديد الذّكاء يصعب السيطرة عليه، وكانت العجوز تعرف هذا عنه فكانت تتركه يخرج في رحلاته خارج القرية دون أن تسأله عن وجهته ولا متى سيعود، كان يعود في مرّات بغلام أو اثنين، وكثيرًا ما كان يعود بأكثر حتى صاروا يتكدسون في بيت العجوز "مِسكة " التي كانت ترق لهم، بعضهم استطاع "مُوراي" أن يعيده لأهله، وبعضهم لا، شاع في القرية أنّه لصّ ويسرقهم، وفي الحقيقة كان ينتزعهم ممن سرقوهم وينقلهم لبيت العجوز ليرعاهم حتى يبحث عن أهاليهم ويعيدهم إليهم، كان يبقيهم بعيدًا عن عالم السرقة والاستعباد والجوع والقهر حيث كانت تلك العصابات تستغلّهم وتربيهم على هذا، وأحيانا كانوا يبيعونهم بأبخس ثمن٢ نقطة هو يعرف هذا وقد ذاق ألوانًا من العذاب هناك، عاش "مُوراي" صلبًا، غلبت قوّة روحه قوّة جسده، وغلبت قوّة جسده قوّة حزنه، ثابت كالطود رغم ما ألمّ به من مصائب، غلب الحياة بما تميز به عن غيره، قُطعت وشائجه فوصلها بالعجوز وبالصغار ووصلهم ببعضهم البعض، كان يحاول صنع العائلة التي حُرم منها ليستأنس بهم.
, بدأ الجيران يشتكون "مُوراي" لكبار القرية، وتعرّض للكثير من التهديد، خرج ومعه "الحزاورة"*، هكذا كان يطلق عليهم، كانت كلمات أبيه تتردد في أذنه:
, -أتدري يا"مُوراي" أنت الآن مُميّز جدًا، لكنني أخشى عليك من الغدّ
, -لماذا يا أبي؟
, -لأنّك الآن من الحزاورة*
, -ماذا تعني؟
, -لقد اقتربت من البلوغ يا ولدي، ما زلت نقي السريرة، على فطرتك، لا تحمل غلًّا ولا حقدًا لأحد، نفسك التي بين جنبيك تشبه الحليب الأبيض الصافي الذي لم يتعكّر
, -وهل هذا حسن يا أبي؟
, -حتى الآن٣ نقطةنعم
, -فما يقلقك؟
, - شهواتك لم تستيقظ بعد، عندما تبلغ سيبدأ جهاد نفسك، ستصارعها يا "مُوراي"، فتمسّك بنقاء سريرتك ما استطعت يا ولدي، ودعني أزرع فيك ما ستفخر به غدًا، وسأدعم ما رزقك **** به من خصالٍ حميدة٢ نقطةفساعدني أرجوك، واقترب من **** لينزع عنك كل درن يعلق بنفسك، كن صديقي وسأكون صديقًا لك حتى آخر لحظات عمري، لو اجتزت تلك الفترة محتفظًا بنقاء نفسك ولم تتغيّر ستكون شابًا رائعًا، وغدًا ستحصد قمح رجولتك عندما يشتدّ عودك.
, كان الأب يوقّع كلماته بابتسامة، ثم يعانقه بحنان حتى ينصرف "مُوراي" من نفسه، لا ينزع ذراعيه عن عنقه أبدًا حتى ينزعها هو بنفسه٣ نقطةوأين ذاك الحِضن الآن!
, أحب الصغار "مُوراي" واتخذوه أخًا كبيرًا لهم، ذهبوا إلى البستان الذي اشتراه السيّد "بركات" تاجر الأقمشة الثري الذي ظهر في القرية فجأة وكان يبحث عن دار مناسبة تليق به وبابنته ليقيم فيها، كما كان يبحث عن خادم قويّ ومخلص، رحّب بـ "مُوراي" مستأنسًا بوجوده في بستانه الواسع وليقوم بحمايته وخدمة الخيول الثلاثة التي وجدها "بركات" في بستانه تحت شجرة بلوط عتيقة واكتشف أنّهم يتحدّثون بلغة البشر!، رفضوا الرحيل فاستبقاهم وأطعمهم، انتقل "مُوراي" للبستان وخرج من قرية "الدحنون" ومعه ما بقي من الحزاورة ورافقتهم العجوز "مِسكة " وانتقلوا جميعًا إلى البستان، حيث كانت "الجُمانة" تقف تحت الشجرة تحرّك عنقها يمينًا ويسارًا وتصدر صوتًا غريبًا والدموع تسيل من عينيها مما لفت نظر "مُوراي"! فاتجه إليها ودار بينهما حوار لم ينسه أبدًا.
, هامش:
, مُوراي: من الأسماء النوبية وتعني المصارع
, الحزاورة: جمع حَزْوَر وهو الغلام الذي قارب البلوغ، واللفظ ذكر في سنن ابن ماجة:
, "عن جندب بن عبد **** قال كنا مع النبي صلى **** عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا"
, اقترب منها بهدوء، وبدأ يمسح على رأسها بحنان، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يقترب فيها من فرس، تبدو رائعة، كانت ملامحه تتراقص بين الفرحة برؤيتها، والانبهار بجمالها، والتعجّب من دموعها، والحماس لامتطائها والركض بين الحقول والبساتين وعلى شاطئ البحر بسرعةٍ شديدة، وضع يده على ظهرها فارتجف جذعها، لكنّها لم تتحرّك، نظر في عينيها ورأى انعكاس صورة وجهه، حملّق في مقلتها وأنصت لكرير صدرها، وقف للحظات مسحورًا بجمالها، ما زالت دموعها تسيل! قال متعجبًا:
, -يا مِسكينة، لماذا تبكين؟
, قالتْ "الجمانة" بخفوت:
, -أُخفف الحمل عن قلبي، فالدموع رحمة
, شهق "مُوراي"، استحال جلده جلد إوزة، ابتعد عنها وازدرد ريقه بصعوبة وقال:
, -أتتحدثين بلغة البشر!
, -نعم، ألم يخبرك صاحب البستان؟
, التفت تجاه "بركات" الذي كان يراقبه من بعيد، هزّ الكهل رأسه ففهم "مُوراي" ما يرمي إليه، قال بصوت مرتعش:
, -لا٢ نقطةلم يخبرني، ولكن كيف؟ هل أنت مسحورة؟
, -لا
, -هل أنتِ من الجنّ؟
, -أنتم معاشر البشر تفسرّون كلّ شيء لا تعرفونه دائمًا بأنّه بسبب الجنّ! لست منهم يا فتى، لست من الجنّ!
, -كيف إذًا تحدثينني بلغة البشر!
, -إرادة **** تُحقق المعجزات!
, ثُمّ اقتربت منه بينما كان "بركات" يشير إليه من بعيد ليستمر في حديثه معها وقالت:
, -لا تخف مني يا٣ نقطةما اسمك؟
, رمقها بذهولٍ للحظات ثُمّ قال:
, -"مُوراي"، وأنتِ؟
, قالت برجاء وكانت تبحث عمّن ينصت إليها ويخفف عنها من البشر:
, -"الجمانة"
, ثُمّ أردفت:
, - أرجوك لا تخف منّي يا "مُوراي"، كن حنونًا كصاحب البستان
, عاد "مواري" ينظر لوجه "بركات" الذي كان يبتسم ويطمئنه يإيماءات مختلفة، قال بعد تردد:
, -حسنًا، أخبريني الآن، لم البكاء يا عزيزتي؟
, -أخبرتُك عن سبب بكائي٢ نقطة أخفف الحمل عن قلبي، طال غياب الحبيب
, -وأين ذهب هذا الحبيب؟
, -رحل فجأة، لا أدري إلى أين، ولا أدري متى سيعود، وأخشى ألّا يعود
, وعادت للبكاء، قال وقد رقّ لحالها:
, -ظننتُ أنّ الخيول قويّة، فلم البكاء؟، أليست الدموع سلاح الضعفاء؟ وراية المستسلمين!
, قالت بخفوت:
, -ربّما أنا ضعيفة، ولكن ليست الدموع دائمًا هكذا، قد تكون أحيانًا منتهى القوّة!
, -كيف؟
, -دموع التائبين منتهى القوّة، لأنّها لله، فهؤلاء الذين قهروا شهواتهم ويبكون نادمين شوقًا لمرضاة ****، أما أنا فدموعي منتهى الضعف، فأنا أذوب حزنًا وشوقًا لمخلوقٍ ضعيف مثلي، فؤادي مذبوح يا "مُوراي".
, أضاءت عيناه وقال بنبرة يشوبها الحنين لوالديه:
, -يقولون إن أغلى دموع هي دموع الأب والأم، وأصدقها دموع المظلومين.
, -ودموع المحبين٢ نقطةأليست غالية؟ أعاني الوجد، والنجوى، والشوق، والشغف يا "مُوراي".
, حرّك كتفيه متعجبًا وقال:
, -وما كلّ هذا؟
, -كلّها من معاني الحبّ، أما تدري عن الحبّ يا فتى؟
, شرد "مُوراي" بعينيه وقال:
, -لم يزر قلبي إلّا حبّ أبي وأمي، لا أعرف ما الوجد الذي تتحدثين عنه!
, رفعت "الجمانة" رأسها وقالت:
, -الوجد هو الحب المشوب بالتعاسة والحزن من كثرة التفكير في المحبوب.
, -وما النجوى؟
, -النجوى أعظم من الوجد، فيها حرقة للفؤاد٣ نقطةويا لها من حرقة!
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال:
, -أيّ حبّ هذا الذي يحرق الفؤاد!، لا حاجة لي به، أريد حبًا حلوًا وعذبًا أسافر فيه للمحبوب بقلبي وروحي كما يقولون فأسعد وأهيم بحبيبتي إن وجدتها يومًا ما.
, -ذاك الشوق يا "مُوراي"، يحملك على جناحه بقلبك وعقلك وروحك للمحبوب.
, -حقًا! ظننته الهُيام!، على العموم كلّه حبّ في حبّ٢ نقطةلا تعقّديها أيتها الفرس العجيبة.
, -الهيام؛ وما أدراك ما الهيام! الهُيام نوع من الجنون والذوبان في المحبوب، والهائم ضائع لا يرشده إلّا حبيبه٣ نقطةإنّه مجنون!
, قال ضاحكًا:
, -لا أريد أن أجنّ٢ نقطةسأختار نوعًا واحدًا٣ نقطةيكفيني الشوق، ما رأيك؟
, -ليته باختيارنا٣ نقطةنحن لا نختار، الحبّ يقع على قلوبنا كما يسقط المطر.
, -لكننا نملك أن نغلق الأبواب التي تورده للقلب! ونستظل من هذا المطر المفاجئ!
, -كيف؟
, -نحن البشر نختلف عنكم، أمرنا **** بغضّ البصر والاستعفاف، وتلك هي الحصون التي نتحصّن بها، فليس الذي يرى كمن لا يرى، وليس الذي يُمعن النظر ويتفحّص كمن يصرفه سريعًا،٣ نقطةأخبرني أبي بهذا.
, -وبماذا أخبرك أيضًا؟
, -أن الحبّ ليس مجرّد نظرة واشتهاء! بل هو أعظم.
, ربّت "مُوراي" على رأسها وقال:
, -أعانك **** يا عزيزتي.
, ثُمّ أردف قائلًا:
, -رفقًا بنفسك، يكفيك لونان من هذا الحبّ!
, -وماذا أفعل ولي قلب غرفاته واسعة، أنا أحبّ زوجي بكلّ ألوان الحبّ.
, هزّ كتفيه وقال لها:
, -لكنّ هذا يحزنك، ويؤلمك٢ نقطةودموعك الدليل!
, قالت بنبرة ممزقة حزينة:
, -نعم، يؤلمني٣ نقطة
, -أتعلمين؟ وأنا صغير كان أبي يخبرني أن للحزن أجنحة يطير بها، فكنت أغمض عينيّ وأتخيل الحزن يطير ويحلّق بعيدًا عنّي، أما وقد كبرت، الآن أحرر أحزاني وأنا أتأمّل على شاطئ البحر، اطلقي سراح أحزانك هناك، الأمر بيدك٣ نقطةمن هنا البداية
, وأشار إلى رأسه، فقالت بانكسار:
, -كيف؟٢ نقطةوأنا أشعر بالحزن وكأنّه جدار مصمت عنيد يحيطني من كلّ صوب.
, -وإن كان جدارًا ٣ نقطةفحطّميه، حطّمي هذا الجدار أو تسلّقيه إن شئت واقفزي وانجي بنفسك، واختاري لها أرضًا تليق بها.
, -وماذا لو لم يكن بيدي أن أختار يا "مواري"!
, -ستبقين حزينة يا "جمانة"، على العموم٢ نقطةربّما تحمل الأيام ما يجلّي عنك حزنك.
, -ربّما نعم، وربّما لا. أتدري؛ أحيانًا نظل عالقين بالوطن، نحبّه وإن غادرنا أو غادرناه، نرغب في وصاله وحسب، نحنُّ إليه، ومهما فصلت المسافات بيننا٣ نقطةنشتاقه!
, هزّ "مُوراي" رأسه بثقة وقال:
, -الشوق للأمان، وللسكينة، أنتِ تشتاقين لنفسك التي بين جنبيك وليس للأرض في حدّ ذاتها، تفتّشين عن لحظات الطمأنينة والسعادة والحبّ التي عشتِها في ذلك الوطن.
, -أصبت يا "مُوراي"، لكنني لا أعني الأرض، بل أعني وطني!
, -ماذا تقصدين؟
, -أشتاق إلى زوجي "حيزوم"، زوجي هو وطني يا "مُوراي"!
, ران عليهما صمت لطيف قال بعدها "مُوراي" بعد أن تنهّد بعمق:
, -وأنا أيضًا أشتاق لوطني، أشتاق لحِضن أبي.
, مرّت بهما نسمات الهواء البارد تصافح وجهيهما بدلال وكأنّ حديثهما عن الحبّ راق لها فاقتربت تتنصّت، كلاهما كان ساهمًا يسبَح في رحاب وطنه الغائب عنه، ذاك الوطن الذي يتنفّس، الحِضن الذي على ضيقه يتسع للمحبوب. قطعت "الجمانة" هذا الصمت بعذوبة عندما قالت:
, -هيّا بنا.
, -إلى أين؟
, -سأصحبك في رحلة، ألا تحبّ ركوب الخيل؟
, أشرق وجهه بابتسامة عذبة واسعة، واقترب ليركب "الجُمانة" التي صهلت بعذوبة ثُمّ انطلقت وهي تحمله وهملجت في البستان، اختارت "الجمانة" اليوم فارسها ومنحته شرف ركوبها، كان يشعر أنّه يحلّق في الهواء، خرجا منه واتجها نحو شاطئ البحر فرحبّت أمواجه بهما، ظلّت "الجمانة" تركض، وتركض، وتركض،٤ نقطةوتنثر الرمال هنا وهناك بينما فارسها ينثر ويبعثر ضحكاته في الهواء.
,
, ٤ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, كان القيد يؤلمني بينما الموكب يسير أمامي وأحد الحرّاس يجرّني بالسلاسل خلفه، جوربي لم يحم قدميّ من الجراح التي أصابتني من الأشواك المتناثرة وأغصان الأشجار الجافة والأحجار الحادّة الحروف والحصى الصغير المدبب حتى استحال لون خيوطه أحمر من دمائي التي تسيل عليه، كنت أتأوّه وأتألّم كلّما خطوت خطوة وكانوا يلاحقونني بالأسواط، شعرت بالمهانة والذلّ. من بين أغصان الأشجار كانت هناك عينان تبرقان وسط الظلام، شعرت أنّ هناك من يراقبنا ويتبعنا، تارة تظهر العينان بين الأشجار القصيرة، وتارة أراهما فوق شجرة عالية، وتارة تختفيان حتى أنني انشغلت للحظات عن ألم جراحي بمتابعتهما. وصلنا أخيرًا وفُتّحت لنا أبواب القلعة، دلفوا يجرونني وألقوا بي في سرداب نتن الرائحة يمتدّ أسفل القلعة، كنت أعرف الطريق، وكيف لا أعرفه وقد وصفت التفاصيل بدقّة عندما كنت أكتب عن المسكينة "هيدرانجيا" عندما أسروها وألقوها في غياهب الظلمة هناك وعذّبوها. ألقوني على الأرض فتكورت في ركن أتألّم، غبت عن الوعي لفترة لا أعلم قدرها، ولم يوقظني إلّا دلو الماء البارد الذي غمر رأسي فجأة ففتحت عينيّ لأفاجأ بوجوههم القبيحة مرّة أخرى، عطست عطسة آلمني إثرها كل ضلع من أضلعي، يبدو أنني أصبت بالبرد، قال أحدهم بصوت قميء:
, -نمت طويلًا أيها البائس، هيّا٢ نقطة
, -إلى أين؟
, -الملك "كرشاب"* يطلب رؤيتك
, هامش: كرشاب اسم نوبي ومعناه الوجيه
, شعرت بارتباك شديد! "كرشاب"! ما الذي أتى به هنا!، هذه شخصيّة من رواية أخرى! وهو أمير نوبي ذكي ونابه، ما الذي أتى به إلى قلعة الدَّيجور!، صحت وهم يسحبونني وتتوالى ركلاتهم وضرباتهم على ظهري:
, -أين الملك "آسر"؟ والملكة "جلنار"؟
, قهقه الحراس وقال أحدهم:
, -منذ متى صار خادم الإسطبل ملكًا أيها الأحمق!
, قال آخر بتهكم:
, -و"جلنار" التي تغسل الملابس صارت ملكة! يا للعار!
, علت قهقهاتهم وازداد ارتباكي، يبدو أن هناك الكثير من المفاجآت تنتظرني هنا، لم يكن "آسر" خادمًا في روايتي، ولم تكن "جلنار" تغسل الملابس، ولم يكن "كِرشاب" هنا في قلعة الدَّيجور٢ علامة التعجب سألتهم بعد أن هدأت ضحكاتهم:
, -ما العلاقة التي تربط الأمير "كِرشاب" بالأميرة "جلاديولس"؟
, أجابني أحدهم بازدراء:
, -الأمير"كِرشاب" في استضافة الأميرة "جلاديولس"، وقد سمع عنك منها، ويودّ أن يراك الآن في الحال.
, تمتمتُ بخفوت وكنت أخشى من البوح باسمها:
, -وأين "الأميرة "هيدرانجيا"؟
, تلفتوا في تعجّب واستغراب وهزّوا أكتافهم، لم يعرفوها! لم يسمع عنها أحد منهم من قبل، بل وسألوني عن معنى اسمها الغريب كما وصفوه، ابتلعت حيرتي وسرت معهم بين أشجار حديقة القلعة الواسعة التي جفّت أغصانها وتساقطت أوراقها وصارت كخيالات المآتة المخيفة، وكيف لا وقد غاب عنها ضوء الشمس، انمحى الخضار وحلّ السواد محلّه، ما عادت تلك حديقة بل هي مقبرة!
, درنا حول البناء تحيطنا الظلمة من كل صوب، ما زالت قدماي تؤلماني بشدّة، أصبت بجروح جديدة وأنا أسير وبدأت الدماء تسيل من قدمي، فور أن دلفنا إلى قاعة كبيرة وفخمة في صدرها عرش عظيم تجلس عليه الأميرة "جلاديولس" بكبرياء وأضواء النيران المشتعلة والمعلّقة على الجدران تنعكس على وجهها الفاتن، صاح شاب قويّ البنية، طويل القامة، أدركت في الحال أنّه "كِرشاب"، له وجه جريء ذو فكّ عريض، كان يرفل في ثياب أنيقة تنمّ عن ذوق رفيع وقال مندهشًا:
, - انظري لقدميه، دماؤه حمراء لا تشبه دماءنا!
, قالت "جلاديولس" باهتمام:
, - هو بالفعل يختلف عنّا
, -وربّما هو من جنس آخر، أو أصيب بمرض ما تسبب في تغير لون دمائه فقط
, -ذاك المسخ الذي أخبرتك عنه من عشيرة المجاهيم قال لي إنّ هذا كاتب، من هؤلاء الكتّاب الذين سمعنا أخبارهم يتناقلها الناس في مملكة البلاغة، يقولون إن له دورًا فيما يحدث هنا، ما رأيك؟
, اقترب "كرشاب" مني وطالع وجهي بتمعّن وقال:
, -أشعر أنني أعرفه، وكأنني رأيته من قبل!
, قلت هامسًا وقد كان قريبًا مني وأنا أركز في عينيه القريبتين وقد بدونا بنفس الطول:
, -وأنا أعرفك، أعرف كل تفاصيل حياتك، كيف كنت تحبّ والدك، وكيف تألّمت عندما مات بين يديك وأنت صغير، وكيف تكره الوحدة والموت والليل، وكيف عانيت بعد زواج أمك عندما انتقلتم للقصر الجديد، وأعرف عن كرهك للسلطة وللقتل وللظلم.
, بُهت الأمير "كِرشاب" من كلماتي، ارتجفت شفتاه، تراجع للخلف خطوتين ورشقني بنظرة غريبة ثُمّ قال:
, - أعرّاف أنت؟
, -لا ٣ نقطةلكنني كتبتك٢ نقطةأنت شخصيّة من خيالي
, -ماذا!٣ نقطةأنت مجنون!
, ثم ضحك بسخرية و استدار وسار نحو عرش الأميرة "جلاديولس" وقال بتهكم:
, -يقولون إن الكتب حية وتستدعيكم للدفاع عنها
, ثُمّ التفت تجاهي وسألني:
, -أين كتابك الحيّ؟
, طالعتني "جلاديولس" بنظرة سريعة وقالت:
, -ربّما هو محارب وقد فقد كتابه، فلننتظر ونراقب.
, قال "كِرشاب":
, -لكن الكتاب لم يستدعه٤ نقطةبل أنتِ و"المجاهيم"، أنتم تعبثون٢ نقطةوربّما تتسببون في المزيد من المشاكل
, ظهر الضيق على "جلاديولس" فزمجرت ثُمّ أشارت للحراس فجرّني اثنان نحو زنزانتي مرّة أخرى، في طريق عودتنا كنت أشعر بنفس العينين تلاحقاني وسط الظلمة من فوق سور القلعة الذي كنّا نسير بمحاذاته، فور أن اقتربنا من سور القلعة سقط حجر على رأس أحدهما وقفز شاب برشاقة من فوق السور على ظهر الحارس الآخر ثُمّ صارعه قليلًا وطرحه أرضًا وظلّ يلكمه حتى أفقده وعيه بجوار الأوّل وعاد ليحاول فكّ قيودي، أفلح في فك قيد قدميّ وبقي قيد يديّ فركضنا معّا نحو السور، لم أكن أرى شيئًا سوى بياض عينيه، كان هناك فرس يقف بهدوء وكأنّه صنم من حجر، أخبرني الشاب أن أصعد فوقه وساعدني ثُمّ صعد بجواري ورفعني لأقفز من فوق السور، وما أصعب أن تقفز من فوق سورٍ وأنت مقيّد اليدين٢ نقطةسمعته يتحدث لأحدهم قائلًا:
, -عُد الآن إلى الإسطبل وأعدُك أن أعود لأحررك
, تناهى إلى سمعي صوت حمحمة الفرس ثُمّ صوت خطواته تبتعد، قفز الشاب وركض فركضّتُ خلفه وأنا لا أعرفه، أدركت حينها أنّه من كان يتبعنا ويراقبنا من بين الأشجار عندما جرّني الحراس إلى القلعة، أصابتني نوبة من السعال فالتفتَ ينبهني أن أكتمه، عندما ابتعدنا عن القلعة بدأ بصيص من الضوء يطلّ من بعيد، كانت عيناي متعبتين من السواد والظلام الحالك الذي عايشته طوال وقت احتجازي في سجن قلعة الدَّيجور، شيئًا فشيئًا بدأت أرى كلّ شيء بوضوح، كان شابًا فارعًا ، قويّ البنية لا ريب أنّه نوبيّ أصيل، التفت نحوي فلاحظتُ العصابة المارونية اللون التي يربطها على جبينه، أخبرني أننا اقتربنا، سألته بصعوبة من بين أنفاسي المتلاحقة:
, -ما اسمك؟
, -"مُوراي"
, خفق قلبي وصحتُ:
, -يا إلهي! أنت من٣ نقطةمن الحزاورة!
, ألقى عليّ نظرة ثُمّ استردها وقال بمرارة:
, -لم أعد منهم٣ نقطة
, رحتُ أتأمّله، يا له من شاب! جبين متغضّن متألّم، ونظرة راقية يوشيها حُزن غامض، قلتُ له:
, -أنا أعرفك، كم عمرك الآن يا "مُوراي"؟
, -أنا في السابعة عشرة من عمري٣ نقطةلم تسألني!
, قلت مترددًا وقد خشيت ألّا يُصدّقني:
, -كتبت عنك يا صديقي، لكنني لم أتوقع أن أراك وقد مرّ على اختطافك من أبيك سبع سنوات! هناك شيء غريب يحدث هنا!
, رسم على وجهه علامة الخبير وقال:
, -إذًا ما يتردد في القرى صحيح، وأنت كاتبٌ بالفعل، سمعت الأميرة "جلاديولس" تخبر الأمير "كِرشاب" عنك.
, -أكنت هناك؟
, -نعم، أستطيع دخول القلعة والخروج منها من آن لآخر، في الحقيقة وجود حرّاس من النوبة برفقة الأمير "كِرشاب" ساعدني على الدخول والخروج، فأنت تعلم أنّ كل سكان قلعة الدَّيجور ليسوا من أهل النوبة، كما أنّ "أبهر" يساعدني
, تسارعت دقّات قلبي وقلت مذهولًا:
, -"أبهر"! لا٣ نقطةلا تخبرني أنّه حصان يتكلّم بلغة البشر٢ نقطة
, -وكيف عرفت؟
, -إنّه من خيول "الكحيلان" يا "مُوراي"
, -لكنّهم لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم، يقولون أنّهم خيول "أوبالس"! هكذا أخبرتني الخيول الأخرى التي التقيت بها بالبستان الذي أعيش فيه
, -"أوبالس"! لماذا هذا بالذّات؟٤ نقطةغير معقول!
, -وما الغير معقول!
, -تلك الخيول عربية أصيلة، ألم تلحظ أسماءهم يا فتى، ألا تعرف معاني تلك الأسماء؟، سأخبرك بقصّتهم بالتفصيل
, استوقفني بيده قائلًا بجديّة:
, -انتظر حتى نصل إلى البستان الذي نعيش فيه، قبل أن ينتبه حراس قلعة الدَّيجور لغيابك
, -حسنًا فلنكمل طريقنا٣ نقطةأسرع وسأتبعك
, وركضنا معًا حتى غمرنا النور وابتعدنا عن تلك الظلمة الكثيفة التي تغطي قلعة الدَّيجور وما حولها، التفتُّ أراقب السّحب السوداء من بعيد، شعرت ببرد شديد فجأة!، وكأننا انتقلنا لفصل آخر من فصول السنة، أكملت سيري وأنا أرتجف وداهمتني نوبة السعال مرّة أخرى وكان صدري يؤلمني، بدأ أنفي يرشح، وآلمني حلقي، وشعرت بإعياء شديد. شردت قليلًا ثُمّ عدت أتأمّل "مُوراي" وهو يسير بجواري، شاب رائع مفعم بالآمال والأحلام، شعرت بعطفةٍ شديدة تجاهه، أعرفه، أعرف هذا الصغير٣ نقطةبل٢ نقطةالشاب! كيف صار شابًا؟ لا أدري!
, كُنت أعرف كيف قهره اللصوص وكيف نزعوه من حِضن أبيه وأوسعوه ضربًا حتى فقد وعيه وحملوه، دمعت عيناي وأنا أكتب عنه، كان يذكر رائحة أبيه ولون ملابسه، حتى رائحة الحبال المالحة على الشاطئ لم ينسها، فقد كان أبوه صيادًا ماهرًا، لم أكتب نهاية لرواية "الحزاورة"، ولا رواية "خيول الكحيلان"، ولا رواية "القلب المخلص" التي كتبتها عن الأمير "كِرشاب" ولا رواية "قلعة الدَّيجور"، وما يذهلني أن الشخوص تتقاطع هنا،كما أن بلوغ "مُوراي" وكونه الآن في السابعة عشر من عمره أربكني!
, توالت الأسئلة على رأسي٤ نقطة
, هل أنا أعيش في عالم رواياتي المبتورة النهايات؟
, أم هذا عالم آخر موازٍ يشبه ما ألّفته من أحداث وما ابتكرته من شخوص؟
, لماذا "آسر" ليس ملكًا بقلعة الدَّيجور؟
, وكيف تغسل جلالة الملكة "جلنار" الملابس؟
, لماذا خيول "الكحيلان" غيّرت اسمها من اسم عربي أصيل إلى خيول "أوبالس"؟
, بل وما الذي أتي بـ "أبهر" لقلعة الدَّيجور أصلا! وأين باقي الخيول؟
, وأين اختفت الأميرة "هيدرانجيا"؟
, وكيف أصبح "مُوراي" شابًا يافعًا والرواية في أصلها عن غلمان صغار على وشك البلوغ سُرقوا من أهاليهم وشردوا في البلاد ومنهم "مُوراي"!
, سرت أتخبط في حيرتي وما زال القيد يحيط بمعصميّ، وصلنا أخيرًا لبستان كثيف الأشجار، ذاك البستان الذي كانت الخيول تستوطنه في روايتي مع فارسها الذي فقد قبيلته كلها في حرب مع قبيلة مجاورة وبقي وحيدًا مع عشرة من الخيول الأصيلة التي كانت لأهله وعشيرته، سار في الصحراء وحيدًا، يائسًا، حزينًا، كان يحدّث نفسه ثُمّ بدأ يحاور الخيول ويتحدّث معها، يحكي عن مجد آبائه وأجداده، ويبكيهم حزنًا وقهرًا، وكانت تنصت إليه، وفوجئ أنّها تفهمه وتردّ عليه بلغة البشر٣ نقطةولكن! أين هذا الفارس الآن؟
, فور أن دخلنا إلى البستان شعرت بسكينة، همست لـ "مُوراي" قائلًا:
, -لماذا ساعدْتني؟
, توقف والتفت إليّ وطالعني بنظرة عميقة تركت أثرًا في نفسي وقال:
, -أنت تعرف مكان أبي٢ نقطةأليس كذلك؟ ألست كاتبًا أو محاربًا؟ يقولون إنّكم تعرفون عنّا الكثير٢ نقطة
, أجبته بلا تفكير:
, - سنجده معًا يا "مُوراي" إن شاء الله٢ نقطةلا تقلق
, غمرت وجهه ابتسامة واسعة فأماطت اللثام عن أسنانه النّاصعة البياض، وضع سبابته على فمه مشيرًا إليّ حتى لا أحدث صوتًا، ثُمّ هرول تجاه بناء بسيط من الطين مسقوف بجريد النّخل ومدعّم بجذوع الأشجار له باب خشبيّ أنيق مصنوع بإتقان، سحب جرابًا مصنوعًا من جلد الماعز برزت منه أدوات حديدية كان معلّقًا على جدار البيت وسار مبتعدًا فتبعته إلى الجهة الأخرى من البستان حيث رأيت كوخين بجوار شجرة بلوط عتيقة ربط بجوارها ثلاثة من الخيول فور أن رأيتهم عرفتهم، إنّهم أيضًا من خيول الكحيلان، "الجُمانة"، و"البيضاء"، و"الشقراء"، ألوانهن وتلك العلامات التي على أجسادهن لا تخفى عليّ أبدًا٢ نقطةأردت الحديث عنهن مع"مُوراي" لكنّه كان مشغولًا بتحضير أدواته ليكسر قيدي، أجلسني وطلب مني أن أضع يديّ على جذع شجرة مقطوعة، وضعتهما أمامه وبدأ يبرد حلقة القيود الحديدية بالمبرد، جلست أراقب عينيه، ذاك الغضب القابع بينهما يؤلمني، وهذا الحزن الذي ينزوي هناك يوجعني، ليتني ما كتبت عنه ما كتبته، القوّة التي بدت على محيّاه وجسده طمأنتني قليلًا، لقد عركته الحياة فصار رجلًا، حلّ قيدي بمهارة فوقفت أتحسس معصميّ وكنت متعبًا للغاية، بدأ يحدثني وكنت أشعر بحرارة تجتاح جسدي، يبدو أنني أصبت بالحمّى، سقطتُ بين يديه بينما كان ينادي على أحدهم، شعرت بدوار شديد، كنت ممددًا على أرض البستان بينما هناك بعض العيون تحملق في وجهي وقد أحاطوا بي من كلّ جهة، يبدو أنّهم "الحزاورة" ومعهم عجوز لطيفة، تقف متدثرة بشال من الصوف مشمشي اللون، كانت كفّها الحانية آخر ما شعرت به على جبيني قبل أن أفقد الوعي تمامًا، من هي تلك العجوز٢ علامة التعجب
, ٥ العلامة النجمية
, بركات٢ علامة اقتباس
, صمت رهيب يلف المكان، وكأن الإنسانية قاطبة قد تبخّرت، ذاب جليد صبرها وبدأت شجاعتها تنكمش، كانت "الترياق" ساكنة تقف بخشوع وتهزّ ذيلها ولا تصدر صوتًا حتى أن الشك قد راود "حبيبة" أنّها كانت تتخيّل أنّها تحدثت إليها منذ قليل، كادت تسألها عن سبب صمتها لولا طيفه الذي لاح من بعيد. مدّت يدها لحقيبتها وتحسست خنجرها وقبضت عليه بشدّة، كانت متحفّزة لذاك الذي يقترب من بعيد،كان كهلًا* يحثّ الخطى مسرعًا، ومستندًا إلى عصاه العجراء بيده اليمنى، بينما يمسّد لحيته بيده الأخرى. سحنة طيبة مريحة طمأنتها قليلًا لكنّها ظلّت تقبض على خنجرها ويدها مدسوسة داخل الحقيبة، حيّاها بلطف وهو يقترب، تحتلّ وجهه ابتسامة مشرقة، استند الكهل إلى عصاه ووقف يلتقط أنفاسه، بدا وكأنه سار لمسافة طويلة، كان نحيلًا وطويلًا، وكان مهيبًا في ثوبه الحنطي اللون والفضفاض، له عينان تكشفان عن نفس قوية، بدأ يرحّب بـ"حبيبة" التي اقتربت منه بحذر وأخبرته أنّها ضلّت الطريق، وتريد الخروج من تلك الغابة، كانت حريصة ألا تخبره عن كتابها، سألته إن كان قد لاحظ سقوط صقر أصابه البرق في جناحة فسقط وسط الأشجار، ابتسم الكهل ابتسامة تشي بأنّه فطن إلى شيء ما وقال وهو يشير للسحب في السماء متجاهلًا سؤالها عن الصقر:
, -ستُمطر مرّة أخرى، لا بدّ أن نسرع يا ابنتي
, هامش:
, الكَهْلُ: هو مَنْ جاوز الشبابَ ولمّا يصل سنَّ الشيخوخة بعد، وهو الذي خطه الشيبُ
,
, وأشار إلى درب طويل تتفرّع منه ممرات عديدة محفوفة بأشجار السنديان يمينًا ويسارًا ففهمت أنّه يدعوها للسير معه، لاحظ أنّها بلا حذاء فأشفق عليها، وطلب منها أن تركب "الترياق"، وأسرع في خطاه فتبعته بعد أن ركبتها، سارا معًا بين الأشجار، سألته "حبيبة" باهتمام:
, -إلى أين؟
, كان الكهل يسير بين الأشجار وبدا أنّه يحفظ الطريق بينها، قال دون أن يلتفت إليها:
, -سنحضر ابنتي "رفيف" ثُمّ نذهب إلى بيتنا
, كان يتلفّت بين فينةٍ وأخرى ويتأمّلها، قال بصوتٍ دافئ:
, -انتبهي يا ابنتي، المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة.
, أجفلت "حبيبة" عندما سمعته يدعوها بالمحاربة وسألته بفضول:
, -وكيف عرفت أنني محاربة؟
, أجابها بابتسامة خفيفة قائلًا:
, - الكلّ هنا يعرف طريقه، ولا تبدو الحيرة إلا على وجوه المحاربين.
, ثُمّ صمت هنيهة وقال:
, -لم تخبريني عن اسمك
, قالت بابتسامة لطيفة:
, -"حبيبة"
, ثُمّ ربتت على رأس الفرس وقالت:
, -وهذه "الترياق" من خيول٣ نقطة
, قاطعها قائلًا وعلامات القلق تتمشّى في ملامحه:
, -أعرف تلك الخيول٣ نقطةأعرفها جيّدًا يا ابنتي٣ نقطة
, ثُمّ هزّ رأسه واغتصب ابتسامة وقال:
, -وأنا "بركات" والآن أسرعي٣ نقطةفقد تأخّرنا على "رفيف".
, كان كلامه موجزًا دون كلمات مطنبة أو مسهبة، من بعيد كانت "رفيف" تقف على شاطئ البحر تحملق في زُرقته الرائعة، أمواج البحر تتوالى على قدميها تلثمها برفق وتنسحب بنعومة نحو البحر، يا لها من فتاة رقيقة! كانت الفتاة بيضاء وكأنّها اغتسلت في نهر من حليب للتو! بياض وجهها غريب! بدت وكأنّها مسحورة تراقب الأفق بشرود وعلى عينيها استقرت نظرة سكون عميقة، ضربت الرياح بطرف ردائها الفضفاض فبدت دقّة ساقيها، اخترقت أصواتهما **** الصمت الذي كانت تلوذ به فانتفضت ثُمّ استدارت وهي تعدّل وشاحها الخزامي اللون وابتسمت بلطف لـ "حبيبة" التي ترجلت عن الفرس لتسلّم عليها، فأقبلت الفتاة" تحتضنها وكأنّها تعرفها وتألفها منذ زمن، في تلك اللحظة أرخت "حبيبة" يدها وتركت الخنجر في الحقيبة، الآن بدأت تطمئن٣ نقطة سارت بجوارهما وهي تمتطي "الترياق" نحو بيتهما، تذكّرت صيحة "قطرة الدمع" قبل أن تلقي بها في البحر، وكيف كان صوتها يحمل الكثير من الفزع فالتفتت تجاه الكهل، وسألته:
, -هل من الممكن أن أسألك سؤالًا قد يبدو غريبًا؟
, -تفضّلي
, -هل التقيت بأحدٍ من أهل النوبة في طريقك إلى هنا؟
, -بالتأكيد، ستلتقين ببعضهم قريبًا حيث أسكن مع ابنتي ومعهم
, -من أين أنت؟
, زمّ عينيه وقال:
, -من بلاد بعيدة، وأتيت للتجارة، وسأعود لوطني يومًا ما
, شردت "حبيبة" قليلًا وأخذت تفكّر في صياح "قطرة الدمع" وما حدث لها، بدأ حماسها يشتعل لإتمام مهمتها الغامضة وآنست برفقتهم، "بركات"، وابنته "رفيف"، وتلك الفرس الرائعة٣ نقطة"الترياق"، قررت أن تبحث عن قطرة الدمع في وقت لاحق بعد أن يهدأ المطر، لا بدّ أن تلتقي بـ"المغاتير" أو بحرّاس المكتبة٣ نقطة لتستنير بإرشاداتهم قبل أن تبدأ رحلتها.
, وصلوا أخيرًا إلى بستان فردوسي رائع كثيف الأشجار، أسبلت عليه الطبيعة ثيابًا سندسية موشّاة بجلالها القدسي، فأوت إليه البلابل والعصافير وانطلقت تشدو وتغرّد مترنمة بجمال الكون البديع، هرولت "الترياق" نحو ثلاثة من الخيول كانوا تحت شجرة هناك، بدا وكأنّها تعرفهم، أصدروا ضجيجًا عندما رأوها تقترب وصهل فرس منهم بعذوبة، كان هناك بعض الغلمان يحيطون بشاب قمحي البشرة له شعر ناعم وكثيف وطويل إلى حدّ ما، كان ممددًا على أرض البستان بدا وكأنّه فاقد لوعيه، كانوا يغسلون رأسه بالماء ويحاولون إفاقته، تأمّلت ملابسه التي تشي ببساطة حاله وفقره، يبدو مسكينًا بمعطفه المهترئ هذا وجوربه الأرجوانيّ المثقوب، استوقفها أن ملابسه تختلف عن ملابس كل من بالبستان، إنّه معطف يشبه تلك الملابس التي اعتادت عليها "حبيبة" في عالمها، لاحظت بنطال منامته الصوفية أيضًا! أدركت الآن أنّها تقف أمام محارب آخر مثلها٣ نقطةالآن التقت به، هنا على أرض مملكة البلاغة، تماما كما التقت "مرام" بـ "أنس"، جلست تراقب الجميع في حيرة، يبدو أنّهم جميعًا من النوبيين، ما عدا "بركات" وابنته، وهذا الشّاب الغريب، أعارتها "رفيف" حذاء من أحذيتها، فارتدته في الحال وجلست تفكّر، ترى ما الذي تخبئه لها تلك المملكة العجيبة!
 
  • عجبني
  • حبيته
التفاعلات: wagih و ☠️ B̷A̷D̷ M̷A̷N̷ ☠️
٢


"يُوسف"
, كنت أشعر بالهوان والضعف، رأسي يدور وأرى الوجوه من حولي بصعوبة،كفّ حانيةكانت تتحسس جبهتي برفق، تبلل رأسي بالماء وتحرّك أصابعها بين خصلات شعري ببطء، سمعت صوتها المرتجف يتمتم بالدعاء كما كانت تفعل أمّي٣ نقطةهل هي أمّي؟
, ناديتها بخفوت:
, -أمي٢ علامة التعجب أهذه أنتِ! هل أنت هنا؟
, ردت بنبرة صوت مرتجفة:
, - لا بأس عليك يا ولدي
, حاولتُ أن أعتدل٢ نقطةأن أحرّك رأسي لأرى وجهها، لكنني لم أتمكن، صوتها يبدو مختلفًا! كانت عيناي مشوشتين، ساعد قوي امتد ليحيط بكتفي وأجلسني صاحبه بعد أن أسندني على صدره وبدأ يسقيني شرابًا كان مذاقه قابضًا للغاية، كدت أن ألفظه لكنه قال بحزم شديد:
, -لا بد أن تتناول هذا الشراب٢ نقطةستُهلكك الحمّى
, فتحت عيني بصعوبة فرأيت وجهه، إنه "مُوراي" ذاك الشاب الفتيّ الذي أنقذني من أَسرِ حراس الأميرة "جلاديولس"، استعدت وعيي تدريجيًا بعد أن تناولت الشراب الدافئ وتمددت وهم حولي، الكلّ يحدّق في وجهي باستغراب، حتى الصغار، حتى الخيول، حتى العصافير فوق أشجار هذا البستان. لن أخبرهم أنني أعرف أسماءهم وتفاصيل حياتهم بل وسمات كلّ شخصية منهم بالتفصيل، فات الأوان ومرّت الصدمة الأولى بالنسبة لي، لكنني ما زلت حائرًا٢ نقطةهناك الكثير من الألغاز تحتاج لتفسير.
, قالت العجوز وهي تمسح على جبهتي مرّة أخرى بيدها المرتعشة:
, -هل تشعر بتحسّن؟
, تأمّلت أخاديد وجهها، تلك التجاعيد التي وقّعت بها الأيّام على جبهتها بينما تصارع الحياة، فصارت كوردة مدهوسة بها بقايا عطر عتيق، ابتسمت لها، لا بدّ أنّها العجوز التي كتبتُ عنها في رواية، لم أكتب إلّا عن عجوزٍ واحدة فقط في رواية من رواياتي، لم أكتب نهاية لتلك الرواية! ولم أضع لها عنوانًا أيضًا٢ نقطةحتى أنني لا أذكر أنني اخترت لتلك العجوز اسمًا، تبدو هرمة للغاية! تلك التجاعيد ابتلعت ملامحها، قلت وقد شعرت بعطفة تجاهها:
, -أنا بخير ٢ نقطة
, قالت بصوت تصاحبه بحّة لطيفة:
, -الحمد لله، سأعدّ لك حساء شهيًا، لدينا خضراوات طازجة
, قال "مُوراي":
, -الخالة "مِسكة" تعدّ حساء لذيذًا
, "مسكة"٢ علامة التعجب أعجبني اسمها، وكأنّ **** أراد أن يخفف عني فأرسل لي أمًا حنونة تمنحني عطفها، قالت العجوز وهي تربّت على كتفي:
, - لا بدّ أن تبدّل ثيابك يا ولدي، لقد أغرقها عرقك الغزير
, قال "مُوراي":
, -سأعيرك بنطالًا وقميصًا من عندي
, ضممت ياقة معطفي لأستمدّ منها الدفء وقلت بعصبية لاحظوها جميعًا:
, -لا٢ نقطةلا٢ نقطةلا أستطيع خلع معطفي هذا!
, قال أحد الحزاورة وكانوا يجلسون بهدوء ويراقبونني بفضول شديد:
, -ليس لديك حذاء! هل أنت فقير؟ ولماذا ترتدي هذا الجورب المثقوب!
, ابتسمتُ واقتربت منه لأمسح على رأسه وكان له وجه يشي ببراءة شديدة وقلت له:
, - أتيت إلى المكان هنا فجأة ولم أكن مستعدًا للحضور.
, سألني والفضولّ يزداد في عينيه:
, -وكيف أتيت؟
, قلتُ شاردًا:
, -لا أدري كيف!
, قال الغلام بحماسٍ شديد:
, -لا بد أن هناك صقرًا حملك إلى هنا كما حدث للمحاربة التي أتت إلى البستان منذ قليلٍ مع السيّد "بركات"
, -أيّ محاربة!
, -تلك التي تظنّ نفسها أميرة وتسير بثوبها المنتفش بالبستان، كانت حافية القدمين عندما رأيناها، تقول إنّها فقدت حذاءها في ماء البحر
, ضحك الغلام، و أشار "مُوراي" إلى فتاة تقف ساكنة تراقب الخيول في صمت، وكنا جميعًا خلف ظهرها، شعرت بدقّات قلبي تتواثب، هرولت تجاهها وكأنني لم أَشكُ من البرد والحمى ولم أفقد الوعي منذ قليل فأنا أعرفها٣ نقطةصحت باسمها ولم أنتبه لعلوّ صوتي:
, -"حبيبة كمال"!
, انتفضَت والتَفَتت تجاهي، عينان نابهتان، وملامح رقيقة كلّ جزء منها محبب لقلبي، خفق قلبي، وكان لرؤيتها وقع عظيم في نفسي، فقد كان آخر لقاءٍ لنا منذ شهور، طالعتني باستغراب وقالت:
, -أتعرف اسمي؟ واسم أبي؟
, ترامقنا في اندهاش، أنار وجهها متاهة أفكاري الحالكة، ابتسمت وقلت لها:
, -وكيف لا أعرف اسمك! لقد التقينا من قبل٣ نقطةألا تذكريني؟
, سألتني وهي ترنو إليّ:
, -أين التقينا؟
, -بالجامعة في الإسكندرية٢ نقطةألا تذكريني؟٢ نقطةأنا "يُوسف"!
, عندما اقتربت منها انسكب ماء الحبّ فارتوى ظمأ خواطري، حرّكت رأسها نافية ثمّ طالعتني بنظرة تعجّب، فقلت موضحًا:
, - التقينا أوّل مرّة منذ عامين، عندما التحقتِ أنت بكليّة العلوم وأتيت تسألين عن طبيعة الدراسة فيها مع أخيك "أنس" وأجبتكما، كُنت في زيارة لمبنى شئون الطلبة لأستخرج بعض أوراقي من هناك٢ نقطةورأيتك بعدها أكثر من مرّة لكننا لم نتحدّث.
, رمقتني بنظرة سريعة وهزّت كتفيها وقالت:
, -سامحني، لا أذكر أيّ شيء عن هذا، لا أذكر حتى أنني التقيت بك، وجهك غريب عنّي!
, انزلقت تلك العبارة الأخيرة على لسانها فأوجعتني، أحزنني أنّها لم تعرفني، حتى أنّها لم تتذكر آخر مرّة رأيتها فيها، ولكن! لماذا هي هنا؟ معقول أن تلك التي تقف أمامي ليست شخصية "حبيبة" الحقيقية!
, ما كتبته عنها لم يكن أبدًا في رواية، لكنّه كان في أوراق مبعثرة، مجرد خواطر أكملتها في أحلام يقظتي لأنني أحببتها وتخيّلتها خطيبتي ثُمّ زوجتي٤ نقطةلا بد أنني أهذي٢ نقطة يا ****!
, انتشلتني مما غرقت فيه من أفكار وسألتني باهتمام:
, -هل حَمَلك "الرماديّ" إلى هنا؟
, -ومن هو"الرمادي"؟
, -الصقر٣ نقطة
, -أيّ صقر؟!
, صمتت برهة، بدت لي قلقة للغاية، مسحت وجهها بكفّيها وسألتني:
, -هل تعرف اسم الكتاب الذي اختارك لتدافع عنه؟
, -أيّ كتاب؟!
, سألتني والدهشة تسكن مقلتيها:
, -ألم تظهر لك علامة؟
, -أيّ علامة!
, -رقم ما٢ نقطةأو حرف مميز٢ نقطة!
, -لا! وماذا عنك؟ هل أحضرك صقر ما؟
, -نعم "قطرة الدّمع"، وعلامتي هي الرقم أربعة بالنوبية
, - أتقصدين"كيمسو"!
, -أنت تعلم إذًا عن اللغة النوبية!
, - أعرف قدرًا لا بأس به فقد قرأت عنها وكتبت أيضًا عنها، ولكن لم يظهر لي أيّ علامة ولا حملني صقر ما!
, -إذًا كيف أتيت إلى هنا؟ لولا ملابسك وما أخبرنا به الفتى "مُوراي" وعلمك باسم أبي وأخي وما أدرسه ما صدّقت أنّك محارب!
, -أنتِ أيضًا تقولين عنّي أنني محارب! صدقوني لست بمحارب٢ نقطةما السرّ وراء تلك الكلمة؟
, سحبت نفسًا عميقًا وصمتت حتى ظننتها لن تتكلّم وأخيرًا قالت:
, -سأخبرك، ولكن أولًا أخبرني بما حدث لك بالتفصيل٢ نقطة
, بدأت أقصّ عليها ما حدث، وما كُنت أفعله قبلها، وكيف أنني أعيش الآن في عالم رواياتي التي لم أكتب لها نهايات، وأنني الآن أرى الشخوص تختلف أحيانا، وتنتقل من مكان لآخر، وأنّ "مُوراي" هذا كان ***ًا نوبيًا عندما كتبت عنه! والآن صار في السابعة عشرة من عمره، وأخبرتها عن "قلعة الدَّيجور" والأميرة "جلاديولس"، لم تقاطعني وكانت تنصت إليّ باهتمام شديد، وكُنت أقتنص نظرة من آن لآخر لعينيها الرائعتين، يا إلهي! أنا أتحدّث الآن مع الفتاة التي أحبّها! وفور أن انتهيت من سرد ما حدث لي باختصار، بدا عليها الضيق الشديد وهي تقول:
, -لقد أَوقعتنا في ورطة!
, وكأنّها سكبت على رأسي للتوّ معينًا من الماء البارد! كانت مبهوتة بشكل جعلني عاجزًا عن النطق للحظة، سألتها في حرج:
, -أيّ ورطة؟
, قالت بتوتّر وهي تفرك يديها:
, -أنت الكاتب، وأنت هنا٣ نقطةولا توجد نهايات، أنت نفسك لا تعرف ما سيحدث مستقبلًا، لو كانت لرواياتك نهايات لكان حالنا أفضل ولسهُل الأمر علينا!
, شعرت بالضيق وسألتها:
, -ولماذا أنتِ مُستاءة؟
, رفعت عينيها في انزعاج وقالت:
, - لأنّ هذا العالم هنا من صنع أفكارك٣ نقطةأنت الذي كتبته! إذًا أنت السبب في هذا المأزق لأنّك لم تكمل أيًّا من رواياتك!
, شعرت بالتشتت، بالكاد بدأت أستوعب أنني في عالم غريب وكأنني قفزت في بحر يموج بين دفّتي كتاب! والآن تلومني الفتاة التي أحببتها على ما كتبته! وما لم أكتبه! خرجت عن شعوري فقلت:
, - كلّ هذا وهم٣ نقطةأنتِ خيال، وكل ما هنا خيال، أنا أحلم أو أهلوس بسبب ارتفاع حرارتي، سأستيقظ حتمًا في لحظة ما٢ نقطة
, سرت مبتعدًا عنها فلاحقتني وقالت وما زال الغضب باديًا على محياها:
, -وهؤلاء، كيف سنتعامل معهم، والصراع الذي سيظهر حتما في لحظاتنا القادمة، وكتابك "أيجيدور" الذي استدعاني لأدافع عمّا فيه من قيم، أو لأنقذ أحدهم من خطرٍ ما!
, تذكّرت الآن أن الأميرة "جلاديولس" سألتني عنه فقاطعتها قائلًا:
, -لم أكتب كتابًا ولا رواية بعنوان "أيجيدور"!
, -كيف هذا؟
, -آخر ما كتبته رواية بعنوان "دروب أُوبال" ولم أكتب لها نهاية
, قالت بحنق شديد جعلني أشعر بالحرج الشديد:
, -لماذا لم تكتب نهاية؟كيف تفعل هذا! هذا إهمال٢ نقطة
, ران علينا صمت للحظات، طعنتني كلماتها، أحزنني غضبها الشديد مني، طارت فيها نظرة من نظراتي فاختلج قلبي وتمتمت متلعثمًا:
, -أستطيع أن أخبرك بأسرار هؤلاء، أنا أعرفهم، حتى الخيول٢ نقطة
, حرّكت يدها وأومأت تستوقفني، ثُمّ هزّت رأسها وتنفّست بعمق وقالت:
, -بالتأكيد تعرف٣ نقطةلأنّك المؤلف! ولكنك للأسف لم تتم عملًا كاملًا وسأبقى عالقة هنا بسببك! فلا يوجد ما كُتب لأسترده!
, ثُمّ صمتت للحظات تجمعت فيها دموع خرساء بين أهدابها أمسكتها بانضباطٍ وقالت:
, -ربّما لا علاقة تربط بيننا، أقصد بين كتابينا، سأبحث غدًا عن "قطرة الدمع" في الغابة، يبدو أن مهامنا مختلفة تمامًا
, صحت بهلع:
, -لا٢ نقطةلا تدخلي الغابة وحدك
, -ولم لا؟
, -لأنني أعرف عنها ما لا تعرفينه! تلك الغابة خطرة، أنسيت أنني الكاتب!
, -لم أنس أنّك الكاتب، لكنني لم أنس أنّ **** معي!
, -أنتِ وحدك في مملكة غريبة
, - لن يضيعني **** أبدًا!
, -ولكن٣ نقطة
, قالت ويداها الرقيقتان ترتجفان:
, -لا شأن لك بما سأفعله، وعلى العموم "الكتب حيّة، تتنفّس، تعيش، تشعر بنا" ٣ نقطةهكذا قال جدّي، سيدُلني الكتاب على الطريق، فقد كان جدّي هنا من قبل٢ نقطة
, سألتها راجيًا أن تزول غضبتها وتستمرّ في حديثها معي:
, -جدّك!٣ نقطةوماذا أخبرك جدّك؟
, غاصت في نفسها مفكّرة، وعندما هدأتْ قليلًا بدأت تتحدث، وكنت أذوب مع كل كلمة تخرج من فمها، وحتى عندما أشحت بنظري عنها دلف صوتها بنبرته المميزة فاخترق شغاف قلبي، يبدو أنني سأتعذّب طوال الوقت! أخبَرتني باختصار عن قصّة الأمير النوبيّ "أواوا" ومكتبة جدّها بالفيوم، وحراس المكتبة العظمى، وعن دورها كمحاربة، وعن جدّها وأبيها وأخيها، يبدو أنّها من عائلة تعشق القراءة، تذكّرت كيف كنت أراها دومًا بالجامعة ورأسها يغطس بين دفّتي كتاب، أخرجت من حقيبتها كتاب "أيجيدور"، قلّبته بين يديّ متعجبًا من خلوّ صفحاته من الكلمات، لم أعرف معنى عنوانه رغم معرفتي ببعض الكلمات النوبية، أخبرتني "حبيبة" أنّ الكلمة تعني أنقذيني، ترى من يطلب العون منها؟ ليتها تصدّق أنني أنا من يطلب العون منها، فقلبي يتلظى٢ نقطة
, رفعت سبابتها وحرّكتها في الهواء ونبّهت عليّ ألّا أتحدث عن كتابها مع أحد، كانت تخشى أن يُسرق منها! أمسكتُ بالخنجر الذي كان معها وجرّبنا معًا أن نُحرّكه في الهواء ولم يحدث شيء! لم تظهر تلك الفجوات التي أخبرها أخوها "أنس" عنها!
, رأيت القلادة وأخبرتُها أنني التقيت بالفعل بأحد المجاهيم، وبدأتُ شيئًا فشيئًا أستوعب الأمر.
, ران علينا صمت مهيب للحظات وكنّا نحملق في أهل البستان وهم يتحرّكون هنا وهناك، تلك الشخوص المكتوبة والتي صارت الآن حيّة بقدرة **** وتتنفّس أمامنا! قطعت "حبيبة" صمتها وقالت بنبرة لطيفة ومهذّبة:
, -آسفة٢ نقطةكُنت حادة معك
, ترنحت أعطافي فتمتمت قائلًا:
, -لا عليك
, كانت ترتدي ثوبًا رائعًا، وكأنّها كانت في مناسبة أو احتفال، فشعرت برجيف في صدري، هل يُعقل أن يكون هذا ثوب خطبتها!، لم ألاحظ زينة وهي لا تضع مساحيقَ للتجميل على وجهها، نعم٢ نقطةلا توجد!، أو٣ نقطةربّما هناك!
, بدأت أشكّ فالتفتُّ إليها لأخطف نظرة لوجهها، حسنًا٢ نقطةلا توجد مساحيق، عدت أتأمل طرف ثوبها وهو يتأرجح كلّما حرّكته نسمات الهواء، لماذا ثوبها منتفش بتلك الطريقة! لم أرها ترتدي ملابسًا تشبه تلك من قبل، خطفت نظرة أخرى ليدها بحثًا عن خاتمًا للخطبة فلم أجد فاطمأنّ قلبي، سألتها على استحياء:
, -هل كُنت في حفلٍ ما عندما أحضرتك "قطرة الدمع"؟
, -نعم٣ نقطةحفل زفاف
, شعرت بقلبي يهوي، ثُمّ انتبهت للون ثوبها السماوي فهدأت رجفات قلبي، فليس هناك ثوب زفافٍ سماوي اللون، سألتها بارتباك:
, -زفاف من؟
, -أخي "أنس"
, انفرجت أساريري، فقلت مبتهجًا:
, -مبارك
, -شُكرًا لك
, ثُمّ قالت:
, -هناك شيء ما وددت أن أسألك عنه
, -ما هو يا آنسة "حبيبة"؟
, هكذا ناديتها: "آنسة حبيبة"، فقد ثقل عليّ في تلك اللحظة أن أناديها باسمها مجردًا، لأنني كنت أشعر وبعد حديثنا هذا أنني لو ناديتها باسمها مجرّدًا سأصفها ولا أسميها، فهي الحبيبة، فكيف سأكررها٢ نقطةيا "حبيبة"٣ نقطةيا "حبيبة"! وكانت لا تعلم عمّا يعتمل في صدري وما مرّ بي خلال العامين الماضيين، عندما كنت أراقبها من بعيد، أحبّها في صمت، والحبّ يتغلغل في قلبي ويقتات على نفسي، فحالتي المادية لا تسمح بخطبة أيّ فتاة، وها هي لا تتذكرني أصلا! والآن هي غاضبة مني للغاية وتراني شخصًا مهملًا وفاشلًا لا يتمّ أعماله ويتركها مبتورة.
, في تلك اللحظة اقترب "مُوراي" ودعانا لتناول الطعام معهم، سرنا خلفه ورجيف قلبي يزيد، كانت يداي ترتعشان في جيب معطفي البالي، أنا أسير بجوار الفتاة التي أحبّها في عالم عجيب وغريب، أستطيع أن أختطفها وأفرّ بها فوق صهوة جوادٍ من تلك الخيول كالمجنون، سأجبرها أن تحبّني، نعم سأجبرها٤ نقطةلماذا لا أفعلها؟ لا أدري! ليتني أستطيع!
, عطست مرّة أخرى فأوجعتني ضلوعي، قالت "حبيبة" دون أن تلتفت:
, -يرحمك الله٢ نقطةيبدو أن البرد يشتدّ عليك، تبدو مرهقًا للغاية
, ترنحت أعطافي بشعور جميل، لا أدري لماذا، ربّما لأنّها تهتم، أقصد٢ نقطةأو٢ نقطةلأنها قالت شيئًا ما عني وحسب، انحنيت فرأيت جوربي المثقوب في حالة بائسة، وأصابع قدمي تطلّ جميعها من الثقب وكأنّها تطالعني بسخرية! اختلطت الأتربة بالدماء، لماذا أشعر الآن أنني فقير مسكين! وأن معطفي واسع للغاية، صارت أكمامه قذرة بعد تلك الليلة التي قضيتها في سجن القلعة، تحسست شعر رأسي فوجدته ملبدًا بعد أن أغرقوه بالماء لإفاقتي عندما فقدتُ الوعي بالبستان! لا بدّ أنني الآن أشبه رجلًا قام من قبره للتو!
, يا لحظّي التعس، في أوّل فرصة أستطيع أن أتحدث إلى الفتاة التي أحبها وحدنا أكون بتلك الهيئة المزرية! أنا أُشبه خيال المآتة!، انضممنا إليهم لنتناول الطعام، لم أشعر بمذاق أي شيء في فمي، مازلت أشعر بالمرض، فور أن انتهينا من تناول الطعام خلعت معطفي لأنظّف أكمامه وطلبت من "مُوراي" أن يساعدني لأزيل عن ملابسي وبدني الأوساخ، فبدأ يصبّ الماء على رأسي بينما يسألني:
, -هل تستطيع أنت أو تلك المحاربة أن تدلّاني على مكان أبي؟ أعرف أنّكما لستما من العرافين، لكنني سمعت أن المحاربين يعرفون الكثير، وأنّ لهم شأنًا عظيمًا، هكذا يقولون في قرية "الدحنون"، لا بدّ أنّك تعرف لقب عائلتي على الأقل! أليس كذلك يا سيّدي؟
, رفعت رأسي والماء يقطر منه فالتقت عيناي بعينيه، لا أدري لماذا يخطف هذا الشاب قلبي، أشعر أنني مسئول عنه وكأنّه شقيقٌ صغيرٌ لي، قلت هامسًا له:
, -لا تنادني بسيّدي، لست سيّدًا لأحد، أما رأيت جوربي الممزق ومعطفي البالي.
, رفعت قدمي لأريه أصابعي البارزة من ثقب الجورب وحرّكتها فضحك "مُوراي" وأشرق وجهه، وابتهجتُ لضحكاته البريئة، قلت محاولًا بثّ الأمل في نفسه:
, -سأساعدك في البحث عن أبيك، لا بدّ أنّك تشتاق إليه، تشتاق لرائحته، وحِضنه الدافئ، أنت حتى لا تزال تذكر رائحة الحبال المالحة، وشباك الصيد الممتلئة بفواكه البحر والسمك.
, فغر فاه وقال بذهول:
, -وكيف عرفت؟ من٢ نقطةمن أخبرك؟ هل أخبرك ذلك الجنيّ الذي رأيته في قلعة الدَّيجور والذي أحضرك إلى هنا؟
, رسمت على وجهي علامة الخبير وقُلت له:
, -لا٣ نقطةلكنني أقرأ أفكارك يا فتى
, ارتبك "مُوراي" قليلًا وجال بنظراته في المكان، ثُمّ سكب فجأةً الكثير من الماء على معطفي الذي كنت أغسل أكمامه فقط فابتل بأكمله، وأغرق رأسي بباقي الماء وأنا جالس أمامه، وكان الماء باردًا فاقشعرّ بدني وصحت قائلًا:
, -ماذا تفعل يا "مُوراي"٢ علامة التعجب
, قال بثقة:
, -لو كُنت حقًا تقرأ أفكاري لعرفت ما سأفعله قبل أن أفعله٢ نقطةأنت لا تقرأ أفكاري يا سيّد "يُوسف"
, ابتلّت منامتي الصوفية فبرزت عظام كتفي، والتصق شعري المبتل بوجهي وكان طويلًا لأنني لم أحلقه منذ شهور حيث كنت أحبس نفسي بمنزلي لأكتب، رفعت رأسي ببطء ونظرت إلى عينيه فضحك بعفوية عندما شاهدني بهذا الشكل، فدسست المعطف بالكامل في الوعاء، اضطررت بعد هذا لاستعارة بعضًا من ملابسه وارتديتها حتى تجفّ ملابسي، عقصت شعري برباط كتانيّ وارتديت حذاء غريبًا من الجلد، وتمنطقت بحزام عريض فقد كان بنطال "مُوراي" واسعًا وفضفاضًا، كنت أسير تجاهها عندما رأيتها تكتم ضحكاتها، وكان الغضب الذي كان قد راودني من كلامها القاسي عن عدم إتمامي لرواياتي لا يزال عالقًا بنفسي، سألتها بعصبية وأنا أقترب:
, -لماذا تضحكين يا آنسة "حبيبة"؟
, -لا شيء
, قالت العجوز "مِسكة " وعلى شفتيها ترتجف ابتسامة:
, -تبدو أنحف بدون معطفك، لماذا ترتدي معطفًا باليًا بهذا الشكل!
, -كنت أرتديه في البيت وأنا وحدي، كنت أشعر بالبرد
, قال "مُوراي" وهو يميل برأسه ساخرًا:
, -وما سرّ الجورب المثقوب؟
, -في الحقيقة٢ نقطةلم أكن مستعدًا عندما نُقلت فجأة إلى هنا، لديّ ملابس أفضل من تلك، ملابس أنيقةٌ جدًا٣ نقطةصدقوني! لكنني٣ نقطةأحبّ هذا المعطف وهذا الجورب
, قال السيّد "بركات" وقد كان يراقبنا في صمت:
, -بعض الأمان يكمن في التفاصيل الصغيرة.
, ابتسمتُ وقد كانت تلك كلماتي التي نقشتها بيديّ على صفحات رواية من رواياتي، نعم، بعض الأمان يكمن في تفاصيل صغيرة وأشياء تافهة لا قيمة لها لكنّها اكتسبت قيمتها ممن لامسوها، وحملوها، وارتدوها، أو استعملوها، أو أهدوها لنا، وربّما لموقف مرّ بنا وهي حاضرة فصرنا نشعر بالأمان عند حضورها، ذاك القميص الذي كنت أصرّ على اجتياز اختباراتي به لأنّ أول مرّة ارتديته فيها وفّقت في اختباري فأصبحت أستبشر به، الفنجان الذي ما زلت أتناول قهوتي فيه رغم الكسر الصغير الذي أصاب حافّته هو المفضّل عندي، رائحة القرفة التي تشعرني بالسعادة لأن رائحة البيت كانت تعبق بها عندما تخبز أمّي كعكتها المميزة، أوّل رواية أهداها لي خالي وأنا صغير ما زالت هي الأفضل لأنّني قرأتها بحماس وفرحة، الجائزة التي أعطتها لي معلمة اللغة الإنجليزية وأنا في الصف الرابع الابتدائي ما زلت أحتفظ بها حتى الآن لأنّها من معلمتي الحنونة، الحجر الملون الذي ما زلت أحتفظ به منذ صغري لأنني كنت أظنّه مميزًا، الزهرة التي قطفتها "حبيبة" وتركتها على المقعد في حديقة الجامعة وانصرفت مع رفيقاتها فهرولت أحملها وجففتها بين صفحات كتاب قديم بمكتبتي٣ نقطةتذكّرني بها٣ نقطةرغم أنّها لا تتذكّرني!
, قطع السيّد "بركات" شرودي قائلًا:
, - أخبرنا "مُوراي" كيف أحضرك المجاهيم فجأة من بيتك بأمر الأميرة "جلاديولس"، يستطيعون فعل هذا في لمحة عين، قبل أن يرتد إليها طرفها
, شعرت بغصّة في حلقي، فقد مررت بلحظات قاسية أثناء انتقالي من غرفتي بالإسكندرية إلى المملكة هنا، والتي أخبرتني "حبيبة" أنّ اسمها "مملكة البلاغة"، سألت السيّد "بركات":
, -الملك "كِرشاب" يحكم المملكة هنا أليس كذلك؟
, -لا
, -ماذا٢ علامة التعجب إن لم يكن هو فمن الحاكم؟
, -أخوه الأصغر
, -كيف هذا! ألم يوصِ أبوهما بشيء قبل وفاته؟
, -لا!
, ازدادت حيرتي، فلم يكن هذا ما كتبته في روايتي عنهما، عدت أسأل بفضول شديد:
, -هل تعرفون أين اختفت الأميرة "هيدرانجيا"؟
, قال "مُوراي" والذي كان ينصت إلينا باهتمام شديد:
, -ومن هي "هيدرانجيا"؟
, لم يجبني أحد، فاستأذنت منهم وابتعدتُ عنهم وكنت في غاية الحيرة، بدأت كعادتي عندما أفكّر في كتاباتي بالسير ذهابًا وإيابًا، نسيت أنهم حولي، حلّقت في سمائي الخاصّة، أفتّش جعبتي، أسبر أغوار عقلي، أحاول أن أتذكّر تفاصيل رواياتي، لم أشعر بنفسي إلّا عندما نادتني "حبيبة" عدّة مرّات، فاخترق صوتها المحبب لنفسي **** اللا شعور الذي كنت ألوذ به باحثًا عن الحقيقة!
, ٦ العلامة النجمية
,
,
,
, "حبيبة"
, كانت "حبيبة" قد اطمأنّت عندما وجدت "يُوسف" بالبستان، فوجود شخص آخر من عالمها جعلها تشعر ببعض الألفة، وكان مهذّبًا خفيفًا وكأنّه يطفو بجانبها وهي على وشك الغرق في هذا العالم، كجذع شجرة تتشبث به للنجاة! ورغم سخطها عليه لأنّه لم يكتب نهايات لرواياته فقد استأنست بوجوده، ليست وحدها هنا على الأقلّ، وهذا أفضل حتى تلتقي بـ"قطرة الدمع" مرّة أخرى. ذاك الحديث القصير الذي دار بين "يُوسف" والسيّد"بركات" ثُمّ ردّ فعل "يُوسف" بعدها جعلها تشعر ببعض القلق، قررت أن تسأله عن سبب عصبيته الشديدة فجأة، حتى أنّه جذب المعطف المغسول من فوق الأحبال وارتداه وهو مبتلّ! كانت عيناه مفتوحتين يحدّق أمامه ويبدو وكأنّه لا يرى بهما!
, نادته عدّة مرات ولم يجبها، وقفت تتأمّله وقد بدت ملامحه بوضوح بعد أن غسل وجهه وعقص شعره الطويل خلف رأسه، كانت تتأمله، هو يروق لها ولكنّه٢ نقطةيبدو غريبًا٣ نقطةغريبًا جدًا، ألا يكفي أنّه لم يكمل كتابة رواية أبدًا!، تعجّبت من حالها! لم يكن التحديق بوجه شاب من طباعها، اكتسحها شعور جارف بالذنب، لن تعود للتحديق!
, حاولت أن تتذكر هل رأته من قبل أو التقت به كما يزعم، لكنّها لم تتذكّر وجهه، لم يكن "يُوسف" شديد الوسامة، لكنّه لطيف، هو شاب طويل القامة، وقمحي البشرة، له ملامح مريحة ونظرة دافئة منحته جاذبية خاصّة، عيناه السوداوان والواسعتان تنبئ عن شخصية عميقة التفكير، بالتأكيد هو خياليّ جدًا فهو كاتب، ولا بدّ أنّه مجنون إلى حدّ ما٣ نقطةهكذا يصفون الكتاب!
, داهمته موجة سعال شديدة أخرجته من شروده عنوة فاقتربت "حبيبة" ونادته مرّة أخرى فانتبه أخيرًا لوجودها، وبعد أن هدأ سعاله سألته بتعجب:
, -لم ارتديت معطفك؟ ما زال مبتلًا!
, افترّ فمه عن ابتسامة خفيفة وردّ بعفوية:
, -لا أشعر بالأمان إلّا وأنا أرتديه، ولن أستطيع التفكير إلّا إذا شعرت بالأمان
, أشاحت بعينيها متعجبّة من أمره فأسرع يوضح:
, -عفوًا يا آنسة "حبيبة"، ربّما تظنين أنني مريض نفسي أو مجنون، لكنني بالفعل لا أستطيع التركيز عندما أفكّر في أحداث رواياتي إلّا وأنا أرتدي هذا المعطف.
, ثُمّ عاد لسيره وقال بعد أن عقد ذراعيه خلف ظهره:
, - وأيضًا كنت أذاكر دروسي وأستعد لامتحاناتي وأنا أرتديه
, لاح شبح ابتسامة رقيقة على شفتيها وسألته:
, -هل الكتابة تُسبب الجنون؟
, هزّ كتفيه قائلًا:
, -أحيانا٢ نقطةكما ترين
, -كيف تشعر عندما تكتب؟
, - أشعر أنني أحلّق في السماء، أتنفّس الكلمات، أسبح في بحر من الخيال
, لمعت عيناه بشغف، رفع عينيه نحو السماء وأردف قائلًا:
, - أرحل إلى أيّ زمان، وأنتقل إلى أيّ مكان٢ نقطةمع من أحبّ
, قالت بلطف:
, -إذًا لا تتوقف عن التحليق في رحاب الكلمات أبدًا
, ابتعد عنها مفكرًا فبدأت تتبعه بخطوات سريعة لتجاري خطواته الواسعة، وكان سعيدًا بتتبعها له كهرّة لطيفة تتبع صاحبها، سألته بفضول:
, -أخبرتني أنّك لم تضع نهايات لرواياتك، فلم بدا عليك القلق عندما عرفت أنّ "كِرشاب" ليس هو الحاكم، ومن هي "هيدرانجيا" التي تسأل عنها؟
, قال وهو يحدّق في الطريق أمامه وهو يسير:
, -"جلاديولس" ستلتقي بأمير وستحبّه، وهذا الأمير سيقع بحب شقيقتها "هيدرانجيا" رغم عرجتها التي سببتها لها امرأة حقودة من أتباع والدة "جلاديولس" عندما كانت "هيدرانجيا" رضيعة، ألحقت بها الأذى فور ولادتها، المهم٣ نقطةهذا الأمير سيطلب "هيدرانجيا" للزواج، وبعد الزواج ستنتقم"جلاديولس" منهما، ستخطف شقيقتها"هيدرانجيا" وتعذّبها لتقتلها
, -إذًا هما شقيقتان من الأب فقط
, -نعم
, سألته بتلهّف:
, -وماذا بعد؟
, -لا شيء
, قالت بضيق:
, -ماذا تعني٢ علامة التعجب
, -لم أكمل الرواية٣ نقطةتوقفت عند هذا الحدّ٣ نقطةتركت "هيدرانجيا" تقاسي العذاب وتوقفت عند هذا المشهد، لم أتمكن من إكمال الكتابة٢ نقطة
, -لماذا؟
, هزّ كتفيه وقال:
, -لا يوجد سبب محدد٢ نقطةتركت الرواية ولم أكملها
, -لماذا لم تحاول في وقت آخر؟
, قال ببساطة:
, -بدأتُ رواية أخرى٤ نقطة
, -وهل أتممتها؟
, قال بتوتّر:
, -أخبرتك أنني لم أنه كتابة أيّ من رواياتي من قبل، ألا تذكرين؟
, قالت بصوت تشوبه رنّة حزن:
, -يبدو أنّ حبل أفكارك قصير في الكتابة.
, أمسك رأسه بيديه وقال:
, -الأفكار في جمجمتي لا تزال مشوّشة، والأحداث هنا تتسلل إلى دماغي المخروم، هذا شيء عصيّ على الفهم!
, توقفتْ "حبيبة" عن السير خلفه بينما ظلّ هو على حاله وقد ازداد توتّره، كان مستاء لأنّ صورته بدت لها مهتزّة منذ اللحظة الأولى. كان يسير ذهابًا وإيابًا بين شجرتين، اقتربت "الترياق" منهما، ومالت على كتف "حبيبة"، كان بينهما نوع من الانسجام والتوافق ، ربتت "حبيبة" على عنقها بهدوء، اقترب "يُوسف" وسأل "الترياق" وهو يشير بسبابته تجاهها:
, -أين صاحبكم من البشر؟
, -ومن هو؟
, -سيّدكم وزعيمكم ومالككم، أنتم خيوله، أنتم خيول "الكحيلان"!
, صهلت "الترياق" وتراجعت خطوتين، ووقفت قبالته، علا من صدرها كرير غريب ثُمّ قالت:
, -نحن خيول "أوبالس"٣ نقطةنحن خيول عظيمة، نختار فرساننا بأنفسنا، اتفقنا أن نطرح كل من لا يليق بظهورنا أرضًا ولا نلتفت إليه.
, ابتسم "يُوسف" ساخرًا، فهو من كتب تلك الجمل بنفسه، اللهم إلّا هذا اللقب الغريب "أُوبالس"، سألها باستنكار:
, -من أطلق عليكم هذا اللقب الغريب؟
, -زعيمنا، نحن لا نعرف عن ماضينا شيئًا، نعرف بعضنا البعض فقط
, -لستم خيول "أوبالس"!
, ثُمّ أكمل بغضبٍ موجهًا حديثه للترياق:
, -أنتم عشرة من الخيول، أربعة من الإناث، وستة من الذكور، من أصل عربيّ، أين بقيّتكم؟ وأين فارسكم٣ نقطةوما الذي فرقكم؟
, -كيف تعرف عددنا؟
, -بل وأحفظ أسماءكم وأعرفها جيّدًا
, قالت "حبيبة" محاولة تهدئته بعد أن لاحظت غضبه وهو يتحدّث مع "الترياق":
, -أخبرني بأسمائهم ومعانيها من فضلك يا "يُوسف".
, ارتبك لا يدري هل لأنّها نادته باسمه أم بسبب طريقتها الرسمية التي كانت تصيبه بالضيق، فهو يتخيلها تحدّثه على عكس هذا منذ عامين، يبدو أنّه بالغ في أحلام يقظته، وهذا يؤثر عليه الآن بينما يقف أمامها، بدأ يروي لها أسماء الخيول:
, - كُنت قد قرأت عن أسماء الخيول عند العرب قبل أن أشرع في الكتابة فاخترت لهم تلك الأسماء العشرة، البحر" هو اسم فرس كان للنبي صلى **** عليه وسلّم، "حَيزوم" هو اسم فرس جبرائيل عليه السلام في غزوة بدر، "أبهر" هو اسم فرس كان لـ أبى الحكم القيني، "أجدل" هو اسم فرس لـ جَلاس بن معد يكرب الكنديّ، "المسوّم" هو اسم فرس لـ مالك بن الجُلاح الجشمي، "الجُمانة" كان اسم فرس لـ طفيل بن مالك، وكذلك لـ لعامر بن طفيل، و"الشقراء" كان اسم فرس لـ لخالد بن جعفر بن كلاب، و لـ أسيد بن حناءة السَّليط، و"البرق" خيل اشتهرت بسرعتها الشديدة، و"البيضاء" فرس بيضاء سميت هكذا نسبة إلى اللون الأبيض، وهي فرس لـ قعنب بن عتاب بن الحارث، أمّا "الترياق" فكانت من خيل الخزرج المشهورة والمميزة٣ نقطة
, ثُمّ التفت موجهًا حديثه إلى "الترياق" وقال:
, -لستم خيول أوبالس، بل أنتم خيول الكحيلان.
, سألته "حبيبة" بفضول شديد:
, -وما "الكحيلان"؟
, -نوع أصيل من سلالات الخيول، سميت هذه السلالة بهذا الاسم لجمال عينيها التي تبدو كأنها مكحّلة، وتسمى الفرس كحيلة والحصان كحيلان ، أتعلمين يا آنسة "حبيبة" يضرب العرب المثل بها للدلالة على الأصالة وطيب النسب٣ نقطة فيقال للبنت الطيبة الأصيلة ذات الخلق فلانة كحيلة وللرجل الأصيل فلان كحيلان٣ نقطة
, صمت هنيهة وتابع:
, -تمامًا مثلك يا آنسة "حبيبة"، فأنت من عائلة كريمة، أنتِ فتاة كحيلة.
, قالها واستدار مرتبكًا وكذا "حبيبة" أشاحت بوجهها خجلًا، سألته "الترياق" التي كانت تتابعهما باهتمام شديد:
, -وما الدليل أننا من أصل عربي؟
, -صفاتكم، ملامحكم، تلك العلامات التي في أجسادكم، اللغة الفصيحة التي تتحدّثون بها، وقصّتكم٣ نقطة
, -وما قصّتنا؟
, -كان العرب قديمًا يرسلون خيول السباق في مجموعات، كلّ مجموعة تتكون من عشرة من الخيول، ويسمى مكان السباق مضمارًا، ويضعون في آخر نقطة منه الجائزة على رؤوس قصب الرماح، ومن هنا جاء القول "حاز فلان قصب السبق".
, -نحن إذا كنّا في سباق
, - كنتم مجموعة من الخيول لقبيلة من القبائل التي تسكن صحراء الجزيرة العربية، وكان لزعيم القبيلة ابن شاب يعشق الخيول٢ نقطةكان يهتم بكم، يرعاكم، يُحسن إليكم ويجتهد لتكونوا في أهنأ حال، كان رحيمًا رفيقًا بكم، شارك بكم في سباق وفور خروجكم أغار اللصوص على قبيلته، وعندما عاد قاتل بجسارة حتى كلّ وبقي وحيدًا بعد أن قتلوا أهله وحرّقوا الخيام وسبوا النساء ولم يبق إلّا هو، ولما اجتمعوا عليه وغلبوه بالعدد، فرّ وحيدًا وركض تحت ستار الليل حتى عثرتم عليه، حمله زعيمكم "حَيزوم" إلى هذا البستان حيث عشتم معه فيه لشهور طويلة معزولين عن العالم، يتحدّث إليكم، تنصتون إليه، ويأنس بكم، حتى صرتم تتحدّثون بلغة البشر مما أذهله٣ نقطةلكل فرس منكم طباعه الخاصّة به، تميّز بعضكم بسلوك وصفة محددة تختلف عن الآخرين.
, سألته "حبيبة":
, -وماذا بعد؟ ما الذي حدث؟
, -لا شيء
, -ماذا تعني؟
, -لم أكملها٢ نقطةلم أتم تلك الرواية، وقفت هنا عند هذا المشهد! تركت فارسهم هائمًا على وجهه في البستان٣ نقطة
, قالت متململة بضيق:
, -لماذا؟
, التفت إليها وقال وهو يهرب بعينيه:
, -جميعنا يمرّ بلحظات ضعف، شعرت بجمود في عقلي ولم أتمكن من التفكير!
, -يا للخسارة٢ علامة التعجب
, رماها بنظرة سريعة، لاحظ خيبة الأمل تلوح على وجهها، تُصرّ على تأنيبه بتلميحاتها رغم أنّه أخبرها منذ أول حوار لهما أنّه لم يتم أيًّا من رواياته! لا شكّ أنّها تيقنت الآن من أنّه كاتب فاشل. حاول أن يتماسك، وسأل "الترياق":
, -أين باقي الخيول؟
, -ابتلعتهم الدروب
, -أيّ دروب؟
, -دروب غريبة ظهرت فجأة، كانت معلّقة في الهواء!، لها بوابات عجيبة، كلّ واحدة من تلك البوابات تختلف عن الأُخريات، لم أر مثلها من قبل، راودنا شعور غريب ونحن نراقبها وجذبتنا إليها كالمغناطيس، لم نقاوم وتسابقنا ودلفنا فيها واتفقنا أن يكون الفائز هو أوّل من يعود من دربه، كنّا سبعة وأنا أول من عاد منهم.
, -ومن تبقى منكم في البستان؟
, -"الجمانة"، و"البيضاء"، و"الشقراء"٢ نقطةبأمرٍ من "حيزوم"
, -لماذا؟
, - قال إنّه لابد من بقاء الأمّ، و الزوجة، والابنة هنا، ليكون هذا البستان بيتًا ووطنًا لنا
, -وماذا وجدتِ في دربك؟
, -غابات خضراء، كنت أركض فيها باحثة عن رفاقي، طالت هملجتي في رحاب تلك الغابات حتى التقيت بـ "حبيبة" وأتيت بها إلى هنا.
, طالعها بنظرة تشي بالكثير، شرد للحظات ثُمّ فرطت منه شهقة وكأنه اكتشف ما أفزعه للتوّ!، قال وقد أضاءت عيناه:
, -يبدو أنّ هناك شيئًا عجيبًا يحدث هنا!
, سألته "حبيبة" بفضول شديد:
, -أخبرني ما هو؟
, قال دون أن ينظر إليها:
, -ليس الآن٢ نقطة
, استدار وابتعد عنها لائذًا بفقاعة من الصمت، وعاد يتردد بين الشجرتين، ضايقها أن يخفي عنها شيئًا ما، كيف يفعل هذا؟ هي تودّ الآن أن تعرف كلّ شيء!، ابتعدت مع "الترياق" وسارت تجاه باقي الخيول وهي تتلفّت من آن لآخر، كانت تراقب "يُوسف" من بعيد، أخرجت كتاب "أيجيدور" وتفحصّته فلم تجد شيئًا جديدًا على صفحاته، وفجأة حدث ما لم يكُن بالحسبان!٢ نقطةفقد رأت "يُوسف" يتلاشى أمامها وكأنّه يتبخّر في الهواء!
, ٥ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, من جديد مررتُ بما مررت به من قبل، استحال كلّ شيء غموضًا وظلامًا، وكأنني غطست في ضباب، وهأنذا أقف بين يدي الأميرة "جلاديولس" مرّة أخرى، وبجوارها أحد "المجاهيم" وقد نقلني من البستان حيث كنت أقف مع "حبيبة" إلى قلعة الدَّيجور قبل أن يرتدّ إليها طرفها، صفعة قويّة من أحد رجالها كانت كافية لتطرحني أرضًا، وكُنت مشوشًا من أثر الحمى التي عاودتني منذ لحظات بينما كنت أسير بين الأشجار بمعطف أبي المبتلّ الذي ارتديته فوق الملابس التي استعرتها من "مُوراي"، شعرت أنني سأفقد وعيي٢ نقطةصرخت "جلاديولس" بشراسة:
, -أتظن أنك ستستطيع الفرار مني!
, ثُمّ أشارت بيدها لذاك المسخ الذي كنت أحملق تجاهه أبحث عن وجه له أو ملامح أنظر إليها! ظلمة تتحرّك تمامًا كما وصفتهم "حبيبة"، تذكّرت قلادتها وما قَصّته من أخبارهم، اختفى بعد أن كرر على "جلاديولس" ما قاله من قبل:
, - "لا تنسي الوعد٣ نقطةفنحن لا ننسى"
, ومرّة أخرى رأيت الخوف يتراقص على صفحة وجهها، رمقتني بنظرة تقطر حقدًا وغلًّا وسألتني:
, -كيف هربت؟ ومن ساعدك؟
, -حررني غريب ليس من أهل قلعتكم
, -من هو؟
, -لا أستطيع كشف أمره، فهو ذو مكانة عظيمة
, -من هذا! أخبرني عنه
, أشفقتُ على "مُوراي"، لو أخبرتها عنه ستؤذيه حتمًا، قلت مراوغًا:
, -لولا أنّك أسرعتِ بإحضاري إلى هنا مرّة أخرى لكنت قد تعرفت عليه بشكل أكبر
, -ما اسمه؟ ومن أي عشيرة هو؟
, -إنه أمير من أُمراء "الحزاورة"
, تلفتتْ يمينًا ويسارًا تتأمّلُ وجوه حرّاسها، تواثبت النظرات، الكلّ يتعجب من الكلمة، كنت أحاول أن أخفي شخصية "مُوراي" حتى لا يؤذوه، سألتْ من حولها إن كانوا يعرفون شيئًا عن"الحزاورة" لكنهم لم يعرفوهم، عادت تسألني:
, -ومن هم "الحزاورة"؟
, رحت أقول ما يتفتق عنه ذهني محاولًا بث الرعب في نفوسهم:
, - قوم أقوياء غريب أمرهم!، غلبت قوّة أرواحهم قوّة أجسادهم، وغلبت قوّة أجسادهم قوّة أحزانهم، ثابتون كالطود رغم ما ألمّ بهم من مصائب، غلبوا الحياة بما تميزوا به عن غيرهم، قُطعت وشائجهم فوصلوا أنفسهم ببعضهم البعض، لهم زعيم له عينان واسعتان انزوى فيهما ذكاء شديد، بينما انعقد بين حاجبيه غضب جارف، ورغبة حارقة في الانتقام من أي شخص يؤذيه، تبرق عيناه وسط الظلمة التي لا يهابها ولا يخشاها، لديهم خيول عجيبة لا تشبه أيّ خيول أخرى رأيتها في حياتي، لو اقتربت منهم وكنت خيلا لأجفلت منهم، ولو كنت من البشر لأجفلت منهم أيضًا!
, اغتصبت "جلاديولس" ابتسامة شاحبة واتجهت بكلّيتها إليّ وسألتني:
, -لماذا؟ ما الذي سيجعلنا نجفل إن اقتربنا من تلك الخيول!
, -أمرهم غريب!، لا بدّ أن تحسبوا لهم الحساب وتحصّنوا قلعتكم.
, -هل تعرف مكانهم؟
, -وكيف سأعرف وأنا غريب عن أرضكم، حتى أنكِ لم تعطيني تلك الفرصة، كنت قد التقيت بهم للتوّ عندما خُطفت فجأة ووجدتني بين يديكِ.
, تقبضت عضلات وجهها، طالعتني بنظرة توشّيها الريبة، أدركت حينها أنني نجحت في أن أجعل الهواجس تعبث برأسها، في عالم مجنون كهذا لن يفلح إلا شيء مجنون، ولا بدّ أن أرتجل كما لم أفعل من قبل!
, -ألقوه في السجن، وإيّاكم أن يفلت منكم هذه المرّة
, قالتها "جلاديولس" وهي ساخطة، ثُمّ انصرفت ترفل في ثوبها الفاخر بخيلاء، بينما جرّوني إلى سجن قلعة الدَّيجور مرّة أخرى.
, ١٠ العلامة النجمية
, "حبيبة"
, هرب الظلام مهتديًا بضوء القمر، كانت "حبيبة" تجلس غارقة في حيرة شديدة، كيف اختفى "يُوسف" فجأة أمام ناظريها بتلك الطريقة! كانوا جميعًا يطالعونها باستغراب، ينتظرون أن تختفي فجأة هي الأخرى، الكثير من الأسئلة الفضولية طُرحت عليها من الحزاورة كما يناديهم "مُوراي"، صغار كانوا لكنهم ليسوا أبدًا بالضعفاء، لاحظت اهتمام "مُوراي" بهم وكيف يتخذونه قائدًا لهم أو معلمًا أو ربّما أخًا كبيرًا وقد حرموا من هذا بفقدهم لأسرهم، استمعت لحكايا العجوز "مِسكة " عن كلّ واحد منهم، كانت أعمارهم تتراوح بين التاسعة والحادية عشرة، رق قلبها لهم وأحزنتها قصّة "مُوراي" وكيف أنّه يبحث عن أبيه منذ أعوام، وكيف أنّه كان سببًا في عودة الكثير من الغلمان لآباهم وأمهاتهم، إلّا بعضهم لم يجدوا أهاليهم أبدًا فبقوا معه هو والعجوز في البستان! كانت "مِسكة " تثرثر كثيرًا وكأنّها أخيرًا وجدت من ينصت إليها، وكانت "حبيبة" تجيد الإنصات، أخبرتها أيضًا عن قرية "الدحنون" وكيف أنّ السيّد "بركات" اشترى هذا البستان من صاحبه الذي كان يهمله ويزهد فيه، وبعد أن أنهت ثرثراتها قالت هامسة:
, -أترين كيف تتجاهلنا "رفيف" إنّها لا تخرج إلينا إلّا نادرًا، وكأننا أشباح تعيش في البستان، إنّها حتى لا تردّ السلام!
, - يبدو أنّها فتاة لطيفة وحالمة
, -حالمة!٣ نقطةإنّها مجنونة
, -لم تقولين هذا؟
, -تحدثي إليها وراقبيها وستعرفين٣ نقطةإنّها مجنونة
, قامت العجوز "مِسكة " وتركت "حبيبة" كحمامة ضالّة تاهت بين أشجار البستان، لا تدري هل من الصواب المكوث هنا؟ أم من الأفضل أن تخرج إلى قرية "الدحنون"؟ أم تعود لمكان سقوط "قطرة الدمع" في الغابة القريبة، فهي لم تلتقِ بمن يرشدها أو يدلها على الطريق!
, عادت تراقب الجميع في صمت، كادت تسأل "يُوسف" عن شيء ما، لكنها لم تتمكن من طرح السؤال عليه فقد قاطعهما "مُوراي" حين دعاهما للطعام٣ نقطةونسيت أن تسأله عندما كان يحدّثها هي و"الترياق"، تذكّرت الآن كيف كان "يُوسف" شاردًا وهو يلوك الطعام في صمت، تلفتت تبحث عن "مُوراي" لتسأله عن قلعة الدَّيجور التي أخبرها "يُوسف" عنها وكيف أنّ "موراي" يقتحمها من آن لآخر وأنّه أنقذ "يُوسف" لظنّه أنّه محارب ويستطيع أن يدلّه على مكان والده، ربّما عاد "يُوسف" إلى هناك، لم يكن "مُوراي" بالبستان! كان هنا منذ قليل٢ نقطةأين اختفى؟
, سارت نحو الخيول، أقبلت "الترياق" عليها فبدأت تربّت على عنقها كالعادة، سألتها بصوت خافت:
, -أين ستنامين يا "حبيبة"؟
, -لا أدري، ربّما مع السيّدة "مِسكة " في غرفتها، فـ"رفيف" لم تظهر منذ أن أعطتني الحذاء فور دخولنا البستان!
, -تصبحين على خير
, -أرجو ذلك
, قالتها "حبيبة" وهي تراقب "الترياق" تبتعد عنها، فهي تعلم أنّها لن تنم تلك الليلة إلّا غرارًا، وكيف ستنام وهي في مكان غريب مع أناس لا تأمنهم، وحدها في مملكة لا تعرف عنها شيئًا يطمئنها، لا توجد سبيل للعودة لديارها غير استرداد كلمات كتابها الذي اختارها، ولا تجد من يحتضنها ويؤيها كما فعلت "الحوراء" مع زوجة أخيها "مرام" عندما أزالت عنها الخوف فور أن استقبلتها عند وصولها لمملكة البلاغة، خرجت من كوخ "مِسكة " وجلست تراقب البستان تحت ضوء القمر الذي كان بهيًا يغلّفه السحاب المتكاثف، كانت تشعر بالخوف٣ نقطةظهرت "رفيف" فجأة أمامها، اقتربت واحتضنتها بذراعيها الرقيقين فزال عنها الخوف، كان في نظراتها نوع من السلوى والمواساة، وكأنّها تقرأ ما تسرّه "حبيبة" في نفسها، سألتها "حبيبة" بلطف:
, -كم عمرك يا "رفيف"؟
, -ستة عشر عامًا
, -يبدو أنّك تحبّين البحر؟
, -أعشقه، أليس كريمًا وودودًا ويتحمّل الكثير!
, -تتحدثين عنه وكأنه من البشر!
, -يكفيني أنّه يحمل قلبي، وهمّي٣ نقطة
, ثُمّ عقدت "رفيف" ذراعيها وأردفت قائلة:
, -البحر يا "حبيبة" رغم ملوحة مائه فحضنه عذب! يتسع للجميل وللقبيح، وللقوي وللضعيف، لا يُفرّق بين أيّ منهم، ولهذا أحبّه، بزرقته الخلّابة، وبصوته السّاحر، وبرائحته الزّكية!
, ثُمّ التفتت تجاه "حبيبة" لتطالعها في عينيها مباشرة وأردفت قائلة:
, -ولأنّه يكتم أسراري ولا يبوح بها لأحد! وكثيرًا ما تلثم أمواجه أقدامي عندما أقف محزونة باكية، وكأنّها تواسيني، ليتنا كالبحر يا "حبيبة"، ليتنا نغفر للبشر كما يغفر لهم!، يلقون بالقاذورات في مائه فيعيدها إلى الشاطىء برفق، يلفظها على الرمال بلا ضجيج، يسامح بلا لوم ولا عتاب! البحر يحبّنا بلا قيد، يتركنا على سجيتنا نتصرف كالأطفال ونحن في حضنه ولا يلومنا، ما أروع البحر!
, -وما أروع هذا الكون كلّه، سبحان ****!
, -الكون فينا يا "حبيبة"، ونحن نذوب فيه، أنا البحر، والبحر أنا٢ نقطة
, أنهت"رفيف" كلماتها، وجلست ساكنة تتأمّل البستان بعينين دامعتين، شعرت "حبيبة" أنّها تحمل همًّا كبيرًا، وحملًا ثقيلًا، سألتها وقد رقّت لحالها:
, -أين أمك؟
, -رحلت٢ نقطة
, -منذ متى؟
, -منذ فترة وجيزة
, -هل٣ نقطة
, قاطعتها "رفيف" بصوت مرتجفٍ وقالت:
, -ستعود قريبًا إن شاء ****
, أرادت "حبيبة" أن تُخفف عنها فقالت:
, -كوني قويّة حتى تعود
, لاحت على شفتي "رفيف" ابتسامة" ساخرة وقالت لها:
, -أبدو ضعيفة هشّة٣ نقطةأليس كذلك؟
, -بلى
, وقفت "رفيف" فجأة ومدّت يدها تجاه "حبيبة" وقالت وهي ترسم ابتسامة على شفتيها:
, -هيّا بنا، ستبيتين معي بغرفتي يا صديقتي المحاربة، سأعيرك ثيابًا تناسبك
, -نعم أرجوك، فأنا أتعذّب وأنا أسير هنا بهذا الثوب المنتفش٣ نقطةأنا أكرهه!
, ضحكت "رفيف"، وسارت "حبيبة" معها وقد أثارت كلمة "صديقتي" التي قالتها لها "رفيف" شجونها، طالما تمنّت أن يكون لها صديقة تؤنسها.
,
, ٦ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, ظلام يموج في ظلام، عندما ألقوني في تلك الزنزانة زحفت حتى وصلت إلى جدار رطب، تحسسته بيدي وأسندت ظهري إليه، كنت أشعر أن هناك شخصًا آخرَ قريبًا منّي، سمعت أنفاسه المنتظمة وهو نائم. شممت رائحة عرقه وثيابه، ترى هل هو لص سارق، أو مجرم قاتل، وهل سأسلم من أذاه؟
, كنت أرتجف لا أدري أمِن الحمّى أم مما أتذكر أنني كتبته عن تلك الزنازين في الرواية، ويا ليتني ما كتبته. الجلدُ بالأسواط حتى تتمزّق الجلود، خلع الأظافر، خمش الوجوه، سكب الماء المغليّ على الأطراف، القتل البطيء بتعليق المسجون من قدميه وجرحه لتسيل الدماء منه ويموت بالتدريج٢ نقطةالحبس مع جثث ميّتة حتى تتفسّخ ويخرج منها الدود٢ نقطة
, تسارعت أنفاسي ثُم أوجعتني رأسي وعاودتني نوبة السعال مرّة أخرى، شقّ صوته الرخيم الظلام حولي فصعقني وهو يسأل:
, -من هناك؟
, -أنا وليمة الموت وخيبة الأيام.
, -ماذا؟!
, -لا عليك٣ نقطةاسمي "يُوسف".
, -لماذا أنت هنا؟ هل ارتكبت جرمًا ما؟
, -يبدو أنني أتيت في رحلة كبرى، وسأذهب إلى كلّ الأماكن .
, -كلامك غريب!
, -لا عليك، فأنا مرهق ومتعب جدًا.
, -وكلّنا كذلك!
, -أنا مُرهق من الدنيا، متعب من محاولاتي الفاشلة، مللت من التنقيب عن الأمل في ركام البؤس الذي أعيشه.
, -أعانك **** وأراح قلبك!
, مرت لحظة صمت ثقيلة قال بعدها:
, -هل أنت مريض بذات الرئة؟
, -وكيف عرفت؟
, -أنفاسك متسارعة، وصوت سعالك يشي بعلّة في صدرك.
, -نعم، أنا مريض، ورأسي تؤلمني.
, -لا تطمع هنا في جرعة دواء، أو حتى شربة ماء.
, كدت أسأله عن اسمه لكنّه باغتني بسؤاله:
, -هل تمت محاكمتك؟
, -لا .
, كنت أجيبه وأنا أنتظر أن يقبض على عنقي فجأة أو يطعنني بخنجر في صدري، لكنّ صوته وصلني بائسًا منكسرًا هذه المرّة وهو يقول:
, -سيعذبونك ويسألونك عن كتاب، ولن تجيب لأنّك لا تعرف عن أي شيء يتحدّث هذا الكتاب، ولن تعرف أين هو، لكنّهم سيعذبونك لتعترف!
, شعرت بنبرة يأس في صوته، سألته قائلًا:
, - هل أنت كاتب؟
, -لا.
, -إذًا أنت محارب!
, قال متعجبًا:
, -حتى أنت أيّها الغريب!٣ نقطةأتكرر ما يقولونه؟
, -بل أسألك.
, قال بعد صمت قصير:
, - لست محاربًا بالصفة التي يصفونها، لكنني محارب بسيفي وعلى صهوة جوادي، على كلّ حال؛ مرحبًا بك يا أخا العرب.
, لم أسعد في حياتي بكلمة كما سعدت بتلك الكلمات، أنا أعرف من يكررها دومًا٣ نقطةأعرفه، سألته في الحال:
, -ما اسمك؟
, -"عُبيدة".
, ضحكت كما لم أفعل منذ ساعات، حتى أنني شعرت ببلاهة، قلت متلهفًا:
, -أين أنت؟ كيف أصل إليك يا "عُبيدة"؟
, كنت متحمسًا لرؤية وجهه، أنا أعرفه٣ نقطةأعرف هذا الشّاب جيدًا، أجابني بصوته الهادئ قائلًا:
, -اثبت مكانك، سأستند إلى الجدران وأتحرك حتى أصل إليك
, سمعت صوته وهو يتنقل من مكانه، انتظرت بتلهّفٍ حتى وصل إلى مكاني، اصطدمت قدمه بيدي، فجلس بجواري، ربّت على يدي وتصافحنا وسط الظلام٢ نقطةالآن أنا أجلس بجوار الفارس الذي فُجع في أهله وعشيرته، ولم يبق له إلّا خيوله العشرة، خيول "الكحيلان".
, ٨ العلامة النجمية
,
,
,
, "قرية الدحنون"
, "حبيبة"
, قررت "حبيبة" الذهاب إلى قرية "الدحنون"، لا بدّ أن تخرج من البستان، لعلّها تلتقي بأيّ علامة أو دليل، أو صلة بحرّاس المكتبة، وهي لا تعلم متى سيظهر "يُوسف" مرّة أخرى، وربّما لن يظهر أبدًا٣ نقطةلعلّه عاد إلى غرفته حيث كان.
, خرجت مع السيّد "بركات" بعد أن أعارتها "رفيف" قميصًا واسعًا عنّابيّ اللون له أكمام واسعة، ارتدته "حبيبة" على بنطالٍ حنطيٍ واسعٍ، كان القميص يصل إلى ما بعد ركبتيها، سارت تهرول فيه بينما وقفت "رفيف" تقهقه وهي تراقبها من بعيد وهي تسير مع "بركات"، كانت "رفيف" سعيدةً لأنّها أعارت "حبيبة" شيئًا ما كان يخصّ عزيزًا عليها وكانت تحتفظ به. وكانت "مِسكة " تراقبهم من أمام كوخها، بعد أن انصرفا فتحت "رفيف" باب البيت فجأة وهرولت خارج البستان، لا بدّ أنّها ستذهب لشاطئ البحر كعادتها! همست "مِسكة " قائلة والقلق يطفح على وجهها:
, - فتاة مجنونة!
, دلفت العجوز إلى كوخها البسيط لتبدأ إعداد إفطار ما بقي من الحزاورة، فـ "مُوراي" يعمل باستمرار على إعادتهم لذويهم، وقد خرج مبكرًا ولم يخبرها إلى أين.
, كانت قرية الدحنون غريبة الشكل، زهور خدّ العذراء الحمراء اللون أو زهور "الدحنون" كما يطلق البعض عليها تحيطها من كلّ صوب، حول البيوت، في البساتين، في الطرقات، على رءوس الصغيرات وهن يركضن هنا وهناك، وفي باقات يبيعها رجل بدين يطوف وهو يجر عربة خشبية ممتلئة بها، وعلى الجانبين علّقت الكثير من العقود المصنوعة من تلك الزهرة، شعرت "حبيبة" بالبهجة وهي ترى اللون الأحمر في كلّ مكان، قالت باسمة:
, -ما أروع تلك الزهور!، لماذا لم تشتر بيتا بالقرية وتسكن هنا يا سيد "بركات"؟، لماذا تركت مكانًا مبهجًا كهذا المكان؟
, التفت إليها "بركات" بينما كان يتكئ على عصاه ويسير ببطء وقال:
, -لا تحكمي على شيء من مظهره الخارجي فقط!
, قالت وما زالت البهجة على محياها:
, -الزهور زهور، والجمال جمال، سبحان ****! لونها جميلٌ جدًا!
, قال وفي عينيه نظرة لامعة كالبلور:
, -الزينة الجميلة قد تخفي قبحًا عظيمًا
, -أتقصد النّاس؟
, -هم الآن أمام عينيك قشور يا ابنتي، وخلف تلك القشور جوهر لن تعرفيه إلّا بعد الاختلاط بهم.
, -صحيح، جوهر الإنسان لا يُعرف إلّا بالمعاشرة.
, -أو بالماضي٣ نقطةماضينا أحيانًا يخبرنا عن جزء منا يا ابنتي، ولا ينفي هذا أنّ البعض يتغيّر إلى الضدّ، وينضج فيتخلّى عن سقطاته٣ نقطةأو يتوب فيغتسل من ذنوبه! تذكّري هذا جيّدًا يا ابنتي.
, ابتسمت قائلة:
, -لكنني أرى الناس هنا طيبين، وجوههم حسنة ومريحة، وثيابهم أنيقة وتلك القبّعات على رؤوس البعض تعجبني جدًا!
, -البعض يرتدون أقنعة.
, -ماذا تقصد!
, -يتصنّعون، يلبسون أقنعة نظيفة، وخلف تلك الأقنعة قد تكون هناك عقول قذرة.
, تعجّبتْ "حبيبة" من كلام السيّد "بركات" الفلسفي الذي يبدو كالألغاز، لم تعلق على آخر كلماته، لكنّها لاحظت ضيقه الشديد، سارت في صمت بجواره، كانت تراقب وجوه النّاس بفضول، ملابسهم، نوافذهم، الرايات التي فوق بعض بيوت القرية، العلامات الغريبة المرسومة على الجدران. وصلا أخيرًا إلى السوق، انشغل السيّد "بركات" عنها بتجارته ودكّانه الواسع، كان لديه الكثير من العمّال، لاحظ من بعيد أنّها تحاول أن تبتعد فأسرع نحوها وهمس قائلًا:
, -احذري يا ابنتي من سكان القرية، انتظريني حتى أنتهي من أعمالي وسأتجوّل معك، لا تبتعدي أرجوك.
, هزّت رأسها موافقة وبدأت تتجوّل في شوارع القرية وكانت تعود من آن لآخر ليراها "بركات" فتشير إليه ويشير إليها، وسط الزحام ظهر أمامها أحد الحزاورة، وقف يطالعها وعلى وجهه ابتسامة ماكرة، وكأنّه يستفزّها لتركض خلفه، لكنّها تذكّرت تحذير السيّد "بركات"، التفتت فإذا بالغلام وقد اختفى وكأنّه تبخّر في الهواء، عادت إلى حيث كان "بركات" ينتظرها، طمأنها أنّ كل الحزاورة يعرفون طريق العودة للبستان، وأنّه ليس هناك داعٍ للقلق، مضى النهار سريعًا وعادا للبستان، ما زال "يُوسف" غائبًا، والكلّ في قلق عليه.
,
,
, ٨ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, وأخيرًا أضاءوا شُعل النّار فأضاءت الزنزانة، رأيت وجه "عُبيدة" وكنت متشوقًا لهذا بالفعل،كان "عُبيدة" في الخامسة والعشرين من عمره، تماما مثلي. عضلات صدره البارزة، وذراعاه المفتولان، ولحيته الكثيفة، وبشرته التي دبغتها شمس الصحراء، وخشونته البادية في حركاته ولفتاته جعلته يبدو أكبر مني عمرًا. تحدّثنا كثيرًا عن قبيلته، وأشقائه[u1]، وعن حياته في البادية، كان فارسًا بارعًا يتقن المبارزة بالسيف، والطعن بالرّمح، والركض بالخيول، والكرّ، والفرّ، والهجوم، واتقاء الضربات. وأخبرني أنّه أعجب بفتاة من قبيلة أخرى، ولمّا أخبرها برغبته في الزواج منها، ورأت منه إقبالًا عليها استغلّت هذا وخدعته، فقد كانت تحب ابن عمّها، وأرادت أن تثير غيرته عن طريق "عُبيدة"، غدرت به وشكته لأبيها وعمّها، فنشبت الخلافات بين القبيلتين، تكرر الخطأ من هنا ومن هناك، وتعقّدت الأمور! وكان قومها غلاظًا شدادًا قساة القلوب وفيهم آثار جاهلية، ومرّت الأيام. خرج يومًا خلف خيوله التي كانت في سباق، وعاد ليجد قبيلته ما بين مذبوح، ومطعون، ومحروق، وأمّا النساء فسبيت، والأموال سرقت، أبادوها ولم يبق له إلّا الخيول التي نجحت في الفرار، والتفّت حوله عندما رأته، فمضى بها في الصحراء، حتى وصل إلى بستان.
, كنت أنصت إليه وأنا أعرف كلّ تلك التفاصيل، لكنني تركته يحكيها بطريقته. وعندما انتهى قلت له:
, -أما أنا فأعمل كاتبًا، أكتب قصصًا ورواياتٍ، حتى أنني كتبت عنك.
, -عني٢ علامة التعجب
, -نعم٢ نقطةعنك.
, -كيف وهذا أوّل لقاءٍ لنا؟
, -هذا شيء عصي على الفهم، لكنني لا أكذب٢ نقطة
, -إذًا فاجعل "عُبيدة" الذي كتبت عنه عزيزًا ولا تقهره مثلي، ولا تجعل نهايته كنهايتي، وحيدًا مهانًا بلا عشيرة.
, -لكنّك لست مهانًا يا صديقي! أنت فارس مقدام!
, -بل أنا جبان٣ نقطةلقد٣ نقطةلقد فررت من لقاء أعدائي .
, -لأنّك كنت وحدك، والكثرة تغلب الشجاعة.
, -كان عليّ أن أبارزهم حتى الموت وإن كنت وحدي!٢ نقطةلكنّ حزني وقهري على والديّ وأشقّائي قصم ظهري.
, -ليتني ما كتبت هذا.
, -ماذا تقول؟
, -لا شيء٣ نقطةأقصد٣ نقطةسأفعل يا "عُبيدة"، سأجعل بطل روايتي عزيزًا، ولن أقهره.
, -نعم، لتفعل ذلك.
, ثُمّ ابتسم قائلًا:
, - واجعله يتزوج من فتاة جميلة.
, -سأفعل يا "عُبيدة".
, -وينجب الكثير من الصبيان.
, -والبنات؟ ألا تحبُّ البنات؟
, قال باسمًا:
, -والبنات أيضًا٣ نقطةسمعت أبي يقول قولًا عظيمًا لأحد الصالحين: "البنون نعم والبنات حسنات، و**** يحاسب على النعم و يجزي على الحسنات".
, -بالمناسبة يا "عُبيدة"، رأيت أربعة من خيولك، خيول "الكحيلان" التي تتحدّث بلغة البشر في بستان قريب من قرية "الدحنون".
, -حقًا!
, -"الترياق" كانت منهم.
, - ليتني أستطيع الخروج من هنا لأجمع خيولي.
, -نعم٣ نقطةليتنا نستطيع الخروج من تلك القلعة البئيسة.
,
, بعد ساعة أو ربّما أقل كنت أترنح فيها من أثر البرد الذي أصابني، وكنت جائعًا للغاية، اقترب من باب الزنزانة رجل بدين، كان كرشه يترجرج وهو يهرول تجاه الباب وفور أن أمسك بالقضبان الحديدية دسّ خدّيه من بينها، كان هذا "آسر"، الملك الذي لم يعد ملكًا هنا، بل يعمل بالإسطبل! أشار إليّ لأقترب فاقتربت منه فهمس قائلًا:
, -أنت العراف؟
, -لست عرافًا.
, -أقصد المحارب، أو الكاتب الذي أحضره الجان للأميرة٢ نقطة
, -نعم يا جلالة الملك "آسر"، أنا هو.
, اتسعت عيناه وقال بضيق:
, -أتسخر مني؟ لست ملكًا يا هذا!
, -بل أنت ملك بالفعل، وزوجتك ملكة، لكنني لا أعرف ما الذي حدث لكما!
, رمقني بنظرات مرتابة وقال:
, - اسمع، يقولون إنّك تعرف الكثير عنها، أخبرني أين هي الآن؟
, -ومن هي؟
, -الأميرة "هيدرانجيا".
, كانت تلك هي المرّة الأولى التي يردد شخص آخر غيري اسمها على أرض تلك المملكة، "هيدرانجيا" كانت هنا بالفعل، ترى أين هي الآن؟ أجبته بحذر:
, -أنت تعرف إذًا أنّها ما زالت على قيد الحياة!
, -بالتأكيد، لكن البائسات أخفينها، بحثنا عنها في كلّ مكان ولم نجدها حتى الآن.
, -ومن هن؟
, -اللاتي لا يجب ترديد أسمائهن!
, -ومن هن اللاتي لا يجب ترديد أسمائهن؟
, -أنت تعرف٢ علامة التعجب
, -لا أعرفهن ولا أعرف مكانها، ساعدني لكي أخرج من هنا وسأبحث عنها معك.
, -لا أستطيع، أنت لا تعرف كم دفعت لقاء هذا اللقاء، رشوت الحرّاس بكلّ ما معي لكي أسألك، وها أنت تخيب ظنّي فيك.
, انصرف ساخطًا عليّ، ناديته وهو يهرول بعيدًا، وسألته:
, - من هنّ اللاتي أخفينها؟
, التفت قبل أن يختفي وهمس بصوت يشبه الفحيح:
, -"ساحرات أوبالس".
, أصبت بصاعقة، بدأت الأحجية تتضح، خيول أوبالس، ساحرات أوبالس، أوبالس٣ نقطةأوبالس٣ نقطةأو٢ نقطةأُوبال!
, صدق تخميني إذًا، إنّها روايتي الأخيرة٣ علامة التعجب، الآن تذكّرت٣ نقطةيا إلهي! صرختُ بكلّ ما أوتيت من قوّة:
, -لا بدّ أن أخرج من هنا!٢ نقطةأخرجوني من هنا في الحال.
, أطفأوا الشعل مرّة أخرى، عدنا للظلام أنا و"عُبيدة"، لم يسألني عن سبب صياحي ولا عمّا قاله لي "آسر"، كان هادئًا ورصينًا، لا يسأل عمّا لا يعنيه، وليس لديه الفضول الذي نعرفه، لو تبادلنا الأدوار لظللت ألح عليه ليخبرني بسرّه. كانت كل عظام جسدي تؤلمني، وكنت جائعًا، بطني تقرقر من الجوع، سألته وكنت أتحدّث بصعوبة:
, -منذ متى وأنت هنا؟
, -شهور.
, -ماذا! وكيف تعيش بلا طعام؟
, -كلّ ثلاثاء تأتي عجوز تسمّى "جلنار" تحمل الخبز والماء، وأحيانًا بعض ثمار الفاكهة، تطعمني وتخرج، لا تأتي إلّا عندما يتولّى هذا الرجل الحراسة.
, ثُمّ أشار تجاه الرجل الذي كان يجلس خارج الزنازين خلف الباب، كان يرفع ساقيه على الطاولة الخشبية التي أمامه، وكنا نراه على بصيص ضوء الشعلة القريبة منه، قلت مستبشرًا:
, -في أيّ يوم نحن؟
, -الثلاثاء.
, -إذًا ستأتي "جلنار" اليوم.
, -نعم٢ نقطةستأتي.
, -ولماذا تطعمك أنت بالذّات؟
, -لأنّ "أبهر" في إسطبل زوجها، وهي الوحيدة التي تعرف سرّه وتتحدّث معه، وقد أخبرها عنّي، كنت قد التقيت به للتوّ عندما ألقى الحرّاس القبض عليّ.
, ابتسمتُ عندما تذكّرت أن "مُوراي" جعلني أصعد على ظهر "أبهر" عندما هربنا من القلعة، لم أكن وقتئذ في حالة تركيز لأنتبه له، كما أنني لم أره جيّدًا في الظلام، سألت "عُبيدة" وكان حديثي مع "الترياق" لا يزال يتلجلج في رأسي:
, -هل تعرّف عليك "أبهر"؟
, -في البداية لم يعرفني، كان يركض في الصحراء بجنون، وبسرعةٍ شديدة، حتى أنني ظننته "البحر" وهو أكثرهم سرعة، وهذا لأننا كنّا ليلًا، فالـ"البحر" أسود اللون أمّا هو فأصهب، لكنني انتبهت للونه وللعلامات على جسده عندما اقترب فأدركت أنّه "أبهر"، كان يدّعي أنّه من خيول "أوبالس"!
, -أخبرتني "الترياق" أيضًا بهذا، حتى أنّها لم تتذكرك يا "عُبيدة".
, -كيف هذا!
, قالها "عُبيدة" بيأس، ندمت أنني أخبرته، عدنا لصمتنا وظلمتنا، جلست في سكون أنتظر وصول "جلنار"، الملكة التي تغسل الآن الملابس!، وتطعم أحد المساجين وهي لا تعرف عنه شيئًا، مرّت ساعة قبل أن تظهر، كانت نحيلة جدًا تسير ببطء، عندما اقتربت وخلفها الحارس يحمل الشعلة التي أظهرت ملامح وجهها المتعب، والذي لا يخلو من بقايا جمال حزين، أعطتنا الخبز والماء، وكنت أرتجف، وما زلت أسعل، قالت وهي تدقق في ملامحي:
, -أنت مريض يا بنيّ، سأحضر لك دواء يهدِّئ السُعال، ويُسكن ألمك.
, -شكرا لك يا سيّدتي.
, قالت هامسة:
, -هل لي أن أسألك عن شيء ما، وأرجو أن تجيبني أرجوك؟
, -تفضّلي.
, -هل أنت بالفعل لا تعرف مكان "هيدرانجيا"؟ أخبرني "آسر" أنّك تقول هذا؟
, -في الحقيقة أنا بالفعل لا أعرف مكانها الآن، لكنني أظن أنني سأستطيع الوصول إليها إن خرجت من هنا.
, -ليس قبل أن يتمّ استجوابك!
, -ابتلعت ريقي بصعوبة، لاحظتْ خوفي فقالت:
, -سأحاول أن أدبّر الأمر، حاول أنت أن تفكّر في حيلة ما، اطلُب لقاء الأميرة، وأشغلها بالحديث عن أيّ شيء حتى تنجو من التعذيب.
, رأيت الحيرة على وجهها وهي تكمل سائلة:
, -ولكن إن خرجت٣ نقطةكيف سأصل إليك؟
, -لا تقلقي سأجدُك سيّدتي.
, بدا عليها السرور عندما لمست من حديثي احترمًا وتوقيرًا لها، ودّعتني بابتسامة حنون، وقالت:
, -حسنًا سأخرج الآن لأحضر لك الدواء يا بنيّ، لم تخبرني عن اسمك؟
, -"يُوسف".
, انصرفت وكنت أشيعها بعيني، تسير ببطء، تستند على الجدار والحارس يضيء لها الطريق، غريب أنّه يرق لها! أو ربّما ترشوه بالكثير من المال، ولكن من أين لها المال وهي فقيرة تغسل الثياب!
, عادت بعد دقائق بالدواء، أربع زجاجات صغيرة ملفوفة بعناية كانت تدسّها في حزامها، أخبرتني أن أتناول جرعتين منهما اليوم، وجرعتين غدًا، كان مذاق الدواء الأوّل حارًا، وأمّا الثاني فكان قابضًا للغاية حتى أنني كدت أتقيّأ الخبز الذي أكلته، رقّ "عُبيدة" لحالي وجلس يمسح رأسي بما تبقى معنا من الماء، بينما تكوّرت بجواره على أرض الزنزانة، كنت أفكّر في رواياتي٣ نقطةقال هامسًا:
, -أشعر أن هذا المكان مسحور! الشمس لا تظهر قطّ، الليل دائم٢ نقطةأين اختفى النهار؟، ما سرّ كل تلك السحب السوداء التي تظلل القلعة؟، لماذا لا يسقط المطر هنا أبدًا؟، ما سرّ جفاف النباتات والأشجار في الحديقة؟ وهؤلاء الذين يعيشون هنا لماذا يتقبلون هذا الأمر ويكتفون بإشعال النار ليستضيئوا بها وهم يستطيعون الرحيل من تلك القلعة؟
, -لأنّها "قلعة الدَّيجور" يا "عُبيدة"، حيث الظلم ينتشر، والكره يقبع على صدور الجميع، والغيرة تنهش في القلوب، والجشع يعمي العقول والعيون، هنا في هذه القلعة البقاء للأقوى فقط، لا وجود للحب هنا٣ نقطةبل للأنانية فقط.
, - حبّ الذّات! ولكن هل الجميع هنا هكذا؟
, -أغلبهم، وخاصّة عائلة الملك الأكبر، ابنته"جلاديولس" مثلًا لا ترى إلا نفسها فقط، تحتقر الآخرين، تستصغرهم، ليس لديها محرّمات فهي تستحلّ لنفسها أيّ شيء طالما هذا لمصلحتها .
, -ولكن هنا "جلنار" و "آسر" وكلاهما رحيم يا "يُوسف"، هناك بصيص من الأمل.
, -لا أشكّ في هذا٣ نقطة
, -أرض **** واسعة٣ نقطةلماذا لم يرحلا من هنا؟ ومن تلك التي يبحثان عنها؟
, -سأحكي لك قصّة الأميرة "هيدرانجيا" وشقيقتها "جلاديولس"، اسمع منّي٣ نقطة
, وفور انتهائي من سرد حكاية الأميرتين غصنا في صمتنا وظلمتنا، كانت الأفكار تتناطح في رأسي٣ نقطةكيف كان سيكون الأمر لو كنت قد كتبت نهايات لرواياتي؟
, كيف كانت ستكون نهاية رواية خيول الكحيلان؟ وما مصير "عُبيدة" فيها؟
, وكيف كانت ستكون نهاية رواية قلعة الدَّيجور؟ وما مصير "جلاديولس" و"هيدرانجيا" فيها؟
, وكيف كانت ستكون نهاية رواية الحزاورة؟ وما مصير "مُوراي" ورفاقه فيها؟
, وكيف كانت ستكون نهاية رواية قرية الدحنون؟ وما مصير تلك العجوز الطيّبة٢ نقطة"مِسكة "، والتي لم اختر اسمها ولم أضع عنوانًا لروايتها!
, وكيف كانت ستكون نهاية رواية "القلب المخلص"؟ وما مصير"كرشاب" فيها؟
, لماذا لا أذكر رواية "بركات"٣ نقطةومن هي "رفيف"؟
, وماذا عن الساحرات وتلك الرواية الأخيرة التي كنت أكتبها٣ نقطةالتي٢ نقطةوهنا أخذ الكرى بمعاقد جفنيّ فنمت طويلًا.
, ٥ العلامة النجمية
,
,
,
, -هيّا قُم٢ نقطة
, قالها أحد الحرّاس بغلظة وهو يجرني خارج الزنزانة بعد أن ركلني وصفعني عدّة مرات بينما كان "عُبيدة" يصيح غضبًا ويزمجر، مررنا من حديقة الموت، هكذا رأيتها في تلك اللحظة، ظننتهم سيأخذونني إليها مباشرة لكنهم أخذوني إلى جناح آخر، التقيت بأحد وزراء الأميرة، كنت أعرفه بالتأكيد، أعرف خبثه ونفاقه، وأدرك كيف تُدار الأمور هنا، كان لديه شارب رفيع وكأنّه مرسوم بالقلم على شفته العليا، وكان له وجه ممتلئ مربع وكتفان أميل للانحناء، باغتني بأسلوبه المهذّب! وفوجئت به يأمر الحرّاس بفكّ قيودي! قال مرحّبًا وهو يمسك بكتفي ونحن نسير تجاه جناح فخم:
, -أعتذر عن تلك الطريقة التي عوملت بها قبل أن ألتقي بك، من الآن أنت في ضيافتي، تفضل إلى جناحك الخاص يا عزيزي
, -جناح! وماذا عن الزنزانة النتنة؟ ألست سجينًا٢ علامة التعجب
, -أعتذر مرّة أخرى، إنهم يجهلون مقامك، وسألقنهم درسًا لن ينسوه أبدًا، لست سجينًا بالتأكيد، وتستطيع مغادرة القلعة في أيّ وقت
, -هل تعني ما تقوله؟ وهل ستوافق الأميرة "جلاديولس"؟
, -ثق بهذا٢ نقطةولكن٢ نقطةلا أنصحك بمغادرة القلعة، كونك معنا في مصلحتك.
, -لماذا؟
, -أنت في خطر!
, -أي خطر؟
, -لا أستطيع إخبارك الآن.
, -ما هذه الألغاز! أخبرني وإلا سأغادر.
, -ثق بي٣ نقطةأرجوك.
, وكنت لا أثق به، فكيف سأثق بهذا المخادع وأنا أعرفه أكثر من نفسه، تذكّرت "عُبيدة" وأردت أن أخلّصه من أسرهم فقلت مراوغًا:
, -لي صديق في سجن القلعة أودّ أن تنقلوه للإقامة معي بالجناح وإلّا سأغادر.
, -لك هذا، سأهتم بالأمر، المهم الآن أن تغتسل وتبدّل ثيابك وتستعد للقاء الأميرة.
, أمسكت بياقة معطفي الذي أصبح حاله أسوأ مما كان عليه وقلت:
, -لا أحتاج لتغيير ملابسي.
, قاسني بنظراته وتأمّل معطفي البالي وقال بسماجة:
, -تلك الثياب لا تليق بأميرتنا، وأنت ضيف مائدتها اليوم، من فضلك اغتسل وبدّل هذه الأسمال* البالية، فرائحة النتانة تفوح منك يا٤ نقطةعزيزي.
, هامش: الأسمال هي الملابس البالية والقديمة التي تدل على الفقر .
, استدار مغادرًا الجناح فصحت قبل أن يخرج من الباب:
, -لم تسألني عن اسم صديقي.
, قال دون أن يلتفت:
, -"عُبيدة"٣ نقطةأعرفه.
, مدّ أحد الحرّاس ذراعه وأغلق الباب خلفه فأصدر أزيزًا مزعجًا، ألقيت بجسدي على الفراش، عقدت يديّ خلف رأسي ورحت أحملق في نقوش السقف الذهبية، وغصت في أفكاري، وثب إلى ذهني سؤال، هل "حبيبة" التي رأيتها هي "حبيبة" الحقيقية أم هي "حبيبة" التي كتبتها لأحبها وتحبّني بيني وبين نفسي على الورق؟
, لا أظنّها "حبيبة" التي كتبتها فقد وبختني، ووصفتني بالإهمال، وأنني وضعتها في ورطة لأنني لم أكتب نهاية لرواياتي! كما أنها لم تعرفني، أما "حبيبة" التي كتبتها تعرفني وتحبني، تهرول تجاهي عندما تراني، تحتضنني ولا ترفع عينيها عن وجهي، نظراتها تقطر رقّة وشوقًا، وبسمتها تمنحني الأمل٢ نقطةولكن٢ نقطةيبقى الخيال خيالًا٣ نقطة
, تذكّرت حوارنا في بستان "حَيزوم"، طيفها تهادى أمام خيالي مياسًا متأودًا، شعرت بقلبي يخفق خفقانًا غريبًا، لا بدّ أن أعود إليها، إلى البستان٣ نقطة
, غلبني النوم فاستسلمت له، سأغتسل وأتأنّق وأبدّل ملابسي ولكن ليس الآن.
, ٦ العلامة النجمية
, صوت صراخهما أيقظني ففتحت عيني لأفجأ بهما تجلسان عن يميني وعن يساري وتمزّقان قميص "مُوراي" الكتّانيّ الذي كنت قد استعرته منه وارتديته تحت معطفي، تمزّق القميص فقالت إحداهما وكانت بارعة الجمال لها عينان صغيرتان كعيني قط:
, -اخرجي حالًا وإلّا هشّمت رأسك.
, ردت عليها الأخرى وكانت تفوقها جمالًا وقالت بدلال:
, -بل اخرجي أنتِ ٢ نقطةهو لي.
, ازدادت عينا الأولى ضيقًا وقالت:
, -بل هو لي أنا.
, -بل أنا.
, أمسكت كلّ منهما برأس الأخرى وانقلبتا على الأرض فقفزت من الفراش مبتعدًا عنهما، رأيت معطفى على الأرض، فحملته وأسرعت، حمدًا لله لقد استيقظت في الوقت المناسب، اشتدت المعركة بينهما، صفعت إحداهن الأخرى، والأخيرة انهالت على الأولى باللكمات وقامت بعضّها في أذنها بغلٍّ شديد، فتحتُ الباب وناديت على الحارس، قلت بنبرة آمرة:
, -أخرجهما من جناحي في الحال.
, -لماذا يا سيدي؟
, -لا أريدهما.
, -أترفض خدمة أجمل جاريتين في قلعتنا!
, -نعم٢ نقطةأرفض٢ نقطةأرفض!
, -عجيب أمرك!
, -وما العجيب؟
, - لا شيء٢ علامة التعجب أسرع واستعد للقاء الأميرة "جلاديولس".
, أخرجهما الحارس وأغلق الباب، تنفّست الصعداء، ثُم وجدتني أبتسم! وأخيرًا فتاتان تتشاجران من أجلي، لا بدّ أنني أسأت تقدير وسامتي، قررت أن أستعدّ وأتهيّأ للقاء الأميرة، اغتسلت وارتديت الملابس التي كانت بالجناح، كان قياسها مناسبًا لي وكأنّها خيطت خصيصًا من أجلي، راقني العطر فأكثرت منه، خرجت معجبًا بنفسي ومررت بالحارس، قلت له بينما نسير للقاء "جلاديولس":
, -هل تتشاجران دائمًا هكذا؟
, -الجاريتان؟
, -نعم٢ نقطةكانتا تتقاتلان من أجلي بوحشية شديدة.
, ضحك الحارس ملء شدقيه، كاد يسقط على ظهره من شدّة الضحك، أغاظني هذا فسألته بضيق:
, -ما الذي يضحكك؟
, -الجاريتان٢ علامة التعجب
, -ما بهما؟
, -كانتا تتشاجران على القميص.
, كدت أحرقه بنظراتي وقلت له:
, -القميص! ولم ستتشاجران عليه؟
, -الأحجار اللامعة التي وشّي بها القميص من أعلاه.
, -ما بها؟
, -من حجر نادر وثمين، تحبّه النساء لأنّ بريقه يتراقص ويتلوّن ويضوي.
, -حقًا!
, شعرت بالحرج، حتى في هذا العالم المجنون لن أشعر بتميّزي أبدًا! سحقًا للقميص وللأحجار! ليتني ما سألته٣ نقطة
, عاد الحارس لضحكه وقهقهته حتى كادت حنجرته تنشقّ، بينما كنت أفكّر، كيف استطاع "مُوراي" الحصول على تلك الأحجار الثمينة التي لم أنتبه للونها ولا لشكلها رغم أنني كنت أرتدي قميصًا مرصعًا بها!، سرنا في ممر طويل ووصلنا أخيرًا إلى غرفة واسعة حيث كانت الأميرة "جلاديولس" تنتظرني على رأس مائدة عامرة بما لذّ وطاب من الأطعمة الشهيّة، كان هناك بالإضافة إلى وزيرها العديد من الرجال الوجهاء والنساء المتبرّجات، هذا المشهد يشبه الأفلام القديمة، الشموع الطويلة موزعة هنا وهناك، أضواؤها تتراقص وتلقي بخيالات الحضور على الجدران، جلست بجوار الوزير بعيدًا عن "جلاديولس" التي كانت كالديدبان اليقظ تراقب كلّ شيء بعينين يقظتين، كانت تلوك الطعام في شيء من التوحّش والعصبية بينما يثرثر الجميع، لا أدري لماذا فقدت شهيتي عندما تذكّرت "عُبيدة"، ملت برأسي على الوزير وهمست أسأله عنه فهزّ رأسه بثقة وأخبرني أنّه سيخرجه ليبيت معي الليلة. وقفت "جلاديولس" فجأة فتوقف الجميع عن الثرثرة، خرجت من القاعة فأسرع الوزير يجذبني وتبعناها لغرفة أخرى، التفتت نحوي وقالت:
, -ربّما بدأنا لقاءنا بطريقة خاطئة، فلنبدأ من جديد، ما رأيك؟
, -ليكن هذا.
, -أنت هنا لأنني أريد مساعدتك.
, -وكيف سأساعدك؟
, رفعت يديها وصفّقت فهرول أحد خدامها وبين يديه كومة من الأوراق ومحبرة وريشة، وضعهم على الطاولة وانصرف بخنوع، قالت بنبرة تجمع بين اللباقة والغطرسة:
, -اكتب.
, -ماذا سأكتب؟
, -ذاك الكتاب٣ نقطةكتابك الخاصّ بك.
, -وما هو كتابي الخاصّ بي؟
, -"أيجيدور".
, -مرّة أخرى٢ علامة التعجب٣ نقطةتسأليني عن شيء لا أعرفه!
, تغيّرت نبرة صوتها بشكل ملحوظ وقالت:
, -اطلب أي شيء وسأعطيك إياه، قصور، نساء، ذهب، مال٣ نقطةوأعطني كتابك.
, -قلت لك إنني لا أملك ما تطلبينه.
, تنحنح الوزير وقال وهو يرفع ويخفض من نظراته:
, -ماذا كنت تكتب قبل أن يحضرك "المجاهيم" إلى هنا؟
, -رواية.
, -ما اسمها؟
, -"دروب أوبال".
, -وما معناها؟
, -لا تسأل مؤلفًا عن معنى عنوان روايته٢ نقطةلن يخبرك أبدًا!
, -لماذا؟
, -لا بدّ أن تقرأها لتعرف بنفسك؟
, بدأ الوريد في جبهته ينبض، يبدو أنه سيتخلى عن بروده، قال مشيرًا تجاه الأوراق:
, -هذه أوراق وتلك محبرة، اكتب وحسب٢ نقطةاكتب تلك الرواية.
, -لكنني لم أنهها.
, -فلتنهها إذًا٢ نقطةاكتب ما فات، وفكّر فيما سيكون، انقش ما يخطر ببالك، فقط اكتب٢ نقطةأكمل تلك الرواية ولك ما تريده.
, -لا أستطيع.
, هدرت "جلاديولس" في صبرٍ نافدٍ:
, -هذا أمر٣ نقطةاكتب الآن وإلّا٤ نقطة
, حطّ على قلبي حزن عميق، فقد تذكّرت تلك اللحظات التي أشعر فيها بنضوب فكري، بالعجز، بالجفاف، عندما لا أنجح في كتابة نهاية لما أكتبه، قلت بمرارة:
, "الكتابة ليست بالأمر، ليست بالإجبار، وليست بالقهر ولا بالطلب، الكتابة هبة من ****، هو وحده يمنحها لي وبيده أن يسلبها مني في غمضة عين، هي كالغيث أحيانًا أطلبه بإلحاح وعندما يسقط لا أملك أن أوقفه، وكنسمات الهواء أحيانًا تهبّ بلا وقت وبلا سبب، وكالرؤى التي تأتي قبل الفجر رائعة، شفافة، مذهلة، أكتبها ولا أدري كيف كتبتها!، وأحيانًا أنتزعها انتزاعًا وكأنني أنازع٢ نقطةوكأن روحي تصعّد في السماء، وكثيرًا ما أكتب بروح ***ٍ صغير بريء، أكتب ما يروق لي بالطريقة التي تروق لي وببساطة شديدة".
, أنهيت كلماتي تلك ووقفت أمامهما كالصنم، كانا لحوحين وكنت ثابتًا كالطود، كلاهما يطلب مني أن أكتب وأنا لا أدري لم يصرّان على انتزاع الكتابة منّي بتلك الطريقة، استشاطت "جلاديولس" غضبًا وخرجت من المكان وتبعها وزيرها بينما بقي الحراس معي، عدت لجناحي ولم يتركوني للحظة واحدة، دلفت إلى الجناح وارتديت معطفي وجلست أنتظر٢ نقطة ولم أنتظر طويلًا فقد اقتحم الحراس جناحي وجروني مرّة أخرى، عاد الجميع لغلظتهم معي، وصلنا إلى قاعة واسعة سقفها كالقبّة وأرضها من الرخام الأسود، في سلسلة غليظة من الحديد تتدلى من مركز القبة علقوني من يديّ، وصرت أتدلّى بجسدي فتألّمت بشدّة، بعد قليل دلفت "جلاديولس" تتبختر في ثيابها وشعرها الفحمي تتواثب خصلاته على كتفيها، وقفت أمامي للحظات وتمعّنت في ملامحي، ثم أمرتهم جميعًا بالخروج! وبقيت وحدي معها، بدأت تتمتم بتعاويذ غريبة، صوتها الناعم أصبح غليظًا! شعرت أن ملامحها قد تغيّرت، لم تعد جميلة٢ نقطةبل٢ نقطةمخيفة٢ نقطةنيران الشعل المبعثرة في القاعة ازدادت توهّجًا ونثرت بعض الشرارات وأحدثت فرقعة أفزعتني، انتفضت "جلاديولس" وحرّكت رأسها بتشنّج وشهقت ثُمّ رفعت يديها ثم أخفضتهما بحركة عنيفة ووجدتني أتوسط حلقة من المجاهيم، كانوا جميعًا متشابهين، نفس الحجم، نفس الطول، نفس الثياب، لا ملامح ولا وجوه تطالعها، يعقدون أذرعتهم على صدورهم ويغطون رءوسهم بقلنسوات سوداء. تسارعت دقّات قلبي ونسيت ألم ذراعيّ المعلقتين، غمر العرق جبيني وسال على جفنيّ وشعرت بحرارة شديدة، توقّفت "جلاديولس" عن ترديد عزائمها بعد أن قامت باستدعاء أعوانها من المجاهيم وقالت بعد أن استردت صوتها الطبيعي:
, -لا أدري كيف استطعت أن تكتب كلّ هذا رغم أنّك ضعيف؟
, -إذًا تدركين الحقيقة.
, -أيّ حقيقة؟
, -أننا نعيش في رواية، وأنت وكل من بهذه القلعة وكل هؤلاء المجاهيم شخوص من وحي أفكاري٣ نقطةخيال٣ نقطةأنتِ الأضعف يا عزيزتي!
, أغضبتها كلماتي فأشارت برأسها لأحد المجاهيم، فاجأني بسوط ظهر فجأة في يده، جذب معطفي بعنف وكشف صدري، وجلدني بالسوط عدّة مرّات فصرختُ حتى شعرت أن حنجرتي تحترق فأشارت إليه مرّة أخرى ليتوقف وقالت:
, -هل أوجعك السوط؟ أرأيت؟ هل يحرقك جلد صدرك الآن؟ الخيال لا يوجع أيها البائس، الخيال لن يقيد معصميك، الخيال لن يأسرك، لستُ وهمًا٤ نقطة
, ثُمّ رفعت صوتها وصاحت بخيلاء:
, - أنا "جلاديولس" أميرة قلعة الدَّيجور وما حولها.
, تردد صوتها في القاعة وعلا صداه، كان جلدي يحرقني بشدّة، قلت من بين آهاتي:
, -لماذا تجلدونني٢ علامة التعجب لماذا؟
, -لأنّك السبب٢ نقطةأنت رفعت نداءها فتردد في أجواء المملكة.
, -أيّ نداء؟
, -استغاثتها٢ نقطة"أيجيدور".
, -أليست تلك الكلمة نوبية! كيف ستستغيث بها أختك ولستما من النوبة!، لعلّها استغاثة شخص آخر.
, -المنبوذة تعلّمت النوبية.
, -أتقصدين "هيدرانجيا"؟
, هرولت نحوي وصفعتني وقالت:
, -أتجرؤ على النطق باسمها أمامي وتحت سقف قلعتي؟
, -ماذا تريدين مني؟
, -كتاب "أيجيدور".
, -ليس معي.
, تقدّم أحد المجاهيم وسار نحوي وقال بصوت عميق:
, -لكلّ كتاب محارب، وكتاب "أيجيدور" قام باستدعاء محاربة لتقوم باسترداد كلماته ولتسلّمه للمكتبة العظمى هنا.
, -أنت تعلم إذًا أنّها محاربة٣ نقطةفلم تطلبونه منّي!
, -لأنّ للكتاب صورة أخرى حديثة في عالمكم، أنت المسئول عنها.
, -لم أكتب شيئًا عن "أيجيدور" من قبل! صدقوني٢ نقطة
, -بل كتبت.
, -وكيف تعرف أنت أيها المسخ عن شيء كتبته أنا، بينما أنا نفسي لا أذكره ولا أعرفه!
, توقعت أن يجلدني عندما وصفته بالمسخ، لكن يبدو أن الكلمة لم تستفزّه، فهو مسخٌ بالفعل، عاد يتحدث بصوته القميء قائلًا:
, -الكتب لا تتحرّك في عالمكم إلا عندما يكتب كاتب بارعٌ٣ نقطةوكنت أنت السبب في استفزاز كتاب "أيجيدور" هنا ليطلب محاربة.
,
, كاتبٌ بارعٌ!
, كانت تلك المرّة الأولى التي يصفني أحد بها٣ نقطةشعرت بكتفي يحترق، فذراعيّ تؤلمني بشدة، حتى أنني سمعت مفاصلي تفرقع، كدت أصرخ لكنني جززت على أسناني محاولًا إخفاء ضعفي وزفرت بحنق شديد وقلت ساخرًا وقد أعماني الغضب:
, -الرقم المطلوب غير موجود بالخدمة، لقد أخطأت يا صديقي، يبدو أنّك خطفت الشخص غير المناسب، ليس لديّ رواية بعنوان "أيجيدور"، عد لكُرتك البلورية وبَحلِق فيها، أو لأبخرتك الملونة وردد تعاويذك، أو أي شيء تستخدمه لتتجسس على البشر وابحث عن مرادك، أمّا أنا فاتركني فلن أفيدك في شيء، أو اقتلني الآن فليس لديّ ما يدعوني لأتمسّك بحياتي البائسة٣ نقطةاقتلني.
, أنهيت كلماتي تلك ولا أدري كيف نطقت بها، اقترب هذا المسخ مني فجأة، وأمسك رأسي بيديه الباردتين كقطعتي جليد، شعرت وكأنّه يقتحم رأسي، شيء ما كان يزحف خارجًا من خلف مقلتيّ، كدت أفقد الوعي٣ نقطةتركني فجأة وابتعد بعصبية وعاد لمكانه بين رفاقه وقال موجهًا كلامه لـ "جلاديولس":
, -ما زلت لا أستطيع قراءة أفكاره٢ نقطةلكنني على يقين أنّه الكاتب المقصود، الرمز الذي ظهر للمحاربة يبرق في عينيه.
, سألته "جلاديولس":
, -أيّ رمز؟
, أشار على عينيّ فشعرت وكأنّ سيفًا من نار يخترقهما، واجتاحت جسدي القشعريرة، ثُمّ نفض يده في الهواء فرسم الرمز مجسّمًا أمامنا، كان الرمز يشبه حرف الكاي باللغة الإنجليزية يعلوه خط أفقي، قال فور أن ظهر الرمز بكامله:
, -"كيمسو"
, ــــــــــــــــ
, K
, سألته "جلاديولس":
, -وما معناه؟
, -الرقم أربعة باللغة النوبية
, -ولم أربعة بالذات؟
, -يبدو أنّ المحاربة هي الرابعة من عائلتها التي يختارها كتاب.
, قاطعتهما قائلًا:
, -نعم هي الرابعة، فجدّها هو "أبادول".
, -انتفض المجاهيم فجأة، ووضعوا أيديهم على صدورهم وأحنوا رؤوسهم وأظهروا خشوعًا ينم عن احترام شديد لصاحب اللقب!، ارتبكت "جلاديولس" وسألتهم:
, -ما بكم؟
, قال أحدهم:
, -"أبادول" رجل عظيم، من أوائل المحاربين، وله فضل علينا٢ نقطة
, ثُم أردف بتصميم شديد:
, -سنتوقف الآن.
, صاحت "جلاديولس":
, -ماذا تعني؟
, -لا بدّ أن نعود لزعيمنا ونخبره عن أمر حفيدة "أبادول" وكتابها.
, -ولكن!٣ نقطةألم تخبروني أنّكم ستساعدوني؟ أين الوعد٢ علامة التعجب تعلمون أن الأمور هنا أصبحت على المحك، والمملكة كلّها تتعرّض لخطر داهم٣ نقطةالأمل الوحيد في كتاب "أيجيدور"، لو تم استرداده سيعود كلّ شيء.
, -هذا قانون عشيرتنا، هذا قسم المجاهيم.
, -ولكن٣ نقطة
, لم يترك لها المجاهيم الفرصة لتكمل جملتها، اختفوا في لمحة عين، بدا الغضب على وجهها الشاحب، رشقتني بنظرة متوعّدة، وخرجت تدّق الأرض بخطوات سريعة، دلف بعدها الحراس وحلّوا قيودي وأعادوني لزنزانتي وصديقي "عُبيدة"، أمضيت ليلة عصيبة، كانت جراح صدري تحرقني بشدّة، أمّا مفاصل ذراعيّ فقد كانت توجعني وكأنّ أحدهم ينشرها بالمناشير، أوشكت قدرتي على التحمل أن تتبخّر، أطلقت آهات عديدة قبل أن تسيل دموعي في صمت، لاحظها "عُبيدة" فقال يواسيني:
, -اثبت يا صديقي.
, -الجراح تؤلمني يا "عُبيدة".
, -سيذبل الجرح، فقط تحلّ بالصبر وتنفّس، أنت تتألّم، إذًا فأنت حيّ على الأقل٢ نقطةفالحمد لله.
, -أهكذا تراها؟
, -نعم يا "يُوسف"، ألم الجسد حياة صدّقني، وهو أهون من الألم الذي لا يُحكى
, -ماذا تقصد
, -ألم النفس، فألم النفس والذكريات ملتصقان، لن تستطيع أن تنهي آلام نفسك إلّا إذا سحقت ذكرياتك، وهذا لا يحدث أبدًا
, أشفقتُ عليه، كنت أعلم كيف يؤنب نفسه على ما حدث لأهله وعشيرته بسبب حبه لتلك الفتاة التي جلبت عليهم الشؤم وتسببت في فنائهم، قلت محاولًا جذب انتباهه بعد أن لاحظت شروده:
, -أتدري، ربّما أنت على حقّ يا "عُبيدة"، هذا الألم هو الشيء الوحيد الذي يبقيني على يقين بأنّ ما يحدث لي حقيقي، هذا ليس حلمًا أبدًا، لا أدري كيف سأحلّ مشكلتي تلك٢ نقطة"جلاديولس" لن تتركني أبدًا.
, -أيّ مشكلة؟
, -في الحقيقة، هناك ما أودّ أن أخبرك به، قد تراه ضربًا من الجنون.
, -وأيّ شيء أكثر جنونًا من خيول تتحدث بلغة البشر! هل ستخبرني بما هو أغرب من قصّتي معهم؟
, ابتسمت قائلًا له:
, -ربّما٣ نقطةاسمع مني يا صديقي
, وبدأت أحكي له قصّتي وكيف أنني كتبت عنه، وأنّه بطل من أبطال رواياتي، وكيف أنني نُقلت إلى هنا رغم أنفي ودون إرادة منّي، وكيف التقيت بـ"حبيبة"، وأخبرته ما حكته لي عن المحاربين، والكتب، ومملكة البلاغة، كان ينصت إليّ باندهاش شديد، ويراقب دمائي الحمراء التي تسيل من جرح صدري باندهاش أكبر على أضواء الشعلات حولنا، قطع حوارنا صوت باب يُفتح، دلفت "جلنار" وفي يدها كيس من الجلد، فتحه الحارس ومدّ يده داخله وتفحّص ما فيه، بدا لي أنّ الكيس فيه ذهب! شيء يبرق تحت ضوء الشعلة التي كانت فوق رأسيهما، همهم وتحدّث معها قليلًا ثُمّ أسرعا تجاهنا وقالت "جلنار":
, -هيّا اخرج معي بسرعة
, -ماذا!٣ نقطةكيف؟
, -سنهرب من هنا
, -لن أخرج بدون "عُبيدة"
, -وهل تظنّ أنني سأتركه لهم، هيّا اتبعاني بسرعة
, خرجنا خلفها من الزنزانة وتسللنا تحت ستر الظلام، كما توقّعت، كان "مُوراي" ينتظرنا ومعه "أبهر"، ساعدنا "مُوراي" لنتسلّق السور، قفز "عُبيدة" ثُمّ أنا، أما "جلنار" و "آسر" فخرجا من إحدى البوابات ومعهما "أبهر" بعد رشوة أخرى لأحد الحرّاس، كان يظنّ أنهما سيسرقان الفرس هي و "آسر" لا أكثر، في الخارج وجدنا شابا ملثّما ينتظرنا، كان يمتطي جوادًا ويمسك بزمام آخر، اقتربنا منه مع "مُوراي" الذي قال موجهًا كلامه له:
, -هيّا بنا يا مولاي، لنسرع قبل أن يكتشف الحرّاس ما حدث
, قُلت متعجبًا:
, -مولاي!٣ نقطةمن هذا؟
, كشف الشاب عن وجهه، إنّه "كِرشاب"٢ علامة التعجب، ابتلعتُ دهشتي وصعدتُ خلف "عُبيدة" على "أبهر" الذي كان فرسًا من ثلاثة كانوا في انتظارنا، و"جلنار" وزوجها "آسر" ركبا على آخرَ كستنائي اللون له هيبة، أمّا كِرشاب وخلفه "موراي" فقد ركبا جوادًا أسود كالليل البهيم، تُخيفك عيناه لو أطلت فيهما النظر، تسارعت دقّات قلبي٢ نقطةأعرف تلك الخيول! هذه خيول "عُبيدة"، الأسود هو"البَرق"، والكستنائي هو "حيزوم". انطلقت الخيول الثلاثة بنا تجاه البستان، وفور أن خرجت الخيول من نطاق قلعة الدَّيجور وما حولها أضاءت السماء، وغمر النور الوجوه، صهل "أبهر"، كان مبتهجًا، لقد تعرّف على "حَيزوم" الذي كان يحمل "جلنار" وزوجها، أسرع ليحازيه وركض بالقرب منه، لكن "حَيزوم" حيّاه بفتورٍ ثُمّ أسرع وتخطاه ولم يلتفت إليه، شعر "أبهر" أنّ زعيمه "حَيزوم" قد تغيّر، ظنّ أنّه سيسعد بلقائه، لكن يبدو أنّ هناك شيئًا ما يحزنه! كان "حَيزوم" غاضبًا للغاية٢ نقطةساخطًا بشدّة، وكأنّ همًّا كبيرًا يقبع على صدره!
, ٦ العلامة النجمية
, عندما وصل الجميع إلى البستان، كانت "الشقراء" في انتظار "أبهر"، استقبلته بفرح جارف، أسرعا وهرولا تجاه "الجُمانة" يبشرانها بعودة زوجها "حَيزوم" للبستان، كان لقاؤهما رائعًا، وكانت جلجلتهما مبهجة، بكت "الجمانة" مرّة أخرى فأقبل زوجها يهمس إليها معتذرًا، لحظات يزداد فيها نبض القلب الذي لطالما كان يردد اسم الحبيب، لقاءٌ نسيمهُ الشوق وعبيره الإخلاص، كان كلاهما يتمعّن في وجه الآخر ليملأ براويز قلبه بصور محبوبه، من بين دموعها شهقت لتبرّد بأنفاسها لهيب الشوق، بعد همس زوجها لها صمتا معًا لتَبوح عيناها بحديث العتاب واللوم، ذاك الحديث الذي يعجز عنه اللسان والبيان، ذابت بعض أوجاعها بدموعها الحارّة، استعادت أخيرًا ذاتها التي تلاشت مع رحيله عنها، وأتى الربيع قبل أوانه فأزهرت عيناها، وارتوى القلب بالقلب، وسكنت إليه.
, لاحت على وجه "يُوسف" ابتسامة خفيفة، نبهته آلام جراح صدره فعاد وجهه يتقلّص، التفت نحو "كِرشاب" الذي كان مشغولًا بحديثه مع "مُوراي" و "جلنار" و "آسر"٣ نقطة
, أقبلوا على "يُوسف" حيث كان يجلس ، قال "كِرشاب":
, -أعلمُ أنّك لن تُصدّق ما سأخبرك به عن قلعة الدَّيجور ومن فيها
, استجمع "يُوسف" حواسّه للإصغاء وقال:
, -جرّبني!
, -أحتاج لمساعدتك، أنت فقط من يستطيع إخبارنا عن مكانها، فجميع من بالقلعة واقع تحت تأثير تعويذة ألقتها ساحرات أوبالس عليهم أنستهم الحقيقة
, -أيّ حقيقة؟
, تبادلوا النظرات قبل أن يواصل "كِرشاب" قائلًا لـ "يُوسف":
, -أين "هيدرانجيا"٤ نقطةأين زوجتي؟
, تخشّب لسان "يُوسف"، أذهله ما سمعه للتوّ، "كِرشاب" زوج "هيدرانجيا"!٢ نقطةكيف٢ علامة التعجب
, جلس واجمًا وكأنّه فقد النطق، كان مرهق الفكر والبدن، معطفه المفتوح وصدره الممتلئ بالجروح بعد الجَلد على يد المجاهيم، والدماء التي بدأت تجفّ على حوافّ جراح صدره، وعيناه الكابيتان*، وشعره المنفوش، ونظراته التائهة كلّ هذا أجبرهم على تأجيل الحديث معه حتى يرتاح، أسنده "مُوراي" و"عُبيدة" وسار معهما وهو يتألّم واقترب الجميع من بيت السيّد"بركات"، حيث هرولت تجاههم "مِسكة " تخدمهم وتعدّ لهم الطعام، وانشغل "مُوراي" بتضميد جراح "يُوسف"، بعد أن انتهى تركه جالسًا تحت ظلّ شجرة البلّوط العريضة التي تتوسّط البستان، استند على جذعها وتوضّأ من قربة الماء الذي حملها له "مُوراي"، فور أنّ مسّ ماء الوضوء بدأت البراكين المشتعلة برأسه تخفت حرارتها، ووقف يصلّي بجسده المكدود، كان في حاجة لتلك السجدة التي تحتويه فتُلملم شتات فكره وتعيد إليه صوابه، أنهى صلاته وتمدد وقد أحاطته السَكينة، فأقبلت "حبيبة" تحييه، كانت قلقة، وودّت أن تسمع منه كلمة تسكن هواجسها٣ نقطة
, هامش: عينان كابيتان أي محتقنتان والمقصود احمرار العينين ، ويُقال نار كابية أي غطاها الرماد والجمر مشتعلٌ تحتها، ويُقال على الرجل كابيّ الرماد بمعنى أنّه كريمٌ لا تنطفئ نار الموقد في داره فكثر رمادها وتراكم فوق الجمر المشتعل
, كان مستلقيًا وعندما رآها تقترب اعتدل بصعوبة ليستقبلها، بدا عليه الإعياء الشديد، أمسك رأسه بين يديه بيأسٍ وقال:
, -لقد تعبت٣ نقطةليتني ما كتبت تلك الروايات المبتورة، أنا السبب.
, قالت تواسيه وقد بدأت تتعاطف معه:
, -لا تندم أبدًا على ما كتبته بيديك، اعتزّ ببنات أفكارك.
, صدرت منه ضحكة ممزّقة حزينة وقال:
, -بنات أفكاري! ترى٣ نقطةهل هن هنا أيضًا؟ هل أستطيع أن أقابلهن؟
, خلعت "حبيبة" القلادة التي كانت ترتديها وأعطتها لـ"يُوسف" وقالت:
, -خذ القلادة، أخبرني جدّي أن "المجاهيم" لن يضرّوني لو رأوها على صدري، فهي تعني لعشيرتهم الكثير، لو ارتديتها وأظهرتها لن يؤذوك ولن يتمكن أي أحد منهم من لمسك أو اختطافك مرّة أخرى.
, أمسكها "يُوسف" وأخذ يتأمّل النقوش عليها وأعادها إليها قائلًا:
, -لا بد أن تظلّ معكِ، ستتعرضين للخطر.
, -لا أظنني سألتقي بالمجاهيم طالما لن أدخل الغابة، أنت مطلوب لديهم الآن.
, -وأنتِ أيضًا، إنّهم يبحثون عنكِ.
, - ولكن وجودك بيننا مهم جدًا فأنت أكثر من يعرف ما يخفيه كلّ واحد هنا عنّا، كما أنّ هناك شيئًا ما يحيّرني وأودّ أن أسألك عنه، أرجوك ضعها حول عنقك قبل أن تستعين "جلاديولس" بالمجاهيم مرّة أخرى وتخطفك، ولكن قبل أن ترتديها٢ نقطة
, -ماذا؟
, -هي ليست تميمة، التمائم لا تحمينا من شيء كما تعرف.
, -لماذا ترتدينها إذًا؟
, -هي مجرّد إشارة لهم، فهي تذكار تشريفي أهداه المجاهيم لجدّي، وأنا ألبسه فقط ليعرفوني.
, -حتمًا سيعلمون أنّه ليس جدّي.
, -حملك للقلادة يعني أنّك ذو مكانة في عائلتنا، لن يؤذوك تكريمًا لجدّي، فلتلبسها الليلة فقط على الأقل، وأنا لن أخرج من البستان.
, بعد إلحاحها ارتداها "يُوسف" وأظهرها من فوق معطفه، ثُمّ التفت تجاه "حبيبة" وسألها:
, -أخبريني الآن، ما الشيء الذي يحيّرك؟
, -ليس الآن يا "يُوسف"، لا بدّ أن ترتاح.
, انتهى حوارهما القصير وابتعدت بينما كان هناك حوار آخر يدور بين "عُبيدة" وفرسه العزيز "حَيزوم".
, ٤ العلامة النجمية
,
, أقبل "عُبيدة" على الفرس وناداه متلهّفًا:
, -"حَيزوم".
, لم يجبه الفرس، بقي ساكنًا كالصنّم، وعيناه جامدتان، اقترب "عُبيدة" ولمس معرفته وعنقه وكرر النداء:
, -"حَيزوم" كيف أنت يا صديقي؟ لماذا لا تحدّثني؟
, نظر في عيني جواده وقال بجدّية شديدة:
, -أعرف أنّك تسمعني وتفهمني وترفض الكلام، أفهمك أكثر من نفسك. لم أنت غاضب مني؟
, -لماذا تركتنا؟
, -سامحوني٣ نقطة
, أجابه "حيزوم" بالدموع، كان من الصعب على "عُبيدة" أن يرى جواده يبكي، اقترب منه، مسح رأسه وعنقه وداعب غرّته، قبله بين عينيه بحنان، ثُمّ همس في أذنه:
, -لقد شهدت ولادتك مُهرًا يا صديقي، ثُمّ داعبتك بعد شهور وأنت فلوًا، وسرت بجوارك فخورًا بعد عام وأنت حَوْلي٢ نقطة
, رقّ الفرس لصاحبه، وأحنى رأسه منصتًا لكلامه وهو يردف قائلًا:
, -كُنت أفهمك من صوتك قبل أن تتعلّم الكلام، الحمحمة التي كنت تصدرها،كنت أعلم عندها أنّك جائع وتطلب العلف، وذاك القبع الذي كنت تصدره من منخرك إلى حلقك كُنت تصدره عندما يحدث ما يضايقك، أما الصهيل فكنت تصدره عندما تنشط، وكنت أسعد بهذا وأعتلي صهوتك وننطلق معًا، دومًا كنت أنت الأوّل في أيّ سباق، كنت تجلّي عني ما بي من حزن وكرب بفوزك٣ نقطةكُنت المُجَلّي* يا "حَيزوم"٣ نقطة
, رفع "حيزوم" رأسه ووضعها على كتف فارسه ليحتضنه، كان عناقًا يعني الكثير، ثُمّ همس بنبرة يشوبها الحزن في أُذن "عُبيدة":
, -لديّ الكثير لأخبرك به، بعض خيولنا في خطر.
, دمعت عينا "عُبيدة" وهمس بصوت مرتعش:
, -لا تُخبر باقي الخيول أرجوك، لا تُخبرهم الآن يا صديقي حتى نفكر معًا في الأمر.
, كان "مُوراي" جالسًا على جذع شجرةٍ يراقبهما وينصت لحوارهما بتركيز شديد، أعجبه هذا الفارس، أعجبه "عُبيدة" واعتزازه بنفسه وهوّيته، قرر أن يكون يومًا ما مثله، سيبحث عن أبيه، وسيدافع عن هوّيته حتى آخر لحظة في حياته.
, هامش: "المجلّي" لقب يطلقه العرب على أوّل فرس يفوز بالسباق
,
,
, ٥ العلامة النجمية
,
, ودومًا يأتي الفجر بالجديد، يوم آخر، عُمر آخر، ضوء آخر، دروب تُفتح أمام البشر، وأقدار توزع هنا وهناك، وكلّ منا يلتقي بنفسه على الطريق مرّات ومرّات، يعرفها أحيانًا، وينكرها أحيانًا، ويهجرها أحيانًا٢ علامة التعجب٣ نقطةوعندما تضيق، وتظلم، ويختبئ النور ، قد نضلّ ربّما فنسقط في الحفر حتى يأخذ أحدهم بيدنا، فينقذنا، أو نستند لنقوم وحدنا مرّة أخرى فننفض الغبار عن أقدامنا ونتكئ على أرواحنا المتعبة، ونسير، ونتخبط، ونبتلع أوجاعنا، ونصبر، وننتظر الفجر مرّة أخرى، فالفجر لا يخلف الوعد أبدًا، ويعود من جديد.
, استيقظت "حبيبة" قبل "رفيف" وخرجت إلى البستان، كانت العجوز "مِسكة" تعدّ طعام الإفطار وأوقدت نارًا ووضعت فوقها القدر بعد أن ملأته بالماء، انضمت إليها "جلنار" التي أيقظها صوت العصافير وكانت مغرمة بها وبشقشقاتها، أعجبها البستان بشدّة، هكذا أخبرت "مِسكة" بينما كانت تعاونها. جلست "حبيبة" وحيدة تحت شجرة ياسمين قريبة من بيت "بركات"، أخذت تسترجع ما مرّت به وما حكاه لها "يُوسف"، وكيف أن "جلاديولس" أرادته أن يكتب! يكتب هنا على أرض المملكة! يكتب الآن!
, استيقظ "عُبيدة" وحيّاها من بعيد بهزّة رأس وانضم إلى خيوله، كانت تراقب فرحتهم به، وكيف يلتفّون حوله ويتحدّثون معه وكأنّه واحدٌ منهم!، بدأت الخيول تسترد ذاكرتها شيئًا فشيئًا٣ نقطة
, بعد قليل استيقظ "مُوراي"، وتبعه الغلمان واحدًا تلو الآخر، كانوا يتبعونه كظلّه، كان "كِرشاب" قد عاد لقصره الليلة الماضية، حمله "البرق" الذي صار لا يفارقه أبدًا، كان "كِرشاب" قد أخبرهم أنّه سيعود في وقت لاحق ليبدأوا رحلة البحث عن زوجته "هيدرانجيا"، خرج "يُوسف" من كوخ "مواري"، ما زال مُتعبًا لكنّه كان يغالب ألم جراحه، سقته "جلنار" شرابًا يُسكن الألم، وداوت جراحه بدهان خفف عنه الكثير،كان شعر رأسه منتفشًا وفي حالة بائسة، فقرر"مُوراي" أن يحلقه له!، أسرع يجلب أدوات الحلاقة، قهقه "عُبيدة" واقترب يعاونه وجلس "آسر" عاقدًا يديه فوق كرشه المترجرج ليصدر إرشاداته لهما، بينما سلمهم "يُوسف" رأسه وجلس وعلى وجهه سكنت ابتسامة ساخرة، والغلمان يضحكون من حولهم، حتى الخيول كانت في حالة من البهجة، سقطت خصلات شعر "يُوسف" على أرض البستان بينما كان رأسه مزدحمًا بالأفكار، كان يحاول ملء الفراغات، يربط بين القصص، يبحث عن نقطة ضوء يستدلون بها على أوّل خيط يدلهم على الحقيقة، على مكان "هيدرانجيا"، كانوا يحدثونه لكنّه لم يصغ لحرف مما نطقوا به، لم يردّ عليهم، لم يعترض على شيء، لم يتحرّك قيد أنملة، بعد دقائق كانت رأسه تبرق تحت ضوء الشمس، لقد أخطأ "مُوراي" عدّة مرّات أثناء الحلاقة وقرر في النهاية بعد الاتفاق مع "عُبيدة" أن الأفضل هو حلق رأسه تمامًا، قال "مُوراي" وهو ينفض كفيه:
, -انتهينا يا صديقي
, -ماذا؟
, تأمّل "يُوسف" خصلات شعره المبعثرة على الأرض حوله، رفع يده ليتحسس رأسه وفوجئ بخلوها من الشعر تماما!، اتسعت عيناه وكاد يصيح بهما لولا تلك الابتسامات التي كانت تطلّ من كل الثغور حوله، ضحك"عُبيدة" حتى دمعت عيناه، قالت "مسكة":
, -تبدو أكثر وسامة هكذا يا بنيّ
, وافقتها "جلنار"، وهزّ "آسر" رأسه وهو يتأمّل ملامحه، لا بأس أن يَسعدَ الجميعُ حتى لو ضحّى الكاتبُ بشعر رأسه، لقد بدأ يأنس إلى شخوص رواياته وكأنّهم عائلته، وكان يفتقد هذا الشعور، أن يكون حولك من يُحبّك ويعتني بك، أو يمزح معك فيضحكك أو يضحك عليك! وداعًا لشعر رأسه الناعم، ذاك الشيء الوحيد الذي كان يمتدحه رفاقه عليه في الجامعة، هكذا حدّثته نفسه فهدأ، لكنه تذكّر "حبيبة"! ترى هل ستعجبها صلعته؟، رفع يده مرّة أخرى ووضعها على رأسه وتلفّت باحثًا عن وجهها، فاجأه "مُوراي" وسحب رأسه للأمام، صَبوا على رأسه الماء البارد فجأة فصرخ من شدّة برودته، ما زال الحزاورة يضحكون، أجبرته أصواتهم على الابتسام، هؤلاء الصغار رائعون ، وهو يرق لهم، كانت "حبيبة" تراقبهم على استحياء، مرّت لحظات تبادل الجميع فيها القليل من الكلمات ثُم انصرف كلّ منهم لشأنه، سينتظرون عودة "كِرشاب"، لا بدّ أنّه على وصول. اقترب "يُوسف" من "حبيبة" وبعد أن حيّاها وسألته عن جراحه وكيف هو الآن سألها باهتمام:
, -آنسة "حبيبة"، ما الشيء الذي يحيّرك ووددتِ أن تسأليني عنه أمس؟
, تنبّهت "حبيبة"، فقد ودّت أكثر من مرّة أن تسأله هذا السؤال، رفعت حاجبيها وقالت:
, -"دروب أوبال"!
, -ما بها؟
, -عندما كنت تكتب تلك الرواية، هل كنت تقصد حجر أُوبال؟
, ابتسم "يُوسف"، فهي أيضًا تدرس في كليّة العلوم، أجابها وهو يفرك جبهته:
, -نعم أقصده، أحبّ هذا الحجر البديع، كثيرًا ما ألهمني، وله ذكريات قديمة معي، فقد كان لديّ حجر أهداه لي أبي وأنا في السابعة من عمري، وكان يشبه حجر أُوبال، هكذا أخبرني أبي، ظننته حجر أُوبال حقيقي، وعندما كبرت أدركت أنّه ليس سوى حجر بسيط لا قيمة له
, ثُم سألها:
, -ماذا تعرفين عنه؟
, قالت بعد أن ضيّقت عينيها وزمّت شفتيها:
, -حجر كريم نصف شفاف، له لمعان متلألئ، وهو نوع من السيليكا غير المتبلورة، سيليكا مائي
, ابتسم قائلًا:
, -وكأنّك تجيبين سؤالًا في اختبار شفهي، يبدو أنك تعشقين الجيولوجيا
, -بالتأكيد
, -هل رأيتِ حجر "أوبال" من قبل؟
, -رأيته مرّة، كان رائعًا وشفافًا٢ نقطةوخلّابًا للغاية، ولكن أُخبِرت بأنّ له ألوانًا متعددة
, -في الحقيقة يا آنسة "حبيبة" هو يختلف في لونه من الشفاف إلى الأبيض الحليبي، ويغوص فيه عدد لا حصر له من الألوان الأخرى، أصفر، أخضر، أحمر، أزرق، بني، وأسود أيضًا، ذاك الحجر يُظهر كل ألوان الضوء المختلفة
, -أعرف ولكن إلى أيّ شيء ترمز به في روايتك؟
, -الرواية كانت عن حجر أوبال نادر وغريب، عثرت عليه فتاة تسمى "مَيسان"* في كهف بأحد الجبال في صندوق عجيب عليه نقوش غريبة مع رسالة تحتوي على بعض التعاويذ، فتحت "مَيسان" الصندوق فتصاعدت منه سحب دخّانية زرقاء، أمسكت الرسالة وقرأتها بصوت مسموع وعندما سقط ضوء الشمس الذي تسرّب من شقٍ في ركن الكهف على الحجر فُتحت دروبٌ غريبة، كلّ درب منهم بلون مختلف، وبوابة عجيبة تفتح على عالم غريب، اقتحمت "مَيسان" تلك الدروب واحدًا تلو الآخر، التقت بالعديد من الشخوص هناك، تعرّضت للموت، للسحر!، واكتسبت قُدرات ومميزات، وأنقذت بعضهم من الخطر، و٤ نقطة
, هامش: مَيسان تعني النجم اللامع
, قالت "حبيبة" بخفوت:
, -لا تخبرني أنّك توقفت هنا!
, -في الحقيقة٣ نقطةنعم، لم أكملها
, صمتت "حبيبة"، لم تخبره أنّه مهمل، ولم تلمه كالمرّات السابقة عندما أخبرها عن رواياته الأخرى، رمته بنظرة سريعة أربكتها للغاية، وكأنّها تراه لأوّل مرّة! بدت عيناه أكثر اتساعًا وحاجباه أكثر وضوحًا بعد حلق شعر رأسه، وذقنه بدت أكثر كثافة من ذي قبل! تشعر الآن أنّه٢ نقطةيعجبها!، لكنها تراه شخصًا هشًا، وضعيفًا أيضًا، و مجنونًا!
, أشاحت بنظراتها بعيدًا عن وجهه والتفتت سائرة بخطواتٍ عسكريةٍ نحو "مِسكة" و"جلنار" فلاحقها وناداها ليستوقفها وقال:
, -آنسة "حبيبة"، وددت أن٣ نقطةأن أفكر معك بصوت عالٍ، فأنا في حاجة لصوت آخر يدعمني، صوت من عالمنا، فهل تنصتين إليّ رجاءً؟
, التفتت تجاهه بآلية، كانت تحاول إخفاء ارتباكها، قالت باقتضاب:
, -تفضّل
, تنفّس بعمق ووضع يديه في جيبي معطفه وقال:
, -يبدو أن الروايات هنا على أرضيةٍ مشتركة، وخطوطها تقاطعت بالفعل، الأبطال يزحفون تجاه بعضهم البعض!
, -ماذا تعني؟
, -أعني٤ نقطةوكأنّها رواية واحدة!
, -ثُمّ ماذا؟
, -عندما تركت النهايات مفتوحة، ولم أتم كتابتها، يبدو أنّ شخوص الروايات أكملوا طريقهم وحدهم، "مُوراي" كبر وهرب من العصابة التي سرقته وبدأ يبحث عن أبيه، وخلال رحلة بحثه يهتم بالحزاورة، خيول "الكحيلان" تفرّقت بعد أن وقع فارسها في أسر حرّاس قلعة الدَّيجور، هملجوا هنا وهناك، اختاروا زعيمًا لهم من جلدتهم وهو"حيزوم"، وعاشوا حياة مستقلّة، ثُم حدث ما لم يكن في الحسبان، فُتحت دروب أُوبال أمامهم فرأتها الخيول ودلفوها تباعًا، وبعيدًا عنهم اختفت شخصية الأمير العاشق في قلعة الدَّيجور وحلّ محلّها "كِرشاب"، الأمير النوبي، ووقع في حبّ الأميرة "هيدرانجيا" وتزوجها٢ علامة التعجب
, -و "جلنار" و"آسر"؟ ما قصتهما؟
, -كانا من ملوك قلعة الدَّيجور٣ نقطةولكن!
, غضن جبينه وأكمل:
, -كُنت قد كتبت هامشًا على جانب الرواية، فقد خطر لي أن أجعلهما خادمين في القلعة ليساعدا "هيدرانجيا" على الهرب!
, -حسنًا٢ نقطةذاك يوضح بعض الأمور، ربّما عليك أن تتذكّر ما كتبته في الهوامش كلّها، أو حتى ما خطر ببالك وقررت تسجيله لاحقًا لكنّك سهوت ولم تكتبه
, -نعم٢ نقطةسأحاول
, -قُل سأفعل بعون الله٢ نقطةيقينك سيساعدك
, -سأفعل بعون ****
, لاح طيف ابتسامة على شفتيها قبل أن تسأله:
, -وماذا عن "بركات" و"رفيف"؟ ما قصّتهما؟
, تمشّت علامات القلق على وجهه وقال:
, -هذا ما يحيّرني!
, -كيف؟
, قال بنظرة حائرة:
, -لا أذكرهما!
, -حاول أرجوك أن تتذكّرهما
, قال وسحائب الهموم تظلل ملامحه:
, -لا أقصد أنّي نسيتهما٣ نقطةأنا لم أكتب عنهما أبدًا!
, -معقول!
, -وهذا ما يقلقني
, - و"مِسكة"؟
, -تلك عجوز طيبة القلب، قصتها تقليدية بسيطة مع زوجها الذي كانت تحبّه وعن صبرها عليه وإخلاصها له رغم جفافه وقسوته معها، في الحقيقة كانت أكثر جمالًا عندما كانت أصغر عمرًا، فملامحها الآن مختلفة تمامًا، طمست التجاعيد ملامحها التي وصفتها في رواياتي، صدقيني كانت مختلفة تمامًا! كانت جميلة، لكنّها الحياة!
, طالعتها "حبيبة" من بعيد، كانت تشعر أن تلك العجوز تملك نفسًا جميلة، فالجمال جمال النفس وليس الملامح، لا شكّ أن ضربات الحياة وقسوة الأيّام أذابت ملامحها وأوجعتها، قالت بلطف:
, -أعجبني اسمها، أحسنت اختياره
, -لم أختره
, -ماذا؟
, -عندما كتبت عنها لم أختر لها اسمًا، ولم أضع عنوانًا لروايتها٢ نقطةلكنه اسم جميل٢ نقطة"مِسكة"!
, قالت بعد أن نقلت عينيها لوجهه وقد لاحظت تألّمه من جراحه:
, -كيف حال جراحك؟
, -أفضل حالًا، ولكن يبدو أن الدواء الذي أعطتني إيّاه "جلنار" لا يكفي لإسكان الألم
, صمت هنيهة ثُم قال:
, -الآن فكري معي، ما علاقة كتاب "أيجيدور" بـرواية "دروب أُوبال"؟٣ نقطةالأولى كلمة نوبية تعني انقذيني، أما روايتي فترمز لدروب مختلفة، وعوالم غريبة تظهر في كلّ درب من تلك الدروب.
, -لعلّ هناك سرًّا آخر سنكتشفه
, -المهم الآن، لا بدّ أن نحذر ممن لا نعرفهم
, -تقصد من؟
, -"بركات" و"رفيف"، فقد أخبرتني العجوز "مِسكة" أنّ الفتاة مجنونة!
, -أخبرتني أيضًا بهذا الكلام، لكنني لا أظنّ "رفيف" مجنونة، فهي فتاة لطيفة جدًا، ربّما هي حزينة فقط لرحيل أمّها
, -ليتك لا تبيتين معهم بالبيت، الأفضل أن تنتقلي لكوخ "مِسكة"
, -سأحاول، لكنني ما زلت أرى "رفيف" فتاة لطيفة
, -حسنًا، واحذري من "ساحرات أوبالس"، يبدو أنهن اخترن لأنفسهن هذا الاسم، نسبة لحجر "أُوبال"، ويبدو أنّ هذا سبب تسمية الخيول لأنفسهم بهذا الاسم أيضًا
, ثُمّ عاد لشروده وقال:
, -ولكن٤ نقطةهناك حلقة مفقودة!
, -أين؟
, -أظنّ أنّ ساحرات أوبالس سيطرن على الخيول كما سيطرن على كل من يقيم في قلعة الدَّيجور بعد إلقاء تعويذة عليهم كما أخبرنا "كِرشاب" أمس، ولكن٤ نقطةلماذا لم يتأثّر "كِرشاب"، و"جلنار"، و"آسر" بتلك التعويذة!
, -لا تسألني أنا، فأنا لا أدري!٣ نقطةفتش في هوامش رواياتك، فتش في عقلك!
, -أعلم يا آنسة "حبيبة"، أنا فقط أفكر معك بصوتٍ مسموع، سامحيني
, وأشاح بنظراته عنها وعاد لشروده، بدأت تروق لها طريقته في الكلام معها باحترام شديد، "آنسة"٢ نقطةتشعر بهذا اللقب اللطيف قبل اسمها بأنّها أميرة، يبدو أن البقاء بقرب هذا اليُوسفي صار خطرًا جدًا، كما أنّها تشعر بالحرارة تغزو وجنتيها رغم برودة الجوّ، عادت تتأمّل المعطف البالي!، وجوربه الذي رتقته "مِسكة" وكان يمسكه بيديه وهو يحدّثها، ما زالت تراه هشًا وضعيفًا ومجنونًا
, قالت وهي تمرر عينيها سريعًا على كلّ من بالبستان:
, -يبدو أننا سنتعامل مع الجميع بحذرٍ حتى نتأكد من سلامة نواياهم
, -فليكن هذا، انتبهي لنفسك يا آنسة "حبيبة"
, قال كلماته الأخيرة واستأذن منها وسار حيث كان "عُبيدة" يتحدّث مع خيوله، أراد أن يسأل الخيول عن الدروب وما رأوه هناك عندما دلفوها. ظهر"بركات" فجأة، كان يمسك بعصاه ويراقبهم في صمت وهو يقف أمام باب بيته، هرولت "حبيبة" نحوه، سألته عن "رفيف"، أخبرها أنّها ما زالت نائمة، وأنّه سيذهب إلى قرية "الدحنون"، قالت متعجبّة:
, -الآن!
, -نعم، سأقضي بعض المصالح هناك
, -هل أستطيع أن أذهب معك يا سيد "بركات"؟
, قال "بركات" وقد أطلّ القلق من عينيه:
, -اليوم٣ نقطةلا٢ نقطةلا تأتي معي يا ابنتي، الأفضل أن تبقي هنا بالبستان
, استدار بعد أن حيّاها وخرج من البستان، غلبها فضولها فسارت خلفه خلسة، كانت تختبئ خلف الأشجار، تتنقل بسرعة، لديها فضول شديد، تريد أن تكشف أسرار هذا الكهل الذي يبدو مسالمًا ومطمئنًا للوهلة الأولى، بدأت الريبة تجاهه تتعملق، وبدأ الشكّ فيه يزيد، وكان لديها من الشجاعة ما يدفعها للسير خلفه دون أن يرفّ لها جفن، فسارت خلفه، ونسيت قلادتها مع "يُوسف". والذي كان في تلك اللحظة مقبلًا على "عبيدة" ويحيّيه بحبور، وكان الأخير يمشّط غُرّة "الجمانة" ويدندن بالأشعار، ابتسم "يوسف" وقال له:
, -تُحبّ دومًا أن تزيّنها، ستجدل شعر عرفها وتزين الجديلة بزهور صغيرة بيضاء، أليس كذلك؟
, طالعه "عُبيدة" بعينيه المشرقتين وابتسم قائلًا:
, -لا شكّ أنّك تعرف عنّا كلّ شيء أيّها الكاتب
, -وأعرف أيضًا أنّ رأس الحصان تاج محاسنه، وأوّل ما يلفت النظر فيه، ويستدلّ منه على أصالته
, هزّ "عُبيدة" رأسه معجبًا بكلامه وقال:
, -أتدري، ما زلت أتعجبّ مما يحدث هنا، ولدي فضول كبير لأعرف المزيد عن قصة المحاربين وما يفعلونه.
, -هناك الكثير من الألغاز هنا ما زالت تحيّرني
, اقترب "عُبيدة" منه وسأله:
, -أمعجب أنت بها؟
, -من؟
, -تلك المحاربة، حالك يفضحك يا صديقي
, -ماذا تقول؟
, -عيناك وأنت تحدّثها، وحركاتك وسكناتك، وارتباكك عند حضورها، كُنت أراقبكما الآن، أنت معجب يا فتى
, -وهل يبدو هذا واضحًا؟
, -ربّما لي لأنني ذقت هذا من قبل!٢ نقطةولكن احذر، المرأة لا تُحبّ الرجل الضعيف، حتى لو كانت هي سبب ضعفه
, -ولكنني لست ضعيفًا
, -تصرفاتك توحي بهذا للأسف، يقول "مُوراي" أنّك أخبرتها عندما وجدتها هنا بالبستان أنّك تعرفها من قبل وهي لم تتذكرك
, قال بأسى:
, -للأسف، لم تعرفني لكنني أعرفها منذ عامين، وتحدّثنا بالفعل
, صهلت "الجُمانة" وشاركتهما الحوار قائلةً:
, -يا مسكين!
, تذكّر "يوسف" ما كتبه عن حبّ "الجمانة" لزوجها "حيزوم"، كان يعلم أنّها تشعر به، قال وهو يطالعها وقد ابتلعته عيناها الغامضتان:
, -لم يكن سوى إعجاب في البداية يا "جمانة"
, -ثم؟
, -عندما غرقت في أحلام يقظتي تعلّقت بها
, سألته بشغف:
, -وجدٌ أم نجوى؟
, -وجدٌ عندما تغيب عنّي وعندما أفكّر في عجزي عن خطبتها، ونجوى تحرق فؤادي عندما أتخيلها زوجة لغيري، وشوق بقلبي وبجوارحي عندما أتخيلها تحبّني كما أُحبّها
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتي "عُبيدة" وقال:
, -افتح قلبك وبُح لنا بالمزيد
, أرسل "يوسف" تنهيدة وقال:
, -التقينا قدرًا، وتحدّثت إليها مرّة أو مرتين، وبعدها كنت أراقبها من بعيد عندما أذهب إلى الجامعة حيث تدرس، كنت أراها وهي تسير مع زميلاتها، سألت عنها فأثنوا عليها، حفظت كلّ شاردة وواردة تخصّها، ألوان ملابسها، ما تشتريه، ما تأكله، والطريق الذي تسير فيه، أوقات اختباراتها، نتائجها التي كُنت أعرفها قبلها وأقف بعيدًا لأراقبها وهي تسأل عنها فأشهد فرحتها بالنجاح من بعيد، و٢ نقطةشغفت بها
, -وكيف أحببتها حدّ الشغف كما تزعم وأنت لم تقترب منها أو تتعامل معها؟
, -يبقى الحبّ لغزًا محيّرًا٣ نقطةلا أحتاج إلى المنطق لأفسّره لك!
, طالعه "عُبيدة" بنظرة سقطت في عمق لجاج عينيه فبدأ "يُوسف" يبوح بالمزيد:
, -كنت أحفظ هيئتها التي رأيتها فيها وأعود لغرفتي، أجلس على مكتبي وأحدّثها في خيالي مرّات ومرّات، أهمس لها بالحبّ، وتهمس لي، أحنو عليها وتحنو عليّ، أشكو لها الأيام فتخفف عنّي، أحيانًا كنت أكتب عنها وأمزّق الأوراق قبل أن يقرأها غيري.
, قال "عُبيدة" متعجبًا:
, -ولكن٢ نقطة٢ علامة التعجب
, -ولكن ماذا؟
, -أنت تحبّ شخصية خيالية ركّبتها على صورتها في رأسك، حتى أنّك لم تعرفها حقًا ولم تعرفك لتحبّك، ولم تبادلك يومًا تلك المشاعر! والحب كالطير، لا يطير بجناح واحد
, - هذا ما حدث٢ نقطةلم أملك أن أمنع حبها من اقتحام قلبي، أحببتها وكفى
, -وكفى ماذا؟ أنت تستهلك نفسك وتعذّب روحك وهي لا تشعر بك، الأمر سهل اخطبها وتزوجها
, -ليس الأمر سهلًا كما تظنّ، أتدري يا "عبيدة"، بعد أن التقينا هنا، كلّما مرّت دقيقة، وكلّما قالت كلمة يزداد تعلّقي بها، ما يقلقني فقط أنني وجدّتها قويّة!
, -أليست محاربة!
, -بلى، هي فعلا محاربة، أقصد أنني٢ نقطةوجدتها قويّة الشخصية، وهذا أخافني
, -لماذا خفت!
, -أريد أن تكون زوجتي في حاجة إليّ، تركن إليّ، أما "حبيبة" فلا تحتاج إلى أحد، كما أنني أظنها تراني ضعيفًا لأنني لم أنه كتاباتي، كما أنني كُنت في هيئة مزرية عندما رأتني، وكأنني خرجت من القبر للتوّ!
, -لا عليك كُلنا نعرف أنّ المجاهيم اختطفوك من بيتك ولم تكن مستعدًا
, -لكنه٣ نقطةالانطباع الأوّل!
, رفع "عُبيدة" حاجبيه وسأله:
, -أخبرني لماذا تناديها بطريقةٍ رسمية٢ نقطةوكأنّها ذات منصب! ما تلك "الآنسة" التي تضعها كلّما أردت الحديث معها!
, -احترامًا وتوقيرًا لها
, -توقف عن هذا ونادها باسمها مجرّدًا، ليس عيبًا أن تنادى المرأة باسمها، كان لدينا في قبيلتنا شاعرة بليغة وكنا نناديها باسمها يا "سلمى"، وأخرى طبيبة بارعة كنا نناديها بـ"عاتكة"، وثالثة كانت تدرّس الصغار وكنا نناديها بـ"هند"
, -أرى في هذا احترامًا لها، كما أنني رغم حبّي لها لن أتجاوز الحدود، ولديّ سببٌ خاصّ آخر
, -ما هو هذا السبب الخاص؟
, ارتبك "يوسف"، لم يحبّ أن يكشف عن خجله من مناداتها باسمها مجردًا حتى لا ينفرط عقد مشاعره أمامها، قال بحزم:
, -ليس هذا ما يشغلني الآن،٢ نقطةما زلت أراها قويّة لا تحتاج إلى أحد، لا تحتاجني!
, اقترب منه "عُبيدة" وقال:
, -أتدري يا "يوسف"، كانت أمّي رحمها **** صعبة المراس وعنيدة لكنّها كانت تلين لأبي وتطيعه لأنّها تحبّه، وكثيرًا ما كان يرقّ لها ويفعل ما يرضيها حتى لو كان الأمر مخالفًا لهواه، قوية مع الجميع وضعيفة بين يديه، بل وفي أشد لحظات ضعف أبي كان يستند عليها وكانت تدعمه، كانت عكازًا له، جيشًا يدافع عنه، هذا سحرٌ خفي تظهره النساء فقط لأزواجهن يا صديقي.
, وقف "يوسف" ينصتُ لـ "عبيدة" وهو يحكي له عن أبيه وأمّه وكان يعرف كلّ هذا، لكنّه كان يستمتع وهو يسمعه منه بطريقته، راح يتأمّل وجهه، تلك العينان الواسعتان، والجبهة العريضة، واللحية الكثيفة، والملامح التي تجمع بين الهيبة والوسامة، والبنية التي لا تنحني إلّا في الصلاة، وحضوره المميز، وبلاغته في الكلام، وتوقيره للكبار، ورفقه بالحزاورة. كم تمنى أن يكون له شقيقًا، ليت "عُبيدة" كان شقيقه بالفعل، عانى "يُوسف" كثيرًا من وحدته، أراد أن يكون لديه أخٌ يستند عليه، ويطمئن لجواره، ويستشيره في أمور حياته، ويبوح له بأوجاعه عندما يحب ويتألّم، وقد يمرح معه أحيانًا، أو يتشاجر معه. اكتست ملامحه بالحزن عندما كانت تلك الأفكار تدور في رأسه، غضن حاجبيه وظهرت عليه علامات الأسى، لاحظها "عبيدة" فسأله:
, -لماذا لم تتزوج "حبيبة"؟ لماذا لم تخبرها برغبتك في خطبتها؟
, قال يائسًا:
, -لأنني٣ نقطةلا أملك المال، ولم أنتظم في وظيفة، وبيتنا قديم وهم أثرياء، الزواج في عالمنا ليس سهلًا كما هو في مملكتكم، أريد كنزًا لكي أتزوج، وليس من المروءة أن أصرّح لها بحبّي وأنا على يقين أنني لن أقدر على خطبتها، ربّما تعلّقت المسكينة بي، وأصابها ما أصابني من الحرقة والوجع، أليس هذا جرح لمشاعرها؟، فلم أُعذّبها؟
, -عجيب أمرك!
, -وما العجيب؟
, -أنت تُحبّها٣ نقطةوهكذا ستضيّع منك!
, -ربّما هذا أفضل من ضياعنا معًا، ثُمّ٣ نقطة
, -ثُمّ ماذا؟
, -ليس الزواج للبؤساء مثلي، كيف سيقبل أبوها بخطبتي لها وأنا٣ نقطة
, -أنت ماذا؟
, -أنا٣ نقطةكما أنا٢ علامة التعجب
, ابتسم "عُبيدة" وقال وهو يربت على كتفه:
, -أنت كما أنت على خير حال، أنت شخصٌ طيّب، فيك صدقٌ ورجولة، لكنّك تحتاج للنهوض بقوّة، هناك شيء ما قابع بدهاليز نفسك يأسرك، أنت حسّاس جدًا، وكأن روحك لمسها حزنٌ شاجٍ، حزنٌ يمنعك من الاستمتاع بشبابك وحياتك، تخلّص من كل هذا وعامل الناس بأريحية وسيعجب بك الجميع، وعندها اطلب من شئت من الفتيات للزواج، "حبيبة" أو غيرها!
, انزوت ابتسامة حالمة على ثغر "يوسف" وسريعًا ما اختفت وهو يقول:
, -قد تُعجب بي فتاة أخرى، وقد أجد من تقبل بي وترتضيني زوجًا لها، وقد أناسب الكثيرات، لكنني لا أريد الزواج من أيّ فتاة أخرى٣ نقطةأريدها هي فقط، ولا أظنني سأعجبها، فتاة بتلك القوّة ستحلم حتمًا بزوج يفوقها قوّة!
, - كل ما في الأمر أنّك تعقّد الأمور وهي أبسط بكثير من تقديرك لها، هيّا بنا، ظننتك تريد سؤال "حيزوم" و"أبهر" عن دروب أُوبال٣ نقطة ابدأ بـ"أبهر"، فهو دقيق ويهتم بالتفاصيل
, -ألن تأتي معي؟
, -لا، اذهب أنت، الخيول تحبّك، ويرغبون في الحديث معك بعد أن أخبرتهم بأنّك كتبت عنّا، هكذا أخبروني
, ثُم أردف "عُبيدة" قائلًا باهتمام:
, -عامل الخيول باحترام فهم يحبّون هذا، ضع يدك على رأسه في المنطقة خلف أذنيه، واضغط بلطف إلى أن يخفض رأسه، حتى وإن تطلب منك هذا بعض الدقائق. بعد فترة، من المفترض أن يحني "أبهر" رأسه بمجرد أن تقرب يدك من رأسه، وسيتحدّث معك.
, سار "يُوسف" تجاه "أبهر" الذي كان يقف مستمتعًا بأشعة الشمس وهي تغمر جسده الذهبي، كان "أبهر" من الخيول الصهباء، لونه الأصفر الضارب لشيء من الحمرة الخفيفة في سائر جسده، والبياض في قوائمه الأربعة يضفي عليه جاذبية شديدة، صهل فور أن رأى "يوسف" يقترب، تركه يمسح رأسه ويداعب أذنيه ومعرّفته، وأخيرًا أحنى له رأسه فابتسم "يوسف" وقال له:
, -"أبهر"، كيف أنت؟
, -بخير حال طالما نحن معًا، ومعنا سيّدنا "عُبيدة"
, -أخبرني عن رحلتك، ماذا رأيت في الدرب الذي سلكته من دروب "أُوبال"؟
, -وهل هذا اسمها؟ "دروب أُوبال"؟
, -نعم٣ نقطةهذا اسمها يا "أبهر"
, -يبدو أن لهذا علاقة بهذا الرجل الذي٣ نقطة
, -أيّ رجل؟
, ضيّق "أبهر" عينيه وقال:
, -رجل٣ نقطةمهيب!
, -ومن هو؟
, -سأروي لك القصّة بحذافيرها
, وهنا ازدادت عيناه ضيقًا وقال:
, -عندما كنت أركض في الدرب كانت حوافّه تزداد اتساعًا وشعرت بكلّ شيء يموج حولي، الألوان تختلط ببعضها البعض، والأرض تُطوى طيًّا، والسماء تدور وتنقلب على بعضها كموج البحر، في النهاية رأيت رفاقي، وصلنا جميعًا إلى كهف غريب تبرق الأحجار على جدرانه، حتى الحصى على الأرض كان يبرق ويتلألأ، وقفنا ومن خلفنا الدروب تموج وتضوي على بواباتها أضواء مختلفة الألوان،كانت هناك امرأة أربعينية تقف أمام الكهف، وفي يدها صندوق خشبي عتيق عليه نقوش لم أرَ مثلها من قبل، كان هناك دخان أزرق يخرج من الصندوق وهو مفتوح بين يديها بينما كانت تبكي، ثُمّ٣ نقطة
, -ثُمّ ماذا؟
, -كانت هناك فتاة تقف معها، لها شعر ذهبي ناعم ومتموج وطويل، يبدو أنّها ابنتها، كانت تغطي رأسها بوشاحٍ كبيرٍ أبيض يظهر شعرها من تحته، وكانت تنظر إلينا بعين واحدة فقط بينما تخبيء نصف وجهها خلف هذا الوشاح.
, -وماذا حدث؟
, -كانت المرأة تنتظر أحدهم وتناديه باسمه، وقد أجابها وخرج من أحد الدروب، كان كهلًا قويّ البنية، طويل القامة لم نتبين ملامحه لشدّة توهّج الضوء في الدرب الذي خرج منه، احتضنته المرأة وفاض عليهما النور فاختفت ملامحها هي الأخرى، بقيت الفتاة تطالعنا من خلف وشاحها، ودار بينهم حوار لم نتبين كلماته، كان البكاء يغلب عليه، مسح الرجل على رأسها بحنان، وجفف دموعها بأطراف أصابعه، أرادها أن تدلف معه للدرب وكان يجذبها من ذراعها لكنها كانت تقاومه، وبعد هذا ذهبت معه الفتاة ذات الوشاح، وابتعدت المرأة وهي تبكي بحُرقة شديدة، ثُمّ رددت كلمات غريبة، فاختفى هذا الدرب واختفت دروبنا واحدًا تلو الآخر٣ نقطة
, -يا إلهي! هل ابتلع الدرب الفتاة وهذا الرّجل؟
, -لا أدري، لكنها كانت تلوّح بيديها وتقول سأعود٣ نقطةسأعود
, -وبعد هذا؟
, -وقفنا أمام المرأة وكأنّ على رؤوسنا الطير، لا ندري من أين الطريق للعودة إلى البستان هنا، اقتربت منّا ومسحت على رؤوسنا، سارت وسرنا خلفها وكأنّها دليلنا، كانت تبكي وتتمتم بكلمات فهمتُ منها أنّها تبحث عن بناتها، كانت تلوم نفسها لأنّها لم تنه أمرًا ما، ظلّت تردد: "ليتني لم أترك الدروب مفتوحة".
, أقبل "المسوّم" عليها وأحنى رأسه لها، تحدّث إليها لأوّل مرّة، وكان أوّل من يكشف لها عن حقيقتنا، وأخبرها عن قدرتنا على التحدّث بلغة البشر، أخبرتنا باسمها "مَيسان"، كانت في حالة إعياء شديدة، ثيابها بالية وكأنّها سارت لمسافات طويلة، كانت مهمومة وحزينة وقد عادت للبكاء، وكان "المسوم" يرقّ لحالها، فهو بطبعه عاطفيٌ وحنونٌ جدًا، كانت تتحدّث إليه عن بناتها، وكيف أنهن رائعات، وأنّ هناك من أبعدها عنهن، وكاد يقتلها وابنتها لولا أنّها هربت بها. لم تيأس طوال السنوات الخمس الماضية من البحث عنهن، خمس سنوات طوال تهيم فيهن على وجهها، ولكنّها لم تتوقع أن يحدث ما حدث
, -وما هو؟
, - حدثٌ عظيمٌ وقع لأنّها لم تتم مهمتها للنهاية، لم تبيّن لنا ما هو،كانت تلوم نفسها باستمرار لأنّها لم تُحسن إنهاء شيء ما كانت تفعله.
, بتنا ليلتنا في غابة موحشة، شكّلنا حلقة ونامت "مَيسان" وسط الحلقة، ظلّت تبكي حتى غلبها النوم، في الصباح لم نجدها ولم نجد أربعة منّا، وبقينا ثلاثة خيول فقط.
, -أنت يا "أبهر" ومعك "حيزوم"، و"الترياق"
, -نعم، قررنا أن نبحث عنهم في الغابة، وبدأنا سيرنا ثُمّ سمعنا أصواتًا أفزعتنا، صراخ، غقغقة صقور، صهيل خيول، بشر يستغيثون، فركضنا في اتجاهات متفرّقة، ووجدت نفسي وحدي أركض في الغابة، خرجت منها بعد عناء لأجد نفسي في أرضٍ يغطيها السحاب الأسود من كلّ صوب، رأيت شابًا يقترب، هرول نحوي لمّا تبيّن ملامحي، ناداني باسمي فتعجّبت!، تحدّث إليّ فأدركت أنه يعرف أنني أتحدث بلغة البشر، بالتدريج استعدت جزءًا من ذاكرتي وعرفته، كان "عُبيدة"، سرت معه وكنّا مرهقين للغاية، وقعنا في أسر جنود غلاظ شدادٌ عرفت بعدها أنّهم من حرّاس"قلعة الدَّيجور"، وبقيت هناك حتى تعرّفت على "موراي"، كان يتردد على إسطبل القلعة من آنٍ لآخرَ، يمرّ بين خيول الإسطبل ويتحدّث إليها، يسألها عن اسمها! وكانت لا تجيبه، وكأنّه يفتّش بينها عن جواد يتحدّث بلغة البشر، ولما رددت عليه أخبرني عن البستان هنا، وعن حديثه مع "الجمانة"، واتفقنا أن نتعاون وأساعده في الوصول إليك، فقد وصلنا خبر قدومك إلى القلعة، وإلقائك في السجن مع "عُبيدة"، ظنناك محاربًا بينما أنت كاتب، ووعدني أن يحررني أنا و "عبيدة" عندما يتيسر له الأمر.
, -وصدق في وعده وحررنا بعد ذلك بالفعل
, -نعم يا سيدي، "موراي" شاب رائع
, -حسنًا يا "أبهر"، سأتركك الآن، فها هي "الشقراء" تقترب، أرجوك، كفّ عن تجاهلها فأنا أعلم أنّك تحبّها
, -أحبّها، لكنني مللت من ملاحقتها وغيرتها الشديدة
, -أحقًا تحبّها يا "أبهر"؟
, -نعم، فلها أجمل أنف في الوجود، كما أنّها تخطف قلبي ببريق عينيها اللامعتين، وشعر معرّفتها الغجري، وصهيلها الخلّاب، وذيلها الـ٣ نقطة
, -مهلًا مهلًا يا فتى، يبدو أنّك مُغرمٌ للغاية، والوقت قد حان لتطلبها للزواج
, -سأفعل٣ نقطةسأفعل يا سيّد "يوسف"، ولكن في الوقت المناسب
, هرول "أبهر" تجاه "الشقراء" بينما وقف "يوسف" يراقبهما، التفت باحثًا عن"حبيبة" بالبستان، لكنّه لم يجدها في أيّ مكان.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٣

ديرينكويو
,
, وصل "بركات" سريعًا إلى قرية "الدحنون"، وكانت "حبيبة" تتبعه من بعيد، تتنقل من شجرة إلى أخرى وتختبئ، أسرعت تبتعد عن السوق حيث كان يختلط بأهل القرية، دلفت إلى طريق جانبي محفوف بزهور الدحنون، فوجئت بالغلام الذي رأته المرّة السابقة أمامها! والذي رأته بالبستان من قبل، اقتربت على عجلٍ وصاحت تؤنبه:
, -ما الذي أتى بك إلى هنا، كيف تخرج من البستان وحدك في هذا الوقت المبكّر؟
, لم يعطها الفرصة لتكمل كلامها وركض بعيدًا، يتلفّت من آن لآخر ويضحك، ثُمّ يكمل الركض تجاه أطراف القرية، لم تنتبه لطول المسافة التي تبعته فيها، خرجت من حدود القرية ودلفت إلى بستان كثيف الأشجار لتخرج منه وتفاجأ ببناء مهيب وكبير أمامها، كان الصمت يلفّ المكان، وكأنّها انتقلت للتو إلى كوكب آخر!
, أشار الغلام لـ "حبيبة" بيده لتتبعه، دلف إلى البناء والذي كان خاليًا من أي أثر للحياة، حتى الزهور الحمراء المنتشرة في كلّ مكان لم يكن لها أثر حوله، كان مكونًا من طابقين، نوافذه سوداء معتمة، أسرعت "حبيبة" خلف الغلام، أرادت أن تخرج به من هذا البيت وحسب، وتعود به إلى بستان بركات، لكنّها فور أن دلفت لم تجد إلّا الفراغ، حجرات فارغة، ونوافذ مفتوحة، تناهى إلى سمعها صوت غريب، أسرعت تجاه الصوت فرأت الغلام يهبط في فتحة في أرض البيت وينزل فيه على درج حجري٣ نقطة
, -انتظر
, صاحت بالكلمة فتردد صدى صوتها في المكان فأجفلت، قررت العودة من حيث أتت لتستعين بأحدهم لكنها لم تجد باب البيت!، ظلّت تدور فيه وتنتقل من غرفة إلى غرفة أخرى، ما هذا! الجدران أصبحت مصمتة! اختفت النوافذ واختفى الباب، أظلمت فجأة ولم يعد هناك ضوء إلّا هذا الذي ينبع من الفتحة التي دلفها الغلام، تسارعت دقّات قلبها، بدأت تتعرّق٢ نقطةترددت قليلًا لكنّها أسرعت خلفه، لا مفرّ من هذا٢ نقطةدلفت عبر بوابة حجرية ثقيلة، طولها متر وعرضها ربّما يبلغ نصف المتر، بعد أن دلفت التفتت لتتأكّد أنها ستتمكن من فتحها مرة أخرى، فوجئت بأنّها تغلق من الداخل فقط! وليس من الخارج ! في طريقة ميكانيكية مبتكرة تجعل من فتحها وإقفالها مهمة ممكنه لشخص واحد فقط بواسطة دعامة خشبية في الثقب الموجود في وسط البوابة، إذًا هناك من فتح البوابة للغلام٣ علامة التعجب
, هبطت على الدرج الحجريّ بحذر شديد، ووقفت أسفل الدرج في ذهول! ما هذا المكان الواسع! وكيف نحتت تلك الأشياء هنا؟ ظلّت تدور خلف الغلام وهو يدلّها على الطريق، يبدو أنّه يعرف الكثير عن المكان، هبطت من طابق لآخر ولم تلتقِ بأي شخص هناك، كانت هي فقط، هي وذاك الحزور الذي أحاطته هالة حمراء متوهّجة، تنتقل معه أينما ذهب، كان المكان يشبه تلك المدينة الأثرية التي قرأت عنها في كتاب، تلك التي عُثر عليها في تركيا، مدينة ديرينكويو*٣ نقطةنعم٢ نقطةهي تشبهها تماما، تذكّرت الآن!
,
,
,
, *هامش:
, Derinkuyu
, ديرينكويو (بمعنى البئر العميق) هي مدينة أثرية عملاقة تحت الأرض في تركيا على عمق 60 مترًا، عثر عليها قدرًا في عام 1963 أثناء أعمال التجديد لأحد المنازل في محافظة نوشهر في وسط الأناضول بتركيا (تحديدًا في كابادوكيا)، بوابات المدينة كانت مخبّأة في باحات المنازل، مساحة المدينة كبيرة ومكونة من 11 طابقًا وتكفي لاستيعاب 20،000 شخص مع الماشية والمواد الغذائية، تحتوي على تكوينات جيولوجية فريدة، واستخدمت كمخابئ في أوقات الغارات.
, سألته بينما كان يركض أمامها:
, -ما اسمك؟
, توقف الغلام عن الركض فجأة والتفت إليها وقال:
, -"جيليه"
, -ماذا؟
, -أحمر!
, -ماذا تقصد؟
, -"جيليه" تعني اللون الأحمر باللغة النوبية، وهذا هو اسمي
, كانت "حبيبة" تتفحّص طوبوغرافية المكان، همست باسم الغلام عندما استقرّت عيناها على عينيه اللامعتين وقالت:
, - "جيليه"، أخبرني ما هذا المكان الغريب؟ ولماذا نحن هنا؟
, -اصبري حتى نصل إلى الطابق الأرضيّ
, -وهل هناك المزيد من الطوابق! لقد نزلنا سبعة طوابق٢ علامة التعجب
, -بقي أربعة
, قالها واستمر يهبط الطوابق وهي خلفه، كان المكان مكونًا من أحد عشر طابقًا تحت الأرض، مرّوا بالكثير من الغرف، معاصر للزيتون، إسطبلات وأقبية! همست لنفسها بذهول:
, -إسطبلات للخيول هنا! تحت الأرض! كيف؟
, مرّا بغرف للتخزين، وحجرات للطعام، ومصليات، ولفت نظرها معبد واسع المساحة في الدور الثاني من المدينة الأرضية. ولتأمين التهوية اللازمة للحياة يمتد عمود تهوية على طول عمق الطوابق، كان هناك بئر للماء لتزويد قرية الدحنون الواقعة على سطح الأرض وتلك المدينة الواقعة تحت سطح الأرض بالمياه، بالإضافة إلى الكثير من فتحات تهوية صغيرة موزعة في أنحاء المدينة تتصل بممرات محفورة تمتد حتى السطح بطريقة فنية وبارعة٤ نقطةكان المكان غريبًا، كلّ وسائل الحياة متوفرة هنا، لكنّه خالٍ من البشر!
, وصلا أخيرًا للطابق الأرضي، لم تشعر "حبيبة" بالاختناق، كان هناك تيّار من الهواء اللطيف يداعب بشرتها، تلك القناديل التي كانت تضيء المكان كانت بديعة الشكل، بالتأكيد هناك من أشعلها، ولا بد أنّ هناك من فتح البوابة للغلام، فكيف سيفتحها وهي لا تُفتح إلّا من الداخل٣ نقطة
, التفتت لتسأل الحزور الذي كانت تتبعه، "جيليه"، لكنّها لم تجده! ارتبكت وهرولت هنا وهناك تبحث عنه، نادت باسمه عدّة مرّات لكنّه اختفى فجأة! وكأنّه تبخّر في الهواء!
, بدأت تسير بحذر، الآن هي خائفة كما لم تخف منذ وصولها لأرض المملكة، لأوّل مرّة تشعر بالضعف! قررت أن تصعد الطوابق مرّة أخرى، لكنّها فوجئت بصوت غريب، صوت لأنثى تضحك!، تلفتت يمينًا ويسارًا، بدأ قلبها يدق وينتفض بقوّة، شعرت بالشلل في أطرافها فثبتت مكانها رغمًا عنها، ثم ظهرت أمامها فجأة ومن حيث لا تدري فتاة حسناء طاغية الأنوثة تبدو في أواخر العشرينات، برداء حريري أحمر أكمامه واسعه، ووجه شاحب يعلوه النمش، وشعر أحمر فاقع أطرافه تشبه ألسنة اللهب، على شفتيها صبغ بلونٍ أحمرٍ قانٍ، وعلى أطراف حاجبيها حلقتان صغيرتان ذهبيتان ولامعتان، أمّا على صدرها فقد استقرّ عقد غريب الشكل لم تر "حبيبة" مثله من قبل، كان يضوي بألوان عديدة، بدت الفتاة وكأنّها شعلة من النار الملتهبة حُبست في قالب من جليد! سألت "حبيبة" بصوتٍ رنّان:
, -من أنتِ؟
, -اسمي "حبيبة"٣ نقطةوأنتِ؟
, -"ياقوت"
, بدأت تسير حول "حبيبة" تتأملها بتمعّن والتي كانت لا تزال مكانها محبوسة بشيء خفي يثبّت قدميها وذراعيها، قالت "ياقوت"*:
, -كيف دخلتِ إلى هنا؟ ومن فتح لك بوابة المدينة؟
, -"جيليه"
, -ومن هو؟
, -غلامٌ نوبيٌ صغير
, -كاذبة٢ نقطة
, كان قلب "حبيبة" لا يزال ينبض بقوّة، وكانت أنفاسها متسارعة، قالت بغضب:
, -صدقيني، هو غلام صغير نوبيّ واسمه "جيليه"
, -البوابة لا تُفتح إلّا من الداخل، ولا يوجد غلام نوبيّ هنا، أنت مخادعة، أخبريني من سمح لك بالدخول إلى المدينة؟ "توباز"؟ أم "زُفير"؟ أم هي الغبيّة "زُمرّد"*؟
, -ومن هنّ؟
, هامش:
, ياقوت: حجر كريم أحمر، توباز: حجر كريم أصفر، زفير: حجر كريم أزرق، زمرّد:حجر كريم أخضر
, -شقيقاتي الحمقاوات، من المستحيل أن تقتحمي مدينتنا وحدك، كيف وصلت للطابق الأرضي دون أن يلاحظك السكّان!
, -سكان! لم ألتق بأحد منهم هنا، المكان مهجور!
, اقتربت "ياقوت" من "حبيبة" التي كانت مجمّدة مكانها، مسحت الجدار بكفّها وهي تسير ثُمّ رفعته في محاذاة وجه "حبيبة" ونفخت التراب الذي علق به تجاه عينيها مما أزعجها فصرخت وأظهرت اشمئزازها، تحررت "حبيبة" من قيودها الخفية فجأة! فرفعت المسكينة كمّ قميصها وبدأت تفرك عينيها به، قالت لها "ياقوت" وهي تضحك:
, -توقفي عن فرك عينيك، هذا مفيد
, -هذا مقزز!
, -لقد منحتك شرف لقائي
, -أيّ شرف هذا؟
, -افتحي عينيكِ
, فتحت "حبيبة" عينيها بصعوبة، غبش من النور غمر مقلتيها للحظات ثُمّ فجأة! إذا بها ترى سكان المدينة، كانوا حولها في كلّ مكان بينما لم تكن تراهم منذ لحظات، رجال ونساء، صغار وكهول، عجائز يجلسون ويبيعون البضائع، زهور غريبة، ثياب ألوانها عجيبة، حياة بأكملها يضج بها المكان! كانت مذهولة مما رأته حولها، أشارت لها "ياقوت" لتتبعها فتبعتها وصعدتا حتى وصلتا لغرفة بدا لها أنّها تخصّ "ياقوت"، كانت الغرفة فاخرة، كلّ شيء غارق في الزينة والزخارف، نقوش عجيبة وغريبة في كلّ مكان، لم تر "حبيبة" مثلها من قبل!، أُغلق الباب فجأة فأصدر صوتًا مدويًا، تمددت "ياقوت" على أريكة وثيرة ورفعت ساقيها بدلال، أسندت رأسها بيدها اليسرى وبدأت تلتقط حبّات العنب من الإناء الفخاري الذي بجوارها بيمناها، كانت تضع الحبّة منه في فمها وتضحك بسخرية في كلّ مرة وهي تراقب "حبيبة"، وكأنّها أخيرًا وجدت ما تتسلى به، فتاة غريبة عن المدينة، يبدو أنّها لطيفة السريرة فلتتسلَّ بالحديث معها قبل أن٣ نقطةتقتلها أو تحبسها قليلًا، أو تعذّبها هي لم تقرر بعد، عادت تتمعّن في ملامح "حبيبة" وثيابها وسألتها:
, -ألن تخبريني الآن أيّ منهن سمحت لكِ بالدخول؟
, -لا أعرفهن٢ نقطةلا أعرف شقيقاتك
, -إذًا ماذا تفعلين هنا، وما الذي تخفينه في حقيبتك القماشية تلك وتتحسسينه من آنٍ لآخرَ؟
, في غمضة عين كانت الحقيبة بين يدي "ياقوت" التي تركت عنقود العنب وبدأت تفتّشها، أخرجت منها الخنجر وألقته على الطاولة بإهمال، هي لا تخاف الخناجر، ولا السيوف، لن تموت حتمًا بطعنة!، أخرجت كتاب "أيجيدور"، أمسكته وقرأت عنوانه ثُم فتحته ووجدت صفحاته خالية فابتسمت وقالت بتهكّم:
, -"أيجيدور"٢ علامة التعجب٣ نقطةأنتِ محاربة؟
, -نعم
, ألقت بالكتاب والحقيبة بإزدراء وقالت:
, -انتهى زمن المحاربين
, أسرعت "حبيبة" والتقطت حقيبتها وكتابها وخنجرها وقالت:
, -كيف هذا؟
, -لن يخطو أيّ محارب جديد أرض المملكة، وحتى أنتِ لن تعودي لعالمك، ستبقين هنا يا مسكينة
, صاحت "حبيبة":
, -لا٢ نقطةلن ينقطع المحاربون عنّ الوصول لمملكة البلاغة طالما الدنيا تهمس بالحكايا في الغابات، وتصبّ الرياح همسها في آذان البشر، وطالما هناك حيوات تدوّن بين دفتي كتاب!
, ضحكت"ياقوت" ضحكات طويلة رنانة قبل أن تقول:
, -ذاك كلام الكتب٣ نقطةخرافات
, ثُمّ مدّت ذراعيها وقالت بخيلاء:
, - لم تعد تلك مملكة البلاغة
, -كيف تقولين هذا؟
, -ألم تسمعي بما حدث؟
, -وما الذي حدث؟
, -أصبحت الآن مملكة "أوبالس"، نحن الآن من يسيطر عليها، وعلى سكانها، وعلى الصقور، وعلى المكتبة
, -ومن أنتم؟
, التفتت إليها ورفعت حاجبها الأيسر ورمتها بنظرة ثاقبة، ثُمّ قالت وهي تعبث بخصلات شعرها الحمراء:
, -نحن٤ نقطةساحرات "أوبالس"
, بدأت "حبيبة" ترتجف، لم يرُقها ما سمعته، قالت بغضب:
, - مستحيل
, سارت "ياقوت" بخطوات سريعة تجاه "حبيبة"، وقفت أمامها ووضعت سبابتها على جبينها فارتج جسدها، أغمضت "حبيبة" عينيها ورأت كلّ شيء، رأت أسرابًا من الصقور تحلّق فوق غابة واسعة، ثُمّ فيضانًا عظيمًا لنهر ماؤه أخضر يغرق كلّ شيء، مطر غزيزٌ ورعدٌ مخيف، البروق تتوالى وتمزّق صفحة السماء، جبل عظيم تحيط قمّته الغيوم الحمراء ينهار، الكلّ يصرخ في فزع، وأجنحة الصقور تحترق، وأسوار بناء عظيم أدركت أنّها أسوار المكتبة العظمى تتهاوى وتتحطم، رأت بوابة المكتبة تُقتحم، والكتب تتطاير صفحاتها هنا وهناك، بعضها يسقط في الماء، وبعضها لا يزال على الرفوف، كهول لحاهم بيضاء يصرخون ويهرولون هنا وهناك، يجمعون الكتب ويلملمون في وجلٍ أوراقها المبعثرة ويحاولون الدفاع عن أنفسهم وعن الكتب! نداء واحد يتكرر "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"
, فتحت عينيها فجأة وتراجعت للخلف في فزع وقالت بخفوت:
, -هل هذا حدث بالفعل!
, شمخت "ياقوت" برأسها وقالت بكبرياء:
, -نعم، لقد استسلم حرّاس المكتبة لنا، سيطرنا على كلّ شيء هنا، والمكتبة الآن مغلقة للأبد
, بجسد يرتجف صرخت "حبيبة":
, -والمغاتير، والحوراء، والزاجل الأزرق
, -تعرفينهم إذًا!٣ نقطةعلى كلّ حال كلّهم في السجون، وسنحرق تلك الكتب قريبًا
, -لماذا٢ نقطةلماذا؟
, -وما حاجتنا للكتب!
, -الكتب حياة أخرى نعيشها، هي التاريخ، هي الماضي الذي نتعلم منه، هي نحن، ونحن الكتب!
, -هراء٤ نقطةالحاضر والمستقبل لنا، نحن ساحرات "أوبالس"
, صرخت "حبيبة":
, -الكتب حيّة ولن تستسلم
, انخرطت "ياقوت" في نوبة من الضحك الهيستيري ثُمّ قالت وقد بدا الشر يتلاعب في عينيها:
, -انتهى الأمر يا عزيزتي، ابحثي عن شيء آخر تدافعين عنه
, ارتج القول على "حبيبة"، غرقت في حيرتها بعد ما سمعته، سألتها "ياقوت":
, - أخبريني في أيّ بيوت قرية "الدحنون" تقيمين؟ وفي ضيافة من؟
, قالت "حبيبة" بصوتٍ يائسٍ وقد خيّم الحزن عليها:
, - أنا في ضيافة السيّد "بركات"، صاحب البستان القريب من قرية "الدحنون"
, انتفضت "ياقوت" عندما سمعت اسم "بركات"وسألتها:
, -وهل يعرف أنّك هنا؟
, -لا أظن
, ابتسمت "ياقوت" بخبث ثُمّ فرقعت بأصابعها وقالت:
, -سنرى الآن هل أنت ذات قيمة عنده أم لا، أنت أسيرة هنا يا "حبيبة"، لن تخرجي من هنا، ستبقي معنا في "ديرينكويو"٣ نقطة مدينة الجنّ، استمتعي بوقتك معنا.
, عادت "ياقوت" لضحكاتها وقهقهاتها، بينما خرجت "حبيبة" من الغرفة في هلع، كانت تركض بين الطوابق وقلبها يتواثب بين ضلوعها، تبحث عن البوابة لتخرج منها لكنّها لم تعثر عليها، نادت مرارًا على "جيليه" لكنّه لم يُجبها، هبطت مرّة أخرى عدّة طوابق، وصلت إلى حيث كان المعبد الواسع، جلست على بابه والأفكار تتناطح في رأسها، كانت في حيرة شديدة، ماذا ستفعل الآن؟ انتهى كلّ شيء، لا يوجد صقور لتعيدها لعالمها، أرهقت بشدّة، كانت تراقب أهل المدينة وهم يسيرون أمامها، هم لا يرونها لكنّها تراهم جيدًا منذ أن نفخت "ياقوت" غبار جدران المدينة في عينيها، لكنّها لا تسمع أصواتهم وهم يتحدّثون! لا تدري لماذا! غلبتها دمعة فأمسكتها بكبرياء، كتمت أنفاسها للحظات لتمنعها فهي تكره البكاء، أغمضت عينيها محاولة استعادة رباطة جأشها وقوّتها، تذكّرت الآن كيف فزعت "قطرة الدمع" فور وصولهم لأرض المملكة، لم تتوقع "حبيبة" أن لحظة وصولها كانت لحظة انهيار مملكة البلاغة ومن فيها، وجف قلبها وملأ الروع فؤادها، هناك شيء غريب يحدث هنا٣ نقطةلا بدّ أن هناك مخرجًا ما٣ نقطةولكن أين؟
,
, ٨ العلامة النجمية
, المعبد
, قد يهبط الحزن فجأة، وقد نفاجأ بالمصائب تهوي بنا، أو نقع في ورطة لم نحسب لها الحساب، وأحيانًا نخسر كلّ شيء في لحظة، والكرب قد يدهمنا فيحطمنا، وربّما تنهش صدورنا الذكريات المؤلمة، وننسى٣ نقطة
, ننسى أن نبرأ من حولنا وقوتنا لحول **** وقوّته، لأنّ عقولنا الفقيرة تفكر في الأسباب فقط! فتعمينا، فنظلّ غارقين في الهمّ حتى ينتشلنا التسبيح.
, على باب المعبد، وبعيدًا عن الجنّ الذين كانوا يملأون الممرات والأسواق، حيث تراهم ولا يرونها، لا تسمع أصواتهم لكنها بينهم! كانت"حبيبة" تجلس أمام الباب حزينة بعد وقوعها في تلك الورطة، تقاوم الدموع، تضغط على عينيها لتمنعها فهي تكره البكاء، تحاول أن تستعيد رباطة جأشها٢ نقطةتذكّرت كلمات "بركات"
, (انتبهي يا ابنتي، المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة).
, الآن تذكّرت، عندما شَعرتْ بالخوف والضعف ظهرت "ياقوت"، وعندما أصابها اليأس مما أخبرتها به ازدادت سطوتها عليها، لقد اكتسبت "ياقوت" قوّتها من ضعف "حبيبة"، كفكفت دموعها وانطلقت تقرأ آية الكرسي وترددها، لماذا لم تقرأها فور دخولها لهذا المكان!، أتاها فجأة صوت رقيقٌ من خلفها فأجفلت والتفتت تجاهه، فإذا بها ترى فتاة رقيقة خضراء، نعم٢ نقطةخضراء! زينتها وعيناها والقلنسوة الموشّاة بفصوص دقيقة من الزمرد التي ترتديها، كل شيء أخضر أخضر٢ نقطةحتى انعكاس الضوء على بشرتها ورموش عينيها استحال أخضر كلون أوراق الأشجار الزاهية المغسولة بماء المطر، كانت تهمس قائلة:
, -تعالي هنا، ادخلي أرض المعبد
, وقفت "حبيبة" وتلفتت يمينًا ويسارًا ثُمّ خطت خطوة واحدة داخل المعبد، وفور أن وطئت أقدامها أرضه أضاء كلّ شيء حولها، كان هناك الكثير من الوجوه هناك، الكلّ مشغول، حلقات يُقرأ بها القرآن، رأت المصاحف! وبعضهم يصلّي، وآخرون يتحدّثون لكنّها لا تسمع حديثهم، التفتت تجاه الفتاة الخضراء، وغضنت جبينها وسألتها:
, -هل أنتِ "زمرّد"؟ شقيقة "ياقوت"؟
, ابتسمت الفتاة وطالعتها بإعجاب وقالت:
, -وكيف عرفتِ؟
, تأمّلتها "حبيبة" بتمعّن مرّة أخرى، بدت كالسّحاب الرّهو، تتمشّى في بياضها حُمرة خفيفة جعلت النظر إلى وجهها مُحبب للنفس، قالت "حبيبة" لها وهي تشير لملابسها:
, -لأنّك تشبهين حجر الزمرّد، أخضر٢ نقطةأخضر٢ نقطة
, ابتسمت "زمرّد" وقالت:
, -أحسنتِ٣ نقطةأنتِ الآن في أمان، اتبعيني
, سارت "حبيبة" خلفها نحو أحد أركان المعبد، جلست قبالتها، كانت الفتاة جميلة جدًا، على رأسها وشاح طويل ينسدل على كتفيها بنعومة، كانت حالمة٢ نقطةلا تشبه الساحرات، تأملتها "حبيبة" بتمعّن قبل أن تسألها:
, -أين باقي شقيقاتك
, تمعّضت ملامح "زمرّد" وقالت:
, -أتقصدين "زفير" و "توباز"؟
, -نعم
, -هناك حفل صاخبٌ في قصرهما، يحتفلان
, -بماذا يحتفلان؟
, -بسقوط مملكة البلاغة
, شعرت "حبيبة" بانقباض في صدرها، تذكّرت ما رأته في غرفة "ياقوت" من أحداث، عقدت حاجبيها وجلست حزينة، لاحظت "زمرّد" شرودها فقالت لها:
, -هما لا تفترقان أبدًا، توأمتان
, -وأنتِ؟ هل تفضلين البقاء مع "ياقوت"؟ يبدو أنّها تكبرك بعدّة أعوام
, قالت "زمرّد" بتوتّر:
, -لا٣ نقطةلا أحب البقاء معها ولا معهما
, ثُمّ قالت بضيق:
, -"ياقوت" أكبرنا، وبعدها وُلدت الغبيتان، ثُمّ ٣ نقطة
, شردت للحظات، تمعضت ملامحها وكأنّها تذكّرت شيئًا أوجعها، ثُم طالعت "حبيبة" بعصبية وقالت:
, -انتظري!٤ نقطةلماذا تلقين عليّ الأسئلة؟ أنت هنا لأسألك لا لتسأليني٣ نقطة
, تأملت "حبيبة" وجهها وتساءلت، هل حقًا تلك من ساحرات أوبالس؟ فهي تبدو مختلفة عن شقيقتها "ياقوت"، رغم عصبيتها فهي تبدو أكثر طيبةً وبراءة! أو ربّما لقلّة نضجها! قالت محاولة ضبط طريقتها في الكلام معها:
, -تفضلي واسأليني
, -ما اسمك؟
, -"حبيبة"
, -كم عمرك؟
, -في التاسعة عشرة من عمري
, -تكبرينني بعام!٢ نقطةأخبريني كيف دخلتِ إلى هنا؟
, -كنت أسير خلف غلام نوبيّ صغير يدعى "جيليه"
, -يا إلهي! هل التقيت بهذا العفريت الصغير؟
, -وهل تعرفينه
, -طبعًا٣ نقطة
, ثُم أسرعت "زمرّد" تسألها:
, -ما فهمته من كلماتك القليلة أنّك التقيت بـ"ياقوت"، أليس كذلك؟
, -نعم التقيت بها، ويبدو أنّها حبستني في مدينتكم
, -أخطأتِ بدخولك مدينة "ديرينكويو" يا "حبيبة"، ليتني أستطيع الخروج معك، لكنني لا أستطيع
, -لماذا؟
, -لو خرجت سيتأذّي شخص يهمّني أمره، هددتني "ياقوت" به، فحبست نفسي وأطعتها لأحميه
, -ومن هو؟
, -لا تسألي٢ نقطةأرجوكِ!
, ثُمّ غضنت حاجبيها وقالت:
, -لولا أهل المعبد من الجنّ لكنتُ الآن رمادًا منثورًا، فهم يحمونني من مردة الجنّ
, -ألستِ من الجنّ مثلهم؟
, -لا٣ نقطةنحن من أرض أوبال، نحن من البشر!٢ نقطةلكننا ساحرات
, -كيف؟
, -كنّا نعيش في سلام حتى وصلت لأرضنا عجوز غريبة الشكل، لم أر وجها قبيحًا مثل وجهها من قبل، بائسة هالكة قد انحنت تحت لعنات ماضيها، فتركتها الدنيا كالبيت المهجور! طرقت باب بيتنا ليلًا وطلبت من أمي الطعام، ولأنّ أمي حنونة جدًا أطعمتها، بل واستضافتها في دارنا فمكثت حتى مطلع الفجر، استيقظنا فلم نجد أمي، ولم نرها منذ ذلك اليوم، أمّا أبي فكان مسافرًا في تجارة ولم يعد هو الآخر للبيت! ربّتنا تلك العجوز، وعلّمتنا السحر الأسود، وأخبرتنا أنّ أمنا كانت ساحرة أيضًا لكنها كانت تخفي أمرها عن الجميع، سألناها عن مكانها فأخبرتنا أنّها رحلت وطلبت منها أن ترعانا٣ نقطةلكنني لم أصدقها أبدًا.
, -ولماذا أنتن هنا؟
, -منذ أسابيع فُتح أمامنا درب غريب، كانت بوابته معلّقة في الهواء، تتلاعب بألوانها الخلابة، جذبتنا إليها كالمغناطيس، دلفنا منها أنا وشقيقاتي وأُغلقت البوابة فجأة فور دخولنا، فالتقينا بجوادٍ غريبٍ أسودَ على ظهره بقعة مبرقشة ميّزته عن أي خيل رأيتها من قبل، وكان له ذيل طويل جدًا يلامس الأرض، كان يتحدث بلغة البشر!، واسمه "البحر" ألقت عليه شقيقتي "ياقوت" تعويذة وسرنا معه، ركبته "ياقوت"، وكان سريعًا للغاية وكأنّه أمواج بحر تجري٢ علامة التعجب أكملنا سيرنا فعثرنا على فرسين آخرين أسودين مثله كأنّهما خلقا من عتمة الليل، أحدهما له معرفة طويلة ومجدولة بشكل أنيق واسمه "أجدل"، أمّا الآخر فله هيبة وكان اسمه "البرق"، ألقت عليهما "ياقوت" المزيد من التعاويذ جعلتهما طوع أمرها، ويبدو أنهما كانا بؤرتين للشر منذ البداية، فركبناهما حتى وصلنا إلى قرية الدحنون ثُمّ إلى هنا والتقينا بجنّ "ديرينكويو" فازداد نفوذ "ياقوت"، جنّ جنون شقيقاتي، الآن يطلقن على أنفسهن "ساحرات أوبالس"!
, -وماذا حدث بعد ذلك؟
, - تجوّلنا في المملكة، عرفنا أنها مملكة البلاغة، وصلنا إلى قصر مهيب لملكة عظيمة لها عينان كالبلور، لكنها لا ترى بهما، بل ترى بواسطة عيني بومتها الشهباء٢ علامة التعجب
, -الحوراء!
, -نعم هذا اسمها، وابنها الوسيم يحكم مملكة البلاغة
, -"الزاجل الأزرق"؟
, تنهّدت وقالت:
, -نعم، يبدو أنك سمعتِ عنهما
, ثُمّ قالت بهيام وإعجاب:
, - إنّه شابٌ جميل الخُلق والخلقة، آه لو رأيتِ عينيه، ستذوبين حتمًا في غرامه يا "حبيبة"، يبدو أنّ الرعية تحبّه، دمث الخلق ويجلّ أمّه إلى أقصى حدّ
, -وماذا حدث؟
, قالت "زمرّد" بضيق:
, -شقيقاتي الثلاث
, -ماذا فعلن؟
, -استخدمن سحرهن وسيطرن على الجنود، وسيطرن أيضًا على بعض من بالقصر، بعد أن عرفن كلّ شيء عن مملكة البلاغة من بعض ضعاف النفوس استطعن الوصول للمكتبة، قَتل الجنود المسحورون بأمرهن الكثير من الصقور، وحرّقوا البيوت، وسلسلوا النساء، وحبسوا الصغار، داهموا المكتبة العظمى وحطموا جدرانها، كان هناك الكثير من الكهول يحملون الكتب! يهمهم أمرها أكثر من أنفسهم، كانت المملكة تبدو وكأنّها حقلٌ من حقول الموت، وساد جوّها وجوم حزين، قاوم "المغاتير" وكانوا يجابهون الموت والمكاره بشجاعة، لكنّهم لم يتمكنوا من إنقاذ المملكة وحدهم، كادت شقيقتي "ياقوت" أن تقتل "الحوراء" والزاجل الأزرق فصرخت ووقفت أمامهما، وقُلت: "لم يؤذونا فلم نقتلهم؟ ولماذا نعذّبهم؟" حاولت استخدام قواي لردعهم فعاقبتني أختي "ياقوت" بحبسي هنا
, -وأين ذهبت قوّتك؟ ألستِ ساحرة؟
, زفرت بحنقٍ وقالت:
, -عندما تتحد شقيقاتي الثلاث تغلبنني بقوّتهن، أنا أضعف لأنّني وحيدة في مواجهتهن، كنت أبكي عندما ناداني سكان المعبد هنا ودعوني للدخول، ومنذ دخولي هنا وهم يحسنون إليّ، لم أكن أعلم أنّ هناك جنًا صالحًا، ظننتهم جميعًا كهؤلاء الذين٢ نقطةينقلون أخبار البشر لشقيقاتي ويؤذونهم، كل ليلة يجلسن مع هؤلاء الجن ويسمعن أخبار البشر ويضحكن ويقهقهن٣ نقطة
, -هل هم المجاهيم؟
, -لا٣ نقطةإنّهم من عشيرة أخرى
, -ما اسمهم؟
, -لهم أسماء عديدة، وهم من العُمّار يا "حبيبة"، الجنّ معنا دائمًا، بعضهم يجاورنا بسلام، وبعضهم يتجسس على حيواتنا، يعيشون معنا في كلّ مكان، أركان البيوت، تحت الظلال، في الظلام، هنا وهناك، يروننا ويسمعوننا، في كلّ مكان يختفون ويراقبون، يروننا على كل أحوالنا في حزننا وفرحنا وفي لحظات انكبابنا على المعاصي، يأكلون بعد أن ننتهي من طعامنا فتُكسى العظام لحمًا لهم٣ نقطةلكننا أقوى منهم
, -أعرف هذا فدوام ذكر **** حصن لنا منهم، أنا لا أخشاهم، لديّ يقين أنني أقوى منهم
, -يا لك من شجاعة! ظننتك سترتجفين!
,
, ثم طالعتها بضيق فجأة وقالت:
, -أرأيتِ؟ لقد أجبتك عن أسئلتك ولم أعرف قصّتك بعد، لماذا أنتِ هنا يا "حبيبة"؟
, -أنا "مُحاربة"
, -حقًا؟ استدعاك كتاب من كتب تلك المكتبة كما يقولون؟
, -نعم
, - وأحضرك صقر من تلك الصقور التي٣ نقطة
, ثُمّ تمعّضت ملامحها فسألتها "حبيبة":
, -التي ماذا؟
, -التي حبسها الجن في كهوف الجبال بعد أن حرّقوا أجنحتها بالنار
, -يا إلهي٣ نقطةأين تلك الكهوف؟ وأين هذا الجبل؟
, -هناك قرب النهر الأخضر، محبوسون مع تلك المرأة الحبلى التي عثروا عليها
, -ماذا؟
, -يبدو أنّها في شهرها الأخير من الحمل، كم أشفق عليها٢ نقطةلا أدري من أين أحضروها، ولا أدري لماذا تحبسها شقيقاتي هناك!
, -ما اسمها؟
, هزّت "زمرّد" كتفيها بلا مبالة وقالت:
, -لا أعرف
, ثُمّ رفعت حاجبيها وقالت:
, -لكنّني أستطيع أن أعرف
, ثُمّ عادت وأغمضت عينيها قائلة:
, - لكنني٣ نقطة لا أريد أن أعرف ٤ نقطةفي الحقيقة لا أهتم٢ نقطةصرت لا أهتم يا عزيزتي
, سألتها "حبيبة":
, -وكيف لكِ أن تعرفي وأنتِ محبوسةٌ هنا؟
, -الجنّ يا عزيزتي هنا يأتونني بالأخبار، كما أنني لم أفقد قوّتي كلها، أنا فقط أضعف من شقيقاتي الثلاث، لكنني ما زلت٣ نقطةساحرة!
, ثُم طالعتها بعينيها الخضراوين وأخفضتهما سريعًا وقالت:
, -أستطيع أن أخرجك من هنا
, -رغم أنّك لا تستطيعين إخراج نفسك٢ علامة التعجب
, -نعم
, -كيف؟
, قرّبت "زمرّد" وجهها من وجه "حبيبة" وقالت:
, -بعض الألاعيب التي علمتنا إياها العجوز التي أخبرتك عنها٣ نقطة لا تستهيني بقوّتي وإن كانت أختي "ياقوت" تفوقني في قوّتها!
, ثُمّ أردفت:
, - ليت هذا الدرب يُفتح مرّة أخرى لأعود لبيتنا، لأنتظر عودة أمي وأبي، ربّما لم تقتلهما الساحرة٢ نقطةما زال لدي أمل
, ثُم ارتجف صوتها وهي تقول:
, -يظنون أنّ الساحرة سعيدة لأنّها تستطيع فعل أي شيء، لكنني تعيسه٣ نقطةأنا تعيسة للغاية.
, ترقرقت الدموع في عينيها، أرادت "حبيبة" أن تخفف عنها، لكنّ "زمرّد" كانت تحملق في الجدار بحزن شديد، وقفت فجأة وسارت تجاه كوّة بالحائط ومدّت يدها وأخرجت مرآة بديعة الشّكل لها إطار مذهّب وعليه نقوش خلابة، طالعت وجهها في المرآة، عدّلت شعر رأسها والوشاح عليه، مسحت دموعها بكفيّها، مطت شفتيها ومسحتهما بطرف لسانها، ثم حرّكت وجهها يمينًا ويسارًا واختلست ابتسامة، ثُم أعطتها لـ"حبيبة" وقالت لها:
, -خذي
, -لا أحتاج لمرآة
, قهقهت "زمرّد" واستدارت قائلة لها:
, - انظري لنفسك في المرآة!
, رفعت "حبيبة" المرآة أمام وجهها وفوجئت بصورة "زمرّد" تتحرّك أمامها، حدّثتها "زمرّد" من داخل المرآة وضحكت لها، فوقفت "حبيبة" تحرّك رأسها بارتباكٍ بين ظهر"زمرّد" أمامها وبين صورة وجهها المتحرّكة في المرآة، استدارت"زمرّد" مرّة أخرى وقالت لها:
, -سنتواصل معًا من خلال هذه المرآة، وانتبهي لها، هي مرآة أمام الجميع، لا تخبري أيّ شخصٍ عنها.
, ثُمّ رفعت يديها فجأة وكررت كلامًا غريبًا لم تفهم "حبيبة" كنهه، وفي لحظات كانت "حبيبة" فوق سطح الأرض، ووسط السوق، سارت متخبّطة من شارع لآخر بالقرية، كانت تمرّ بحالة من التيه والتشتت، حتى أنّها دارت حول البيوت أكثر من مرّة، وأخيرًا وجدت نفسها أمام السيّد "بركات" الذي شهق فور أن رآها وانزعج للغاية، كانت نظراته لها غريبة، ولم يوجّه لها كلمة واحدة!، أخفت المرآة التي أعطتها لها "زمرّد" في حقيبتها وأسرعت تهرول خارجة من قرية "الدحنون" فتعجّب من فرارها من أمامه!، وأسرعت إلى البستان، لا بدّ أن تتحدّث مع "يُوسف" الآن وبسرعة.
, ٥ العلامة النجمية
, دلفت"حبيبة" البستان كالإعصار، كانت تركض كغزالٍ يحاول الفرار من قنّاصٍ يحاول افتراسه، الدموع تتصارع على حافّة جفنيها لكنّها تأبى أن تُطلق سراحها٣ نقطةلن تبكي الآن٢ نقطةلن تبكي. صاحت تناديه فأقبل عليها مسرعًا وقد انقبض صدره لما رأى ما بدا على وجهها من فزع، ركعت واستندت على ركبتيها بكفّيها لتلتقط أنفاسها، أوجعها صدرها فاعتدلت ووضعت كفّها تحت ضلوعها من الألم، بعد أن هدأت قليلًا سألها محاولًا أن يعرف منها ما خلف خوفها وفزعها بتلك الطريقة:
, -أين كنتِ يا آنسة "حبيبة"؟
, -في مدينة "ديرينكويو"
, -يا إلهي! أين٢ نقطةأين٢ نقطةلا بدّ أن أذهب إلى هناك
, -لا أظنها ستعجبك
, -بل ستعجبني! أنسيتِ أنني قد كتبت عنها٣ نقطةلأنها أعجبتني!
, طالعته بضيق كانت سيماء الارتباك تصاحب كلماتها وهي تقول:
, -لم تُعجبني٢ نقطةليتك ما كتبت عنها ولا عن دروب أُوبال
, -يبدو أنّك مررتِ بلحظات صعبة هناك
, أجابته تعابير وجهها التي كانت أصدق من الكلمات، مرّت "حبيبة" بالفعل بلحظات صعبة، وخاصّة عندما أرتها "ياقوت" ما حدث لمملكة البلاغة، سألها "يوسف":
, -بمن التقيتِ هناك؟
, -"ياقوت" و "زمرّد"٢ نقطةساحرات "أوبالس"
, -ماذا؟ هل أصبحن ساحرات أوبالس! وما الذي أتى بهن إلى مدينة ديرينكويو٢ علامة التعجب تلك المدينة يسكنها الجن فقط!
, -أعرف، وعرفت أنهن لسن من الجن بل هنّ من أرض أُوبال، يبدو أنّ خيالك واسع جدًا أيها الكاتب!
, فرك "يوسف" جبهته وطلب منها أن تقصّ عليه كلّ شيء بالتفصيل، فبدأت تقصّ عليه كلّ شاردة وواردة مرّت بها منذ أن غادرت البستان خلف "بركات"، كان "يوسف" ينصت إليها باهتمام شديد، قال بعد أن أنهت كلامها المستفيض وهو يقلّب المرآة بين يديه، والتي لم تُظهر وجه "زمرّد" له:
, -إذًا سقطتْ مملكة البلاغة، والسلطان الآن على الأرض هنا لساحرات "أوبالس" كما اخترن لأنفسهن اللقب
, -للأسف٣ نقطةنعم
, -يبدو أن قوّة "ياقوت" بلغت ذروتها، وهي تسيطر بطريقة ما على الكثيرين هنا وتسخرّهم لخدمتها
, -وما مصدر قوّتها؟
, - حجر "أُوبال"
, -كيف هذا؟
, -لأنّ الفتاة التي عثرت على الحجر مُنِحت قوّة عظيمة ومميزات عديدة عندما عَثرت عليه وهذا حدث قبل أن تسلك الدروب، وتلك المميزات ستبقى لديها وستُورّث لذريتها، وهي تزيد وتنقص أحيانًا
, قاطعته قائلة:
, -إذًا "ياقوت" هي الفتاة التي عثرت على حجر أُوبال
, -لا
, -من إذًا؟
, -"مَيسان"، أمّها٣ نقطة فقد تزوجت من شاب التقت به في درب من دروب "أوبال"، وعاشت معه على أرض أوبال، في سلام وأمان وأنجبت خمس فتياتِ صغيراتٍ بريئاتٍ أطلقت عليهن أسماء الأحجار الكريمة التي تحبّها، وعاشت في سعادةٍ بعد أن مرّت بالكثير خلال رحلاتها في الدروب، وفي يوم مشئوم خرج زوجها واختفى فجأة، وتركها وحيدة٢ نقطة
, -وماذا بعد؟
, -لا شيء!
, قالت "حبيبة" بعصبيةٍ شديدةٍ أزعجته للغاية:
, -لم تُكملها طبعًا!
, -للأسف، توقفت هنا٣ نقطةَترَكْتهنّ فتيات صغيرات حول أمهن يمسكن بأطراف ثوبها ويبكين بجوار المدفأة، ولكن كما حدث في رواياتي الأخرى، الشخوص أكملت مسارها هنا على أرض هذه المملكة العجيبة! وكما أخبرتكِ"زمرد"، هناك عجوز خبيثة ظهرت فجأة، قامت بزيارتهن، ويبدو أنّها أبعدت أمهن عنهن، وربما قتلتها، وعلّمتهن السحر الأسود
, -ولكن٣ نقطة
, -ماذا؟
, -أنت تقول أنهن خمس فتيات!، و"زمرّد" لم تخبرني بهذا! ما عرفته أنهن أربعة فقط!
, غمغم حائرًا وخيم عليهما صمت ثقيل، قالت "حبيبة" بعد أن زفرت بحنق وهي تخفي المرآة مرّة أخرى في حقيبتها:
, -قبل أن أفقد قدرتي على التركيز، سأخبرك بمختصر ما فهمته الآن
, -تفضّلي
, -أنت قٌمت بتأليف ست روايات: رواية قلعة الدَّيجور، رواية خيول الكحيلان، رواية الحزاورة، رواية قرية الدحنون، رواية القلب المخلص، وأخيرًا رواية دروب أُوبال ولا يوجد نهاية لأي واحدةٍ منها
, -صحيح
, -أحداث الروايات تطورت، الشخوص أكملوا رحلتهم من تلقاء أنفسهم هنا، وعندما فُتحت دروب أوبال سلكتها خيول الكحيلان وانتقلت الساحرات من خلالها إلى مملكة البلاغة وأطلقن على أنفسهن ساحرات أوبالس و سيطرن بتعاويذهنّ على شخوص رواياتك الأخرى، وعلى خيول الكحيلان، وسحرن أيضًا سكان قلعة الدَّيجور، وسكان قرية الدحنون من البشر ومن تحتها من الجن حيث يسكنون مدينة ديرينكويو، وسخرّن كلّ هذا لاحتلال مملكة البلاغة وتدمير المكتبة العظمى والكتب.
, -يبدو أنّ هذا ما حدث بالفعل
, -بقي فقط "مُوراي" من رواية الحزاورة، و"كِرشاب" من رواية القلب المخلص بعيدًا عن تأثير الساحرات، وكذا "جلنار" و"آسر"
, -ولا تنسِ أنّ "عُبيدة" لم يتأثر بالسحر هو أيضًا رغم تأثر خيوله به
, قالت بصوت تشوبه السخرية:
, -هل هناك روايات أخرى ستظهر لنا فجأة؟
, -وكيف لي أن أعرف يا آنسة "حبيبة"؟
, قالت بمرارة:
, -عمومًا يكفينا هؤلاء٣ نقطةأرجوك
, قال بحرجٍ ممزوج بضيقٍ شديد:
, -وكأنّ الأمر بيدي٢ علامة التعجب ما تخيلت يومًا أن أقف هذا الموقف حائرًا بين شخوص رواياتي! وكيف لي أن أعرف بوجود هذه المملكة الغريبة والعجيبة!
, ثُمّ أردف بغضب هادر:
, -كل كاتب حرّ فيما يكتبه، أنا حرّ! ليس لكِ أن تحاسبيني! أكتب وأمحو كما يحلو لي، أعدّل وأبدّل إن رأيت فكرة أفضل، أمزّق أوراق رواياتي أو أحرقها هذا ليس من شأنك٢ علامة التعجب
, كانت تلك هي المرّة الأولى التي يثور فيها على "حبيبة"، استدار بعد كلماته وطالع البستان ومن فيه، قلّب عينيه في وجوههم، مرّ على الخيول بطرفه ثُمّ نكّس رأسه، وكانت "حبيبة" تقف صامته فقد شعرت بالحرج لأنّها أغضبته، وفي الحقيقة هي كانت تعلم يقينًا أنّه لم يقصد أيًّا من هذا، قالت بصوت خافت:
, -آسفة، سامحني لسخافتي، أنا قلقة فقط وأنتظر في كلّ لحظة مفاجأةٍ جديدة٣ نقطةآسفة
, كانت تلك الكلمات كطوق نجاة له، التفت إليها كطفل صغير يسهل إرضاؤه بكلمة، وخاصّة ممن يحبّ، وكانت لا تدرك حقًا مقدار حبّه لها!، قال بابتسامة كسيرة:
, -لا عليكِ، أقدّر ما أنت فيه من فزع، وخاصّة بعد سقوط مملكة البلاغة
, قالت برجاء:
, -لا بدّ أن تساعدني، أنت وحدك تعرف الطريقة التي سنستطيع بها القضاء على ساحرات "أُوبالس" وتحرير حرّاس المكتبة لتعود مملكة البلاغة لسابق عهدها
, قال في كِياسة:
, -سأذهب إلى مدينة "ديرينكويو"، للقاء ساحرات "أُوبالس"، ولكن لابد أولًا أن يكون لدينا دعم من المجاهيم، يبدو أنني سأخلع تلك القلادة وأعود للقاءِ "جلاديولس" في قلعة الدَّيجور، أحتاج لمحاورتها بطريقةٍ مختلفة، لأساومها وأكتسب تأييدها لنا هي وحلفاؤها من "المجاهيم"٣ نقطةأحتاج فقط إلى شيء له قيمة تبحث هي عنه٢ نقطةمثلًا كتاب "أيجيدور"؟
, انتفضت "حبيبة" ووقفت قبالته متأهّبةً وقالت في تنمّر:
, -لن تلمس الكتاب أبدًا، لا أنت ولا غيرك
, قال وقد فاجأته ردّة فعلها:
, -عفوًا آنسة "حبيبة"، لم أقصد كتابك نفسه، بل نسخة مقلّدة منه فهم لا يعرفون شكله، نحتاج لمصارحة الرفاق هنا بالبستان بما يحدث، ليساعدونا في تنفيذ نسخة مطابقة للكتاب، وبعدها سأخلع القلادة وليأخذني المجاهيم إلى هناك٣ نقطة
, -لن أسلّم الكتاب لأحد، لا تتحدث معهم عن كتابي فأنا لم أرهِ لأي واحدٍ منهم حتى الآن!
, قال بحزم:
, -إذًا سأذهب بدونه
, قالت بقلق:
, -وماذا لو عذّبوك مرّة أخرى؟
, -سأتحمّل، فأنا مسئول بطريقة ما عن تلك الفوضى التي حدثت هنا، لو أتممت رواياتي بنهاياتها لكان الحال أفضل، سأتحمل من٣ نقطةمن أجل سلامتك، لا بدّ أن تعود مملكة البلاغة لسابق عهدها، والمكتبة وحرّاسها، والصقور لتتمكني من استرداد كلمات كتاب "أيجيدور" وتعودي إلى بيتك
, جلسا كزهرتين نديتين تحت شجرة وارفة الظلال، لا تهتزّ لهما ورقة، ولا تنحني لهما ساق رغم هبوب الرياح، بعيدان في جلستيهما ربّما، بينما اقترب ظلاهما المرسومان على الأرض أمامهما، عيناها معلّقتان بنُدف السحاب في السماء، بينما عيناه ثابتة على ظلّها الممتد أمامه على العشب الأخضر، وقد رماه ضوء الشمس الحاني أمامه وكأنّه يشعر به، فاحت رائحة الحبّ من نفس "يوسف"، بينما غلّقت "حبيبة" أوراقها على قطرات الندى التي احتبستها مقلتيها، ودّ لو طال حديثه معها، ليس عن الروايات بل عنهما٢ نقطةعنها٣ نقطةعن حبيبته "حبيبة" التي يعشقها منذ عامين في صمت، كاد يبوح لها بمكنون صدره، لكنّ الكلام الآن يخذله، أراد أن يعرف هل هي بخير حقًا كما تبدو له قويّة ومحاربة؟ أم هي خائفة وتحتاج إليه؟ هل تشعر به؟، هل أدركت أنّه يُحبّها؟، وهل تذكّرته!
, صارا كزورقين تائهين أبحرا معًا رغم اختلاف الشراع، أشاحت بوجهها عنه، بينما التفت إليها بكل وجدانه، أغمض عينيه ومَخر عباب فكره بزورقٍ خلف صورة وجهها التي كانت تتهادى في بحر عينيه وقد حفظتها مقلتاه وخبّأتها خلف جفنيه، لا يجرؤ على فتح عينيه ناظرًا إليها ليتملّى بصورتها، لكنّ خياله يجرؤ!٣ نقطةويُطالعها في أحلامه بشغف، كانت قريبة منه دائمًا رغم بعدها عنه! والآن رغم قربها هي بعيدة عنه! علق قلبه وها هو يطوف بقلبها يترقّب منها طلّة أو عطفةً تجاهه، انتشل نفسه من أمواج كادت تغرقه وعاد يفكّر فيما ألمّ بهما٣ نقطةماذا سيفعلان؟، وكيف سيعيدان لمملكة البلاغة مجدها وسلطانها مرّة أخرى، وهل سيستطيعان وضع نهاية لتلك المتاهة التي أصبحا يدوران فيها٣ نقطة
, قطعت "حبيبة" صمتها وقالت:
, -وكأنّها ستمطر!
, لم يجبها "يوسف" في الحال فقد كان يتتبع فكرة تموج في رأسه، بعد لحظات قال مضيّقًا عينيه:
, -لقد استدرجكِ "بركات"، كان يعرف أنّك ستتبعينه
, - أتظنّ هذا؟ ربّما، فلقد كان لذكر اسمه وقعٌ كبير على "ياقوت"، أما زلت لا تذكره؟
, -لا، ولكن ملامحه تبدو لي مألوفة، وكأنّه يشبه٣ نقطة
, -يشبه من؟
, -لا تشغلي بالك، ربّما تهيؤات٢ نقطةعلى العموم، يبدو أن وراءه سرًّا يخفيه عنّا، احذريه آنستي٣ نقطةاحذريه
, تناهى إلى سمعهما صوت صهيل مجلجل، لقد وصل "البرق" مقتحمًا أشجار البستان بهيئته المهيبة، وكأنّ عينيه تصدران شررًا من نار يكاد يحرق من يطيل النظر إليهما، كان فرسًا قويًا وعنيدًا وأسود كالليل البهيم، أتى يحمل الأمير"كِرشاب" الذي كان يشغله أمر اختفاء زوجته.
, ترجل "كِرشاب" وسار بخيلاء بينما أقبل الجميع عليه، صهل "حيزوم" واقترب من "البرق" وسأله:
, -لماذا تركتنا أمس؟
, -وكيف سيعود الأمير "كِرشاب" لقصره؟ سيرًا على الأقدام!
, -منذ متى وأنت مع هذا الأمير؟ وكيف عثر عليك؟
, رد "البرق" بخشونة:
, -ليس هذا من شأنك يا "حيزوم"!
, قاسه "حيزوم" بنظراته ثُمّ سأله:
, -أين "البحر"؟ و"أجدل"، و"المسوم"؟
, -لا أدري؟
, -كيف لا تدري وقد انصرفوا معك!
, حدّجه "البرق" بعينين تفيضان حقدًا وقال:
, -قلت لك لا أدري، ولا ترفع صوتك عليّ، ولتنس أمر الزعامة!
, -ماذا تعني؟
, قال "البرق" في لهجة بادية القسوة:
, -لستُ تحت إمرتك، ولا سلطان لك عليّ، لقد تساوت الرؤوس، لم تعد أفضلنا!
, -كانت متساوية، لم أشعركم يومًا أني أفضلكم، وخاصّة أنت!٢ نقطةلم نختلف يومًا يا "برق"!
, -كنا دومًا على خلاف لكنّك لا ترى إلّا نفسك
, -لقد تغيّرت يا صديقي٢ علامة التعجبوكأنّك لست البرق!
, -بل أنا البرق، ولستُ بصديقك.
, -ماذا حدث لك! أنسيت؟ أنسيت عهدنا ألّا نفترق؟ ها هو سيّدنا قد عاد وبدأنا نسترد ذاكرتنا، حاول أن تتحدّث معه وستتذكّر كل شيء
, قال "البرق" في نبرات قاطعة كالسيف:
, -لا تقل سيّدنا! هو سيّدك إن شئت، أمّا أنا فلا سيّد لي٢ نقطةأتفهم!، انظر إلينا، لقد تعلّمنا لغتهم، ونستطيع أن نعلّم غيرنا من الخيول
, -ماذا تعني؟ أخبرني عما يدور برأسك
, أطبق "البرق" شفتيه اصرارًا وحزمًا وقال:
, -ليس الآن، ولكن يومًا ما ستأتيني بنفسك وتقدّم الولاء لي٣ نقطةتذكّر هذا جيّدًا
, انصرف"البرق" يهملج بعصبية شديدة، بينما وقف "حيزوم" يشيعه بنظرات قلقة وحزينة، وقد حطّ على قلبه حزن عميق., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٤

"بستان بركات"
, بردٌ قارس يلف المكان، تزاحمت الغيمات فوق البستان، تُدافع بعضها البعض طمعًا في سكب ما يُثقلها من الماء لتتخفف، حُجبت الشمس وهبّت رياحٌ شديدة البرودة أطاحت ببعض الأغصان ودحرجتها على أرض البستان، أوراق الأشجار الجافة تطير في الهواء وترشق الوجوه والأجساد بأطرافها المدببة، انطلق هزيم الرعد محذّرًا بقرب هطول المطر الشديد فارتجّت الأجواء، كان "الحزاورة" يراقبون ضوء البرق وهو يمزّق صفحة السماء، أمطرت السماء بغزارة فابتل العشب، لجأ الجميع لبيت "بركات"، كانت تلك المرّة الأولى التي يجتمعون فيها هناك، بيت بسيط لكنّه مريح، كانت هناك مدفأة في ركن صالة البيت الواسعة، قرر "موراي" أن يشعل نارًا ليتدفّئوا بها، عاونه "عُبيدة"، جلس الجميع في حلقة حول النّار يستمدّون منها الدفء، حتى الخيول تجمّعت تحت مظلّة البيت المصنوعة من جريد النخل، لم يدخلوهم البيت بالطبع، فالمكان لا يناسبهم، مما أغضب "البرق" للغاية فوقف يضرب الأرض بحافره غيظًا، أراد أن يتابع كلّ كلمة في حوار "كِرشاب" مع "يُوسف".
, فرقع الحطب في المدفأة والنار تأكل أطرافه، ألسنة اللهب العالية أضاءت المكان بلون قرمزي، وكان "الحزاورة" يصطفّون أمامها ويراقبون أطراف اللهب اللوزية وهي تتراقص أمام أعينهم، ويتابعون ما يفعله موراي بالأغصان و أوراق الأشجار قبل أن يُلقي بها في قلب النّار وكيف كان يهتم بتنظيف المدخنة قبل كلّ هذا، كان "موراي" قد بذل جهدًا في بناء هذا البيت عندما قرر السيّد "بركات" الانتقال للبستان، تذكّر الآن كيف كان هذا الرجل يتعجّل بناءه، وكيف جلبوا العديد من العمّال لينهوا البناء بسرعة، رماه بنظرة سريعة فلاحظ أنّه يراقب "كِرشاب" بارتياب، كما لاحظ أنّ "كِرشاب" يتبادل النظرات مع "جلنار" وكأن بينهما حوارًا صامتًا، أمّا "يوسف" فكانت عيناه على "بركات" يتفرّس ملامحه بتمعّن شديد، "حبيبة" كانت حزينة وهو لا يدري لماذا، قرر أن يسأل "يوسف" عن سبب حزنها فلقد رآه يتحدّث إليها قبل وصول الأمير "كِرشاب" للبستان، العجوز"مِسكة" كانت تتدثّر بشالٍ من الصوف وتنقر الأرض بعود رفيع من الحطب، تنتظر أحدهم أن يبدأ الحوار لتفتح أذنيها على وسعهما وتنصت إليه باهتمام كعادتها وتحفظه، كان يعرف هذا عنها، فهي فضولية جدًا وتحب تتبع الأخبار، عندما استقبلته في دارها بالقرية،كانت تسأله كلّ يوم بعد أن يعود للدار عن كلّ شيء في قرية "الدحنون"، لكنها في النهاية طيّبة لا تؤذي أحدًا، كما أنّها تعتني بالصغار، ولم تمنعه يومًا من الخروج أو التجوال هنا وهناك عندما كان يقيم معها، نسيها أهل القرية، كانوا لا يطرقون بابها، لم يرفق بحالها أحد، وكان "موراي" من يفعل هذا.
, صار البيت أكثر دفئًا، حتى أنّ "رفيف" خرجت من غرفتها متدثرة بغطاء صوفي خوخي اللون واقتربت تحمل كتابًا عتيقًا، حيتهم بهزّة رأس وابتسامة، وتبادلت نظرة سريعة مع أبيها ثُمّ جلست بجوار "حبيبة" تقرأ في كِتابها بتركيز شديد، كانت الفتاة جميلة، وهادئة، لها عينان صافيتان كماء البحر الرائق، وثغر رقيقٌ بسّام، خطفت أنظار الجميع فتعلّقت أعينهم بوجهها للحظات،كان "كِرشاب" أوّل من تنحنح وتحدّث قائلًا:
, -والآن، متى سنبدأ البحث عن زوجتي يا "يوسف"؟ دلّنا على أوّل خيط أرجوك.
, اعتدل "يوسف" في جلسته وقال لـ"كِرشاب":
, -أخبرني أوّلًا كيف التقيت بزوجتك، ثُمّ أخبرني كيف اختفت
, وقف "كِرشاب" وسار نحو النافذة، كان "البرق" يقف أمامه مباشرة خارج المنزل، تبادلا النظرات للحظات قصيرة فهدأ الجواد قليلًا وبدأ "كِرشاب"يحكي:
, -منذ عام، وبينما كنت أتجول في إحدى القرى متخفيًّا بأمر من أخي لأطمئن على الرعية، مررت بقرية اشتهرت بتجارة التوابل، والأقمشة، والأصباغ، كانت الأجواء تعبق برائحة الريحان، والقرنفل، والزنجبيل المطحون، والأقمشة بألوانها الزاهية تزيّن الدكاكين، الوجوه ضاحكة، والنفوس تملؤها السعادة، كان يومًا مبهجًا، وكان الطقس لطيفًا، وفجأة! رأيتها في السوق أمامي، تتنقّل بخفّةٍ من دكان لآخر رغم عرجتها الخفيفة التي لاحظتها في الحال، تبتسم كطفل بريء جن جنونه لعثوره على متجر الحلوى التي يحبّها، وكانت حلواها المفضلة هي التوابل، فحبيبتي تحبّ الطهي وتعشق التوابل.
, ابتسم شاردًا وكأنّها تمثّلت أمامه، ثُمّ أردف قائلًا:
, -كنت أتابعها بعينيّ وقلبي، وكنت أتخفّى بملابس بسيطة لأسير بحرّية ودون أن يعرفني أحد، وقفتُ أمامها بجوار التوابل المعروضة في أحد الدكاكين فظنتني البائع، سألتني عن الأسعار فأجبتها وكنت لا أعرف قيمة كلّ صنفٍ منها فبالغتُ حد اندهاشها، وأخطأت في أسماء التوابل، وقف البائع يضحك، وهي تطالعني في ذهول، ولمّا انتبهتْ لوجود البائع وضعت يدها على فمها خجلًا وارتبكت، وهرولت خارج الدكّان، تبعتها لآخر السوق وسألت "آسر" عن اسمها، فقد كان معها هو و"جلنار"، أخبرني عن اسمها واسم أبيها وعرفت أنّها تعيش في "قلعة الدَّيجور"، وكنّا نسمع أخبارها من التجار، عدت لقصري وبتُّ ليلة لم أذق فيها طعم النوم، خرجت في الصباح وخفقات الأمل تتراقص بين جوانحي قاصدًا قلعة الدَّيجور، التقيت أولًا بشقيقتها الكُبرى الأميرة "جلاديولس"، ودار بيننا حوار طويل، وقبل أن أنصرف أخبرتها برغبتي في خِطبة شقيقتها "هيدرانجيا"
, قاطعه "يوسف" سائلًا:
, -وما كان رد فعل الأميرة "جلاديولس" عندما طلبت شقيقتها للزواج؟
, -لم أنسَ أبدًا تلك النظرة التي سكنت عينيها عندما نطقت باسم "هيدرانجيا"، وكأنني طعنتها بخنجرٍ مسموم
, -لماذا؟
, -لا أدري
, -وماذا حدث بعد ذلك؟
, -أبلغتني بالرفض في الحال قبل أن أنصرف، ولم تناقشني في الأمر، عدت مرّات ومنعني الحرّاس من الدخول!
, -وهل وافق أهلك على زواجك من أميرة غير نوبية؟
, -في البداية رفضوا، لكنهم مع إصراري وإلحاحي وافقوا، وخاصّة بعد أن أقنعهم أخي، فهو يرى أن تلك الزيجة ستضيف لملكه الكثير، وستوسّع نفوذ العائلة بالمنطقة، قرر أخي أن يزور "جلاديولس" في موكب مهيب وتحدّث معها ومع وزيرها طويلًا، عقد معهما الكثير من الصفقات وتمّ الاتفاق على الكثير من القرارات الجديدة التي تخص المنطقة وما حولها، فكلاهما لديه نفوذ كبير، ومال وفير، و"جلاديولس" تعشق السلطة وتطلبها تماما مثله.
, -وأمر الزواج؟
, -كانت تؤجل الحديث عنه بطريقة ذكيّة، حتى ظهرت "هيدرانجيا" في زيارة لنا وصرّحت بقبولها للزواج مني أمام الجميع، أدركتُ حينها أن "جلاديولس" هي التي تعيق زواجنا، بذلت قصارى جهدي ليتم هذا الزواج، وتمّ في النهاية بمباركة أهلي، أمّا "جلاديولس" فوافقت على مضض، وانتقلت "هيدرانجيا" لتعيش معي في قصري، وكانت سعيدة بخروجها من قلعة الدَّيجور٢ نقطةأخبرتني بهذا أكثر من مرّة
, تنحنحت "جلنار" وقالت وهي تمرر عينيها على وجوه الجميع بفخر:
, -انتقلنا معها أنا و"آسر"، فهي لا تستغني عنّا أبدًا، وكنا جميعًا سعداء لانتقالنا لقصر الأمير "كِرشاب"
, واصل"كِرشاب" كلامه قائلًا:
, -عشنا ننهل من السعادة نهلًا، وأفاض الحبّ علينا فغرقنا في أنهاره
, ثُمّ نكس رأسه وتوقف عن الكلام، قال "يوسف" يطمئنه:
, -سنعثر عليها إن شاء ****، لا تقلق
, اغرورقت عينا "كِرشاب" وهو يحكي لهم عمّا فعلته ساحرات "أُوبالس" في كل مكان فور ظهورهن، دمار، حريق، قتل، أخبرهم عمّا فعلنه بقصره وقصر أخيه، وكيف أنهن سخّرن الجنود بإلقاء التعاويذ عليهم فأطاعوهن، حبسوا شقيقه وأمّه، وفرّ هو عندما عثر على "البرق"، توقف عن الكلام ليلتقط أنفاسه فقد كان في غاية الانفعال، ثُم أردف قائلًا:
, -في الحقيقة لولا "البرق" وسرعته لكنت الآن في السجن مع أهلي، أسرعت به تجاه قلعة الدَّيجور حيث كانت زوجتي في زيارة أختها "جلاديولس"، فوجدت كلّ من بالقلعة قد نسوها تمامًا، لا يعرفون من هي "هيدرانجيا"٢ علامة التعجب إلّا "جلاديولس" ووزيرها لم ينسيا، و"جلنار" و"آسر" كذلك، بحثنا عنها في القلعة كلّها، حتى الزنازين! ولم نجد لها أثرًا، مرّت بنا أيّام نحسات سمعنا فيها عن سقوط مملكة أخرى وقتل حرّاسها، وتدمير قصورها، وحريق عظيم في مكتبة كبيرة، استعانت "جلاديولس" ببعض السحرة، واستعانت بالجنّ، ثُمّ ظهر لها ولنا المجاهيم، عرّفونا بأنفسهم، وأنّهم من الجنّ، وأخبرونا أنّ هناك محاربًا سيظهر ومعه كتاب "أيجيدور"، وهي تعني أنقذيني، لو تمّ حماية هذا المحارب، وتمكن من استرداد كلمات كتابه سنتمكن من إنقاذ أنفسنا، ومُلكنا، وأميرتنا المأسورة "هيدرانجيا"،ولهذا "جلاديولس" تبحث عن "حبيبة" والكتاب
, سأله "يوسف":
, -وأين تقيم الآن؟
, أجابه "كِرشاب" وهو يطالعه بطرف عينه:
, -في مكانٍ آمن، ومعي "البرق" وبعض جنودي
, قاطعه "عُبيدة" وكان صامتًا على غير عادته وسأله:
, -ولكن٣ نقطةعندما أتيتم لنجدتنا أنا و"يوسف" لتهربونا من سجن القلعة،كان معك"حيزوم" أيضًا، فكيف عثرت عليه؟
, أجابه "كِرشاب":
, -هو عثر علينا بنفسه! ألم يخبرك يا "عُبيدة"؟ لم أكن على علم بأنّهم خيولك، ولم أعرف أنّ "أبهر" أيضًا منهم حتى أخبرني "موراي"، و"موراي" بنفسه هو أيضًا من تبعني وأنا أسير مع حرّاسي وأخبرني عن خطته لتهريبكما، وتعاونّا معًا بعد أن أخبرت "جلنار" و"آسر"
, قال "عُبيدة" وهو يطالع "كِرشاب" متفرسًا في ملامحه:
, -لا٣ نقطةلم يخبرني "حيزوم"
, سار"كِرشاب" نحو النافذة، ثُم قال:
, -لا بدّ أن نعثر عليها فقد اقترب موعد ولادتها، فهي في شهرها الأخير من الحمل
, وهنا صرخت"حبيبة":
, -أنا أعرف مكانها
, انتبه الجميع، واتجهت الأنظار تجاه "حبيبة" التي أسرعت توضح:
, -اليوم التقيت ببعضهم في قرية "الدحنون"، وعلمت أنّ ساحرات "أُوبالس" يحتجزن امرأة في شهرها الأخير من الحمل
, سألها "كِرشاب" متعجبًا:
, -هل أنت على يقين من هذا؟
, -بالتّأكيد
, سألتها "مِسكة" وهي تحملق في وجهها:
, -من تقصدين ببعضهم؟
, -فتاتان يا خالة "مِسكة"، إحداهما قريبة من عمري
, عقدت "مِسكة" حاجبيها وسألتها:
, -أين بالتحديد التقيت بهما يا "حبيبة"؟ أنا أعرف القرية شبرًا شبرًا!
, ترددت "حبيبة" قليلًا، تبادلت مع "يُوسف" نظرة سريعة، كانا قد اتفقا ألّا يخبرا الجميع عن "ديرينكويو"، لكن يبدو أنّها تسرّعت واندفعت في الكلام، قالت بتلعثم:
, -في بيت على أطراف القرية، كُنت أسير خلف غلام صغير يشبه الحزاورة ظننته تائهًا
, اقترب "كِرشاب" منها وسألها:
, -دليني على البيت الآن
, وقف "يوسف" عندما شعر أنّ "كِرشاب" يتحدّث إليها بلهجة آمرة وحال بينهما وقال له:
, -ليس الآن، المطر شديد بالخارج، وهناك عاصفةٌ شديدة، كما أنّ الآنسة "حبيبة" أخبرتني أنّ فتاة منهما خائفة من الخروج من بيتها، هناك خطر يتهددها، فاصبر حتى يتوقف المطر، ولنفكّر معًا في طريقة لا نلفت بها الأنظار، وحتى لا تؤذي الساحرات "هيدرانجيا"
, استجاب له الأمير "كِرشاب"، عاد لمكانه وجلس وقد بدا أكثر توترًا هو و"جلنار" و زوجها "آسر"، أمّا "مِسكة" فعادت للنقر بالعود الذي كان في يدها على الأرض، كانت تخطّ به شيئًا ما، وفور أن انتبهت لما تفعله أسرعت تمسحه بكفّها لتخفيه، تلفتت حولها لترى إن كان أحدهم رأى ما فعلته فاطمأنّت لكونهم جميعًا ينظرون تجاه "كِرشاب" الذي عاد إلى النافذة ووقف يحدّق في السماء،كان المطر قد توقف، التفت تجاه "حبيبة" وقال بحزم:
, -هيّا بنا الآن، لقد توقف المطر
, نطق "بركات" لأوّل مرّة فقد كان ينصت إليهم بهدوء شديد وقال وهو يوقّع كلّ كلمة من كلماته:
, -لن تخرج "حبيبة" من البستان اليوم
, صاح "كِرشاب" غاضبًا:
, -زوجتي في خطر، والوقت يمرّ٢ علامة التعجب
, أضاف "بركات":
, -و"حبيبة" أيضًا ستتعرّض للخطر إذا دخلت قرية الدحنون، هناك عصابة تدبّر لأمر عظيم هناك
, قالت "حبيبة":
, -ولكن٢ نقطةكل شيء في قرية الدحنون طبيعي، وكأنّهم لم يتأثروا بما رواه الأمير "كِرشاب" عن ساحرات أُوبالس والدمار الذي لحق ببعض الأماكن
, ضيّق "بركات" عينيه وقال بحزم شديد:
, -يبدو أنّكِ خُدعتِ بالمظاهر يا ابنتي، سأذهب وحدي أولًا لأتفقدّ القرية والسوق وآتيكم بالأخبار، وبعدها لكِ أن تذهبي إن شئت وفي أيّ وقت.
, قال "موراي" بحماسٍ شديد:
, -سأذهب معك يا سيّد "بركات"، لا بدّ أنّهم يخططون لسرقة المزيد من الصغار
, -لا يا ولدي، ابق أنت هنا، أنت تعلم أنّ بعض من بالقرية يتربصون بك، وينتظرون فرصة للإيقاع بك، أنسيت؟
, هزّ "مُوراي" رأسه وقال:
, -لم أنس هذا أبدًا
, قال "يُوسف" وهو يحدّق في الأرض أمامه:
, -سأذهب معك يا سيّد "بركات"
, طالعته "حبيبة" بنظرات حائرة، كيف سيذهب معه وحده وكان يحذرها منه اليوم!، قالت بعصبية لم تنجح في إخفائها:
, -طالما أنّك ستذهب مع السيد "بركات" سأذهب أنا أيضًا معكما٢ علامة التعجب
, قال "يُوسف" بهدوء:
, -صدقيني، بقاؤك هنا هو الأصوب٢ نقطةثقي بي.
, التفت "بركات" تجاهه وابتسم كما لم يبتسم من قبل، قال وقد بدا للجميع استحسانه للأمر:
, -سنذهب غدًا في أوّل النهار إن شاء ****
, خيّم الصمت مرّة أخرى على الجميع، رغم توقّف المطر كانت الرياح شديدة جدًا، وكان الطقس باردًا للغاية، خرج "الحزاورة" خلف "مِسكة" التي عادت لكوخها لتعدّ الطعام لهم، أما الأمير "كِرشاب" فقد قرر العودة إلى المكان الآمن الذي لجأ إليه بعد أن تم حبس كل من بقصره بأمر من ساحرات "أُوبالس"، لاحقته "جلنار" و زوجها "آسر" ودار بينهم حوار طويل على أطراف البُستان، قررا بعده أنّهما سيخرجان معه إلى المكان الذي يعيش فيه، بدأت "جلنار" و زوجها في جمع أغراضهما، كان "عُبيدة" في تلك اللحظة يتحدّث مع "البرق"، كان يتعجّب من رغبته في البقاء مع "كِرشاب" طوال الوقت، يؤثره عليه! وكأنّه هو من ربّاه واعتنى به وليس "عُبيدة"!
, اقترب منه، وردد اسمه بحنانٍ وهو يمسّد قصبة أنفه برفق، قال "البرق" غاضبًا:
, -ماذا تريد؟
, -اشتقت لصوتك المميّز، كيف أنت يا صديقي؟ أخبرني عمّا حدث لك، لا بد أن نعود معًا ونعثر على البقيّة، فأنتم من خير خيول العرب
, -لسنا من العرب!
, -بل أنتم منهم، أنتم خيول "الكحيلان".لماذا تتنصّل من عروبتك؟
, -لم أتنصّل٣ نقطةفقط أحاول اختيار مستقبلي بنفسي، والمستقبل لـ"أوبالس"
, -وما هو الأوبالس٢ علامة التعجب
, -ستعرف حتمًا٢ نقطةستعرف قريبًا
, تراجع "عُبيدة" خطوة للخلف، كان في غاية الضيق وهو يسأله:
, -وهويتك؟
, -دعك من الهويّة، لا تتحدث عنها الآن أيها الـ٣ نقطةفارس!
, -أشعر أنك تتهكّم
, -ألستَ فارسًا؟
, -بلى أنا فارس عربيٌ وأنتم خيولي!
, -لم نعد خيولك، نحن نختار الآن فرساننا بأنفسنا، لقد فررتَ من لقاء عدوّك!
, طأطأ "عُبيدة" رأسه قائلًا:
, -لأنني كُنت وحدي٣ نقطةكنت وحيدًا والكثرةُ تغلب الشجاعة، لا تستهن بما رأيته، أبي وأمي وأشقائي٣ نقطة كلهم ذبحوا، فقدتهم في لحظات!
, ثُمّ أردف بحماس:
, -ويومًا ما سأعود٢ نقطةسأعود إن شاء ****
, لوى "البرق" عنقه وقال:
, -ابحث لك عن فرس آخر، لن أسمح لك بامتطائي مرّة أخرى، سأختار فارسًا يليق بي وأليق به
, -لقد تغيّرت يا "برق"! لقد ضيّعت باقي الخيول
, -لن نضيع، نحن نعرف أنفسنا ونعرف بعضنا البعض
, صاح "عُبيدة":
, -لماذا تتحدّث بلغة الجمع؟
, -لأنني أمثلهم جميعًا
, -لم يخترك أيّ منهم للزعامة!
, -غدًا سيعرفون كلّ شيء٢ نقطةسيعرفون أنفسهم بحقّ
, -وكيف ستعرفون أنفسكم؟ أليست الهوية هي إحساس الشخص بأنه يعرف من هو؟ وإلى أين يتجه
, -نحن نعرف أنفسنا بالفعل!
, -ومن أنتم؟
, -نحن خيول "أوبالس"
, زفر "عُبيدة" وقال بحنق:
, -من قال لك هذا؟
, -اسأل "حيزوم"! صديقك المفضّل! بالمناسبة، لم يعد زعيمنا، أنا القائد والمسئول الآن، أعجبني اللقب، وأرى أننا في حاجة لهوية جديدة، كما أنّ تلك الكلمة كانت تتردد في النداء الذي سمعناه عندما فُتحت الدروب، شعرت أننا أصحابها، ننتمي إليها!
, -هل تعرف معناها؟
, -لا
, -كيف تختار اسمًا لا تعرف معناه؟
, -لأنّه مميز وأعجبني٢ نقطةوعلى العموم ليس له علاقة بالهوية
, - أليست الهوية هي مجمل السمات التي تميز شخصًا عن غيره أو مجموعة عن غيرها؟
, -بلى؛ ونحن متميزون بالفعل يا "عُبيدة"
, -تتميزون بعروبتكم
, -كنّا نتميّز بعروبتنا٣ نقطةأما الآن فنحن تغيّرنا كثيرًا
, -لن تتغيروا يا "برق"٢ نقطة أنتم تحملون هويتكم الأصلية رغم أنوفكم، صفاتكم الوراثية التي تظهر على أشكالكم، لغتكم، صفاتكم وطباعكم، الآباء والأجداد، وماضيكم وتاريخكم
, -وأين هذا التاريخ الآن؟
, -لم ننسه، التاريخ عالق بنا، يعيش فينا، ينعكس علينا، نفخر به.
, - وما فائدة الفخر بالماضي؟
, - الماضي دليل، يلقي الضوء لنا على درب نسير فيه، نتخذه عبرة، نتعلم من السابقين، نسير على خطاهم التي صلحوا فيها ونجحوا وأنجزوا وتقدموا، ونعتبر إن أخطئوا، ونفرح بمن سبق منهم، الماضي هو الأصل والأساس، تلك الأمجاد التي حفظها التاريخ فخر لنا
, -كانت الأمجاد لأجدادنا وليست لنا
, -لكنّها ستبقى جزءًا منّا، الهوية شيء حيّ، نابض، متحرك، الهويّة لا تموت، قد يبرز أثر التاريخ الموروث في مرحلة معينة مستقبلًا، وبعضه في مرحلة أخرى
, -لا تخبرني بهذا الآن، انظر لنفسك٣ نقطةأنت تخلّيت عنّا يا "عُبيدة"
, مرّ شبح الحزن على وجه "عُبيدة" وقال:
, -لم أترككم باختياري، كنت تائهًا وهأنذا عدت إليكم، أنتم خيولي وأنا فارسكم
, -لماذا لا بدّ أن يكون البشر هو سيّدنا؟ لماذا لا نكون نحن أسيادكم؟
, -نحن البشر خلقنا من طين أرضي، ومن نفخة سماوية ترقى بنا إلى السماء، خلقنا لعبادة **** هنا في الأرض.
, صهل "البرق" ثُمّ قال:
, -ونحن نعبد **** مثلكم، كل هذا الكون بما فيه يعبد **** ويخضع له ويسبح بحمده، سمعتك تقرأ تلك الآيات وأنت تصلّي:
, ? تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ?
, اقترب "عُبيدة" ووقف قبالة فرسه وقال:
, - كل مخلوق يؤدي العبادة التي هُيئ لها، والإنسان مستخلف في الأرض، سخّره **** لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، وهو وحده من بين المخلوقات الذي قبلها وحملها وقد رفضها الجميع ولم يطيقوا حملها، وقد سُخرت له الكائنات وكلُ ما في الأرض ليؤدي مهمته ألم تسمع قوله تعالى:
, إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
, حمحم "البرق" بضيق وقال:
, -أنتم يا معشر البشر لكم طباع دنيئة، تتصرفون أحيانًا بحقارة ثُمّ تصفون هذا بسلوك الحيوانات! تلصقون بنا التهم!
, -نحن نختلف عنكم، لكلّ منا خصائصه وطباعه، وطبيعته التي تفرض عليه طريقة حياته
, مال "البرق" بعنقه وقال بنفور:
, -أنتم تنتهكون الحرمات، وتزعمون أنّكم فُضلتم علينا بالعقل وأنتم لا تستخدمونه!
, -ذلك عندما تغلبنا الشهوات فتحجب عقولنا، أما المؤمنون الصّادقون فعقولهم لا تُحجب٢ نقطةوإن حُجبت وسقطوا فالباب مفتوح!
, -أيّ باب؟
, -باب التوبة
, قال "البرق" بتهكّم:
, -وأين هؤلاء من هذا العالم!
, -يُجاهدون أنفسهم ويستخدمون عقولهم التي تَسخر منها، فيتوبون ويرجعون لخالقهم، فيقبلهم برحمته ويحوّل سيئاتهم إلى حسنات
, -أنتم لا تستحقون حمل الأمانة!
, -كفاك تطاولًا يا "برق"! أنت تائه في دهاليز مُظلمة!
, في تلك اللحظة نادى "كِرشاب" على "البرق" فهرول نحوه وهو يصهل، بينما وقف "عُبيدة" يراقبه بحزن شديد، أقبل "حيزوم" والذي كان يتابع حوارهما في صمت وقال:
, -ألم أُخبرك!٣ نقطةلقد تغيّر
, -وكأنّه ليس هو!
, - لا تحزن يا سيّدي
, تنهّد "عُبيدة" وقال بأسى وهو يشيع "البرق" بنظراته وهو يبتعد حاملًا "كِرشاب" خارج البستان:
, -لا بأس من آن لآخر ببعض التذكرة، لعلّنا نعود لأصولنا،ونستردّ أنفسنا، فنتشبث بهوّيتنا، ونعود للطريق.
,
, ٥ العلامة النجمية
, خرج "يوسف" من بيت السيّد "بركات" وسار نحو كوخ "موراي" الذي كان يبيت فيه معه هو و"عُبيدة" الليلة الماضية، كان "مواري" يحاول تكثيف جريد النخل فوق سقفه، وقبل أن يصل إليه كانت "حبيبة" خلفه مباشرة، استوقفته سائلة له:
, -ألم تحذّرني من "بركات"؟ كيف ستذهب معه إلى قرية الدحنون وحدك؟
, -لا تقلقي، لن أذهب معه، فما زلت أشكّ في أمره، ربّما سأذهب قبله، ولكن أوّلًا سأخلع القلادة وإن لم ينقلني المجاهيم إلى قلعة الدَّيجور سأذهب بنفسي، أُريد أن أساوم "جلاديولس" كما أخبرتك، فهي تبحث عن أختها وأنا أعلم أنّها تريدها لتعذّبها وتقتلها، أمّا "كِرشاب" فيبحث عنها لأنّه يُحبّها، وإن عاونني المجاهيم بأمرٍ منها على أن نسلمهم كتابًا آخر يشبه كتاب "أيجيدور"، سنكون قد حررنا الأميرة، وحكام مملكة البلاغة المأسورين، وجنودهم من المغاتير، وحرّاس المكتبة من أسر ساحرات أُوبالس قبل أن تكتشف هي أنّه كتابٌ مزيّف
, -ولماذا لم تُخبر"كِرشاب"! و"جلنار"، و"آسر"، الثلاثة قريبون من "جلاديولس" ويهمهم أمر "هيدرانجيا
, -هم لا يهتمون لأمرك ولا لأمري، يودون فقط الوصول للأميرة، من السهل عليهم التضحية بك وتسليمك لـ"جلاديولس"، فهي تبحث عنك وعن الكتاب، كما أنّهم لا يتخيّلون أن "جلاديولس" ستُقدم على قتل شقيقتها غيرة منها!٣ نقطة
, ثُمّ غرس عينيه في عينيها وقال بقلق:
, -انتبهي لنفسك، وابقي هنا بالبستان مع "مُوراي"، و"عُبيدة"، و"مِسكة"، وإيّاك أن تخرجي منه حتى أعود
, أنهى "يوسف" كلماته وخلع القلادة وأعطاها لها، مرّت دقائق وكلاهما يترقب ما سيحدث، لم يتلاش ويتبخّر في الهواء كما حدث من قبل، فتح ذراعيه ووقف مستسلمًا، هزّ كتفيه وابتسم قائلًا:
, -يبدو أن المجاهيم توقفوا عن ملاحقتي!
, كادت "حبيبة" تجيبه، لولا أنه اختفى من أمامها في غمضة عين، في تلك اللحظة، كانت "حبيبة" تشعر بوخزة في صدرها بعد أن تركها "يُوسف" وحيدة بالبستان، هناك رابط عميق بدأ ينشأ بينهما، مدّت يدها في حقيبتها وأخرجت المرآة التي أعطتها لها "زمرّد"، طالعت وجهها فيها، وجدتَها مرآة عادية! لم يظهر وجه "زمرّد" كما حدث في مدينة "ديرينكويو"!، بدأت تمسحها بكمّ قميصها، قلّبتها بين يديها، لم يتغيّر شيء، عادت تحملق في وجهها فيها، قالت بصوت هامس:
, -كيف يعمل هذا الشيء؟ هل هي مزحة من "زمرّد"؟ أم هو شيء خاصّ بساحرات "أُوبالس"؟
, فور أن نطقت بكلمة "أُوبالس" تغير وجه المرآة، صار لامعًا وبرّاقًا، وظهر وجه "زمرّد"، كانت تبتسم وهي تطالع وجه "حبيبة"، قالت لها بتلهّف:
, -وأخيرًا يا صديقتي! ظننتك لن تناديني!
, -لا أدري حتى كيف ناديتك!
, -نسيت أن أخبرك، عندما ترددين "أُوبالس" وأنت تطالعين وجهك في المرآة سأظهر لك في الحال
, -حسنًا يا صديقتي العزيزة٢ نقطةأتدرين، لا أشعر أنّك ساحرة! وأظنّك في المكان غير المناسب يا "زمرّد"
, تمعّض وجه "زمرّد" وبدا عليها الحزن، كانت تطالعها بعينين حائرتين، سألتها "حبيبة":
, -كيف أنت الآن؟ تركتُك حزينة!
, -وما زلت، فقد تشاجرت مع شقيقاتي
, -بسببي؟
, -نعم٣ نقطةبسببك
, -أما زلت لا تقدرين على مغادرة المدينة؟
, -نعم٣ نقطةفهناك من سيتعرّض للخطر إن خرجت، أخبريني يا "حبيبة" أين أنتِ الآن، ومع من تسكنين؟
, -ببستان واسع قرب قرية "الدحنون"
, -حرّكي المرآة ودعيني أرى البستان ومن فيه
, رفعت "حبيبة" يدها وحرّكت المرآة، كان البستان ساكنًا وهادئًا، الجميع هرب من البرد إلى بيت "بركات"، "موراي" فقط يبدو هناك بجوار الكوخ، رأته "زمرّد" وهو يعمل على إصلاح سقفه، ورأت خيول الكحيلان، سألتها بعد أن توقفت عن تحريك المرآة:
, -من هذا الشّاب؟
, -"موراي"، شاب طيب ويعمل عند السيّد "بركات"
, -ومن هو السيّد "بركات"؟
, -صاحب البستان
, -اسمعي، سنؤجل الكلام عن رفاقك الآن، وددت أن أحذّرك
, -من ماذا؟
, -من أختي"ياقوت" فهي تبحث عنك، فقد وصلتها أخبار أنّ كتاب "أيجيدور" الذي كان معك هو آخر كتاب استدعى محاربة، ويستطيع هذا الكتاب أن٥ نقطة
, وهنا ارتجفت صورة "زمرّد" الظاهرة على المرآة وتذبذبت، ثُم أظلمت المرآة واسودت وكأنّها شاشة وقد أطفئت لسبب ما، ظلّت "حبيبة" تردد "أُوبالس"٢ نقطة"أُوبالس"، لكنّ "زمرّد" لم تظهر مرّة أخرى!، أصابها اليأس في النهاية فأعادت المرآة لحقيبتها، شعرت بقشعريرة، فالبرد شديد، قررت أن تعود لبيت السيّد "بركات"، ستجلس مع "رفيف" بجوار المدفأة، وربّما ستستعير كتابًا من كُتبها التي رأتها بغرفتها الليلة الماضية، لا بدّ أن تشغل عقلها حتى يعود "يوسف"، وإلّا سيصيبها الجنون., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٥

المجاهيم
, "يوسف"
, في غابة كثيفة الأشجار، حيث الصمت يغلّف كلّ شيء حولي، والسماء ما زالت مكفهرّة وممتلئة بالغيوم، وصوت الرياح حولي يشبه نواح أنثى حزينة، وجدتُ نفسي وحيدًا والمكان موحش للغاية، لفح البرد القارس وجهي فاقشعرّ بدني، سمعتُ صوتًا غريبًا فأجفلت، قررت أن أركض لأخرج من تلك الغابة الموحشة قبل أن يهبط الظلام، بدأت أركض وكانت الأرض تنطوي تحت قدمي كالبساط!، ثُم بدأت تدور وتتكوّر تحت ساقيّ، ثُمّ انشقّت فجأة وابتلعتني ووجدت نفسي أمام أحد المجاهيم، أحسست بالرجفة تسري في ظهري، انتابتني للحظات تلك النوبة من الذعر التي تشلّ الفكر والبدن عند الصدمة، ذكرت **** فاستعدتُ توازني ووقفت قبالته وهو يقول:
, -وأخيرًا تمّ الأمر!
, سألته وما زالت الرهبة تسكنني:
, -أيّ أمر؟
, -كانت مهمة إحضارك أصعب من ذي قبل!
, قُلت له متلهفًا الخروج من هذا الجُحر العجيب:
, -أرغب في لقاء الأميرة "جلاديولس"، انقلني الآن لقلعة الدَّيجور، هناك أمرٌ هام
, -ماذا تُريد منها؟
, -أود لقاءها من أجل كتاب "أيجيدور"
, سار نحوي فشعرت بانقباض في صدري واختنقت، سألني بصوته الأجشّ:
, -وأين الكتاب؟
, أجبت بصعوبة وكنت أشعر أنّ هناك ملزمة تضغط على صدري:
, -مع المحاربة، وسأحضره على شرط
, قال باستنكار:
, -الآن تشترط! أما تدري أننا نستطيع أن نسحقك كذبابة؟
, في تلك اللحظة ظهر عدد أكبر من المجاهيم، وكأنّهم يستدعون بعضهم البعض إن لزم الأمر، وقد بدأتُ أستنتج أنّهم يهتمون بكتاب "أيجيدور" تمامًا كما تهتم الأميرة "جلاديولس"، قلت مُظهرًا رباطة جأشي:
, -تستطيعون قتلي الآن، وعندها ستخسرون الكتاب للأبد
, سألني في الحال:
, -ما شرطك؟
, جلت بعيني بينهم، قلنسوات تحيط بقطع من الظلام الأسود، لا ملامح لهم لأعرف ما أثر كلماتي عليهم، قلت وقلبي يتواثب انفعالًا:
, -ساعدوني في دخول مدينة "ديرينكويو"
, أصدر المجاهيم أصواتًا غريبة، وازداد عددهم في المكان، تقدم أحدهم وسألني:
, -لماذا تُريد دخول مدينة الجنّ؟
, -لأحرر "هيدرانجيا"، فهي أسيرة لديهم، المسكينة في خطر وهي على وشك الولادة و زوجها يبحث عنها، ساحرات "أُوبالس" قمن بأسرها، ولا شكّ أنّ الأميرة "جلاديولس" تريد معرفة مكان أختها، سأدخل وأحررها وأساعدها على شرط أن تعيدوا أوّلًا المحاربة إلى عالمها، فأنتم تستطيعون هذا لا ريب، وسأحضر لكم الكتاب، فبعد هلاك مملكة البلاغة هي في خطر، وخاصة بعد قتل الصقور، وحرق أجنحة من تبقى منهم، وانهيار المكتبة العظمى.
, قال أحدهم:
, -ولكن "جلاديولس" تعرف بالفعل أنّ شقيقتها مأسورة لدى ساحرات "أُوبالس" في مدينة "ديرينكويو"!
, -معقول!
, حمحم "المجاهيم" وتحدثوا بلغة لا أعرفها، شعرت بارتباك، "جلاديولس" تعرف وتخفي الأمر عن "كِرشاب"، ولا بدّ أنّها تنوي قتلها٣ نقطةهناك شيء ما لا أفهمه! سألتهم بينما يتحاورون:
, -لماذا هي حريصة على الحصول على كتاب "أيجيدور"؟
, أجابني أحدهم:
, -"جلاديولس" تريد الكتاب والمحاربة معًا، فلا قيمة للكتاب بدون المحاربة، لتستطيع مساومة ساحرات "أوبالس"
, -تساومهن على ماذا؟
, -الساحرات يسيطرن على كلّ شيء، لكنهن لا يعلمن أن كتاب "أيجيدور"، وهو آخر كتاب قام باستدعاء محاربته، يستطيع قلب كلّ شيء وردّه لأصله
, -نعم أظنّ هذا فلقد دخلت المحاربة مدينة ديرينكويو بكتاب "أيجيدور" وكان بين يدي ساحرة من ساحرات "أُوبالس" ولم تلتفت إليه، ولكن لماذا يحتجزن الأميرة "هيدرانجيا"! لماذا لم يخطفن أيّ شخص آخر؟ أو يقتلنها مثلا! لماذا هي بالذّات؟
, -هناك جزء من الاتفاق بين الأميرة "جلاديولس" وساحرات "أُوبالس" تم في مدينة ديرينكويو يخصّ شقيقتها، ونحن لا ندخلها لأنّها مسكونة بعشائر أخرى من الجنّ
, -ماذا؟ "جلاديولس" ذهبت إلى "ديرينكويو"!؟
, -نعم، استعانت بنا أوّلًا، وذهبنا معها في موكبٍ عظيم من الإنس والجن، كانت تمتطي جوادًا أسود كالليل البهيم، مجدول الشعر، متين البنية، يتحدّث بلغة البشر
, -أعرفه، اسمه "أجدل"، وهو من خيول "الكحيلان"
, كُنت حائرًا، الأفكار تتناطح في رأسي، ما الذي تخفيه "جلاديولس"؟ وماذا سيفعل "كِرشاب" إن علم بأنّها تعرف أنّ شقيقتها أسيرة لدى ساحرات "أُوبالس"؟ وأنّها أيضًا تواصلت معهن، سألت المجاهيم :
, -والآن، ماذا ستفعلون بي؟ هل ستنقلونني إلى قلعة الدَّيجور؟
, ران عليهم صمت للحظات مرّت ثقيلة على نفسي، وكنت قد بدأت أشعر باختناق شديد، والظلمة تحيط بنا من كلّ صوب، لا يضيئها إلا بصيص من الضوء في ركن بعيد لا أعرف مصدره، عادوا لحوارهم المبهم، ولغتهم التي تشبه الطلاسم، ثُمّ ازداد عددهم حولي ورأيت أطيافهم تتضاعف أمامي، تلاشى شعوري بالخوف تدريجيًا، اعتدت على الظلمة، وألفت أصوات أنفاسهم وهسهساتهم التي كانت تلفني وأنا أقف بينهم وحيدًا لا أعلم مصير هذا اللقاء٣ نقطة
, من بين صفوفهم وفي غمضة عين برز كبيرهم وزعيمهم، عرفت هذا عندما انحنوا جميعًا وتركوه يتقدمهم، كان على رأسه شيء يشبه التاج المزدوج، وكأنّهما قرنان والتحما معًا! موشّى بحجر غريب اللون عليه نقوش تشبه تماما هذا الرمز الذي رأيته على القلادة التي ألبستني إياها "حبيبة"، دنا زعيمهم منّي ثُمّ قال بنبرة يشوبها الاستنكار:
, -كاتبٌ ويسلك طريق المحاربين!
, -وما هو طريق المحاربين؟
, -مواجهة المصاعب، والبحث عن الحقيقة، والصراع مع النفس والآخرين من أجل القيم والمبادئ التي يؤمن بها حتى تُسترد الحِكم التي دوّنت بين دفتي كتاب، هذا ما عهدناه عليهم، وهذا ما يفعلونه، وها أنت تحاول الإصلاح ما استطعت، ولأنّك لم تتم الأمر على الورق عندما كُنت تكتبه هناك في ديارك، تودّ أن تُتمّه هنا
, -يبدو أنّك تعرف عنّي الكثير!
, -وأعرف عن سقوط مملكة البلاغة
, -أنتم تتجسسون علينا بالبستان، أليس كذلك؟
, استدار وسار خطوتين مبتعدًا عني وقال:
, -سأكون صريحًا معك، نحن لم نتمكن من دخول البستان مرّة أخرى بعد أن اختطفناك في المرّة الأولى ونقلناك إلى قلعة الدَّيجور، هناك من يحمي البستان الآن من دخول المجاهيم، هذه المرّة تأخر الجنّ المختص بنقلك، ولم يقم بهذا إلّا بعد أن خرج هذا الشخص من البستان
, إذن لم تكن القلادة السبب في حمايتي منكم!
, -لا
, -ومن هو هذا الشخص؟
, -لا نعرف تحديدًا، لكنّ قواه عظيمة، وهذا البستان تحت حمايته الآن
, ازدحمت رأسي بالشكوك والظنون، لا بدّ أنّه "بركات"، انتشلني زعيم المجاهيم من تلك الظنون التي غرقت فيها عندما قال بحزم شديد:
, -سأساعدك لدخول مدينة "ديرينكويو"، لإنقاذ الأميرة "هيدرانجيا"، وسنُعيد المحاربة لديارها وأهلها بأمان، ليس من أجلك ولكن تكريمًا لجدّها "أبادول"، ما عليك فقط هو أن تُحضر لنا الكتاب، وتُخرجها من البستان لنتمكن من نقلها كما نقوم بنقلك من مكان لآخر.
, -سأفعل إن شاء ****
, صمت هنيهة وسألني:
, -أخبرني يا "يوسف"٢ نقطةلماذا لم تسألنا أن نعيدك لديارك أنت أيضًا مع المحاربة؟
, -يجب أن أتمّ ما بدأته، لقد تركت الكثير من النهايات مفتوحة، وهذا تسبب في مشاكل عديدة، وأظنّه السبب في سقوط مملكة البلاغة٣ نقطةأنا السبب
, -كلّنا أخطأنا، وكلّنا معرّضون للخطر أيّها المحارب!
, -تعلم أنني لست بمحارب!
, -كلّ كاتب محارب، يُدافع عن التاريخ، والقيم، والمبادئ بما يكتبه، وأنت تحارب الآن هنا على أرض مملكة البلاغة، وسلاحك قلمك، وخيالك، وفكرك، لا تستهن بما تفعله، ولا تستسلم، فالمعركة لم تبدأ بعد، وربّما تنقذنا جميعًا بجملة واحدة!
, -هل لي بسؤال
, -تفضّل
, -هل ستسلمون الكتاب لـ "جلاديولس" ؟
, -لا
, -لماذا؟
, -فلنؤجل إجابة هذا السؤال الآن
, شعرت أنّه لا يثق في الأميرة "جلاديولس"، يبدو أن هناك ما تخفيه عنه، وهو الآن يريد أن يسبقها بخطوة، وربّما ستكون حربته قويّة عندما تكون "هيدرانجيا" معه، قال بينما كُنت أقلّب الكلمات في رأسي:
, -نسيت أن أخبرك يا "يُوسف"، المجاهيم منهم الصالح ومنهم الفاسد، منهم الخبيث ومنهم الطيب، فانتبه
, -وكيف سأميّزكم من بعضكم البعض؟
, - اعتمد على حدسك، سأعيدك الآن إلى البستان، واعلم دومًا أننا على حدوده وخارجه، لا نستطيع الدخول إلّا بعد خروج من يحميه، فلو أردت لقاءنا ودخول مدينة"ديرينكويو" اخرج من البستان، وانتظرنا هناك.
, دارت الأرض بي حيث كنت أقف، وشعرت وكأنّ كل شيء حولي يهوي! شعرت بدوارٍ شديد فاغمضت عيني للحظات وفتحتهما لأجد نفسي في البستان مرّة أخرى.
, ٧ العلامة النجمية
,
, عدت إلى البستان ورأسي يضج بالأفكار، وددت لو توقفّ عقلي عن العمل لفترة وجيزة لأرتاح، كان الطقس شديد البرودة، خيول الكحيلان ساكنون ومتلاصقون ببعضهم البعض تحت المظلة، يبدو أنّ "عُبيدة" هيّأ لهم المكان وقام بتغطية ظهورهم، وكان الجميع في بيت "بركات"، طرقت الباب برفق، أطلّ وجهها البريء من خلف الباب عندما فتحته "حبيبة" لي، كانت تقف خلفه وتنتظر عودتي، سرّني هذا وقد لمحت في عينيها نظرة اطمئنان عندما رأتني أدلف من الباب وكانوا حول المدفأة، الحزاورة يغطون في نوم عميق، وبركات يحدّق في لهب المدفأة بعينين ناعستين، الخالة "مسكة" تجلس ورأسها يتطوّح ويسقط كلّما غلبها النعاس فتنتفض وتفرك عينيها وتربّت على رأس"رفيف" التي كانت تستند على كتفها وتحملق في الظلال وهي تتراقص على الجدران، سألني "مُوراي" والذي كان يتدثر بغطاء من الصوف ويغطي رأسه به فور أن دلفت من الباب:
, -أين كنت؟
, -خارج البستان
, سألني "عُبيدة" بعد أن أفاق من غفوته عندما سمع صوتي:
, -أقلقتنا عليك، كيف تخرج من البستان في هذا الطقس؟ ولماذا؟
, التفت إليهما السيّد "بركات" وقال بصوتٍ هامس:
, -اخفضا صوتكما، "الحزاورة" نائمون
, ثُمّ قال لي هامسًا:
, -ستنام "مِسكة" و"حبيبة" مع "رفيف" في غرفتها، وسننام جميعًا هنا بجوار المدفأة، فالبرد شديد للغاية، ولنؤجل كلامنا غدًا صباحًا
, أسرعت "حبيبة" إلى غرفة "رفيف"، وعاد الجميع للنوم، كنت أرتجف، غفوت وأنا أراقب لهب المدفأة، سقط رأسي فتكوّرت على الأرض لأنام، وكُنت متعبًا للغاية، شعرت بيدٍ تدسّ وسادة تحت رأسي برفق، وتدثّرني بغطاء من الصوف، فتحت عيني ولمحتُ نظراته الحانية، إنّه السيّد "بركات"، الذي ما زلت لا أذكر أنني كتبت عنه في رواية!
, ٥ العلامة النجمية
, استيقظ الجميع قبلي وخرجوا من البيت، أفقتُ على أصوات ضحكات "الحزاورة"، كان الطقس أكثر دفئًا بعد أن هدأت الرياح وأشرقت الشّمس، كانت بطني تقرقر من الجوع فانضممت إليهم وجلسنا نفطر معًا، وبعد أن انتهينا فاجأني "موراي" بسؤاله:
, - أين أبي يا سيّد "يوسف"؟ أريد أن أعود إليه، هل ستخبرني عن مكانه؟ أخشى أن تختفي قبل أن تدلّني عليه
, ثُمّ تلاه "عُبيدة" وهو يسأل:
, -وأنا أريد استرداد بقيّة خيول "الكحيلان"، أين هم يا "يُوسف"؟
, ثم اقتربت"الجمانة" وسألتني:
, -هل حقًا تعرف كلّ شيء عنّا؟
, انضمّ "حيزوم" إلى الحوار وسألني:
, -كيف فُتحت دروب أُوبال؟ وما الذي حدث لنا هنا؟ وما هو الأُوبال؟
, توالت أسئلتهم، الكلّ يريد مني أن أساعده، أشفق السيّد "بركات" عليّ، فوقف بيننا وقال:
, -كنّا نتحدّث عنك أمس، أخبرتنا "حبيبة" عن مملكة البلاغة، وعن الكتب، والمكتبة الكبرى وحرّاسها، والصقور، وروت لنا قصّة جدّها وأبيها وأخيها "أنس"، ونحن الآن نعلم أنّك كاتب بارع ولك مكانة عظيمة، وأنت مسئول عن الكتاب مثلها، ونحن نودّ جميعًا أن نساعدكما لتعودا إلى دياركما بعد استرداد ما بالكتاب، ولن يتحقق هذا إلّا بإنقاذ مملكة البلاغة والمكتبة وحرّاسها.
, التفتُّ تجاه "حبيبة"، وددت لو تحدّثت إليها قبل تلك الجلسة، لزمتُ الصمت فقد كُنت حائرًا، ثُم رأيت أن أخبرهم بما أفكّر به، قلت متلعثمًا:
, -عندما خرجت أمس من البستان، التقيت بزعيم "المجاهيم"
, غضن "بركات" جبينه وسألني:
, -وهل نقلوك لقلعة الدَّيجور مرّة أخرى؟
, -لا٢ نقطةفقط تحدّثنا عن الآنسة "حبيبة"، وطلبت منهم أن يساعدوها
, اقتربت "حبيبة" وسألتني:
, -كيف سيساعدوني؟
, -طلبت منهم أن يعيدوك إلى بيتك، كما نقلوني من قبل إلى هنا، سينقلونك إلى هناك، فبعد ما حدث للصقور وللمغاتير، أخشى عليك من الخطر، وخاصّة أنني السبب في كلّ ما حدث هنا، ولكن لديهم شرط
, -وما هو هذا الشرط؟
, -أن تسلميهم الكتاب
, -ومن قال إنني سأقبل!
, -لا بدّ أن تقبلي يا آنسة "حبيبة"، أرجوكِ
, قالت بصوت واثق:
, -لا أستطيع!
, -لماذا؟
, -لن أتخلَّى عن مسئوليتي تجاه الكتاب، وتجاه أهل مملكة البلاغة، هم في كربٍ عظيم، وتعرضوا لظلم شديد، وليس من المروءة أن أهرب! سأتمّ ما أتيت لأجله، ولن أترك مهمتي بلا نهاية
, -ولكن٢ نقطة
, -ولكن ماذا؟ الكل يريد الكتاب، "جلاديولس"، و"المجاهيم"، وساحرات "أوبالس"
, -ساحرات "أُوبالس! أخبرني المجاهيم أنهن لا يعرفن عن الكتاب
, -الآن يعرفن، الكلّ يريده لسبب محدد، وأنا أريد أن أعرف هذا السبب
, انخلع قلبي عندما تخيّلتها بين أيديهم، يعذّبونها أو يؤذونها كما حدث لي من ضرب وجلدٍ وإهانة، قلت راجيًا أن تقبل اقتراحي:
, -يا آنسة "حبيبة" أنت في خطر، عودي لديارك مع "المجاهيم"، فهم يجلّون جدّك "أبادول"، وسأتحمّل أنا نتيجة ما فعلته
, قالت بتصميم:
, -أليس هذا قدري؟ وهذا اختيار **** لي؟
, -بلى
, -أثقُ في اختيار **** لي، ولديّ يقينٌ أنني سأقدر إن شاء ****
, ثُمّ أشارت إليّ وأردفت:
, -وأنت تقدر يا "يوسف"، سأساعدُك، وسنكمل الطريق معًا
, صاح الجميع في حماس:
, -"وكلّنا سنساعدك"
, ثُمّ مدّ "عُبيدة" يده أمامنا وقال:
, -هات يدك
, والتقطها قائلًا:
, -أعاهدك أن أساعدك
, وضع "بركات" يده فوق يدينا وقال:
, -وأنا أعاهدك يا بنيّ
, ثُمّ وضع "موراي" يده فوق أيدينا، وفوقها وضعت الخالة"مِسكة" يدها، وتبعتها يد"حبيبة"، وحلّقت الخيول حولنا وكذا "الحزاورة"، وأسرعت "رفيف" ووضعت يدها فوق أيدينا جميعًا٢ نقطةوفور أن وضعت "رفيف" يدها شعرنا بحرارة شديدة وأبرقت السماء فجأة! وسقط المطر ثجاجًا، فهرولنا نحتمي بمظلّة البيت، وإذا بقوس المطر يطلّ من بين طيّات السحاب، وفُتح أمامنا درب من دروب أُوبال، وقفنا جميعًا نراقب بوابته العجيبة، كانت الألوان تموج في بعضها البعض، وكان الضوء الخلّاب يتراقص وكأنّه حيّ ينادينا، التفت نحوهم وقلت لهم:
, -سأدخل الدرب وحدي، فأنا أعرف ما كتبته عن تلك الدروب
, سألني "عُبيدة":
, -لماذا ستدخله؟
, قلت بثقة:
, -أبحث عن باقي الخيول يا "عُبيدة"، وعن "هيدرانجيا" المسكينة لأحررها، وعن والدك يا "موراي"
, قال "بركات":
, -سأذهب معك أنا وابنتي "رفيف"
, -لماذا؟
, -لأبحث عن زوجتي، فقد رحلت منذ فترة ولم تعد حتى الآن، وأظنّها في تلك الدروب
, اقتربت "حبيبة" وقالت بصوت واثق:
, -سأدخل معكما
, -ستتعرضين للخطر
, -وبقائي هنا بالبستان أيضًا سيعرضني للخطر
, -ليتك تعودين للديار مع "المجاهيم"
, -لا أحب الهروب يا "يوسف"، لدي يقين أنّني هنا لسبب ما!
, لمعت عيناها وهي تحدّثني، وددت حينها أن أملك هذا اليقين الذي تتحدث دومًا به، لماذا الخوف والقلق دومًا يسكن قلبي،٣ نقطةلماذا؟
, بدأنا نستعدّ لدخول الدرب، ضج البُستان بالأصوات، وركض كلّ منهم في جهة، بينما كُنت أحاول ترتيب الأفكار في رأسي، وأسترجع ما كتبته في رواية "دروب أُوبال".كانت بوابة الدرب تموج بألوانها الخلابة أمام أعيننا، وكنا جميعًا في حالة ارتباك شديدة، قررت مِسكة البقاء بالبُستان مع الحزاورة، كان "موراي" في غاية الحماس فقد قرر أن يدخل الدرب معي، يودّ لقاء أبيه، رقّ للعجوز "مِسكة" وأشفق عليها لكنّها قالت تطمئنه:
, -لا تقلق، سيعود "كِرشاب" ومعه "جلنار" وزوجها، وعندما يعرفون أنّكم سلكتم هذا الدرب لن يتركوا البستان حتى تعودوا، وإن لم يعودوا سأذهب مع "الحزاورة" إلى قرية الدحنون، لبيتي القديم، وسأنتظركم هناك.
, قال "بركات" مؤيدًا كلامها:
, -هذا مؤكد، سيعود الأمير "كِرشاب"، وأظنّه على وصول مع حرّاسه، استقبليهم في داري فهو يتسع للجميع، والطقس شديد البرودة، الدار دارك يا "مِسكة"، لا تتركيه أنت والصغار
, ثُمّ أعطاها بعض المال، وأخبرها أن تذهب لحانوته إن احتاجت المزيد، وانصرف ليحمل بعض الثمار والطعام وقال وهو يتعجّل ابنته "رفيف" التي أحضرت أيضًا بعض الأغطية والثياب لها وله:
, -نحن نجهل ما نحن مقدمون عليه، لا بدّ من حمل الطعام والملابس والأغطيه، فالبرد شديد، ولنجلب بعض الماء
, أسرع "عُبيدة" يملأ القرب بالماء، عاونه "مُوراي"، اقترب أحد الحزاورة وكانت عيناه دامعتين، قال وهو يودعنا:
, -وماذا إن لم تعودوا يا "موراي"؟
, احتضنه "مُوراي" وقال وهو يمسح على رؤوس الحزاورة:
, -سنعود إن شاء **** كما عاد "أبهر"، و"الترياق"، و"حيزوم" من قبل
, صاح الصغير:
, -وداعًا
, -بل قل إلى اللقاء يا صديقي
, دلفت إلى الدرب ودقّات قلبي تتواثب، وتبعتني"حبيبة، وأسرع "بركات" خلفنا هو وابنته "رفيف"، تبعنا "موراي"، ثُمّ "عُبيدة" وخيوله حاملًا على ظهورها الطعام والماء والملابس، آملًا أن يعثر على بقيتهم داخل الدرب، بدأ الدرب يسحبنا بقوّة جبّارة، وصارت أقدامنا لا تمسّ الأرض، وكأنّ هناك رياحًا شديدة السرعة تحملنا، فقدنا الشعور بأوزاننا، وسقطنا جميعًا على أرض غابة كثيفة الأشجار، فقمنا وتفقدنا بعضنا البعض، وبدأت رحلتنا في الدرب الأوّل.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦

الدرب الأوّل
, سار "يوسف" في المقدّمة، كان "أبهر" يحمله ويهملج متعجلًا رؤية ما يخفيه هذا الدرب، بعينيه اليقظتين وخطواته الواسعة كان يسبق باقي الخيول، وكان "عُبيدة" يراه أكثر خيول الكحيلان شجاعة وإقدامًا، طال المسير و"يوسف" هائم يتفكّر ويتساءل أيّ درب من الدروب هذا؟، بين فينة وأخرى كان يلتفت ليطمئنّ أن "حبيبة" بخير، كانت "الترياق" تحملها، بينما حملت "الشقراء" "رفيف"، أما "الجمانة" فحملت "موراي"، بينما "حيزوم" كان يحمل "عبيدة"، وركب "بركات" "البيضاء"، ستة من الخيول تحمل ستة من البشر، هدّأوا من سيرهم وجلسوا للراحة فأسرع "بركات" ونادى ابنته "رفيف"، وانفردا تحت ظلّ شجرة يتهامسان، كان "يوسف" يراقبهما في صمت، ما زال لا يذكرهما!
, بدأت الشمس تغرب ولم يجدّ جديد، فقرروا البحث عن مكان آمن ليبيتوا ليلتهم، اجتمعت الخيول تؤنس بعضها البعض، استلقى "أبهر"بجوار "حيزوم" فألقى "عُبيدة" ثوبًا على كلّ منهما ليحميهم من البرد، أما الإناث الأربعة فغطّاهن بأغطية من الصوف أعارتها له "رفيف" بعد أن أشفقت عليهن، ثُمّ انضمّت لـ "حبيبة"، وألقى الليل عليهم ستاره فغرقوا في نوم عميق، تدحرج القمر على صفحة السماء وابتلعه الأفق.
,
, مشت جذوة النهار في فحمة الليل فتنفّس الصبح في الأجواء، استيقظ الجميع على صوت "رفيف" وهي تصرخ٣ نقطةفزعوا جميعًا مما رأوه، اختفت خيول "الكحيلان"، وحدث ما لم يكن في الحسبان!
, حفاةً، عراةً، يتدثّرون بالأغطية التي ألقاها عليهم "عُبيدة" الليلة الماضية، كانوا يرتجفون ويدمدمون بأصواتٍ غير مفهومة، قال أحدهم وكان شابًا أشقر منمّش الوجه وقويّ البنية، له أنف أقنى وعينان خضراوان:
, -لا ندري ما الذي حدث لنا!
, قال آخر بصوت رخيم وفمه يرتعد، وكان أربعينيًا، مربوع القامة، له عينان واسعتان وشعر مجعّد أسود:
, -يبدو أننا تحوّلنا إلى بشر!
, صاح "عُبيدة":
, -أنت "حيزوم" أعرف صوتك
, ثُمّ أشار للشاب الأشقر وقال:
, -وهذا "أبهر"٢ علامة التعجب
, قالت "حبيبة" وهي تشيح بوجهها عنهما:
, -ما الذي كتبته في رواياتك يا "يوسف"٢ علامة التعجب
, ضرب "يوسف" على جبهته بيده وقال:
, -إنّها الهوامش!
, -ماذا تقصد؟
, -كلّ ما انزوى في عقلي من كلمات وأفكار صار واقعًا هنا، فكّرت مرّة أن أبدّل الخيول بشخصيّات من البشر، وكتبت هذا على هامش الرواية٢ نقطة
, كانت الخيول وبعد أن تحوّلت فجأة لتلك الهيئة لا تأبه لانكشاف عوراتها وأجسادها، وكانوا يسيرون على أطراف أصابعهم، فقدوا اتزانهم فهم لم يعتادوا السير على قدمين فقط! أسرعت "رفيف" وأحضرت ما يَصلح من ملابسها لترتديه "الشقراء"، و"الجمانة"، و"الترياق"، و"البيضاء"، وعاونتهن هي و"حبيبة" في هذا، وأعطى "بركات" قميصًا من الصوف وبنطالًا لـ"حيزوم" وآخرين لـ "أبهر"، وبعد أن ستروا عوراتهم وكان الجميع في صدمة شديدة، جلسوا وقد غشيتهم سحابة من الخوف، بكت "الشقراء" فاحتضنتها أمّها وربتت على رأسها بحنان، كان جمالها بارزًا ولافتًا للغاية، حتّى أن الجميع كانوا يعلّقون أعينهم بها رغمًا عنهم، كانت تُشبه جدّتها "البيضاء" في ملامحها المتناسقة ووجهها المستدير، لكنّ الأخيرة كان الشيب قد زحف إلى رأسها فأضفى عليها وقارًا وهيبة، بجوارهما كانت "الجمانة" تجلس في ذهول، متواضعة الجمال ولكن يبدو أنّ زوجها "حيزوم" يحنو عليها ويحبّها بالفعل، فقد جلس بجوارها يهدئها ويحيط كتفيها بذراعه، "أبهر" كان في حالة من الهياج الشديد والعصبية، يريد أن يصهل، يريد أن يركض إلى ما لا نهاية ويضرب الأرض بحوافره، كان يضرب جذع الشجرة بقبضة يده ويصرخ، بدا قويّ البنيان، فارع الطول، مفتول الذراعين، وكأنّه مصارع، أمّا "الترياق" فكانت أكثرهن تماسكًا وسحرًا، كانت "حبيبة" تتمعّن في ملامحها، وجدتها مألوفة لها، وكأنّها تعرفها منذ زمن، تشبه عارضات الأزياء، طويلة ورشيقة وقويّة البنية، وساكنة كالحجر الأصمّ، تراقبُ الجميع بعينيها اليقظتين، مرّت الساعات الأولى صعبة على الجميع، لكنّهم تقبلوا الأمر وأكملوا سيرهم، تكيّفت الخيول المتحوّلة مع الوضع الجديد، لكنّ أقدامهم جُرحت، حاولوا صنع أحذية لهم لكنّهم لم يفلحوا فربطوا أقدامهم وأكملوا السير، سار "حيزوم" بجوار "عُبيدة" الذي كان يشعر منذ أن رآهم بتلك الصورة وكأن ألف إبرة تثقب جسده، أمّا "أبهر" فكان سريع الخطوات حتى أنّه سبق الجميع وتقدّمهم وكأنّه مرشدهم ودليلهم، توقفت "الشقراء" عن البكاء وانشغلت بمراقبته، كانت تسير بجوار "رفيف" و"حبيبة"، مرّوا بجدول ماء فرأت صورتها لأوّل مرّة معكوسة على صفحة الماء، اتخذت نظراتها مظهرًا غامضًا، غلبها العجب بنفسها وجمالها وأنوثتها ولم تلتفت لنصائح "رفيف"، و"حبيبة"، كرهت الوشاح على رأسها، فأزاحته وبعثرت خصلات شعرها الغجري على كتفيها فازدادت فتنة، أسرعت في سيرها ونادت "أبهر" بدلال كما كانت تفعل دومًا، التفت "أبهر" تجاهها، وفور أن تلاقت عيناهما، غرق في بحر عينيها، راقبت "حبيبة" و"رفيف" المشهد وكانتا في غاية الانزعاج، قالت "حبيبة" بتعجّب:
, -ما بال تلك "الشقراء"!
,
, استمر سيرهم لساعات، غابات خضراء واسعة، وممرّات طويلة لا نهاية لها، وأخيرًا أطلّ قصر كبير ومهيب بين جبلين، كان بناء القصر يشبه المعابد، وقفوا يتأملون الزخارف والنقوش على أعمدة القصر وشرفاته، كان يفصل بينهم وبينه نهر ريّان الماء يتدفّق من جهة الشمال بقوّة، كان ماؤه صافيًا حتى أنّهم رأوا أسراب السمك الصغير وهي تسبح مع التيار، الأجواء تعبق برائحة الريحان، والحمام الأبيض يحلّق في جماعات فوق سقف القصر، عبروا النهر تباعًا ووقفوا أمامه، هرول نحوهم العديد من الخدم يسألونهم عن وجهتهم وأسمائهم، تناقلوا بينهم اسم "حيزوم" وكأنّه علم مشهور يبحثون عنه، وينتظرون وصوله، دقائق قليلة مرّت قبل أن يطل شاب طويل القامة له وجه مستدير أبيض تملؤه الشامات وكأنّه مسوّم بها، سبط الشعر كأن رأسه يقطر ولم يصبه بلل، وقف أمام بوابة القصر وفتح ذراعيه وهو يصيح:
, -مرحبًا بزعيمنا وسيّدنا "حيزوم"
, اقترب "حيزوم" وكانت أمّه "البيضاء" تتأبّط ذراعه، قال باسمًا عندما لاحظ الشامات التي وُسم بها وجه الشاب النضر:
, -أنت "المسوّم"
, -هو أنا يا سيد الخيول وزعيمها
, انحنى"المسوّم" يقبّل يد "حيزوم" بوجلٍ شديد، ثُم أسرع تجاه "عُبيدة" وعانقه في وداد قائلًا:
, -طال غيابك أيّها الفارس، أقلقتنا عليك يا سيّدي، أين اختفيت؟
, كان "عُبيدة" حائرًا، ومبهوتًا، ابتلع كلّ الكلمات التي كانت حاضرة على رأس لسانه ليُجامل "المسوّم"، اكتفى بالصمت، وصار يتساءل في نفسه، هل هو مسئول عنهم الآن؟ صارت الخيول من البشر! وها هم يقفون أمامه رأسًا برأس، وكتفًا بكتف، لا فرق بينه وبينهم، دلفوا جميعًا إلى القصر، كان "المسوّم" يرفل في ثيابٍ فاخرة، ويبرق الألماس في التاج على رأسه، والخدم حوله ينتظرون منه التفاتة أو إشارة، يتسابقون لإجابة طلبه، الحُبّ يطلّ من أعينهم وهم يلبون أوامره، أحسن "المسوّم" استقبال الجميع، وأمر بإعداد مأدبة فاخرة، كان "يُوسف" يلاحقه بالأسئلة، واكتفى الجميع بمتابعة حوارهما الذي كان يشبه الاستجواب، قال "يوسف":
, -أخبرني "أبهر" أنّك وبعد أن دخلتم الدروب والتقيتم بـ"مَيسان" لم تفارقها، وأنّه استيقظ ولم يجدك ولم يجدها
, -نعم، هذا ما حدث بالفعل، بعد أن التقينا بالسيّدة "مَيسان" وكانت تبكي وأخبرتنا أنّها تبحث عن بناتها منذ سنوات، وبعد أن حدث ما لم يكن في الحسبان، قررت أن تعاود البحث عنهن بطريقة أخرى!، كان معها صندوق غريب، وكانت حريصة عليه أيّما حرص!، أرهقنا السير معها وكانت متعبة للغاية، فتوقفنا للراحة فاستسلمت للنوم، وكلّنا كذلك
, -وماذا حدث؟
, -استيقظتُ ولم أجدها، فركضت باحثًا عنها، وجدتها تقف وتقرأ من ورقة عتيقة، كلمات لم أفهمها، لكنّها وفور أن انتهت من قراءتها فُتح درب أمامها، يشبه الدروب التي دلفناها لنتسابق جميعًا، ناديتها فأخبرتني أنّها سترحل، فطلبت منها أن تنتظر حتى أنادي باقي الخيول، وكدت ألتفت لولا أنني رأيت من يسحبها لداخل الدرب، سقط الصندوق من يدها وكانت تصرخ وتقاوم من يجذبها وتحاول الوصول إلى صندوقها، راودني نفس الشعور بالحماس والانجذاب للدرب كما حدث لي ورفاقي، كان الدرب يجذبني كالمغناطيس، لم أستطع مقاومته فأسرعت خلفها لأخلّصها من يد هذا الغريب
, -وماذا بعد؟
, -سقطتُ على الأرض، ثُمّ فقدتُ الوعي فجأة لأجد نفسي بعد أن استيقظت على هيئة البشر، في غابة موحشة، خالية من الطيور والبشر، وكنت خائفًا، ولم أجد السيّدة "مَيسان"! وكأنّها تبخّرت! وجدّت كومة من الملابس اكتشفت أنّها ثيابها التي كانت ترتديها قبل أن ندخل الدرب معًا، وعثرت على كيس من الذهب بين طيّات الثياب، تعجّبت وتساءلت في نفسي عن سبب خلعها لملابسها، ناديت باسمها فلم يجبني أحد!، مزّقت الثوب إلى نصفين، وسترت جسدي كما يفعل البشر، وحملت كيس الذهب وسرت أتعثّر في خطاي، بحثت عنها طويلًا فلم أجدها، مرّ علي وقت ثقيل حتى تعوّدت على تكوين جسدي الجديد واستطعت استخدام أطرافي بسهولة، تناهى إلى مسامعي صوت مواء، هرولت تجاهه فوجدت قطّة بيضاء عالقة فوق غصن شجرة، أشفقت عليها فهي وحيدة مثلي، فتسلّقت الشجرة وأنزلتها، ظلّت تتبعني ولم تتركني أبدًا، طال سيري في الغابة هائمًا، وأشفقت عليها لأنني سرت لمسافات طويلة فحملتها على كتفي، حتى التقيت بقافلة تجارية، رقّوا لحالي وظنّوا أنّ بعض اللصوص سرقوا ملابسي فأعاروني ثيابًا تليق بي، سرت معهم ووصلت إلى إحدى القرى، مارست الحياة كما يمارسها البشر، ونجحت، وربحت، وكان مالي يتضاعف، وعندما أردت شراء بيت عرضوا عليّ هذا القصر، أخبروني أنّه مهجور وأنّ الناس يخافون الاقتراب منه لأنّه مسكون! فاشتريته منهم وكانوا فيه من الزاهدين، في اليوم الأوّل استيقظت من النوم فوجدت رجلا يقف بالباب ويطلب عملًا فوظفّته ليساعدني، أحسنت إليه كما كان سيدي "عُبيدة" يفعل معنا، فجلب زوجته، ثُمّ شقيقه، ثُمّ أهله، ثُمّ امتلأ البيت بالخدم وبالخيرات٢ نقطة
, سأله "يُوسف":
, -وهل بحثت عن "مَيسان" بعد ذلك؟
, -بالتأكيد، وبحثت عن عشيرتي من خيول الكحيلان، ولم أعثر لها ولا لهم على أثر!
, سألته "رفيف" والتي كانت تتابع الحوار بتركيز شديد:
, -والهرّة البيضاء التي عثرت عليها؟
, قال بابتسامة لطيفة:
, -ما زالت برفقتي
, أشار بيده لأحد الخدم فأسرع يحضرها، فور أن رأتها "رفيف" هرولت نحوها وحملتها، اقترب "بركات" وربّت على رأسها بلطف وحملها وقبّلها هو الآخر وقال:
, -ابنتي مُغرمة بالقطط البيضاء
, مرّ الوقت بسرعة، وكانوا جميعًا في حاجة للراحة، انسحب النهار مخلفًا خلفه بقايا يوم غريب، جلس "موراي" و"عُبيدة" و "حبيبة" يتسامرون، كانوا يخشون النوم، فربّما يستيقظون ليجدوا أنفسهم خيولًا تصهل ويهملجون في رحاب حدائق هذا القصر، أرادوا أن يسألوا "يوسف" عمّا كتبه عن عائلة "الكحيلان" تلك، ما الذي تخبئه الأيام؟ وسألوه بالفعل، لكنّه لم يرو ظمأهم، ولم يجبهم، استسلموا في النهاية واتجه كلّ منهم لغرفته، وسريعًا ما أخذ الكرى بمعاقد الأجفان.
, في صباح اليوم التالي استيقظت "حبيبة" على أصوات العصافير، اقتربت من شرفة غرفتها فرأت "موراي" يجلس شاردًا على ضفّة النهر، يراقب أسراب السمك، كانت "رفيف" ما زالت تغطّ في نوم عميق والهرة البيضاء في حضنها مستيقظةً لكنّها ساكنة وكأنّها تحرسها، لم تفارقها منذ أن التقت بها، هبطت "حبيبة" الدرج بهدوء فصعقت مما رأته! كان "أبهر" و"الشقراء" في وضعٍ مخلّ، صرخت فيهما:
, -ماذا تفعلان! أجننتما! أنتما الآن من البشر٢ علامة التعجب
, تعجبا من صراخها ولم يبدُ عليهما الانزعاج، طالعاها باستغراب فهرولت غاضبة خارج القصر، انضمت لـ"موراي"، حيّته باقتضاب وكانت ترتجف من شدّة الغضب، ردّ التحيّة دون أن يرفع عينيه عن ماء النهر، وهو يتابع حركة الأسماك الملوّنة وكأنّه منوم ومغيب! حرّك فمه بآلية وقال بصوت رتيب:
, -هل رأيتهما؟
, -من؟
, -"الشقراء" و "أبهر"
, ارتبكت وقالت:
, -نعم٣ نقطةرأيتهما!
, زفر بحنق وقال:
, -أيقظني صوت "الشقراء" و"أبهر"، ضج القصر بأصواتهما وأفعالهما السافرة والمخلّة طوال الليل، والخدم كانوا يضحكون عليهما، أما سمعتِ أصواتهم؟
, رنت إليه بطرف حائرٍ وقالت بانفعال:
, -تلك الخيول تحتاج إلى التأديب؟
, ضحك ساخرًا ثُمّ قال:
, -أيّ خيول! صاروا من البشر يا آنسة "حبيبة"
, -وماذا سنفعل يا "مُوراي"؟
, قال نادمًا:
, -ليتني ما سلكت هذا الدرب
, -لا بدّ أن نرحل، لنبحث عن "هيدرانجيا"، ووالدك، وزوجة السيّد "بركات"
, قال "موراي" مستكملًا حديثه عن عائلة "الكحيلان" ومتجاهلًا كلامها الأخير:
, -ما زالوا حيوانات، لا يعرفون الخصوصية، وليس هناك حدود لما يفعلونه
, تلفتت في توتّر وقالت:
, -لأنّهم لم يعتادوا على حياة البشر يا "موراي"، الغريزة تسبق العقل، وهم الآن يتأرجحون بين غرائزهم، وبين هيئاتهم الجديدة
, -بل نحن من نتأرجح، البشر يتأرجحون بين الحيوانية، والإنسانية، هناك من يسلكون هذا السلوك الحيواني، عندما يطلقون العنان لغرائزهم! بلا حساب، وبلا حياء! عندما تغيب عقولهم، وينسون أن **** يراهم
, أنصتت "حبيبة" بإمعان لكلماته، قالت بهدوء:
, -صدقت يا "موراي"، يفعلون هذا في الشوارع أحيانًا، وعلى شاشات الإنترنت والتلفاز
, -وما هو الإنترنت؟ وما التلفاز؟
, لاح شبح ابتسامة على وجه "حبيبة" وقالت:
, -شيء يشبه المرآة، ينقل صورًا من مكان لآخر وهي تتحرّك
, وتذكّرت حينها المرآة التي أعطتها لها "زمرّد"، قررت أن تحاول التواصل معها، قالت قبل أن تترك "موراي":
, -أين "عُبيدة" ؟
, -خرج إلى قرية مجاورة مع بعض الخدم، لشراء سيوفٍ ورماحٍ لنا
, -كان **** في عونه، أصعب ما يمرّ به الفارس هو أن يفقد سيفه وجواده، ولكن! لماذا لم تذهب معه؟
, لم يجبها، وأطبق عليه الصمت، بدا حزينًا، كان يؤنب نفسه لأنه كان يراقب "الشقراء" و"أبهر"، تذكّر كلمات أبيه له:
, " شهواتك لم تستيقظ بعد، عندما تبلغ سيبدأ جهاد نفسك، ستصارعها يا "مُوراي"، فتمسّك بنقاء سريرتك ما استطعت يا ولدي، ودعني أزرع فيك ما ستفخر به غدًا، وسأدعم ما رزقك **** به من خصالٍ حميدة٢ نقطةفساعدني أرجوك، واقترب من **** لينزع عنك كل درن يعلق بنفسك، كن صديقي وسأكون صديقًا لك حتى آخر لحظات عمري، لو اجتزت تلك الفترة محتفظًا بنقاء نفسك ولم تتغيّر ستكون شابًا رائعًا، وغدًا ستحصد قمح رجولتك عندما يشتدّ عودك"
, لم يخبره أبوه أنّ نظرة واحدة ستشعل هذا الصراع مرّة أخرى، وأنّ الفتن حوله ستزيد يومًا بعد يوم، مدّ يده في ماء النهر، عاد يحملق في سطحه، لكنّ صورة وجهه المعكوسة غطّت على أسراب السمك، ما عاد يتابع سيرها، الآن يحملق في عينيه، يلوم نفسه، يحاسبها!
, لاحظت "حبيبة" شروده فسألته:
, -هل رأيت "يوسف"؟
, -السيّد "يوسف" يتجوّل في البستان مع السيّد "بركات"
, -حسنًا يا "موراي"، سأراك بعد قليل
, ناداها بصوت يرتجف:
, -آنسة "حبيبة"
, -نعم؟
, -نحن لا نعرف كيف فُتح الدرب، أليس كذلك؟
, -بلى
, -كيف فُتحت تلك الدروب؟
, -لا أدري!
, -إذًا نحن لا نعلم متى سنعود للبستان، وربّما تطول رحلتنا، أو نموت هنا، أو نفترق كما تفرقّت الخيول أوّل مرّة دخلت الدروب فيها، أليس كذلك؟
, -ربّما!
, ثُمّ تنهّد وقال بصوت محزون:
, -أو نتغير كما تغيروا، أو نضيع كما ضاعت "مَيسان"!
, -لا ترهق نفسك بالتفكير يا "موراي"، ثق بأن **** لن يضيعنا
, التفت إليها وحملق في وجهها بعينيه السوداوين وسألها:
, -من أين لك هذا اليقين؟
, أشارت إلى السماء وابتسمت، وتركته جالسًا على ضفّة النهر، أشفقت عليه فقد كان مرتبكًا كما لم يكن من قبل، أخرجت المرآة عندما ابتعدت عنه، ورفعتها أمام وجهها وطالعت صورتها ونادت٢ نقطة"أُوبالس"٣ نقطة"أُوبالس"، لم تظهر صورة "زمرّد"، لم تجبها أبدًا، أعادت المرآة لحقيبتها، وانطلقت باحثة عن "يوسف" و السيّد "بركات" في حدائق القصر.
, ٣ العلامة النجمية
, كان الحوار بين "السيد "بركات" و"يوسف" لا يختلف عن هذا الذي دار بين "حبيبة" و "موراي"، الجميع مستاء مما فعله آل "الكحيلان" الليلة الماضية، فمن عرف قيمة الفضيلة عزّ عليه أن يراها مهانة!
, كانت "الترياق" هي الوحيدة التي لزمت غرفتها، لم تخرج منها حتى اللحظة، أمّا "المسوّم" فقد بدا عليه أنّه غير راضٍ عمّا يفعلونه، لكنّه خشي أن يتحدّث في أوّل ليلة لهم بالقصر، قال "يوسف" بحزمٍ شديد:
, -لا بدّ أن نتحدّث معهم، هناك ضوابط وأصول، طالما أصبحوا من البشر فليكونوا مثلهم في كلّ شيء، الملابس، الخصوصيات، كل شيء! ما حدث الليلة الماضية لم يكن مقبولًا بأيّ حال من الأحوال.
, مسّد "بركات" لحيته ثُمّ قال:
, -فلننتظر "عُبيدة"، فهم يجلّونه ويحترمونه، وسيستجيبون لو نصحهم بنفسه
, قالت "حبيبة" بقلق:
, - أخشى البقاء في هذا القصر
, رنا إليها "يُوسف" وقال ليطمئنها:
, -سنرحل اليوم، بعد أن يعود "عُبيدة" ومعه السيوف والرماح، وسنكمل رحلتنا معًا
, -والخيول؟
, -تقصدين آل "الكحيلان"؟ فقد أصبحوا من البشر، لن نصحبهم معنا بالتأكيد!
, في تلك اللحظة ظهرت "رفيف" في الحديقة، تحمل القطة البيضاء، أسرعت تجاههم والتفتت نحو "حبيبة" قائلة لها:
, -حاولت إيقاظك الليلة الماضية، لكنّك كنت غارقة في نوم عميق
, -ماذا حدث
, -"الترياق"
, -ما بها؟
, -أتت أمس، دلفت غرفتنا وأرادت أن تحدّثك، سألتني إن كان من الممكن أن تعود من نفس الدرب إلى البستان
, -وأين هي الآن؟
, -لا أدري!
, ضجّ القصر بأصوات آل "الكحيلان"، وانتشر الخدم يحملون أطباقًا تحمل شتى أنواع الفواكه والخضراوات، جلس الجميع حول المائدة وعلى رأسها "المسوّم"، كانت "حبيبة" و"رفيف" يتبادلان النظرات، لم يعجبهما ما كانت "الشقراء" تفعله، وكذا "الجمانة"، وكأنهم يجلسون مع العاهرات على طاولة في مقهى، ينقصهم الخمر فقط!، كان "أبهر" و"حيزوم" يأكلان بنهم شديد، ويتحدّثان والطعام يسقط من فميهما، أمّا "المسوّم" فكان مهمومًا، كان غياب "الترياق" يقلقه، انحنى "يوسف" هامسًا لـ"حيزوم" وقال له:
, -هل تسمح لي بملاحظة؟
, -تفضّل
, -لاحظت بعض التصرفات من آل "الكحيلان" ربّما ستسيء لهم لو استمروا على فعلها، وأرجو أن تتوقفوا عنها
, -ماذا تقصد؟
, -أعني، أنني أدرك تمامًا أنّ الأمر جديد عليكم، فقد عشتم لسنوات طويلة بلا ملابس تستر عوراتكم، كما أنّكم تحتاجون لإرشاد وتوجيه، طريقة تناول الطعام، والكلام، وإيماءات الوجه، وحتى قضاء الحاجة، أعلم أنكم كنتم تراقبوننا وتعرفون الكثير، لكنّ الخدم يراقبونكم، ولا أحب أن تتحولوا إلى فكاهة ويسخر الناس منكم، كما أنّه٣ نقطةلم يكن لأحد منكم يومًا باب يُغلق عليه هو وزوجته، وكوننا هنا معًا بالقصر يستوجب منكم التستر عندما٤ نقطة
, شعر "حيزوم" بالإهانة، قال غاضبًا:
, -لم نختر أن نكون كالبشر، وليس لأحد أن يأمرنا بشيء لا نطيقه!
, -هذا ليس أمرًا، بل هو رجاء!
, كانت "البيضاء" تجلس بجوار ابنها "حيزوم" وتسمع كلّ شيء، قالت برصانة:
, -نحن هنا في قصر واحدٍ منّا، ما عدنا خيولًا لـ"عُبيدة"، نحن الآن سواسية، لا تلمنا إن اختلفنا عنكم في السلوك والطباع، حتى أنا لا أطيق تلك الملابس، وأراها عبئًا، لا أشعر بالخجل من جسدي! عشت طوال حياتي بلا غطاء!، ولكنني أحترم اختلافنا، وسنحاول أن نتكيف معكم
, صاحت "حبيبة":
, -وماذا عن "الشقراء" و"أبهر"؟
, التفت الجميع إليها وسألتها "الشقراء" بانزعاجٍ شديد:
, -ما بالنا؟
, -لماذا لا تتزوجان؟ وتعلنان أمام الجميع أنّكما زوجان بما يرضي ****، بدلًا من هذا الـ٣ نقطة
, تبادل آل "الكحيلان" النظرات في صمت، قالت "الجمانة" باسمة وهي تطالع ابنتها الفاتنة:
, -حسنًا يا "حبيبة"، سنقيم الليلة حفل زفاف على طريقتكم، وسنطبق كلّ ما تفعلونه عندما تريدون الزواج، ما رأيك يا "مسوّم"؟
, قام "المسوّم"وخلع عن رأسه التاج وألبسه لـ"حيزوم" وقال بوجل:
, -الرأي لسيّدنا وزعيمنا "حيزوم"، من اليوم أنت سيّد القصر، والأمر لك هنا
, صاحت "الجمانة" وابنتها "الشقراء" فرحًا، وربتت"البيضاء" على كتف"المسوّم" بامتنان، بينما وقف "أبهر" يهنئ سيّده، في تلك اللحظة دلفت "الترياق" قاعة الطعام وحيّتهم باقتضاب، جلست بجوار "حبيبة" في صمت، وصل "عُبيدة" ومعه الخدم يحملون السيوف والرماح، كان يتضوّر جوعًا، انضمّ إليهم بعد ترحيب حار من "المسوّم"، رأى التاج على رأس "حيزوم" فهنأه"على منصبه الجديد، وجلس يتناول الطعام، كان يتعامل مع الأمر بآلية شديدة، وكأنّه تجرّد من عواطفه ليواجه صدمته بعد تحوّل خيوله إلى بشر، لم يرفع عينيه عن المائدة، فقد لاحظ سلوك آل "الكحيلان" منذ اللحظة الأولى، وقف "موراي" قاطعًا عليهم تلك الاحتفالية التي رآها مفتعلة وباردة وقال بصوت جهوري وعيناه تتأرجح في قلق:
, -لا بدّ أن نرحل اليوم
, سكنت الأصوات كلّها فجأة، وكأنّ هناك من ألقى عليهم ****ًا كاتمًا للصوت، بقيت جملته معلّقة في الهواء، قالت "البيضاء" بعد أن تمعّنت في ملامحه طويلًا:
, -ستحتاجون إلى خيول لتحمل متاعكم، ونحن لن نرحل معكم
, رد موراي بعصبية شديدة:
, -لم نطلب منكم هذا!، سنسير على أقدامنا،كما أنّكم لستم خيولًا لنركبكم! أليس كذلك؟
, وقف "يوسف" بعد أن لاحظ سحابة التوتر التي ظللت الأجواء وقال بهدوء:
, -"موراي" يريد البحث عن والده، وأنا سلكت هذا الدرب من أجله، لا بدّ أن نرحل فالوقت يمرّ
, قال "المسوّم":
, -أنتم ضيوفي، لن ترحلوا حتى أمدّكم بما يصلح لرحلتكم، وسأرسل معكم دليلًا من خدمي، فهم يحفظون كلّ شبر هنا
, تنحنح "حيزوم"، وكأنّه يذكّره أنه الآن الآمر الناهي في هذا القصر، قال"المسوّم" استدراكًا لخطئه:
, -وهذا بأمرٍ من زعيمنا بالتأكيد
, وأشار لـ"حيزوم"، فانفرجت أساريره، طالعته زوجته بإعجاب، هدأ "موراي" وجلس يتبادل النظرات مع "يوسف، بعد قليل، اقتحم باب القصر ثلاثة من الشبّان، طوال القامة، سمر البشرة، اقترب أحدهم بعوده الفارع شامخًا يطالع الجميع بعينين كجمرتين مشتعلتين، صاح "يوسف" وهو يشير إليه:
, -أنت "البرق"!
, قال الشّاب وهو يسير بخيلاء أمامهم وهو يطالعهم بنظرات مجهرية تخترق الرؤوس:
, -أحسنت أيها الكاتب، ظننتك لن تميّزنا من بعضنا البعض!
, -كيف وصلت إلى هنا؟
, ضحك "البرق" وشدّ جذعه وقال:
, -درب من دروبك! أنسيت؟
, -كيف؟
, -فُتح أمامي أنا ورفاقي، فدلفناه، وسمعنا عن قصر "المسوّم"، فأسرعنا إلى هنا
, اقترب منهم وجرّ مقعدًا وجلس وكأنّه صاحب المكان، تبعه شاب آخر مجدول الشعر، عريض الصدر، له أنف يشبه الخطّاف، حيّاهم جميعًا وأطال النظر إلى "الشقراء"، فبادلته النظرات واقتربت منه كأنّها تراوده عن نفسه وقالت هامسة:
, -اشتقت إليك يا "أجدل"
, أخرجه "أبهر" من حالة الوله والهيام بضربة على كتفه وكأنّه يحييه، لكنه فطن لمراده، فنقل "أجدل" عينيه بين المقاعد واتجه نحو "موراي" ودفعه في صدره وقال وهو يطالعه بنظرة حامضة:
, -هل انتهيت من طعامك يا هذا؟
, صاح "حيزوم":
, -"أجدل"٣ نقطةما الذي تفعله؟ أجننت!
, قال "البرق" موجهًا كلامه لـ"حيزوم":
, -الجنون هو أن تستمرّ في الخضوع لهم وكأنّك ما زلت خيلًا تُهان وتُضرب ويُحمل عليها أضعاف أوزانها أثقالًا لخدمة البشر، وتُمنع من النعيم، والدفء
, ثُمّ التفت تجاه "مُوراي" وقال ساخرًا ومتهكمًا:
, -عذرًا جلالة الملك"موراي"،لم يلتقِ "أجدل" بك من قبل، وهو لا يعرفك
, ثُمّ جمدت ملامحه فجأة وقال يعنّفه:
, -قم يا "موراي"، فسيّدك "أجدل" يريد أن يتناول طعامه
, وقف "موراي" غاضبًا وكوّر قبضته، كاد يضربه لولا أن السيّد "بركات" و"يوسف" تدخلا وسحباه من ذراعيه، قال "بركات" وهو يدفعه لخارج القصر:
, -سأخرج مع "موراي" الآن، لقد انتيهنا من طعامنا
, كان "عُبيدة" يراقب ما يحدث في سكون! التفت "يُوسف" نحو الشّاب الثالث، وكان يقف خلفهم بصدرٍ مكشوفٍ وقد غطت غرّته الناعمة حاجبيه، أدرك "يوسف" أنّه "البحر" والذي حياهم بهزّة رأس وجلس على مقعد "بركات"، وبدأ يأكل بنهم شديد، عاد "يوسف" يطالع وجه "البرق" فانقبض صدره، همس لـ "حبيبة":
, -شيطان
, سألته وهي تنقل نظراتها بين وجوههم:
, -من؟
, -"البرق".
, -لماذا؟
, -ستُسال الدماء هنا، على أرض هذا القصر اللعين
, شعرت "حبيبة" بغصّة في حلقها، الآن هي توافق "موراي" في رأيه، لا بدّ من الرحيل فورًا من هذا القصر اللعين.
,
, ٥ العلامة النجمية
, كان لا بدّ من هذا الاجتماع في حديقة القصر، فبعد ما حدث من "البرق"، وبعد إهانته لـ"موراي"، أصبح الرحيل هو الاختيار الأمثل، قال "يوسف" وهو يربّت على كتف "موراي":
, -لا تحزن يا "مُوراي"، أنت تعلم أنّ عقولهم صغيرة، وأنّهم٣ نقطة
, قاطعه قائلًا:
, -لنرحل الآن
, قالت "حبيبة" بحماسٍ شديد:
, -نعم لنرحل، كرهت هذا القصر
, قال "عُبيدة" وهو يضبط قوسه ويعدّل كنانة سهامه:
, -سنحتاج إلى خيول
, ثُمّ أردف ساخرًا:
, -خيولًا لا تتحدّث بلغة البشر!
, قال"بركات":
, -حسنًا، سنطلب من "حيزوم" أن يمدّنا بدليل من خدم القصر، ولنضع خطّة فالقرى هنا كثيرة كما سمعت منهم، لعلّنا نعثر على والد "موراي" في إحداها
, سألهم "يوسف":
, -من سيدخل معي للقاء "حيزوم"؟
, أعرضوا جميعًا وهربوا من نظراته، حتى "عُبيدة"!، كرهوا القصر، وكرهوا تلك النزعة الجديدة التي يتحدث بها آل "الكحيلان" معهم، تبادل "بركات" معه النظرات، مدّ ذراعه وأحاط كتفه وقال له:
, -هيّا بنا يا "يوسف"
, دلفا إلى القصر فلم يجدا إلّا "البرق"، و"أجدل"، و"البحر"!، كان البرق يرفع ساقيه فوق منضدة الطعام، ويعقد ذراعيه خلف رأسه، فور أن رآهما قال بتهكّم:
, -ألم ترحلا بعد؟
, قال "بركات":
, -أين "حيزوم"؟
, -"حيزوم" هكذا مجرّدة؟ الأفضل أن تناديه الآن بـجلالة الملك!
, تقدّم "يوسف" خطوة ليجيبه فمدّ "بركات" ذراعه وحجزه وقال موجهًا كلماته إلى "البرق":
, -أين السيّد "حيزوم"؟
, اعتدل "البرق" وأنزل ساقيه ووقف قبالتهما وقال:
, -لماذا لا بدّ أن يكون هو السيّد والزعيم؟
, -اخترتموه لأنفسكم
, صاح "البرق":
, -لم أختره أنا!
, -أعيدوا الاختيار، ونسقوا الأمر بينكم، فالأمر يخصّكم
, -حسنًا، لماذا تريده؟
, -سنرحل اليوم، ونحتاج دليلًا، وبعض الخيول
, قهقه "البرق"، وطالعهما بازدراء وقال:
, -خيول مرّة أخرى!
, لم يعلّق "بركات"، كان يحاول ضبط كلماته، قال "يوسف" وهو يتأمّل "البرق" وهو يسير بخيلاء أمامهما:
, -لماذا تغيّرت يا "برق"؟
, -وهل تغيّرت؟
, -نعم، كنت محبًا لرفاقك، كنتم زمرة واحدة، تركضون في تناسق بديع، تحبّون بعضكم البعض، ولا يجرؤ أحد منكم على التطاول على أخيه!
, -كنّا زمرة واحدة يقهرها زعيم واحد ويجبرهم ضعفهم وخنوعهم على الخضوع له
, -لم يقهركم "حيزوم"، كان دومًا حكيمًا وراشدًا!
, -ولماذا لست أنا؟ ولماذا قدّم "المسوّم" له الولاء فور أن رآه، وتنازل عن عرشه وتاجه؟ أليس هذا ضعفًا؟ وهو من شيّد كل هذا وبناه!
, هزّ "يوسف" كتفيه وقال:
, -الزعامة حمل كبير يرهق صاحبه، وهي أمانة، ستسأل عنها أمام ****، وسيّد القوم خادمهم، فهل ستقبل؟
, -دعك من هذا الكلام، لي ما أراه وأعيشه الآن، أنا الأقوى، أنا الأحق بالزعامة، "حيزوم" صار كهلًا ولن يستطيع!
, دلف "حيزوم" القاعة كالبركان الثائر، ودلف خلفه "أبهر"، و"المسوّم" قال معنفًا "البرق":
, -نحن عشرة من آل "الكحيلان"، وأنتم ثلاثة فقط، إن شئتم البقاء فأهلا بكم، تحت زعامتي وطوع أمري، وإلّا فارحلوا الآن
, رفع "البرق" رأسه وطالعه في جمود وبلادة وقال:
, -لن نرحل يا "حيزوم"، وليس لك أن تأمرنا بالخروج، هذا قصر "المسوّم" وكلّ ما حولك من ماله الخاص
, قال "المسوّم":
, -مالي وقصري بين يدي كبيرنا وسيّدنا "حيزوم"، وكلّنا تحت جناحه
, اشتعل "البرق" غضبًا فأسرع "أجدل" وقال وهو يسحبه من ذراعه:
, -السمع والطاعة لكبيرنا "حيزوم"، سنبقى بينكم كما كنّا دومًا معًا، لن يفرقنا خلاف تافه
, قال "حيزوم":
, -بالطبع فنحن عصبة واحدة
, ران عليهم الصمت للحظات، قال "بركات":
, -سنرحل اليوم، ونحن في حاجة لدليل من الخدم، وسنحتاج بعض الخيول
, قال "حيزوم" وهو ينقل عينيه بين وجه "يوسف" ووجه "بركات":
, -وزفاف ابنتي؟ ألن تشاركونا فرحتنا؟ وددنا أن تكون أوّل خطوة لنا لتعديل سلوكنا، استجابة لنصائح "يوسف"، فقد ناقشت الأمر مع أمي وزوجتي، نحن نحتاجكم، فامنحونا يومًا أو يومين ثُمّ ارحلوا على بركة ****، لا تتركونا في أشد لحظات احتياجنا إليكم.
, سأل "أجدل" وقد ضاقت عيناه:
, -ومن سيتزوجها؟
, أجابه "حيزوم":
, - "أبهر"
, تقلّص وجهه، وكأنّه طعنه بخنجر، كانت دماؤه تغلي في عروقه، تجاهل "حيزوم" ردّة فعله والتفت لـ"بركات" و"يوسف" مرّة أخرى وسألهما:
, -ستبقون للغد، أليس كذلك؟
, -سنبقى بالتأكيد، وسنرحل مبكرًا إن شاء ****
, ١٢ العلامة النجمية
,
, بحديقة القصر، وبعيدًا عن النهر حيث كان "موراي" يجلس وحوله رفاقه ينصتون للسيد "بركات"، كانت "الترياق" تجلس في ركن قصيّ تراقبهم من بعيد، اقترب "المسوّم" منها متأمّلًا عينيها، وكان فيهما وداعة حانية، وسألها متلعثمًا:
, -ما الذي أبكاكِ الليلة الماضية؟
, -أمرٌ خاص
, شعر بالحرج فجلس قريبًا منها وقال:
, -لماذا أنتِ حزينة؟
, -أولست حزينًا يا "مسوّم"؟ أخبرني عن شعورك بعد أن تحوّلت من خيل إلى بشر!
, تنهّد بعمقٍ ثُمّ قال:
, -كُنت حزينًا في البداية وشعرت بوحشة شديدة، لكننا الآن معًا، كلّكم حولي، لقد ذهب عنّي الحزن فور وصولكم
,
,
, صمتت برهة ثُمّ أطرقت قائلة:
, -أشعر أنني لستُ أنا! أشعر بالاختناق، وأكره شكلي في المرآة، ليتنا ما دخلنا هذا الدرب
, -ستعتادين الأمر يا "ترياق"
, غضّنت جبينها وقالت:
, -وماذا عن الأمانة؟
, أخذته الدهشة وسألها:
, -أيّ أمانة؟
, -التي حملها الإنسان؟ هل سنتحمّل المسئولية؟ هل سنقوم بدورنا الآن مثلهم؟ سنتوقف عن فعل بعض الأشياء بإرادتنا الحرة لأننا سنُحاسب يومًا عليها بعد أن نموت؟
, -سنفعل كما فعل البشر من قبل يا عزيزتي
, -وماذا فعلوا؟
, هزّ كتفيه وأجابها:
, -يعيشون حياتهم بأريحية، لا أظنّ أنّهم قلقون مثلك
, -هم مكلفون٣ نقطةوسيحاسبون، لا بدّ أنهم يحملون همّ هذا.
, - انظري إليهم! هم بخير، سنصلّي كما يصلّون، ونُحسن للآخرين، ونبتعد عن كلّ قبيح
, مرّت "الترياق" بعينيها على وجوههم وقالت:
, - أتظنهم يستمتعون بحياتهم؟
, - يكفي أن تكوني حرّة ولا يستعبدك أحدهم، أو يستخدمك ويحملّك متاعه أو يضربك لتسرعي في السير!
, -ليسوا أحرارًا، بل هم أسرى للحياة الدنيا
, -كيف؟
, قالت بصوت خفيض وكأنّها تخشى أن يسمعوها:
, -كلّ منهم يحمل همًّا يبدو على وجهه، ابتلاءات شتى، "موراي" فقد والديه فقهره الفقر وعركته الحياة وها هي تلطمه وتصارعه، "بركات" فقد زوجته ويبحث عنها مع ابنته الضعيفة يخشى أن يموت ويتركها وحيدة، "عُبيدة" فقد أهله وعشيرته والعزّ والمجد والمال والآن فقدنا، "يوسف" هذا يحمل همًا كالجبال، لا يغرّك تماسكه
, -وكيف عرفتِ؟
, -انظر في عينيه، وتأمّل حاله، لم يحدّثنا يومًا عن أمّه ولا أبيه ولا أشقائه، لم نسمع ضحكاته، كلّنا نضحك حتى "حبيبة"، أمّا هو فلا
, -وماذا عن "حبيبة"؟
, -ليتني أملك ثباتها، لديها يقين أن كل ما تلاقيه هو اختيار **** لها، حتى لو كان همًّا أو أذى، وهذا اليقين يكنس الحزن من قلبها وينقيه من الدرن.
, -حسنًا يا "ترياق"، كلامك هذا لن يغير الواقع، نحن الآن من البشر، فلنحاول قدر استطاعتنا ضبط أنفسنا
, -أخشى البقاء بالقصر
, -لماذا؟
, -التاج والسلطان ساحران!
, -لنا زعيم حكيم وهو يكفينا
, زمّت شفتيها وقالت:
, -كشفت "الشقراء" صحن الحلوى للجميع، وبعضهم يشتهي أن يمدّ يده، وهي لم تمنعهم، ولم تصدّهم، أما رأيت العيون وهي تنهشها في قاعة الطعام؟
, أشار إلى ثيابها قائلًا:
, -ألهذا تتلفعين بهذا الثوب؟
, شدّت الثوب وزادته إحكامًا على جسدها وقالت:
, -ليس الأمر رداء فقط!
, قال مستنكرًا:
, -لم نعتد على هذا، عشنا طوال العمر بلا ملابس، هذا جديد على "الشقراء" كما تعلمين، كنّا نفعل ما يحلو لنا وقت ما يحلو لنا، وأمام الجميع
, هزّت رأسها قائلة:
, -وهذا ما قصدته في بداية كلامي معك، الآن لا نستطيع فعل كلّ ما يحلو لنا! لأننا لم نعد٣ نقطة
, قال بضيق:
, -حيوانات، أليس كذلك؟ تتحدّثين الآن كما كانوا يتحدّثون عنّا
, -ونحن الآن منهم!
, سكنا للحظات والعبارات السابقة تحلّق فوق رأسيهما، أردفت "الترياق" قائلة:
, -هذا القصر خدّاع، يشبه الدنيا
, -تفاءلي يا عزيزتي
, قالت والدموع عالقة بأهدابها:
, -أنسيت أننا صرنا من البشر! سنركض خلف المال، والسلطة، والشهوة، صدقني يا "مسوّم"، عندما كنّا خيولًا كانت حياتنا أسهل وأبسط
, ثُمّ أردفت بصوت واثق:
, -سأرحل مع "عُبيدة" ورفاقه
, فزع قائلًا:
, -ماذا؟ وتتركينني٢ علامة التعجب
, -نعم، سأرحل معهم، لعلّهم يسلكون دربًا آخر فأعود كما كنت
, قال وهو يبتلع ريقه في ارتباك:
, -وإن أمرك "حيزوم" بالبقاء ماذا ستفعلين؟
, -سأهرب!
, دمدم بصوت يرتجف:
, -لكنك تعلمين أنني أحبّك
, التفتت تجاهه وقالت:
, -أعرف، وأعرف أنّك لم تلمس أنثى منذ وصولك إلى هنا، أخبرني الخدم بتفاصيل حياتك
, -وهل ما زال رأيك كما كان؟ ترفضين حبّي، أقصد الزواج منّي طالما صرنا من البشر؟
, -وهل تجدد الطلب الآن؟
, -نعم أجدده
, -لا
, -لماذا؟
, قامت تسير فتبعها وأعاد السؤال، قالت بعد شرود قصير:
, -إن تزوجنا سننجب ***ًا
, -وما العيب في هذا٢ علامة التعجب
, -بالأمس كنّا خيولًا، والخيول عندما تنجب، ترعى صغيرها لفترة وجيزة، ثُمّ يكمل طريقه وحده، ويعتمد على نفسه، وينتقل إلى مكان آخر، وربما لا يراهم مرّة أخرى أبدًا، أمّا البشر فلا، سيظلّ الطفل معلّقا بأمّه، تحمله عامًا، وترضعه عامين، تنظف القذر عنه بيدها حتى يتعلّم، كما كانت تفعل أخت "عُبيدة" فقد كنت أراقبها وهي تربي صغيرها، وأمّا أبوه فسيظل كالأجير والعبد يكدح ويعمل ويتعب ليوفر لهما لقمة العيش، ويمهّد الطريق لهذا الطفل، الإنسان ضعيف يا "مسوم"، يحتاج لرعاية وتربية في صغره، وبعد أن يبلغ الكبر، ألا تذكر جدّة "عُبيدة"، كانت كالطفلة!، وهذا مسئولية وأمانة، ولا أظنني أستطيع تحمّلها
, سألها "المسوّم" بتلهّف:
, -وماذا عن الحبّ؟ والسكينة؟ والمودة والرحمة؟ ألا تحتاجين إلى زوج؟
, أجابته دون تورية:
, -بل أحتاج
, قال راجيًا:
, -تزوجيني إذًا
, رفعت حاجبيها وقالت بثقة:
, -ارحل معنا من هذا المكان، لنبتعد عن القصر، ونبحث عن دروب أُوبال، ونعود كما كُنّا
, -أهذا شرط؟
, -نعم، وهو شرطي الوحيد
, أسرعت "الترياق" نحو القصر وتركت "المسوّم" شاردًا، حائرًا، وقف يتساءل، كيف سيترك كلّ هذا، المال الذي اجتهد لينميه، والتجارة التي أصبحت رائجة وناجحة، اسمه الذي صار محلّ ثقة العملاء والزبائن، والقصر الذي لا مثيل له، والخدم، والعائلة!، كان يتحمّل كلّ هذا وينتظر ظهور حبيبته "الترياق" التي تمنّاها دومًا زوجة له، وكانت ترفض، ولم ييأس، ماذا سيفعل إن رحلت؟ شعر بألم في صدره، وحلّ همّ ثقيل على كتفيه، فجلس منكّس الرأس وحيدًا في هذا الركن القصي من حديقة قصره.
, ٥ العلامة النجمية.
,
, يتعالى الضجيج عند الفرح، وعند النصر، وعند الفرج، وعندما يفوز الحبيب بحبيبه، وكان "أبهر" أكثر سكان القصر فرحة وسعادة، كانت الثياب التي أعدّها الخدام بالقصر تليق به، وقد زادها زينة فوق زينتها بوسامته وبفرحته الصادقة، تمت مراسيم الزواج كاملة حتى أنّ "المسوم" أمر بإحضار أكبر شيوخ القرى وأمر بإعداد مأدبة كبيرة، ما زال هو وحده من يستطيع إدارة الأمور رغم تتويجه لـ"حيزوم"، والكلّ يعرف هذا عنهما، أطلّت "الشقراء" بثوبها الرائع فدارت العيون خلفها حيث كانت تسير كزهرات دوّار الشمس وهي تتبع قرص الشمس هنا وهناك، كانت في أبهى زينتها، وأسرفت، وكان هناك من يسرف أيضًا في الشراب ويتابعها بعينين مشتعلتين، "من أين أتى هذا الخمر؟" سأل "المسوّم" الخدم بغضبةٍ شديدةٍ، أخبروه أنّ "البرق" أمرهم بإحضاره ولم يجرؤ أحدهم على مخالفة أمره، سكب الجرار على الأرض وحذّرهم من أن يطيعوه في هذا مرّة أخرى، وابتعد مهمومًا فما زال حواره مع "الترياق" يوجعه ويقلقه.كانت ليلة ثقيلة على قلب "مُوراي"، وكان رفاقه يراقبون ما يحدث بتوجس، أصبح أمر مراقبة آل "الكحيلان" شيئًا غريبًا ومنفِّرًا، الكلّ يتمنّى أن تنتهي الليلة بسلام، أقبلت "حبيبة" حيث كانوا يجلسون وقالت:
, -"الترياق"
, سألتها "رفيف":
, -ما بها؟
, -سترحل معنا
, سألها "عُبيدة":
, -كيف هذا؟ لن يوافق "حيزوم" بالتأكيد
, صاح "مُوراي":
, -لا نريد اصطحاب أيٍّ منهم معنا، لا نريدها٢ نقطة
, قال "يُوسف" بهدوء شديد:
, -سترحل معنا
, التفتوا جميعًا تجاهه وسألته "حبيبة":
, -لماذا لا تخبرنا عمّا كتبته عن تلك الخيول بالتفصيل؟
, -أنسيتِ أنني لم أضع لقصّتهم نهاية
, -ولكنّك تعرف مقدّمات تلك الأحداث!
, قال "بركات" بتوجّس:
, -إن كان هناك ما تحذّرنا منه فلتفعل الآن يا ولدي
, أغمض عينيه وقال:
, -لا شيء، ولكن، راقبوهم معي، ولا تمنعوا "الترياق" من الرحيل معنا
, طال السهر، وامتلأت البطون، وخفّت العقول، رقصت "الشقراء" بدلال كما لم تفعل من قبل، وشاركها "أبهر" كما لم يحدث من قبل، كان رقصهما في الماضي رقص خيول، أمّا الآن فكلاهما يسير أعمى خلف التواءات جسد الآخر ويقلّدها وحسب، والجمهور يراقب ويصفّق، انتهى الحفل قرب الفجر، ونام كلّ من بالقصر، وكلّ منهم يطوي أمنيته تحت رأسه، البعض أمنياته خبيثة، والبعض يتمنى الرحيل، والبعض يفكّر فيما يخبئه له الغد.
, ٦ العلامة النجمية
, صرخة هلع مزّقت السكون وأيقظت كلّ من بالقصر، أسرع "حيزوم" تجاه غرفة ابنته وتبعه "المسوّم"، كانت تقف في ركن الغرفة وزوجها "أبهر" في صراع مع "أجدل"، أراد الأخير أن يقتله، وكان الخنجر في يده، انقضّ "المسوّم" على "أجدل" ليبعده عن "أبهر" فأمسك ذراعه ودار بها ثُمّ طرحه أرضًا فسقط يتلوّى من الألم، وركض "أجدل" خارجًا من القصر، تبعه "أبهر" واشتد الصراع بينهما في الحديقة، كانا يتناطحان برأسيهما، ويلطمان بعضهما على الأعناق، ما زالت فيهما نزعة حيوانية في القتال، التحما في صراع متوحّش، تدحرجا على الأرض وكلّ منهما يهوي على الآخر باللكمات، وكان لكليهما جسد مصارع، كانا يبتعدان ويتراجعان للخلف ثُمّ يرتدّان بسرعة وينقض كلاهما على الآخر فيصطدمان ببعضهما ويعودان للتدحرج والركل، سالت الدماء من أنفيهما، لم يجرؤ أحد على الاقتراب منهما، وحشان يقتتلان على أنثى واحدة، اقترب "البرق" وأصدر صفيرًا فالتفت إليه "أجدل" فألقى إليه بخنجر آخر غير الذي سقط منه في الغرفة، ثار "حيزوم" و"المسوّم" و"موراي" و"عُبيدة"، حاولوا التدّخل لكن "البرق" و"البحر" وقفا قبالتهم ومعهما سيفان وانضم إليهما الكثير من الخدم، استطاع "البرق" أن يرشوهم بمالٍ سرقه من خزانة "المسوّم" بنفسه، صرخت "حبيبة" وهي تنظر لـ"يُوسف":
, -لا بدّ أن ننقذ "أبهر"، افعل شيئًا!
, انحنت وحملت حجرًا كبيرًا ومزّقت جزءًا من ثوبها وربطت الحجر به، وقف تطوّحه في الهواء ثُمّ قذفته تجاه "البرق" فأصابه في رأسه، زمجر غاضبًا، فتراجعوا جميعًا واتسعت حلقة الصراع، وبقي "أبهر" وحيدًا يقاتل بذراعيه، يهرب من الطعنات، يدافع عن شرفه، زوجته التي طمع فيها "أجدل" وأراد أن يقتله ليخطفها، أصابه "أجدل" بطعنات عديدة حتى أنّ دماءه كانت تسيل وهو يركض، أسقطه أرضًا ووضع ركبتيه على صدره وأمسك الخنجر بيديه الاثنتين ورفعها عاليًا وكاد يهوي به لولا هذا السهم الذي رشق في قلبه، صرخ صرخة ارتجت لها القلوب، دفعه "أبهر" ووثب مبتعدًا عنه، والتفّت الأعناق صوب الرامي، كان "يُوسف"! والذي كان يقف بتنمّر، ويستعد بثباتٍ لرمي سهمه التالي، قال محذرًا:
, -ألقِ سيفك يا "برق"، وابتعد
, لوّح له "البرق" بالسيف في الهواء مهددًا، وركض نحوه حيث كان يقف لكنّ "عُبيدة" مدّ ساقه فأوقعه أرضًا، انقسم الحضور لفريقين، كانت دماء "أجدل" تسيل على الأرض بينما جسده ينتفض وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وصلت الدماء للنهر فهربت الأسماك، انقضّ "البحر" والذي تسلل بينما هم منشغلون بالـ"البرق" وسحب "البيضاء" ووضع خنجره على عنقها وقال مهددًا:
, -اختر الآن يا "حيزوم"، إمّا الزعامة والسلطان هنا، أو حياة أمّك
, صرخ "حيزوم" بهلع:
, -أمي٣ نقطةأختار أمّي
, -اخلع تاجك الآن، وانصرف ولا تعد إلى هذا القصر أبدًا
, خلع تاجه وألقاه نحوه، سحب "البحر" "البيضاء"، والخنجر لا يزال على رقبتها، وتراجع بها للخلف، حيث كان "البرق" يقف وحوله من انضم إليه من الخدم وهم يحملون السيوف، صاح "البرق" وهو يرفع يده بسيفه بعد أن لبس التاج الذي ألقاه "حيزوم":
, - أنا الملك، أنا الحاكم، أنا صاحب هذا القصر وأميركم وسيّدكم
, ثُمّ التفت تجاه "بركات" وقال بحنق شديد:
, -ليس لكم مكان بيننا، سترحلون الآن، ومعكم "حيزوم"، و"أبهر"، و"المسوّم"، وستتركون لنا نساء آل "الكحيلان"
, ثُمّ حدّق في وجه "يوسف" وقال له:
, -و"حبيبة" و"رفيف"
, كان "يُوسف" يقف متأهبًا بقوسه، يخشى أن يطلق السهم على "البرق"، فيذبح رفيقه "البيضاء" انتقامًا له، صاحت بجسارة وحدّ الخنجر على رقبتها:
, -ارم يا "يُوسف" ولا تلتفت، اقتله الآن حتى لو ذبحوني٣ نقطةاقتله
, وثب "عُبيدة" حاملًا سيفه، وانطلق يبارز "البرق" فلم يصمد الأخير أمامه، ضربة، فضربتين، وكان سيفه على الأرض، ومن ذا الذي يستطيع هزيمة هذا الفارس المقدام! تراجع "البرق"، وانسحب الخدم خلفه، عادت "البيضاء" تصرخ:
, -ليتنا ما دلفنا هذا الدرب، أعدنا يا "يوسف" إلى البستان
, قالت "الترياق" بغضبٍ هادر:
, -لا نُريد أن نكون كالبشر٢ نقطةسحقًا لتلك النفوس التي تركض وراء شهواتها
, اقتربت "الشقراء" وكانت تبكي وترتجف، فأحاطها "أبهر" بذراعه وقال:
, -معيشة الحيوانات التي كنتم تسبونها أمام أعيننا أكرم من معيشتكم، لا ينجو منكم إلّا الأتقياء، وهؤلاء يسيرون على حدّ السيف طوال الوقت، يقبضون على الجمر وهم يقطعون دروب الحياة، ليتنا ما سلكنا هذا الدرب.
, صرخ "حيزوم":
, -أنت السبب يا "يُوسف"، افتح الدرب، أعدنا إلى البستان، لا أريد الملك٢ نقطةسحقًا لهذا القصر الملعون
, صرخ "يُوسف" بغضب هادر:
, -ليس بيدي٢ نقطةالدروب لا تُفتح بإرادتي!
, التفت "المسوّم" تجاه "البحر" وقال له:
, -سنرحل ونترك لكم كلّ شيء، أطلق سراح أمنّا "البيضاء"٣ نقطةأرجوك
, غمز "البرق" لرفيقه "البحر" فمرر الأخير خنجره الحادّ على عنق "البيضاء"، بدأت دماؤها تسيل بغزارة، صرخ "حيزوم" قهرًا واندفع تجاهها لكنّ "أبهر" و"المسوّم" منعاه من المرور، كان "البرق" ينتظر تلك الخطوة ليقتله في الحال، كانت "البيضاء" تَنهَت* وعيناها على وجه ابنها "حيزوم"٣ نقطة
, هامش: النّهات هو صوت من الصدر عند المشقّة والألم
, في تلك اللحظة، أعطت "رفيف" القطّة البيضاء لأبيها، وتبادلت معه نظرة تشي بالكثير، غضبت الفتاة الرقيقة الهشّة غضبةً شديدة، كانت عروق جبينها تنبض وقد تغيّر لون وجهها في الحال، تقدمت خطوتين ثُمّ أغمضت عينيها وبدأت في الدعاء كما لقّنتها أُمّها، وفتحت ذراعيها، فشعروا جميعًا بالأرض تهتزّ تحت أقدامهم، بدأ ماء النهر يفور ثُمّ يفيض وسار في خطوط حتى لامس قدميها، فتحت جفنيها وطالعتهم بعينين بيضاوين، سقط الوشاح عن رأسها واستحال شعر رأسها أبيضَ كالثلج، تراجع الجميع وأصابهم الهلع، حتى "البرق" أجفل مما رآه منها، بسطت كفّها تجاهه فخرّ على الأرض مصعوقًا، أشارت لجسد "البيضاء" فبدا وكأنّه يتبخّر وتصاعد منه زغب أبيض يشبه الريش، وظل يرتفع وينتشر حتى اختفى، ثُمّ رفعت يديها في الهواء، فصنعت حاجزًا شفافًا بينهم وبين "البرق" ورفاقه، ثُمّ التفتت تجاه أبيها وقالت بحزم شديد:
, -أبي٣ نقطةالآن
, أقبل "بركات" على "يوسف" وقال له:
, -هات يدك يا "يوسف"، كما فعلنا من قبل لينفتح دربٌ آخر من دروب "أُوبال"
, فغر "يوسف" فاه وقال:
, -كيف هذا!
, مدّ يده متعجبًا، ووضعوا جميعًا أيدهم فوق بعضها البعض، بقيت "حبيبة" و"رفيف، اقترب آل الكحيلان، وضعوا أيديهم فوق بعضها البعض وانضمّ إليهم "المسوّم"، كانت "حبيبة" تنتظر "الترياق"!، أرادت أن تطمئن أنّها معهم، وفور أن وضعت يدها تبعتها "حبيبة" بكفّها، ثُمّ ضربت "رفيف" على كفوفهم جميعًا ضربة واحدة كما فعلت من قبل، شعروا بحرارة تتخللهم، وفُتح درب جديدٌ أمامهم، فدلفوه تباعًا، وخلّفوا وراءهم "البرق" و"البحر"٢ نقطةوالقصر الملعون!, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٧
الدرب الثاني
, بريق ذهبيّ يتخلل الضباب، وكأنّ هناك من نثر شذرات من الذهب هنا وهناك، رمالٌ تبرق تحت ضوء الشمس، لا زرع هنا يقطع بخضاره الزاهي لمعة هذا النسيج الأصفر، فوق تلك البقعة وفور أن انغلق الدرب وقفوا جميعًا وقد أذهلهم ما حدث!، لقد عاد آل "الكحيلان" خيولًا مرّة أخرى، وتمزّقت الثياب التي كانوا يرتدونها وتبعثرت هنا وهناك، ما زال "المسوّم" مصابًا، كان يعرج على قوائمه الأمامية، كانت الخيول تصهل بعنفوان، يدورون حول بعضهم البعض، وجدوا "البيضاء" ملقاة على الأرض أمامهم، عادت لصورتها الأولى مثلهم، لكنّ جسدها الأبيض قد تخضّب بالدماء، التي ما زالت تتدفّق من عروقها، لفظت أنفاسها الأخيرة أمام أعينهم، وبكى "حيزوم" قهرًا عليها، فالتفّت الخيول حوله تعزّيه، التحموا مرّة أخرى معًا كنسيجٍ واحد، وابتعدوا عن أصدقائهم من البشر، خلصوا نجيًّا يتهامسون، وكأنّهم قد حنّوا للغة الخيول!
, وقف "عُبيدة" مبهوتًا يراقبهم، يا لها من خيول! من كان يصدّق أنّ هذا سيحدث؟، ربّت "موراي" على كتفه وكأنّه قرأ أفكاره، تبادلا النظرات ثُمّ أسرع "عُبيدة" يضمّد جراح "أبهر"، و"المسوّم"، كان "أبهر" جلدًا، صبورًا، يتحمّل المشقّة والألم، أما "المسوّم" فكان يتألّم بشدّة، تعاون الرجال في حفر قبر يليق بالـ"البيضاء"، دفنوها على تلك الأرض التي لا يعرفونها، وحلّ عليهم هذا الصمت الذي يلي المصائب، تلك السكينة التي تحيط كلّ من فقد حبيبًا، هذا الهدوء الذي يصيبنا بعد طول البكاء، عندما تتنزّل رحمات **** على خلقه.
, مرّ الوقت ثقيلًا، وكانوا متعبين، بدأت الشمس تغيب، وهبّت رياح شديدة البرودة، جلس"مُوراي" بجوار "يُوسف" وقال له:
, -لم تخبرنا أنّك ماهر في الرمي بالقوس يا سيّد "يوسف"!
, التفت "يُوسف" تجاهه وكانت عيناه شاردتين، فالأفكار تقتات على عقله، علّق القوس بكتفه وقال له:
, -لا تنادني بـ"سيّدي"
, غطس غطسة في ماضيه، تذكّر رفاق الجامعة الأثرياء، وكيف كان يرافقهم إلى تدريبات الرماية وهو يتمنّى لو يستطيع الانضمام لهذا النادي الذي يتدرّبون فيه، وأنّى له هذا وهو لا يملك المال!، سمح له صديقه أن يجرّب الرمي بالقوس مرّة، فأذهلهم ببراعته، لكنّه لن يستطيع أبدًا الانضمام إليهم، سيكتفي بالمشاهدة، حاله كحال الكثير من الشباب، الحلم أكبر من ذات اليدّ، لا حقّ له في تلك الرفاهية، لم يجب "موراي" بكلمة، لكنه التفت وحرّك رأسه بآلية ثُمّ سأل "بركات":
, -منذ متى وأنتما تعرفان أن تلك هي طريقة فتح الدروب؟ تلك الدروب لا تُفتح إلّا بحجر "أوبال"!
, ابتسم "بركات" وقال له:
, -أخبرتني زوجتي عن حجر أُوبال
, -زوجتك! يبدو أنّك تعرف الكثير، وتخفي الكثير!
, وقف "يوسف" يتمعّن في ملامحه، يريد أن يتذكّر من هذا الرجل بالتحديد، قال "بركات" قاطعًا عليه أصوات طواحين الهواء التي دارت في رأسه:
, -أما زلت لا تذكرني يا "يُوسف"؟
, -لا! وما زلت أحتاج إجابة للسؤال
, لم يُجبه "بركات"!، بقي سؤاله معلّقًا في الهواء، لماذا فُتحت الدروب عندما اجتمعت كفوفهم فوق بعضها البعض؟، وقفت "رفيف" تعدّل من وشاحها غير مبالية بحوارهما الذي كانت تسمعه، غطّت شعر رأسها الذي اشتعل شيبًا أمام عيونهم أمام قصر "المسوّم" بينما كانت تُدافع عنهم، ورفعت عينيها تجاه "يوسف" و"حبيبة"، كان حاجباها قد تحولا إلى هلالين أبيضين يظللان على مقلتيها البلوريتين، ما زالت جميلة، كانت "حبيبة" تظنّها ضعيفة، ولكنّها الآن أدركت أنّها الأقوى هنا! سألتها وهي تدنو منها:
, -من أنت؟
, -أنا "رفيف"
, -ماذا فعلتِ بالـ"البيضاء"؟
, -نقلتها إلى هنا حتى لا يمثّلوا بجثّتها
, التفتت "حبيبة" تجاه "يوسف"، واقتربت منه هامسة:
, -"مَيسان" تزوجت من شاب التقت به في درب من دروب "أوبال"، وعاشت معه على أرض أوبال، في سلام وأمان وأنجبت خمس فتياتِ صغيراتٍ بريئاتٍ أطلقت عليهن أسماء الأحجار الكريمة التي تحبّها، وعاشت في سعادةٍ بعد أن مرّت بالكثير خلال رحلاتها في الدروب، وفي يوم مشئوم خرج زوجها واختفى فجأة، وتركها وحيدة.
, قال "يُوسف" وكان لا يزال يحدّق في وجه "بركات":
, - وهذا بالفعل ما كتبته، ولم أزد عليه، وفاجأني ما قصصتيه لي بعد عودتك من "ديرينكويو"، وأنهن أصبحن ساحرات أوبالس
, ثُمّ رفع صوته ليسمع الجميع وقال:
, -يبدو أننا نقف أمام الشقيقة الخامسة لساحرات "أُوبالس"
, ترامق الجميع في اندهاش قبل أن يُكمل وعيناه تبرقان:
, -هذه "لؤلؤة"، الأخت الخامسة لساحرات "أُوبالس"
, ثُمّ أشار إلى "بركات" وقال:
, -وهذا زوج "مَيسان" صاحبة حجر أُوبال والدروب
, شهق "موراي" وقال وهو يشير إليها:
, -"رفيف" ساحرة!
, قال "بركات":
, -ليست ساحرة يا "موراي"
, سار "موراي" تجاه "يوسف" وقال بانفعال:
, -بل ساحرة، أليس كذلك يا سيّد "يُوسف"؟ لقد رأينا ما فعلته بأنفسنا!
, قال "بركات" موضحًا:
, -ما فعَلتْه ليس سحرًا، بل هو من المهارات التي لقنتها لها أمّها، وهي تستمدّ قوّتها من الماء، "لؤلؤة"، أو "رفيف"٢ نقطةكانت مع أمّها عندما حاولت تلك العجوز قتلهما فهربتا معًا، وضلّتا في دروب أوبال، في طريق عودتي من رحلة تجارية التقيت بزوجتي "مَيسان" وابنتي، وكنّا لا نعلم بأمر السحر، سمعنا عمّا حدث في البلاد، وعلمنا بسقوط مملكة البلاغة، وأدركنا أن بناتنا هنّ الساحرات، فافترقنا لنحمي "لؤلؤة"
, سألته "حبيبة":
, -من أيّ شيء تحميها؟
, تنهّد بعمق وقال:
, -من شقيقاتها
, -معقول!
, -نعم يا ابنتي، على الأقل حتى أعثر على زوجتي "مّيسان"، لتعيدهن إلى رشدهن، هي وحدها من تستطيع هذا
, -ولكن لماذا يُردن القضاء عليها؟
, -لأن أمّها أورثتها قوّتها، فصارت هي الوحيدة التي تستطيع مواجهة سحرهن، ولأنّها الأكثر نقاء بينهن
, ثُمّ أردف بتأثّر:
, -أملي أن تتمكن زوجتي ومعها "لؤلؤة" من إعادتهن لعهدهن القديم، فتيات بسيطات لطيفات، فقد اشتقت إلى أسرتي الصغيرة
, -وما الذي قلب الأمور بتلك الطريقة؟
, -عمل ناقص
, -ماذا تعني؟
, هزّ رأسه بندم وقال:
, -عملٌ لم تتمّه زوجتي، لم تضع له نهاية، كان لا بدّ من غلق دروب "أوبال" للأبد، والتخلّص من الحجر والصندوق، لكنها لم تفعل، احتفظت به لعلّها تحتاجه، وكان هذا خطأ عظيم، لأننا اكتشفنا أنّ هناك من يتبعها ويبحث عنّا ليصل إليه
, قال "يوسف" وكان ينصت إليه في سُكون:
, -وعندما فُتحت الدروب، حدثت الفوضي في رواياتي الخمس، ودبّت الروح في شخوص الهوامش، وخرجت ساحرات أوبالس وأسقطن مملكة البلاغة
, تنحنح "مُوراي" وسأله:
, -هلّا أخبرتنا أيّها الكاتب العظيم أين نحن الآن؟ وما سرّ تلك الرمال الذهبية!
, أغمضت "رفيف" عينيها وقالت:
, -أشمّ رائحة البحر!
, ترامقوا في اندهاش، لا يوجد أيّ أثر للحياة حولهم، لا شيء سوى رمال ذهبية ناعمة، بدأت رائحة البحر تزيد، سيتحرّكون الآن لعلّهم يعثرون عليه.
,
,
, ٤ العلامة النجمية
, "يُوسف"
,
, قررنا السير لعلّنا نصل إلى هذا البحر الذي تدغدغ رائحته أنوفنا، كان "المسوم" يتألّم، رفضت أن أركبه، سرت بجواره بعد أن قام "عُبيدة" بتضميد ساقه التي كانت تؤلمه بعد شجاره العنيف مع "أجدل"، اقترب "أبهر" وكان يحمل "مُوراي"، همس قائلًا:
, -اركب يا سيّدي خلف "مُوراي"
, -لست سيدًا لأحد!
, أمسكت بذراع "مُوراي" التي امتدت تجاهي في الحال وركبت خلفه، ظننت أنّ "أبهر" سيبطئ من سيره بسبب جراحه، لكنّه انطلق يركض، ويركض، ويركض، وكلانا على ظهره نتلجلج، حيث تسارعت أنفاسه وأنفاسنا معه، وعلا كرير صدر "أبهر" وهو يسرع، ودارت السحب في السماء فوقنا وتدرّج لونها الأزرق، كان يزداد قتامةً ثُمّ يبهت فجأة، نهار ثُمّ ليل، ونهار ثُمّ ليل، قطعنا مسافات طويلة، وخلفنا باقي الخيول، يحاولون مجاراته لكنّه كان يسبقهم، وأخيرًا ظهر شاطئ البحر، ظلّ يركض ناثرًا بحوافره الرمال المبتلّة خلفه في كل مكان، ثُمّ هبّت رياح قويّة.
, كان "أبهر" يسابق ظلّه الذي كان يتراقص على الأرض أمامنا، وكنت أحتضن خصر "موراي" وأغمض عينيّ متألّمًا فقد كان الوميض قويًا وموجعًا للناظر إليه حتى أنني شعرت بالعمى للحظات، كنت أشعر أننا نخترق جدرانًا خفيّةً شديدة البرودة ومعلّقة في الهواء، تحمل قطرات خفيفة من الماء، كانت أراها تختلج أمامي٢ نقطةتبلل وجهي برذاذ بارد، شعرت أن "موراي" يرتجف وقد كان يمسك بزمام فرسه ببراعة شديدة، كُنت أثق به ولهذا كُنت أغمض عيني وأشعر أنني خلف فارس بارع، لكنّه عندما بدأ يرتجف ثُمّ يرتج بشدّة وكأنّ زلزالًا أصابه أخافني الأمر ففتحت عيني، وإذا بي خلف غلام في العاشرة من عمره، كان يجلس أمامي على صهوة الجواد!
, شهقت من الصدمة وناديته مذهولًا:
, -"موراي"!
, التفت الغلام وطالعني بنظرة تحمل الكثير من الحيرة وقال بصوت طفولي:
, -ما بك يا سيّدي؟
, ثمّ انتفض عندما سمع صوته بنفسه، صوت طفولي يخرج من صدره! تحسس جسده وملابسه التي صار غارقًا فيها لكبر قياسها عليه، ترامقنا في اندهاش، حتى "أبهر" هدأ من ركضه عندما سمع صوت الغلام، قال "موراي" بتوتّر شديد:
, -ما الذي يحدث٢ علامة التعجب
, -هذا شيء عصيّ على الفهم، ولكن٣ نقطةيبدو أننا عدنا للبداية
, -أيّ بداية؟
, - لم يكن ركضنا بالخيول على الأرض، بل كان في فضاء غريب! هذا الدرب العجيب أخذنا لزمن آخر! وعاد بنا للماضي، كما فعل خنجر "أنس" الذي أخبرتني عنه "حبيبة"
, -أيّ خنجر؟
, -لا تشغل بالك، المهم٣ نقطةأنت الآن عدت صغيرًا يا صديقي
, -لا أُصدّق! لكن٢ نقطةعقلي٣ نقطةكما هو! أنا نفسه "موراي" الذي أخذك للبستان، هو أنا يا سيّدي، لست ***ًا صدّقني
, -أصدقك٢ نقطةوأعرف أن روحك التي بين جنبيك أكثر نضجًا مما يبدو لنا الآن، لكنني لا أدري هل ستظل ذاكرتك على حالها أم لا!
, -وماذا إن نسيتُ كلّ شيء؟ هل ستتركني؟
, -لا تخف٢ نقطةلن أتركك أبدًا حتى وإن نسيتني
, في تلك اللحظة بدأت أشعر بالمسئولية تجاه "موراي" وبدأت أشعر بخطورة ما نمرّ به هنا، قلت محاولًا طمأنته:
, -إن لم يعجبنا الحال سنعود من حيث أتينا، وقبل أن أنسى٣ نقطةلا تنادني بسيّدي مرّة أخرى، والآن حاول أن تتذكر معي هذا المكان، أليست تلك قريتك التي تظهر أطلالها من بعيد؟
, -لا أدري!
, -بل هي قريتك، ها هو شاطئ البحر، وها هي مراكب الصيد والشباك حولها، أبوك هنا يا "موراي"
, -نعم٢ نقطةنعم٣ نقطةأشمّ الآن رائحة الحبال المالحة٢ نقطة
, أكملنا الطريق والابتسامة لا تفارق وجهي، هأنذا على الجواد مع أحد "الحزاورة"، غلام لطيف يوشك على البلوغ، ما زال على سجيّته، يحمل من البراءة وخصال الخير ما يؤهله ليكون إنسانًا سويًا، حسن الخلق، طيب المعاشرة، إلا أن الحياة ستفسد عليه سجيته، ستطعنه في مواطن طيبته فينزف منها حتى تجفّ جراحه، وقد تتغير طباعه للضد، دنيا بائسة لا تترك الأصفياء على صفائهم، ولا الأنقياء على نقائهم، تعكّر عليهم حيواتهم فيفقدون حلاوتها، وتحلّ محلّها مرارة تلو مرارة، ليت الدنيا تتركهم حزاورة، ليتهم يظلون على نقائهم وطيبتهم، لكنّها الحياة٤ نقطةوما أقبح الحياة!
, قطع "أبهر" عليّ شرودي وسألني:
, -هل سنترك "موراي" هنا يا سيّدي؟
, كُنت أكره كلمة "سيدي" التي ينادونني بها، وددت لو توقف الجميع عن مناداتي بها، لكن تكرار النهي لم يردعهم عن مناداتي بها، أجبته وأنا أربت على عنقه:
, -نعم سنتركه٢ نقطةلا بدّ أنّه يشتاق لأبيه، أليس كذلك يا "موراي"؟
, أجابني "موراي" الذي كان مذهولًا مما حدث له:
, -فلنبحث عنه أولًا ثُمّ نفكّر، أخشى أن نلتقي باللصوص مرّة أخرى، لو رأوني لن يتركوني، وسأذوق لحظات العذاب مرّة أخرى! كما أننا لن نستطيع العودة من حيث أتينا إلّا عندما تُفتح الدروب مرّة أخرى، وهذا ليس بيدنا ولا نملكه!
, -لا تخف يا "موراي"٢ نقطةلا تخف يا صديقي، سنجرّب ما فعلنا سابقًا مع الرفاق
, قلتها والخوف يدبّ بالفعل في نفسي، كان صادقًا في كل كلمة قالها، لم تتغير طريقة معالجته للأمور، سيظل ذكيًا كما هو غلامًا صغيرًا كان أو شابًا رائعًا في السابعة عشرة من عمره كما رأيته أوّل مرّة التقيت به فيها.
, انتظرنا باقي الخيول،ووصل الرفاق، ورأوا جميعًا ما حدث لـ"مواري"، عدّلنا له ثيابه وأكملنا سيرنا بمحاذاة شاطئ البحر، من بعيد رأينا رجلًا يجلس على صخرة يخيط شباكه وموج البحر يتوالى مُقبلًا قدميه، كان ساكنًا وحالمًا يصبو إلى أفق لا يراه الناس حوله، ترجل "موراي" عن الفرس وركض نحوه صائحًا:
, -أبي٣ نقطةأبي
, انتفض الرجل وقفز في مكانه ورمى الشباك فور أن سمع صوت صغيره، أقبل عليه وحمله بين يديه وظلّ يلثم رأسه وعينيه، سأله متعجبًا:
, -ما بك يا ولدي؟
, -اشتقت إليك يا أبي
, -تركتك منذ دقاق بالبيت!
, -حقًّا٣ نقطةلكنّك٣ نقطةأوحشتني يا أبي
, عانقه عناقًا حارًا ثُم قال له:
, -هيّا تناول إفطارك لتساعدني، فالعمل اليوم كثير
, صوّب الرجل عينيه المتعبتين المرهقتين تجاهنا، ثُمّ ابتسم ابتسامة جعلت وجهه الممتلئ بالتجاعيد أجمل، كان "موراي" ولده الوحيد، ورُزق به على كِبر، ماتت أمّه وهي تلده، وبعد الظلم الذي تعرّض له هو وأهل قريته في جنوب مصر من أحد الأمراء الظالمين، انتقل معهم إلى ساحل البحر الأحمر هنا وعملوا جميعًا بالصيد، وكان الغلام أنيسه وونيسه وقرّة عينه، سألنا بصوت مبحوح:
, -مرحبا بك يا سيّدي
, -لا تنادني بسيّدي أرجوك
, -كيف أخدمك؟
, قال "موراي" متلعثمًا:
, -التقيت بهم منذ قليل، يطلبون وجبة شهيّة من الأسماك الطازجة
, سرنا معًا نحو الدار وكانت عينا "موراي" تبرقان من السعادة، أخفينا عن والده أمر الخيول ولم نخبره أنّها تتحدّث بلغة البشر، أمضينا وقتًا مميزًا في دارهم البسيط، نام "موراي" على فخذ أبيه بينما كان يروي لنا عن رحلات صيده ومخاطرها، هبّت عاصفة قوية، كان للرياح صفير مهيب، رفض الرجل رحيلنا في تلك الظروف، وأحسن إكرام "حبيبة" و"رفيف"، كان بيته شديد البساطة مكوّنًا من غرفتين، اجتمعنا في غرفة وتركنا الأخرى للفتاتين، جاء وقت النوم فقام الرجل ليطفئ المصابيح، تمددت على فراش بسيط وبدأت أشعر بوخزة في صدري، يبدو أن موعد فراق "موراي" يقترب، وكنت قد تعلّقت به وأحببته، وليتني ما تعلّقت به٢ نقطة
,
, استيقظنا في اليوم التالي على صوت ضحكات "مُوراي"، كان يعدّ لنا الإفطار مع والده، بعد أن تناولنا الطعام اقترب يسألني:
, -سترحلون الآن؟
, -لا بدّ من هذا يا صديقي
, -وددت لو أكملت الرحلة معكم
, -أعرف
, دمعت عيناه وقال بصوت يقطعه البكاء:
, -انقل سلامي لـ"مِسكة"، وللحزاورة، ولا ترحل قبل أن تطمئن عليهم
, -لا تخف، تعهّد السيد "بركات" برعايتهم، تحدّثنا بالأمس، وأخبرني أنّه سيعتبرهم أبناءه
, حملت لنا الجلبة البعيدة أصوات صراخ وعويل، ازدحم الشاطئ بأهل القرية، سرنا مع "مُوراي" وأبيه تجاه الزحام، اخترق "موراي" الصفوف، وعاد بوجه شاحب، كان يرتجف، وقف أمامي وكأنّ لسانه قد شلّ للتوّ، أمسكته من كتفيه وسألته:
, -ما بك يا "موراي"؟
, لم يجبني فهززته بقوّة فقال:
, -غرق " حسّان"
, -ومن هو؟
, -جارنا
, -هل كان صديقك؟
, -لا، ولكنه غرق في نفس اليوم الذي خطفني اللصوص فيه!
, أدركت حينها سبب خوفه، قلت له بثقة:
, -لن نتركك يا "مُوراي" وحدك، لا تخف
, ثُمّ التفتُّ تجاه "حبيبة" وقلت لها:
, -لا بدّ أن ننقذ "الحزاورة"
,
, ٤ العلامة النجمية
, قد يقع عليك البلاء فجأة، فتتألم وتتوجع، ولكنّك في النهاية سترضى وتصبر، سيمرّ الوقت، ويندمل الجرح ويذبل، ويختفي الألم تاركًا ندبة في قلبك تتحسسها الذكريات فتوقظ الألم للحظات، وتعود للسكون. ولكن أن تنتظر البلاء وأنت تعرف تفاصيله الدقيقة والموجعة، وتمرر السكين على الجرح مرتين، فهذا هو الجحيم بعينه! وهذا ما كان يشعر به "مُوراي"، كان يترقّب وينتظر، لم يفهمه أبوه عندما حاول أن يشرح له ما حدث، وما سيحدث، وما مرّ به، ظنّه رأى كابوسًا مزعجًا وتذكّره عندما أصابته الصدمة بعد غرق "حسّان"، جاوره لساعة ثُمّ ملَّ من كثرة كلامه وشكواه فتركه وعاد لشباكه وصيده وأبحر بقاربه الصغير، مرّت ساعات النهار ثقيلة علينا، كادت الشمس تغرب عندما داهمت تلك العصابة القرية الصغيرة التي يعيش فيها "موراي" وأبوه، كانوا غلاظًا شدادًا ضخامًا، وكأنّهم تيوسٌ سمينة تقف على ساقين، قال "بركات":
, -لن نواجههم فعددنا قليل
, قال "عُبيدة":
, -لم تُرق الدماء، سيسرقون المال، وما جمعه الصيادون من لآلئ ويرحلون
, قلت لهما:
, -سيخطفون الصبيان، هم يحتاجون "الحزاورة" منهم ليبيعوهم كعبيد، أو ليدربوهم على السرقة وقطع الطريق
, تشبث "موراي" بيدي، كانت يداه متعرّقتين وجسده يرتجف من شدّة الخوف، زفر زفرة كأنّها خرقت **** قلبه، قال بكلمات هشّمها البكاء وهو يتابعهم بعينيه وهم يتنقلون أمامه ونحن نختبئ منهم:
, -كان هذا يكويني على ظهري بالنار
, وأشار إلى أحدهم، فرّت دمعة من عينيه، همس برعب متسائلًا:
, -هل سأنجو منهم؟
, ثُمّ أشار لآخر وقال:
, -وهذا قتل أحد رفاقي
, ثُمّ أشار لثالث وقال:
, -وهذا خلع ظفري عندما عصيته
, القرية كلّها تنتفض، حتى البحر ثار وعلا موجه، اقتحموا البيوت ونهبوها، هتكوا ستر النساء في الخدور، كنّا نختبئ منهم ونراقبهم بحذر، وكانت عينا "مُوراي" معلّقتين بالبحر ينتظر عودة أبيه بقاربه، والذي فور أن عاد قفز هو ورفاقه يدافعون عن أهل القرية، أمسك أحدهم بتلابيب ثوبه فقاومه وأفلت منه وانطلق ينادي على "مُوراي" فركله لصٌّ بقدمه وأسقطه على الأرض، اندفع "مُوراي" نحوه فحمله أبوه وبدأ يركض به، كان أهل القرية يفرّون بأبنائهم، بدأت العصابة تتصيّدهم واحدًا تلو الآخر، كاد أبوه يهرب به، لكنهم لاحقوه ونزعوا "موراي" من حضنه، صرخ "موراي" فأسرعت لأساعده، تبعني"عُبيدة" و"بركات"، رأى لصٌّ خيول الكحيلان واقترب منها، أراد أن يلقي بحبل حول عنق "الجمانة" فصهل "حيزوم" وقال له:
, -إيّاك أن تمسّ شعرة منها وإلّا سأقتلك
, اتسعت حدقتا عينيه وارتعدت فرائصه عندما سمع صوته! صرخ بهلع قائلًا:
, - الخيول تتحدّث! هذه القرية ملعونة!
, ابتعدوا عنهم خوفًا منهم، وبدأوا يهربون، كُنت أركض خلف اللص الذي يحمل "مُوراي"، لكنني لم أتمكّن من اللحاق به، فروا على أحصنتهم فوجدّت "أبهر" يهرول نحوي فركبته لألحق بهم، لحقنا به وسبقته بمسافة طويلة، توقفنا فاستدار ليغير مساره فسحبت سهمًا وشددت قوسي ورميت فأصبته في ظهره فسقط وأسرعت لالتقاط "موراي" وعدنا للقرية، راعني ما رأيته، كانت النيران تشتعل في كلّ البيوت، والدماء في كلّ مكان، "عُبيدة" يبارز لصّين، و"حبيبة" تقذفهم بالأحجار وتلقي عليهم بالشباك، و"بركات" راكع على ركبتيه يحتضن رجلا ويضغط على جرح تتدفّق الدماء منه بغزارة، اقتربنا فتبينّاه فإذا هو الأب، انتفض "مُوراي" وصرخ صرخة مزّقت نياط قلبي، وهرول نحو أبيه، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، غالب آلامه وابتسم عندما رأى "مُوراي"، قال بصوت واهن:
, -الحمد لله الذي نجاك منهم يا "مُوراي"
, قال "مُوراي" وهو يمسح على وجه أبيه:
, -لا تتركني يا أبي
, قال أبوه وهو يتنفّس بمشقّة:
, -اهرب يا "مُوراي"، اهرب يا بنيّ، سامحني٢ نقطةفلم أترك لك مالًا ينفعك، لكنني ادخرت في قلبك الكثير من الذهب
, وأشار بإصبعه إلى صدر "موراي" وجذبه من قميصه واحتضنه طويلًا، ولم يطلق سراحه إلّا رغمًا عنه٣ نقطةعندما غادرت روحه جسده، حاصرنا اللصوص، كانوا يربطون الحزاورة بالسلاسل، كانوا ستّة من الغلمان وسابعهم هو "مُوراي"، تمامًا كما كتبت في روايتي البائسة عنهم، أشفقت عليهم فقد رأوا آباءهم وأمهاتهم وهم يقتلون،كان اختطافهم ورحيلهم قبل حرق القرية رحمة من **** لهم، فعاشوا على أملٍ أنّهم سيلتقون بهم يومًا ما، وكنت قد فكرت في أكثر من نهاية لرواية الحزاورة، وكتبتها على الهامش، منها أن يموت والد "مُوراي"، قال "موراي" وهو يبكي بحرقة:
, -ليتني ما سلكت هذا الدرب، كنت أظنّ أبي طوال الوقت على قيد الحياة!
, ثُمّ التفت نحوي وسألني:
, -لماذا لم تخبرني أنّه مات بعد رحيلي مباشرة؟ ألست الكاتب؟!
, انعقد لساني، لم أجرؤ على إخباره أنني كُنت على أمل أن والده لم يمت، وأنّ ما كتبته عن عودته لأبيه كان في هامش آخر تمنيت لو تحقق بالفعل، وسعيت معه لأبحث له عن أبيه وأنا أرجو **** أن يكون على قيد الحياة، كان بكاء "مُوراي" يقهرني، احتضنته ورحت أذكّره ب****، صرخ صرخة مزّقت فؤادي، كانت "لؤلؤة" ساكنة حتى شهدت تلك اللحظة، لكنّ صرخته فجّرت بركانا من الغضب في صدرها، فاستيقظت قواها الكامنة مرّة أخرى، فسارت نحو البحر حتى ابتلّت قدماها بالماء، همست بالدعاء كما علّمتها أمّها، ثُمّ التفتت نحو أفراد العصابة وهم يحاصروننا، و"عُبيده" يترصّد لهم بسيفه، وأنا بسهامي وقوسي، و"حبيبة" تطوّح الحجارة في قطع من القماش، انطلقت "لؤلؤة" تجاههم كالإعصار، كانت تسير بخطوات سريعة وهي تقترب من كلّ واحد منهم، وكانت تدفعه بكفيها دون أن تمسّه، طرحتهم أرضًا ففرّوا بين هاربٍ، وخائف من عينيها، ومتألّم من ضرباتها الخفيّة، ثار البحر وعلا موجه وكأنّه غضب لما شهده على شاطئه، لم يتبقّ من أهل القرية سوى القليل من النساء والصغار، تراجعوا في خوفٍ وتجمّعوا حتى صاروا في أمان، وكنّا خلف ظهر "لؤلؤة"، رفعت جسد والد "مُوراي" وفعلت به ما فعلته بجسد البيضاء من قبل، فتصاعد منه زغب أبيض يشبه الريش، وظل يرتفع وينتشر حتى اختفى، ثُمّ مالت على ساقٍ واحدة وضربت بقبضتها على الأرض وهي تهمس، فلانت الرمال تحت أقدام أفراد العصابة، لفّتهم دوّامات الرّمال فغطّت أجسادهم ورؤوسهم، وانزلق بعضهم فيها وابتلعته، وفرّ البقيّة إلى البحر هاربين من تلك الرمال التي صارت تموج كماء البحر!، اشتدّت الرياح، كان صوت اعتلاج* أمواج البحر مخيفًا، وكأنّه كرههم هو الآخر! انقلب موجه على بعضه البعض، وتكوّر كالبساط عليهم، وأرسل دواماته وابتلعهم وهم يصرخون، ويستغيثون، راقبناهم وهم يغرقون، وكان الحزاورة معنا، تأمّلت وجوههم وقد أطلّ اليُتم من أحداقهم، هؤلاء من كتبتُ عنهم، وقد رقّ قلبي لكلّ يتيم٣ نقطة
, هامش: الاعتلاج هو صوت تلاطم أمواج البحر
, صغارًا كانوا؛ لكنّهم أقوياء، ستغلب قوّة أرواحهم قوّة أجسادهم، وستغلب قوّة أجسادهم قوّة أحزانهم، سيثبت كلّ واحد منهم كالطود رغم ما ألمّ بهم من مصائب، سيغلبون الحياة بما سيتميزون به عن غيرهم، قُطعت وشائجهم وسيصلون أنفسهم ببعضهم البعض
, هدأ غضب "لؤلؤة"، وعادت لمظهرها الرقيق الهشّ، وكأنّها فراشة بيضاء كانت قد بسطت جناحيها ثُمّ ها هي تلملمهما، وحلّقت تجاه أبيها، قالت كما قالت من قبل:
, -أبي٤ نقطةالآن!
, مدّ السيّد "بركات" يده تجاهي فناديت "الحزاورة"، وضعنا كفوفنا جميعًا فوق بعضها البعض، وفوقها وضع "الحزاورة" كفوفهم الصغيرة، غطت "حبيبة" كفوفهم بكفّها والدموع تسيل من عينيها، ودارت حولنا خيول الكحيلان الستة، وضربت "لؤلؤة" مرّة أخرى على كفوفنا جميعًا ضربة قوية، فانفتح درب جديد، وقفت أمامه وأنا أبتهل إلى **** أن يكون دربًا آمنًا لا موت فيه، دلفنا تباعًا ومعنا الخيول و"الحزاورة" إلى دربٍ جديد.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨
الدرب الثالث
, أخضر، أخضر، أخضر، غابات خضراء، سهول خضراء، هضاب خضراء، هذا ما وقعت عليه عيونهم عندما سلكوا الدرب بعد إنقاذ "موراي" ورفاقه "الحزاورة"، كان "يُوسف" أوّل من دلف، وبعد أن سار لمسافة وجيزة التفت ليطمئن عليهم، وشهق شهقة لفتت أنظار الجميع إليه، لكنّهم سريعًا ما أدركوا سبب اندهاشه، لقد عاد "مُوراي" كما كان عندما التقى به أوّل مرّة، وليس هو فقط من تغيرت هيئته وملامحه!، بل أصبح الغلمان الستة الآخرون بالغين ومن عمره تقريبًا، بالكاد تغطي ملابسهم التي كانوا يلبسونها عوراتهم، أفزعهم ما حدث لهم، وحدث هرج زاد من ارتباكهم، فجلس الكبار يهدئونهم ويحدّثونهم، وكان لـ"مُوراي" دور عظيم في شرح ما حدث لهم!، كان الجوّ باردًا، وهناك غيمة ترتجف تكاد تبعثر المطر، خلع "يُوسف" معطفه وبسطه على أكتفاهم، وشاركه "بركات" بعباءته الصوفية الطويلة التي خلعها ليدفئهم بها واكتفى بقميص وبنطال كان يلبسهما وجلس بجوارهم يحنو عليهم، كانوا يرتجفون ولا يدرون هل من الخوف أم من البرد!، تلفّت "يُوسف" يمشّط المكان، لا بدّ من البحث عن قرية قريبة أو أيّ مكان ليوفر للحزاورة بعض الملابس، فهم صغار الروح والنفس رغم إهابهم الذكوري البالغ، إلّا "مُوراي" الذي عركته الحياة مرّتين، كانت روحه روح محارب، ونفسه نفس مصارع تماما كمعنى اسمه الذي تخيّره أبوه بعناية، لاح لـ"يُوسف" من بعيد دخّان نارٍ وطيف يتهادى بجوار خيمة من بعيد، أشار لـ"أبهر" فأسرع يقترب منه وركبه وسار به تجاه النار وتبعته "حبيبة" على "الترياق"، أرادت أن تتحدّث معه قليلًا بعيدًا عن الآخرين، قالت وهما يسيران بهدوء بين الأشجار:
, -أريد أن أتحدّث معك
, وضع سبابته على فمه، ففهمت ما يرمي إليه، الخيول تسمعهما، أوقف "أبهر" وترجل عنه وطلب منه ومن"الترياق" المكوث بجوار الشجرة حتى ينهي حديثه مع "حبيبة"، وعندما ابتعدا عنهما قال لها:
, -لا بدّ أن نعود لحذرنا من الجميع، فالخيول تحمل في نفسها شيئًا تجاهي، يظنون أنني السبب في كلّ شيء يحدث هنا، تفضّلي يا آنسة "حبيبة"، أنا أسمعك
, -لماذا أنت صامت دائمًا؟ لماذا لا تشاركني أفكارك؟ أنسيت أننا هنا لسبب وهدف واحد؟ وأنني بلا دليل بعد سقوط مملكة البلاغة!
, -سامحيني، فقلّة كلامي عيب من عيوبي التي لم أفلح في تغييرها
, -حسنًا، استنتجت هذا، فأنت كاتب ولا بدّ أن رأسك يضجّ دومًا بالأفكار، ولكن وددت فقط أن أطمئن، هل نحن نسير بخطوات واضحة؟
, -في الحقيقة، أنا مثلك، حائر لا أعرف ما الخطوة القادمة، أنا فقط أستقبل ما يحدث بحذر، وأحاول التكيّف حتى نحقق هدفنا ومهمتنا هنا، وأساعد شخوص رواياتي
, -وهل سنتمكن من إنقاذ مملكة البلاغة؟
, -أثق بهذا، تعلّمت اليقين منك! ما بالك يا آنسة "حبيبة"؟
, مسحت وجهها بكفيها الباردتين وقالت له:
, -الموت٢ نقطةأخافني!
, تنهّد وقال بصوت تشوبه رنّة حزن:
, -كان لا بدّ من موت "أجدل"، كاد يقتل "أبهر"!
, -والمسكينة "البيضاء"!، ووالد "مُوراي"، وآباء الحزاورة وأمهاتهم
, -أسأل **** أن يرحمهم جميعًا
, -فقدُ الأحبة مؤلم، والفراق صعب
, قال بتأثّر:
, -من ألطاف **** بنا أنّه يبتلينا بابتلاء صغير لننشغل به عن وجع ابتلاء آخر أكبر منه، فننشغل بهذا عن ذاك، وربّما لا ندرك هذا إلّا بعد وقت طويل، أو لا ندركها أبدًا!
, -مسكين "مُوراي"
, -عندما سألني عن أبيه لم أخبره أنّه مات!، تركته على أمل، فقد كان الأمل هو دافعه لمصارعة الحياة، لم أتوقع أن تكون دروب "أُوبال" سبب لتعرية الحقيقة أمام عينيه وإيلامه بتلك الطريقة
, -مساكين هؤلاء الحزاورة، كبروا قبل الأوان!
, -وكل يتيم مثلهم يكبر قبل الأوان
, -وماذا عن "بركات"؟ كيف نسيته وأنت من كتبت عنه!
, -عندما كتبت عن زوج "مَيسان" لم أصف ملامحه ولم أتحدّث عنه كثيرًا في رواية "دروب أُوبال" ولهذا لم أعرفه، فآخر ما كتبته جملة استفتاحية في ورقة لأكمل بعدها٣ نقطة أنّها التقت بشاب في درب من الدروب وتزوجته وأنجبت خمس فتيات، وخرج لتجارته ولم يعد، فجلست تبكي وحولها بناتها أمام المدفأة، ولم أكمل٢ نقطة
, -الآن فهمت٢ نقطة
, -ما زلت أشعر أنّه يخفي سرًا ما! وأظنّ أنّ هذا ليس اسمه الحقيقي، فكما بدّل اسم ابنته ليحميها، لا بدّ أنّه غيّر اسمه أيضًا
, -كُنت أظنّ "رفيف"٢ نقطةأقصد "لؤلؤة" ضعيفة هشّة!
, -لماذا؟
, -لأنّ مظهرها ضعيف جدًا، كما أنّها لا تهتم بملابسها كما تهتمّ الفتيات، لا أقصد الزينة ولكنني أقصد أنني كنت أشعر أنّها تعاني من صدمة أو تتوجع من مصيبة في صمت
, قال "يوسف" برصانة:
, -" الزينة الجميلة قد تخفي قبحًا عظيمًا، ما ترينه أمام عينيك قشور، وخلف تلك القشور جوهر لن تعرفيه إلّا بعد الاختلاط بهم، لا تنخدعي بالمظاهر، خلف الأقنعة النظيفة التي يرتديها الناس قد تكون هناك عقول قذرة"
, رمشت "حبيبة" بعينيها وتلفتت تفكّر، كانت تلك هي الجمل التي قالها لها "بركات" وهي تسير معه في قرية "الدحنون"، ابتسمت عندما فطنت لشيء ربّما لم تلتفت إليه من قبل، الكثير مما يقوله من حولها هنا من كلمات هي في الأصل من صياغة "يُوسف"، تلك النصائح، وتلك الحكم، فهو الكاتب والمؤلف، لاحظ ابتسامتها فسألها:
, -لماذا تبتسمين؟
, -لا شيء، مجرد خواطر، هلّ لي بسؤال؟
, -تفضّلي، وأسرعي فقلبي يتمزّق على الحزاورة، أودّ جلب بعض الثياب لهم لتحميهم من البرد، فمعطفي لن يدفئهم
, -لماذا تُصرّ على ارتداء هذا المعطف العجيب؟ إنّه يظهرك٣ نقطة
, قاطعها قائلًا:
, -يُظهرني فقيرًا؟ أليس كذلك؟ في الحقيقة أنا فقيرٌ بالفعل، بيتنا بسيط، وعائلتي بسيطة، ولا نعيش في بيت أنيق من طابقين، ولا أملك سيّارة، و٤ نقطة
, لاحظ أنّه اندفع مبالغًا في إجابتها وسبب لها الحرج فتوقف عن الكلام، قالت بارتباك:
, -لم أقصد يا "يُوسف"، عندما رأيتك والقوس في يدك، وراقبتك وأنت تواجه "البرق"، رأيت في عينيك بريق شجاعة كنت أظنك تفتقر إليها، وعندما كُنت تحاول إنقاذ "موراي" فاجأني عدم مبالاتك بالمخاطر، أنت قويّ وشجاع لكنّ مظهرك هذا يخفي قوّتك وشجاعتك! ويظهرك هشًا ضعيفًا
, لمعت عيناه، رأى في كلامها إطراءً مهذّبًا، وكان الحزن قد لازمه منذ أن أخبرته أنّها لم تتذكّر لقاءها به، قال بابتسامة يشوبها القليل من الحرج:
, - ذاك المعطف مصدر أمان بالنسبة لي، مات أبي وأنا في السابعة، وكنت أشتاق إليه وأبكي كثيرًا فكانت أمي تحضر معطفه وتعطره بعطره المميز وتدثرني به، فكنت أشعر بالأمان وأسلّم جفني للنوم وأعيش حلمًا مميزًا في أحضان أبي، وعندما خطفني "المجاهيم" كنت ببيتي ووحدي، وقد اعتدت أن أرتديه عندما أكتب
, قالت باسمةً:
, -والجورب الأرجواني؟
, غادره شبح الحرج الذي كان يطوف بوجهه، وتحوّل لنبرة حزن في كلماته وهو يقول:
, -هذا الجورب صنعته لي أمّي في مرضها الأخير وقبل أن تموت
, ثُمّ أضاف بابتسامة منكسرة:
, -وللأسف ثقبته لأنني أرتديه طوال الوقت منذ بداية فصل الشتاء، أغسله وأرتديه، ثُمّ أغسله مرّة أخرى وأرتديه٢ نقطة
, جال في المكان بنظراته وقال:
, -بعض الأمان يكمن في التفاصيل الصغيرة
, شعرت "حبيبة" بارتباك شديد، وكأنّها ضغطت على جرح كان لاهيًا عن ألمه بما يحدث لهما هنا، قالت وهي تجنح إلى اللين:
, -آسفة٢ نقطة
, -ليس هناك داعٍ للأسف، أشعر بالراحة عندما أتحدّث عنهما
, -هل لك أشقاء؟
, -لا
, ران عليهما صمت خفيف، لاحظ حرجها فأراد أن يخفف عنها فقال:
, -بالمناسبة، توقفي عن حمل الأحجار والإطاحة بها، تشبهين أفلام الكارتون
, ابتسمت ولم يغادرها الحرج، كانت تشعر بالذنب، أردف قائلًا:
, -استخدمي خنجر جدّك، فالدروب هنا تنقلنا من صفحة لأخرى كما ترين، وتقوم بمهمة الخنجر، ولا بدّ أنّ له فائدة أخرى
, قالت باندهاش:
, -لم يخطر هذا ببالي! سأفعل٣ نقطة"يوسف"، وددت أن أخبرك بشيء آخر
, -ما هو؟
, قالت بتردد:
, -أنا أتواصل مع "زمرّد" عن طريق تلك المرآة
, أخرجت المرآة وشرحت له ما حدث من قبل، سألها متعجبًا:
, -كيف وثقت بها بتلك السرعة؟ ألم نتفق على الحذر منهم مهما اقتربوا منّا؟
, -عندما تحدّثت معها شعرت أنّها٢ نقطةتختلف عن "ياقوت"!، ولا تنس أنّ بينهما خلافًا، كما أنّها أنقذتني وأخرجتني من مدينة "ديرينكويو"
, -ربّما أخرجتك لتتبعك وتراقبك، وربّما كذبت عليك وليس هناك خلاف بينهما!
, ثُمّ قال وهو يردّ لها المرآة:
, -احذري حتى نعرف أين نحن الآن، وانتبهي، فربّما تتعرّض "لؤلؤة" للخطر بسبب تلك المرآة
, هزّت رأسها موافقة وقالت:
, -سأفعل
, -والآن هيّا بنا، فقد تأخّرنا على "أبهر" و"الترياق"
,
, عادا لطريقهما، حملهما "أبهر" و"الترياق" حيث كان هناك خيط من الدخان يسير متعرّجًا تجاه السماء مختلطًا بندف السحاب، ووصلا حيث كانت النار تطقطق وفوقها قدر يغلي فيه الماء، بين شجرتين عظيمتين كانت هناك خيمة مزركشة وبجوارها عربتان خشبيتان وزوج من الخيول الهالكة بدا عليهما المرض والكبر، ترجل "يوسف" عن جواده وهو يقول:
, -غير معقول!
, سألته "حبيبة":
, -ماذا٢ علامة التعجب
, التفت "يُوسف" نحوها وعلى وجهه ابتسامة واسعة، أراد أن يخبرها بشيء، لكنّه كان منفعلًا وظلّ يبتسم! قالت ساخرة:
, -بالمناسبة، أنا لا أقرأ الأفكار!
, ضحك ثُمّ صفّق بيديه وصاح قائلًا:
, -السلام عليكم
, أتاهم ردّ السلام بصوت أنثويّ صاحبته بحّة لطيفة، خرجت امرأة بدينة برداء مزركش ألوانه زاهية، تربط رأسها بوشاح خوخي اللون، وعلى جبينها يتدلى عقد رفيع، وقد علّقت في أنفها حلقة من الذهب، وأحدثت بأساورها الفضية خشخشاتٍ وجلبة وهي تهزّ يديها وتقترب، كان خدّاها الخمريّان متورّدين ولامعين، غاصت أنفها وغطست عيناها في صحن وجهها المستدير، يحمل جفناها آثار بكاء لكنّها تغالبها وتبتسم، خطّ الشيب حاجبيها لكنّها ما زالت تحتفظ بقوّة البدن، تأرجحت أمامهما ووقفت تسألهما:
, -من أين أنتما؟ وماذا تريدان؟
, أجابها "يُوسف" وقد تقلّصت الابتسامة على شفتيه قائلًا:
, -عابرا سبيل ونطلب الزاد، وإن كان عندك بعض الثياب، فرفاقنا يرتجفون من شدّة البرد
, -مرحبًا بك وبهم
, ثم نظرت حوله وسألته:
, - أين هم؟
, -سأحضرهم في الحال
, قبل أن ينصرف، سألها وعيناه تبرقان:
, -ما اسمك يا خالة؟
, قالت والطيبة تقطر من ملامحها:
, -"مِسكة"
, شهقت "حبيبة" واتسعت حدقتا عينيها، أشار لها "يوسف" لتلحق به هي و"الترياق" وقال لـ"مسكة":
, -سنعود بعد قليل يا خالة ومعنا الخيل والرفاق
, -مرحبًا بالجميع، سأعدّ لكم بعض الحساء
, انطلق "يُوسف" على صهوة جواده فلاحقته "حبيبة"، نادته ليبطئ السير وكان متعجلًا يخشى على "الحزاورة" من البرد، سألته وقد أطلّت من عينيها دهشة عارمة:
, -"مِسكة"! لم أعرفها!
, -نعم هي العجوز الطيبة
, -لا لا٢ نقطةليست هي!، هل تمزح معي؟ تركناها بالبستان هرمة ضعيفة!
, قال مبتهجًا:
, - هي نفسها، وكما ترين٢ نقطةهي الآن أكثر حيويّة ونشاطًا
, -أنت أدرى فهي من شخوص رواياتك
, -يبدو أنني لم أُحسن كتابة أوصافها وملامحها، في الحقيقة، كنت شحيحًا في الكتابة عن ملامحها وجلّ تركيزي كان على مشاعرها نحو زوجها
, ثُمّ أضاف وهو يرفع حاجبيه مبتسمًا:
, - تبدو أكثر بدانة، كما أنّ لها خدين متوّردين لامعين! لولا الخيمة وما حولها ما تعرّفت عليها!
, ضحكت "حبيبة" وسألته عندما لاحظت ابتهاجه لعثوره عليها:
, -لماذا أراك مبتهجًا لرؤيتها؟
, -لأننا سنؤنسها في وحدتها، فهي خائفة ووحيدة
, -لكنّها لم تعرفنا!
, -لأنّها لم تدخل معنا الدرب الأوّل مثل البقية
, فركت "حبيبة" جبينها بحيرة وسألته:
, -وهل هي في البستان الآن!
, هزّ كتفيه قائلًا:
, -لا أظن، لا بدّ أنّها اختفت من هناك
, - على العموم سنعرف عندما نعود، ولكن! ما تلك الثياب الغريبة التي ترتديها؟
, -هذه ثياب الغجر، كانت تتنقّل مع زوجها من مكان لآخر، تزوّجا بعد قصّة حبّ طويلة، وأخرجها من بلادها وهجرت أهلها وابتعدت عنهم لسنوات، وبعد الزواج لم تنجب، فتزوّج بأخرى وظلّت "مِسكة "تحبّه، أنجب من ضرّتها وأساء إليها وبقيت تحبّه، ضربها واستمرّت تحبه!، زهد فيها وطلّقها ورحل وما زالت تنتظره في نفس المكان الذي تركها فيه، تأمل أن يعود، عاقبها على شيء ليس لها يدُ فيه، ماتت مرارًا وهي على قيد الحياة!
, -يا إلهي!
, قالت "الترياق" وكانت تنصت لحديثه عن "مِسكة":
, - من يقبل الذل والمهانة يصبح الذل والمهانة أمرًا معتادًا عليه مع الزمن، هو ميّت في عيون من حوله، فالجرح الذي يؤلم الحي لا يؤلم الميت، كذلك الهوان الذي يؤلم العزير لن يؤلم الانسان الذليل
, قال "يُوسف":
, -هي ليست ذليلة، كانت تحبّه
, قالت "حبيبة":
, -أوافق "الترياق" في كلامها، هي حطّت من نفسها فأذّلها زوجها، "من يَهُن يَسهلُ الهوانُ عليه، ما لِجرحٍ بميّتٍ إيلامُ
, هزّ كتفيه قائلًا:
, -العيب فيه والنقص فيه والخبث فيه وليس فيها، هو لا يستحقها
, صاحت "حبيبة":
, -لأنه أحمق، من يحاسب الآخرين على ما منعه **** عنهم لحكمة، وما ليس لهم يدٌ فيه، هو إنسان أحمق
, ابتسم عندما لاحظ غضبها، كان يعلم أنّها تُحبّ "مِسكة"، وكذلك "موراي" والجميع، قال وهو يثقبها بعينيه:
, -هل وقعتِ في الحبّ يومًا يا آنسة "حبيبة"؟ إنّه كالمرض، داءٌ عضالٌ يكسر النفس، يجعلك هشّة ضعيفة أمام من تحبين، قابلة للاحتراق من أجله، وقابلة للاحتلال من قِبله، سيعبث طيفه بعقلك كما يحلو له، ستهلك روحك حلمًا بقربه، وربّما لن ينتبه إليك، ولن يشعر بك! هي كانت تحبّه، وهو لم يشعر بها.
, كانت الخيول تنصت لحديثهما بشغف، سأله "أبهر":
, -وهل وقعتَ أنت في الحب يا سيّد "يُوسف"؟
, خطف نظرة على عيني "حبيبة" وهرب من سؤاله قائلًا وهو يحثّه على السير بسرعة:
, -لا تنادني بـ"سيّدي"، لست سيدًا لأحد٢ نقطة
, وانطلق نحو باقي رفاقه، تلك الصحبة التي عاش معها على أوراق يكتبها، يتخيّلهم، وها هو الآن يعيش معها كتفًا بكتفٍ على أرض مملكة عجيبة، أخبرهم بأمر "مِسكة"، وكان أكثرهم حنينًا إليها "مُوراي"، الذي أذهب خبر ظهورها بعض الحزن عن قلبه، وكان ما زال مذبوح الفؤاد بعد موت والده، عادوا إليها، أجفلت في البداية عندما سمعت أصوات خيول الكحيلان، لكنّها تقبلت الأمر عندما وجدت الجميع يتعاملون معهم باطمئنان وأريحية شديدة، أمّا الحزاورة فقد أحبوها للغاية، انشغلت "مِسكة" بخدمتهم، كان زوجها قد رحل منذ ثلاثة أسابيع، وكاد الطعام ينفد من خيمتها، كانت تقطف بعض ثمار البستان أحيانًا، فزوجها لم يترك لها مالًا كافيًا، بل اكتفى بترك العربتين الهالكتين بما فيهما من أدوات كان يستخدمها من يعملون معه في العروض التي كانوا يقدمونها لأهل القرى التي يمرّون بها، أخبرها أنّ قيمتها عظيمة، ولم تطلب منه شيء، لأنها كانت تطلب جواره فقط، ترجو الأمان بقربه. لم تهنأ بنومة آمنة منذ رحيله، لم تنم الليل، فهي تخاف الظلام وتستوحشه، أمّا النهار فكانت تقتنص خلاله غفوات سريعة، وتستيقظ فزعة مع كلّ صوت غريب تسمعه. جمعت ما لديها من ثياب، بعضها لزوجها، وبعضها لأخيه الذي كان يصحبهم في رحلاتهم، وهذا ثوب مهرّج، وهذه سترة الساحر، أمّا هذا فبنطال طويل بلون صُفرة المُشمُش كان يرتديه رجل يقف على ساقين طويلتين خشبيتين، ضحكوا عندما أخرجته لهم، رقّت لرفاق "مُوراي"، كان الجميع ينادونهم بهذا اللقب"الحزاورة"، رغم أنهم جميعًا لم يعودوا حزاورة!، ما زالوا يتعجبون من تحول أجسادهم، ترى وجه الواحد منهم وقد ظلل شاربه الرفيع شفته، وغلظ صوته، وطالت قامته، لكنّه لا يزال بنفس *** في العاشرة أو أكبر بعام أو عامين! عندما سمعت "مِسكة" قصّتهم جلست تبكي، أخبرتهم أنّها ستكون أمًا لهم، وستصحبهم أينما ذهبوا، حلّقوا حولها، رأوا فيها الأم التي فقدوها على الشاطئ، وبعضهم رآها الأم والأبّ معًا، ورأت هي فيهم ما حُرمت منه، أقبل الليل، وسَهَجت* الرياح، نام بعضهم داخل الخيمة، وبعضهم في العربتين الخشبيتين، وكانت تلك المرّة الأولى التي تنعم "مِسكة" فيها بنوم عميق منذ فترة طويلة، أغمضت عينيها وكانت آخر صورة رأتها وجه "لؤلؤة" وهي تهمس لـ"حبيبة":
, -ماذا ستفعلين لو مات كل أهلك فجأة؟
, أجابتها بخفوت:
, -لا أدري!
, هامش: سَهَجت الرياح أي اشتدّت وهبّت هبوبًا مستمرًّا
, نامت "لؤلؤة" وبقيت "حبيبة" تحدّق في سقف الخيمة، أشفقت على "يُوسف"، تخيّلته وحيدًا بغرفته، يكتب رواياته ليتدفّأ بكلماتها، وينصت إلى شخوصها ويتحاور معهم بصوت مسموع ليخفف عن نفسه مرارة وحدته.
,
, ٣ العلامة النجمية
,
, مرّ اليوم التالي هادئًا وكانوا متعبين، قرروا أن يمضوا ليلة أخرى بالمكان، وقرروا الرحيل في الصباح التالي، كان الأقوى من بين الحضور "بركات"، بدأ يخلق جوًا جديدًا، يحكي الحكايا ويقصّ القصص وهم يتحلّقون حوله، دلفت "حبيبة" مع "لؤلؤة" للعربتين وأخرجتا الأدوات، بدأ "الحزاورة" يجرّبون ارتداء الملابس، واللعب بالأطباق والكور والأطواق وقذفها في الهواء، أبدوا مهارة أدهشت الجميع، أقبلوا يفتّشون وعثروا على المزيد من الملابس، بدأوا النفخ في الأبواق، واستخدام البنطال الطويل والساقين الخشبيتين الطويلتين، نجح واحد منهم فقط أمّا البقيّة فسقطوا تباعًا وكان "عُبيدة" يلتقطهم وهم يسقطون بين يديه ويعودون للمحاولة، كانت هناك بعض الألعاب السحرية، مساحيق تخلط بالماء وتُخرج ألوانًا بديعة وأحيانًا فرقعات، قبّعة مهرّج ارتداها أحدهم، ناموا ليلتهم أفضل حالًا من الليلة التي سبقتها، لملموا أوجاعهم ووضعوها في سلّة واحدة، جمعهم الليل تحت سقفه فخفف حال كلّ منهم عن حال من يجاوره، سيرحلون غدًا٣ نقطةسيرحلون إلى مكان جديد.
,
, أقبل الصبّح يوشي قمم الأشجار بتيجان من ذهب، الجو دافئ، والرياح ساكنة، والعصافير خرجت من أعشاشها وملأت الأجواء بشقشقاتها العذبة. استيقظ الجميع وأوّلهم "مِسكة"، أعدّت لهم إفطارًا شهيًا، ما زال الحزن عالقًا بصدورهم، حتّى أنّه قلّب على "عُبيدة" أوجاعه وتذكّر يوم فقده لأهله، ونبشت دموع "موراي" ذكريات كان "يُوسف" يخبئها عن الجميع في قلبه اليتيم، بدأت "حبيبة" تقرأ الآن كل كلمة على وجهه، وعينيه، وبين غلالة الدموع التي تعلق أحيانًا بأهدابه، لقد كتب هذا الشاب عن فقد الأهل، عبّر عمّا يعتمل في صدره في رواياته، ما زال تائهًا في دروب الحياة، ترى هل أتى هنا لينقذ أحدهم أم هو نفسه في حاجة للإنقاذ! قال "يُوسف" موجهًا كلامه للجميع لينتزعهم من بين مخالب الحزن الذي طغى عليهم:
, -فلنجمع أغراض الخالة "مِسكة" ونساعدها، وسنحتاج للخيمة أثناء رحيلنا، أما العربتان فستجرهما الخيول معنا
, قال "أبهر":
, -سأجرّ والشقراء عربة منهما
, قالها على استحياء وهو يقترب منها، سرّت "الشقراء" بما سمعته، فقد كان "أبهر" يعاملها بجفاء ويتجاهلها منذ دلوفهم درب "موراي" ورفاقه الحزاورة، وكأنّه نسي أنّه تزوجها!، لاحظ "يُوسف" فقال ليصرف الأنظار عنهما:
, -وسيجر الحصانان الآخران العربة الأخرى، ولنخفف حملها عليهما، فهما ضعيفان للغاية
, هبّ الجميع يعاونون بعضهم البعض، جمعوا كل شيء وساروا خلف بعضهم البعض، ساروا طوال النهار ولم يتوقفوا للراحة إلا مرّة واحدة، أرادوا الوصول إلى أيّ مكان معمور قبل أن يحلّ الليل، كانت السهول الخضراء الواسعة خالية من أي أثر للإعمار، لا بيوت، لا أكواخ، بعد السير لمسافات طويلة، أطلّ أخيرًا ومن بعيد طيف قصر، صاح "عُبيدة":
, -يا إلهي! قصر آخر!
, انقبضت صدورهم، فقد كرهوا ما حدث بقصر "المسوّم"، قال "موراي":
, -كرهت القصور!
, قال "يوسف" ليحثّهم على السير:
, -فلنسرع قبل أن يحلّ الظلام، فلا وقت لنصب الخيمة، وقد تُمطر مرّة أخرى
, أسرعوا وعندما بدأت معالم القصر تظهر وقفوا صامتين!، هذا ليس قصرًا، إنّها قلعة بيضاء أسوارها عالية، جدرانها مصنوعة من حجر شاهق البياض وشديد الصلابة، بواباتها من الحديد المطلي بالذهب، كلّ شيء هناك يبرق ويضوي، أسراب الطيور تحلّق فوق القلعة برشاقة، والسحب البيضاء تبدو كمظلّات معلّقة في السماء تحتضن بعضها البعض في وئامٍ لتظلل القلعة، الأرض مرصوفة بحجارة بيضاء بديعة الشكل، حدائق خلابة تنتشر هنا وهناك، أما الأزهار حول القلعة فكلّها بيضاء، الفل والياسمين ينثران عطرهما في المكان٢ نقطة
, أبيض، أبيض، أبيض!
, قالت "حبيبة" متعجبة من روعة القلعة وما حولها:
, -ما أروع هذا المكان!
, قال "عُبيدة":
, -وكأنّها قلعة الدَّيجور، وقد غسلها المطر! ودبّت الحياة في حدائقها!
, وافقه "مُوراي" الرأي، وكان "يوسف" يعرفها ويحفظ كلّ شبر فيها، نعم، هي قلعة "الدَّيجور" ولكن قبل أن يحلّق السواد والظلم فوقها، قال وعيناه تسبحان في الأجواء:
, -هي قلعة "الدَّيجور" بالفعل
, سألتهم "مِسكة" وكانت لا تدري ما يتحدّثون عنه:
, -وما هي قلعة "الدَّيجور"؟
, تبادلوا النظرات ثُمّ قالت "حبيبة":
, -قلعة سوداء، ذهب إليها "يوسف"، و"موراي"، و"عُبيدة"، وبعض الخيول، أمّا نحن فلا
, قالت "مِسكة":
, -ربّما تشبهها في البناء
, صاحت "حبيبة":
, -انظروا ٣ نقطةالعديد من النساء يحملن فوق رؤوسهن أقفاصًا من الفواكه والخضراوات، يتجهن نحو بوابة القلعة الخلفية، أودّ أن أدخل
, قال "عُبيدة":
, -أخشى أن تتعرّضي للخطر يا آنسة "حبيبة"
, -فضولي شديد
, قالت "لؤلؤة":
, -أنت لست فضولية فقط، أنت جريئة جدًا!
, -لست وحدي، كلّكم معي، تعالي معي يا "لؤلؤة"
, قالت "لؤلؤة" بعصبية:
, -لا٣ نقطةلا أستطيع أن أدخل القلعة بدون أبي
, -لماذا؟
, -لا تسأليني لماذا٣ نقطةسأظلّ هنا يا "حبيبة"
, رفعت "حبيبة" حاجبيها وقالت لهم:
, -حسنًا، سآتيكم بالخبر، لا تقلقوا
, تجاهلت "حبيبة" كلام الآخرين، كانوا يحذّرونها لكنّها كعادتها واثقة من نفسها، اندفعت وراء شعورها بالفضول، تركتهم خلف أسوار القلعة، وهرولت تجاه النساء ودلفت خلفهن من البوابة، كان سكان القلعة سعداء، الخدم عددهم كبير جدًا حتى أنّهم لم ينتبهوا إليها، وجدت دلوًا وممسحة فحملتهما، غطّت فمها بطرف حجابها كما تفعل بعض الخادمات اتقاء للغبار، وانطلقت تقلّدهن، تنظّف الأرض وكأنّها واحدة منهن.
,
, الكلّ يتحدّث عن الأميرة "جلاديولس"، وعن جمالها الفتان، يستبشرون بقرب وصول شقيقتها "هيدرانجيا" فغدًا ستعود وتنتقل للإقامة معهم بالقلعة، فقد كانت خالتها تربيها منذ ولادتها بعد وفاة أمّها، وحان وقت انتقالها لقلعة أبيها، فقد ماتت خالتها بعد مرضها لفترة طويلة، لا بدّ أن جلالة الملك سيمنحهم مكافأة عظيمة، سيكون سخيًا وكريمًا كعادته، مرّ موكب مهيب، رَان على الجميع صمت غريب، وكأن أحدهم ألقى تعويذة عليهم فجأة فسكنوا كالأصنام، كانت عربة أنيقة تجرّها ستّة خيول بيضاء، تحمل امرأة قاسية الملامح تجلس بجوارها فتاة بارعة الجمال، توقفت العربة أمامهم،
, همست إحداهن لرفيقتها:
, -الأميرة "جلاديولس"! ما أجملها!
, كانت تلك هي المرّة الأولى التي ترى فيها "حبيبة" "جلاديولس"، فتاة فائقة الجمال، وشديدة الجاذبية أيضًا
, انشغلت الملكة بالحديث مع العديد من الرجال والنساء، يبدو أنّهم من ذوي النفوذ، كانوا يرحبون بها، التفتت "جلاديولس" تجاه الناس تتأملهم ريثما تنتهي أمّها من حواراتها فتوقفت نظراتها على وجه "حبيبة"، أعجبتها عيناها، طالعتها بعذوبة ولوّحت لها، اندهشت "حبيبة" فلوحت لها هي الأخرى، انتهت الملكة من حواراتها وانصرف الموكب بمن فيه، ووقفت "حبيبة" تتابعهما بعينيها، قبضت امرأة سمينة على كتفها وسألتها:
, -من أنتِ؟
, تعرّفت "حبيبة" عليها في الحال، إنّها "جلنار"، زوجة "آسر"، الخادمان في قلعة "الدّيجور" ومن قاما بمساعدة "يوسف" لكي يهرب من السجن، ويبدو أنّها لا تعرفها٢ علامة التعجب قالت لها:
, -أنتِ السيدة "جلنار"؟
, -نعم أنا
, -أخبروني عن شدّة حبّك للأميرة "هيدرانجيا"، ولهذا سأسألك
, -عن أيّ شيء؟
, -رفاقي خارج أسوار القلعة، نحن فرقة استعراضية، نتجوّل في القرى، نعرض مهاراتنا مقابل المال، ونودّ المشاركة في احتفالات استقبال الأميرة، نستطيع نصب خيمتنا أمام القلعة، وغدًا ليلًا سنقوم بعرض يدخل السرور على الجميع
, وقفت "جلنار" تفكّر قليلًا ثُمّ قالت لها:
, -حسنًا٢ نقطةتعالي معي
, وأخذتها لزوجها "آسر"، والذي رحّب بالفكرة، على شرط، أن يقتسم هو و"جلنار" معهم ما سيكسبونه من مال، خرجت "حبيبة" لتخبر رفاقها بما حدث، كانت سعيدة لأنّهم وأخيرًا سيلتقون بـ"هيدرانجيا"، ويستطيعون الآن إنقاذها، أخبرتهم بتفاصيل لقائها بـ"جلنار"، وكيف أنّها لم تعرفها ولا زوجها تمامًا كما حدث مع "مِسكة"، والتي كانت تنصت إليها وهي في حيرة مما تسمعه، لكنّها كانت تمرر الكثير من الألغاز وتكتفي بصحبتهم، فقد وجدت دفئًا بينهم كانت تفتقده، قال "يُوسف":
, -فكرة رائعة يا آنسة"حبيبة"، سنتمكن من التواصل مع الأميرتين، وربّما تكون نقطة البداية لخطّة إنقاذ "هيدرانجيا" من هنا، فلنبدأ بنصب خيمتنا هنا
, قال "عُبيدة" باستخفاف:
, -ننقذها من ماذا؟
, -من ساحرات "أُوبالس"
, ثُمّ أردف في ملل:
, -وأين هن الآن!
, التفتوا جميعًا تجاه "بركات" الذي انفعل قائلًا:
, -سنلتقي بهن حتمًا في درب آخر، تعلمان أننا لا نتحكم في الدروب، ولا بدّ أن نجاري الأحداث
, هزّ "عُبيدة" كتفيه وسألهم:
, -وما هو الاستعراض الذي سنقدّمه!
, بدأ كلّ منهم يقترح شيئًا ما، وكانت تعليقات "عُبيدة" محبطة للغاية، لم تعجبه فكرة "حبيبة"، قال أحد "الحزاورة":
, -نستطيع اللعب بالأطواق، ونقذفها في الهواء ونلتقطها بمهارة، أنا ماهر في هذا
, قال "عُبيدة" وهو يلوي شفتيه:
, -لا يكفي
, قال آخر:
, -سأرتدي الساقين الخشبيتين والبنطال الطويل وأسير وسط النّاس
, -لا يكفي
, قال غيره:
, -سأرتدي زيّ المهرج وأقوم ببعض الحيل لأضحكهم
, -لا يكفي
, قال الأخير:
, -أستطيع وأخي هذا القيام ببعض الألعاب البهلوانية، سأقف على كتفيه، وسنستعين بالخيول ونقفز فوقها ونمارس حركات الخفّة والاتزان
, -لا يكفي
, صاحت "حبيبة":
, -من فضلك يا "عُبيدة"، لا تحبطنا، سنهتم نحن بالأمر، أنا و"لؤلؤة" والخالة "مِسكة"، وسيعاوننا "الحزاورة" و "موراي"
, أجابها وهو يبتسم ساخرًا، وما زال لا يُعجبه اقتراحها:
, -على العموم ربّما تفيدكم "لؤلؤة" فقط أغرقوها في دلوٍ من الماء
, استفزّت كلماته "لؤلؤة"، بدا "عُبيدة" غريبًا، كأنه بدأ يملّ مما يحدث، لا يودّ مشاركتهم، لكنّه على أيّ حال عاونهم في نصب الخيمة، فهذا يتطلب جهدًا بدنيًا وكان هو أكثرهم قوّة، جذبوا انتباه حرّاس القلعة وبعض الخدم، أحدثوا ضجيجًا، وعلت الأصوات، وهرول الصغار نحوهم ووقفوا يراقبونهم، حمل البعض لهم الطعام والماء، كان سكان القلعة في حاجة لمن يرفّه عنهم، وقد جاءوا لهم في الوقت المناسب، وفور أن انتهوا من نصب خيمتهم أشعلوا نارًا وجلسوا حولها، كان "يُوسف" متعبًا للغاية، جلس يُراقب "حبيبة" وهي تتحدّث مع "الحزاورة"، كانت تجيد توزيع المهام، استطاعت أن ترتب مع "مِسكة" أجزاء من العرض الذي سيقدمونه غدًا، كان يزداد تعلّقًا بها، قلبه يرجف لمجرّد تخيله أنّ الذي يحدث هنا سينتهي في لحظة ما وسيعود كلّ منهما إلى بيته، لاحظ "عُبيدة" شروده، لكنّه لم يكن في حالة مزاجية تسمح له بالحوار، ابتعد وسار بين أشجار الحدائق المحيطة بالقلعة، كان القمر خلّابًا، وكان لضوئه سحر مميّز تلك الليلة، وبينما يسير بهدوء تناهى إلى سمعه صوت غريب، التفت متحفّزًا واستل سيفه الذي لا يفارقه، رأى شبحًا يركض مبتعدًا فطارده، جذبه من ردائه فأسقطه على الأرض، كان الشبح يتدّثر برداء فضفاض يغطي رأسه بالكامل، وكان ملثّمًا، جذب "عُبيدة" الوشاح فندّت من خلفه صرخة أنثويّة، وقف أمامها كالصنم، قال متلعثمًا:
, - "جلاديولس"!
, وضعت أصبعها على فمها في إشارة له ليصمت وقالت:
, -ششش٢ نقطةلا تخبر أحدًا أنّك رأيتني هنا
, كانت مختلفة!، تبدو الآن أكثر وداعة ورقّة وطيبةً عن تلك التي رآها عندما أسروه وسجنوه في قلعة "الدَّيجور"، كان حائرًا
, قالت بخوف وهي تثبت عينيها على عينيه:
, -وددت فقط أن أشاهد الألعاب
, -ولم تغطين وجهك وتقفين في الظلام؟
, -لا أستطيع أن أقف بين العامّة، سيغضب أبي٣ نقطة
, ثُمّ تفحّصت هيئته وملابسه وسألته:
, -ما اسمك؟
, -اسمي "عُبيدة"
, نظرت لسيفه فلاحظ خوفها فأزاحه قائلًا:
, -لا تخافي٣ نقطة
, ثُمّ ابتسم ليطمئنها وقال:
, -لن أقتلك، لا ينبغي أن تسيري وحدك، ربّما يؤذيك أحدهم
, -لماذا تحمل سيفًا؟ ألست بهلوانًا؟
, قال بضيق شديد:
, -لست بهلوانًا، هم أصدقائي فقط٢ نقطةأنا فارس عربي، ولا ينبغي للفارس أن يسير بلا سيف
, طالعته بإعجاب وقالت على استحياء:
, -هيّا انصرف أيّها الفارس العربي
, -لا أستطيع يا مولاتي
, -لماذا؟
, -لن أنصرف حتى تنصرفي، وسأتبعك حتى أطمئن عليك، ألا تخشين الظلام؟
, -بل أخشاه، ولكن٣ نقطة
, -ولكن ماذا؟
, وقفت قبالته وقالت وعيناها تبرقان:
, -اسمع، سأتركك تحرسني، ولكن٢ نقطةأولًا لا تنادني بمولاتي، ثانيًا أريد أن أرى الساحر الذي يرافقكم لديّ سؤال هام جدًا، ثالثًا٣ نقطة
, قاطعها سائلًا إياها:
, -كم عمرك؟
, -ثلاثة عشر عامًا
, ابتسم وهو ينظر إلى عينيها الرائقتين، عندما التقى بها كانت أكبر عمرًا ربّما بعشرة أعوام، وأكثر قسوة وبرودًا، كانت غلظتها تطفئ جذوة جمالها، أمّا الآن فبراءتها ورقّتها تزيد من جاذبيتها، قال بحبور:
, -أستطيع أن أصحبك لرؤية أفراد الفرقة، سيسعدون برؤيتك، ولن نخبر أحدًا أنّك كنت بضيافتنا
, كادت تقفز من شدّة الفرح، التقط الوشاح عن الأرض وأعطاه لها فغطّت وجهها مرّة أخرى وسارت بجواره، رأته "حبيبة" وهو يقترب، كان وجهه متهللًا وكأنّه عثر على كنز، اقتربا من الخيمة، ودلف مع "جلاديولس" فجلست بهدوء، بينما أسرع "عُبيدة" وضرب على رأس "يوسف" والذي كان غافيًا بجوار النار وقال له:
, -قُم أيّها الأصلع، جئتك بالأميرة "جلاديولس"
, -ماذا؟
, -بلحمها وشحمها وجمالها، وزد على هذا براءة شديدة لم نعهدها بها!
, -معقول!
, -رائعة يا "يُوسف"، كما أنّها٣ نقطةتبدو مختلفة، ليست قاسية ولا غليظة كما رأيناها هناك بقلعة الدَّيجور، هي الآن في الثالثة عشر من عمرها، ليتها ظلّت هكذا!
, قال "يُوسف" وهو يفرك عينيه:
, -لا تغترّ بالمظاهر
, -هيّا أسرع فهي تودّ رؤية الساحر، لديها سؤال هام له!
, رفع "يُوسف" حاجبيه وسأله:
, -ومن أين سنأتي لها بالساحر؟
, -أنت الساحر
, -ماذا؟
, -افعل أيّ شيء، أرجوك
, مرّت لحظات سريعة، كان "يُوسف" يتخبط في حيرته، بعد قليل وبينما جلست "حبيبة" ترحب بها، دلف "يوسف" بعد أن ارتدى وشاح الساحر الأسود، كان يبدو مهيبًا به والهواء يضرب بأطرافه خلف ظهره وهو يسير بهدوء، جلس قبالتها وعقد كفيّه على طاولة خشبية مستديرة، قفزت قطّة "لؤلؤة" البيضاء وجلست على ساقيه، ربّت على رأسها وقال بجدية شديدة:
, -مرحبا أيتها الأميرة الصغيرة
, قالت وهي تتمعن في وجه القطة:
, -أنت الساحر إذًا؟
, -نعم أنا
, -وددت أن أسألك سؤالًا
, -تفضلي
, تلفتت في حيرة وقالت:
, -هل تستطيع تغيير مشاعر شخص ما تجاهي، وتجعله يحبّني أكثر؟ وبقدرٍ كبير بحيث لا ينافسني فيه أحد؟
, تبادل "يوسف" النظرات هو و"عُبيدة"، وكانت "حبيبة" تعلّق عينيها بوجه "جلاديولس"، بينما كان "بركات" و"رفيف" يراقبونهم في صمت، سألها باهتمام:
, -ومن هو هذا الشخص؟
, قالت بارتباك:
, -هل من الضروري أن أخبرك باسمه؟ أقصد هل من الممكن أن تعطيني شيئًا أدسّه له في الشراب أو أطعمه له أو تعويذة أقرؤها عليه فيحبني؟
, سألها "عُبيدة":
, -ومن ذا الذي يراكِ ولا يُحبّك!
, تاهت نظراتها، لم تفصح عن هوية من تشكوه لهم وتطلب سحرًا لتجعله يُحبّها، سألت "يُوسف" قائلة:
, -ماذا ستفعل لو أحببت شخصًا ولم يحببْك؟
, التفت تجاه "حبيبة"، رماها بنظرة خاطفة وقال بارتباك:
, -سأظلّ أُحبّه
, ثُمّ أردف وهو يلوّح بقبضته في الهواء:
, -وسأقاتل حتى أجعله يحبّني
, ثُمّ سألها بلطف:
, -أخبريني يا "جلاديولس" بأوّل حرف من اسمه فقط
, قالت بعد تردد:
, -"كاف"
, صمت قليلًا وتمعن في ملامحها، كان يعلم أنّها تقصد أباها الملك"كادابول"*، أغمض عينيه وكأنّه يفكر في شيء ما، وبعد قليل قال لها:
, -لكنّه يحبّك
, -من؟
, رفع حاجبيه وقال لها:
, -"كاف"
, -حقًّا؟
, هامش: كادابول نوع من الزهور الفريدة عمره قصير جدًا، أوراقه لا تتفتّح إلّا ليلًا.
, -نعم، يحبّك لكنّه أحيانًا يقسو عليك لأنه يخشى عليك من الغرور، فجمالك الأخّاذ يقلقه
, عضّت على شفتيها في ألمٍ وقالت بأسى:
, -لم يجلب لي جمالي هذا سوى الحزن! ليس لي صديقات، والجميع يظنون أنني لا أحتاج إلى أيّ شيء لمجرد أنني جميلة، وأنا أحتاج إلى الحنان، والحبّ، والصداقة، أحتاج لعطف الناس، وأحتاج أن يشركوني معهم لحظاتهم السعيدة، أشعر أنني مسجونة في قفص من ذهب، ليس من حقي أن أعيش الحياة البسيطة وأستلذّ بحلاوتها، وكأنّ جمالي عقاب لي!
, ران عليهم الصمت، تعلّقت نظراتهم بوجهها الحزين، رقّ "عُبيدة" لها وأشفقت "حبيبة" عليها، عاد "يوسف" لإغماض عينيه وتمتم قائلًا:
, -لقد أهداك العام الماضي عُقدًا رائعًا
, فغرت فاها وقالت:
, -صدقت٢ نقطةأنت ماهر جدًا!
, -لكنّك قطعت هذا العُقد؟
, نكّست رأسها وتقوقعت على نفسها، فتح جفنه ولمحها بنظرة خاطفة، ثُمّ عاد ليغمضه وقال لها:
, -لماذا تكرهين حديثه عن٣ نقطة"هاء"
, انتفضت عندما سألها عن "هيدرانجيا"، نطق أوّل حرف من اسمها فقط، وهذا أدهشها، قالت وهي تزدرد ريقها بصعوبة:
, -يُكثِر من الحديث عنها، يوصيني بحسن معاملتها حتى مللت من التكرار، دومًا يحنو عليها أكثر مني، عندما تزورنا ينساني تماما وكأنني صرت غير مرئية!
, قال بصوت خفيض:
, -ربّما لأنّها فقدت أمّها وهي رضيعة، أو لضعفها!
, -هي ليست مريضة لأشفق عليها!، أصيبت في ساقها بسبب خطأ تلك المرأة الحمقاء وصارت تعرج فقط، العرج لم ينقص من جمالها، كما أنّ هذا ليس ذنبي!
, -ترينه أمرًا بسيطًا لكنّه يؤلمها بشدّة٢ نقطة
, عاد يسألها:
, -وكيف عرفتِ بأمر تلك المرأة التي آذتها؟
, -سمعتها تتحدّث مع أمّي، ما زال صوت حشرجة صدرها وهي تصف ما حدث في أذنيّ
, ارتبك "يُوسف" ولاحظت "حبيبة" ما ألمّ به، غضّن جبينه وقال:
, -"هاء" ضعيفة، ولهذا هو يحنو عليها ليدعمها وليعوضها، وليس لأنّه يفضلها عليك، كما أنّها تحبّك
, ألقت عليه نظرة غاضبة وقالت:
, -هي لا تحبّني٣ نقطةإنّها تغار مني
, -كيف هذا وهي تكتب لك العديد من الرسائل وترسلها مع كلّ من يفد إليكم من التجار
, تعجّبت وسألته:
, -أيّ رسائل؟
, -التي تخفيها أمّك في صندوق ملابسها الموجود في ركن غرفتها، ابحثي فيه وستجدين رسائل "هاء"، لقد كتبت لك الكثير ولم يصلها منك رسالة واحدة، ألم تسألك عن سبب عدم ردّك على رسائلها؟
, شردت مفكّرة وقالت:
, -سألتني وتجاهلت كلماتها وكنت أصفها بالسخافة والكذب، فأمّي كانت تنهاها عن قول هذا وتحذّرها من الكذب! وهددتها أنّها ستخبر أبي أنّها تكذب فتوقفت عن الحديث عن تلك الرسائل خوفًا من أن يعاقبها بعدم إحضارها إلى هنا مرّة أخرى.
, كان "يُوسف" يطرق على الطاولة بأنامله وهو ينصت إليها، قال وهو يرسم قلبًا في الهواء:
, -القلب الذي يتسع لـ"كاف"، يتسع لـ"هاء"، ولغيرهما، وكلّما ازداد قلبك اتساعًا، سيزداد حبّ الآخرين لك، أنت فتاة رائعة وقويّة يا "جلاديولس"، أتعرفين معنى اسمك؟
, -نوع من الزهور
, -هذا النوع يرمز لقوّة الشخصيّة لونه رائع، ويعيش لفترة طويلة، والناس تحبّه، وأظنّ الجميع هنا يحبّونك
, هزت رأسها بامتنان، وسألته بيأس:
, -إذًا لا يوجد دواء؟ أو تعويذة٢ نقطةأو أي شيء!
, -بل يوجد
, -أين؟
, -هنا في قلبك، الحبّ يا أميرتي الصغيرة، الحب أقوى من السحر
, ابتسمت بلطف ووقفت، غطّت وجهها مرّة أخرى بالوشاح، حيّتهم برقيّ وخرج معها "عُبيدة" ليقوم بتوصيلها، سارا معًا بين أشجار الحديقة، وكانت "حبيبة" تراقبهما بينما اقترب "يوسف" وما زال رداء الساحر على كتفيه، التفتت تجاهه وقالت:
, -أحسنت يا"سوبر مان"
, -ماذا؟
, ابتسمت قائلة:
, -هذا الرداء الذي يطير على كتفيك ذكّرني به
, خلعه وطواه وعاد يرتدي معطف أبيه، كانت القطّة البيضاء تدور حول قدميه، قالت "حبيبة" وهي تعقد ذراعيها:
, -ما بال تلك القطّة؟
, -لا أدري!
, تنهّدت "حبيبة" وقالت:
, -يخطئ بعض الآباء عندما يحاولون دعم الضعيف من أبنائهم على حساب الآخر، وكأنّهم يحملونهم مسئولية ما يحدث لأشقائهم، هو يحاول دفعها للاهتمام بأختها لكنّها لقلّة نضجها لا ترى السبب، والمسكينة ليس لها ذنب فيما حدث لشقيقتها، ويبدو أن المشكلة بدأت من هنا
, -وهذا ما حدث بالفعل، لم يكن الملك"كادابول" حكيمًا في تناوله للأمر، أثقل عليها وكان ما يقوله ويفعله يتراكم فوق قلب "جلاديولس" فنشأت على كراهية أختها، وصارت تغار منها رغم تفوّقها عليها في الجمال
, -لماذا كانت أمّ "جلاديولس" تخفي عنها رسائل أختها؟
, - كانت تغار من ضرّتها وتكرهها، والآن توغر صدر ابنتها تجاه شقيقتها، فهي لا تتحمّل أن تراهما مقرّبتين، وخاصّة أن "هيدرانجيا" تُشبه أمّها
, -حقًا! الحنان لا يُباع ولا يُشترى!
, مضى الوقت سريعًا، كانت ليلة لطيفة النسمات، لم يكن البرد شديدًا كما كان الليلة الماضية، نام "يُوسف" وفي حضنه القطّة البيضاء، ما عادت تتبع "لؤلؤة" كما كانت تفعل، وكان هذا يزعجها للغاية، نام بعده الجميع، وكذلك كلّ من بالقلعة البيضاء وبقيت "جلاديولس" ساهرة حتى الفجر تقرأ رسائل شقيقتها "هيدرانجيا" التي كانت أمّها تخفيها عنها، كان هناك الكثير من حكايا البنات الجميلة، وكانت تفتقد لهذه الصداقة وهذا الرابط المميز بين الشقيقتين، لم تكن تعلم أنّها تحبّها كلّ هذا الحبّ!، حتى أنّها كانت تجفف الزهور وترسلها إليها، وأخيرًا نعست عيناها الجميلتان وهي تحلم بلقاء شقيقتها، تذكّرت "عُبيدة"، يا له من شاب رائع، هكذا يجب أن يكون فارس الأحلام، نامت وعلى وجهها رُسمت ابتسامة عذبة، وحلّقت في عالم الأحلام.
, ٤ العلامة النجمية
, بزغت الشمس كقبلة في ثغر الصباح، كان الجميع في حالة من النشاط، وكانت "مِسكة" سعيدة بتلك الحياة الجديدة، لكنّها كانت كثيرة الصمت، كثيرة التأمّل، كثيرة الشرود!
, بدأوا يعدّون أنفسهم للعرض، كان "الحزاورة" يتدرّبون طوال الوقت، كان الأمر مناسبًا ليخرجهم من صدمتهم القريبة في فقد أهلهم، ولأنّهم كانوا صغارًا في الأصل انشغلوا سريعًا، ما عدا "مُوراي"، فقد كان أكثرهم همًّا، وبدا هذا على عينيه وقسمات وجهه، اقترب "يُوسف" على حين غفلة منه وجذبه تجاهه وعانقه، سكن كهرٍّ صغير وانسابت دمعة من عينيه على كتف "يُوسف"، ربّت على ظهره وقال له:
, -أنا أيضًا فقدتُ أبي وأنا صغير، أشعر بما تشعر به، هذا الوجع الذي لا يغادر صدرك، وينزوي بين ضلوعك، أعرفه، ذاك الحنين إليه، إلى صوته ودفء كفّه، إلى حنانه ونصائحه، وحتى إلى شدّته
, -أشعر وكأنّ ظهري قد قُصم
, -اثبت يا فتى، ألست مصارعًا كما هو اسمك؟ صارع الحياة، واستعن ب****
, -سأفعل يا سيّدي
, زفر "يُوسف" وقال يلومه:
, -مرّة أخرى٢ علامة التعجب ألم أخبرك أنني أكره تلك الكلمة؟ لا تنادني بسيدي أرجوك
, -لا أستطيع
, -لماذا
, -عندما يكون من أمامك مهذّبًا ويعاملك بلياقة طوال الوقت، يُجبرك هذا على احترامه رغم أنفك
, -حسنًا يا سيّد "مُوراي"!
, ضحك "مُوراي"، ربّت "يُوسف" على كتفه وسأله:
, - هل ستشارك الحزاورة في ألعاب الخفّة؟
, -بل سأرتدي زيّ المهرّج، فأنا أجيد التمثيل، وماذا عنك؟
, هزّ "يُوسف" كتفيه ليضحكه وقال:
, -أنا الساحر، سأقرأ الأفكار وأخيفهم قليلًا بما أعرفه عنهم
, -ويا لك من ساحر!
, انصرف "مُوراي" بعد أن نادته "مِسكة"، والتفت "يُوسف" حيث كانت "حبيبة" تفتّش في صندوق من تلك التي عثروا عليها في العربات، سار نحوها والقطّة البيضاء تدور حول قدميه، ترافقه كظلّه، سأل "حبيبة" بعد أن حيّاها:
, -ماذا تفعلين يا آنسة "حبيبة"؟
, قالت وما زالت رأسها منكفئة على فتحة الصندوق:
, -أبحث عن أيّ شيء، كرة بلورية مثلًا
, وأخرجت كُرة بلورية من الصندوق، رفعتها ليتخللها الضوء، كان الغبار يعلوها وقد تلف سطحها من كثرة الاحتكاك بالأغراض الأخرى، قال "يُوسف" وهو يتأمّل الكرة معها:
, -تلك الكرات تخصّ السحرة، لن تفيدك!
, -ربّما أستطيع فعل أيّ شيء بها، أودّ أن أُتقن أداء دوري في الفرقة، حتى نتمكّن من دخول تلك القلعة والبقاء فيها لفترة حتّى نعرف كلّ شيء عن "هيدرانجيا"
, ثُمّ رفعت عينيها تجاهه وقالت له:
, -أنت تستطيع أن تخبرني عن أيّ شيء يخصّ القلعة وعن هؤلاء الذين يعيشون فيها، لكنك لا تستطيع استنتاج ما سيحدث، ورغم أنّك الكاتب ما زلت تتفاجأ مثلي، أليس هذا غريبًا!
, انحنى "يُوسف" وحمل القطّة البيضاء وقال وهو يمسح على رأسها:
, -كل شيء يحدث هنا غريب، على العموم، أعرف أنّ هذا خطئي، وأنا أحاول معالجته
, تمتمت متلعثمة:
, -لم أقصد٣ نقطة
, ثُمّ ضربت جبينها بكفّها وقالت:
, -أنا حمقاء لا أحسن التعبير، كنت أقصد أن تخبرني ببعض الأسرار حتى أخدعهم وأستخدم تلك الكرة كما فعلت أنت مع "جلاديولس"
, تبادلا النظرات في حرج، ودّت لو حدّثها قليلًا عن نفسه، أرادت أن تستكشف الجانب الآخر من حياته، حياته على أرض الواقع، كادت تسأله لكنّه سبقها، لمعت عيناه وهو يسألها:
, -هل اشتقت لأهلك يا آنسة "حبيبة"؟
, -نعم، أشتاق إليهم بشدّة
, -لا بدّ أنّهم في غاية القلق عليك
, -أظنهم يحصون الدقائق الآن، وينتظرون عودتي
, ثُمّ شردت قائلة:
, -أوحشني حضن أمي
, -الأم هي الوطن، وهي التي تشدّنا لنعود
, تمتمت في حرج محاولة أن تدفعه ليحدّثها عن نفسه:
, -وهل تشتاق أنت للعودة؟
, -لا أدري٣ نقطة
, -كيف تقول هذا؟
, حاول أن يجيب لكنّه لم يعثر على كلمات تعبّر عمّا يعتمل في صدره، هو يتمنى البقاء هنا للأبد معها، في هذا العالم الغريب، يتزوجها ويعيشان في قصر جميل، أو في قلعة بديعة، أو في كوخ صغير، تحبّه كما يحبّها، فالحياة هنا أبسط مما هي هناك، والزواج هنا ليس محفوفًا بتلك المصاعب التي تحول بين زواج الشاب من الفتاة التي يُحبّها، سألها بعد لحظات صمت كان يراقبها فيها وقد غطست برأسها مرّة أخرى في الصندوق:
, -هل تذكّرتِ أين التقينا؟
, قالت بحرج:
, -لا٣ نقطةلكنني بدأت أشعر أن وجهك مألوف، وكأنني أعرفك من قبل!
, قال بامتنان:
, -هذا حسن جدًا
, ما زالت لا تذكره، لكنّها على الأقل تراه الآن مألوفًا، توقفت عن تقليب الأغراض بالصندوق ونظرت إليه قائلة:
, -حاول أن تذكّرني بهذا اللقاء
, كاد يصف لها كلّ لحظة، وكلّ كلمة دارت بينهما، وعن ردوده وردود "أنس"، وعن الطقس، وتاريخ اليوم، لكنّ "عُبيدة" ناداه، فاستأذن منها ودهس على قلبه الذي أراد البوح بالكثير، قُطعت عليه تلك الفرصه، سار نحوه وهو يكزّ على أسنانه من الغيظ، ودّ لو هشّم فكّه بقبضته التي كان يكوّرها وهو يسير، لكنّه هدأ في النهاية، فـ"عُبيدة" كان يُشجعه على البوح بحبّه لها، ولو كان يعلم أنّه أوشك على فعل هذا ما ناداه أبدًا٣ نقطة
, بدأت الهواجس تلعب برأسه، كان يتساءل، ماذا سيفعل لو انتهى كلّ شيء واختفت "حبيبة" فجأة!، مجرّد التفكير جعل معدته تتقلّص وأوجعه صدره، لماذا لا يخبرها مباشرة عن حبّه لها، ورغبته في الزواج منها٣ نقطةولكن! لا بدّ أن تنتظره طويلًا حتى يتمكّن من جمع المال، وشراء شقّة مناسبة فبيت أبيه لا يناسب مكانة عائلتها، ويبحث عن وظيفة ثابتة بمرتب كبير، ربّما توافق وتنتظره عامًا، بل عامين، بل أربعة أعوام، أو ربّما أكثر٣ نقطة!
, مرّ النهار مُسرعًا، لم تصل الأميرة "هيدرانجيا"، وصلت أخبار أنّ أقاربها هناك أجّلوا رحلتها للغدّ، فالطقس سيئ وربّما تمطر، لكن العرض الخاص بالفرقة لم يتم تأجيله رغم هذا!، أصرّت الملكة بعنادها على إقامة الاحتفال، حتى وإن أمطرت، لن تلغي الاحتفال لمجرّد أن ابنة ضرّتها تلك التي تكره أن تردد اسمها أجلت موعد انتقالها للقصر، أقبل الليل وكانت الرياح شديدة بالفعل، حتى أنّها عرقلت "الحزاورة" أثناء لعبهم بالأطواق، كان "مُوراي" أكثرهم نجاحًا حيث أبدع في خلق المواقف بعد أن ارتدى زيّ المهرّج وأضحك الجمهور، كما نجح "الحزاورة" في عرض بعض الحركات البهلوانية على ظهور خيول "الكحيلان"، كانت "الترياق" سعيدة بالمشاركة، وشاركها "أبهر" و"الشقراء"، أمّا "يُوسف" فكان يتجوّل بزي الساحر، يتحدّث مع الناس، يبهرهم بما يعرفه عنهم وكان يعرف التفاصيل التي كتبها بيديه، لكنّه وكما قالت "حبيبة"، لا يعرف ما الذي سيحدث لـ"هيدرانجيا"، وهل سيستطيع تغيير شيء بوجوده هنا أم لا!، كان "عُبيدة" يستند على جدار ويراقب الجميع في صمت، ما زال لا يعجبه الأمر، هدأ الاحتفال بعد أن استهلك أعضاء الفرقة ما لديهم من فقرات، بدأ الناس يضجرون ويعترضون، اقترب أحد الحرّاس وكان يتابع "عُبيدة"، لفت نظره إليه بجسده القوي المشدود وعضلات ذراعيه، صاح أمام الجمع يدعوه للمصارعة، فوجئ "عُبيدة"، وتبادل النظرات مع "يُوسف"، اقترب "بركات" وشجّعه، شكَّل الناس حلقة واسعة وتقدّم "عُبيدة" لحلبة المصارعة بعد أن سلّم سيفه لـ"بركات"، وبدأت المصارعة، كان خصمه عتيًّا عنيدًا، أرهقه لكنّه في النهاية طرحه أرضًا وجلس بركبته فوق صدره، فاستسلم وتراجع ونظراته تقطر حقدًا وغلًّا، لم يجرؤ أحد على تكرار المحاولة مع "عُبيدة"، كانت "جلاديولس" تراقبه، صفّقت بحماسٍ عندما غلبه، وألقت بوشاحها فالتقطه وهو يبتسم، تلك الأميرة الصغيرة ذات الثلاثة عشر عامًا تبدو معجبة به، وهو يرى الأمر طريفًا ومضحكًا، ولا يودّ أن يجرح شعورها. لم تكن "حبيبة" ممن يتابعون المباراة التي دارت بين "عُبيدة" وهذا الحارس، كانت تجلس في خيمة صغيرة أعدّتها "مِسكة" لاستقبال النساء، كانت تبيع بعض المنسوجات التي طرّزتها، وبعض العقود الملوّنة التي صنعتها بيديها، أمّا "حبيبة" فكانت تجلس وأمامها الكرة البلورية بعد أن نظّفتها جيّدًا، توارد عليها الكثير من النساء، لم تقدّم لهن شيئًا فـ"يوسف" لم يخبرها بشيء لتستفيد منه، كانت القطّة البيضاء تحوم حولها منذ أن رأتها تمسك بتلك الكرة، اقتربت منها ووثبت فوق الطاولة وجلست أمامها، كانت الكرة بينهما، أخفضت القطّة رأسها وأخفت وجهها خلف الكرة فطالعتها "حبيبة" من خلفها، ظنّتها تشاكسها فابتسمت وظلّت تُحرّك رأسها يمينًا ويسارًا، كانت عيناها تبدوان بحجم كبير، بدأت القطّة تصدر مواء غريبًا، وكانت النساء مشغولات بما تعرضه "مِسكة"، شعرت "حبيبة" بقشعريرة تجتاح جسدها كلّه، لمع سطح الكرة، دارت في مكانها بسرعة شديدة ثُمّ توقفت، ودلفت القطّة إلى داخلها! واختفت في الحال، ابتلعت "حبيبة" ريقها بصعوبة، هرولت باحثة عن "يُوسف"، لم تجده في أيّ مكان، توجّهت نحو خيمتهم المنصوبة خارج الأسوار لعلّها تجده هناك، ما زالت النار التي أشعلوها بجوار خيمتهم أمامها تفرقع، لم تطفئها الرياح! كيف هذا٢ علامة التعجب أجفلت عندما وجدت نفسها وحيدة، أسرعت لتعود، لكنّ هناك شيء جذبها ودفعها لداخل الخيمة، اشتدت الرياح في الخارج، وأطاحت بأغصان الأشجار هنا وهناك، وانطفأت النار خارج الخيمة فجأة، وارتفعت الكرة من يدها في الهواء، وأضاءت الخيمة، حملقت "حبيبة" في سطح الكرة اللامع، كانت ترتجف، ظهر لها وجه امرأة، بعينين مرهقتين، وبوجه يبدو متعبًا ويعاني، قالت كلمة واحدة بتوسّل ورجاء:
, "أيــجـــيـدور"
, فقدت "حبيبة" وعيها وسقطت على الأرض، وتدحرجت الكرة حتى سكنت في ركن الخيمة، وانسحب الضوء الذي كان يشعّ منها واختفى في الحال، تاركًا "حبيبة" ملقاة على الأرض، والظلمة تحيط بها من كلّ صوب، بينما الرياح العاتية تقلّب الرمال هنا وهناك، انتهى الحفل بضربة برق واحدة أخافت الجميع، تلاها الرّعد وطاردهم حتى اختفوا جميعًا من الساحات، لجأ جميع أفراد الفرقة إلى مطبخ القلعة وغرفة غسل الملابس، إلّا "يوسف" الذي كان يبحث عن "حبيبة"، ثار على الجميع، وظلّ يصيح مناديًا عليها، لكنّها لم تُجبه، لم يتمكن أحد من الخروج لغياب الضوء، وصعوبة إشعال النّار، فكيف سيسيرون وسط هذا الظلام، لم يسرع معه إلّا "مُوراي" و"عُبيدة"، أمّا البقية فلم يخرجوا معهم، تسارعت دقّات قلبه، خشي أن تكون تلك لحظة الفراق، ربّما لن يراها مرّة أخرى، أحرقه هذا الشعور، أصاب اليأس "مُوراي" و"عُبيدة"، أخبراه أن يهدأ وينتظر حتى يتوقف المطر، لكنّه لم يستجب، وخرج مهتديًا بضوء القمر الذي غبّشه المطر، ينتظر لمعان البرق ليستدل على الاتجاه الصحيح، وكلّما أومض كان يركض نحو الخيمة، قاده قلبه إلى هناك، وعندما وصل دلف يبحث عنها وتعثّر في جسدها الملقى على الأرض، فحملها بين يديه وأخرجها من الخيمة التي صارت تسبح في ماء المطر، عاد بها نحو القلعة، مهتديًا بومضات البرق التي بدت وكأنّها تساعده عندما توالت وهي تمزّق صفحة السماء لتضيء له الطريق، وصل أخيرًا واحتمى بأوّل جدار تعلوه مظلّة، والذي كان أحد الحرّاس يلجأ إليه عند سقوط المطر، بينما تحت هذا السيل فرّ لداخل القلعة في الحال، جلس "يُوسف" يتأمّل وجهها والذي كان يحفظ ملامحه عن ظهر قلب وينتظر إفاقتها بقلق بالغ، ترى ما الذي أخرجها من القلعة، ولماذا كانت وحيدة في تلك الخيمة! ولماذا فقدت الوعي الآن؟
, ٤ العلامة النجمية
, ألبس الصباح قمم الجبال عباءات من فضّة، ما زالت آثار الأمطار عالقة بأشجار البساتين، الهواء بارد كالثلج، كانوا جميعًا ينتظرون أن تفيق "حبيبة" فقد داهمتها الحمّى ليلة أمس، كانت ترتجف وتردد اسم "يُوسف"!، وكان لهذا بالغ الأثر على قلبه، كان يتألّم ويتوجّع وهو يراها تنتفض بين ذراعي "مِسكة" وهي تدثّرها بأغطية صوفية أمدّتها عاملات المطبخ بها، فقد رقّوا لهم واستقبلوهم ليبيتوا ليلتهم معهم، أفاقت أخيرًا وتمكّنت من الجلوس، احتضنت قدح الشراب الساخن لتستمدّ منه الدفء، تلفتت حولها تبحث عن عينيه، ولما اطمأنت لوجوده بدأت ترشف الحساء ببطء، انحدر ضوء الشمس فدفّأ الأجواء، سكنت الرياح وبدأ النشاط يدبّ في سكان القلعة، اختفت "لؤلؤة" ولم يعثروا على "بركات"! أين هما؟
, خرجوا من القلعة حيث كانت خيمتهم في حالة يرثى لها، أخرج "الحزاورة" ما فيها ونشروه ليجف تحت أشعة الشمس، كان "يُوسف" يبحث عن "بركات" مع "عُبيدة" و"مُوراي"، لم يعثروا عليهم في أيّ مكان، عاد ليجد "حبيبة" تنتظره وقد لجأت لارتداء ملابس الغجر حتى تجفّ ملابسها، اقترب وهو يخفي ابتسامته، كان الثوب مزركشًا موشى بفصوص وحلقات نحاسية تصدر خشخشات كلّما تحرّكت، قال باسمًا:
, -كيف حالك يا آنسة "حبيبة"؟
, -أشعر أنني الآن أفضل، وددت أن أخبرك بشيء هام
, وصفت له ما حدث الليلة السابقة بالتفصيل، سألها أن تصف له ملامح المرأة، ترى من هي؟ هل هي "هيدرانجيا"؟ أم "مَيسان"؟، ظهر "بركات" كان يسير وخلفه "لؤلؤة"، كان غاضبًا، وكانت ابنته ثائرة، قال بصوت عالٍ وهو يقف بينهم:
, -أين القطة البيضاء؟
, كادت "حبيبة" تخبرهم بما حدث، لولا أنّ "يوسف" همس لها ألّا تنطق بكلمة، وقف وسار نحوه وسأله:
, -أين كنتما؟ لقد أقلقتنا يا سيّد "بركات"، كنّا نبحث عنكما في كلّ مكان
, -هل رأيتم القطة البيضاء وأنتم تبحثون عنّي
, قال "مُوراي":
, -لا
, ثُمّ التفت "مُوراي" نحو "يُوسف" وقال له:
, -كانت تتبعك طوال الوقت يا سيّدي، أنت آخر من رآها
, هزّ "يُوسف" كتفيه وقال:
, -ربّما ضلّت في الظلام عندما كُنت أبحث عن "حبيبة"
, قالت "مِسكة":
, -لا تقلقوا، ستجد من يرعاها ويُطعمها، فأهل القلعة طيبون، وهي جميلة وستجذب الأنظار
, قالت "لؤلؤة" بغضب:
, -لا بدّ أن نعثر عليها وبسرعة
, سألها "يُوسف":
, -لماذا؟
, قالت "لؤلؤة" متلعثمة:
, -أنا أُحبّ القطط، ولقد تعلّق قلبي بها
, قال "مُوراي" محاولًا تهدئتها:
, -حسنًا سنبحث عنها وسنعثر عليها إن شاء ****، لا تقلقي يا "لؤلؤة"
, قال "يُوسف":
, -على العموم سنبيت ليلة أخرى، سمعت أنّ "هيدرانجيا" ستأتي غدًا
, استدارت "لؤلؤة" وسارت وهي تضرب الأرض بقدميها بعصبية شديدة وتبعها أبوها ودلفا إلى القلعة يبحثان عن القطة، اقتربت "حبيبة" وسألت "يُوسف":
, -لا بدّ أن وراء اهتمامها بتلك القطّة سرًّا ما!
, -إن كانت قطّة!
, ترامقا لوهلة ثُمّ سألها:
, -أين الكرة البلورية؟
, أسرعت تجاه الخيمة وأحضرتها واقتربت منه، تفحصاها فلم يكن هناك ما يلفت الانتباه، عادت كرة مهملة لا بريق فيها يجعلها ذات قيمة، وضعاها في صندوق الأدوات بحرص، وقررا أن يخفيا الأمر حتى يعرفا سبب غضب "بركات" و"لؤلؤة"، مرّ اليوم هادئًا، لم يكن هناك جديد، تجوّلوا في المكان داخل القلعة وخارجها، جلس يوسف بجوار النار، قرر ألّا ينام في العربة تلك الليلة، سينام أمام الخيمة بقرب النّار، أغمض عينيه عندما تأكّد أنّ "حبيبة" في أمان.
, ٤ العلامة النجمية
,
, -أين "عُبيدة"؟
, كان هذا سؤال "مُوراي" فور أن استيقظ من نومه، فهو لم يعد الليلة الماضية، انتشروا جميعًا يبحثون عنه، لم يعثروا عليه!، أصابهم اليأس، أسرعت "حبيبة" تبحث داخل القلعة، لم تعثر عليه، فاجأتهم "جلنار" هي و زوجها عندما خرجت من القلعة حاملة لهم رسالة من الملكة، قالت ببرود وعجرفة:
, -لقد تسلل أحدكم أمس وتحدّث إلى الأميرة "جلاديولس"، ألقى الحرّاس القبض عليه وهو يفرّ، وهو الآن في سجن القلعة بأمر من الملكة
, صاحت "حبيبة":
, -ولكن ليس هذا ما حدث، لقد خرجت إلينا "جلاديولس" بنفسها وتعرّفت عليه
, -كاذبة، الأميرة لا تخرج وحدها أبدًا
, قال "يوسف":
, -نحن نطلب لقاء الملكة
, -يا لجرأتك، لن تقابل الملكة شرذمة مثلك، ولتعلم أنها أرسلتني إليكم لأخبركم بأن وجودكم هنا غير مرحب به، ولترحلوا في الحال
, صاح "مُوراي":
, -لن نرحل بدون "عُبيدة"!
, قال زوجها "آسر":
, -بل سترحلون وإلّا سيكون مصيركم جميعًا كمصيره
, ثُمّ أردف بعد أن رماهم بنظرات ازدراء:
, -ارحلوا قبل الظهيرة، وإلّا سيخرج الحرّاس لإلقاء القبض عليكم
, استدار هو وزوجته وتركوهم حائرين، صاح "يُوسف" بـ"جلنار" قائلًا:
, -لماذا لم تنفّذي وصية أمّها؟
, التفتت في ذهول وسألته:
, -تقصد من؟
, -"هيدرانجيا"، ألم تكتب إليك أمّها رسالة قبل الولادة
, -وكيف عرفت؟
, قالت "حبيبة" بحماس:
, -هذا ساحرٌ، وهو يعرف عنك كلّ شيء
, اقتربت "جلنار" وقالت مخفضة صوتها:
, -لا يوجد رسالة، لا أعرف ما تتحدث عنه!
, -بل هناك رسالة في بيت أبيك، خلف المرآة التي في صدر غرفته
, اقشعر بدنها وقالت والخوف في عينيها:
, -ما الذي تقصده؟
, ضيّق عينيه وقال:
, -طلبت منك أمّها أن تهربي بالصغيرة بعد الولادة إن ماتت هي، وكان الأطباء قد أخبروها أن حالتها تتدهور، خشيت المسكينة أن تموت وهي تلد ابنتها، وكانت تعلم أنّ هناك من يكيد لها وينوي إيذاء ابنتها، وتكررت الرؤى التي تحذّرها من هذا الأمر، وكانت تشعر أنّ هناك أذًى سيلحق بصغيرتها، وأخبرتك في الرسالة بالتفصيل، وثقت بك لكنك لم تنفّذي وصيتها، ولم تنتبهي للصغيرة، فآذوها في ساقها، لولا أن خالتها أتت بنفسها وأخذتها لتربيها لظلّت المسكينة هنا تعاني من زوجة أبيها.
, قالت "جلنار" وهي تحدّق في وجهه بفزع:
, -أنت كاذب، لا يوجد رسالة، وأنا غير مسئولة عمّا حدث لـ"هيدرانجيا"
, -بل توجد رسالة، ويوجد قلادة خاصّة بأم "هيدرانجيا" في خزانة ملابسك، سيتعرف جلالة الملك عليها فور أن يراها، سأدخل الآن للقاء الملك بنفسي
, سار بخطواتٍ ثابته، لاحقته سائلة:
, -ماذا تريد؟
, التفت ورشقها بنظرة تهديد وقال:
, -أطلقوا سراح "عُبيدة"، وإلّا سأفضح أمركما أمام الجميع، وأنتِ تعلمين أنّ الملكة تكره وجودك بالقلعة
, قال "آسر" الذي كان ينصت إليه بتوجّس:
, -سنفعل، أمهلنا فقط بعض الوقت، حتى تغرب الشمس، وحاولوا جمع أدواتكم وأزيلوا خيمتكم حتى لا ينكشف الأمر
, -لا مجال للتفاوض٣ نقطةلا مهلة ولن ننتظر للغروب
, -هذا غير معقول، لن نتمكن من إخراجه بتلك السهولة، لا بدّ أن ننتظر حتى ينشغل الجميع باستقبال "هيدرانجيا
, صاح "يوسف" وعيناه ثابتتان على وجه "آسر":
, -لن تأتي الأميرة "هيدرانجيا" اليوم! لن تأتي هنا أبدًا!
, اندهش الجميع ودارت جميع الرؤوس تجاه "يُوسف"! لماذا قال هذا الكلام؟ والآن بالذات؟ طالعته "جلنار" بارتياب وقالت وهي تجذب زوجها من ذراعه:
, -سنحاول إخراج صديقكم، ولكن ارحلوا في الحال، ولا تُرني وجهك هنا مرّة أخرى
, ابتعدا في حالة من التوتر وكأنّ زلزالًا أصابهما، وبدأ رفاق "يُوسف" يجمعون أدواتهم بعد أن نصحهم "بركات" أن يسرعوا ليظهروا للحرّاس الذين كانوا يراقبونهم من بعيد أنّهم يستعدون بالفعل للرحيل، أقبلت "حبيبة" تسأل "يُوسف":
, -لماذا قلت أن الأميرة "هيدرانجيا" لن تأتي هنا أبدًا
, طالعها بنظرة تشي بالكثير، قال لها هامسًا:
, -لديّ شكوك، هناك أحد من بيننا لا يريد لـ"هيدرانجيا" النجاة من ساحرات "أُوبالس"
, -من هو؟
, في تلك اللحظة خرج جمع من حرّاس القلعة وحاصروهم، صوبوا تجاههم الحراب والسيوف والسهام، حاول "بركات" أن يتحدّث إليهم فلطمه أحدهم وأسقطه أرضًا، قام يستند إلى عصاه، همس"يوسف" لـ"حبيبة":
, - كوني بجواري، ولا تفشي سرّ الكرة
, تقدم الحراس وأمسكوا بهم ليقتادوهم إلى سجن القلعة، ساروا بهم في طابور واحد، وكانت "لؤلؤة" أمام "يوسف" ترتجف من شدّة الغضب، فقد أهانوا أباها أمام عينيها، ولم تجد حولها الماء لتستمد قوّتها منه، وكان "يوسف" قد عرف هذا من أبيها، مرّوا بهم بجوار ساحة مسقوفة وخاصّة بغسل البسط والملابس وهم في طريقهم إلى سجن القلعة، دفع "يوسف" "لؤلؤة" فسقطت في وعاء خشبي كبير ممتليء بالماء ومخصص لغسل الملابس، وانزلق الحارس الذي كان يُمسك بها، فارت المياه في الوعاء فوثبت "لؤلؤة" غاضبة وخرجت منه وكأنّها خرجت من حمم بركانية، بدأت تزوم وابيضّت عيناها، مدت يديها في الماء وحملت حفنة منه بين كفيها، ظلّت تديرها وتكوّرها حتى صنعت منها كرة من الثلج تخرج منها شذرات مدببة ورفعت ذراعها ودفعتها للأمام فضربت الحرّاس بها واحدًا تلو الآخر، كررت الأمر وأردفت بقذفهم بصواعق من الثلج، سقط بعضهم وهرب آخرون، وعلا الصراخ هنا وهناك، صاح "يُوسف" قائلًا:
, -اطلقوا سراح رفيقنا وإلّا٣ نقطة
, انطلقت "لؤلؤة" تضرب بيديها يمينًا ويسارًا، تُسقط من يعترضها، تحطّم الأشياء، وتسكب الجرار والأواني، هرول أحد الحرّاس تجاه السجن وأطلق سراح "عُبيدة"، كان الملك يراقب كلّ هذا من شرفة غرفته، وبجواره زوجته بملامحها القاسية، الآن بدأت عضلات وجهها ترتعش! كانا خائفين، أمّا "جلاديولس" فكانت تضع يدها على فمها وتراقبهم بذهولٍ من شرفة أخرى، رأت "عُبيدة" وهو يركض نحو رفاقه، رفعت لؤلؤة "جلنار" وعلّقتها في الهواء، كانت تصرخ في هلع، تطلب العون ممن حولها وهم يخافون الاقتراب منها، أسرع "آسر" يتوسّل لـ"يوسف" أن يطلب منها أن تتركها، قال وهو راكع أمامه:
, -أرجوك لا تدع تلك الساحرة تقتلها
, قال "يوسف":
, -افسِحوا الطريق، سنرحل الآن، ولا تتبعونا أبدًا وإلّا٤ نقطة
, افسَحوا لهم الطريق، وخرجوا جميعًا، وتراجعت "لؤلؤة" بظهرها شيئًا فشيئًا، تركت "جلنار" في النهاية لتسقط على ظهرها وتبعتهم، كانت خيول الكحيلان تنتظرهم خارج أسوار القلعة، تركوا الخيمة، وأدواتهم، وكلّ شيء وهرولوا في البساتين المحيطة بالقلعة، صاحت "لؤلؤة" بغضبٍ هادر:
, -لن نرحل بدون القطّة، أريدها الآن
, اقترب أبوها وهمس في أذنها بكلمات ثُمّ احتضنها فسارت معه ساكنة، صاح قائلًا:
, -من هنا٣ نقطةاتبعوني
, تخيّر "بركات" أرضًا منبسطة ومكشوفة تغمر الشمس كلّ ركن فيها، نادى على ابنته، لم تُجبه، لكزها على كتفها بقسوة وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يرونه فيها يعاملها بتلك الطريقة، طالعها بنظرة حازمة، قالت بخفوت وعيناها دامعتان:
, -الآن يا أبي
, مدّوا أيديهم، ووضعوها فوق بعضها البعض، وترددت "لؤلؤة" قبل أن تضرب على كفوفهم المجتمعة بينما الخيول تدور حولهم، كان "يُوسف" يترقّب ما يحدث قبل ظهور الدرب، فقد بدأ يلاحظ شيئًا ما، فُتح الدرب وبدأت ألوانه تموج في بعضها البعض، وارتفعت بوابته تتراقص في الهواء، دلفت الخيول أولًا، وتبعها الجميع، وعادوا للبستان., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٩
عودة
, كان البستان هادئًا، ساكنًا كما تركوه، لم يتغيّر فيه شيء، جالت "مِسكة" بعينيها في المكان وقالت بانبهار:
, -ما أروع هذا البُستان! كيف وصلنا إلى هنا٢ علامة التعجب
, وكأنّها لم تره من قبل! بل وكأنّها عجوز أخرى مختلفة تمامًا! كان "يُوسف" يتأمّلهم بتعجّب، فتلك خيول الكحيلان التي تحوّلت إلى بشر!، وهذا "مّوراي" الذي انكمش وعاد صغيرًا فجأة!، وهؤلاء الحزاورة الذين خُطفوا معه غلمانًا صغارًا، وفي غمضة عين تحولوا لشباب بالِغين! وانتقلوا معه من مكان لآخر، وهو نفسه!٢ نقطةكاتب يعيش بين شخوص رواياته، والذي اكتشف أنّهم -وعندما لم يضع نهاية لحكاياتهم- أكملوا الطريق وحدهم، وتلك "حبيبة" التي استُدعيت هنا لتنقذ من استغاث بها مرددًا هذا النداء "أيجيدور"، أو ربّما تنقذ مملكة بأكملها!
, ساروا تجاه بيت "بركات" فوجدوا "كِرشاب" يجلس مهمومًا يائسًا وحوله "الحزاورة" الصغار والذين أسرعوا نحو "مُوراي" فور أن رأوه فأقبل يحتضنهم ويعرّفهم برفاقه، انتفض "كِرشاب" فور أن رآهم، كان يبدو عليه الإرهاق الشديد، قال بصوت متحشرج وكأنّه لازم الصمت لفترة طويلة:
, -طال غيابكم؟
, قال "يُوسف" وقد لاحظ الهالات السوداء تحت عينيه:
, -كيف أنت يا "كِرشاب"؟ تبدو مريضًا!
, -لست بخير طالما زوجتي بعيدة عنّي
, سألته "حبيبة" بفضول شديد:
, -أين "جلنار" و"آسر"؟
, -أتيت معهما منذ يومين فوجدت العجوز "مِسكة" هنا بالبيت مع الغلمان، أخبرتني أنّكم سلكتم دربًا من الدروب الغريبة ووصفتها لي، جنّ جنون "البرق" وطرحني أرضًا وركض خارجًا من البُستان ولم أره منذ تلك اللحظة، في اليوم التالي رحلت "جلنار" وزوجها "آسر" دون وداع أو شرح!، حاولت الذهاب للقاء "جلاديولس" فمنعني الحرّاس زاعمين أنّها اختفت من القلعة وهم يبحثون عنها!، عُدت هنا ووجدت "الحزاورة" وحدهم، كانوا خائفين وجائعين، فقد اختفت العجوز فجأة! وكأنّها تبخّرت في الهواء! فأشفقت عليهم وبقيت معهم، ظننتكم لن تعودوا أبدًا
, وقفوا جميعًا وكأنّ على روسهم الطير، اجترّوا ما حدث لهم قبل قليل، وضع "عُبيدة" يده في جيب بنطاله فوجد وشاح"جلاديولس" الذي قذفته له، تذكّر الحديث الطويل الذي دار بينهما في الحديقة، وكيف نقشت ببراءتها وكلماتها التلقائية وردود أفعالها الفطرية بلا تصنّع انتباهه، حتى أنّه تمنى أن تكبر فجأة كما رآها من قبل عندما أسروه أوّل مرة بقلعة الدَّيجور، ولكن بنفس تلك الروح البريئة والنقيّة! وثب مناديًا على "أبهر"، اعتلى صهوته وهو يصيح بحماس:
, -لا بدّ أن نذهب إلى قلعة الدَّيجور٣ نقطةالآن
, ركض بفرسه دون أن يلتفت إليهم، الأمنيات تتدحرج على الطريق أمامه وتسابقه، تبعه "يُوسف"، و"حبيبة"، و"كِرشاب"، وبقي "مُوراي" مع "مِسكة"، فقد استبدّ به القلق عليها، فقد أصيبت بلوثة داخلية وصار تفكيرها مشوشًا، كانت تتعرّف على المكان من جديد! وكأنّها لم تزره من قبل، أمّا "بركات" فأسرع بابنته "لؤلؤة" إلى داخل البيت، أراد أن يتحدّث معها وقد كانت غاضبة للغاية.
, وصل الأربعة بخيولهم قرب أسوار قلعة "الدَّيجور"، وقفوا وقد أذهلهم ما رأوه أمام أعينهم، السحب السوداء التي تعلو القلعة تتداجى وتلتحم وتدور في السماء وكأنّ هناك من يطويها ويعصرها، وكالعادة هبّت رياحٌ شديدة فجأة! استحال الغمام إلى مطر غزير يسقط في كلّ مكان، الماء الطاهر يغسل كلّ شيء، يزيل السواد عن الجدران، وعن الأسقف، وعن جذوع الأشجار الجافّة في حدائق القلعة الواسعة، المطر ينقي الأجواء، يغسل النفوس، يُفسح الطريق لأشعة الشمس التي غابت لسنوات عن تلك القلعة، انتشرت غدران الماء على الأرض حاملة أدرانًا علقت طويلًا بالأجواء هنا، وكانت الأرض تتشرّب الماء الأسود وتخفيه بين شقوقها، ظلّ الأربعة مكانهم جامدين وكذا خيولهم، "أبهر"، و"حيزوم"، و"الترياق"، و"المسوّم" والذي كان أفضل حالًا من ذي قبل، لم يبتلّوا فالمطر فوق القلعة فقط! وكأنّ سماءها غير سمائهم!، استمرّ المطر حتى استحال لون القلعة للون ناصع البياض، وأزالت الشمس نقابها وضحكت فأزهرت حدائق القلعة، كانت النباتات تعلو وتشقّ طريقها إلى السماء أمام أعينهم، اكتست الأشجار بأوراق زاهية الخضار، اخترقت أنوفهم رائحة الريحان، شهق "عُبيدة" قائلًا:
, -سبحان ****!
, قال "كِرشاب" وهو يقلّب عينيه في المكان:
, -هل ستكتمل تلك المعجزة بظهور زوجتي "هيدرانجيا"؟
, قال "يُوسف" وكان أوّل من خطا خطوة بفرسه للأمام:
, -قريبًا يا "كِرشاب"، سنحررها من أسرها إن شاء ****
, ركض الأربعة تجاه بوابة القلعة، فاستقبلهم حراسها بالبشر والترحاب! وكأنّ شيئًا لم يكن!، طلبوا لقاء "جلاديولس"، فسمحوا لهم، ودلفوا للقاعة الكبرى، وجلسوا ينتظرون وصولها، تناهى إلى سمعهم صوت خطواتها وهي تقترب، برداء حريري ناعم وقفت أمامهم بعينيها الدامعتين، والجميلتين، والوشاح الموشّى بالفصوص يعكس على بشرتها خيالات جميلة، كانت حزينة ومهمومة، حيّت "كِرشاب" ثُمّ انتفضت عندما رأت "عُبيدة"، لمعت عيناها وصاحت:
, -"عُبيدة"!
, اقتربت منه متلهّفة ووقفت تتفحّص ملامحه ثُمّ قالت:
, -أنت كما أنت! لم تتغيّر أبدًا
, لاحظت وشاحها الذي كانت قد ألقته له في يده فالتقطته وقرّبته من أنفها وقالت بعد أن أغمضت عينيها:
, -كنت قد عطرته من أجلك قبل أن أُلقيه عليك في حلبة المصارعة، وما زال يحمل العطر!
, ابتسمت بلطفٍ عندما تذكّرت كيف كانت صغيرة وبريئة وخيالية، وكيف تعلّقت به ورأته فارسًا لأحلامها، أمّا هو، فكانت دقّات قلبه المتواثبة تشلّ لسانه، تلك الصغيرة التي رآها هناك تقف الآن أمامه بجمالها الفتّان الذي لا يصمد أمامه لبّ عاقل، روحها البريئة التي تسكن عينيها الدامعتين، ونظرات الإعجاب التي كانت تطالعه بها أنسته أنّها كانت سببًا في حبسه وعذابه من قبل، لزم الصمت، فأردفت قائلة:
, -أين اختفيتم جميعًا؟ لقد ذُبح فؤادي لرحيلكم فجأة، كُنت قد تعلّقت بكم، لم يُخفف عنّي إلّا شقيقتي الحبيبة "هيدرانجيا"
, اقتربت من "يُوسف" وقالت له بامتنان:
, -شكرًا لك، كانت رسائل أختي بلسمًا وشفاء لروحي العليلة
, غضّن "يُوسف" حاجبيه، هل نسيت "جلاديولس" أنّها استعانت بالمجاهيم لتحضره إلى هنا؟ وهل نسيت أمر اختفاء شقيقتها؟ أم أنّ "هيدرانجيا" هنا هي أيضًا بالقلعة! كان "كِرشاب" يتعجّب من طريقتها في الكلام التي تغيّرت!، سألها مستنكرًا:
, -ألا تعرفينه؟ إنّه الكا٤ نقطة
, قاطعته قائلة وهي تنظر لعيني "يُوسف":
, -هو الساحر! التقيت به منذ سنوات، وهو ماهرٌ جدًا ويعرف الكثير، ويستطيع قراءة الأفكار والذكريات، لولاه لظللت عدوّة لأختي
, التفتت تجاه "كِرشاب" وسألته:
, -هل من أخبارٍ جديدة عن أختي؟
, هدّل كتفيه وقال:
, -لا جديد
, اكتسى وجهها مرّة أخرى بالحزن وقالت:
, -وأنا أيضًا لم تصلني أخبار جديدة، حاولت التفاوض مع ساحرات "أُوبالس" اللعينات، لكنهن يرفضن إطلاق سراحها
, قال "كِرشاب" متعجبًا:
, -وهل ذهبت للتفاوض معهن؟
, -بالطبع، أليست أختي الحبيبة!
, -لماذا لم تُخبريني؟
, -وكيف سأصل إليك يا "كِرشاب"! أنت تختبئ في مكان لا أعرفه ولا يعرفه حراس قلعتي!
, جلستْ وأشارت لهم ليجلسوا وقالت:
, -سمعت أنّ الساحرات قمن بحرق المكتبة العظمى، كُنت أسمع عنها وأتمنى زيارتها، فأنا أُحبّ القراءة
, رفع "كِرشاب" حاجبيه وقال:
, -تحبّين القراءة٢ علامة التعجب
, هزّت رأسها بإيجاب وأردفت:
, -أخبروني أنّ تلك المكتبة بأرض البلاغة، فرتبت لزيارة لقصر ملكة عظيمة هناك تسمى "الحوراء"، ابنها الوحيد يحكم مملكة البلاغة، لكنني لم أتمكّن، وأحزنني ما أصابهم بسبب ساحرات "أُوبالس"، عندما اقتحموا قلعتنا، سمعتهن يرددن تعويذة على كل سكان القلعة، فبدو كالتماثيل، ساكنين في أماكنهم وأعينهم مفتوحة، خطفوا أختي أمام عيني، ركضّتُ خلفهم لأمنعهم فأذوني وأصبت في ساقي فلزمت الفراش وقهرني البكاء، لم تصبني تعويذتهم! ولم أغب عن الوعي لحظة اقتحامهم القلعة كما حدث للبعض، ولكنني٢ نقطةفوجئت أنّ كلّ من حولي نسوا شقيقتي"هيدرانجيا"! كُنت أسألهم عنها فيتعجبون ويسألونني من هي؟ أخبرني "برهوم العابد "وهو رجل تقيّ، نعدّه هنا من كِبار الشيوخ أنّ تعويذتهم كانت من أجل أن تُنسى "هيدرانجيا"، وأنّها لا تصيب من أحبّها بصدق، فكُنت أنا ووزيري الذي لم يفارقنا منذ وفاة أبي، و"كِرشاب"، و"جلنار" و"آسر" من الناجين منها لأننا أحببناها بصدق!
, نكست "جلاديولس" رأسها، قال "كِرشاب":
, -أنا قلق عليها، فقد اقترب موعد ولادتها
, تذكّرت "حبيبة" مدينة "ديرينكويو" وما حدث بها فسألتها:
, -بمن التقيتِ من الساحرات؟ بـ"ياقوت"؟ أم بـ"زمرّد"؟
, -التقيت بثلاثة منهن، "ياقوت"، و"توباز"، و"زفير"، أخبروني أنّ شقيقتي في أمان، وأنّ هناك محاربًا سيصل إلى المملكة هنا، وسيكون معه كتاب يسمى "أيجيدور"، وأنّ هذا الكتاب هامّ والساحرات يحتجنه وإن أردت أن أحررها لا بدّ أن أبحث لهن عن المحارب وأحضر لهن هذا الكتاب
, كان "كِرشاب" حائرًا، ليس هذا ما يعرفه عن "جلاديولس"، تلك التي أمامه الآن مختلفة! لاحظ"يُوسف" حيرته، فهو أيضًا عرف من "المجاهيم" أنّها عقدت اتفاقًا مع ساحرات "أُوبالس" يخصّ شقيقتها وكانت وقتها تكرهها بشدّة!، أما الآن فيبدو أنّها نسيت كلّ شيء، أو بمعنى آخر لم يحدث معها من الأصل! فاقترب وهمس له:
, -لا تُخبرها بما مضى، لقد تغيّرت أشياء كثيرة عندما دلفنا لهذا الدرب
, -ماذا تقصد؟
, -الدرب أعادنا للماضي وها هي "جلاديولس" قد تغيّرت
, -ولماذا لم يتغير مصير "هيدرانجيا" أيضًا؟ لماذا لم نجدها هنا هي الأخرى في أمان!
, -لا أدري٣ نقطةربّما لأننا لم نلتقِ بها هناك، لو رأيناها لحدث معها ما حدث مع "مِسكة"، فهي عندما ظهرت لنا في درب الماضي اختفت من هنا، بعض الألغاز سنفهمها يومًا ما، لكن عدني ألّا تخبر "جلاديولس" بما مضى
, -أعدك٢ نقطة
, رفع "يُوسف" صوته ليسمع الجميع وقال:
, -لا بدّ أن نعود للبستان، حان وقت الرحيل!
, أجفلت"حبيبة" عندما ذكر كلمة الرحيل وسألته:
, -إلى أين؟
, -"ديرينكويو"
, ٥ العلامة النجمية
,
, في طريق العودة، وبينما يسيرون خلف بعضهم البعض، اهتزّت الأرض من تحت أقدامهم فجأة، وظهرت زمرة من المجاهيم، أجفلت "حبيبة"، كانت تلك هي المرّة الأولى التي تراهم فيها، أمّا "كِرشاب" و"عُبيدة" فكانا قد التقيا بهم في قلعة "الدَّيجور" قبل أن تتغيّر، وكانت "جلاديولس" قبل تبدُل حالها تستعين بهم، تقدّم زعيم المجاهيم ووقف قبالة "يُوسف" وقال له:
, -وأخيرًا عُدت!
, ارتبك "يُوسف"، ماذا لو طالبوه بكتاب "أيجيدور" الآن!، ترجل عن فرسه وأقبل عليه وقال:
, -كنت قد٣ نقطة
, قاطعه زعيم "المجاهيم" قائلًا:
, -أعلم أنّك سلكت تلك الدروب، وأنّك أبحرت في رواياتك وعدت للبدايات، وأحيانا قُلبت الأحداث للضدّ، تماما كما كان يفعل خنجر "أبادول"
, وضع يده على صدره مظهرًا الاحترام لصاحب لقب"أبادول" الذي يجلّونه ويحترمونه، ثُمّ أردف قائلًا:
, -كنّا معكم بقلعة الدَّيجور، ورأينا كيف تبدّل حال الأميرة "جلاديولس"، وكنّا طوال الوقت في البستان نراقب كلّ شيء
, -ألم تخبرني أنكم لا تستطيعون دخوله، وأنّه محمي بطريقة ما!
, -عندما رحلتم استطعنا دخوله، يبدو أنّ من كان يمنعنا من الدخول سلك معك الدرب، لأننا اليوم وبعد عودتكم لم نتمكن من دخوله مرّة أخرى لأنّه بالتأكيد قد عاد معك!
, دمدم "يُوسف" حائرًا ثُمّ قال:
, -من هو؟
, -أنت وحدك تستطيع إجابتنا، ولتعلم أننا سنساعدك، ولكن احذر أن تسلّم كتاب "أيجيدور" لأيّ أحد يطلبه منك
, -ماذا؟ ألم تطلبه مني بنفسك؟
, -كنت أطلبه لأسلّمه للأميرة "جلاديولس"، على أن تمنحنا أرض قرية الدحنون وما تحتها لنتمكن من السيطرة على مدينة"ديرينكويو"، وهذا كان بعد أن نقضي معًا على ساحرات "أُوبالس"، وكنّا نظنّك العدو اللدود والجانب المظلم من الحكاية أيّها الكاتب، أمّا الآن، وبعد أن انكشف لي ما لم أكن أعلمه٢ نقطةلا أريد الكتاب، ولا أريد أرض"ديرينكويو"، وحتى لو عادت "جلاديولس" لجبروتها سأدافع عن المحاربة والكتاب لأحميهما
, -وما الذي انكشف لك وجعلك تُغيّر رأيك؟
, -ساحرات "أُوبالس" يردن *** "هيدرانجيا" لأنّه أول *** سيولد هنا بعد سقوط مملكة البلاغة، لقد احتجزوا الكثير من النساء الحبليات، وبعد الفحص والحسابات، تأكدن أن الأميرة هي أوّل من سيلد منهن
, -وماذا سيفعلن بالطفل!
, - يحتاجون دماءه الطاهرة بسرعة، والتي لم تلوث بالآثام للكتابة على صفحات "أيجيدور" وحتى لا يتشربها ويرفضها الكتاب، سيكتبون مراسيم جديدة لبداية عهد "أُوبالس"
, ثار "كِرشاب" وصرخ بغضبٍ هادر:
, -اللعينات٣ نقطةسأقتلهن
, التفت زعيم "المجاهيم" تجاه "يُوسف" وقال له:
, -سنعينكم حتى يسترد "الزاجل الأزرق" زمام حكمه، وتعود مملكة البلاغة لعهدها السابق
, -ولكن أين هو الآن؟ وأين "الحوراء"؟
, -نحن نبحث عنهم، وسآتيكم بخبرهم فور أن نعثر عليهم، وستجدوننا دائما خارج البستان، على الحدود، فكما تعلم هناك من يمنعنا من دخوله
, اختفى زعيم "المجاهيم" ومن معه فجأة، وخلّفوا وراءهم سحابة من القلق والخوف حلقت فوق رؤوسهم، سالت دموع "كِرشاب"، فزوجته في خطر، وربّما يقتلونها فور أن تلد صغيرها في الحال. قال "يُوسف" وهو يقرض شفتيه:
, -عندما نعود للبستان، لا تخبروا من هناك بما عرفناه عن ساحرات أُوبالس وطفل هيدرانجيا، اتركوني أخبرهم بنفسي
, -لماذا؟
, -ستعرفون حينها، ثقوا بي٢ نقطةأرجوكم
, عادوا إلى البستان، كان رأس "يُوسف" يضجّ بالأفكار، والشكوك تنهش عقله، خرج "بركات" من البيت فور أن سمع صوت الخيول، هرول تجاههم وسأل "يُوسف":
, -لماذا تأخّرتم؟
, -كنّا في ضيافة الأميرة "جلاديولس"
, -وماذا حدث؟
, -مفاجأة! صارت أكثر حلمًا من ذي قبل، لقد تغيّرت للأفضل!
, -وماذا ستفعل الآن يا "يُوسف"؟
, -لا بدّ أن نذهب إلى مدينة "ديرينكويو"
, فغر فاه وقال له:
, -هل أنت مجنون؟ نذهب للساحرات بأنفسنا
, -ولم لا؟
, قال "بركات" بتردد:
, -فلنؤجل الذهاب قليلًا
, -الوقت يمرّ، و"هيدرانجيا" في خطر، اقترب موعد ولادتها، لا بدّ أن ننقذها
, قال "بركات" ثائرًا:
, -ليس قبل أن نسلك دربًا آخر، ألم تكتب عن تلك الدروب بنفسك؟، ما زال هناك الكثير من الأسرار، كما أنني أريد أن أعثر على زوجتي، فأنا قلقٌ عليها
, لوى "يُوسف" شفتيه قائلًا:
, -مللت من دروب "أُوبال"، لا أريد أن أسلكها، يكفي ما حدث
, -و"مَيسان"؟
, -"مَيسان" ذكيّة، وأثق أنّها تبحث عنك وعن بناتها، ستعثر عليكم، أتدري؟ ظننت لفترة أنها القطّة البيضاء!
, اصفرّ وجه "بركات"، وقف مبهوتًا وكأنّ هناك من سكب دلوًا من الماء البارد على رأسه، أردف "يُوسف" وهو يثقبه بعينيه:
, -مسكينة تلك القطّة، أين هي الآن؟
, قال "بركات" بحدّة:
, -لا بدّ أن نعود للدروب
, هزّ "يُوسف كتفيه وقال:
, -لا أستطيع فتحها
, سار "بركات" خطوتين للأمام مقتربًا منه وقال بصوتٍ عالٍ:
, -نحن نستطيع معًا، لنجمع أيدينا كما فعلنا من قبل
, هزّ "يُوسف" رأسه وقال بصوتٍ عالٍ مضاهيًا صوته وليُسمع الجميع:
, -لن أعرّض "مُوراي" والحزاورة للمزيد من الضياع والألم، ويكفي ما تعرّضت له "مِسكة" من خوف ووحدة، فها هي الآن أم للحزاورة كبارًا وصغارًا، صار لها أبناء وأصبحت لهم عائلة، وقد بدأ طارق الحبّ يطرق قلب "عُبيدة"، بقي "كِرشاب" وهو يحتاج لزوجته الآن، ولا بدّ أن أُساعده
, صاح "بركات" غاضبًا:
, -وأنا؟ و"لؤلؤة"؟ وزوجتي "مَيسان"؟
, اقترب "يُوسف" ووضع يده على كتفه قائلًا:
, -أثق ببطلتي، "مَيسان" ستبحث عنكم، وبيدها فتح الدروب وقتما تشاء فمعها حجر أوبال، ستعثر علينا، أمّا أن أُجازف وأضيع ما أتممته حتى الآن٣ نقطةفلا٢ نقطةلن أفعل!
, ثار "بركات" غاضبًا، كان يزوم كالوحش الكاسر، بدأ الجميع يتراجع، كان يبدو غريبًا، عيناه تتسعان ويزداد سوادهما قتامة، كان يكزّ على أسنانه، ازداد حجمه وكأنّ عضلاته انتفخت فجأة، وقف متنمرًا وقال لـ"يُوسف":
, -أيّها البائس الضعيف، تخذلني مرّة أخرى!
, قال "يُوسف" وهو يقف بثبات في مواجهته:
, -طوال الوقت كُنت أشك فيك، من أنت؟ أنت لست بطلًا من أبطال رواياتي!
, طالعه بنظرة تقطر كرهًا وغلًا وسأله:
, -ألم تعرفني؟
, -لا
, قال بازدراء:
, -لأنّك خائن٣ نقطة
, ثُمّ أردف وقد احمر وجهه:
, -أنا أوّل صديق خيالي لك! أوّل شخصيّة كتبت عنها على تلك الورقة الصغيرة التي دسستها مع هذا الحجر البالي الذي أهداه لك والدك، رسمتني عليها، وكانت صورتي رائعة، وأعطيتني لقبًا مقتبسًا من حجرك المزيّف
, اتسعت عينا "يُوسف" وقال بذهول:
, -يا إلهي!٢ نقطةأنت "أُوبالس"!
, -نسيتني لسنوات، وحيدًا كُنت، حزينًا كُنت، لا أجد أنيسًا أطمئن له! وبعد أن علّقتني بك، وبعد كلّ هذا سلبتني حجري ووهبته لبطلة أخرى!
, هزّ "يُوسف" رأسه وقال:
, -غير معقول!
, -كُنتَ على وشك إتمام روايتكَ عن "مَيسان"! كان اسم "مَيسان" سيخلّد مع حجري، حجري أنا٢ علامة التعجب أيها الخائن، لولا أنني حالفتُ الشيطان لأقتحم دروبك اللعينة، وتزوجتها لأقهرها ولأمنعها من إغلاق الدروب وإنهاء رحلتها، ولأمنعك من إتمام تلك الرواية عنها٢ نقطة
, -أليست زوجتك؟ ألا تحبّها؟
, -لا أحبّها، ولن تنجح في إتمام روايتك عنها، وسأقتلك كما قتلتني يا "يُوسف"، أنت لا تستحق الحياة، كلّ ما على أرض تلك المملكة سيكون لي وحدي، سيخلد اسمي للأبد
, -لكنني لم أقصد أن أتركك يا "أُوبالس"، ولم أكن على علم بأن لكم حياة خاصّة، ولم أتخيل يومًا أن أكون هنا على أرض مملكة البلاغة بين شخوص رواياتي
, لوى "أُوبالس" شفتيه قائلًا:
, -أنت حتى لم تعرفني من ملامحي، تمعّنت في وجهي أكثر من مرّة ولم تعرفني، سرت بجوارك، حنوت عليك، استقبلتك ببيتي، لكنّك أحمق وناكر للجميل
, -ولماذا أخفيت شخصيتك الحقيقية عني؟
, -لأظلّ على مقربة من تلك المحاربة، وأحصل منها على كتاب "أيجيدور"، ولأتمكن من الوصول إلى "مَيسان"، ما زالت تلك الملعونة تُدافع عنك، لقد دلفت المكتبة الكبرى من خلال دربٍ من دروب أُوبال، وكان لها حوارات طويلة مع حرّاس المكتبة، وتعلّمت الكثير منهم، وأرادت أن ننتقل هناك نحن وبناتنا لنخدم بالمكتبة، لكنّ هذا لن يحدث٣ نقطةلن يحدث أبدًا
, قال "يُوسف" باستنكار:
, -كيف لزوج محب لزوجته أن تنقلب مشاعره تجاهها للضد هكذا فجأة!
, -دعك من هذا الهراء، لا تتحدّث عن الحبّ
, ثُمّ أردف بنظرة نارية:
, -"مَيسان" لن تظهر إلّا لك، فأنت الكاتب والمؤلف، وأنت وهبتها الكثير، وهي مدينة لك، ولأنها عرفت عنك الكثير وهي بالمكتبة العظمى ستعثر عليك، أرادت غلق الدروب لتساعدك على إنهاء الرواية، لكنني فتحتها عندما راقبتها وعرفت السرّ
, قطّب "يُوسف" حاجبيه وقال بتركيز شديد وهو يحدّجه بنظراته:
, -الحجر المثبت بأسفل عصاتك٢ نقطةأليس كذلك؟
, التفت "أوبالس" نحوه ورمقه في صمت غاضب، كان خدّه يرتعش، أردف "يُوسف" قائلًا:
, -لم يكن اجتماع أيدينا فوق بعضها البعض هو سبب فتح الدروب، كنت تطرق الأرض في كلّ مرة قبل أن ينفتح الدرب، حرصك الشديد على عصاتك وأنت لا تحتاج للاستناد عليها وتلك الطرقة المصاحبة لانفتاح الدروب في كلّ مرّة، وتكرار كلمة ابنتك (الآن يا أبي) في كلّ مرة أيضًا جعلني أشك
, قال "أُوبالس" وابتسامة ساخرة تسكن على شفتيه:
, -كما قالت "مَيسان"، يبدو أنك ذكيّ وغامض، لكنّك لن تكون أكثر منّي ذكاء!
, التفت "أُوبالس" إلى "حبيبة" التي كانت تقف خلف "يُوسف" وحدّجها بنظراته التي تخلع القلب وقال:
, -أعطني كتاب "أيجيدور"٣ نقطة الآن
, أخرجت "حبيبة" الكتاب من حقيبتها في الحال فالتقطه "يُوسف" ومرره لـ"أُوبالس" فجذبه منه بعنف، ثُمّ ضرب الأرض بعصاه فانفتح درب من دروب أُوبال، التفت لابنته ورماها بنظرة فأدركت ما يرمي إليه، واقتربت وأمسكت بـ"حبيبة" ووضعت خنجرًا على رقبتها، ودفع هو "يُوسف" إلى الدرب وقال له:
, -ادخل هذا الدرب وإلّا قتلناها الآن، أعرف أنّك تُحبّها منذ سنوات
, صُعقت "حبيبة" عندما رأت "لؤلؤة" وهي تهددها بالخنجر، وصعقت أكثر عندما سمعت جملة "أُوبالس" الأخيرة بأنّ "يوسف" يُحبّها منذ سنوات، وظلّت الجملة تتردد في رأسها، فالتفتت تجاه "يُوسف"، ولم تنطق بحرف وتعلّقت بكم معطفه وقالت بكلّ قوّة لتسمعه:
, -لن ترحل وحدك يا "يُوسف"! سأذهب معك.
, تشبثت بكمّ معطفه ودلفا معًا وخلفهما "أُوبالس" وابنته "لؤلؤة" وانغلق الدرب وبقي من بالبستان حائرين، لا يعرفون هل سيرون "يُوسف" و"حبيبة" مرّة أخرى أم لا.
, ٥ العلامة النجمية
, كهف الحبّ
, على الجانب الآخر، خرج "يُوسف" و"حبيبة" من الدرب ليجدا نفسيهما أمام كهف على قمّة جبلٍ عالٍ حيث كان المطر يهطل بغزارة، كان صوت الرياح يخلع القلب، تعرّف "يُوسف" على الكهف في الحال، إنّه "كهف الوحوش" الذي كتب عنه، أمرهما "أُوبالس" بدخول الكهف، فأطاعه "يُوسف" في الحال، كان يخشى على "حبيبة" أكثر مما يخشى على نفسه، جرّه "أُوبالس" من ياقة معطفه للداخل، وكذا فعلت "لؤلؤة" بـ"حبيبة".
, كان هناك قيد واحد فقط معلّق بجدار الكهف، قيّدوهما معًا به، يدها اليمنى مع يده اليسرى، وكذا قدمها اليمنى بقدمه اليسرى، وأغلقوا عليهما الكهف بحجر عظيم حرّكته "لؤلؤة" ببساطة وقد استمدّت قوّتها من ماء المطر المنهمر، فحُجب عنهما الضوء تمامًا إلا بصيصًا من شعاع ضعيف لضوء الشمس كان يتسرب من سقف الكهف، وكأنّه أراد أن يؤنسهما رغم هوانه.
, كانت تلك هي المرّة الأولى التي ينفرد فيها "يُوسف" بـ"حبيبة" وحدهما منذ لقائهما على أرض مملكة البلاغة، وفي مكان هادئ بعيدًا عن البشر، يحفّهما صوت الفراغ الصافي، لن تهرب منه، ولن يهرب منها، ولن يراهما أحد!، شعر بالخفّة والابتهاج، قربها منه هكذا مسافة الصفر أنساه الدنيا وما فيها، ارتجّ كيانه، شعر بدفء ذراعها وهي تلامس ذراعه فنسي كل ما حوله، كان كالمسحور فروحه مقيّدة بـروحها منذ فترة طويلة وهي لا تدري. تذكّر كيف تعلّقت بمعطفه قبل أن يدخلا الدرب، وكيف أصرّت على دخول الدرب معه، لا بدّ أنّها تخشى عليه، راوده شعور بالسعادة رغم الخطر الذي يحيط بهما، هي إذًا تهتم لأمره! تلامست يداهما للحظة فقلّصت أصابعها وانتفضت وكأنّها صعقت، غمغمت في تململ وحرج:
, -سحقًا لـ"أُوبالس"
, قال معتذرًا:
, -اعذريني فالقيد ضيّق للغاية!
, كان يتخبّط، رأسه يضجّ بالأسئلة، هل يخبرها الآن أنّه يحبّها؟ يحبّها بشدّة، يحبّها للأبد، ويعشقها ويذوب فيها، ولا يتخيل للحظة أن تكون لغيره! أما آن له أن يبوح بمكنون قلبه المتعب، أغمض عينيه وراح ينصت لصوت أنفاسها، طار عقله٣ نقطةماذا لو أخبرته الآن أنّها خائفة، سيحضنها ويحميها، سيحبّها٢ نقطةو٣ نقطةودّ لو٣ نقطة
, مرّت فكرة سريعة كشظية مشتعلة في ذهنه، هزّ رأسه ليفيق! ما الذي حدث له؟ كانت تحدّثه، وكان في وادٍ آخر، كان صوتها الرقيق يخترق أذنيه دون أن يميّز ما تقوله، سألها أن تكرر ما قالته، فأعادت سؤالها:
, -هل وجدت مخرجًا لنا؟ أراك شاردًا وترفع رأسك وتخفضها!
, قال محاولًا الانسلاخ من سطوة مشاعره:
, -ليس بعد٢ نقطةلكنني٣ نقطةأفكّر
, دارت بعينيها بارتياب في المكان وسألته:
, -هل كتبت عن هذا الكهف الغريب؟
, حاول لملمة شتات فكره، وتنفّس بعمق ليخفف من خفقان قلبه، وأجابها:
, -نعم، وهو كهف الوحوش*، وهو واحد من أشهر خمسة كهوف في مصر.
, هامش: كهف الوحوش يعد كهف الوحوش من أكثر الكهوف رونقا وإبداعا ويقع هذا الكهف قرب الحدود الجنوبية الغربية بين مصر وليبيا، وتم العثور على هذا الكهف عام 2002، وأطلق عليه هذا الاسم نتيجة للرسومات التي يحتويها، ويضم صورًا تمتد لأكثر من ثمانية آلاف عام، تظهر على جدرانه بصمات محفورة، ويرجح العلماء انتماء تلك البصمات للسحالي على الرغم من تشابهها الشديد لأيدى الأطفال بالإضافة إلى صور أخرى توضح أجسام بشرية راقصة وحيوانات بلا رأس
, -وما قصّته؟
, -يبدو أن "أُوبالس" علم بقصّته من زوجته "مَيسان"، كنت قد كتبت عن هذا الكهف في رواية دروب أُوبال، حيث وصلت "مَيسان" إليه من خلال درب من دروب أُوبال
, قالت هامسة وقد أنزل الرعب بين حنايا فؤادها:
, -يبدو مهيبًا وغامضًا٣ نقطة
, قال وهو يدير بصره في المكان:
, -هل أنتِ خائفة؟
, -لا أخفي عليك٣ نقطةأنا خائفة
, -لا تخافي، فنحن معًا٣ نقطة
,
, ودّ لو أن باستطاعته أن يضمّها ويخبئها في حضنه، ويقبّل عينيها، لكنّه لا يستطيع٣ نقطة
, قالت بثقة:
, -و**** معنا٢ نقطةيقينًا سينجينا٢ نقطةأثق بهذا
, باغتته بصوتها الرّصين وهي تردد كلماتها الأخيرة، أجفل وبدا كما لو أنّه ضُبط وهو بصدد ارتكاب جريمة ما، نفض الأفكار عن رأسه، اخترق اسم الجلالة أذنيه نافذًا لفؤاده، ارتج كيانه، فردع نفسه وجلس يؤنب ذاته على ما مرّ بخواطره، شعرة رفيعة تفصل بين الحلال والحرام الآن، ي****! وكأنّه يسير على حدّ السيف، وهي بالقرب منه، كتفًا بكتف، ويداهما في قيد حديدي واحد!
, تذكّر كلّ تلك العبارات التي رددتها "حبيبة" عن الحب، والتي أخبرته أنّها قرأتها في كتاب "إيكادولي"، كانت تحفظ العبارات العشر، بعض تلك العبارات مرّت على قلبه وغاصت في جراحه غوصًا، وبعضها بدا له صعبًا وهو يرى "حبيبة" أمامه وقلبه يختلج، وبعض العبارات أفاقته من سكرته وغيبوبته وأضاءت دهاليز عقله المظلمة، نعم يحبّها ولكنّه يخاف ****، لا بدّ أن يخرج من ظلمة كهفه هذا قبل أن يتحوّل إلى وحش، إن كان مقيّدًا فلا بدّ من كسر القيد، قيد يده فقط! وأمّا روحه فستبقى أسيرة لديها، ولكن متى؟٣ نقطةمتى؟٢ نقطةمتى ستجول روحه في غرفات قلبها كما تشاء؟، وكيفما تشاء،كما تجول هي في كيانه كمجال النَّفَسِ بين الضلوع، تردد النداء في عقله٤ نقطة(يا "يوسف"٣ نقطةاستعصم!)
, حرّك رأسه نافيًا٣ نقطةلا٢ نقطةلا٣ نقطة لن يمتهن فضيلتها ولن يسترذل الحبّ! وحتى وروحه عاشقة تتعذّب وتتلظّى فوق نار العشق في كهف يملؤه الحبّ.
, شعر في تلك اللحظة أنّه يُحبّ ****، يُحبّه بشده، ناجاه من سويداء قلبه أن ينجيهما مما هما فيه، وأن يرزقه إيّاها حلالًا طيبًا مباركًا، انتشلته "حبيبة" من دوامة الخواطر التي كانت تعصف بذهنه عندما قالت ساخرة مما ألمّ بهما:
, -هل كتبت عن الثعابين والعقارب في رواياتك يا "يُوسف"؟ سنموت هنا حتمًا، لا بدّ أن هناك الكثير من الثعابين تختبئ في تلك الشقوق هنا وهناك!
, قال بعفوية:
, -كتبت عن السحالي!
, انتفضت مذعورة وسألته:
, -أنت تمزح! أليس كذلك؟
, -لا أمزح، ألم تلاحظي النقوش على الجدران؟
, قالت وقد اتسعت عيناها على آخرهما:
, -عندما دلفنا لاحظت بعض الرّسوم، أمّا الآن وبعد إغلاق فتحة الكهف وتلك الظلمة التي تُحيطنا٢ نقطةلا أتبيّنها
, -تلك نقوش وبصمات محفورة
, ازدردت ريقها وقالت:
, -حسنًا، رأيت كفوف ***** صغيرة!
, هزّ رأسه نافيًا وقال بثقة:
, - علماء الآثار أكّدوا أنّها ليست لكفوف *****، فالأصابع صغيرة وطويلة جدًا بشكل ملحوظ، وربّما هي ترجع لسحالي صحراويّة، أو ربّما أقدام تماسيح صغيرة
, صُعقت "حبيبة"، اقشعرّ بدنها وصاحت:
, -يا إلهي! تماسيح! ماذا سنفعل؟
, مالت إلى الخلف فبدا لها سقف الكهف يدور كالدّوّامة، بدأ الخوف يتسرّب إليها، فابتسم وقال ليطمئنها:
, -لا تقلقي، كان هذا قديمًا منذ ثمانية آلاف عام، أمّا الآن فنحن في أكبر المناطق الصحراوية الجافّة بمصر والعالم، تلك المستوطنات اختفت تمامًا بعد توقف هطول الأمطار، اختلفت البيئة، ومرّت سنون طويلة، طويلة جدًا
, -وما أدراني أنّك لم تكتبها في تلك الفترة، منذ ثمانية آلاف عام! وأنّ السحالي والتماسيح لن تخرج لنا الآن!
, لمعت عيناه وابتسم قائلًا:
, -على العموم هناك احتمال ضعيف أنّها ترجع لمخلوقات متوحشّة، ولهذا سمي الكهف كهف الوحوش
, أغمضت "حبيبة" عينيها وهمست:
, -سامحك ****، يا لك من كاتب!
, اتسعت ابتسامته وقال بلطف:
, -كان هذا الكهف سجنًا لرحّالة شجاع، غدر به رفاقه بعد عثورهم على كنز، فسجنوه هنا، نجا بأعجوبة بعد أن عثرت "مَيسان" عليه وحررته من قيده، واكتشفا معًا تلك الرسوم التي على الجدران هنا، حاولا ترجمتها، وبدأت مغامرتهما في رحاب صحراء مصر، وبينما هما في طريقهما عثرا على جثث رفاقه تباعًا، اختلفوا على تقسيم الكنز، وغدروا ببعضهم البعض، وتقاتلوا، ولفظوا أنفاسهم الأخيرة بجوار الكنز، عاد الرّحالة به لقومه، وكان شابًا ذكيًا ومحبوبًا وله مريدوه، وها نحن هنا ويدانا مسلسلة في نفس القيد!
, قالت بصوت يشوبه الارتياب:
, -كهف مخيف!
, قال وقد رآه أجمل بقعة في الوجود لأنّه يجلس بقربها فيه ويتحدّث إليها:
, -بل أراه كهفًا لطيفًا ودافئًا
, كان البرد ينخر عظامها، تعجبّت من وصفه للكهف بالدفء!، قلبت شفتيها وسألته بحيرة:
, -كيف سنخرج من هنا؟
, لم يجبها، ظلّ سؤالها الأخير معلّقًا في الهواء، عاد لصراع نفسه، سكنَ كشجرة عتيقة، بينما قلبه يغلي كالبركان، حتى أنّها أجفلت من صمته المطبق، قالت وقد بدأت تشعر بالبرد:
, -أين هذا الدفء٢ علامة التعجب أنت تكتب كثيرًا عن المطرّ، أغرقتنا يا "يُوسف"! رواياتك طقسها شديد البرودة
, ظلّ صامتًا على حاله، فتوقفت "حبيبة" عن الكلام وطأطأت رأسها، ما زال ما قاله "أُوبالس" يُربكها، "يُوسف" يُحبّها!، لماذا لم يخبرها؟، "أُوبالس" قال إنّه يُحبّها منذ سنوات، وهذا يعني أنّه يُكن لها المشاعر منذ أن رآها مع شقيقها، يبدو أنّ ما كانت تراه منه خلال الأيّام الماضية من علامات الحبّ، ولكنّ حبسهما في هذا الكهف قطع عليها لحظات التأمل تلك، ما فائدة الحبّ الآن وهما مقيّدان في كهف وسيموتان ربّما هنا!، بدأ اليأس يتسرّب لنفسها، قال "يُوسف" بعد أن لاحظ اضطرابها من سكونه:
, -لا أذكر أيّ عملٍ صالحٍ فعلته أستطيع أن أتوسل إلى **** به لتنكشف عنّا تلك الغُمّة، لكنني أطمع أن ينجينا **** من هذا الكرب وإنّ لم نستحق!
, قالت "حبيبة" بثقة:
, -ومن منّا يستحق! كل ألطاف **** بالخلقِ من فضله، كن على يقين أنّ **** سينجينا
, -أغبطُك
, -على ماذا؟
, -على هذا الرصيد من اليقين الذي تحملينه في قلبك يا آنسة "حبيبة"
, ران عليهما الصمت للحظات، سألته على استحياء:
, -لماذا تناديني بـ"آنسة"؟
, قال متلعثمًا:
, -ثَقل عليّ أن أناديك باسمك مجرّدًا
, -لماذا؟
, -سأخبرك يومًا ما٣ نقطة
, أصابتها إجابته بالحيرة، أطبق عليهما الصمت، وأبحر كلّ منهما في خواطره، ثُمّ لمعت عيناه وهو يسألها:
, -أليست هذه رواياتي البائسة؟
, -بلى٢ نقطةهي رواياتك!
, أغمض عينيه وسألها:
, -أين كتاب "أيجيدور" الأصلي؟
, قالت بذهول:
, -وكيف عرفت أنّ الكتاب الذي معهم ليس هو كتاب "أيجيدور" الأصلي؟
, -شعرت به
, -كيف٢ علامة التعجب
, -عندما رأيت الكتاب لأوّل مرّة ونحن بالبستان، شعرت بأنفاس خلف رقبتي، وكأنّ هناك شبحًا يقف خلفي، أدركت وقتها صحّة كلامك أنّ تلك الكُتب حيّة، ظننتك تشعرين به أنت أيضًا، وخاصّة وأنك تحملينه دائمًا، وعندما سلمت "أُوبالس" الكتاب بكلّ بساطة تعجّبت من سهولة تنازلك عنه وهذا لم أعهده منك منذ التقيت بك، وأيضًا لم يراودني نفس الشعور عندما التقطته منك لأمرره له، ووجدت الكتاب باردًا كالثلج، وقع في نفسي أنّك أبدلتيه بكتاب آخر من كُتب "رفيف"
, -لماذا لم تخبرني أنّك شعرت بروح الكتاب؟ عمومًا٢ نقطةأنا لم أخف من الجنّ! فهل سأخاف من كتابي؟
, ثُمّ قالت "حبيبة" بعصبية:
, -أغمض عينيك وأدِر رأسك تجاه الحائط حتى أتمكن من إخراجه من تحت قميصي فأنا ألفّه بحزام على جسدي
, أدار "يوسف" رأسه وأغمض عينيه فأسرعت تسحب الكتاب بيدها التي لم تقيّد، كانت تربط الكتاب على جسدها وتخفيه بهذا الشال الخردليّ اللون الذي أصبحت ترتديه دائمًا منذ فترة، وكان "يوسف" يتعجّب من ارتدائها له على الدوام! أدرك الآن السبب، كانت تخفي معالم الكتاب، قالت وهي تضع الكتاب على الأرض أمامه:
, -الآن افتح عينيك، ها هو كتاب "أيجيدور"
, فتح عينيه وطالعها بنظرةٍ واثقة وقال:
, -سأكتب
, فغرت فاها وقالت:
, -في الكتاب٢ علامة التعجب
, -نعم، طالما تلك رواياتي، لا بدّ أن أكتب، لم ألجأ لقلمي منذ وصلت، رغمّ أنّ هذا هو سلاحي ووسيلتي الوحيدة للتعبير عن أفكاري، وكلّ ما هنا من وحي أفكاري، سأحارب بالكلمات
, -لا تحاول، تلك الكتب تبتلع ما يُكتب عليها ولا تسمح لأحد بنقش حرفٍ عليها، هي فقط تحرر الحروف التي كتبها الأمير أواوا قديمًا، لا تنس أنّ هذا الكتاب في الأصل كتابه، سمعت فقط أنّ الكتابة بالدماء قد تنجح، أخبرني أخي "أنس" أنّ هناك أميرة حاولت الكتابة بدماء صديق له يسمى "كلودة"
, -أليست الكتب حيّة وتشعر بنا؟
, -بلى
, -إذن هي تعرف بسقوط مملكة البلاغة، وتعلم يقينًا أنّ استرداد كتابك هو بداية عودة السلطان للكتب هنا على أرض المملكة
, -لا ريب أنّ الكتب تعرف كلّ هذا
, -إذن سيسمح لي كتاب "أيجيدور" بالكتابة، لأنهي الأمر بطريقة ما
, قالت بعد تردد:
, -فلنحاول٣ نقطةليس أمامنا إلّا هذا
, صدر صوت خرفشاتٍ غريبة من كتاب "أيجيدور"، بدأ يهتزّ أمامهما، ارتفع ببطء في الهواء أمام عينيهما، بدأت صفحاته تتقلّب بسرعة وكأنّ هناك يدًا خفية تعبث بها، توقفت الصفحات فجأة وبقي الكتاب مفتوحًا أمامهما وانبثق من وسطه ضوء رجراج شديد التوهّج سريعًا ما انزوى في زاوية الكتاب، ينقش حروفًا لكلمة واحدة على الصفحة٣ نقطة"أيجيدور"، شعر "يوسف" بقشعريرة وارتجفت يداه، وكأن الكتاب يستغيث به لينقذه، الآن أدرك أنّ الكتابة هي الحلّ، وأنّ كتاب "أيجيدور" سيسمح له بالكتابة على صفحاته.
, بدأ يبحث في الأحجار المنثورة على أرضية الكهف بجواره مهتديًا بشعاع الضوء الضعيف الذي يتسرب من الشقّ الذي في سقف الكهف، نجحت "حبيبة" في العثور على حجر أسود بجوارها جرّبته على ظهر كفّها فترك أثرًا عليه، أسرعت تناوله لـ"يوسف" الذي التقطه من بين أصابعها وجلس وفتح صفحة خالية من صفحات كتاب "أيجيدور" وكتب فيها:
, "تسرّب شعاع مترجرج من سقف الكهف، بدأ يزداد قوّة ووضوحًا وانزلق على الأرض أمامهما، ومال شيئًا فشيئًا حتى تعامد على رأسيهما، رفعت عينيها تجاهه، فانعكس عليهما الضوء وكأنّهما عينا هرّ تلمع في الظلام، وانساب مفترشًا الأرض حولهما فلمعت الأحجار وظهرت ألوان عديدة متشابكة ومتداخلة وتراقصت أطيافها على الجدران، وغمرهما النور."
, رفع "يوسف" يده عن الكتاب، فبدأ شعاع الضوء الضعيف في سقف الكهف يزداد قوّة ووضوحًا، انزلق على الأرض أمامهما ومال وزحف حتى تعامد على رأسيهما، فابتسم "يوسف"، ورفعت "حبيبة" رأسها تجاه الشعاع، فحدث ما كتبه منذ لحظات، وانعكس الضوء على عينيها، وظهرت ألوان بديعة وتراقصت أطيافها على الجدران، وغمرهما النور، عاد يكتب بسرعة:
, "كسر "يوسف" قيده ثُم حررها من قيدها"
, انتظرا معًا فلم يحدث شيء! واختفت الجملة الأخيرة من السطور، تلاشت وكأنّها لم تكتب! بدأ "يوسف" يدمدم، غمر جبينه عرق غزيز، تسارعت دقّات قلبه، قالت "حبيبة" بهدوء:
, -اهدأ يا "يوسف"، ربّما لأنّك الكاتب
, -ماذا تقصدين؟
, -الكاتب يمنح الشخوص ميزات، ويمنح القراء سعادات، لكنّه لا يملك تلك الميزات، ولا يسعد كتلك السعادة التي يحسّها القراء بطريقة مباشرة، أنتم تَسعدون من خلالنا نحن القراء، وترون في أعيننا النشوة عندما نغرق في الخيال الذي تكتبونه، حقق ما ترمي إليه من خلال الشخوص، أو من خلالي
, اغتصب ابتسامة شاحبة وغمغم:
, -حسنًا سأكتب عنك أنتِ، أيتها الـ٤ نقطةالمحاربة!
, -وأنا سأعيش ما تكتبه، وقد تراني في مواقع لا تناسب قدراتي الواقعية، وربّما أسقط، لكن لا تقلق سأنهض سريعًا إن شاء ****، وسأظلّ "حبيبة"
, قال بصوت يشوبه الرّجاء:
, -كوني كما أنتِ٣ نقطةأرجوكِ
, -وتوقف أنت عمّا تفعله دومًا وأنت تكتب!
, -وما هو؟
, -في أوج لحظات الألم، تلوم نفسك لأنّك كتبتها، فتهرب من رواياتك ولا تُكملها، أنت إنساني أكثر من اللازم، تتعاطف مع شخوص رواياتك
, رنا إليها طويلًا، كان "يُوسف" في تلك اللحظة يُشبه الكتاب المفتوح أمام عينيها، لقد قرأت ما يجول بنفسه وعقله وجوارحه دون أن يفطن إليه هو! مسح صفحة الكتاب بكفّه وكأنّه يحنو عليه كطفلٍ صغير، ثُمّ قال:
, -ألم تخبريني أنّ "أنس" كان لديه مميزات، وكذلك "مَرام"، كانا يحلّقان كالصقور، وكانت "مَرام" تقرأ الأفكار
, -بلى أخبرتك
, -حسنًا، دعيني أمنحك شيئًا ما٣ نقطة
, وعاد يكتب:
, "ضربت المحاربة بقبضتها اليسرى على القيد في معصمها الأيمن فتحطم القيد وتحررت منه، ثُمّ ضربت على قيد قدمها فتحطم هو الآخر."
, فعلت "حبيبة" ما كتبه "يوسف" على صفحة كتاب "أيجيدور" وضربت بقبضتها على قيد يدها فتحطّم، وضربت على قيد قدمها فتحطّم هو الآخر، ووثبت من جواره، ثُم وقفت أمامه وعلى وجهها ابتسامة واسعة، وقالت مبتهجة:
, -اكتب الآن، ضربت المحاربة على قيد يوسف" فتحطّم
, كتبها "يوسف" كما أملتها عليه، لكنها لم تتحقق، راوده اليأس مرّة أخرى، وشعر بضيق، كانت تحدّثه وتملي عليه جملًا عديدة ومختلفة فأشار إليها لتصمت، وعندما لاحظت انزعاجه الشديد استجابت لإشارته وجلست قبالته صامته، أغمض عينيه هنيهة ثُمّ قال:
, -يبدو أنّه لن ينجح الأمر لو أمليت عليّ ما أكتبه، اتركيني أكتب يا آنسة "حبيبة"
, ثُمّ عاد يكتب:
, "ضربت المحاربة على قيود الأسير فتحطّمت، حررته من أوّل قيوده، أطلقت يديه وبقي قلبه مقيّدًا بأغلال لم ترها بعينيها اللوزيتين، لكنّه كان يشعر بها تمزّق ضلوعه"
, مدّ "يوسف" يده تجاهها فضربت على قيده فتحطّم، وكذا قيد قدمه اليسرى، ووقف ينفض التراب عن ملابسه والتقط الكتاب والحجر الأسود الذي كان يكتب به، سألته "حبيبة" متعجبّة مما كتبه:
, -لماذا وصفت نفسك بالأسير!
, -أولست أسيرًا لشخوص رواياتي!
, ازدحم صدره بمشاعر شتّى، شعر بعاصفة تجتاح عقله، لديه الكثير من الأفكار، كان يغمض عينيه ثُمّ يفتحهما وهو يقرض شفتيه، وظلّت "حبيبة" تراقبه في صمت، وتنتظر٢ نقطةبدأت تُحبّ هذا الكهف! وكانت مشاعرها تتعملق سريعًا، وكانت بكر الأحاسيس، ظنّت أنّها لن تقع في الحبّ أبدًا، وأنّها لا تحتاجه، لكنّها الآن ترزح تحت فطرتها، بدأ قلبها ينبض بحبّ "يُوسف"،كانت تقف أمامه كما وكأنّها عروس من عرائس الماريونيت، هو فقط يستطيع تحريكها بالخيوط المعلّقة بأطراف أنامله عندما ينقش الكلمات ويرسم الجمل.
, طال شرود "حبيبة" حتى راود "يُوسف" الخوف للحظة أن تكون قد تحوّلت لشخصية من خياله وليست "حبيبة" الحقيقية التي كان يراها في عالمه، ويحبّها في صمت من بعيد، قال بصوت يشوبه القلق:
, -ما بك يا آنسة "حبيبة"؟
, قالت بخفوت:
, -لا شيء٢ نقطةأنا بخير، فقط أترقب ما سيحدث، أنتظر أن تكتب شيئًا لأفعله!
, -لا تقلقي سنخوض القادم معًا بإذن **** ولن نفترق
, أومأت برأسها موافقةً لكلامه، وكان الضوء ما زال يغمر المكان، وعيناها الرائعتان تبرقان أمام عينيه، لكنّها تبدو متعبة!
, كانت تلك هي المرّة الأولى التي يراها فيها خائرة القوى، نظراتها بدأت تنطفئ تدريجيًا، هناك ضعف يلوح في عينيها، لم يكن يعلم أنّ سهم الحبّ قد أصاب قلبها، تنفّس بعمق ثُمّ قال:
, -أنت تشبهين حجر "أوبال" يا آنسة "حبيبة"، عندما ينعكس عليه شعاع الضوء الأبيض النقيّ الذي يختبئ فيه ألف لون وألف درجة لكنّه يبقى أبيضَ في أعيننا وحيث لا نعرف عن تلك الألوان ولا نراها إلا عندما يسقط المطر وينكسر الشعاع! تملكين كلّ الألوان في داخلك، تحملين الكثير من السلام الداخليّ في قلبك، والعجيب أنّ ليس لديك طبع مظلم يتغلب على نقيضه، لديك بعض التواضع وبعض الغرور، لكن غرورك لم يغلب تواضعك، لديك بعض القوّة وبعض الضعف، لكنّ ضعفك لم يغلب قوّتك، لديك بعض المرح وبعض الحزن، لكنّ حزنك لم يغلب مرحك، في الحقيقة، كنت أخشى قوّتك، ظننتك قاسية القلب٣ نقطةلمجرّد أنّك قوية الشخصية! أنت محاربة هنا لتدافعي عن اليقين، فقلبك ممتلئ به، ذاك الذي ينقذنا عندما نسقط، وعندما نيأس، وعندما نفشل، وعندما نحزن، وعندما نفقد من أحببناهم للأبد، وعندما نُحرم من نعمة فنتألّم، عندما نبتلى ولا ندري لماذا، ثقتك الدائمة بأقدار **** منحتنا جميعًا القوّة لنكمل الطريق، لديك قلب أثمن من كل الأحجار الكريمة.
, رمشت بعينيها، وخفق قلبها بين الحنايا خفقات، واكتسى وجهها بحمرة الخجل، تلذذت باللحظة، فقد راق مزاجها بكلماته، تلاقت نظراتهما لبرهة، وشعر كلّ منهما بالحرج من الآخر، جاشت الطمأنينة بصدرها، كانت كلماته كطوق نجاة لها فتشبثت بها، وكانت في حاجة للثبات، اطمأنت وسكنت هنيهة وترنّحت أعطافها في سعادة، لكن في ذات الوقت دقّ قلبها خوفًا وقلقًا، فالمكوث طويلًا على مقربة منه صار يربكها، ازداد رجيف قلبها، الآن أضعفها الحبّ، وهي التي لم يدقّ قلبها لأحد من قبل! والآن تخشى أن تغضب ربّها، تمتمت بالدعاء أن يلطف **** بها فيما تبقى من رحلتها على أرض مملكة البلاغة مع "يُوسف"، تمنت لو انتهت هذا الرحلة سريعًا، وفي ذات الوقت كانت ترجو أن تطول معه، استمر شرودها بينما عاد "يُوسف" للكتابة:
, "اقتربت المحاربة من الحجر العظيم الذي يسد بوابة الكهف، كانت تعلم أنّ القوة الحقيقية تنبع من داخلها وتحتاج فقط إلى إرادة وثبات، وكانت تملك من الإرادة ما يمكنها من دفع حجر عظيم وتحريكه لتتحرر، أغمضت عينيها ودفعت الحجر بكل ما أوتيت من قوّة، فتحرّك بسهولة كما وكأنه يجري على الماء"
, قرأت "حبيبة" ما كتبه أمامها ودفعت الحجر كما كتب تمامًا وخرجا من الكهفِ معًا، اقشعرّ بدنها عندما رأت ندف الثلج تسقط عليهما، حُجب ضوء الشمس عنهما ووقفا بملابسهما المبتلّة يرتجفان، قالت وهي تفرك كفّيها لتستمدّ منهما الدفء:
, -حسنًا، ها قد خرجنا ولكننا نحتاج إلى الدعم
, -لا أثق الآن إلّا في "موراي"، و"عبيدة"
, - اكتب عنهما لعلنا نلتقي بهما
, تلفتا حولهما وكانت الأبخرة تتصاعد من فميهما كلّما تحدّثا، لن يتحملا هذا الطقس، لا بدّ أن يتحرّكا، قال قبل أن يشرع في الكتابة مرّة أخرى:
, -قبل أن أكتب عنهما، دعيني أمنحك شيئًا مميزًا
, -لعلّك ستمنحني سيفًا بدلًا من الخنجر!
, رنا إليها وقال بثقة:
, -لا٣ نقطةسيكون شيئًا أكثر تميّزًا
, عاد "يُوسف" للكتابة، شعرت "حبيبة" بيدها تهتزّ، ثُمّ سقط شيء بارد كالثلج في كفّها، ظهر قلم غريب الشكل، كان القلم شفافًا يحتوي على أنبوب ممتلئ بماء أزرق يشبه ماء البحر!، كان هناك قارب صغير جدًا يطفو على سطح الماء بداخل القلم، انتفضت "حبيبة" في فزعٍ، قال "يُوسف" وهو يتأمّل القلم بعينينه اللامعتين:
, -لو حدث وافترقنا، هذا القلم سيكتب لك في الهواء ما أودّ أن أُخبرك به
, -لكنّه لا يحتوي على حبر، إنّما هو ماء فقط!
, -لا تقلقي، واتركي الأمر لي، السرّ في ماء البحر، سنمخر معًا عباب بحر أفكارنا المتشابكة٢ نقطةأمّا القلم، سأمليه وسيكتب، فحافظي عليه يا آنسة "حبيبة"
, قبضت "حبيبة" على القلم وقالت:
, -حسنًا٢ نقطةسأفعل، لكننا لن نفترق! أليس كذلك؟
, جال بعينيه في المكان وقال وقلبه يرجف:
, -لن نفترق إن شاء ****
, قالت وهي تدسّ القلم في حقيبتها:
, -اصنع لنفسك قلمًا مميزًا تكتب به على صفحات "أيجيدور"
, -لا٣ نقطةيُعجبني هذا الحجر٢ نقطةأشعر أنّه مميّز!، وكأنه ينبض بين أصابعي
, ثُمّ رفع حاجبيه وقال:
, -أودّ أن أمنحك بعض الأسلحة
, -ماذا٢ علامة التعجب
, -ألم تخبريني أنّ جدّك ووالدك و"أنس" كان لديهم خنجر، وبلورات مضيئة، وقلادة؟
, -بلى أخبرتك! لكنّ جدي عثر عليها خلال رحلته، وكانت "الحوراء" تعينه أحيانًا بطريقة ما، فلديها القدرة على سماع صوت المحاربين، الرياح تحمل لها أصواتهم
, توقفت "حبيبة" عن الكلام فجأة، انتبهت الآن فقط لتلك الحقيقة التي غفلت عنها، وقالت:
, -"الحوراء" تسمعني الآن٢ نقطةوتعلم أنني أبحث عنهم، ليتها ترسل لي علامة، أو إشارة، أو أي شيء٣ نقطة
, عاد "يُوسف" للكتابة، أراد أن يمنحها القدرة على سماع "الحوراء" كما تستطيع هي سماعها وكلّ المحاربين، هبّت رياح خفيفة، سمعت "حبيبة" وشوشات وهسهسات، وكأنّ هناك من يهمس في أذنيها، كانت هناك كلمة واحدة تتردد:
, "الكرة٣ نقطةالكرة"
, قالت باندهاش:
, -هل سمعت هذا الصوت؟
, -لا
, -هناك من يهمس لي بتلك الكلمة٢ نقطةالكرة!
, مدّت يدها في حقيبتها القماشية وأخرجت الكُرة البلورية، رفعتها بيدها أمام عينيها، لا جديد!، قال "يُوسف" وهو يحملق فيها معها:
, -هل رأيت وجه المرأة مرّة أخرى
, -لا
, أمسكها بيده ثُمّ قال:
, -لا بدّ أنّها "مَيسان"، كنت أشعر طوال الوقت أنّها هي القطّة البيضاء، نظرات "لؤلؤة" إليها كانت تفضحها، كانت تنظر إلى عينيها كما٣ نقطةكُنت أنظر لأمّي
, -من حوّلها إلى قطّة؟
, -لا أظنّه "أُوبالس"، ولكنني٣ نقطة
, -ماذا؟
, -أشعر أنّ هناك من يحاول حمايتها من زوجها وبناته، حوّلها إلى قطّة، ثُمّ حبسها في كرة زجاجية لا قيمة لها ليبعدها عن بطش زوجها الذي حالف الشيطان ويودّ الآن قتلها
, -لعلّها "زمرّد"
, التفت "يُوسف" نحو "حبيبة" عندما ذكرت اسم "زمرّد" وقال بجدّية شديدة:
, -احذري منها ولا تتحدثي معها من خلال تلك المرآة، ربّما تعرّضين نفسك للخطر
, -لم أحدثها إلّا مرّة واحدة، ولن أكررها
, -حسنًا ماذا سنفعل بتلك الكرة؟
, -اكتب عنها
, رفع "يُوسف" الكرة مرّة أخرى في الهواء وحملق فيها وقال بشغف:
, -سأفعل
, أعطى الكرة لـ"حبيبة" وعاد يكتب على صفحات كتاب "أيجيدور":
, "النفس كالضوء، قد ينكسر ويتبعثر إلى ألوانه السبعة، لكنّ قطعة من الزجاج تكفي لجمعه في لحظة، تحبسه، وتحميه، حتى تُطلق سراحه عندما يحين الوقت المناسب، وقبل فوات الأوان٣ نقطةوهكذا الابتلاء يجمع شتات أرواحنا، يحبسها ليرقّ القلب، يحميها من الزلات، حتى يطلق سراحها فتسبح في ملكوت الله٣ نقطة تدحرجت الكرة من يد المحاربة، وانبثق ضوء حان منها وترجرج في الهواء، وظهرت صاحبة النداء"
, فور أن أنهى "يُوسف" كتابة الجملة الأخيرة، انزلقت الكرة من بين يدي "حبيبة" وتدحرجت وسكنت قريبًا منهما بجوار صخرة من صخور الجبل، وانبثق منها ضوء حانٍ وترجرج في الهواء، وظهرت "مَيسان" بوجهها الذي يحمل أمجاد جمال يعافر ليبقى، كانت تجلس على الأرض متكوّرة وهي ترتجف، فقد فقدت ملابسها عندما تحوّل "المسوّم" من خيل لإنسان، بينما تحوّلت هي إلى قطّة بيضاء تركض هنا وهناك، فخلع "يُوسف معطفه وألقاه عليها في الحال، اعتدلت واقفة وارتدته وغلّقت أزراره وقالت بصوت مرتعش:
, -شكرًا لله الذي وهبك البيان، كيف أنت أيّها الشاب الطّيب؟
, قال بتوتّر:
, -هل أنتِ "ميسان"؟
, نظرت إليه بامتنان وقالت:
, -نعم أنا يا سيّدي، أنا تلك التي أعطيتها حجرًا وصندوقًا والكثير من السعادات
, -لا تناديني بسيدي
, رنت إليه بنظراتها الحانية وقالت:
, -سيظلّ كلّ من هنا يناديك بها يا سيّد الكلمات
, غضّن حاجبيه وقال بتأثّر:
, -أين السعادات وزوجك يؤذيك ويطاردك؟
, ظهرت علامات الألم على وجهها ثُمّ طالعته بنظرات دافئة وهي تقول له:
, -في كلّ عونٍ قدَّمتُه لمن التقيتُ بهم في الدروب رُزقت سعادة، وفي كلّ حزنٍ أزلتهُ عن بعضهم رُزقتُ سعادة، حتى عندما طردني "أُوبالس" وسَلبني "لؤلؤة" رُزقتُ سعادة في معيّة ****، جفّت دموعي يا "يُوسف"، فرغ مَعيني من البكاء، افتقدتُ سعادتي فيهم فوجدتها في عزلتي في حياة الهررة، وخلف هذا الزجاج، عندما تخلّيت رغم أنفي عن كلّ ملذات الحياة، حتى الأُمومة حُرمتها رغم إنجابي للبنات! أيّها الكاتب٢ نقطةأنا لا أعيش الآن من أجلهم، بل أعيش لله!
, هزّ رأسه تأثّرًا ثمّ سألها بفضول:
, -من حوّلك إلى قطّة بيضاء؟
, -حدث هذا فور أن دلفت الدرب مع "المُسوّم"، ولعلّها من رحمات ****
, في تلك اللحظة اهتزّت المرآة في حقيبة "حبيبة"، كانت "زمرّد" والتي ظهر وجهها وهو يحمل خوفًا وقلقًا شديدًا، قالت فور أن رأت "حبيبة" أمام عينيها:
, -"حبيبة"، الأميرة الآن هنا في سجن المدينة وتصرخ، يبدو أنّها ستلد اليوم، هل ستتركون هذا الطفل لأبي ليذبحه!
, أقبلت "مَيسان" وقد تعرّفت على صوت ابنتها "زمرّد" وأمسكت بالمرآة وطالعت وجه ابنتها، دمعت عيناها بينما انخرطت "زمرّد" في بكاء بنشيج مسموع، قالت أمّها لها بحزم شديد:
, -اخفضي صوتك حتى لا تؤذيك شقيقاتك
, قالت بتلهف:
, -أخرجيني من هنا يا أُمّي، أحتاج عونك ودعمك، فأنا وحدي أمامهن
, -سأفعل حبيبتي، لا تقلقي، المهم٢ نقطةخذي حذرك من "ياقوت"، وبالمناسبة، كان لطيفًا أن تحوّليني لقطّة ولكن لا تفعليها مرّة أخرى
, اختفت صورة "زُمرّد" وهي تبتسم، احتضنت "مَيسان" المرآة ثُمّ قالت وهي تنقل عينيها بين وجه "يُوسف" ووجه "حبيبة":
, - لا بدّ أن نُسرع، قبل أن تلد"هيدرانجيا"، وقبل أن يلحقوا بوليدها الأذى، ما زلنا الأقوى طالما معنا الكتاب، كُنت أسمعكما طوال الوقت، حمدًا لله أنّك بدأت تكتب فيه، لم أشكّ للحظة في ذكائك، عرفت هذا عنك عندما كُنت بالمكتبة العظمي، أنت شاب رائع يا "يُوسف" حاول أن تترك حزنك على الطريق، اخلعه أحيانًا كما تخلع عنك معطفك، واستمتع بالحياة.
, كانت "مَيسان" تقرؤه ككتاب مفتوح أمام عينيها، قالت بحزم وهي تعدّل معطفه الذي كانت تغرق فيه وتحاول لملمة أكمامه لتظهر كفّيها:
, -لنذهب إلى "ديرينكويو"
, سألتها "حبيبة":
, -هل تعرفين مكانها؟ ومكان حرّاس المكتبة العظمى وملوك مملكة البلاغة وأمرائها؟
, نظرت إليها، ثُمّ قالت وهي تمسح خدّها بحنان:
, -وكيف لا يحبّك!
, شعرت "حبيبة" بالحرج، حتى "مَيسان" تعرف أنّه يُحبّها، يبدو أنّها آخر من يعلم! أردفت "مًيسان" قائلة:
, -تحت كلّ بيت في قرية الدحنون زنزانة عميقة، وجميعهم مفرّقون هناك، أمّا "هيدرانجيا"، فهي داخل مدينة "ديرينكويو" يحرسها بعض من الإنس، والكثير من الجنّ
, قال"يُوسف":
, -حسنًا، سأكتب الآن، لننتقل إلى البستان أوّلًا، ثُم إلى مدينة "ديرينكويو"
, عاد يكتب، ويكتب، ومن كلمة لأخرى، ومن جملة لما بعدها، ومن صفحة للتي تليها، حتى تحقق ما يكتبه تباعًا، ووصلا إلى البستان حيث كان "كِرشاب" بجنوده يقف مع "عُبيدة" و"مُوراي" و"الحزاورة"، وقد أقبلت "جلاديولس" بحرّاس قلعتها وكانوا قد اجتمعوا يخططون لاقتحام مدينة "ديرينكويو" والبحث عنه هو و"حبيبة"، استبشروا برؤيتهم، وسعدوا برؤية "مَيسان"، التفّ حولها "الحزاورة"، وظلّت "مِسكة" تحدّق في ملامحها لفترة طويلة! يبدو أنّها تهابها أو تستغربها! دلفت "حبيبة" لبيت "بركات" وأحضرت لها ثيابًا تخصّ ابنتها "لؤلؤة"، فور أن أمسكتها دمعت عيناها وقرّبتها لأنفها وأقبلت تلثمها وتشمّها، كانت تتمزّق بين أمومتها وبين حربها على الشيطان "أُوبالس"، فالحرب بينها وبين زوج كان يظهر خلاف ما يبطنه لها، وكانت ثمرة زواجهما خمس فتيات استغلّهن الآن في حربه معها، وكانت تشتاق لهن، بدلت ملابسها وأسرعت بالمعطف وألبسته لـ"يُوسف" بنفسها قائلة:
, -أنت من عمر ابنتي "ياقوت" تماما يا "يُوسف"، امض يا بنيّ، أكمل ما بدأته، ونحن جميعًا معك، حتى تضع النهايات وتغلق الدروب للأبد
, ارتدى "يُوسف" معطفه ووقف يتأمّل وجوههم، نقل عينيه بينهم واحدًا تلو الآخر لكلّ منهم ألم، فراق، موت حبيب، ضياع وعذاب، إنّهم يستحقّون الآن السعادة، ولا بد أن يساعدهم، شعر بعظم المسئولية، توقفت عيناه عند آخر وجه وكان قريبًا منه، كان وجه "حبيبة"، والتي هزّت رأسها بثقة وهي تناوله كتاب "أيجيدور" بينما تقول:
, -أنقذهم يا "يُوسف"
, كان يحتاج لتلك النظرة، نظرة اليقين التي لا تغادر عيني "حبيبة"، أمسك الكتاب بوجل، قالت "مَيسان":
, -كلّ منهم يناديك٣ نقطة"أيجيدور" كما رددها قديمًا الأمير "أواوا" في كتابه!
, التفت "يوسف" وسار خارجًا من البستان، ليكمل رسالته.
, كان لا بدّ من الإسراع إلى هناك، انضمّ إليهم "المجاهيم"، وساروا في موكب عظيم نحو قرية "الدحنون"، احتشدت القرية عن بكرة أبيها على الحدود، فزع الجميع، سرى نبأ وصول الموكب كالنار في الهشيم، وقفوا أمامهم على الحدود بأسلحتهم، كان سكّان القرية يُساعدون ساحرات"أُوبالس"، وكلّ بيت منهم يحرس تحته سجنًا تُعذّب فيه نفسٌ بريئة، تذكّرت "حبيبة" كلمات "أُوبالس" التي قالها لها فور دخولهم القرية عندما كانت تعرفه باسمه القديم، وكانت الكلمات لـ"يُوسف"، فجرت على لسان هذا الكهل المخادع فكان صادقًا وهو كذوب عندما قال عن أهل قرية "الدحنون":
, "الزينة الجميلة قد تخفي قبحًا عظيمًا، هم الآن أمام عينيك قشور يا ابنتي، وخلف تلك القشور جوهر لن تعرفيه إلّا بعد الاختلاط به، يتصنّعون، يلبسون أقنعة نظيفة، وخلف تلك الأقنعة قد تكون هناك عقول قذرة"
, بدأ سكان قرية "الدحنون" يضربون الأرض بأقدامهم، كانوا يحمّسون بعضهم البعض بهمهمات مخيفة., خارج القائمة
 
١


دروب أُوبال
, كان المطر يهطل بغزارة، الماء الطاهر يغسل كلّ شيء؛ ظهور الخيول الصهباء، وقمم الجبال البيضاء، والصخور الملساء، وشاطئ البحر اللازورديّ القريب، وجذوع الأشجار، وسعف النخيل الأخضر، وأسقف البيوت، وجدران القصور، وأعشاش الطيور، كلّ شيء في مملكة البلاغة أنقى وأزهى تحت زخّات المطر، حتى النفوس ووجوه البشر.
, زمرة من الخيول كانت تركض في تناسق بديع وعلى إيقاع واحد، أصوات حوافرهم وهي تقدح الأرض يتناغم مع ضربات قلوبهم المتلاحقة، كانت قوائمهم تصطف على التوازي بشكل أنيق وهم يتسابقون وقد وحّدوا سرعتهم وكأنّهم نسيج واحد، خفّ المطر شيئًا فشيئًا حتى صار كدمع العين هتونًا رقيقًا، وانبثق قوس المطر يزين صفحة السماء ويصافح خط الأفق من بعيد. صهل فرس منهم فعلت جلجلة رفاقه بأصوات صافية مُسْتَدقة، ثُمّ تقدّمهم فلاحقوه ضبحًا* حتى وصلوا أخيرًا لبستان واسع أخضر مدهام. كانوا عشرة من الخيول العربية الأصيلة لولا تدرّج ألوان أجسادهم وتلك العلامات التي وسموا بها وفرقتهم عن بعضهم البعض لصاروا نسخة واحدة متكررة لا يفرق بينهم البشر بجملة النظر من بعيد، كان كبيرهم كستنائي اللون ذو غرّة بيضاء ملأت جبهته وامتدت على قصبة أنفه، وكان محجلًا* فزادته قوائمه البيضاء الأربعة أناقةً وجمالًا، بينما استقرّت على صدره لطخة بيضاء على شكل نجمة تشبه الوسام. مالوا بأعناقهم يمينًا ويسارًا وهملجوا* في البستان قبل أن يجتمعوا حول زعيمهم. لو كنت خيلًا لأجفلت منهم، ولو كنت من البشر لأجفلت منهم أيضًا! فتلك الأصوات التي تعالت عندما هدأ كريرُ صدورهم لم تكن أصوات خيول أبدًا، بل كانت من أصوات البشر!
, هامش:
, محجلًا: المُحَجَّل من الدَّوابّ هو ما كان البياض فيه في موضع الخلاخيل أو القيود وفوق ذلك
, الضبح: صوت أنفاس الفرس إذا أسرع في العدو وذُكرت في القرآن وهي ليست صهيلا ولا جلجلة.
, الهملجة: هي حسن سير الدابة في سرعة، وهي ما يفعله الفرس عندما يقارب بين خطاه ويمشي في سرعة وبخترة.
, قال زعيمهم وقد اصطفوا أمامه في حالة من الخشوع:
, -فلنستوطن هذا البستان، المكان هادئ وجميل وبعيد عن صخب البشر.
, طالعته فرسٌ فاتنةٌ بعينيها الكحيلتين وأمالت عنقها بلطف وقالت:
, -البستان رائع بالفعل يا "حَيزوم"، وكأنني رأيت هذا المكان من قبل!
, قال وهو يرنو إليها:
, -ربّما مررنا به سابقًا يا "جُمانة"٢ نقطةلكنني لا أذكره!
, صهل الفرس "أبهر" والذي كان يتابع حديثهما باهتمام شديد ثم قال:
, -إذًا فلنبق هنا، وليكن لنا هذا البستان بيتًا ومأوى
, سأل الفرس "أجدل" وهو يقترب منهم:
, -وهل سيتركنا البشر؟ إنهم يلاحقوننا من بستان لآخر، ومن غابة لأخرى منذ شهور، مللنا من الفرار منهم.
, قال زعيمهم"حَيزوم" بجدية شديدة:
, -خُلقنا لهذا، وكرامة الفرس الأصيل ركوبها.
, حمحم فرس أسود بغضب وقال بحنقٍ شديد:
, -ألم نتفق على أن نختَار فُرساننا بأنفسنا؟، وأن نطرح كل من لا يليق بظهورنا أرضًا ولا نلتفت إليه!
, رفع "حيزوم" رأسه قائلًا:
, -نعم٣ نقطةاتفقنا على هذا يا "برق"، فالخيل أعلم بفرسانها، تشعر بهم وبأرواحهم عندما يركبونها، وما زلنا نبحث عنهم، وسنظل نبحث عنهم وإن فرقتنا الحياة.
, دمعت عينا "الجُمانة" واقتربت من زوجها "حَيزوم" وقالت تلومه:
, -لا تذكر الفراق أرجوك!
, انصرفت الخيول عن "حَيزوم" وزوجته "الجمانة"، فقد حمحم بعضهم جوعًا وعطشًا ومضى كلّ منهم يبحث عمّا يسدّ به جوعه، فانفردا تحت شجرة بلوط عظيمة، سكنت إليه فقال يؤنسها:
, -لا تخافي يا جُمانة لن أتركك أبدًا، فروحي أسيرة لديك.
, راقت لها كلماته فطابت نفسها، اقترب منها فمالت برأسها على عنقه، فاجأهما صوت الرعد فارتجف قلبها، انزوت تحت شجرة البلوط وألصقت رأسها بجذعها العتيق، بينما تقدّم "حَيزوم" يراقب صفحة السماء مع رفاقه، هناك شيء غريب يحدث هنا، قوس المطر يزداد اتساعًا، ألوانه تزداد قتامة شيئًا فشيئا ثُمّ هاهي تتوهّج وتشتد وضوحًا، سطع ضوء قوي فاعمى أعينهم للحظات تلاه وميض متراقص وغريب، انبثقت من كلّ الجهات دروب مختلفة، لكل درب منهم بوابة عجيبة تختلف عن الأُخريات!، تختلف في الشكل، تختلف في اللون، وتختلف في ما تخفيه خلفها من عوالم مبهمة لا يدركون كنهها، راودهم شعور جميل وهم يراقبون الدروب بألوانها الخلابة والمحاطة بهالات فضية، وأخرى نارية، إحساسٌ رائع لا يقاوم، بدت وكأنّها تناديهم ليدخلوها، وكأنّها تجذبهم كالمغناطيس وهم لا يملكون المقاومة، قوّة ما تسيطر على عقولهم، ويا لها من قوّة!، صاح "أبهر" بحماس شديد:
, -ما أروعها!
, قال "حيزوم" مسحورًا بجمالها:
, -ما رأيت مثلها من قبل يا "أبهر"!
, ثُمّ صمت هنيهة يرهف السمع وقال:
, - أسمعتم النداء؟
, أجابوه بصوت واحد:
, -سمعناه٢ نقطةسمعناه٢ نقطة
, ثُمّ صهلت الخيول بحماس، الجميع سمع النداء، قال "حيزوم" بنبرة حازمة:
, -فلنكن من اليوم خيولًا لتلك الدروب، خيول "أوبالس"٣ نقطةوسنجيب هذا النداء
, صاح "أبهر" بحماسٍ أكبر:
, -ونعم الرأي سيّدي
, قال "حَيزوم" وقد لمعت عيناه:
, -إذًا فلنتسابق والذي سيعُود من دربه أولًا هو الفائز
, -هناك الكثير من الدروب، سندخلها جميعًا؟
, -لا٣ نقطةيكفي سبعة منّا، ولتبق "البيضاء"، و"الجمانة"، و"الشقراء" هنا بالبستان
, سأله "أبهر":
, -لماذا هنّ بالذات!
, طالعهن "حيزوم" بنظرات تشي بالكثير ثُمّ قال:
, -لابد من بقاء الأمّ، و الزوجة، والابنة هنا، ليكون هذا البستان بيتًا ووطنًا لنا حتى نعود إلى هنا مرّة أخرى!
, ودّع "الجُمانة" بالتفاتة سريعة، وانطلق إلى أحد الدروب وافترق هو ورفاقه، وفور أن دلف كلّ منهم إلى درب من تلك الدروب المختلفة أبرقت السماء وأرعدت فجأة ثُمّ اختفى قوس المطر في الحال، وابتلعتهم الدروب وتلاشت معهم في غمضة عين، بقيت "الجُمانة"* في حيرةٍ شديدة، وبجوارها "البيضاء"* التي كانت ترعاها دومًا كأمٍ حنون، وانضمت إليهما "الشقراء"* تلك الفرس الفاتنة التي شغفها "أبهر" حبًا لكنّه لم يلتفت إليها أبدًا، كان دومًا مشغولًا عنها لكنها لم تتوقف عن حبّه للحظة، بل ويزداد تعلّقها به يومًا بعد يوم. سكنَّ وتلاصقن تحت شجرة البلوط وكأنّ على رؤوسهن الطير، وجلسن ينتظرن عودة الخيول السبعة:("حَيزوم"، "أبهر"، "أجدل"، "البحر"، "المسوّم"، "البرق")، وانضمت إليهم "الترياق" الأنثى الوحيدة التي سلكت دربًا من الدروب السبعة والتي كانت تنافسهم دائما بجسارة، كانت تركض بحماس شديد وصدرها يعلو ويهبط ويصدر كريرًا غريبًا، بدت عيناها تبرقان كجمرتين مشتعلتين بينما ابتلعها الدرب الذي دلفته في الحال. مرّ الوقت ثقيلًا ولم يعودوا للبستان٢ نقطةلم ينتهِ هذا السباق! لم يفز أيّ منهم بجائزة! وطال الانتظار.
, هامش:
, (أبهر، أجدل، المسوّم، البرق، الترياق، البيضاء، الشقراء، الجُمانة) كلّها من أسماء الخيول عند العرب في صدر الإسلام
, أما "حَيزوم" فقيل أنه اسم فرس جبريل عليه السلام في غزوة بدر، وأما أول من أطلق اسم "البحر" على الخيل فهو النبي صلى **** عليه وسلّم، والمقصود بالبحر هو كثير الجري الذي لا يصيبه التعب.
,
, ٨ العلامة النجمية
,
,
, أَيجيدور
, وقفت بردائها الفضفاض والأنيق في حفل زفاف شقيقها "أنس" على "مَرام"، تلك الفتاة الرقيقة ذات البسمة الملائكية والتي أخبرهم أنّه التقى بها في مملكة البلاغة! وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يردد فيها اسم "مملكة البلاغة" أمامها هي وأمام أمّها المسكينة، والتي أصيبت بصدمة عندما روى لها ابنها "أنس" ما حدث، وبعد أن فاجأها زوجها بما قصّه عن رحلته هو الآخر إلى هناك قبل زواجهما، ومن قبلهما الجدّ في شبابه، أسرار لم تعرفها من قبل تسببت في ارتباك الأسرة لفترة طويلة، وازداد ذهولها من حكايات جدّة "مرام"، و"مرام" نفسها عن تلك المملكة أيضًا. لم تصدّق "حبيبة" في البداية ما أخبروها به، لكنّها وأمام إصرار "أنس"، واجتماعه هو و"مَرام" على نفس التفاصيل، ولأنّها تثق بأبيها وجدّها بدأت شيئًا فشيئًا تتقبل الأمر على مضض، كما بدأت تتعايش مع خوفهم الشديد عليها كلّما رأت كابوسًا أو عندما كانت تتأخر في العودة إلى البيت، فقد كانوا يترقّبون اختفاءها في أيّ لحظة، بل كانوا يحاصرونها! ويراقبون كلّ شاردة وواردة تخصّها، مما أصابها بالضيق والاختناق وخاصّة من هلع أمّها عليها، أمّا والدها و"أنس"، فكانا يُكثران من النصائح والتوجيهات، وكان جدّها يطلب منها زيارته باستمرار وكانت تتهرّب منه، حتى أنّه أعدّ لها حقيبة خاصّة حتى تكون مهيّأة للرحيل في أيّ لحظة، أو الاختطافّ كما كانت تسميه هي بتهكّم، لكنّ هذا لم يمنعها من أن تسألهم من آنٍ لآخرَ عن رحلاتهم، وهم بدورهم لم يبخلوا عليها بوصف كلّ صغيرة وكبيرة مرّوا بها هناك، توقفت لمدة عام عن زيارة جدّها بالفيوم، ثُمّ اضطرت للذهاب عندما مرض مرضًا شديدًا وكان لا بدّ من زيارته ورعايته فزارته مع أسرتها وأقامت هناك لفترة قصيرة، لم تجرؤ خلال تلك الفترة على دخول المكتبة، وفي العام التالي ذهبوا جميعًا لقضاء إجازة العيد مع الجدّ بالفيوم، فدلفت المكتبة مرّة مع أبيها وكانت تتشبث بذراعه طوال الوقت وهما هناك، وأمّا هذا العام فالأمر مختلف، فاليوم هو موعد زفاف شقيقها "أنس"، وبعد أن أصرّ الجدّ على إقامة حفل زفافه ببيته الواسع والأنيق، والذي كان يشبه صالات الفنادق الشهيرة في تصميمه، فقد تم الإعداد للحفل ببيت الجدّ بترحيب من الجميع، وخاصّة أنّ غالب أفراد العائلة يقيمون هناك، وكان "أنس" أكثرهم سعادة بتلك الفكرة، لم تخبرهم "حبيبة" عن هذا الكابوس الذي رأته الليلة الماضية في منامها، فلم يكن الوقت مناسبًا لكي تخيفهم وقد تم بالفعل ترتيب كلّ شيء لإقامة حفل الزفاف ببيت الجدّ، ولأنّها كانت تعلم أن ظروف أخيها المادية لا تسمح بإقامة الحفل في أيّ مكان آخر، وأنّه وبعد خطبة دامت لثلاث سنوات لن يستطيع تأجيل زفافه مرّة أخرى فقد سبق وأجّله مرّتين، وهي تشفق عليه بعد أن عايشت معه ومع أبيها تلك الفترة العصيبة التي كانا يجمعان فيها المال لتهيئة مسكنًا يليق بـ"أنس" وعروسه "مَرام"، فهم رغم مظهرهم الذي يوحي بالثراء يعدّون من الطبقة المتوسّطة الحال، ففضّلت الصمت، وعدَلت عن قرارها بعدم حضور الحفل، والذي همست به لأمّها فقط، عندما لمَّحت لها بخوفها وقلقها من إتمام الزفاف بهذا البيت، فبكت أمّها فور أن علمت بما تفكّر فيه ابنتها، فكيف ستترك شقيقها ليلة زفافه!
, كان القلق ينهش رأس "حبيبة"، وظلّت تقرض شفتيها طوال الوقت، وتتنقل بين ضيوف الحفل بهذا الثوب الواسع الذي ارتدته مرغمة بعد إصرار أمّها، وعانت من بطانته الاسفنجية التي لجأت أمّها لتثبيتها به لينتفش ذيله وتخفي نحافة ابنتها، لجأت لخلع حذائها مرّتين لتريح قدميها، فهي تكره الأحذية ذات الكعوب العالية، لكنّها كانت تُسرع بارتدائه عندما تقترب أمّها منها، وكانت أمّها في كلّ مرّة تراها فيها تقوم بتفحّص ملابسها وحجابها وتضبطه وتؤنبها لأنّها لم تضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها كما تفعل الفتيات، شتّان بين ما يدور في رأس أمّها ورأسها الآن، فالأم تحلم بعريس وسيم لابنتها، والابنة تحلم بالهروب من هذا المنزل بأيّ طريقة، والتخلّص من هذا الحذاء.
, كانت دقّات قلب "حبيبة" تتواثب كلّما لاح ضوء المكتبة من بعيد بحديقة بيت جدّها، وكانت الحديقة تعبق برائحة الأطعمة المختلفة، حيث امتدت الموائد العامرة بما لذّ وطاب من أوّلها لآخرها، قررت أن تكسر هذا الخوف الذي يعتصر قلبها وتدخل المكتبة في حضور كلّ هؤلاء الضيوف بالحديقة وعلى بعد خطوات من باب المكتبة، ظنّت أنّها ستأتنس بوجودهم قربها بالخارج، وأنّ وجودهم سيمنع حدوث أيّ أمر غريب، كان جدّها وفور وصولهم مباشرة قد أعطاها مفتاح المكتبة، وكأنّه يدفعها دفعًا لمواجهة الأمر، داست على تلك الهواجس التي تنقر رأسها وأدارت المفتاح في ثقب الباب، كانت الأتربة تغطّي أغلفة الكُتب، اكتفت بنظرة سريعة على المكان، وتنفّست بعمق وهي تحدّث نفسها أنّ هذا الكابوس لا يعني شيئًا، وأنّ الأمور تسير على ما يرام، كانت الغرفة تعبق برائحة الورق العتيق الممتزج برائحة الرّطوبة، وكانت باردة حتى أنّ "حبيبة" أجفلت من هذا البخار الذي كان يخرج من فمها بسبب دفء أنفاسها مقارنة بأجواء الغرفة، وعندما همّت بالخروج وهي سعيدة لأنّها تغلّبت أخيرًا على مخاوفها، انغلق باب المكتبة فجأة فشخصت بعينيها تجاهه، أطبق الصّمت على الغرفة وعُزلت "حبيبة" عن الخارج تمامًا، كانت ركبتاها تصطكّان وتشعر كما لو أنّها تسقط بهوّة سحيقة، اهتزّت جدران المكتبة، حلّقت فوقها الكتب وكأنّ هناك يدًا خفيّة تحرّكها، كانت صفحاتها تتقلّب بسرعة رهيبة، تصاعد صوت صراخ وكأنّ أحدهم يستغيث، كانت الأصوات تردد كلمة واحدة، حاولت أن تهرب لكنّ ساقيها تسمرتا بأرض الغرفة، كانت ترتجف وهي تحدّق في الكتب وهي تدور حولها في دوّامة، توقفت الكتب فجأة وظلّت معلّقة في الهواء للحظات ثم هوت على أرض الغرفة بانتظام في حلقة حولها ودوَّى صوتها بقوّة انخلع لها قلبها، تصاعد الغبار الذي كان متراكمًا على أرض الغرفة فشكّل هالة من الدخان الخفيف حوله، عادت صفحات الكتب تتقلّب بسرعة كطواحين الهواء، انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ، ثمّ انغلقت الأغلفة فجأة إلّا كتابًا واحدًا ظلّ مفتوحًا أمامها كانت تهتزّ كورقة شجر تتلاعب بها الرياح في فصل الخريف، احتقنت عيناها وتخشّب لسانها في فمها، رفعت يدها التي كانت ترتجف ووضعتها على صدرها، ثمّ بصعوبة حرّكت قدميها تجاه الكتاب وانحنت تنظر إليه، كانت صورة وجهها تظهر تدريجيًا على الصفحة الأولى وكأنّ هناك شبحًا يرسمها بينما هي تنظر! ازدردت ريقها بصعوبة وحدّقت مرّة أخرى فيها وكأنّها لا تصدق، أغلقت الكتاب لتقرأ عنوانه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح "أيجيدور"، فزعت عندما رأت الرمز الدّال على الرقم أربعة باللغة النوبية "كيمسو"، كان الرمز يشبه حرف الكاي باللغة الإنجليزية يعلوه خط أفقي٣ نقطة
, ــــــــــ
, K
, حيث أخبرها أبوها أكثر من مرّة أن تنتبه له إن ظهر لها في أيّ وقت أو أيّ مكان، أو حتى في الكوابيس والرؤى التي تراها خلال نومها، كان الرّمز مكتوبًا باللون الأحمر الكرزي على الغلاف من الخلف، بيد أنّ كلّ صفحات الكتاب كانت خالية من الكلام! تماما مثل كتاب "إيكادولي" الذي ظهر لأخيها وكانت صفحاته بيضاء وخالية من الكلمات، تذكّرت ما قصّه لها شقيقها "أنس" عن الأميرة "نَبرة" التي حاولت الكتابة في صفحات كتاب "إيكادولي" بدماء شاب نوبيّ يسمى "كلودة" كان "أنس" قد التقى به أثناء رحلته، وأنقذه من بين يديها وهو ينزف، اقشعر بدنها عندما تخيّلت الأمر، فغطّت وجهها بكفّيها في انزعاج شديد٣ نقطة
, أرادت أن تصرخ لكنّ صوتها لم يخرج من حلقها، حاولت أن تقف على قدميها لكنهما خانتاها، غضنت جبينها وأغمضت عينيها ووقفت مستندة على قبضتي يديها، ألقت نظرة على الكتاب بتحدٍّ وكأنّه عدوٌّ لها، التقطت الكتاب وهرولت نحو غرفتها، قررت تمزيق الكتاب، لكنّها لم تتمكّن أبدًا من تمزيق صفحة واحدة منه! لا بيديها ولا بأسنانها، بحثت عن مقصّ لكنّه لم يعمل ولم يخدش منه ورقة واحدة!، هرولت نحو المدفأة في غرفة المعيشة، وعلى حين غفلة من الحضور ألقت بالكتاب في النار ووقفت تراقبه بعينين متيقظتين، لكنّه بقي كما هو ولم يحترق!، زفرت بحنق، ووقفت تقلّبه في النار لعلّه يحترق، لاحظ جدّها ما تفعله، وكان ثوبها قد استحال لون أطرافه أسود من غبار المكتبة، واحمر وجهها من لهيب النّار، وكان جبينها يتفصّد عرقًا رغم برودة الجوّ فأدرك أنّ حفيدته قد رأت الرّمز! ناداها فالتفتت فزعة ثُمّ هرولت نحو غرفتها وأغلقت الباب، التقط جدّها الكتاب بساق حديدية كان يستخدمها لتقليب الحطب بالمدفأة ولحق بها.
, فتح جدّها الباب فجأة، ورآها تجلس على الأرض، فأسرع نحوها وقال بصوت واهن وهو يقرأ عنوان الكتاب:
, -"أيجيدور"
, حانت منه التفاتة نحوها وسألها:
, -هل رأيت حلمًا غريبًا يا ابنتي؟
, هزّت رأسها في صمت، وقالت بصعوبة:
, -نعم، الليلة الماضية
, كانت تخشّب رقبتها وتحدّق بطرف خفي للكتاب وهو بين يديّ جدها، وكأنّ هناك وحشًا سيخرج من بين دفّاته وينقضّ عليها في لحظة ما، سألها جدّها وهو يُربّت على كتفها:
, -لماذا لم تخبريني؟
, لاحظت نظرات جدّها القلقة فازدردت ريقها بصعوبة وقالت:
, - وسمعت فيه تلك الكلمة التي نطقتها للتوّ يا جدّي!
, -"أيجيدور"؟
, هزّت رأسها موافقة وقالت:
, -كُنت في مكان ما تحت الأرض، ربّما نفقٌ، أو ممرّ، أو زنزانة، لا أدري، سمعت صهيل خيول، وغقغقة صقور، ثُم سمعت نداء غريبًا بأصوات مرتعشة من عدّة أشخاص يمدون إيديهم إليّ والحطام حولهم في كلّ مكان، ورماد الحرائق يغطّي كلّ شيء، وكلّ منهم يصرخ مرددًا: "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"، ثُم رأيت امرأة شديدة الجمال ما رأيت كوجهها من قبل! وكانت تبكي في هلع وهي تتشبث بذراعي وتتألّم، فاستيقظت وصوت صراخها يتلجلج في أذني
, أشفق عليها جدّها وأسندها لتقف وقال وهو يسير معها نحو الطابق العلوي حيث غرفة الأشباح وهو يحمل الكتاب بيده الأخرى:
, -أسرعي يا "حبيبة"، يبدو أنّ هناك من يحتاجك! حان وقت الرّحيل
, قالت برهبة:
, -أرحل! إلى أين؟ هل تعي ما تقوله يا جدّي؟
, -نعم، لا تخافي، فقد رحلت "مرام" من قبل، وهي فتاة مثلك، ستلتقين بـالملكة "الحوراء" هناك
, كانت ترجف وتنتفض فزعًا، ستر الرداء اضطراب جسدها بالكامل واصطكاك ركبتيها وهي تسير بين المدعوين، تعثّرت وتعلّقت بذراع جدّها أكثر من مرّة وهي تصعد الدرج، ظنّ الجميع أنّها هي من تعين جدّها ليسير بينما كان هو من يدعمها ويثبّتها، أشار لابنه "كمال" برأسه وفي عينيه تستقرّ نظرة تشي بالكثير فأدرك "كمال" أن ابنته بها خطب ما، فلحق بهما وصعد الثلاثة للدور العلوي، قال الجدّ لأبيها الذي اغرورقت عيناه بالدموع عندما علم بما حدث، فقد كان يخشى على ابنته:
, -حان الوقت!
, كان "كمال" يعلم أنّ الأمر ليس بيديه، وأنّها إن لم ترحل الآن ستتعرضّ للخطر، ولو تأخّرت في دخولها لغرفة الأشباح ستهاجم أسراب الغربان البيت كما حدث مع "أنس" من قبل عندما تأخّر وهو يتحدّث مع أبيه وجدّه، قال ليخفف عنها:
, -سيكون كلّ شيء على ما يرام، أثق بك يا "حبيبة"، وأعلم أنّك قويّة
, -حتى أنت يا أبي! ظننتك ملاذي الوحيد هنا!
, أشاح بوجهه في ألم وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
, -تعلمين أن قلبي يتمزّق
, ثُمّ قال بعد تردد وهو يعطيها نفس المفتاح الذي أعطاه من قبل لابنه "أنس":
, -اذهبي يا ابنتي ولا تتخلي عن يقينك ب****
, كان الجدّ يضع حقيبتها في غرفة الأشباح على الدوام، وقف الثلاثة أمام بابها وما زالت لا تُصدّق أنّها في تلك الساعة من الليل ستدخلها! قالت بتصميم:
, -لن أدخلها ولن أرحل من هنا!
, فتح أبوها باب غرفة الأشباح وأضاء المصباح، كانت الغرفة مهيبة، وخالية من الأثاث، رأت الحقيبة على الأرض، قال جدّها وهو يُشير إليها:
, -هذه حقيبتك، فيها الخنجر كما أخبرتك من قبل
, -لن أرحل!
, قال أبوها:
, -الوقت يداهمنا، أنتِ في خطر!
, -لن يحدث شيء، ولن تجبروني على الرحيل
, تركتهما وهرولت نحو غرفتها مرّة أخرى، في ذات اللحظة لاحظ "أنس" اختفاء أخته "حبيبة" فأجفل عندما تناهى إلى سمعه صوت نعيق الغربان الذي بدأ صداه يتردد في الأجواء وهي تحلّق فوق البيت في دوائر فسقط قلبه، وكان يودّع آخر المدعوين أمام باب البيت، فهرول نحو جدّه وسأله عن أخته فأخبره بما حدث، ذهب إلى غرفتها وحاول فتح الباب لكنّها كانت قد أغلقته بالمفتاح وجلست كالصنم على الفراش، دفع الباب بكتفه واقتحم الغرفة مناديًا عليها:
, -"حبيبة"!
, لم تُجبه ولم تلتفت نحوه، أمسكها من ذراعيها وأوقفها ثُمّ احتضنها وهمس في أذنها:
, -أعلم أنّك خائفة يا أختي، لكنّك الآن في خطر
, صاحت بغضب هادر:
, -خطر! الخطر هو ما تدفعونني للذهاب إليه وحدي؟ ألا تخافون عليّ!
, قال وهو يربّت على ظهرها:
, -وأنتِ الآن في حضني من يحميك؟
, قالت بثقة:
, -****
, -وهذا يقيني ويقينك الذي تربينا عليه يا "حبيبة"، لا تنسي أنّك الآن محاربة
, -لست محاربة٢ علامة التعجبولن ألقي بنفسي في النار وأزعم أنني لن أحترق! هذا جنون!
, -ادخلي غرفة الأشباح
, لم تجبه وبقيت على صمتها وعنادها، قال برجاء:
, -ثقي بي
, علا صوت نعيق الغربان، حلّقوا فوق البيت، حطّم الغربان بعض النوافذ، دلفوا المنزل، بدأوا يهاجمون الخدم، وعلا الصراخ والغربان تنقر أجسادهم، أمسكها "أنس" من ذراعها وركضا نحو غرفة الأشباح، وقال بجدية شديدة:
, -أنت الآن تعرضين كل من تحبينهم للخطر، وربّما تفقديننا جميعًا
, قالت غاضبة:
, -لم أعرّض أحدًا للخطر!
, -أنت تفعلين هذا الآن،٣ نقطة"حبيبة"، عندما تبدأ رحلتك سيختفي كلّ شيء هنا، لا تؤذيهم٣ نقطة
, -لا تقل هذا مجددًا، أنا لم أؤذ أحدًا!
, ازداد صراخ الخدم، أشفقت "حبيبة" عليهم وهم يصرخون، واعتصر قلبها عندما تخيّلت أنّ الغربان ستصل لأبيها وأمّها بعد قليل، نظرت لأخيها وكانت حائرة، في تلك اللحظة، كانت "مرام" قد لحقت بهم وصعدت الدرج بفستان زفافها الأبيض، ووقفت أمام الغرفة وقالت لـ"حبيبة" بثبات:
, "حبيبة"٣ نقطةلا تهربي واصطدمي بكلّ قوتك"
, التفتت نحوها وتذكّرت كيف كان "أنس" يروي لها عن "مرام" وكيف أنّ قوتها كمحاربة كانت في ثباتها على الحقّ، وليس في قوّة بدنها، فاستعادت رباطة جأشها، فهاهي فتاة مثلها قد ذهبت وحيدة وعادت على خير حال، قالت أخيرًا بصوت تخنقه العبرات:
, -حسنًا يا "أنس"٢ نقطةاخرج وأغلق الباب في الحال
, ربّت على كتفها وأسرع خارجًا وهي تطالعه بنظرة لم يرها على وجه أخته من قبل فانخلع لها قلبه، وأغلق الباب ووقف يستند برأسه عليه من الخارج وهو يصيح:
, -في أمان ** حبيبتي٢ نقطةفي أمان **
, سكنت في مكانها للحظات كالصنم ثُمّ حاولت فتح الباب لكنّها فشلت، دارت حول نفسها وكانت تتخبّط في حيرة، أمسكت بحقيبتها، ووقفت تراقب الظلّ الذي كان يقترب من النافذة، اختفت كلّ الأصوات حولها، وعلا صوت خفق جناحين عظيمين، تراجعت "حبيبة" حتى التصق ظهرها بالجدار، ووقفت تراقب ظلّ هذين الجناحين وهو يقترب، كان حجم الظلّ يزداد شيئًا فشيئًا، دارت أنثى الصقر دورة واحدة في سقف الغرفة المرتفع فاهتزّ المصباح وتأرجح، ثُمّ هبطت وطأطأت رأسها وسكنت أمامها على الأرض، وقع في نفس "حبيبة" أنّ تلك هي "قطرة الدّمع" التي حملت "مرام" لمملكة البلاغة من قبل، فوقفت تحملق فيها تحت ضوء المصباح وهو يتأرجح، كانت عيناها تبرقان، لها ظهر أخضر زبرجدي، والجسد أبيض يخرج منه جناحان بديعان مبرقشان، وذيل عريض ومستدير عند نهايته، ذو طرف أخضر قاتم وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسها على الجانبين لون زمرّدي بديع يتصاعد قتامة حتى أعلى رأسها وكأنّه تاج!، ويمتد على الوجنتين كخطّ رفيع داكن يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين، بدت مهيبة الطلعة كالملكات.
, ضمّت جناحيها وألصقتهما بجسدها، حدّقت في "حبيبة" بعينيها المخيفتين، ثُمّ غطّست رأسها في جسدها. مرّت لحظات طويلة على "حبيبة" استيقظت فيها كلّ حواسها، كانت ترهف السمع بشدّة وتنتظر أن تبدأها هي بالكلام، وهذا ما حدث بالفعل عندما قالت بصوتها المهيب:
, -أنا "قطرة الدمع" يا "حبيبة"، سنرحل حالًا، فالأمر جدّ خطير، ولا بدّ أن نسرع لنتمكن من لقاء "الحوراء" فقد لا نلتقي بها مرّة أخرى
, -لماذا٣ نقطة
, أرادت "حبيبة" أن تتحدّث معها قليلًا، لكنّ"قطرة الدمع" لم تتركها لتكمل كلماتها، وطارت فجأة بضربة جناح واحدة واستوت على رأسها، فاقشعر بدن "حبيبة" ووقفت منكمشة وهي ترفع عينيها إلى أعلى، كانت "قطرة الدمع" متعجلة وكأنّ هناك من يطاردها، بسطت أنثى الصقر جناحيها في الهواء، ثُمّ احتضنت وجه "حبيبة" بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطت وجهها كلّه بريش جناحيها ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهتها وعينيها وأذنيها وخديها، لم تترك إلا أنفها وفمها لتتمكن من التنفس والكلام. شعرت"حبيبة" بجسدها يخدّر، وسرى في نفسها شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسدها وكأنّها ريشة في جناح الصّقر! حاولت فتح عينيها٢ نقطةكانت تظنّ أن ريش جناح "قطرة الدمع" ما زال يغطيهما، لكنّها فوجئت بنفسها تطير فوق بحر لازوردي واسعٍ وفي وضح النهار!
, كانت البروق تتوالى وتشق صفحة السماء وكأن هناك سيفًا عظيمًا من لجين يضوي، اقتربت "قطرة الدمع" وهي تخفق بجناحيها بينما تحمل "حبيبة" بمخالبها وتحلّق فوق البحر، والتي كانت تقاومها بعصبية شديدة، وتتأرجح في الهواء وتحاول التملص من بين مخالبها، ما زالت تستنكر ما يحدث لها، وما زالت ترفض الأمر، يا لها من فتاةٍ عنيدة!
, رجف قلبها عندما أرعدت السماء، اقتربت سحابة هشّة شاهقة البياض منهما وانبثق ضوء قويّ من بين طيّاتها وترجرج شعاعه وكأنّه يلوّح في السماء، ثُمّ سقط على وجه "حبيبة" فشعرت بخفّة وانشراح، لم تحترق! لم تتبخّر، لم تتلاشَ في الهواء!
, انعكس الضوء من جبهتها على سطح ماء البحر وقد انحدر منه شعاع لطيف ملوّن اختلط بأمواج البحر، حتى الزبد ترقرق وتهادى وكأنه يتراقص فرحًا وطربًا مما أذهل "قطرة الدمع" التي أصدرت صيحة غريبة تردد صداها في الأجواء وقالت برهبة:
, -"أيجيدور"!
, سحب الضوء رداءه الملوّن واختبأ في حضن السماء التي أرعدت فجأة وأبرقت مرّة أخرى فأصيب جناح "قطرة الدمع" بشرارة من شرارات البرق التي ملأت الأجواء، بدأ ريشها يدخّن ويحترق فألقت بـ"حبيبة" في ماء البحر رغمًا عنها ومالت نحو الغابة القريبة من الشاطىء، هوت وسقطت بسرعة شديدة واختفت بين الأشجار.
, غاصت "حبيبة" في ماء البحر واختفت تحت سطحه وأحاطتها الظلمة من كل صوب، كاد ثوبها الثقيل ببطانته الاسفنجية يُغرقها فقد التفّ على جسدها وأعاقها فلم تتمكّن من السباحة، شعرت بدوّامات الماء تدور خلف ظهرها وكأنّ الماء يدفعها دفعًا تجاه سطحه، رفعت رأسها أخيرًا وشهقت ثُمّ بدأت تضرب الماء بذراعيها سابحة نحو الشاطئ، خرجت منه و الماء يقطر من ملابسها وهي تركض حافية القدمين بعد أن فقدت حذاءها عندما سقطت في الماء، سارت بين مجاميع الأشجار الكثيفة بحثًا عن "قطرة الدمع" هنا وهناك، كانت تنادي عليها وهي تسير بصعوبة بين الأحجار، وتكرر النداء كلما توقفت لتلتقط أنفاسها.
, بعينين نابهتين، وبجبهة واثقة، وبرأس متعاليةٍ بكبرياء، وبصدر يرحب بالحياة والموت معًا، حيث الروح محلّقةً في رحاب **** وقفت "حبيبة" بقامتها متوسطة الطول وقوامها المشدود متأهّبة لما هو قادم، علت وجهها غيمة حزن للحظات، بدأت تجول بعينيها اللوزيتين وتمشّط المكان، لها نظرة تشبه نظرات أخيها "أنس"، تذكّرت تحذير جدّها مرارًا لكي لا تُكرر ما فعله شقيقها من قبل، عندما اندفع راكضًا في الغابة ولم ينتظر لقاء "المغاتير"*، ولكنّها أُرغمت على خوض تلك الغابة، وهاهي وحيدة الآن!
, هامش: لقب لمجموعة من الفرسان وهم من شخصيات الجزء الأول، والمغاتير لقب يطلق على نوع من الإبل البيضاء النفيسة جميلة المظهر وغزيرة الوبر، يقول عنها أهل البادية: المغاتير نور القلب.
,
, بدأت تتحسس بيسارها الخنجر وكتاب "أيجيدور" بحقيبتها القماشية المبتلّة، أخبرها جدّها أنّ عنوان الكتاب كلمة نوبية تعني أنقذني، وكانت صيحة "قطرة الدمع" بتلك الكلمة عندما رأت البرق تتردد في أذنيها.
, رفعت كفها الأيمن لتتحسس القلادة وأظهرتها من أسفل حجابها ودارت بعينيها في المكان مرّة أخرى، متأهّبة كانت، تنتظر زعيم "المجاهيم"* ليظهر أمامها فجأة. رفعت رأسها وحدّقت في السماء مرارًا، كانت ترزح تحت موجة من المشاعر المختلطة، خوفٍ، وحذرٍ، وتأهّبٍ، وسخطٍ شديدٍ على هذه الرحلة التي أرغمت على المضي فيها، ورغبة شديدة في البكاء، لكنّها لن تبكي أبدًا٢ نقطةلن تبكي!
, هامش: المجاهيم لقب يطلق على مجموعة من الجنّ وهم من شخصيات الجزء الأوّل، رجل جهم الوجه أي كالح الوجه، ومعنى جهمه جهمًا أي استقبله بوجه كريه، ولقب المجاهيم يطلق على بعض أنواع الإبل النجدية السوداء ، كبيرة الحجم وضخمة العظام، تتحمل الظروف القاسية بكل تضاريسها وتحولاتها المختلفة
,
, في طفولتها لم يكن البكاء خيارها الأول عندما كانت تقع في ورطة ما أو تفقد لعبتها، بل كان الخيار الأخير، والآن وهي في التاسعة عشرة من عمرها فلن يكون البكاء ضمن خياراتها المتعددة، فهي تكره البكاء! وتراه ضعفًا لا يليق بها.
, تذكرت نظرات "أنس" وهو يروي لها ما مرّ به. وتلك التفاصيل الصغيرة التي روتها لها "مرام" عن كل من التقت بهم في مملكة البلاغة، (أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، المجاهيم، كومبو، الحوراء، سامي كول، وحراس المكتبة)*، كانت تحفظ أسماءهم جميعًا وتسترجعها الآن. مرّت لحظات ثقيلة قبل أن ترى طيفًا يقترب، هناك من يشقّ طريقه بين الأشجار٣ نقطة بغُرّتها الناعمة، وعينيها اللامعتين، وظهرها المستقيم وذيلها المرتفع بأناقة، كانت تلك الفرسٌ تهرول نحوها بخفّةٍ ورشاقة، ترفع وتخفض رأسها وكأنّها تحييها!
, هامش:
, أشريا، كلودة، الزاجل الأزرق، المغاتير، الحوراء، حراس المكتبة، وقطرة الدمع من شخصيات الجزء الأول برواية "إيكادولي"
, اندهشت "حبيبة" عندما رأتها تقترب، جمالها الأخّاذ عقد لسانها، رفعت كفّها ببطء وبحرص شديد ووضعتها على رأس الفرس، تخشّب جسدها للحظات،كانت تترقب ردّة فعلها، تعجبّت عندما رأتها تغمض عينيها وتستعذب لمس كفّها لرأسها بلطف! همست بصوت مرتعش:
, -كم أنت جميلة، ما أروع عينيك!
, كانت تلك هي "الترياق" التي سلكت دربًا من تلك الدروب العجيبة تسابق رفاقها الستة، مرّ وقت ليس بالقليل عليها وهي تطوف بالغابات والبساتين بحثًا عن رفاقها لكنّها لم تعثر عليهم، ظلّت "حبيبة" تربّت على رأسها وتتحسس بلطف عنقها الذي كان لونه الأحمر القاني الضارب للسواد رائعًا وخلّابًا، اطمأنّت "الترياق" لها فقالت بصوت عميق له رنّة مميّزة:
, -السلام عليكِ
, قفزت "حبيبة" للخلف في ذعرٍ عندما سمعت صوتها، لكنّها سريعًا ما استعادت رباطة جأشها وطَمْأنت نفسها، فطالما الصقور تتكلّم هنا فما الغريب إن حدّثتها الخيول! ازدردت ريقها بصعوبة وردّت السلام باقتضاب، أحنت "الترياق" رأسها وكأنّها تحاول أن تشعرها بخضوعها لها وقالت:
, -أنتِ غريبة عن تلك البلاد، أليس كذلك؟ فتلك الثياب لا تشبه أيًّا من تلك التي رأيتها خلال جولاتي هنا وهناك.
, حرّكت "حبيبة" ثوبها ببطانته الإسفنجية السخيفة وقالت وهي تعصر طرفه بيديها:
, -نعم أنا غريبة
, -عمّ تبحثين إذًا أيتها الحائرة؟
, -عن "قطرة الدّمع"٣ نقطةهل تعرفينها؟ وهل سمعتِ عن "المغاتير"؟
, -لا٢ نقطةلم أسمع عنهما!
, -هل تعرفين أين قصر "الحوراء"؟
, -لم أسمع عنه أيضًا!
, أدركت "حبيبة" أنّ تلك الفرس لا تعرف أنّها محاربة، عادت تقترب منها ووضعت كفّها على رأسها مرّة أخرى ومررتها خلال غرّتها السوداء فأظهرت الفرس أُنسًا لفعلها مرّة أخرى وقالت:
, -اسمي "الترياق" وأنا من إناث خيول "أوبالس"
, قطّبت "حبيبة" حاجبيها وسألتها:
, -وماذا تعني "أوبالس"؟
, -لا أدري، هكذا أخبرنا زعيمنا "حَيزوم"، فنحن عشرة من الخيول لا نعرف إلّا بعضنا البعض، ولا نذكر ماضينا وقد ضللنا الطريق لفترة طويلة، كنّا نركض من بستان لآخر، نركض وحسب!، ولا نذكر إلّا أسماءنا فقط.
, -غريب أنّ اسمك عربيّ أصيل٣ نقطة "الترياق"!، وكذا اسم زعيمكم "حَيزوم"، أمّا لقبكم هذا الغريب فيبدو لي أنّه ليس بعربيّ أبدًا!٣ نقطةحسنًا أيتها "الترياق" فلنبحث معًا عن صديقتي بالغابة، هي أنثى صقر واسمها "قطرة الدمع" فهل ستساعدينني؟
, أحنت "الترياق رأسها واقتربت لتمكن "حبيبة" من ركوبها، ترددت "حبيبة" للحظات ثُمّ صعدت على ظهرها بحذرٍ شديد عندما تذكّرت أنّها فقدت حذاءها ولن تستطيع السير حافية في الغابة، فمن الجميل أن تستعين بفرس في رحلتها حتى تعثر على حذاء مناسب لها، وقالت بعد أن استوت على ظهر "الترياق":
, -سامحيني فملابسي ما زالت مبتلّة بماء البحر
, حمحمت الفرس وقالت:
, -تمسّكي جيّدًا ولا تقلقي٣ نقطةسأسير ببطء حتى تعتادي على ركوبي
, ومضت "حبيبة" تتجوّل في الغابة تبحث عن "قطرة الدمع" ومعها رفيقة جديدة بدأت تأنس بها، ساقتها إليها درب من دروب عجيبة فُتحت فجأة وظلّت معلّقة في الهواء بعد أن سقط المطر، شيئًا فشيئًا بدأت تعتاد عليها، انحنت "حبيبة" بجذعها للأمام، شعرت "الترياق" بأنفاس الفتاة الدافئة تلامس عنقها فبدأت تسرّع من هملجتها في الغابة، أسرعت٣ نقطةوأسرعت٣ نقطةوأسرعت، حتى شعرت حبيبة أنّها تطير، أصبحتا وكأنّهما كيان واحد يركض ويعدو، صوت حوافر "الترياق" وهي تدقّ الأرض أطرب "حبيبة"، كانت تحلم بالفروسية، كثيرًا ما تمنّت أن تمتطي فرسًا كهذه، كان هذا ضمن أحلام يقظتها، وها هي الآن تمتطي فرسًا جميلة ورشيقة، قطعا معًا مسافات طويلة في تلك الغابة، كان الجوّ باردًا ورطبًا، هدّأت "الترياق" من سرعتها وعادت بـ"حبيبة" للمكان الذي التقيتا فيه أوّل مرّة٢ نقطةلتبدأ الحكاية٣ نقطة
,
, ١٣ العلامة النجمية
,
, "قلعة الدَّيجور"
, نام قرص الشمس على صدر الأفق متدثرًا بزرقة السماء، ما زالت الغيوم عالقة، فاحت رائحة الرطوبة في الهواء، فقد ابتلّت جدران البنايات في حيّنا البسيط بزخّات المطر بعد أن أرخت السماء أجفانها المخضلة بالدموع. في بيت كان عامرًا بأنفاس أمي كنت أجلس ساكنًا على كرسي خشبي هالك متكئًا بمرفقي على سطح المكتب البارد في غرفتي التي أصبحت كمغارة "علي بابا" منذ بدأت كتابة تلك الرواية. نافذة مغلقة وأكوام من الأوراق والكتب والملابس هنا وهناك، كان يزعجني أن تحرّكها أمي عندما أشرع في الكتابة فأصدها وأمنعها حتى تيأس وتتركها على حالها لترضيني، وتخرج بهدوء لتغلق الباب المقيت الذي يفصلني عن حياتها البسيطة التي لا تدور إلا في فلكي، وهأنذا الآن عالق بين السطور لم أحرّك شيئًا من مكانه منذ فترة طويلة. أحاول إنهاء تلك الرواية قبل أن تلحق بسابقاتها، فلم أفلح يومًا في كتابة ختام لرواية! تراكمت الأوراق في درج مكتبي، وعلى الرفوف، وتحت فراشي، لا توجد نهايات للروايات التي أكتبها، ولا أدري ما السبب! أقف دوما عند نقطة ما وينضب فكري فجأة! أصاب بصقيع في رأسي وأعجز عن التفكير وكأنني لم أكتب من قبل، وأفشل في إتمام ما بدأته، كرهت هذا في نفسي كما كرهت نوبة الإحباط الشديدة التي تصيبني في كلّ مرّة. هذه الليلة، عزمت بشدّة على إكمال تلك الرواية، فتلك النهايات المفتوحة تبقى ملتصقة بروحي وجوارحي وأشعر بالثقل والهوان والضعف وكأنني أجرّها خلفي في كل مكان، وكأنّ شخوصها يطاردونني ويلومونني على ما فعلته بهم، مللت من تكرار سؤال الناس لي عن الجديد، وهم يعلمون أنني اعتزلتهم من أجل الكتابة، وها هو العام تلو العام يمر بلا ثمرة ترضي فضولهم. عطستُ عطسةً قويةً آلمتني على إثرها ضلوعي وشعرتُ بقشعريرة فقمت وارتديت معطفًا دخّاني اللون لم يمرّ على الكواء منذ فترة طويلة فوق منامتي الصوفية الزرقاء، وارتديت جوربًا أرجوانيًا قديمًا لأتدفّأ به، كان مثقوبًا لكنني لا أشعر بالدفءِ إلّا إذا ارتديته، أغلقت أزرار المعطف وعدت لمقعدي في الحال، بردت قهوتي فرشفت منها رشفةً ورحت أتلذذ بنكهتها على طرف لساني،كنت أحملق في أوراق دفتري وأقرض أظافر يدي اليسرى وأنتظر اقتناص فكرة ما لأكمل الفصل الأخير من الرواية عندما شعرت بشيء غريب!
, بدأ جسدي يتصلّب وكأنني أصبت بالشلل، خفوت شديد اعتراني وأحسست بدوار شديد ثمّ ثقلت أنفاسي، صرت أشعر وكأن كل شبر من جسدي تحول إلى رمال، ذرّة تلتصق بذرّة وتطبق عليها بقوّة وهناك من يحاول سحب هذه الذرّات، حاولت أن أصرخ لكنني لم أتمكن من تحريك شفتي ولا لساني، أغمضت عيني واستسلمت لهذا الشعور بالانسحاق والتلاشي، ازداد إحساسي بكون أطرافي كتلًا من الرمال، بدأت أشعر أن ذرات تلك الرمال تتطاير شيئًا فشيئًا وتتسرّب من بين أضلعي، وكأنّ روحي ترحل وتغادر جسدي وتصّعّد في السماء، شعرت للحظات بالخفة وكأنني فقاعة تسبح في الهواء، وفجأة داهمني إحساس قوي بالسقوط من مكان مرتفع وبسرعة شديدة ازداد لها خفقان قلبي، بدأ جسدي يؤلمني وكأن هناك من يهرس لحمي ويخمشه بمخالبه تارة ويدكُّها بقبضته تارة أخرى، وتوالت الضربات، ثم عاودني الإحساس بأن جسدي يتكوّن من حبّات رمال وهي الآن تتراكم فوق بعضها البعض، حتى أنني سمعت عَزيف* الرمال وهي تتحرّك، وفجأة! اندفع الهواء متدفقًا إلى صدري بقوّة فشهقت بصوت مسموع قبل أن أفتح عيني لأفاجأ بها أمامي، إنها الجميلة "جلاديولس"* تأمر أحدهم بحزم ولهفة:
, -أحضره إلى هنا في الحال!
, برداء حريري فاخر تنحدر اللآليء السوداء على أكمامه وأطرافه كانت تقف بشموخ وحولها الحراس،كان العقد يتألّق حول عنقها كفرع مرجان يلمع تحت سطح الماء، يعكس على بشرتها خيالات جميلة، وكانت عيناها تبرقان وهي تتفحص ملابسي بإزدراء، ما زلت أرتدي منامتي الصوفية الزرقاء وعليها معطفي البالي، جوربي الأرجواني القديم المثقوب ما زال على قدمي، رطوبة غرفتي ما زالت تلتصق بأنفي، وما زالت مرارة القهوة التي كنت أرشفها قبل أن أنتقل فجأة إلى هذا المكان الغريب على طرف لساني٣ نقطة
, هامش:
, "العَزيف" هو صوت الرّمال إذا هبّت بها الرّياح
, "الجلاديولس" نوع من الزهور يرمز لقوّة الشخصيّة ألوانه متعددة ويعيش لفترة طويلة.
, بملامح جميلة لكنّها صارمه وصوتٍ خالٍ من العاطفة قالت:
, -وأخيرا وصلت، أهلكنا انتظارك!
, قُلتُ بلهجة الذي أفاق من غيبوبة طويلة وكنت أشعر بالذهول:
, -"جلاديولس"! معقول! أأنتِ هي بالفعل؟
, ثُمّ ازدردتُ ريقي بصعوبة وقلت بخفوت:
, -لا بدّ أنني أحلم! أنت أميرة القلعة٣ نقطة"قلعة الدَّيجور"*
, -وما الجديد في هذا!
, قلت هامسًا وكأنني أخشي أن تسمع كلماتي:
, -إنّها٣ نقطةرواية من رواياتي٢ علامة التعجب
, هامش:
, الدَّيجور أي الظلمة، ويُقال ليل ديجور أي ليل مظلم شديد السواد، وجمعها دياجير
, راحت تطالعني بعينيها اليقظتين وقالت:
, -أين كتاب "أيجيدور" أيها المحارب؟
, قُلت متعجبًا:
, - "أيجيدور"٢ علامة التعجب وماذا تعني تلك الكلمة؟ ولم تنادِينني بالمحارب؟
, -لأنّك محارب!
, هززت كتفي وقلت باستنكار:
, -لست محاربًا يا "جلاديولس"
, لكزني أحد الحرّاس في صدري فأوجعني وقال بغلظة:
, - الأميرة "جلاديولس".
, كُنت أحتاج لوقت لكي أستوعب كلّ هذا، لست ببيتي، ولم أفقد وعيي، ويبدو أنّه ليس حلمًا فأنا أتألم من ضربة وجهها لي حارس أحمق! وأنا أقف الآن أمام أكثر شخصيات رواياتي شرًا وحقدًا ونفوذًا٣ نقطةوجمالًا أخّاذًا، لا أدري أين! ولا كيف! هذا شيء عصيّ على الفهم، لكنني بالتأكيد فقدتُ عقلي. عندما جلت بعيني في المكان بتفاصيله الدقيقة أصابتني نوبة هستيرية من الضحك، انخرطت في الضحك ببلاهة! كنت أرتجف وأنا أقهقه كالمجنون، ثُم شعرت بغصّة في حلقي وبدأت أشعر بالرّهبة عندما طالعت وجوه حرّاسها حولها وقد كانوا أيضًا كما وصفتهم في روايتي، وجوه مكفهرة مظلمة، وجماجم ضخمة مثقوبة بعيون قاتمة ضيّقة، يلهثون في جشع كالوحوش والعرق يغمر جبينهم بالكامل، كان المكان مقفرًا ومخيفًا، وكيف لا٣ نقطةوقد غابت الشمس خلف السحب السوداء التي أحاطت بهذا المكان من كلّ صوب، لا شمس، لا نور، لا مطر يغسل الأجواء ويخفف عنهم ما هم فيه من ظلمة، شُعلُ النار التي لا تنطفئ أبدًا هي مصدر الضوء، لا بدّ أن يحترق شيء ما لكي تنير "قلعة الدَّيجور" وما حولها، ولكي يستدلوا على الطريق ويمارسوا حياتهم بطريقة ما٢ نقطة لا بد من٢ نقطةنار٢ نقطةحريق٢ نقطةنهاية٢ نقطةرماد٢ نقطةأو فناء٢ نقطةهؤلاء قوم لا يعرفون النهار!
, قالت "جلاديولس" بعصبية شديدة:
, -فتِّشوه
, اقترب الحراس ففاحت من أجسادهم رائحة الحطب المحترق، قلّبوا ملابسي وخلعوا عني معطفي، وفتشوني بدقّةٍ شديدةٍ ولم يعثروا بالطبع على الكتاب الذي سألتني عنه الأميرة "جلاديولس"، غمغم أحدهم وهو يرشقني بنظرة حاقدة:
, -يبدو أنّه لم يلتقِ بحراس المكتبة بعد يا مولاتي، وربما فقد الكتاب!
, قالت بازدراء وهي تتأمّل شعري المُهمل، وملابسي البسيطة التي كنت أرتديها بالبيت ، وعيني المتعبتين والمحلّقتين بالسواد من السهر على الكتابة طوال الشهر الماضي:
, -تلك السحنة وهذه الملابس لا تليق بمحارب، لا يبدو محاربًا أبدًا٣ نقطة
, ثُم التفتت "جلاديولس" لأحدهم وقد كان يقف خلفي مباشرة فالتفتُ معها في ذات اللحظة فأصابتني قشعريرة عندما رأيت وجهه الذي كان قطعة من الظلام تسبح بين طيّات الثياب، لا ملامح ولا عينين! هذا ليس ببشر!٣ نقطةلا بد أنّه شبح أو ربّما من الجان٢ نقطة
, قالت الأميرة موجهة كلامها إليه:
, -يبدو أنّك فشلت في مهمتك
, قال بصوت أجشّ غاضبٍ وكأنّه نابع من بئر عميق:
, -"المجاهيم" لا يفشلون في مهامهم أبدًا، كانت الصقور تردد اسمه في الأجواء منذ فترة، هذا كاتب وليس بمحارب.
, -وماذا سأفعل بهذا التافه! انظر إلى هيئته وثيابه الرثّة٣ نقطة
, شعرت بالدماء تتصاعد لرأسي، كرهت نظراتها لي ولثيابي، قال المسخ ردًا على كلماتها الأخيرة:
, -له دور في كل شيء يحدث هنا يا صاحبة الجلالة، وسيظهر المحارب ومعه كتاب "أيجيدور" لا ريب، فخطوطهما ستتقاطع هنا وسيكملان مهمة ما تتعلّق بالكتاب، احتَجِزوه لفترة وجيزةٍ وسيبحث المحارب عنه وعندها ستحصلين على الكتاب ستحلّ الأمور بشكل مختلف، ولن يحدث ما تخشين حدوثه، سأرحل الآن فقد وفّيت بوعدي وجاء دورك، لا تنسي وعدك ٣ نقطةلا تنسِي فنحن لا ننسى.
, قال جملته الأخيرة بنبرة لا تخلو من التهديد واختفى في لمح البصر بعد أن تركها وقد جمدت في مكانها للحظة وبدا عليها الخوف، لكنها حرّكت يدها في شعرها وهزّت كتفيها بخيلاء واستدارت ترفل في ثيابها السوداء محاولة إخفاء ما أصابها من هلع. سَبرتُ أغوار عقلي بحثًا عن كلمة "المجاهيم" لكنني لم أتذكر أنني كتبت عنها في رواياتي!، رحت أتخيل راجفًا كينونة هذه المخلوقات،كلّ شيء هنا أعرفه إلا هذا الذي يدّعي أنّه منهم! ولم أذكر أبدًا كتابًا بعنوان "أيجيدور" الذي سألتني عنه الأميرة! كما أنني لست محاربًا بالفعل!
, -ما اسمك؟
, باغتتني بسؤالها وكنت غارقًا في خواطري التي توالت كالبروق المتلاحقة حتى أنني تأرجحت في مكاني للحظة، أجبتها في الحال:
, -"يُوسف"
, قالت بغطرسة وجمود:
, -انقلوه إلى سجن قلعة الدَّيجور ريثما أفكر في أمره.
, قُلتُ بانزعاج شديد:
, -يا إلهي! هل تعين حقًّا مدى سخف ما تتكلمين عنه؟ سجن القلعة! حيث العذاب، والجثث المتفسّخة، ومخالب من حديد يرتديها حرّاس أغبياء في أصابعهم الغليظة و ينهشون لحم من يدخل إليهم بأمر منك٢ علامة التعجب
, التفتت بعصبية ورشقتني بنظرة مفعمة بالاحتقار وقالت:
, -قيّدوه في الحال، واسجنوه حتى نحاكمه .
, تمنيت لو انتهى الأمر هنا واستيقظت من نومي على صفعة من أحدهم ليوقظني من كابوس مزعج، أو بهزّة من يد حانية وهي ترقيني وتمسح على صدري كما كانت تفعل أمي، لكنّهم قيّدوني بالسلاسل وجرّوني خلفهم حيث يحيطنا الظلام من كلّ صوب، وفوق رؤوسنا السماء مدلهمّة يملؤها السحاب الأسود يملّس بعضه على بعض يتكثّف ويتداجي ويختنق، والجنود الغلاظ يحملون شعل النار يهتدون بها بين الأشجار، تتراقص انعكاسات اللهب على أكتافهم العارية، وقد أطلّت نيران "قلعة الدَّيجور" وسط الظلمة الحالكة من بعيد ونحن نسير تجاهها، هنا خفق قلبي بشدّة وخالجني شعور بالحزن٣ نقطة
, أين أنا؟
, وما الذي يحدث لي؟
, لقد ندمت تلك اللحظة أنني كتبت تلك الرواية بكل ما فيها من ظلم وقسوة، تذكرت الأميرة "هيدرانجيا"* وما حدث لها، لا أريد أن أعيش ما ستمرّ به تلك الجميلة، لا أريد أن أراه بعيني، راودني شعور بالذنب كاد يقتلني، شعرت بالوحدة وسرت معهم مشتت الفكر ثائر الوجدان أسيرًا لشخوص رواية مقيتة فشلت في أن أدوّن لها نهاية، ويبدو أن نهايتي ستكون على أيديهم هنا! ازددت غوصًا في تلك البيئة، وحياةً في هذا الحلم الغريب.
,
, هامش:
, "الهيدرانجيا" نوع من الزهور معناها القلب المخلص وهو من الزهور الأكثر شعبية واشتهر باستخدامه في باقات حفلات الزواج.
, ٥ العلامة النجمية
,
, مُوراي
, بذراعيه مفتولي العضلات وبقميصه الحنطيّ اللون والمفتوح على صدره النحاسي المكشوف كان يراقب أمواج البحر بلونه الرائق في صمت مهيب، السماء اللامتناهية برونقها تهدئ من روعه، كان يتمنطق بحزام عريض ماروني اللون بينما يعبث في أنشوطته ليحكم ربطها على بنطاله الكتّانيّ الفضفاض بعد أن خرج من البحر للتوّ، لا بدّ أن يعود الآن قبل أن يرخي الليل عباءته على المكان. على جبهته عَقد شريطًا بنفس لون حزامه، لا يدري لماذا يصرّ على تلك العصابة بلونها الماروني القاتم، ربّما لأنها بلون ثياب أبيه التي كان يرتديها ذاك النهار الذي خطفوه فيه من حِضنه منذ سنوات. عينان واسعتان انزوى فيهما حزن شديد، بينما انعقد بين حاجبيه غضب جارف، ورغبة حارقة في الانتقام. عندما نُزع من حِضن أبيه كان غلامًا صغيرًا في العاشرة من عمره يوشك على البلوغ، يلعب معه أقرانه من أبناء النوبة، بعد أن نزحوا في مجموعات من قريتهم في جنوب مصر، إثر معاناة قريتهم من ظلم شديد من أحد الأمراء، ورحلوا ليستقرّوا على شاطئ البحر الأحمر، وبدأ آباؤهم يمتهنون الصيد، فنشأوا وقلوبهم معلّقة بماء البحر الرائق، وعيونهم تذوب عشقًا في زرقته البديعة، كان يركض هنا وهناك، نقي السريرة، مشرق العينين على شفتيه استقرّت ابتسامة رائعة، يرى الدنيا جميلة بألوان طيفها السبعة، حتى انتزعوه من غيمة السعادة تلك ليلقوا به في ظلمة تلو ظلمة مع رفاقه، لا يعرف منهم إلا رفيق دربه وصديق طفولته الذي كان يلازمه كظله وقد سُرق معه في ذات اليوم. تمرّد الصغير فور أن اشتدّ عوده عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره وهرب من العصابة التي سرقته من أهله، وفرّ منهم وحيدًا بعد أن فشل في إقناع رفيق دربه الذي كان يستأنس به، استقر أخيرًا في قرية "الدحنون"* والتي اشتهرت بكثرة أزهار "خدّ العذراء" الحمراء في بساتينها، وفي الطرقات، وحول البيوت، حتى استحال كلّ انعكاس للضوء هناك أحمر مبهجًا زاهيًا وجميلًا.
, هامش:
, الدحنون : هي شقائق النعمان و هو اسم زهرة بريّة جميلة حمراء ارتبطت بالأدب العربي، قيل إنّها نبتت على قبر النعمان بن المنذر أشهر ملوك الحيرة، عندما داسته الفيلة لما رفض الخضوع لملك الفرس بتسليم نساء العرب له في معركة ذي قار، ولهذا نسبت إليه، في الأردن وفلسطين والشام والعراق يطلقون عليها الدحنون أو الدحنونة أو الحنونة.
, التقى هناك بالعجوز "مِسكة" التي كانت تعيش وحيدة في دارها على أطراف القرية، يعتزلها الناس رغم طيبتها ولا يزورونها إلّا قليلًا مما لفت نظره إليها، سألهم عن السبب فأخبروه أنهم يتشاءمون منها، فقد عثروا عليها في قارب مع مجموعة من النساء نازحين من أرض بعيدة، كنّ جميعًا في قارب واحد، وكانت الناجية الوحيدة من بينهن!، جلست المسكينة بين جثث رفيقاتها ولم تجرؤ على الإلقاء بهن في البحر، ولما لاحت لها قوارب الصيادين استغاثت بهم، تعجّب من نظرتهم القاسية لها فقد رقّ لحالها فأحسن إليها، التمست فيه ابنًا بارًا لها وكان خير الابن وخير الجليس. وعندما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ يعمل لينفق على نفسه وعليها، وكانت تحنو عليه كثيرًا واعتبرته حفيدًا لها. كان "مُوراي"* شابًا قويّ الشكيمة، صعب المراس، شديد الذّكاء يصعب السيطرة عليه، وكانت العجوز تعرف هذا عنه فكانت تتركه يخرج في رحلاته خارج القرية دون أن تسأله عن وجهته ولا متى سيعود، كان يعود في مرّات بغلام أو اثنين، وكثيرًا ما كان يعود بأكثر حتى صاروا يتكدسون في بيت العجوز "مِسكة " التي كانت ترق لهم، بعضهم استطاع "مُوراي" أن يعيده لأهله، وبعضهم لا، شاع في القرية أنّه لصّ ويسرقهم، وفي الحقيقة كان ينتزعهم ممن سرقوهم وينقلهم لبيت العجوز ليرعاهم حتى يبحث عن أهاليهم ويعيدهم إليهم، كان يبقيهم بعيدًا عن عالم السرقة والاستعباد والجوع والقهر حيث كانت تلك العصابات تستغلّهم وتربيهم على هذا، وأحيانا كانوا يبيعونهم بأبخس ثمن٢ نقطة هو يعرف هذا وقد ذاق ألوانًا من العذاب هناك، عاش "مُوراي" صلبًا، غلبت قوّة روحه قوّة جسده، وغلبت قوّة جسده قوّة حزنه، ثابت كالطود رغم ما ألمّ به من مصائب، غلب الحياة بما تميز به عن غيره، قُطعت وشائجه فوصلها بالعجوز وبالصغار ووصلهم ببعضهم البعض، كان يحاول صنع العائلة التي حُرم منها ليستأنس بهم.
, بدأ الجيران يشتكون "مُوراي" لكبار القرية، وتعرّض للكثير من التهديد، خرج ومعه "الحزاورة"*، هكذا كان يطلق عليهم، كانت كلمات أبيه تتردد في أذنه:
, -أتدري يا"مُوراي" أنت الآن مُميّز جدًا، لكنني أخشى عليك من الغدّ
, -لماذا يا أبي؟
, -لأنّك الآن من الحزاورة*
, -ماذا تعني؟
, -لقد اقتربت من البلوغ يا ولدي، ما زلت نقي السريرة، على فطرتك، لا تحمل غلًّا ولا حقدًا لأحد، نفسك التي بين جنبيك تشبه الحليب الأبيض الصافي الذي لم يتعكّر
, -وهل هذا حسن يا أبي؟
, -حتى الآن٣ نقطةنعم
, -فما يقلقك؟
, - شهواتك لم تستيقظ بعد، عندما تبلغ سيبدأ جهاد نفسك، ستصارعها يا "مُوراي"، فتمسّك بنقاء سريرتك ما استطعت يا ولدي، ودعني أزرع فيك ما ستفخر به غدًا، وسأدعم ما رزقك ** به من خصالٍ حميدة٢ نقطةفساعدني أرجوك، واقترب من ** لينزع عنك كل درن يعلق بنفسك، كن صديقي وسأكون صديقًا لك حتى آخر لحظات عمري، لو اجتزت تلك الفترة محتفظًا بنقاء نفسك ولم تتغيّر ستكون شابًا رائعًا، وغدًا ستحصد قمح رجولتك عندما يشتدّ عودك.
, كان الأب يوقّع كلماته بابتسامة، ثم يعانقه بحنان حتى ينصرف "مُوراي" من نفسه، لا ينزع ذراعيه عن عنقه أبدًا حتى ينزعها هو بنفسه٣ نقطةوأين ذاك الحِضن الآن!
, أحب الصغار "مُوراي" واتخذوه أخًا كبيرًا لهم، ذهبوا إلى البستان الذي اشتراه السيّد "بركات" تاجر الأقمشة الثري الذي ظهر في القرية فجأة وكان يبحث عن دار مناسبة تليق به وبابنته ليقيم فيها، كما كان يبحث عن خادم قويّ ومخلص، رحّب بـ "مُوراي" مستأنسًا بوجوده في بستانه الواسع وليقوم بحمايته وخدمة الخيول الثلاثة التي وجدها "بركات" في بستانه تحت شجرة بلوط عتيقة واكتشف أنّهم يتحدّثون بلغة البشر!، رفضوا الرحيل فاستبقاهم وأطعمهم، انتقل "مُوراي" للبستان وخرج من قرية "الدحنون" ومعه ما بقي من الحزاورة ورافقتهم العجوز "مِسكة " وانتقلوا جميعًا إلى البستان، حيث كانت "الجُمانة" تقف تحت الشجرة تحرّك عنقها يمينًا ويسارًا وتصدر صوتًا غريبًا والدموع تسيل من عينيها مما لفت نظر "مُوراي"! فاتجه إليها ودار بينهما حوار لم ينسه أبدًا.
, هامش:
, مُوراي: من الأسماء النوبية وتعني المصارع
, الحزاورة: جمع حَزْوَر وهو الغلام الذي قارب البلوغ، واللفظ ذكر في سنن ابن ماجة:
, "عن جندب بن عبد ** قال كنا مع النبي صلى ** عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا"
, اقترب منها بهدوء، وبدأ يمسح على رأسها بحنان، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يقترب فيها من فرس، تبدو رائعة، كانت ملامحه تتراقص بين الفرحة برؤيتها، والانبهار بجمالها، والتعجّب من دموعها، والحماس لامتطائها والركض بين الحقول والبساتين وعلى شاطئ البحر بسرعةٍ شديدة، وضع يده على ظهرها فارتجف جذعها، لكنّها لم تتحرّك، نظر في عينيها ورأى انعكاس صورة وجهه، حملّق في مقلتها وأنصت لكرير صدرها، وقف للحظات مسحورًا بجمالها، ما زالت دموعها تسيل! قال متعجبًا:
, -يا مِسكينة، لماذا تبكين؟
, قالتْ "الجمانة" بخفوت:
, -أُخفف الحمل عن قلبي، فالدموع رحمة
, شهق "مُوراي"، استحال جلده جلد إوزة، ابتعد عنها وازدرد ريقه بصعوبة وقال:
, -أتتحدثين بلغة البشر!
, -نعم، ألم يخبرك صاحب البستان؟
, التفت تجاه "بركات" الذي كان يراقبه من بعيد، هزّ الكهل رأسه ففهم "مُوراي" ما يرمي إليه، قال بصوت مرتعش:
, -لا٢ نقطةلم يخبرني، ولكن كيف؟ هل أنت مسحورة؟
, -لا
, -هل أنتِ من الجنّ؟
, -أنتم معاشر البشر تفسرّون كلّ شيء لا تعرفونه دائمًا بأنّه بسبب الجنّ! لست منهم يا فتى، لست من الجنّ!
, -كيف إذًا تحدثينني بلغة البشر!
, -إرادة **** تُحقق المعجزات!
, ثُمّ اقتربت منه بينما كان "بركات" يشير إليه من بعيد ليستمر في حديثه معها وقالت:
, -لا تخف مني يا٣ نقطةما اسمك؟
, رمقها بذهولٍ للحظات ثُمّ قال:
, -"مُوراي"، وأنتِ؟
, قالت برجاء وكانت تبحث عمّن ينصت إليها ويخفف عنها من البشر:
, -"الجمانة"
, ثُمّ أردفت:
, - أرجوك لا تخف منّي يا "مُوراي"، كن حنونًا كصاحب البستان
, عاد "مواري" ينظر لوجه "بركات" الذي كان يبتسم ويطمئنه يإيماءات مختلفة، قال بعد تردد:
, -حسنًا، أخبريني الآن، لم البكاء يا عزيزتي؟
, -أخبرتُك عن سبب بكائي٢ نقطة أخفف الحمل عن قلبي، طال غياب الحبيب
, -وأين ذهب هذا الحبيب؟
, -رحل فجأة، لا أدري إلى أين، ولا أدري متى سيعود، وأخشى ألّا يعود
, وعادت للبكاء، قال وقد رقّ لحالها:
, -ظننتُ أنّ الخيول قويّة، فلم البكاء؟، أليست الدموع سلاح الضعفاء؟ وراية المستسلمين!
, قالت بخفوت:
, -ربّما أنا ضعيفة، ولكن ليست الدموع دائمًا هكذا، قد تكون أحيانًا منتهى القوّة!
, -كيف؟
, -دموع التائبين منتهى القوّة، لأنّها لله، فهؤلاء الذين قهروا شهواتهم ويبكون نادمين شوقًا لمرضاة ****، أما أنا فدموعي منتهى الضعف، فأنا أذوب حزنًا وشوقًا لمخلوقٍ ضعيف مثلي، فؤادي مذبوح يا "مُوراي".
, أضاءت عيناه وقال بنبرة يشوبها الحنين لوالديه:
, -يقولون إن أغلى دموع هي دموع الأب والأم، وأصدقها دموع المظلومين.
, -ودموع المحبين٢ نقطةأليست غالية؟ أعاني الوجد، والنجوى، والشوق، والشغف يا "مُوراي".
, حرّك كتفيه متعجبًا وقال:
, -وما كلّ هذا؟
, -كلّها من معاني الحبّ، أما تدري عن الحبّ يا فتى؟
, شرد "مُوراي" بعينيه وقال:
, -لم يزر قلبي إلّا حبّ أبي وأمي، لا أعرف ما الوجد الذي تتحدثين عنه!
, رفعت "الجمانة" رأسها وقالت:
, -الوجد هو الحب المشوب بالتعاسة والحزن من كثرة التفكير في المحبوب.
, -وما النجوى؟
, -النجوى أعظم من الوجد، فيها حرقة للفؤاد٣ نقطةويا لها من حرقة!
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال:
, -أيّ حبّ هذا الذي يحرق الفؤاد!، لا حاجة لي به، أريد حبًا حلوًا وعذبًا أسافر فيه للمحبوب بقلبي وروحي كما يقولون فأسعد وأهيم بحبيبتي إن وجدتها يومًا ما.
, -ذاك الشوق يا "مُوراي"، يحملك على جناحه بقلبك وعقلك وروحك للمحبوب.
, -حقًا! ظننته الهُيام!، على العموم كلّه حبّ في حبّ٢ نقطةلا تعقّديها أيتها الفرس العجيبة.
, -الهيام؛ وما أدراك ما الهيام! الهُيام نوع من الجنون والذوبان في المحبوب، والهائم ضائع لا يرشده إلّا حبيبه٣ نقطةإنّه مجنون!
, قال ضاحكًا:
, -لا أريد أن أجنّ٢ نقطةسأختار نوعًا واحدًا٣ نقطةيكفيني الشوق، ما رأيك؟
, -ليته باختيارنا٣ نقطةنحن لا نختار، الحبّ يقع على قلوبنا كما يسقط المطر.
, -لكننا نملك أن نغلق الأبواب التي تورده للقلب! ونستظل من هذا المطر المفاجئ!
, -كيف؟
, -نحن البشر نختلف عنكم، أمرنا **** بغضّ البصر والاستعفاف، وتلك هي الحصون التي نتحصّن بها، فليس الذي يرى كمن لا يرى، وليس الذي يُمعن النظر ويتفحّص كمن يصرفه سريعًا،٣ نقطةأخبرني أبي بهذا.
, -وبماذا أخبرك أيضًا؟
, -أن الحبّ ليس مجرّد نظرة واشتهاء! بل هو أعظم.
, ربّت "مُوراي" على رأسها وقال:
, -أعانك **** يا عزيزتي.
, ثُمّ أردف قائلًا:
, -رفقًا بنفسك، يكفيك لونان من هذا الحبّ!
, -وماذا أفعل ولي قلب غرفاته واسعة، أنا أحبّ زوجي بكلّ ألوان الحبّ.
, هزّ كتفيه وقال لها:
, -لكنّ هذا يحزنك، ويؤلمك٢ نقطةودموعك الدليل!
, قالت بنبرة ممزقة حزينة:
, -نعم، يؤلمني٣ نقطة
, -أتعلمين؟ وأنا صغير كان أبي يخبرني أن للحزن أجنحة يطير بها، فكنت أغمض عينيّ وأتخيل الحزن يطير ويحلّق بعيدًا عنّي، أما وقد كبرت، الآن أحرر أحزاني وأنا أتأمّل على شاطئ البحر، اطلقي سراح أحزانك هناك، الأمر بيدك٣ نقطةمن هنا البداية
, وأشار إلى رأسه، فقالت بانكسار:
, -كيف؟٢ نقطةوأنا أشعر بالحزن وكأنّه جدار مصمت عنيد يحيطني من كلّ صوب.
, -وإن كان جدارًا ٣ نقطةفحطّميه، حطّمي هذا الجدار أو تسلّقيه إن شئت واقفزي وانجي بنفسك، واختاري لها أرضًا تليق بها.
, -وماذا لو لم يكن بيدي أن أختار يا "مواري"!
, -ستبقين حزينة يا "جمانة"، على العموم٢ نقطةربّما تحمل الأيام ما يجلّي عنك حزنك.
, -ربّما نعم، وربّما لا. أتدري؛ أحيانًا نظل عالقين بالوطن، نحبّه وإن غادرنا أو غادرناه، نرغب في وصاله وحسب، نحنُّ إليه، ومهما فصلت المسافات بيننا٣ نقطةنشتاقه!
, هزّ "مُوراي" رأسه بثقة وقال:
, -الشوق للأمان، وللسكينة، أنتِ تشتاقين لنفسك التي بين جنبيك وليس للأرض في حدّ ذاتها، تفتّشين عن لحظات الطمأنينة والسعادة والحبّ التي عشتِها في ذلك الوطن.
, -أصبت يا "مُوراي"، لكنني لا أعني الأرض، بل أعني وطني!
, -ماذا تقصدين؟
, -أشتاق إلى زوجي "حيزوم"، زوجي هو وطني يا "مُوراي"!
, ران عليهما صمت لطيف قال بعدها "مُوراي" بعد أن تنهّد بعمق:
, -وأنا أيضًا أشتاق لوطني، أشتاق لحِضن أبي.
, مرّت بهما نسمات الهواء البارد تصافح وجهيهما بدلال وكأنّ حديثهما عن الحبّ راق لها فاقتربت تتنصّت، كلاهما كان ساهمًا يسبَح في رحاب وطنه الغائب عنه، ذاك الوطن الذي يتنفّس، الحِضن الذي على ضيقه يتسع للمحبوب. قطعت "الجمانة" هذا الصمت بعذوبة عندما قالت:
, -هيّا بنا.
, -إلى أين؟
, -سأصحبك في رحلة، ألا تحبّ ركوب الخيل؟
, أشرق وجهه بابتسامة عذبة واسعة، واقترب ليركب "الجُمانة" التي صهلت بعذوبة ثُمّ انطلقت وهي تحمله وهملجت في البستان، اختارت "الجمانة" اليوم فارسها ومنحته شرف ركوبها، كان يشعر أنّه يحلّق في الهواء، خرجا منه واتجها نحو شاطئ البحر فرحبّت أمواجه بهما، ظلّت "الجمانة" تركض، وتركض، وتركض،٤ نقطةوتنثر الرمال هنا وهناك بينما فارسها ينثر ويبعثر ضحكاته في الهواء.
,
, ٤ العلامة النجمية
, "يُوسف"
, كان القيد يؤلمني بينما الموكب يسير أمامي وأحد الحرّاس يجرّني بالسلاسل خلفه، جوربي لم يحم قدميّ من الجراح التي أصابتني من الأشواك المتناثرة وأغصان الأشجار الجافة والأحجار الحادّة الحروف والحصى الصغير المدبب حتى استحال لون خيوطه أحمر من دمائي التي تسيل عليه، كنت أتأوّه وأتألّم كلّما خطوت خطوة وكانوا يلاحقونني بالأسواط، شعرت بالمهانة والذلّ. من بين أغصان الأشجار كانت هناك عينان تبرقان وسط الظلام، شعرت أنّ هناك من يراقبنا ويتبعنا، تارة تظهر العينان بين الأشجار القصيرة، وتارة أراهما فوق شجرة عالية، وتارة تختفيان حتى أنني انشغلت للحظات عن ألم جراحي بمتابعتهما. وصلنا أخيرًا وفُتّحت لنا أبواب القلعة، دلفوا يجرونني وألقوا بي في سرداب نتن الرائحة يمتدّ أسفل القلعة، كنت أعرف الطريق، وكيف لا أعرفه وقد وصفت التفاصيل بدقّة عندما كنت أكتب عن المسكينة "هيدرانجيا" عندما أسروها وألقوها في غياهب الظلمة هناك وعذّبوها. ألقوني على الأرض فتكورت في ركن أتألّم، غبت عن الوعي لفترة لا أعلم قدرها، ولم يوقظني إلّا دلو الماء البارد الذي غمر رأسي فجأة ففتحت عينيّ لأفاجأ بوجوههم القبيحة مرّة أخرى، عطست عطسة آلمني إثرها كل ضلع من أضلعي، يبدو أنني أصبت بالبرد، قال أحدهم بصوت قميء:
, -نمت طويلًا أيها البائس، هيّا٢ نقطة
, -إلى أين؟
, -الملك "كرشاب"* يطلب رؤيتك
, هامش: كرشاب اسم نوبي ومعناه الوجيه
, شعرت بارتباك شديد! "كرشاب"! ما الذي أتى به هنا!، هذه شخصيّة من رواية أخرى! وهو أمير نوبي ذكي ونابه، ما الذي أتى به إلى قلعة الدَّيجور!، صحت وهم يسحبونني وتتوالى ركلاتهم وضرباتهم على ظهري:
, -أين الملك "آسر"؟ والملكة "جلنار"؟
, قهقه الحراس وقال أحدهم:
, -منذ متى صار خادم الإسطبل ملكًا أيها الأحمق!
, قال آخر بتهكم:
, -و"جلنار" التي تغسل الملابس صارت ملكة! يا للعار!
, علت قهقهاتهم وازداد ارتباكي، يبدو أن هناك الكثير من المفاجآت تنتظرني هنا، لم يكن "آسر" خادمًا في روايتي، ولم تكن "جلنار" تغسل الملابس، ولم يكن "كِرشاب" هنا في قلعة الدَّيجور٢ علامة التعجب سألتهم بعد أن هدأت ضحكاتهم:
, -ما العلاقة التي تربط الأمير "كِرشاب" بالأميرة "جلاديولس"؟
, أجابني أحدهم بازدراء:
, -الأمير"كِرشاب" في استضافة الأميرة "جلاديولس"، وقد سمع عنك منها، ويودّ أن يراك الآن في الحال.
, تمتمتُ بخفوت وكنت أخشى من البوح باسمها:
, -وأين "الأميرة "هيدرانجيا"؟
, تلفتوا في تعجّب واستغراب وهزّوا أكتافهم، لم يعرفوها! لم يسمع عنها أحد منهم من قبل، بل وسألوني عن معنى اسمها الغريب كما وصفوه، ابتلعت حيرتي وسرت معهم بين أشجار حديقة القلعة الواسعة التي جفّت أغصانها وتساقطت أوراقها وصارت كخيالات المآتة المخيفة، وكيف لا وقد غاب عنها ضوء الشمس، انمحى الخضار وحلّ السواد محلّه، ما عادت تلك حديقة بل هي مقبرة!
, درنا حول البناء تحيطنا الظلمة من كل صوب، ما زالت قدماي تؤلماني بشدّة، أصبت بجروح جديدة وأنا أسير وبدأت الدماء تسيل من قدمي، فور أن دلفنا إلى قاعة كبيرة وفخمة في صدرها عرش عظيم تجلس عليه الأميرة "جلاديولس" بكبرياء وأضواء النيران المشتعلة والمعلّقة على الجدران تنعكس على وجهها الفاتن، صاح شاب قويّ البنية، طويل القامة، أدركت في الحال أنّه "كِرشاب"، له وجه جريء ذو فكّ عريض، كان يرفل في ثياب أنيقة تنمّ عن ذوق رفيع وقال مندهشًا:
, - انظري لقدميه، دماؤه حمراء لا تشبه دماءنا!
, قالت "جلاديولس" باهتمام:
, - هو بالفعل يختلف عنّا
, -وربّما هو من جنس آخر، أو أصيب بمرض ما تسبب في تغير لون دمائه فقط
, -ذاك المسخ الذي أخبرتك عنه من عشيرة المجاهيم قال لي إنّ هذا كاتب، من هؤلاء الكتّاب الذين سمعنا أخبارهم يتناقلها الناس في مملكة البلاغة، يقولون إن له دورًا فيما يحدث هنا، ما رأيك؟
, اقترب "كرشاب" مني وطالع وجهي بتمعّن وقال:
, -أشعر أنني أعرفه، وكأنني رأيته من قبل!
, قلت هامسًا وقد كان قريبًا مني وأنا أركز في عينيه القريبتين وقد بدونا بنفس الطول:
, -وأنا أعرفك، أعرف كل تفاصيل حياتك، كيف كنت تحبّ والدك، وكيف تألّمت عندما مات بين يديك وأنت صغير، وكيف تكره الوحدة والموت والليل، وكيف عانيت بعد زواج أمك عندما انتقلتم للقصر الجديد، وأعرف عن كرهك للسلطة وللقتل وللظلم.
, بُهت الأمير "كِرشاب" من كلماتي، ارتجفت شفتاه، تراجع للخلف خطوتين ورشقني بنظرة غريبة ثُمّ قال:
, - أعرّاف أنت؟
, -لا ٣ نقطةلكنني كتبتك٢ نقطةأنت شخصيّة من خيالي
, -ماذا!٣ نقطةأنت مجنون!
, ثم ضحك بسخرية و استدار وسار نحو عرش الأميرة "جلاديولس" وقال بتهكم:
, -يقولون إن الكتب حية وتستدعيكم للدفاع عنها
, ثُمّ التفت تجاهي وسألني:
, -أين كتابك الحيّ؟
, طالعتني "جلاديولس" بنظرة سريعة وقالت:
, -ربّما هو محارب وقد فقد كتابه، فلننتظر ونراقب.
, قال "كِرشاب":
, -لكن الكتاب لم يستدعه٤ نقطةبل أنتِ و"المجاهيم"، أنتم تعبثون٢ نقطةوربّما تتسببون في المزيد من المشاكل
, ظهر الضيق على "جلاديولس" فزمجرت ثُمّ أشارت للحراس فجرّني اثنان نحو زنزانتي مرّة أخرى، في طريق عودتنا كنت أشعر بنفس العينين تلاحقاني وسط الظلمة من فوق سور القلعة الذي كنّا نسير بمحاذاته، فور أن اقتربنا من سور القلعة سقط حجر على رأس أحدهما وقفز شاب برشاقة من فوق السور على ظهر الحارس الآخر ثُمّ صارعه قليلًا وطرحه أرضًا وظلّ يلكمه حتى أفقده وعيه بجوار الأوّل وعاد ليحاول فكّ قيودي، أفلح في فك قيد قدميّ وبقي قيد يديّ فركضنا معّا نحو السور، لم أكن أرى شيئًا سوى بياض عينيه، كان هناك فرس يقف بهدوء وكأنّه صنم من حجر، أخبرني الشاب أن أصعد فوقه وساعدني ثُمّ صعد بجواري ورفعني لأقفز من فوق السور، وما أصعب أن تقفز من فوق سورٍ وأنت مقيّد اليدين٢ نقطةسمعته يتحدث لأحدهم قائلًا:
, -عُد الآن إلى الإسطبل وأعدُك أن أعود لأحررك
, تناهى إلى سمعي صوت حمحمة الفرس ثُمّ صوت خطواته تبتعد، قفز الشاب وركض فركضّتُ خلفه وأنا لا أعرفه، أدركت حينها أنّه من كان يتبعنا ويراقبنا من بين الأشجار عندما جرّني الحراس إلى القلعة، أصابتني نوبة من السعال فالتفتَ ينبهني أن أكتمه، عندما ابتعدنا عن القلعة بدأ بصيص من الضوء يطلّ من بعيد، كانت عيناي متعبتين من السواد والظلام الحالك الذي عايشته طوال وقت احتجازي في سجن قلعة الدَّيجور، شيئًا فشيئًا بدأت أرى كلّ شيء بوضوح، كان شابًا فارعًا ، قويّ البنية لا ريب أنّه نوبيّ أصيل، التفت نحوي فلاحظتُ العصابة المارونية اللون التي يربطها على جبينه، أخبرني أننا اقتربنا، سألته بصعوبة من بين أنفاسي المتلاحقة:
, -ما اسمك؟
, -"مُوراي"
, خفق قلبي وصحتُ:
, -يا إلهي! أنت من٣ نقطةمن الحزاورة!
, ألقى عليّ نظرة ثُمّ استردها وقال بمرارة:
, -لم أعد منهم٣ نقطة
, رحتُ أتأمّله، يا له من شاب! جبين متغضّن متألّم، ونظرة راقية يوشيها حُزن غامض، قلتُ له:
, -أنا أعرفك، كم عمرك الآن يا "مُوراي"؟
, -أنا في السابعة عشرة من عمري٣ نقطةلم تسألني!
, قلت مترددًا وقد خشيت ألّا يُصدّقني:
, -كتبت عنك يا صديقي، لكنني لم أتوقع أن أراك وقد مرّ على اختطافك من أبيك سبع سنوات! هناك شيء غريب يحدث هنا!
, رسم على وجهه علامة الخبير وقال:
, -إذًا ما يتردد في القرى صحيح، وأنت كاتبٌ بالفعل، سمعت الأميرة "جلاديولس" تخبر الأمير "كِرشاب" عنك.
, -أكنت هناك؟
, -نعم، أستطيع دخول القلعة والخروج منها من آن لآخر، في الحقيقة وجود حرّاس من النوبة برفقة الأمير "كِرشاب" ساعدني على الدخول والخروج، فأنت تعلم أنّ كل سكان قلعة الدَّيجور ليسوا من أهل النوبة، كما أنّ "أبهر" يساعدني
, تسارعت دقّات قلبي وقلت مذهولًا:
, -"أبهر"! لا٣ نقطةلا تخبرني أنّه حصان يتكلّم بلغة البشر٢ نقطة
, -وكيف عرفت؟
, -إنّه من خيول "الكحيلان" يا "مُوراي"
, -لكنّهم لا يسمون أنفسهم بهذا الاسم، يقولون أنّهم خيول "أوبالس"! هكذا أخبرتني الخيول الأخرى التي التقيت بها بالبستان الذي أعيش فيه
, -"أوبالس"! لماذا هذا بالذّات؟٤ نقطةغير معقول!
, -وما الغير معقول!
, -تلك الخيول عربية أصيلة، ألم تلحظ أسماءهم يا فتى، ألا تعرف معاني تلك الأسماء؟، سأخبرك بقصّتهم بالتفصيل
, استوقفني بيده قائلًا بجديّة:
, -انتظر حتى نصل إلى البستان الذي نعيش فيه، قبل أن ينتبه حراس قلعة الدَّيجور لغيابك
, -حسنًا فلنكمل طريقنا٣ نقطةأسرع وسأتبعك
, وركضنا معًا حتى غمرنا النور وابتعدنا عن تلك الظلمة الكثيفة التي تغطي قلعة الدَّيجور وما حولها، التفتُّ أراقب السّحب السوداء من بعيد، شعرت ببرد شديد فجأة!، وكأننا انتقلنا لفصل آخر من فصول السنة، أكملت سيري وأنا أرتجف وداهمتني نوبة السعال مرّة أخرى وكان صدري يؤلمني، بدأ أنفي يرشح، وآلمني حلقي، وشعرت بإعياء شديد. شردت قليلًا ثُمّ عدت أتأمّل "مُوراي" وهو يسير بجواري، شاب رائع مفعم بالآمال والأحلام، شعرت بعطفةٍ شديدة تجاهه، أعرفه، أعرف هذا الصغير٣ نقطةبل٢ نقطةالشاب! كيف صار شابًا؟ لا أدري!
, كُنت أعرف كيف قهره اللصوص وكيف نزعوه من حِضن أبيه وأوسعوه ضربًا حتى فقد وعيه وحملوه، دمعت عيناي وأنا أكتب عنه، كان يذكر رائحة أبيه ولون ملابسه، حتى رائحة الحبال المالحة على الشاطئ لم ينسها، فقد كان أبوه صيادًا ماهرًا، لم أكتب نهاية لرواية "الحزاورة"، ولا رواية "خيول الكحيلان"، ولا رواية "القلب المخلص" التي كتبتها عن الأمير "كِرشاب" ولا رواية "قلعة الدَّيجور"، وما يذهلني أن الشخوص تتقاطع هنا،كما أن بلوغ "مُوراي" وكونه الآن في السابعة عشر من عمره أربكني!
, توالت الأسئلة على رأسي٤ نقطة
, هل أنا أعيش في عالم رواياتي المبتورة النهايات؟
, أم هذا عالم آخر موازٍ يشبه ما ألّفته من أحداث وما ابتكرته من شخوص؟
, لماذا "آسر" ليس ملكًا بقلعة الدَّيجور؟
, وكيف تغسل جلالة الملكة "جلنار" الملابس؟
, لماذا خيول "الكحيلان" غيّرت اسمها من اسم عربي أصيل إلى خيول "أوبالس"؟
, بل وما الذي أتي بـ "أبهر" لقلعة الدَّيجور أصلا! وأين باقي الخيول؟
, وأين اختفت الأميرة "هيدرانجيا"؟
, وكيف أصبح "مُوراي" شابًا يافعًا والرواية في أصلها عن غلمان صغار على وشك البلوغ سُرقوا من أهاليهم وشردوا في البلاد ومنهم "مُوراي"!
, سرت أتخبط في حيرتي وما زال القيد يحيط بمعصميّ، وصلنا أخيرًا لبستان كثيف الأشجار، ذاك البستان الذي كانت الخيول تستوطنه في روايتي مع فارسها الذي فقد قبيلته كلها في حرب مع قبيلة مجاورة وبقي وحيدًا مع عشرة من الخيول الأصيلة التي كانت لأهله وعشيرته، سار في الصحراء وحيدًا، يائسًا، حزينًا، كان يحدّث نفسه ثُمّ بدأ يحاور الخيول ويتحدّث معها، يحكي عن مجد آبائه وأجداده، ويبكيهم حزنًا وقهرًا، وكانت تنصت إليه، وفوجئ أنّها تفهمه وتردّ عليه بلغة البشر٣ نقطةولكن! أين هذا الفارس الآن؟
, فور أن دخلنا إلى البستان شعرت بسكينة، همست لـ "مُوراي" قائلًا:
, -لماذا ساعدْتني؟
, توقف والتفت إليّ وطالعني بنظرة عميقة تركت أثرًا في نفسي وقال:
, -أنت تعرف مكان أبي٢ نقطةأليس كذلك؟ ألست كاتبًا أو محاربًا؟ يقولون إنّكم تعرفون عنّا الكثير٢ نقطة
, أجبته بلا تفكير:
, - سنجده معًا يا "مُوراي" إن شاء الله٢ نقطةلا تقلق
, غمرت وجهه ابتسامة واسعة فأماطت اللثام عن أسنانه النّاصعة البياض، وضع سبابته على فمه مشيرًا إليّ حتى لا أحدث صوتًا، ثُمّ هرول تجاه بناء بسيط من الطين مسقوف بجريد النّخل ومدعّم بجذوع الأشجار له باب خشبيّ أنيق مصنوع بإتقان، سحب جرابًا مصنوعًا من جلد الماعز برزت منه أدوات حديدية كان معلّقًا على جدار البيت وسار مبتعدًا فتبعته إلى الجهة الأخرى من البستان حيث رأيت كوخين بجوار شجرة بلوط عتيقة ربط بجوارها ثلاثة من الخيول فور أن رأيتهم عرفتهم، إنّهم أيضًا من خيول الكحيلان، "الجُمانة"، و"البيضاء"، و"الشقراء"، ألوانهن وتلك العلامات التي على أجسادهن لا تخفى عليّ أبدًا٢ نقطةأردت الحديث عنهن مع"مُوراي" لكنّه كان مشغولًا بتحضير أدواته ليكسر قيدي، أجلسني وطلب مني أن أضع يديّ على جذع شجرة مقطوعة، وضعتهما أمامه وبدأ يبرد حلقة القيود الحديدية بالمبرد، جلست أراقب عينيه، ذاك الغضب القابع بينهما يؤلمني، وهذا الحزن الذي ينزوي هناك يوجعني، ليتني ما كتبت عنه ما كتبته، القوّة التي بدت على محيّاه وجسده طمأنتني قليلًا، لقد عركته الحياة فصار رجلًا، حلّ قيدي بمهارة فوقفت أتحسس معصميّ وكنت متعبًا للغاية، بدأ يحدثني وكنت أشعر بحرارة تجتاح جسدي، يبدو أنني أصبت بالحمّى، سقطتُ بين يديه بينما كان ينادي على أحدهم، شعرت بدوار شديد، كنت ممددًا على أرض البستان بينما هناك بعض العيون تحملق في وجهي وقد أحاطوا بي من كلّ جهة، يبدو أنّهم "الحزاورة" ومعهم عجوز لطيفة، تقف متدثرة بشال من الصوف مشمشي اللون، كانت كفّها الحانية آخر ما شعرت به على جبيني قبل أن أفقد الوعي تمامًا، من هي تلك العجوز٢ علامة التعجب
, ٥ العلامة النجمية
, بركات٢ علامة اقتباس
, صمت رهيب يلف المكان، وكأن الإنسانية قاطبة قد تبخّرت، ذاب جليد صبرها وبدأت شجاعتها تنكمش، كانت "الترياق" ساكنة تقف بخشوع وتهزّ ذيلها ولا تصدر صوتًا حتى أن الشك قد راود "حبيبة" أنّها كانت تتخيّل أنّها تحدثت إليها منذ قليل، كادت تسألها عن سبب صمتها لولا طيفه الذي لاح من بعيد. مدّت يدها لحقيبتها وتحسست خنجرها وقبضت عليه بشدّة، كانت متحفّزة لذاك الذي يقترب من بعيد،كان كهلًا* يحثّ الخطى مسرعًا، ومستندًا إلى عصاه العجراء بيده اليمنى، بينما يمسّد لحيته بيده الأخرى. سحنة طيبة مريحة طمأنتها قليلًا لكنّها ظلّت تقبض على خنجرها ويدها مدسوسة داخل الحقيبة، حيّاها بلطف وهو يقترب، تحتلّ وجهه ابتسامة مشرقة، استند الكهل إلى عصاه ووقف يلتقط أنفاسه، بدا وكأنه سار لمسافة طويلة، كان نحيلًا وطويلًا، وكان مهيبًا في ثوبه الحنطي اللون والفضفاض، له عينان تكشفان عن نفس قوية، بدأ يرحّب بـ"حبيبة" التي اقتربت منه بحذر وأخبرته أنّها ضلّت الطريق، وتريد الخروج من تلك الغابة، كانت حريصة ألا تخبره عن كتابها، سألته إن كان قد لاحظ سقوط صقر أصابه البرق في جناحة فسقط وسط الأشجار، ابتسم الكهل ابتسامة تشي بأنّه فطن إلى شيء ما وقال وهو يشير للسحب في السماء متجاهلًا سؤالها عن الصقر:
, -ستُمطر مرّة أخرى، لا بدّ أن نسرع يا ابنتي
, هامش:
, الكَهْلُ: هو مَنْ جاوز الشبابَ ولمّا يصل سنَّ الشيخوخة بعد، وهو الذي خطه الشيبُ
,
, وأشار إلى درب طويل تتفرّع منه ممرات عديدة محفوفة بأشجار السنديان يمينًا ويسارًا ففهمت أنّه يدعوها للسير معه، لاحظ أنّها بلا حذاء فأشفق عليها، وطلب منها أن تركب "الترياق"، وأسرع في خطاه فتبعته بعد أن ركبتها، سارا معًا بين الأشجار، سألته "حبيبة" باهتمام:
, -إلى أين؟
, كان الكهل يسير بين الأشجار وبدا أنّه يحفظ الطريق بينها، قال دون أن يلتفت إليها:
, -سنحضر ابنتي "رفيف" ثُمّ نذهب إلى بيتنا
, كان يتلفّت بين فينةٍ وأخرى ويتأمّلها، قال بصوتٍ دافئ:
, -انتبهي يا ابنتي، المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة.
, أجفلت "حبيبة" عندما سمعته يدعوها بالمحاربة وسألته بفضول:
, -وكيف عرفت أنني محاربة؟
, أجابها بابتسامة خفيفة قائلًا:
, - الكلّ هنا يعرف طريقه، ولا تبدو الحيرة إلا على وجوه المحاربين.
, ثُمّ صمت هنيهة وقال:
, -لم تخبريني عن اسمك
, قالت بابتسامة لطيفة:
, -"حبيبة"
, ثُمّ ربتت على رأس الفرس وقالت:
, -وهذه "الترياق" من خيول٣ نقطة
, قاطعها قائلًا وعلامات القلق تتمشّى في ملامحه:
, -أعرف تلك الخيول٣ نقطةأعرفها جيّدًا يا ابنتي٣ نقطة
, ثُمّ هزّ رأسه واغتصب ابتسامة وقال:
, -وأنا "بركات" والآن أسرعي٣ نقطةفقد تأخّرنا على "رفيف".
, كان كلامه موجزًا دون كلمات مطنبة أو مسهبة، من بعيد كانت "رفيف" تقف على شاطئ البحر تحملق في زُرقته الرائعة، أمواج البحر تتوالى على قدميها تلثمها برفق وتنسحب بنعومة نحو البحر، يا لها من فتاة رقيقة! كانت الفتاة بيضاء وكأنّها اغتسلت في نهر من حليب للتو! بياض وجهها غريب! بدت وكأنّها مسحورة تراقب الأفق بشرود وعلى عينيها استقرت نظرة سكون عميقة، ضربت الرياح بطرف ردائها الفضفاض فبدت دقّة ساقيها، اخترقت أصواتهما **** الصمت الذي كانت تلوذ به فانتفضت ثُمّ استدارت وهي تعدّل وشاحها الخزامي اللون وابتسمت بلطف لـ "حبيبة" التي ترجلت عن الفرس لتسلّم عليها، فأقبلت الفتاة" تحتضنها وكأنّها تعرفها وتألفها منذ زمن، في تلك اللحظة أرخت "حبيبة" يدها وتركت الخنجر في الحقيبة، الآن بدأت تطمئن٣ نقطة سارت بجوارهما وهي تمتطي "الترياق" نحو بيتهما، تذكّرت صيحة "قطرة الدمع" قبل أن تلقي بها في البحر، وكيف كان صوتها يحمل الكثير من الفزع فالتفتت تجاه الكهل، وسألته:
, -هل من الممكن أن أسألك سؤالًا قد يبدو غريبًا؟
, -تفضّلي
, -هل التقيت بأحدٍ من أهل النوبة في طريقك إلى هنا؟
, -بالتأكيد، ستلتقين ببعضهم قريبًا حيث أسكن مع ابنتي ومعهم
, -من أين أنت؟
, زمّ عينيه وقال:
, -من بلاد بعيدة، وأتيت للتجارة، وسأعود لوطني يومًا ما
, شردت "حبيبة" قليلًا وأخذت تفكّر في صياح "قطرة الدمع" وما حدث لها، بدأ حماسها يشتعل لإتمام مهمتها الغامضة وآنست برفقتهم، "بركات"، وابنته "رفيف"، وتلك الفرس الرائعة٣ نقطة"الترياق"، قررت أن تبحث عن قطرة الدمع في وقت لاحق بعد أن يهدأ المطر، لا بدّ أن تلتقي بـ"المغاتير" أو بحرّاس المكتبة٣ نقطة لتستنير بإرشاداتهم قبل أن تبدأ رحلتها.
, وصلوا أخيرًا إلى بستان فردوسي رائع كثيف الأشجار، أسبلت عليه الطبيعة ثيابًا سندسية موشّاة بجلالها القدسي، فأوت إليه البلابل والعصافير وانطلقت تشدو وتغرّد مترنمة بجمال الكون البديع، هرولت "الترياق" نحو ثلاثة من الخيول كانوا تحت شجرة هناك، بدا وكأنّها تعرفهم، أصدروا ضجيجًا عندما رأوها تقترب وصهل فرس منهم بعذوبة، كان هناك بعض الغلمان يحيطون بشاب قمحي البشرة له شعر ناعم وكثيف وطويل إلى حدّ ما، كان ممددًا على أرض البستان بدا وكأنّه فاقد لوعيه، كانوا يغسلون رأسه بالماء ويحاولون إفاقته، تأمّلت ملابسه التي تشي ببساطة حاله وفقره، يبدو مسكينًا بمعطفه المهترئ هذا وجوربه الأرجوانيّ المثقوب، استوقفها أن ملابسه تختلف عن ملابس كل من بالبستان، إنّه معطف يشبه تلك الملابس التي اعتادت عليها "حبيبة" في عالمها، لاحظت بنطال منامته الصوفية أيضًا! أدركت الآن أنّها تقف أمام محارب آخر مثلها٣ نقطةالآن التقت به، هنا على أرض مملكة البلاغة، تماما كما التقت "مرام" بـ "أنس"، جلست تراقب الجميع في حيرة، يبدو أنّهم جميعًا من النوبيين، ما عدا "بركات" وابنته، وهذا الشّاب الغريب، أعارتها "رفيف" حذاء من أحذيتها، فارتدته في الحال وجلست تفكّر، ترى ما الذي تخبئه لها تلك المملكة العجيبة!
امتياز وإبداع
ف النقل والأسلوب
متميز دائما يا صديقي
🖐️
 
  • عجبني
التفاعلات: ناقد بناء
١٠
قرية الدحنون
, وقف "يوسف" ورفاقه عند حدود قرية "الدحنون"، لم يتمكنوا من اقتحامها فقد رفعت "لؤلؤة" ذراعيها وحجزتهم ثُمّ دفعتهم جميعًا للخلف، شقّت "مَيسان" الصفوف وأزالت الحاجز غير المرئي الذي صنعته ابنتها ونادتها:
, -"لؤلؤة"
, صُعقت "لؤلؤة"، وقالت بخفوت:
, -أمّي!
, ارتسمت على وجه "أُوبالس" ابتسامة صفراء يوشيها الحقد وهدر قائلًا:
, -وأخيرًا ظهرت المأفونة، مَن تظنّ نفسها من الملائكة. تدّعي الحكمة! وها هي تقف في صفوف العدوّ. يا لها من حمقاء!
, قالت "مَيسان" باستنكار:
, -أيّ عدوّ! هذا "يُوسف" الذي تُحبّه يا "أُوبالس"!
, قال "أُوبالس" في عنجهية:
, -ما عاد قلبي يهفو لأحد
, -فلنعد إلى أرض "أوبال" معًا، ونجمع بناتنا في بيتنا مرّة أخرى، لا حاجة لنا بسلطان أو جاه، وأنت لا تحتاج للتاج، يكفينا الحبّ٢ نقطةالحبّ الذي ذقته على يديك
, -حمقاء، أنتِ حمقاء يا "مَيسان"، تريدين منا أن نعيش في الظلّ وندور في فلك الآخرين كما كنت دومًا تفعلين، وكأنّكِ خلقتِ أمة وخادمة لهم!
, قالت "مَيسان" بتأثّر:
, -اشتقت لبيتنا وللبنات، فلنعُد وننسى كلّ شيء
, -لن نعود، وسأكمل ما بدأته، وبناتي معي، واذهبي أنتِ للجحيم
, قالت بثبات:
, -لن أسمح لك بإيذاء ***ٍ بريء!
, -أتحاربين زوجك! كنت تزعمين أنّ قلبك لا يعرف إلّا الحب!
, -الحياة حرب، مع أنفسنا، ومع الدروب التي نسلكها، وأحيانًا مع الحمقى الذين نحبّهم!
, -ضعيفة! ليس لديك سوى الصراخ والعويل
, -نعم كُنت أصرخ، أبكي عليك، وعلى حُبّنا، وعلى سذاجتي! ومن منا لا يبكي في البداية قبل أن يصاب بذاك الصمت الذي يلي تلك الحرقة التي تصيب الفؤاد، عندما نصل للاستغناء عن الشخص الذي طالمنا أحببناه لكنّه أوجعنا كثيرًا! أمّا الآن فلا وقت للبكاء، لم تعد زوجي الذي أحببته!
, التهب المكان بالمشاعر الغاضبة، صرخ "أُوبالس" وألقى عصاه وأمسك حربة كانت مع أحد سكان القرية والذي كان يقف بجواره وألقاها نحو "مَيسان"، أراد إصابتها في قلبها مباشرة، رفعتها بحركة من يديها في الهواء وحوّلت مسارها لترشق في الأرض، غضبت "لؤلؤة" عندما رأته يحاول قتل أمها، استدارت نحوه وصاحت بغضب هادر:
, -إلّا أمّي!
, صاح غاضبًا:
, -"لؤلؤة"! ما الذي حدث لك!
, -خذ ما شئت، وافعل ما شئت بمن شئت، سأساعدك لتكون ملكًا، ولكن لا تؤذِ أمّي
, كانت "لؤلؤة" تلازم أباها باستمرار، لتقوم بردعه هو وشقيقاتها إن لزم الأمر، فهي تعلم أنّهم يستهدفون أمّها، انتهزت "مَيسان" الفرصة وسحبت عصا "أُوبالس" الغليظة نحوها، وأمسكتها وقلبتها وجذبت حجرًا بيضاويًا كان "أُوبالس" يخفيه بأسفلها، وأعطته لـ"يُوسف"، تفحّصه وقلّبه بين يديه، كان الحجر يضوي تحت أشعة الشمس، قال وقد سحرته ألوانه الخلابة:
, -حجر "أُوبال"!
, التفتت "مَيسان" تجاه ابنتها "لؤلؤة" وهي تدفع أباها بعيدًا وهو يقاوم ويعافر، كان غاضبًا وهو يرى الحجر بين يدي "يُوسف"، قالت "لؤلؤة" وما زالت عيناها على وجه أبيها الغاضب:
, -ارجعي يا أمي، وارحلوا من هنا، لن تستطيعوا اقتحام قرية "الدحنون"، عودوا إلى البُستان
, في تلك اللحظة ظهرت "ياقوت"، رأت أمّها لكنّها كانت تحدّق تجاهها بجمود، لم يرفّ لها جفن، وكأنّها لوح من الثلج يمشي على الأرض! نادتها "مَيسان" لكنّها لم تجبها، اقتربت من أبيها وهمست في أذنه، ثُمّ التفتت ثائرة كالبركان وبدأت تُشعل النيران في الأشجار التي على حدود القرية، أحرقت الورود الحمراء التي كانت تنتشر هنا وهناك، أشعلت الحشائش تحت أقدام جنود "كِرشاب"، وحرّاس "جلاديولس"، وخيول "الكحيلان"، هرب الكثير منهم، كانت "ياقوت" تستمدّ قوّتها من النار، وكانت أمّها تتابعها وتطفئ كلّ نار تقوم بإشعالها، أرهقتها فبدا الإجهاد عليها، كادت تُحرق أمّها لولا "لؤلؤة" التي دفعت أختها "ياقوت" وأسقطتها أرضًا لتدافع عن أمّها، وصاحت غاضبة:
, -لا تؤذِي أمّي
, رشقتها "ياقوت" بنظرة نارية وقالت:
, - حمقاء!
, في تلك اللحظة، التفتت "لؤلؤة"، وابيضّت عيناها بشدّة، صاحت صيحة غريبة، وكأنّ روحها تتسرّب من بين جنبيها، نظرت لأمّها نظرة توسّل ثُمّ فقدت وعيها في الحال. جذبتها أمّها نحوها واحتضنتها ثُمّ التفتت تجاه "يُوسف" وقالت له:
, -افتح دربًا من دروب أُوبال٢ نقطةالآن يا "يُوسف"٢ نقطةأرجوك
, تذكّر "يُوسف" ما كتبه في روايته، فرفع كفّه وحجر أُوبال فوقها وضرب عليه بكفّه الأخرى وهو يفكّر بالبُستان، انفتح الدرب أمامه، فهرعوا جميعًا إليه ووصلوا إلى البُستان، كرر ما فعله وأغلق الدرب، أسرعت "مَيسان" تطلب الماء لابنتها، أغرقت رأسها به، وظلّت تسقيها حتى بدأت تفيق، قالت "لؤلؤة" بصوت واهن:
, -حصّني البُستان يا أمي
, ثُمّ فقدت وعيها مرّة أخرى، فعلت "مَيسان" ما يلزم لفرض نطاق آمن حول البُستان، فأدرك "يُوسف" أنّ "لؤلؤة" كانت طوال الوقت تحميهم من شقيقاتها، في تلك اللحظة كان المجاهيم خارج حدود البستان، فقد انتقلوا دون أن يسلكوا الدرب معهم لأنهم من الجنّ، لم يتمكنوا من الدخول لأنّ "لؤلؤة" عادت للبستان، فلزموا أماكنهم، قالت "مَيسان:
, -لا بدّ أن نذهب لشاطئ البحر، فـ"لؤلؤة" تستمدّ قوّتها من الماء، هل هناك بحر قريب من هنا؟
, رفع "يُوسف" الحجر في يده وقال:
, -معنا حجر أُوبال، وسنفتح دربًا في الحال
, ضرب "يُوسف" على الحجر مرّة أخرى، وانتقل مع "مَيسان" وابنتها "لؤلؤة" إلى شاطئ البحر، أجلساها حيث يلمس ماء البحر قدميها على الرمال المبتلّة، وعندما بدأت تستعيد قوّتها زحفت بنفسها وغطست في الماء، تركوها حتى خرجت بنفسها بعد أن اكتفت منه، وفور أن خرجت، توجهت نحو "يُوسف" وقالت له:
, -"هيدرانجيا" تلد الآن، داهمتها آلام الولادة هذا الصباح
, قالت "مَيسان":
, -المسكينة!، لا بدّ أن أعود إليها
, -لا يا أمّي٣ نقطةسيقتلونك
, نقل "يُوسف" عينيه بين وجهيهما، كان من المفترض ألّا يخبرهما، لكنّه الآن وبعد اطمئنانه لـ"لؤلؤة" قرر أن يخبرهما، قال وقد بلغ قلقه أقصاه:
, -"حبيبة" في مدينة "ديرينكويو"، وهي الآن مع "زُمرّد"، تسللت مع "مُوراي" بينما كنّا نتحدث مع "أُوبالس"
, أخرج المرآة التي كانت تتواصل بها "حبيبة" مع "زمرّد" فقد تركتها له قبل أن تذهب ليسهل تواصلها معه ليريها لهم، وقال:
, -سنتواصل معها من خلال تلك المرآة
, كان قلقه على "حبيبة" ينهش قلبه وعقله نهشًا، وضع "يُوسف" حجر "أُوبال" على كفّه وقال ويده ترتجف:
, -سأفتح دربًا الآن، لا بدّ أن نعود للبستان، لا بدّ أن أعود للكتابة في كتاب "أَيجيدور"
, استخدم حجر "أُوبال" مرّة أخرى، وعادوا للبستان، وعاد يكتب٣ نقطة
, ٣ العلامة النجمية
, كانت "حبيبة" قد أصرّت على دخول مدينة "ديرينكويو"، لم يتمكن "يُوسف" من إقناعها بأن تتراجع، كان لديها يقين أنّها ستنقذ "هيدرانجيا"، لم يخبرا أحدًا سوى "مُوراي"، و"عُبيدة"، وقرر "مُوراي" الذهاب معها، أعطت "يُوسف" المرآة ليكون على اتصال بها بعد أن تحدّثت مع "زمرّد" ورتبت معها الأمر، وعندما انشغلوا جميعًا على حدود القرية، استطاعت "زمرّد" أن تساعد "حبيبة" و "مُوراي" على دخول مدينة "ديرينكويو"، استقبلهما جنّ المعبد، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يرى فيها "موراي" سكان مدينة ديرينكويو من الجنّ، أجفل في البداية، لكنّه استطاع أن يتأقلم مع الأمر، كان فقط يتجنب النظر لأعينهم مباشرة، فهؤلاء يختلفون عن "المجاهيم" الذين رآهم في قلعة "الدَّيجور"، فالمجاهيم بلا وجوه، سواد يسبح في قلنسواتهم السوداء، أما جن "ديرينكويو" فلهم وجوه وملامح تختلف عن ملامح البشر لكنّها مخيفة، وصلوا إلى زنزانة "هيدرانجيا"، كان هناك اثنتان من إناث الجنّ تجلسان قبالتها وهي تصرخ وتتألّم داخل الزنزانة، كانت تنادي على زوجها "كِرشاب" وتكرر كلمة واحدة "أيجيدور٣ نقطةأيجيدور"، كانت تناديه بلغته النوبية والتي كان حريصًا أن يعلّمها لها، وكانت الجنيتان تجهلان معنى الكلمة، ولم تبديا تعاطفًا معها، ولم يرقّ قلباهما لأنينها وبكائها، دلفت "زمرّد" ونثرت في وجهيهما شيئًا ما، فتحولّتا إلى دعسوقتين، قامت بهرسهما بقدمها وأشارت لـ"حبيبة" والتي أسرعت تجاه "هيدرانجيا"، كانت "هيدرانجيا" تشبه شقيقتها "جلاديولس" إلى حدٍّ كبير، عينان عسليتان، وأنف دقيق، ووجه ملائكي فاتن يجذب العيون إليه كالمغناطيس، كان جبينها يتفصّد عرقًا، بدت متعبة للغاية، وكانت ثيابها هالكة، والزنزانة مقفرة ومظلمة، حيّتها "حبيبة" وأخبرتها أنّها التقت بشقيقتها "جلاديولس" و زوجها "كِرشاب"، وأنّها أتت لتساعدها، سالت دموعها على خديها، كانت غارقة في حالة من الضعف والهوان وأتتها "حبيبة" فتعلّقت بها كما يتعلّق الغريق بقشّة، كانت تتمتم بالدعاء، وتستغيث ب****، لم تكن "حبيبة" على علمٍ بما يتوجبّ عليها فعله لتساعد امرأة على وشك الولادة، التفتت لـ"زمرّد" والحيرة تطلّ من عينيها، أخرجت المرآة التي تشبه تلك التي أعطتها لـ"حبيبة" من قبل، وكررت كلمة "أوبالس" ثلاث مرّات، ظهر وجه "يُوسف" أمامها، فقالت:
, -أعطني أمّي بسرعة!
, التقطت "مَيسان" المرآة وجلست تتحدّث إليهما، كانت توجههما ليساعدا "هيدرانجيا"، اقترب "كِرشاب" وكان ينصت لصراخها ودموعه تجري، جلس الجميع في حلقة حول "مَيسان"، ينصتون باهتمام، وعلى الجانب الآخر كان "مُوراي" يقف مع جنّ المعبد على بوابة الزنزانة ويراقب ممرات ديرينكويو، يخشون أن تدلف "ياقوت" في أيّ لحظة، بينما انشغلت "حبيبة" بـ"هيدرانجيا"، كانت تمسح على رأسها بحنان، بينما تتشبث هي بيديها وتكتم الصراخ، سألتها بين ألم وآخر وهما يتتابعان عليها:
, -ما اسمك؟
, -"حبيبة"
, -كيف التقيت بزوجي؟
, ابتسمت "حبيبة" وقالت لها:
, -في بستان "حيزوم"، أتانا يبحث عنك
, كان "حيزوم" ينصت إليهما وهو بجوار المرآة التي بيد "مَيسان" هناك على الطرف الآخر بالبستان، ترك ما قالته "حبيبة" عندما نسبت البستان إليه أثرًا عظيمًا في نفسه، تبادل النظرات مع باقي الخيول، وشعروا بامتنان لها
, داهمها الألم مرّة أخرى، كانت تعضّ على قماشة طوتها لها "حبيبة" وتكتم الصراخ، وعندما هدأ الألم قالت بخفوت:
, -عديني بشيء
, -ما هو؟
, -إن متُّ احملي طفلي لشقيقتي "جلاديولس"، فأنا أثق بها
, انهارت "جلاديولس" على الطرف الآخر، وانخرطت في بكاء بنشيج مسموع، كانوا جميعًا يسمعون "هيدرانجيا"، وهي تصرخ، وهي تبكي، وهي تستغيث، أقبل "كِرشاب" يحدّثها هو و"جلاديولس"، واستمرّت "مَيسان" في توجيه "حبيبة" والتي كانت تقف واثقة لتقدم العون لـ"هيدرانجيا"، بينما ابتعد "يُوسف" عن الجميع، وأمسك كتاب "أيجيدور" وبدأ يكتب٢ نقطة
, الحياة دروب، بعضها نختاره بأنفسنا، وبعضها يُفرض علينا، درب فيه نسعد، ودرب فيه نشقى، ودرب فيه نذنب، ودرب فيه نتوب، ودرب فيه نموت لنبدأ الرحلة في درب أخير نولد فيه من جديد
, ارتفع صوت "حبيبة" من مرآة "زمرّد" السحرية وهي تصف لـ"مَيسان" ما يحدث وتتلقى منها التعليمات، أنصت "يُوسف" لنبرة صوتها، وكان قلقًا عليها، شعر بحنين بالغ إليها، عاد يكتب:
, الخير كالنور، مهما أغلقت الأبواب في وجهك، سيمرّ من الشقوق التي أحدثتها الحياة على جدران نفسك، تلك الشقوق التي أحدثتها ضربات الأيّام المتلاحقة، محمولًا على كفوفٍ رحيمة، فالبعض كالبحر! لهم هدير محبب للنفوس، يحبون أداء أدوارهم بشكل يليق، يفيضون بالعون على الآخرين قبل أن يطلبوه منهم، ينثرون السعادة وهم يمرّون بدروب الحياة، غيابهم يترك فجوة في القلب، وحضورهم يشبه اصطفاق موجتين معًا
, كانت "مِسكة" تبكي فالتفت نحوها، لاحظ دموعها كما لاحظ سرعة إخفائها لها بكمّ ردائها، وكيف أنّها جمعت الصغار لتلهيهم وتضحكهم بعد أن لاحظت حزنهم، وعاونها "الحزاورة" الكبار، رفاق "موراي"، هؤلاء الذين وقّعت الأيام على وجوههم فجأة فدفعتهم لدربٍ جديد من دروب الحياة، وكان "كِرشاب" و"جلاديولس" يترقبّان ويحبسان أنفاسهما بجوار "مَيسان"، بينما سكنت "لؤلؤة" وجلست كالصنم، وكأنّها ترتاح بعد معركتها الأخيرة، وكانت الخيول في قلقٍ شديد، والجنود والحرّاس على حدود البستان من الداخل يتراصّون جنبًا إلى جنب ويراقبون الطريق، بينما كان "عُبيدة" يصلّي ويدعو، تأمّله "يُوسف" طويلًا ثُمّ عاد يكتب:
, "عندما تشقّ دروب الحياة، وقبل أن تبحث عن الطريق فتّش أوّلًا في قلبك، فقد نرى الحقّ وسط دياجير الظلام، أو نضلّ عنه ونحن في غمار النور، فالهداية للحق ليست من قناديل النور، بل هي تنبع من داخلنا، عندما نفرّ إلى ****"
, .
, أصبحت آلام الولادة متلاحقة متتابعة لا يفصل بينها سوى ثوانٍ معدودة، وكانت "حبيبة" تعدّ ما بينهم، صاحت "حبيبة" عندما بدأت رأس الطفل تظهر واستقبلته بين يديها وهي تجمع في صوتها بين الضحك والبكاء، وقالت بصوت مرتعش:
, -يا له من ولد رائع!
, أسرعت "زمرّد" تحمله وهو يبكي وخلعت وشاحها ولفّته به بعد أن قطعت "حبيبة" بخنجرها حبله السّري، ضجّ البستان بالضحك الممزوج بالبكاء، قفز الحزاورة الصغار فرحًا، وشاركهم "الحزاورة" الكبار فرحتهم، وابتسم "يُوسف" وهو يراقب أهل البستان، والخيول وهي تهملج فرحًا هي الأخرى، وضعته "زمرّد" في حضن أمّه وأدارت المرآة تجاههما ليراه أبوه "كِرشاب"، وخالته "جلاديولس، في تلك اللحظة، صاح "مُوراي" ينبههم فهناك موكب يقترب، همست "زمرّد":
, -إنّها "ياقوت"
, تشبثت "هيدرانجيا" بثياب "حبيبة" وتوسّلت إليها أن تهرب بابنها، وافقتها "زمّرد" في الرأي، فأسرع "مُوراي" وخلع قميصه فدثّرت "حبيبة" الطفل به وربطت أكمامه حول عنقها فهدأ الطفل على صدرها، وهرولا خارجين من الزنزانة، بينما بقيت "زمرّد" بجوار "هيدرانجيا" وأخبرتها أن تتصنّع أنّها ما زالت تعاني آلام الولادة، فبدأت تصرخ من جديد، بينما حمل جنّ المعبد "حبيبة" و"موراي" إلى خارج مدينة "ديرينكويو، كانا يركضان بسرعة، وكان "مُوراي" يتوقف من آن لآخر ويراقب الطريق، وصلا لحدود قرية "الدحنون"، وقبل أن يخرجا منها ظهرت "زفير" لأوّل مرّة أمامهما، وكانت توأمتها"توباز" تقف خلفهما مباشرة، تقدّم "مُوراي" ووقف بثبات أمامهما، كانت لديه روح المحارب، وكيف لا وقد ربّاه أبوه على أن يصارع الحياة، حتى أنّه اختار له اسمًا بهذا المعنى "مُوراي"٣ نقطةمصارع! كان ينظر إليهما بتنمّر، قامت الأختان بتثبيت أقدام "حبيبة" و"موراي" في الأرض، فسقطت المرآة من يد "حبيبة" على الأرض ، وكان هذا آخر مشهد رآه "يُوسف" بالمرآة، وهنا كتب "يُوسف":
, كانت المحاربة تحمل الأمل على صدرها وتركض به، ذاك الأمل الذي ولد من رحم القلب المخلص، لتنقذه من الشيطان وبناته، وقد دثّرته بقميص مصارع شجاع، هالة من النور ظهرت فجأة وأحاطت بهما، تحررت أقدامهما، فركضا معًا خارج القرية وهما يحملان الأمل وهما لا يعرفان من منهما يحمي الآخر!
,
, أنهى "يوسف" العبارات، في نفس اللحظة التي كان فيها "حبيبة" و"مُوراي" يركضان نحو حدود القرية، وقبل أن يتخطيا حدود القرية، تذكّرت "حبيبة" نظرات "هيدرانجيا"، ودموع زوجها، هل كُتب على تلك الأميرة أن تعذّب؟، إن لم يكن على يد شقيقتها فسيكون على يدّ بنات "أُوبالس"!، قررت أنّها لن تتخلّى عنها، حلّت القميص عن رقبتها وسلّمت الطفل لـ"مُوراي"، والذي حمله وهو يتعجّب وسألها:
, -ماذا ستفعلين؟
, -سأعود
, -لماذا؟
, -من أجل "هيدرانجيا"
, ثُم أردفت قائلة:
, -أخبر "يُوسف" أن يستمر في الكتابة، وحتى إن لم يعرف عنّي شيئًا، فلقد فقدت المرآة.
, وهنا ظهر "أبهر" الذي كان ينتظرهما في مكانه منذ تركاه وحمل "مُوراي" إلى البستان، ثُمّ التفتت "حبيبة" تجاه التوأمتين "زُفير" و"توباز" وكانتا خلفها مباشرة تجريان، ولا يستطيعان لمسها بسبب الهالة التي تحيطها، وكانت دقّات قلبها تتواثب، انقبض قلبها، ترددت للحظات، أصابها الهلع فقد يقتلون "هيدرانجيا"، اهتزّت، وشعرت بخوف للحظات كانت كافية لتتعملق قوة الساحرتان، شعرت أنّها عاجزة عن الكلام، وكانت تتنفّس بصعوبة، سحبوها إلى مدينة "ديرينكويو"، تذكّرت قول "أُوبالس" عندما التقت به أوّل مرّة، عندما صدقها هذا الكذوب وهو ينصحها:
, " المملكة هنا كما الحياة، بحر متقلّب، ستلتقين هنا بغرباء سيكتسبون قوتهم من ضعفك إن ضعفتِ، وسيتعملقون متى تقزّمتِ، فكوني دائمًا قويّة أيتها المحاربة
, ولأنّ "لؤلؤة" رحلت عن قرية الدحنون زال النطاق الآمن حولها، وتمكّن المجاهيم من الدخول، وانتشروا هناك يبحثون عن "حبيبة"، حفيدة "أبادول" هناك بأمر من زعيمهم المخلص، بينما عاد "مُوراي" إلى البُستان، سلّم الصغير لخالته "جلاديولس"، وكان "كِرشاب" يبكي، غابت فرحته به، فهو قلق على زوجته، روى لهم"مُوراي" ما حدث بسرعة، وبلّغ رسالة "حبيبة" لـ"يُوسف"، والذي كان يشعر أن قلبه يتمزّق، قالت "مَيسان" وهي تُربّت على كتفه:
, -هيّا يا بنيّ، عد للكتابة
, -كيف؟
, -أعلم أنّك تحبّها، لقد سلكت دروب عقلك عندما زرت المكتبة العظمى، فهناك نرى عقول الكتّاب بكلّ ما في دواليب الذكريات
, -كيف هذا!
, -عالم الكتب غامض ومثير، شيء بديع لم أكن أعلم بوجوده، هناك أدركت أنني شخصيّة في رواية، وأنّك الكاتب، وعلمت عنك أنّك لا تستطيع إكمال كتاباتك للنهايات
, -أنا فاشل٣ نقطةستضيع "حبيبة" بسببي، وضاعت مملكة البلاغة بخطأ مني عندما نسيت "أُوبالس" وتركته معلّقًا
, -أنت غير مسئول عن "أُوبالس"، لقد سلّم نفسه للشيطان بإرادته
, -لو كنت قد وضعت نهايات لرواياتي، لم يكن هذا ليحدث
, -أنت تقف دومًا عند نفس العقدة، عندما يزيد ألم الأبطال وتتوجّع من أجلهم، وتفضّل أن تبتعد وتهرب عن أن تواجهه، تركتَ "عُبيدة" حائرًا يتألم لفقد أهله فتلك السطور ذكّرتك بفقدك لأهلك، وكذا "مُوراي" تركته يتعذّب ويبكي وسالت دموعك فطويت الأوراق، وتركتني أبكي مع بناتي عندما أوجعك صدرك، أنت إنسانيٌ أكثر من اللازم، اجعلنا أقوى يا سيّدي
, -لا تناديني بسيدي أرجوكِ
, -حسنًا يا بنيّ، ادفعنا لنواجه، اجعل لنا سلاحًا من اليقين والإيمان وامنحنا فرصًا، وافتح لنا دروبًا لننجو مما كتبه **** علينا من ابتلاءات في الحياة، لقد نلت فرصتك وعاونت البعض هنا، لكنهم ما زالوا يحتاجونك، اكتب وفكّر في سبل لانقاذ الجميع، لا تيأس ولا تستسلم
, -سأحاول إنهاء الأمر بسرعة، سأضع النهايات، سأستمرّ في الكتابة حتى أصل للجملة الأخيرة٢ نقطةوأختم بها
, -الجملة الأخيرة لن تُكتب بالحجر الذي معك!
, -كيف هذا! لقد كتبت بالفعل أحداثًا وتمّت أمام عيني، أنا الكاتب٢ علامة التعجب
, -وهذا كتابٌ حيّ من كُتب مملكة البلاغة، لا بدّ أن تُكتب الجملة الأخيرة فيه بدماء الطفل، أنسيت أنّ هناك سحرًا يا بنيّ
, تنهّدت بحسرة عندما تذكّرت بناتها وقالت:
, -استعن ب**** وقُمْ بدورك وسنقوم بدورنا، سنطرق الأسباب، وسنُسلّم الأمر لله!
, كانت هناك جلبة خارج البستان، أتى سكان قرية الدحنون ومعهم بعض من جنّ المعبد يطلبون تسليم الطفل الصغير، حاصروهم بالبستان، فقد انكشف أمر "هيدرانجيا" وعلموا أنّها وضعت طفلها وهرّبته، فتبادلت "مَيسان" النظرات مع ابنتها، وسارت مع "يُوسف" نحو شجرة بلوط عتيقة وعظيمة وطلبت منه أن يجلس تحتها، وقالت:
, -اكتب الآن، سأعزلك عن الجميع، لو أردت الخروج استخدم حجر أُوبال
, كادت تنصرف لكنّها تذكّرت شيئًا فقالت:
, -ساعد "حبيبة" لتتمكن من منعهن من القتل، لا أريد لبناتي أن تتلوث كفوفهن بإراقة الدماء.
, أنهت "مَيسان" كلماتها بابتسامة حزينة ترتعش على شفتيها، ورفعت يديها وأدارتها في الهواء، فصنعت حلقة حوله لتعزله، ما عاد "يُوسف" يسمع صوتًا ولا همسًا، أحاطه الضباب من كلّ صوب، أمسك الكتاب وبدأ يكتب، ويكتب، وكانت أوّل كلمة يكتبها هي٣ نقطة"المجاهيم"
,
, ٤ العلامة النجمية
, دلف "المجاهيم" كلّ بيت بالقرية، اهتزّت الجدران، وارتجّت الأرض وكأنْ قد أصابها زلزال، وكان الكثير من أهل القرية قد خرجوا فورًا وساروا تجاه البستان وحاصروه مطالبين بطفل "هيدرانجيا"، بينما هنا٢ نقطةعلت غقغقة الصقور في الزنازين، كان أهل مملكة البلاغة في السجون ينادون، ويستغيثون، أخرج "المجاهيم ***** القرية ونساءها خارج الحدود، وحطّموا أقفال الزنازين، واطلقوا سراح السجناء فانطلقت الصقور وحلّقت فوق قرية "الدحنون" بأجنحة شُفيت جراحها والتحمت كسورها، فصارت أقوى، ونما ريشها ذو الألوان الخلّابة من جديد، كان "الرمادي" يرتفع محاولًا قياس المكان بنظراته، عاد يهوي نحو زوجته "قطرة الدمع" عندما لمحها واطمأنّ عليها، ظهرت "الحوراء" وعلى كتفها بومتها "الشهباء"*، وكان ولد "الحوراء" "الزاجل الأزرق" قد فرّ من سجنه وأتى ليحررها ويأخذ بيدها ليخرجها من زنزانتها تحت الأرض.
, هامش: الشهباء هي بومة بيضاء وهبت نظرها للملكة "الحوراء" بعد أن فقدت نظرها وصارت ترى بعينيها، وهذا ضمن أحداث الجزء الأوّل برواية إيكادولي
, التفتت "الشهباء" تجاه وجهه ونظرت في عينيه طويلًا ثُمّ قالت "الحوراء":
, -اشتقت إليك يا ولدي
, احتضنها وقبّل رأسها ويديها فقالت وهي تمسح على رأسه:
, -المحاربة بمدينة الجنّ "ديرينكويو"، وهي تحت الأرض على الحدود الجنوبية، ساعدها قبل أن يصل "أُوبالس" للكتاب
, وكانوا يعرفون "أُوبالس" فقد كان أوّل من اقتحم القصر وأمر بسجنهم، ثُمّ أردفت:
, -لديه خمس بنات، كلّهن ساحرات، ثلاث منهن مخادعات، احذر منهن يا ولدي
, -هل أتتك أخبار المحاربة وأنت في الأسر يا أمّي؟
, -نعم، كنت معها لحظة بلحظة، أسمع كلّ شيء، كتاب "أيجيدور" ليس معها، بل مع الكاتب، وهو يُساعدنا الآن، أحتاج للـ"رماديّ" ليذهب إليه في الحال
, -حسنًا يأ أمّي
, خرج "الزاجل" الأزرق بأمّه من الزنزانة، وتركها مع بعض خدمها وحرّاسها الذين وصلوا إليهم بعد أن تحرروا من الأسر، ظهر حرّاس المكتبة وكانوا يجمعون بعضهم البعض ويتفقّدون الغائب منهم، تهدّمت بيوت قرية "الدحنون"بعد خروجهم جميعًا من الزنازين، وتحوّلت القرية الأنيقة إلى حطام، انطمست معالمها ودُفنت الزهور الحمراء، حلّق الغبار في الأُفق، وفوقه كانت الصقور تدور في دوائر، اجتمع المغاتير ووقفوا يتلقون الأوامر من أميرهم وحاكم مملكة البلاغة "الزاجل الأزرق"، والذي ما زالت مكانته عظيمة في قلوبهم.
, تحت الشجرة، وفي مكان لا يسمع فيه ضجيج يقطع عليه عزلته، كان "يُوسف" يكتب، وبعد أن حرر سجناء قرية الدحنون، أغمض عينيه متأمّلًا، كانت "حبيبة" تحتاج للعون، فكانت أوّل كلمة كتبها عنها في صفحة الكتاب هي:
, "الخنجر"
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, كانت "حبيبة" تجلس في سكون، تنتظرهم في غرفة من غرفات مدينة "ديرينكويو" حيث ألقتها الساحرتان، تحيطها الأحجار من كلّ صوب، وضوء القناديل يترجرج ملقيًا بظلّها على الجدار، كانت تراقب ظلّها وتفكّر في مخرج، ليتها انتبهت للمرآة، كانت ستتواصل بها مع "يُوسف"، دلف"أُوبالس" بوجه مكفهرّ، اقترب من "حبيبة" ولطمها بقسوة وقال:
, -أعطيتني كتابًا مزيّفًا أيتها المخادعة
, اعتدلت "حبيبة" في جلستها، وسألته:
, -وكيف عرفت أنّه مزيّف؟
, أخرج لها الكتاب وفتحه أمامها، وقال:
, -كتب المحاربين صفحاتها خالية، لقد عرفت كلّ شيء
, تنحنحت "ياقوت" وأمسكت بيد أبيها لتهدئ من ثورته، ثُمّ مدّت يدها تجاه "حبيبة" بتاج من الذهب الخالص، قالت وعيناها تبرقان:
, -انضمي إلينا وكوني أميرة من أميرات "أُوبالس"، هذا التاج سيمنحك السعادة
, تراجعت "حبيبة" خطوة للخلف وقالت:
, -لا أريده
, رفعت "ياقوت" حاجبيها وقالت:
, -حسنًا، سلمينا الكتاب الأصليّ، وعودي لبيتك، يستطيع "المجاهيم" إعادتك لوطنك، وصلنا أنّهم يهتمّون لأمرك!
, -الكتاب ليس معي الآن
, -لكنّك تعرفين أين هو الكتاب
, -وماذا إن لم أفعل؟
, -سنقتل "هيدرانجيا"
, شعرت "حبيبة" بارتباك لكنّها لم تظهره وقالت ببرود مصطنع وهي تتذكّر كلام الكذوب "أوبالس" معها عن القوّة والضعف:
, -وماذا بعد؟
, -لن تصمدوا أمامنا، سنقضي عليكم جميعًا ونسحقكم كالذباب
, -كيف هذا وأنتم تخشون أمّك، وخاصّة بعد انضمام "لؤلؤة" لها
, -سأعذّبك
, -وماذا بعد؟
, غضبت "ياقوت" وقالت:
, -من أين لك بهذا البرود!
, -ليس برودًا ولكنّه اليقين يا عزيزتي، أثق بأن **** لن يتركني بين يديك هنا
, صاحت "ياقوت" صيحة ترددت بالغرفة فاهتزّت شعل القناديل وارتجّت وتأرجحت فوق رؤوسهم، تركاها في الغرفة وانصرفا، وقفت تسترجع الحوار، وكلّ ما حدث، لا بدّ من الخروج، بحثت حولها عن أي شيء، تذكّرت الخنجر، فأخرجته من حقيبتها، أمسكته وكانت دماء الصغير ما زالت عالقة بشفرته، حرّكته في الهواء فلم يحدث شيء، كاد لهيب اليأس يضطرم بين جوانحها، قبضت غاضبة على الخنجر بشدّة وغرزته في الحائط المجاور لها فتفتتت في الحال، تراجعت في اندهاش ونظرت إلى الغرفة الخالية التي انكشفت أمامها، تحمّست فأسرعت نحو الحائط التالي وغرزت فيه الخنجر، لكنّه لم يتحطّم!، اتجهت لحائط في الجهة الأخرى وغرزت الخنجر فيه فتفتت، أدركت أن الأمر ليس عشوائيًا، وأنّ هناك من يدلّها على الطريق، ظلّت تدور من حائط لآخر، تفتت جدرانًا، وتنتقل من غرفة لأخرى، حتى وصلت أخيرًا إلى حائط فور أن تفتت ظهرت أمامها "هيدرانجيا" متكوّرة على الأرض تئن من الألم، تركوها مهملة وخرجوا يطاردونهم للبستان، اقتربت منها فتعرّفت "هيدرانجيا" عليها في الحال، طمأنتها عن صغيرها، وأخبرتها أنّها أرسلته لأبيه وخالته بالبستان، ساعدتها لتتمكن من الجلوس، وأقبلت على الجدران تغرز الخنجر فيها، تحطّم جدارًا تلو جدار وظهر الممر الخارجي بين الغرف، عادت "حبيبة" وأسندتها لتتمكن من الوقوف على قدميها، وسارا ببطء وهما يرهفان السمع، وفجأة! ظهر أمامها أحد أفراد جنّ المعبد، تعرّفت عليه "حبيبة" فقد رأته عندما التقت بـ"زمرّد" لأوّل مرّة، وكان في يديه قبضة عظيمة من تراب أرض مدينة "ديرينكويو" فنفث فيها ثُمّ بعثرها فوق رأسيهما فأغرقهما بها وردد كلمات لم يفهماها، وقال لهما:
, -لا تنفُضا التراب عن رأسيكما، فسوف يخفيكما عن الأنظار حتى تهربا
, سألته "حبيبة":
, -أين "زمرّد"؟
, تردد قبل أن يقول لها:
, -حبستها شقيقتها "ياقوت" في حجر كريمٍ أخضر وعلقته في عقدها الذي ترتديه طوال الوقت
, -ولماذا لم تساعدوها؟
, -لن نستطيع قبل أن تسمح "زمرّد" بهذا
, سألته "حبيبة" متعجبة:
, -ماذا تعني؟
, -"ما زال لديها أملٌ أنها ستتمكن من لم شمل أسرتها، وهي لا تريد لأيّ فرد منهم الأذى، لقد حبَستها "ياقوت" لتساوم أمّها وشقيقتها "لؤلؤة" عليها، وتستدرجهما وتهددهما بقتلها، فـ"ياقوت" ووالدها يودان قتل "مَيسان"، لكنّ لؤلؤة" تمنعهم عن هذا وتحميها، وطالما هي معها لن يتمكّنوا من الوصول إليها
, ثُمّ أردف قائلًا:
, -نحن نشبه البشر، منا الصالح، ومنّا الفاسد، ولقد عرفنا بقصّتكم من "زمرّد" فأشفقنا عليكم وأحببنا مساعدتكم
, -ستساعدنا حقًا لو فعلت ما سأطلبه منك الآن؟
, -وما هو؟
, -كُن دليلًا لـ"هيدرانجيا"، وساعدها لكي تخرج من هنا ثُمّ من قرية "الدحنون"، فهناك بستان٣ نقطة
, قاطعها قائلًا:
, -سأخرجها من بوابة "ديرينكويو"، وسيقوم "المجاهيم" بتوصيلها، فقد اقتحموا قرية "الدحنون"، وحرروا ملوك مملكة البلاغة وحرّاس المكتبة، وتواصلوا معنا وسألونا عنك
, تهلل وجه "حبيبة"، كانت في حاجة لدفعة حماس تُشجعها وسرّت بهذا الخبر، سألها الجنّي قبل أن يمضي:
, -ولماذا ستبقين هنا؟
, -لأنقذ "زمرّد"
, -لكنّ "زمرّد" لن تسمح لكِ
, -لن أتخلّى عنها!
, -حسنًا، وكيف نساعدك؟
, -ابدأ بـ"هيدرانجيا"، لا بدّ أن تصل لرضيعها بالبستان
, أسرع الجنّي وخرج بـ"هيدرانجيا" من مدينة "ديرينكويو"، وسلّمها للمجاهيم، ولم يتمكّن من العودة والدخول مرّة أخرى، فقد كُشف أمره، وكادوا يقتلونه لولا أنّه لجأ للمجاهيم، وصار في حماهم خارج مدينة الجنّ.
, كانت "حبيبة" تتخبط في حيرة، اهتزّ القلم في حقيبتها فاخرجته في وجل وقلبها يخفق، لا بدّ أنّها رسالة من "يُوسف"، أمسكته فرأت القارب الضئيل يتأرجح فوق سطح الماء الأزرق الموجود في أنبوب القلم الشفاف، ارتفع "القلم" في الهواء فجأة وكأنّ هناك شبحًا يُمسك به، بدأ يكتب بعض الكلمات أمام عينيها، كانت عبارة واحدة من يُوسف" أراد أن يُرسلها لها٣ نقطة
, "ابحثي عن غرفة "أرسلان"* بالطابق السفليّ في قاع المدينة، ستجدين بابًا خشبيًّا عتيقًا مرسوم عليه نقوش مميّزة لزهرة بديعة، ليست مرسومة على باقي الأبواب، اطرقي بابه ثلاث طرقات متتالية، ثُمّ طرقة واحدة فقط، ثُمّ خمس طرقات متتالية، واسأليه عن صندوق الأسرار، هناك تقبع مخاوفك، ستعرفين ما تفكّر به "ياقوت"
, هامش: أرسلان اسم علم مذكّر تركي معناه الأسد الصهور
, ظلّت العبارات تتأرجح في الهواء أمام عينيها، ثُمّ سقطت فجأة على الأرض وكوّنت بقعة من الماء أمام قدميها، وبقي القلم معلّقًا في الهواء، أعادت "حبيبة" القلم إلى حقيبتها وأسرعت نحو الطابق السفلي الأخير في قاع مدينة "ديرينكويو"، طافت بالأبواب باحثة عن باب خشبي مرسوم عليه علامة غريبة، وعثرت عليها بالفعل، وقفت وقلبها يكاد يقفز من صدرها وطرقت الباب كما أخبرها "يُوسف"، ثلاث طرقات، ثُمّ طرقة، ثُّم خمس طرقات٣ نقطةمرّت لحظات ثقيلة، كادت تنصرف لولا أنّه فتح الباب الذي أصدر أزيزًا انخلع له قلبها.
, وقف العجوز "أرسلان" بجسده الضامر أمامها، وكأنّ الحياة طمرته في رمادها فأصبح هيكلًا بلا روح، تقوّس ظهره، وانبرت عظامه، شعرٌ أشعث، ونظرة خاوية، ووجهه ملطخ بالتراب ومغطّى بالتجاعيد، وفمٌ خالٍ من الأسنان، رفع عينيه المنطفئتين تجاهها، فأدركت أنّه أعمى، قال بصوت خفيض:
, -من؟
, -أنا٣ نقطة"حبيبة"
, حرّك العجوز رأسه وهمس متعجبًا:
, -فتاة أخرى من البَشر!
, كانت "حبيبة" تتلفّت يمينًا ويسارًا في قلق، سألته بفضول:
, -وهل زارتك فتاة قبلي؟
, -نعم٣ نقطةلكنها اختفت منذ فترة! ما عادت تزورني كعادتها
, ثُمّ قال بعد هنيهة:
, -ادخلي بسرعة
, أسرعت "حبيبة" بالدخول، فأغلق الباب خلفها واستدار ليسير ببطء وصعوبة نحو فراشه، كان يسحب نفسه أكثر مما يمشي، وكانت الغرفة شديدة البرودة، فراش خشن وبسيط وطاولة خشبية بديعة النقوش لا تتناسب مع بساطة مظهر الرجل وثيابه!، كان سطح الطاولة مزدحمًا بالأواني الزجاجية التي تحتوي على أحجارٍ مشعّة، كانت تلك الأحجار تشبه جمرة عليلة ذابلة، تتوهج من آن لآخر فجأة فتظهر ومضات حمراء فتضيء المكان وتبعث القليل من الدفء، ثُمّ تعود لذبولها! جلس العجوز على طرف فراشه وسألها بعينيه المطفأتين:
, -من علّمك تلك الطريقة لتطرقي بها بابي؟
, -كاتب شابٌ يعلم الكثير عن المدينة هنا ويبدو أنّه يعرفك جيّدًا، وقد أرسلني إليك لتساعدني
, -وكيف سأساعدك؟
, -ساحرات "أُوبالس"، لا شكّ أنّك تعرفهن
, -أعرف واحدة منهن فقط، تلك الفتاة التي أخبرتك أنّها كانت تزورني
, -من هي؟
, -فتاة لطيفة ولها صوت حنون، كانت تأتي من آن لآخر وتحمل لي الطعام، لكنّها اختفت منذ فترة!
, -لا بدّ أنّها "زمرّد"
, -نعم٣ نقطةأخبرتني باسمها هذا، ما بالك والساحرات يا ابنتي؟
, -الساحرات الثلاث يبحثن عنّي وسيفتكن بي لو عثرن عليّ هنا، شقيقات "زمرّد" بالتأكيد وليست هي، فأنت تعرفها٢ نقطة
,
, -لماذا؟
, تنهّدت "حبيبة" وقالت بنبرة يشوبها القلق:
, -هل سمعت عن المحاربين ومملكة البلاغة؟
, هزّ رأسه في ثقة وقال:
, -نعم٢ نقطةسمعت الكثير
, قالت بخفوت:
, -أنا محاربة، وهم يطلبون كتابي
, -يا ابنتي، مملكة البلاغة كالأمّ الحنون، تضمّ إلى صدرها الصالحين والطالحين، فيها الخطأ والصواب، وفيها الخير والشرّ، وقد يترعرع الضلال في ظلّ فلسفات غريبة، ودور المحاربين أن يصدّوه ويمنعوا سطوته، ويعبّدوا الدروب للحقّ ليعمّ وينتشر وينتصر!
, ران عليهما صمتٌ مهيب، كان العجوز يجلس منكمشًا على طرف فراشه، بدت عظامه وكأنّها قابلة للانقصاف، أشفقت عليه "حبيبة" فسألته بفضول:
, -كيف تأكل وتشرب؟ ومن يرعاك ويخدمك؟
, -جنّ المعبد يساعدونني، وبعد وصول "زمرّد" ازداد اهتمامهم بي
, -ولماذا تعيش هنا وأنت من البشر؟
, -تلك مدينتي ووطني، طويت فيها رداء شبابي، وهأنذا أطوي فيها رداء شيخوختي، كيف سأخرج وكلّهم هنا
, -من هم؟
, قال بنبرةٍ أسيفةٍ:
, -أهلي وعشيرتي وأحبائي وزوجتي
, -وأين هم؟
, -تحت الأرض
, رفعت "حبيبة" حاجبيها وسألته بفضول شديد:
, -وهل هناك طوابق أخرى أسفل تلك الطوابق٢ علامة التعجب
, -لا، لم أقصد هذا،٣ نقطةهم تحت الأرض في قبورهم
, اقشعرّ بدن "حبيبة"، نظرت إلى الأرض تحت قدميها، هي الآن تسير فوق قبور أهل مدينة "ديرينكويو" التي كتب عنهم "يُوسف"، شعر العجوز بارتباكها، فبدأ يحكي لها:
, -كنّا نعيش في أمان وسلام، وكانت مملكتنا كثيرة الخيرات، بلادنا كانت تطلّ على نهرين عظيمين، أشجار البساتين كانت تلقي الثمار فوق رؤوسنا ونحن نسير تحت ظلالها الوارفة، كثرت الثمار والغلال، والأموال، والخيول، حتى النساء كن ينجبن التوائم بكثرة، خير يسحب الخيرات خلفه، ونعم تجرّ بعضها بعضًا، فاتجهت العيون إلينا، وصرنا مطمعًا لكلّ من يسمع بما نحن فيه من نعيم، وكثرت الغارات، والسرقات، وانتشر القتل والنهب، هاجمنا جيش من الغلاظ، حشو جلودهم ناس، وحشو نفوسهم وحوش!، بدأنا نشكل جيشًا يليق بمملكتنا، وكنت قائدًا ومقاتلًا فيه، ولمّا خفنا على النساء والأطفال حفرنا تحت الأرض، ونحتنا فيها تلك المدينة التي نحن فيها الآن، كنّا نحمي فيها النساء والأطفال عندما يغير الأعداء علينا، جهزنا المدينة بكلّ ما يحتاجه أهلنا والضعفاء منّا وصغارنا لفترات طويلة، وصنعنا لهم بوابات لا تُفتح إلّا من الداخل ليحتموا بها عندما تنشب الحرب بيننا وبين من يغيرون علينا، عثر بعض الرجال على هذا الحجر المشعّ، فجمعناه في تلك الأواني لنضيء به المكان، ولنستمدّ منه الدفء، وفي مرّة من المرّات دارت حرب طاحنة بيننا وبين جيش جبّار قتل منّا الكثير، فأسرعت مع من نجا من رفاقي وفررنا إلى هنا، وطرقنا البوابة الأقرب إلينا فهناك العديد من البوّابات، ثلاث طرقات، ثُمّ طرقة واحدة، ثُمّ خمس طرقات، ففتحت لنا النساء، ودلفنا إلى "ديرينكويو"، وعشنا هنا طويلًا.
, هامش: قصة "أرسلان" وزوجته "بَهار" وقومهما من وحي خيال الكاتبة، وللاطلاع على تاريخ مدينة ديرينكويو بتركيا ومعرفة أسباب حفرها، ومشاهدة صورها الرائعة، تنصح الكاتبة بالرجوع للأفلام الوثائقية الموجودة على الإنترنت.
, -وماذا فعلتم عندما نفد الغذاء؟
, -بدأنا نخرج، وبعضنا رحل للأبد، لكنّ أسرتي بقيت معي هنا، والبعض من الأصدقاء، وشيئًا فشيئًا رحلوا جميعًا وبقيت وحدي هنا، وبدأت عشائر الجنّ تفد إلى المكان في جماعات فهم يبحثون عن الأماكن المهجورة ليسكنوها تباعًا
, -ألم تخف منهم؟
, -أتوا بعد أن فقدت بصري،كُنت أسمعهم ولا أراهم، ظننتهم من البشر في البداية، خفت قليلًا عندما اكتشفت حقيقتهم، لكنني وعندما أدركت أنّ نفوسهم تشبه نفوسنا، فمنهم الطيب، ومنهم الخبيث، ومنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم القويّ، ومنهم الضعيف، لم أعد أخشاهم فهم كالبشر يا ابنتي،٢ نقطةأنست بهم٢ نقطةوالتزمت غرفتي
, -لماذا لزمت غرفتك؟ ولماذا لم ترحل؟
, -كيف سأرحل وأتركها؟
, -من هي؟
, -زوجتي٣ نقطةماتت حبيبتي "بَهَار"* هنا، لثمها المرض يا ابنتي، ودفنتها هنا تحت تلك الأرض أسفل فراشي هذا، لن أرحل وأتركها أبدًا
, هامش: "بَهَار" اسم مؤنث فارسي معناه الربيع، ويُطلق أيضًا على زهرة صفراء طيّبة الرائحة، عُرف به الشاعر الإسلامي محمد بن القاسم بَهار، لأنّه كان يشرب الماء على هذا الزهر إعجابًا به وبطيبه، فسُمي أبا البَهَار، وذكره كثيرًا في شعره
, اغرورقت عيناه بالدموع، وكأنّ حديثه عن زوجته قد نكأ جراحه القديمة، شعرت "حبيبة" بانقباضٍ شديد، أشفقت على العجوز، ران عليهما صمت مطبق، وقفت لتستعد للخروج من الغرفة، كان العجوز يرهف السمع وينصت إلى خطواتها، قال بتأثر:
, -كانت حبيبتي كالربيع، وها هو الخريف يمرّ عليّ أعرجَ بطيئًا
, قالت "حبيبة" لتواسيه:
, -ربط **** على قلبك
, هزّ رأسه وقال بمرارة:
, - يبدو أن دربي طويل!
, - ستلتقي بها في نهايته إن شاء ****
, -هذا أملي ورجائي
, تأمّلته "حبيبة" بتمعّن، ترى كم عمره؟، لا شكّ أنه ملّ من حياته تلك، ليتها ما التقت به، لم تجد فائدة من زيارة هذا الرجل إلّا تقليب أوجاعه،لا تدري لماذا أرسلها "يُوسف" إليه! تذكّرت فجأة ما كتبه القلم في الهواء عن صندوق الأسرار، التفتت تجاه العجوز وسألته:
, -أين صندوق الأسرار؟
, تعجّب العجوز وسألها في ارتباك:
, -ومن أخبرك عنه؟
, -الكاتب الذي دلّني عليك "يوسف"، أخبرني أن أسألك عن صندوق الأسرار
, رفع العجوز رأسه في دهشة، وقال ويداه ترتجفان:
, -"يُوسف"!، هل قلتِ "يُوسف"؟
, -نعم هو "يُوسف"!
, قال في تأثّر:
, -ربّما٤ نقطة
, -ربّما ماذا؟
, -صِفيه لي يا ابنتي
, شردت بعينيها وتخيّلت "يُوسف" أمامها، وبدأت تصفه:
, -هو طويل القامة، قمحي البشرة، له عينان عميقتان، وحاجبان كثيفان، وأنف أقنى، وفم دقيق بسّام، وسحنة مريحة تشعرك بالأمان، في وجهه لمسة حزن شاجٍ، هو شخص مهذّب ورقيق الطباع
, لبث العجوز برهة يتخلل لحيته بأصابعه غارقًا في التفكير ثُمّ قال في لهجة حاسمة تشفّ عن اليقين:
, -هل يرتدي ثوبًا غريبًا وفضفاضًا؟
, اتسعت عينا "حبيبة" وهي تقول:
, -نعم٣ نقطةعلى الدوام!
, -هل يملك حجرًا ملونًا؟
, -نعم٢ نقطةحجر أُوبال
, -رأيته قبل أن أفقد بصري
, -أين؟
, -هنا٣ نقطة
, أشار لها العجوز بيده لأسفل فراشه وقال:
, -الصندوق هنا يا ابنتي، كما هو منذ سنوات
, اقتربت "حبيبة" في وجل وانحنت على ركبتيها، مدّت ذراعها تبحث عن صندوق كبير، لكنّها لم تعثر على شيء، اصطدمت يدها بشيء في حجم كفّها، أمسكته وسحبته وهي تتعجب من صغر حجمه!، كان الصندوق من خشب القيقب المطعّم بالنحاس، له قفل على شكل حدوة حصان صغيرة، وغطاؤه كالقبّة قد زينتها نقوش بديعة، كادت تفتحه، لولا يد العجوز التي قبضت فجأة على ذراعها فارتجّ بدنها خوفًا منه، أحسّت بقلبها ينسحق لكنّها نجحت في السيطرة على مشاعرها،كان يوجه نظراته الخاوية نحو وجهها حتى أنّها شعرت للحظات أنّه يُبصر! غضّن جبينه وهو يقول:
, -هذا الصندوق يعكس خيالات البشر ليس كما هي هيئاتهم، ولكن كما هي نفوسهم، هناك أسرار تقبع هنا
, ثُمّ أفلت العجوز ذراعها وأشار لصدره بإصبع يرتجف، ثُمّ أردف قائلًا:
, -قبل أن أفقد بصري كُنت أتسلّى بما يكشفه لي٢ نقطةأمّا الآن، ما عاد الصندوق ينفعني٢ نقطة
, ابتلعت "حبيبة" ريقها بصعوبة ثُمّ عادت تتمعن في النقوش الدقيقة القابعة على غطاء الصندوق، لاحظت تكرار الرمز المحفور على باب الغرفة الخشبي من الخارج، قالت وهي تمرر أناملها فوقه:
, -زهرة غريبة!
, قال العجوز بصوت يرتجف:
, -هذه زهرة نادرة كانت تنبت هنا في بساتين إقليم الأناضول، كنّا نهمس لها بأسرارنا التي توجعنا، ثُمّ نفركها بعد أن ننتهي من البوح لها، فتتفتت وريقاتها بين أصابعنا، فننفخ فيها وننثرها في الهواء، فنبعثر خبايانا هنا وهناك ونتخفف من عبئها
, -رأيتها منقوشة على باب غُرفتك!
, هزّ رأسه موافقًا وقال:
, -نعم، حفرتها بنفسي، كما حفرتها على قبر زوجتي، فقد كانت "بَهَار" زهرتي التي أبوح لها بأسراري، لكنني لم أنثر وريقاتها أبدًا، ولم أُبعدها عنّي، فتتها المرض، ونثر الموت روحها بعيدًا عنّي٣ نقطة
, كان له من أوجاع قلبه حديث طويل، صدّع الشوق قلبه صدعًا عميقًا، لمعت دمعة طاهرة في عينيه كنجمة القطب، شعرت "حبيبة" بعطفة كبيرة ورثاء نحوه، قال العجوز وقد عادت إليه رباطة جأشه:
, -هيّا يا ابنتي، افتحي الصندوق، وراقبي الجدار أمامه!
, -لماذا الجدار؟
, -ستعرفين الآن٤ نقطة
, اضطربت "حبيبة"، أغمضت عينيها، كانت تفكّر في "يُوسف"٣ نقطة"يُوسف" فقط! شعرت وكأنّه أقرب إليها الآن من نفسها، فتحت عينيها ومدّت يدها نحو قفل الصندوق الصغير وحرّكته بإصبعها وفتحت الصندوق ببطء، تصاعد دخّان كثيف من فتحة الصندوق، انبثق وميض قويّ من داخل الصندوق فأضاء الجدار، ظهرت صور متحرّكة عليه وكأنّ "حبيبة" ترى بعيني شخصٍ آخر، رأت شابًا لطيفًا يقترب منها، رفعت عينيها وتأمّلته، يبدو مألوفًا لكنّها لا تعرفه، نادى بصوت نديّ:
, -"يُوسف" تعال هنا
, اقتربت تبحث عن "يُوسف"!، أين هو!، أقبل الشاب عليها، كان ينحني بينما وقفت أمامه تتخبط في حيرتها، وكأنّ قامتها قصيرة٢ نقطةبل قصيرة جدًا!، أخرج الشّاب من جيبه حجرًا ملوّنا ومدّ يده تجاهها به، بسطت كفّها وتعجّبت لصغرها وكأنّها كفّ ***ٍ صغير، قبضت على الحجر وظلّت تقلّبه بين أصابعها، عكس الحجر كلّ ألوان الطيف عندما سقط عليه الضوء فانبهرت به وشعرت بالسعادة ورنت لهذا الشّاب بعينين شاكرتين، مدّ يده ومسح على رأسها، شعرت برأسها وقد تحرّكت فوقه خصلات ناعمة! رأت مرآة مثبتة على الجدار فهرولت نحوها، ووقفت تتفرّس في الصورة التي انعكست أمامها لهذا الطفل الصغير، رفعت يدها وتحسست شعر رأسه الناعم٣ نقطةبل رأسها٣ نقطةبل٢ علامة التعجب، فغرت فاها وقالت بذهول٣ نقطة"يوسف"٢ علامة التعجب أنا أرى بعيني "يُوسف" وهو صغير!
, ركض الصغير حيث كان أبوه يقرأ الجريدة، احتضنه طويلًا وهمس له بأنّه يحبّه٣ نقطةعاد إلى غرفته وبدأ يرسم رجلًا قويًا ومهيبًا، طويل القامة، مفتول العضلات، كتب الصغير كلمة واحدة تحت الصورة وطواها ووضعها في درج مكتبه، كانت الكلمة هي "أُوبالس"٣ نقطة
, شعرت "حبيبة" بغشاوة تظلل عينيها، تغيّر المكان، هناك صراخ وبكاء، شابة تتدثّر بمعطف طويل وتجلس على الأريكة وتبكي، كانت عيناها محتقنتين من كثرة البكاء، اقترب الصغير منها وألقى بنفسه بين ذراعيها، شعرت "حبيبة" بذراعيها وهي تحيط بالصغير وتضمّه بقوّة، أسند الصغير رأسه على صدر أمّه، سمعت "حبيبة" بأذنيه أنين صدر أمّه وأدركت مدى حزنها٤ نقطة
, ما زالت "حبيبة" ترى بعينيه، بدأت تشعر بانقباض صدره، ثُمّ بحزنه، ثُمّ بكائه وهو يتدثّر بمعطف أبيه في غرفته٣ نقطةلقد مات!، سالت دموعها وهي تحملق في الجدار، ارتج بدنها فجأة، انتقلت من مكان لمكان آخر، ومن غرفة لأخرى، صياح وفرحة، لقد نجح، نجح "يُوسف"٣ نقطةارتجفت شفتاها وهي تبتسم٣ نقطةفهو يبتسم
, وهنا في ملعب كرة القدم عندما سقط وأصيب في قدمه، شعرت بآلامه، وبكت معه وكأنّ الإصابة في قدمها٣ نقطة
, فناء المدرسة وهو يركض مع رفاقه في فرح ويضحك ببراءة، ما زال من "الحزاورة"، لم تلوث الحياة نقاء سريرته، قهقهت معه وشعرت بنسمات الهواء تلامس وجهها وهو يركض٤ نقطة
, داهمها فجأة ّشعور بالانكسار، بالضيق، بالملل، بالضجر، ثُمّ بالثورة، بالفوران، بالغضب الشديد، عاد لمرآته٣ نقطةها قد بلغ "يُوسف" وما عاد من "الحزاورة"! وقف أمام المرآة ونظر في عينيه، فنظرت معه بعينيه٣ نقطة في عينيه٢ علامة التعجب
, أطال النظر فغرست عينيها في بؤبؤيه، غاصت في نفسه أكثر فأكثر، شعرت بدوار شديد وانتقلت معه لمكان وزمان آخر٣ نقطة
, الآن تقف خلف الحاجز الزجاجي بالمستشفى تراقب معه أمه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، صوت صراخه شقّ صدرها فانفطر فؤادها وبكت في نشيج مسموع، فقدت معه حبيبته التي كانت تلطّف عليه وحشة أيامه، دارت الدنيا بها دورات، شعرت وكأنّ أمواج بحر هادر تحملها لأعلى وترتفع بها كالجبال، ثُمّ تنخفض وتنزلق وتهوي بها مرّة أخرى، حياة تتقلّب، تصعد وتهبط، تصفو وتتعكّر٣ نقطة
, مشاهد تختلف أمام عينيها، رأت أمامها غرفة تضجّ بالأوراق المبعثرة هنا وهناك، أصابع ترتجف وتكتب، وتكتب، وتكتب، أنفاس تتسارع تارة، وتبطئ تارة، جمل متفرّقة، وكلمات شتى، ثورة عارمة ثُمّ أوراق تتمزّق وتلقى في سلّة المهملات٤ نقطة
, رائحة الرطوبة اخترقت أنفها، أحسّت بمرارة القهوة على طرف لسانها، تحسست أكمام المعطف الذي على ذراعيه٣ نقطةشعرت بالضياع٣ نقطةبالوحدة٣ نقطةتركت لدموعها العنان فبكت من عينيه
, عادت الأمواج تدور بها، رأت نفسها هناك، بالجامعة، مع رفيقاتها، تلصصت على نفسها من خلف أشجار حديقة الجامعة بعينيه، وقفت هناك حيث كان وحيث كانت! تسارعت دقّات قلبها وتلجلجت في صدرها معه، كان يتساءل في تردد، هل يذهب إليها ليحدّثها أم لا، وأنصتت لصوت ضميره وهو يؤنبه٢ نقطةأن ليس من حقه أن يصرّح لها بحبّه طالما لن يستطيع الزواج بها!، اقتربت معه من المكان الذي كانت تجلس فيه، حملت معه الزهرة التي كانت تشمّها منذ قليل، حملتها بوجل بيديه، تحسستها بأصابعه، وعادت معه للبيت، لغرفته، لوحدته، قرّبت زهرتها من أنفه بيده، شمّتها مرّة أخرى معه٣ نقطةوضعتها بين أوراق كتاب لتجفّ٣ نقطة
, شعرت بانقباض صدره، وحنينه إليها، انفجرت باكية وكأنّها *** صغير فقد أمّه للتوّ٣ نقطةانغلق الصندوق فجأة، فانحنت وانثنت على نفسها وانخرطت في موجة من البكاء، انتظر "أرسلان" حتى هدأت وقال بصوت مرتعش:
, -هكذا كُنت أبكي مثلك، في كلّ مرة كنت أفتح الصندوق كنت أرى هذا الطفل يكبر أمام عينيّ، أشعر بما يشعر به، أفرح لفرحه، أحزن لحزنه، أترقب لحظة يسعد فيها بلقاء محبوبته التي يراقبها في صمت
, قالت "حبيبة" بصوت يقطعه البكاء:
, -لقد رأيتني يا سيّدي، أنا تلك الفتاة التي كان "يُوسف" يراقبها
, هزّ رأسه في أسى وقال:
, -لا أظنّ "يُوسف" يدرك أنّ الصندوق يكشف أسرار نفسه، كان يظنّ أنّه سيكشف أسرار مخاوف من يفتحه٣ نقطةما يُخيفك أنتِ يا ابنتي، هكذا أخبرونا عندما عثرنا عليه، أنّه يخبرنا عن مخاوفنا وأسرارنا التي لا نقدر على البوح بها لأحد، لم يدرك المسكين أنّ مخاوفه محبوسة هنا، هنا تقبع كلّ آلامه٢ نقطة صوّبت الأيّام إليه رماحها القاسية فأصابت الهدف، وتركته رهينة الآلام وسجين الخواطر، يصلى سعير الشوق والهوى، راقبته لسنوات قبل أن أفقد بصري، حفظت ملامحه، لا أستطيع أن أنسى وجهه الطيّب وشخصه الوادع الذي ملأ صدري أُنسًا وبدد ما فيه من وحشة٢ نقطة
, وقفت "حبيبة" وكفكفت دموعها، ظلّت تغالب أمواج الحيرة التي تتدافع داخل نفسها، شحب وجهها وتلاحقت ضرباته، وقالت وهي تلملم شتات نفسها:
, -لا بدّ أن أرحل الآن
, كادت تعيد الصندوق لمكانه لكنّ "أرسلان" سمع صوت احتكاكه بأرض غرفته فقال:
, -خذي الصندوق معك يا ابنتي
, -لماذا؟
, -رديه لصاحبه٣ نقطة لـ"يُوسف"
, حملت الصندوق بوجل وإشفاقٍ ووضعته بحقيبتها وقالت بثقة:
, -لا أظنني سأعيده إليه، هذا سيؤلمه، فتح الصندوق سيمرر السكين على جراحه مرّة أخرى
, -تخلّصي منه إذًا
, -بل سأحتفظ به حتى لا أنسى ما مرّ به "يُوسف"، وحتى لا أنسى "ديرينكويو" وما مررت به هنا
, -هل تعرفين ما معنى "ديرينكويو"؟
, -لا
, وضه يده على صدره وقال:
, -"ديرينكويو" تعني البئر العميق
, -يا لها من مدينة عجيبة!
, قال وقد ترقرقت عيناه بالدموع:
, - "كلّ واحد منّا يحمل مدينة تشبه مدينة "ديرينكويو" بين أضلعه، كلّما عشنا يومًا أو سلكنا دربًا من دروب الحياة، حُفِرَت طوابق في حنايانا ، أمّا أسرارنا ومخاوفنا فهي تقبع في صندوق صغير خلف باب عتيق بقاع تلك المدينة، لن يشعر بأوجاعنا إلّا من يُحبّنا، ولن تزول مخاوفنا طالما قلوبنا تضجّ بالحبّ، فمن يحبّ سيظل قلبه دومًا يتلظّى فوق نار الخوف من فراق من يحبّه"
, ربّت العجوز على كتفها، أسندته برفق وسارت معه نحو الباب، ودّعته وما زالت دموعها تسيل على وجنتيها، قالت قبل أن يُغلق خلفها الباب:
, -أعدك أن أعود إليك مع "يُوسف"، أودّ أن أسمع المزيد عن حبيبتك "بَهَار"
, لاح شبح ابتسامة واهنة على شفتيه الضامرتين، همهم باسم زوجته في خفوت، وأغلق الباب، وعاد لعزلته٣ نقطةوركضت "حبيبة" هائمة على وجهها بين الطوابق، وفوجئت بحرب ضروس بين عشائر الجنّ هنا وهناك.
, ٥ العلامة النجمية
,
, كان الهجوم شديدًا على المعبد وسكّانه من الجنّ الصالح، دارت حرب طاحنة بين عشائر الجنّ التي تسكن المدينة، كان "أُوبالس" في غاية الغضب، قررت "ياقوت" أن تخرج بنفسها لاختطاف الطفل من البستان، فأسرعت إلى هناك٢ نقطة
, في تلك اللحظات، وبينما "حبيبة" تركض، تلاشى غبار مدينة "ديرينكويو" من فوق رأسها وثيابها، بدأت تظهر لأهل المدينة، وبدأوا يطاردونها، كانت تهرب منهم وتنتقل من طابق لآخر بخفّة، كانت دقّات قلبها تتواثب، لم تتوقف عن الفرار منهم للحظة، وكأنّ هناك من يرشدها ويدلّها على الطريق، ومواطن يسهل عندها الفرار من ملاحقاتهم، بدأت تتعثّر وأرهقها الركض هنا وهناك، شعرت بالضعف عندما ازداد عددهم، في لحظة ما توقفت فجأة وأحاطتها الحيرة! وكأنّ وقودها قد نفد، ما الذي اعتراها فجأة! لا تدري٢ نقطة
, ٥ العلامة النجمية
, كانت تلك الحالة من جمود الفكر قد عادت لـ"يُوسف" الذي كان منعزلًا ليكتب ويساعدها، شعر بصقيع في رأسه، لم يتمكّن من كتابة حرف جديد، ترك "حبيبة" تقاوم من يلاحقونها في مدينة "ديرينكويو"، على الجانب الآخر هناك بمدينة "ديرينكويو"، أمسكوا بها في النهاية، وسُلسلت وعلّقت من ذراعيها بعد مقاومة شديدة منها، سلبوها حقيبتها، فتّشها "أُوبالس" وعثر على الخنجر، اقترب من الشعلة التي كانت تضيء المكان وبدأ يسخن نصله، وقرر أن يكويها في ذراعيها بالنّار.
, وقف "يُوسف" يرتجف، توقّع أنّها وقعت في أسرهم، ما الذي يحدث له عندما يكون غارقًا في كتابة أشد اللحظات ألمًا وخطرًا! حتى متى؟ حتى متى سيظل هذا سبب انهياره!
, جثا على ركبتيه وكأن هناك من طعنه في قلبه، لن يتخلّى عنها، ولن يتركها، لكنّه لا يستطيع التفكير، قرر أن يفتح دربًا ويصل إليها مباشرة، أخرج حجر "أُوبال" ورفعه على كفّه وضربه بيده الأخرى فانفتح درب أمامه، فدلفه ووصل إلى حيث كان "أُوبالس" يسخّن الخنجر ليؤذيها به، وينتظره، قهقه فور أن رآه وقال:
, -كُنت أعرف أنّها نقطة ضعفك، وأنّك ستأتي بالكتاب لتنقذها
, وضع الخنجر على ذراعها فأحرقها وصرخت صرخة نزعت قلب "يُوسف" من بين أضلعه، هرول نحوها ودفع "أُوبالس" بكل قوته، كوّر قبضته ولكمه في فكّه وكان الكهل صلبًا وعنيدًا فالتفت يصارعه، أمسك "يُوسف" بلحيته وجذبها بقوّة ودفعه نحو الجدار فاصطدم رأس "أُوبالس" وأصيب وازداد غضبه، صاح بغلّ شديد:
, -أنت فاشل٣ نقطةوستظل هكذا حتى آخر لحظات حياتك، لن تنجح في إتمام أمر واحد يا "يُوسف"
, اندفع "يُوسف" كالقذيفة واحتضنه ودفعه إلى الحائط مرّة أخرى، ارتج جسد "أُوبالس" عندما اصطدم بالجدار، قال وهو يمسح الدماء التي سالت من فمه:
, -فاشلٌ وضعيف، أنت حتى لا تجرؤ على الإفصاح بحبّك لها!
, وأشار لـ"حبيبة" وأردف قائلًا وهو يكزّ على أسنانه ويشدد قبضته:
, -سأمزّقها إربًا أمام عينيك، سأحطّم حلمك هذا كما حطّمتني وطمست سيرتي يا "يُوسف"
, ثار "يُوسف" غاضبًا وانقضّ عليه وطرحه أرضًا وجلس فوق صدره، ظلّ يضربه ويلكمه حتى أوجعته يده، دلف أعوان "أُوبالس" فجأة، هناك استنفار في المدينة، أمسكوا بـ"يُوسف" وعلقوه من ساقيه، أمرهم "أُوبالس" بجلده، لا يريد قتله في الحال، بل يريد تعذيبه أولًا، وخرج "أُوبالس" من الغرفة حاملًا كتاب "أيجيدور"، وجلس ينتظر "ياقوت" التي خرجت على صهوة "البرق"، والذي كان قد انضم إليهم ليساعدهم هو و "البحر"، ركض "البرق" بـ"ياقوت" نحو البستان، وكانت "هيدرانجيا" تسبقهم على الطريق للبستان مع المجاهيم، أراد "المجاهيم" الدخول بها لكنّهم لم يتمكنوا، فأزالت "لؤلؤة" النطاق الذي فرضته لتحمي البستان، فدلفت "هيدرانجيا" وضج البستان بالفرحة، وكانت "ياقوت" قد نزلت من فوق فرسها على حدود البستان لتراقبهم من بعيد وهي تشاهد "البرق" وهو يقتحم البستان، ثار "حيزوم" عندما رآه، كان يزوم كالوحش الكاسر، وقد فاجأهم بظهوره فجأة، التفتوا جميعًا تجاهه، انشغلوا بمتابعة المعركة العنيفة التي دارت بينهما، وتراجعت "هيدرانجيا" مع أختها للخلف بعيدًا عن الخيول، في لمحة عين، دلف أسرع الخيول في الركض، والذي اشتهر بسرعته الشديدة كأمواج البحر المتلاحقة، وعضّ على القميص الذي كانت "حبيبة" قد لفّته به، وخطف الصغير من حضن أمّه، وخرج به من البستان وسط صياح الجميع، وصل حيث كانت "ياقوت" تختبئ خارج البستان، فحملته وركبت "البحر" وعادت لمدينة "ديرينكويو" وجنّ المدينة يحلّقون حولها ليحموها من "المجاهيم"، نجحت في الوصول ودلفت حيث كان أبوها "أُوبالس" ينتظر، والذي قال فور أن رأى الطفل بين يديها:
, -هيّا بسرعة
, وقفت قبالته وقالت:
, -سيكون الملك لي يا أبي
, -كيف هذا!
, -أنت لم تتعب في شيء، أنت مجرّد شخص عادي حالف الشيطان فأرسل له عجوزًا تعلّم بناته السحر، أنت ضعيف
, -"ياقوت"! ماذا تقولين؟
, -أخفيت عنّي أمر كتاب "أيجيدور" ودوره منذ البداية، أردت أن تنفرد بهذا السرّ لتفوز بالسلطة المطلقة هنا، لولا حماقتك تلك لكان الكتاب معي منذ أوّل لقاء لي بـ"حبيبة"، وما تركتها تفرّ به! لقد كان الكتاب بين يديّ، وألقيته أمامها على الأرض!
, -أمجنونة أنتِ؟ تنعتين أباكِ بالحماقة!
, قالت باستهزاء:
, -أنت حتى لا تستطيع إلقاء تعويذة، فكيف ستحكم مملكة بأسرها؟
, كانت رأسه تفور كمدًا وغيظًا، صاح بغضبٍ هادر وهو يدقّ على الحائط بقبضته المتشنّجة:
, -أنا السيّد، أنا الملك، أنا الحاكم، أنا الآمر، أنا فوق كلّ شيء هنا، المعابد، والقصور، والمدن، والبساتين، والغابات، حتى أنتِ، والجنّ، والبشر!
, كاد ينقضّ عليها لكنّها بحركة بسيطة أسقطته، وأطبقت على عنقه بيد واحدة بينما تحمل الطفل في يدها الأخرى وقامت بخنقه، لفظ أنفاسه الأخيرة وهو راكع أمامها، وجلست بوجه ملامحه جامدة وكأنها نُحتت في لوح من جليد، ولم يرفّ لها جفن، وكأنّها لم تقتل أباها للتوّ!, خارج القائمة
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
١١
تعويذة "أُوبالس"
, كانت "ياقوت" تقرأ التعاويذ بصوت مرتفع وتقلّب صفحات الكتاب الذي أهدته لها العجوز التي لقّنتها السحر الأسود، أما "زُفير" فكانت تؤرجح مبخرة تفوح منها الأدخنة الزرقاء فعبق المكان برائحة كريهة ومنفّرة، اختلطت ثيابها الزرقاء بالأدخنة، فانطمست تفاصيل زينتها، وغابت هيئتها، فبدت كسحابة مخيفة من الضباب الأزرق تطلّ منها عيناها المخيفتان، بينما انخرطت "توباز" في ترديد ترانيم غريبة وكانت تكررها بسرعة وتطوّح رأسها يمينًا ويسارًا بجنون، بدت كالذئبة العليلة بتلك الصفرة التي غرقت فيها، فلم تكن ثيابها فقط ذات لون أصفر، بل تشرّبت بشرتها نفس اللون، وكذلك أسنانها، وحتى بياض عينيها كان يشوبه اصفرار بائس، جلست الساحرات الخبيثات الثلاث حول طاولة خشبية مستديرة، أمسكن بأيدي بعضهن البعض ورددن الطلاسم وهنّ مغمضات الأعين، أمسكت "ياقوت" بسكين حادة وجرحت الصغير في كفّه، بدأت دماؤه تسيل من جرح يده وهو يبكي، أمسكت "ياقوت" بيده ورفعتها فوق كأس فضيّ وجمعت دماءه بها ثُمّ غمست فيه ريشة وبدأت تستعد لكتابة تعويذة "أُوبالس" بدمائه في كتاب "أيجيدور" الذي أخذاه من "يوسف" بعد حبسه هو و"حبيبة"، والتي ستجعل كلّ من يعيش على أرض المملكة طوع أمرها، ستكون جلالة الملكة "ياقوت"، كانت ترتدي التاج بالفعل، هيّأت نفسها لهذا منذ فترة طويلة، كانت عيناها تبرقان، أطلّ الخبث من مقلتيها، وأخيرًا ستحكم تلك المملكة وكل من يعيش فيها سيكون تحت سلطانها حتى المحاربة والكاتب، وفجأة! اهتزّت جدران مدينة "ديرينكويو"، وكأنّ هناك من يدكّ الأرض فوقها دكًا بمطارق من حديد، فُتحت بوابات المدينة كلّها من الداخل، دلفت "ميسان"، ومعها "لؤلؤة"، و"عبيدة"، و"موراي"، ومعهم الخيول، كانوا يركضون بين الطوابق يبحثون عن الساحرات، وصلوا حيث كانت "حبيبة" فاقدة لوعيها وهي مقيّدة بالسلاسل المعلّقة على الجدار، أشفقت "لؤلؤة" عليها عندما رأت آثار الكيّ بالنار على ذراعيها، أمّا "يوسف" فكان معلّقًا من قدميه، وصدره مغطّى بالدماء، تبادلت مع أمّها النظرات، سكب "موراي" الماء على رأس "حبيبة" وعلى رأس "يُوسف" فأفاقا، قالت"ميسان" لـ"عُبيدة" و"موراي":
, -يجب أن نحررهما من القيود بسرعة، الوقت يمرّ، سأسبقكم أنا و"لؤلؤة"
, سألها "مُوراي":
, -ألن تحتاجا للعون؟
, -نحن الوحيدتان القادرتان على مواجهتهن
, قال "عُبيدة" وهو يحلّ قيد "يوسف":
, -بل سنذهب معًا
, قام "عبيدة و"موراي" بفك قيود "يوسف" و"حبيبة" بسرعة، انطلق الجميع تجاه الساحة الكبرى حيث كانت الساحرات يعقدن اجتماعهن، كانت "ياقوت" تكتب كلمتها الأولى في الكتاب، وكانت ثياب "لؤلؤة" تقطر بالماء، فقد أغرقت نفسها به قبل أن تدخل "ديرينكويو" لتكون في أقصى قوتها، رفعت "لؤلؤة" كفّيها ووضعتهما على الباب، أغمضت عينيها ودفعت بكلّ قواها في أتون معركة داخلية لتقوم باستحضار الطاقة الكامنة التي منحتها لها أمّها، ارتج بدنها بشدة، وجهتها تجاه البوابة الحديدية ففُتّحت كلّ الأقفال، اقتحمت "لؤلؤة" المكان ووقفت بثبات قبالتهن، واقتربت"ميسان" ووقفت خلفها ووضعت يدها على كتف ابنتها "لؤلؤة" المبلل بالماء لتراقب ما يحدث بحذر شديد، انتفضت الساحرات فزعًا، وقفن معًا، أجفلت "مَيسان" عندما رأت جثّة زوجها "أُوبالس" ممددة على الأرض، لاحظت"ياقوت" ارتباكها فقالت بتنمّر:
, -قتلته، وسأقتل كلّ من يعترض طريقي!
, -سحقًا لك أيتها الشيطانة
, حاولت "ياقوت" استدعاء خدمها من الجنّ فلم يُجبها أحد، قالت أمّها وما زالت تقف خلف ابنتها الصغيرة "لؤلؤة":
, -أتظنين أنّ تعاويذك تنجح مع الجميع؟ بعض سكان المدينة لديهم من الإيمان واليقين ما يجعلهم أقوى من تلك الخزعبلات التي علمتها لكنّ تلك العجوز الشمطاء البائسة، لقد خسرتن جنودكن من الجنّ، سيطر سكان المعبد من الجنّ الصالح على مدينة "ديرينكويو"، وانتهى الأمر.
, زمجرت "ياقوت" غاضبة وقالت وهي تكزّ على أسنانها:
, - اخرجي الآن، وخذي ابنتك الحمقاء معك، وإلّا سأقتلها وأحرق قلبك!
, -أتقتلين أباكِ ثُمّ الآن أختك٢ علامة التعجب ما الذي دهاكِ يا "ياقوت"؟ أنسيت حضني؟ وكلّ هذا الحبّ الذي عشناه معًا؟
, قالت بحنق شديد:
, -الحب هراء، وضعف، أهلكني هذا الحب، شقيت به، لو لم يكن هناك هذا الحبّ في قلبي لما توجعت بعد اختفائكما
, قالت "ميسان" متأثّرة:
, -لم نرحل بإرادتنا يا ابنتي، ما زال أمامك فرصة لتصححي أخطاءك
, صرخت "ياقوت":
, -كاذبة٣ نقطةأنت كاذبة٢ نقطةأنا أكرهك
, -ما عُدت تناديني بأمّي! لعب الشيطان برأسك، أنتِ عملٌ غير صالح يا "ياقوت"
, كانت "لؤلؤة" في تلك اللحظات تقف ثابتة كالطود، قالت وهي تمرر عينيها على وجه أختها:
, -ما زال قلبك أسود يا "ياقوت"
, -اغربي عن وجهي، لطالما فضّلتك أمنّا علينا جميعًا
, -قلبك الحاقد جعلك ترين الحقيقة معكوسة، لم تلتفتي يومًا لطريقة معاملتك لها، أنت قاسية عليها!
, -اخرجي قبل أن أسحقك كالذبابة يا "لؤلؤة"
, -لن تقدري!
, -أكرهك
, صاحت "مَيسان" بانفعال:
, -كفى٤ نقطة
, ثُمّ أردفت تسأل "ياقوت" بتأثّر:
, -لماذا قتلتِ أباكِ؟!
, -نعم قتلته، وأتبرّأ منه
, سألتها "لؤلؤة":
, - لماذًا إذًا تنسبن أنفسكن له٢ نقطةلـ "أُوبالس"؟ ألستن "ساحرات أُوبالس"؟
, دمدمت "ياقوت" غاضبة وقالت:
, -هذا لقبنا، نشأنا ونحن نعرف هذا الاسم، مجرّد لقب!
, ثُمّ أشاحت بوجهها قائلة:
, -نحن لا نختار آباءنا ولا أمهاتنا
, ثُمّ أضافت وقد لاحت على شفتيها ابتسامة ماكرة:
, -ولا نختار ميتتنا أيضًا
, ثُمّ رفعت يدها فجأة ورددت تعويذة وأشارت لأمها فسقطت على الأرض فاقدة لوعيها، كان هذا جلّ ما تستطيع فعله لأمّها، فـ"لؤلؤة" كانت تحميها، وكانت تعلم أن تلك هي نقطة ضعف "لؤلؤة"، والتي انحنت على أمها في فزع، أسرعت "ياقوت" وأمسكت بكتاب "أيجيدور" وحملت الطفل واختفت في غمضة عين، وتركت شقيقتيها "توباز" و"زفير" خلفها تركضان في تخبّط وهلع، تبعتاها ولحقتاها، أقبل "البرق" فركبته "ياقوت" وهي تحمل الرّضيع والكتاب، وطلبت منه أن يحملها إلى الجبل الأحمر، فسمعهما "أبهر" الذي كان يترصّد للبرق وللبحر منذ أن علم بعودة هذين الفرسين الأسودين الحاقدين، ولحقت التوأمتان بأختهما على صهوة "البحر"، وانطلقتا إلى الجبل الأحمر خلف أختهما.
, ٣ العلامة النجمية
, الجبل الأحمر
, على قمّة الجبل الأحمر، حيث الآفاق توشّحها الغيوم، وبعد أن أخبر "أبهر" "يوسف" بما سمعه وانصرف ليخبر "عبيدة" و"مُوراي"، كان "يوسف" قد فتح دربًا ولاحق الساحرات هو و"حبيبة، رأى "البرق" يصعد الجبل الأحمر حاملًا "ياقوت"، و"البحر" يتبعه حاملًا التوأمتين، وصلوا أخيرًا إلى قمّة الجبل، كان "يوسف" يختبئ هو و"حبيبة"، أرادا أن يخلّصا الرّضيع من بين يدي "ياقوت" أوّلًا، وقفا يسترقان السّمع إلى الحوار الذي يدور بينها وبين "البرق"، قبل أن تبدأ مرّة أخرى في تدوين تعويذة "أُوبالس" أطرقت هنيهة وكأنّها تتخذ قرارًا ما، ثُمّ انحنت على"البرق" وهمست في أُذنه، وترجلت حاملة الطفل والكتاب، فانطلق كقذيفة المدفع تجاه "البحر" والذي كان يحمل شقيقتيها "زُفير" و "توباز" وركله فهوى بهما من فوق قمّة الجبل، وقفت "ياقوت" تنصت لصراخ شقيقتيها وهما تهويان، وصرخ "البحر" صرخة مذعورة شقّت الصمت المهيب الذي يحيط بالجبل الأحمر، ثُمّ اختفت أصوات ثلاثتهم للأبد، قالت بانفعالٍ ويداها ترتجفان:
, -لم يضيفا شيئًا، ولم يمنعا شيئًا، كانا صفرين لا قيمة لهما
, قال "البرق":
, -و"البحر" أيضًا كان حجرًا في طريقي
, قالت بتسلّط:
, - لا بدّ أن نُسرع
, لاحقها "البرق" قائلًا:
, -اكتبي بسرعة يا "ياقوت"
, زفرت بحنق وقالت وهي تتفحّص يد الصغير:
, -كيف سأكتب؟ دماء الجرح جفّت، لا بدّ أن أجرح الرّضيع من جديد
, قال "البرق" وهو يحمحم:
, -استخدمي أسنانك
, قالت باشمئزاز:
, -لن تؤدي أسناني الغرض
, -إن لم تفعلي سأفعل أنا، وسأقتله إن استدعى الأمر هذا!
, وضعت الرّضيع على الأرض وقالت:
, -سأبحث عن شيء حاد هنا أو هناك
, صرخ "البرق":
, -أطيعي الأمر أيتها الحمقاء!
, صاحت بغضبٍ هادر:
, -كيف تجرؤ أيها الحيوان الحقير
, ثار "البرق" ورفع قوائمه الأمامية وهوى بهما على صدر "ياقوت"، فسقطت أرضًا وهي تئن من الألم فقد كسر لها ضلعًا ولطمها على وجهها بحوافره، بدأت تصرخ وتبكي، كرر ما قاله "أوبالس" من قبل:
, -أنا السيّد، أنا الملك، أنا الحاكم، أنا الآمر، أنا فوق كلّ شيء هنا، المعابد، والقصور، والمدن، والبساتين، والغابات، حتى أنتِ، والجنّ، والبشر!
, سار "البرق" نحو حجر كبير عليه علامة، فقد كانت قمّة الجبل مكان لقائة بـ"ياقوت"، عندما تحوّل لبشر سابقًا وكان في أبهى حالاته وكان يلتقي بها هنا، فأحبّته واتفقا على الزواج عندما ينتهيان من كتابة التعويذة وإنهاء المراسيم والسيطرة على المملكة، وفَتح الدروب بحجر أُوبال مرّة أخرى ليأخذ هيئة البشر للأبد ويتمّ الزواج بنجاح.
,
, دفع بقوائمه صندوقًا خشبيًا كان يخبئه خلف ذلك الحجر الكبير، رفع الغطاء وسحب بفمه ورقة من الداخل، بدأ يرتّل ما بها من تعاويذ ليسيطر على "ياقوت"، أدرك "يوسف" أنّها الورقة التي كتب عنها من قبل في روايته وكانت بالصندوق مع حجر " أُوبال"، وضع يديه على أذنيه وكذلك فعلت "حبيبة" التي بدأت تردد آيات من القرآن حتى لا تسمع الطلاسم والتعاويذ التي ستمكّن "البرق" من السيطرة على كل من يلقيها عليه، وفعل "يُوسف" كما فعلت "حبيبة"، وفور أن انتهى"البرق" من ترديدها، جلست "ياقوت" أمامه، رغم ما ألمّ بها من كسر في الضلوع مؤلم حدّ الموت!، وبدأت تستجيب لأوامره، واقتربت من الرّضيع وقامت بعضّه بأسنانها فصرخ المسكين، في تلك اللحظة انقضت "حبيبة" عليها ودفعتها بقوّة فهوت "ياقوت" مرّة أخرى واصطدمت رأسها بحجر حاد وسالت منها الدماء، فأقبلت "حبيبة" وجذبت كتاب "أيجيدور" من حضن "ياقوت"، ولاحظت الحجر الأخضر الذي يتدلّى من عقدها فتذكّرت "زمرّد" فخطفت الحجر ودسّته في جيبها وحمدت **** أنّ "ياقوت" لم تلقه خلف شقيقتيها من فوق الجبل، غضب "البرق" وهاج وانطلق نحو "حبيبة" محاولًا إسقاطها، حاول "يُوسف" أن يلهيه عنها بقذف الحجارة عليه، ففرّت بالكتاب قبل أن تتمكن من التقاط الرّضيع عن الأرض وقلبها يكاد يتصدّع، عاد "البرق" القهقرى صوب "الرّضيع" وهو يحمحم ويغلي كالبركان ليهددهما بقتله إن لم يعطوه الكتاب، اصطدم في طريقه بـجسد"ياقوت" وكانت لا تزال تنزف، فركلها بغضبٍ وقسوة عدّة مرّات وصاح قائلًا:
, -لولا عنادك أيتها اللعينة لما حدث كلّ ذلك
, فتدحرج جسدها على سطح الجبل المائل وهوت خلف شقيقتيها، وهي تصرخ صرخات مذعورة انخلع لها قلب "حبيبة" فقبضت على الكتاب وعيناها لا تفارقان البرق، ابتعد "البرق" ثائرًا، غاضبًا٣ نقطة
, لقد خرجت الأمور عن السيطرة، صار الآن وحده! قفزت"حبيبة" بجسارة أمامه لتحول بينه وبين الرّضيع الملقى على الأرض بالقرب منهما، وألقت بالكتاب لـ"يُوسف" وطلبت منه أن يحاول الكتابة فيه، لعلّه يجد مخرجًا لهما ولينقذا الرّضيع.
, بدأ "البرق" يضرب الأرض بحوافره، حمحم وحرّك أذنيه للخلف وحرّك رقبته من جانب لآخر، كان يستعدّ للهجوم على "حبيبة" والتي كانت متأهّبة لهجمته، قفز نحوها فلم تهرب وقبضت قبضة من تراب الأرض فنثرتها في عينيه، فاستدار محمومًا وهجم عليها كالإعصار ودفعها بقوّة فهوت من فوق قمّة الجبل، صرخت صرخة انخلع لها قلب "يُوسف"، انقطع الصراخ فانهار وشعر وكأنّه طُعن في فؤاده بخنجرٍ مسموم، زفر بحرقة وهو يرتجف وكأنّ مسًّا كهربائيًا أصابه، غمرته غشاوة دمع يكاد يطفر من عينيه، صارت أعصابه على حافّة الانهيار، ناداها بصوت مختلج ينذر بالبكاء فلم تُجبه، تساءل في ومضة تفكير٢ نقطةماتت٢ علامة التعجب يا إلهي٢ علامة التعجب
, ظلّ رابضًا في مكانه، طنّت في أذنيه كلمة الموت، وكاد يخرّ على ساقيه باكيا لولا ألطاف **** التي أدركته عندما نادته "حبيبة" بصوت يشبه اللهاث المكتوم:
, -أنا بخير يا "يُوسف"٢ نقطةانتبه للصغير
, جاء صوتها كطوق نجاة له، شعر بوجيب بين أضلعه عندما سمع أنينها من الألم، سكنت "حبيبة" حيث كانت على نتوء بارز بالجبل حيث أُصيبت ساقها، حمل "يوسف" الرّضيع، دار "البرق" حوله، كان يطالعه بعينين مشتعلتين، قال "يوسف" وهو يتراجع بحذرٍ مبتعدًا عنه:
, -ها هو الكتاب، وها هو الطفل، أخبرني الآن كيف ستكتب بحوافرك!، لن تفلح يا "برق"، ما تنشده لن يكون، لن تحكم البشر!
, ظل "البرق" يحوم أمامه، قال بغضب هادر وهو يمرر عينيه عليه من أخمص قدميه لقمّة رأسه:
, -لو كنتُ بشرًا لسحقتك بيدي، أتجرؤ على قتالي وأنا بهيئة البشر يا "يُوسف"؟ أم ستهرب أيها الكاتب الفاشل؟
, استشاط "يُوسف" غضبًا، تذكّر ما فعله "البرق" بـ"حبيبة" منذ لحظات، فزمّ عينيه وقال بتصميم:
, -حسنًا٣ نقطةلنرَ!
, أمسك بالكتاب وكتب جملة واحدة، وفور أن أنهاها سقط "البرق" على الأرض، كانت أطرافه تتشنّج وتنتفض، ورأسه تتطوّح يمينًا ويسارًا، حمحم كالذبيحة، ظلّ ينازع، وتحوّل لبشر، وقف يلهث أمام "يُوسف"، وكان صدره يعلو ويهبط بسرعة شديدة، خلع "يُوسف" قميصه وألقاه له قائلًا:
, -استر نفسك أولًا، وكُن رجلًا بحقّ قبل أن نبدأ القتال
, لوّح "البرق" له بنزقٍ وأمسك بالقميص وربطه على خاصرته، وابتسم ابتسامة من تحققت له أمنيته المستحيلة للتوّ، بينما أبعد "يُوسف" الرّضيع والكتاب ووضعهما في مكان آمن، ووقف بجسارةٍ متأهّبًا لقتال "البرق"، تواثبت دقّات قلبه، وتدفّقت الدماء في عروقه، كان مختلفًا عن هذا الكاتب الشّاب الذي خطا أوّل خطواته على أرض مملكة البلاغة بقدم ترتعش، لمعت عيناه، وتلألأت حبّات العرق على جبينه، غضّن حاجبيه، كان يملك من اليقين في تلك اللحظة ما يكفيه لينتصر، أدبته الدروب هنا، وصار أكثر ثباتًا وثقة في ذاته، كانا يدوران حول بعضهما، يسيران بحذر، يترقّبان، قال "يُوسف" بثقة:
, -الآن يا "برق"٣ نقطةقاتلني رجلًا لرجل أيّها البائس
, زمجر "البرق" واستقام على قدميه، وسدد إليه نظرات نارية وهو يقول:
, -أنت ضعيف، لن تغلبني
, رفع "يُوسف" رأسه وقال وهو يلوّح بقبضته:
, -قُل ما شئت٣ نقطةلن تهزمني كلماتك
, حمحم "البرق" وقال بغيظ وهو يصرّ على أسنانه:
, -لن تفلت من يدي٢ نقطةسأسحقك كحشرة وضيعة، نهايتك وشيكة
, لم يتزحزح "يُوسف" قيد أنملة، قال بنبرة متجاسرة:
, -جرّبني!
, هزّ "البرق" رأسه باستهزاء وقال بتشفٍّ:
, -صدق "أُوبالس" عندما قال لبناته أنّك وحيد٣ نقطةأنت لا تجد من يؤمن بك!٢ نقطةيا مسكين!
, ابتلع "يُوسف" كلماته المؤلمة، ولم يتوقّف عندها، قال وهو يقترب منه خطوة:
, - لا أحتاج للآخرين ليؤمنوا بي، هزمت جيش مخاوفي وشكوكي، أغلقت دروبي للأبد، ما عدت أخشى إلّا ****، انتهى الأمر يا "برق"٣ نقطةصدقني٢ نقطةلديّ الآن حلمٌ وسأقاتل من أجله
, ثار "البرق" وخطا نحوه والشرر يتطاير من عينيه، ومِرجل الغضب يغلي في صدره، وانقض عليه كالوحش الكاسر، دارا فوق بعضهما، وجّه "يُوسف" للـ"برق" سلسلة من اللكمات تمكّن من صدّها فركله بقوّة، تباعدا وعادا فالتحما، كان "البرق" يركل "يُوسف" بساقيه ويركض بخفّة وسرعة شديدة، وكان "يُوسف" يتربّص وينتظر حتى يقتنص فرصة ليباغته بضربة قوية هنا وهناك، ويوجّه ضرباته لأماكن متفرّقه، وثب "البرق" فأسقط "يُوسف" على الأرض، انتفض "يوسف" واعتدل ليواجهه، ولفّ جذع "البرق" بذراعيه وقلَبه ليسقطه على الأرض، ثُمّ طوى ركبته وهوى على ظهره بكلّ ما أُوتي من قوّة، أزاحه "البرق" واعتدل واقفًا، انقضّ عليه "يُوسف" وضربه ضربات متوالية، ضربة على كتفه، وأخرى على صدره، وثالثة بأقصى قوّته في أنفه فكسرها فصرخ "البرق" صرخة مزّقت الصمت المحيط بهما، وجثا على ركبتيه والدماء تسيل، رفع رأسه واشتعلت عيناه، فانطلق كقذيفة المدفع تجاه "يوسف" وأطبق بأصابعه العشرة على رقبته ليخنقه، ازرقّ وجه "يُوسف"، كان "البرق" يضغط بركبتيه على صدره وهو يشدد من قبضته أكثر فأكثر، استجمع "يُوسف" قوّته وأدخل ذراعيه ودفع يدي "البرق" للخارج فأبعدهما عن رقبته، وغرز أصابعه في عينيه فتراجع "البرق" وهم يتألّم، كاد يعيد الكرّة ويهاجم "يُوسف" لولا ذاك السهم الذي انطلق فأصاب "البرق" مباشرة في قلبه، صرخ صرخة مريعة، وتدفّقت الدماء بعد السهم الثاني الذي انغرس في شريان عنقه، زحف "يوسف" ببصره نحو الرّامي فوجده "عُبيدة"! كان يقف وفي يده القوس، والدموع معلّقة بأهداب عينيه، وخلفه "حيزوم" و"أبهر" حيث كانوا يتبعون "يُوسف" و"حبيبة" بعد أن أخبرهم "أبهر" بمكانهما٣ نقطة
, ظلّ "البرق" يركل الأرض وينتفض، حمحم وعيناه تغربان نحو السماء، غالب ألمه وحاول أن يقف على قدميه، لكنّها خذلته في النهاية، ارتجّ بدنه، أسرع "يُوسف" لكتاب "أيجيدور"، أراد للبرق أن يموت فرسًا٢ نقطةلا رجلًا! كتب جملة أخرى على صفحة الكتاب، وفجأة٢ نقطةعاد "البرق" لأصله، جوادًا أسود عنيدًا يلفظ أنفاسه الأخيرة، أغرقت دماؤه الأرض، وكان يسبّ "يُوسف" ويلعنه، أسرع "عبيدة" تجاهه، ظنّ "يوسف" أنّه رقّ إليه، لكنّه فوجئ به وهو يستل سيفه ويمسكه بيديه معًا ويرفعهما، ليهوي بحدّ السيف على رقبة "البرق" ويقطع عنقه، في تلك اللحظة تذكّر "حيزوم" كيف ذُبحت أمّه بأمرٍ من "البرق"، دمعت عيناه، تمّ الأمر في لحظات كانت الأصعب منذ أن وصل "يوسف" إلى هذا المكان، كان "عُبيدة" ساكنًا كالصنم، لم ينبس ببنت شفة، حمل كتاب "أيجيدور" والرّضيع، والتفت حيث كان "يوسف" يراقبه، قال وهو يحدّق في وجهه بثبات:
, -هيّا بنا لنحمل "حبيبة" ونعود للبستان
, نزلا مع "حيزوم" و"أبهر" حيث كانت "حبيبة" متكوّرة على الأرض وتئن من شدّة الألم، فتح "يُوسف" دربًا باستخدام حجر "أُوبال"، وحمل "حبيبة" وعاونها لتتمكن من ركوب "أبهر" وسار بجوارها، وانتقلوا جميعًا للبستان، وكان أهل البستان في انتظارهم، حملت "هيدرانجيا" ابنها واحتضنته وأغرقته بالقبلات والدموع تسيل من عينيها، اقترب "كِرشاب" ولثمه على جبينه بحنان وطالعهم بامتنان، أسرع "يُوسف" ينقل"حبيبة" لكوخ "مِسكة"، وتركها معها وهي تعالج حروق يديها التي أصابتها عندما قام "أُوبالس" بكيّها بالنّار في زنزانة مدينة "ديرينكويو"، وكان "يُوسف" قد نسي جراحه التي أصيب بها بعد أن عذّبوه هناك، خرج ليبحث لها عن شيء يضمّد به ساقها المصابة فوجدهم جميعًا يقفون أمام الكوخ وينظرون إليه، قال "كِرشاب" وهو يرفع ابنه ليراه الجميع:
, -سأسمّيه "يُوسف"
, ضجّ البستان وعلت أصواتهم فرحًا، وهرولت "مَيسان" وحملت الرّضيع وسارت به تجاه "يُوسف"، كانت الدماء ما زالت تسيل من كفّه الصغير، فقد جرحته "ياقوت" بأسنانها جرحًا عميقًا، قالت "مَيسان" بجدّيّة شديدة وهي تمسك بكفّ صغيرها وتوجهه نحو "يُوسف":
, -اكتب جملة النهاية بدمائه في كتاب "أيجيدور"
, -ماذا سأكتب!
, ران عليهم صمت مطبق، سكنوا جميعًا وكأنّ على رؤوسهم الطير، قالت "مَيسان" بثقة:
, -لا تترك النهاية مفتوحة يا بنيّ٣ نقطةأرجوك
, تبادل "يُوسف" معها نظرة طويلة وعميقة، كانت كلماتها تلك تعني الكثير لـه، فأمسك بكفّ الصغير ومال بها نحو الكتاب فسالت الدماء على إصبعه الصغير فكتب "يُوسف" بها:
, "وأُغلقت الدروب للأبد، وبدأت مملكة البلاغة تعود لسابق عهدها"
, صاحوا جميعًا بصوت واحد مبتهجين، كانوا فرحين بانتهاء عهد ساحرات "أُوبالس" وما حمله لهم من كُربات، التفت "يُوسف" نحو "حبيبة" التي كانت تئنّ من ألم ساقها فاقتربت "مَيسان" معه لتتفحّصها، كانت ساقها قد بدأت تتورّم وتزرق، يبدو أنّها شرخت أو كُسرت!، استوقفتها "حبيبة" وأخبرتها بما حدث لبناتها الثلاث، سالت دموعها عندما علمت بموتهن، مدّت "حبيبة" يدها بالحجر الأخضر وقالت لها:
, -"زمرّد"٣ نقطةهنا
, التقطت "مَيسان" الحجر بوجلٍ واحتضنته، كم هو غريب حال تلك المرأة، تلك هي المحاربة بحقّ، كيف صمدت أمام ما رأته، وعاشته، وعانته في تلك الدروب العجيبة، ثُمّ ما ذاقته من ظلم زوجها وضلال بناتها الساحرات! حررت ابنتها وأخرجتها من الحجر فهرعت "زمرّد" تختبئ في حضن أمّها وهي ترتجف، كانت تشتاق إليها فقد حُبست لفترة طويلة ولزمت المعبد لتحمي أمّها من بطش شقيقاتها الثلاث، علا صوت بكائهما فاقتربت "لؤلؤة" وأحاطتهما بذراعيها الرقيقتين، بقين مع "حبيبة" في الكوخ لفترة طويلة، وكانت تكتم أنينها من ألم ساقها احترامًا لألم قلوبهن الأشدّ، ولما أرهقهنّ البُكاء، تحاملت "مَيسان" على جرح قلبها وقامت لتؤدي واجبها وضمّدت لـ"حبيبة" ساقها وجلست مع ابنتيها "لؤلؤة" و"زمرّد" ووضعن كفوفهن على ساقها المصابة، وأغمضن أعينهن في آن واحد، وجلسن في سكينة وكأنّ على رؤسهن الطير، شعرت "حبيبة" بحرارة تتخلل عظام ساقها، ثُمّ أحسّت وكأنّها قد تحوّلت إلى قطعة من الجليد، رفعن أيديهن وسألتها "لؤلؤة":
, -بماذا تشعرين الآن؟
, تحسست "حبيبة" موضع الألم فلم تجد أثرًا له، وقفت على ساقها وسارت بحذر وهي تتعجب، قالت بذهول:
, -وكأنّ الكسر قد التحم!
, قالت "مَيسان" بخفوت:
, -حمدًا لله على سلامتك يا ابنتي
, عادت "مَيسان" لصمتها الحزين واحتضنت ابنتيها في صمت، وجلست "حبيبة" تتأمّلهن وتذكّرت حديثها مع "لؤلؤة" عن البحر، وكأنّها كانت تتحدّث عن أمّها! على رقّة جسد "لؤلؤة" كانت تلك الفتاة تحمل همومًا كالجبال، ورغم قوّتها العظيمة فهي تبدو ضعيفة للناظرين! أمّا "مَيسان"، فهي حقًا تُشبه البحر!
, خارج الكوخ، جلس "يُوسف" بجوار "مُوراي" تحت شجرة وارفة الظلال بالبُستان، سأله "مُوراي":
, -هل اقترب موعد رحيلكما؟
, -يبدو هذا يا صديقي
, شعر "مُوراي" بغصّة في حلقه وقال:
, -هل من الممكن أن تبقيا هنا للأبد؟
, -لا أظنّ هذا، لو بقينا سنموت، نحن لا ننتمي لهذا العالم
, دمعت عينا "مُوراي" فقال بصوت مزّقه البكاء:
, -قبل أن ترحل، اترك لي معطفك هذا يا سيّدي، لأتدثّر به عندما أشتاق إليك، ولأشمّ رائحتك
, اهتزّ وجدان "يُوسف" وارتجفت يداه، أراد أن يقول شيئًا ليخفف عنه، لكنّه كان يعلم أنّ هذا النوع من الشعور بالفقد لا يزول! قال بصوت متحشرج وهو يكتم البكاء:
, -سامحني يا "مُوراي"
, هرول "مُوراي" مبتعدًا عنه ليخفي دموعه، وجلس "يُوسف" مكانه حزينًا، ليته يستطيع البقاء هنا للأبد، ليته يستطيع!
,
, ٥ العلامة النجمية
,
, عادت "هيدرانجيا" مع زوجها وابنها للقلعة البيضاء، تلفتت شقيقتها "جلاديولس" أكثر من مرّة وهم يخرجون من البستان في موكب عظيم ومعهم حرّاسهم وجنودهم الأوفياء، كانت تبحث عن "عُبيدة"، وتسير وقلبها يلتفت٣ نقطة
, أراد "عُبيدة" أن يصرّح بحبّه لها، ويطلبها للزواج، وكان يتخبّط في تردد، هل يخبرها أم لا؟، وهل ستقبل بالزواج منه أم لا؟
, دلف إلى كوخ "مُوراي" وارتدى أحسن ثيابه وتعطّر، وأقبل فوجدها تخرج من البُستان، هرول خلف فرسها وأوقفه، وضع يده على صدره وحيّاها بوقارٍ وكأنّه يراها لأوّل مرّة، كانت عيناه تشعّان حبًا وشوقًا، تاهت منه الكلمات، عجز لسانه عن البيان، وكان البليغ في قومه!، نسي للتوّ كلّ النصائح التي كان ينصح بها "يُوسف"، طال صمته وهو يتأمّلها وكانت تنتظر أن يبوح بشيء ليريح قلبها٤ نقطة
, ردّ لها الوشاح وتراجع خطوتين للخلف، ووقف يتخبّط أمامها في حرج، التقطت الوشاح منه بيد ترتعش، شعرت بضيق وكادت تسقط من فوق جوادها، لكنّها تماسكت، قال متلعثمًا:
, -أُريد أن٤ نقطةأ.أ٢ نقطةأين تذهبين؟
, -إلى القلعة مع أختي وزوجها!
, لاحظت تخبطه وتلعثمه فسألته:
, -ما بك يا "عُبيدة"؟ هل سلكت دربًا من دروب "أُوبال" مرّة أخرى!
, قال في اضطراب:
, -لا٣ نقطةلكنني٣ نقطة
, -لكنّك ماذا؟!
, -أُحبّ!
, أخذت شكوكها تربو وتتضخّم، هل أحبّ "عُبيدة" فتاة من هؤلاء٣ نقطة"حبيبة" أو "لؤلؤة"؟، ولهذا أعاد إليها الوشاح!، جفّ حلقها، وتسارعت دقّات قلبها، قالت وهي تعصر الوشاح بيديها٢ نقطتان
, -هنيئًا لها
, مسح وجهه بكفيه وقال:
, -لكنني لا أجرؤ على التصريح لها بمكنون صدري
, رنت إليه وسألته وهي تُخفي توتّرها:
, -لماذا؟
, قال متلعثمًا:
, -تعلمين أنني من قبيلة عربية و٣ نقطة
, بتر كلماته ووقف يفرك كفيه فقالت وقلبها يهوي:
, -أعرف عنك كلّ شيء يا "عُبيدة"، أخبرتني "حبيبة" بقصّتك بالتفصيل
, اقترب من فرسها الذي كانت تمتطيه وأمسك بسراجه وقال:
, -لا أملك من المال ما يؤهلني للزواج من٣ نقطة أميرة!
, تنفّست الصعداء، قالت تتلفّت يمينًا ويسارًا كعصفورٍ تائه في البستان:
, -لكنّك غني الخلق والنفس
, عقد حاجبيه قائلًا:
, -ليس لدي قصر عظيم أسكنها فيه لكي تشعر بالأمان، ولا أملك قلعة أسوارها عالية
, أشاحت بعينيها بعيدًا عن وجهه وقالت:
, -ستكون أنت حصنها وسكنها
, -لست أميرًا ولا ملكًا ولا٣ نقطة
, قاطعته قائلة:
, -لكنّك فارس مقدام!
, قال بحزن:
, -فقدت أهلي وعشيرتي
, -ستكون هي أهلك وعشيرتك
, -أنا٣ نقطة
, -أنت ماذا؟
, سحب نفسًا وكتمه وثبّت عينيه على وجهها وقال:
, -هل تقبلين الزواج منّي على حالي تلك يا أميرتي؟
, بسط كفّيه ورفعهما أمامها خاويتين، خلعت تاجها وقالت:
, -لستُ أميرة
, -ماذا؟
, -هذا التاج لا قيمة له عندي إلّا لو وضعته أنت فوق رأسي، وتلك القلعة الحصينة لم أشعر فيها بالأمان منذ وفاة أبي
, -كلما تأملت حالي شعرت أن ليس من حقي أن أحبّك أو أتزوجك، حتى لو كنت أحبّك حبًا جارفًا، لا مناص من أن أطوي جوانحي على سرّي، فأنت تستحقين أميرًا يليق بك
, قاطعته قائلة:
, -إن كنت لا تملك سوى خيمة هنا بالبستان فأنا راضية
, ثُمّ أردفت بعينين دامعتين:
, -يا "عُبيدة"، لولا علمي بما يحجبك عن طلبي للزواج ما صرّحت لك بكلماتي تلك٥ نقطة
, دققت فيه النظر لبرهة ثُمّ ازدردت ريقها بصعوبة وقالت:
, -عندما التقيت بك في الدروب، خفق قلبي مرّتين، مرّة هناك، ومرّة هنا، وجُرحت بينهما أيّما جرح! وبقيت أنت حلمي الذي انتظرته طويلًا
, قال بنبرةٍ أسيفة:
, -لم يكن الفراق بيدي
, قالت بصوت تقطعه الدموع:
, - حمدًا لله أنّ تلك الدروب قد أغلقت للأبد، خشيت أن ترحل مرّة أخرى!
, ثُمّ ألقت وشاحها عليه مرّة أخرى فالتقطه بيده وضمّه لصدره، قالت وهي تبتعد:
, -اطلبني من زوج أختي٣ نقطة
, وفور أن خرجت من البُستان كان "أبهر" بين يديه يصهل بعذوبة، كان ينصت لحديثهما هو و"الشقراء"، ويترقبان في تلهّف كلمات سيدهما لمحبوبته، أحنى "أبهر" رأسه وقال بحماس:
, -هيّا يا سيّدي أسرع، سنسابق فرسها ونلحق بالأمير "كِرشاب"
, وثب "عُبيدة" واعتلى صهوة جواده الحبيب، وانطلقا يركضان في بُستان الحبّ، وفاز "عُبيدة" بقصب السبق.
,
, ٥ العلامة النجمية
, ضجّ البستان بضحكات "الحزاورة" الصغار، وكان "مُوراي" ورفاقه في غاية السعادة، فقد أصبح بيت "بركات" أو "أُوبالس" مِلكًا لهم، بعد أن منحتهم زوجته السيّدة "مَيسان" البستان بما فيه، وصارت "مِسكة" الآن صاحبة لقب جديد فهي أمّ "الحزاورة"، وسيّدة بستان "حيزوم"، بقيت خيول "الكحيلان" الستّة بالبُستان وكانوا فرحين برفقتهم، وستتزوج "الترياق" أخيرًا من "المسوّم".
, انتقل أهل قرية "الدحنون" إلى المنطقة التي يحكمها "كِرشاب" وأخوه، فقد رحّب برعايتهم، وضمّهم لرعيته بعد دمار قريتهم بالكامل. نشأت صداقة جديدة بين "المجاهيم" وسكان معبد مدينة "ديرينكويو" من الجنّ الصالح بعد أن تمكّنوا من السيطرة عليها، رحل الشَّريف "أرسلان" في هدوء، حلّقت روحه في سلام بعد مغادرة "حبيبة" لغرفته، تفقّده سكان المعبد من الجنّ كعادتهم، وحزنوا لوفاته، وقاموا بدفنه في نفس الغرفة التي دَفن فيها زوجته "بَهار"، وعاش فيها تقتات عليه الوحدة لسنوات طوال، غمرت السكينة تلك الغرفة، توهّجت الأحجار المشعّة وازدادت تألّقًا وضياء، وأُغلقت الغرفة للأبد.
, سارت "الحوراء" مع ابنها "الزاجل الأزرق" يتقدّمان قومهما، وحلّقت فوقهم الصقور فساروا في موكب مهيب، عادوا إلى أرضهم ليصلحوا ما خرّبه "أوبالس" فيها، ورحل حرّاس المكتبة إلى مقرّها ليعيدوا بناءها، وتطوّع الكثيرون من أهل المملكة ومُحبي الكتب ليساعدوهم.
, كان الليل قد أقبل، وتحت ضوء القمر، كان هناك غبار من اللؤلؤ يلمع في عيني "يُوسف"، أقبلت "حبيبة" نحوه فتعجّب عندما رآها تسير على ساقها التي ظنّها قد كُسرت، أخرجه الذهول من حالة الحزن التي أطبقت على صدره بعد كلمات "مُوراي" الأخيرة له، قال وهو يتابع سيرها نحوه:
, -كيف!
, قالت وهي تبتسم:
, -يبدو أنّ "مَيسان" وبناتها عالجنها بطريقة ما!
, -لا بدّ أن نعود بسرعة، ربّما خدرنها وستحتاجين للفحص والعلاج
, كانت تبتسم وعيناها تشعّان، قالت بلطف:
, -أخبرني حرّاس المكتبة أننا لا بدّ أن نذهب إليهم غدًا، لنسلّم الكتاب، ستكون أوّل كاتب يشهد مراسيم استرداد كتاب لكلماته، سترى بعينيك عبارات الكتاب وهي تظهر على صفحاته وتستقر مكانها
, قال يائسًا:
, -وبعدها سنعود إلى الوطن
, -ولماذا أنت حزين؟
, قال شاردًا:
, -أنتِ تشتاقين لأهلك، أمّا أنا فلا أملك من يشتاق لي، ومن أشتاق لجوارهم سأفارقهم بمجرّد رحيلي من هنا
, شعرت "حبيبة" بالحرج، قالت على استحياء:
, -وددت أن أخبرك أنني تذكّرت لقاءنا الأوّل بالجامعة، كنت قد تحدّثت مع أخي عن الجيولوجيا وعن عشقك لها، أليس كذلك؟ وأنّك كنت تكره الدراسة في البداية ثُمّ عشقتها بعد ذلك، لكنّ ذاكرتي مشوشة قليلًا٣ نقطة
, رفع رأسه ولوّح بقبضته في الهواء مبتهجًا وقال:
, -حمدًا لله٣ نقطةلقد أخافني إنكارك للقائنا حتى أنني خشيت أن تكوني شخصية من شخوص رواياتي
, قالت ساخرة:
, -كيف هذا وأنت لم تكتب عني أبدًا؟
, قال بعفوية:
, -بل كتبت عنك الكثير!
, سألته بفضول:
, -في رواية؟
, تمتم بحرج:
, -لا، مجرد خواطر٤ نقطة
, جلسا ساكنين تظللهما قبّة السماء بجاذبيتها، وقد تبعثرت فيها حفنة من النجوم حول قرص القمر الذي كان يشهد على ما في قلبيهما، لم يصرّح "يُوسف" لها بالحب، وكان قلبها قد بدأ يضجّ بالحب، لكنها كانت تطويه خجلًا بين حجرات قلبها الرقيق، نسمة هواء حادة الحلاوة هبّت فجأة على وجهه فاقشعر بدنه، لاحظ "يُوسف" أنّ "حبيبة" قد أصابها ما أصابه فخلع معطفه وألقاه على كتفيها فأدخلت ذراعيها وارتدته ووقفت أمامه وقد غطست يداها واختفت في أكمامه الطويلة، فضحك عندما رآها غارقة فيه، مدّت يدها في جيب المعطف وأخرجت حجر "أُوبال"، قالت وهي تتأمّل ألوانه الخلّابة:
, -هل ما زال يفتح الدروب؟
, -لا أظن، فقد كتبت في كتاب "أيجيدور" أنّ الدروب أُغلقت للأبد، صار هذا الحجر بلا قيمة!
, قالت وهي تقلّبه بين كفّيها:
, -لكنّه في عالمنا يُساوي الكثير!
, ثُمّ رفعت عينيها تجاهه وقالت باسمة:
, -تستطيع بيع هذا الحجر يا "يُوسف"، ستصبح من الأثرياء، تستطيع طباعة رواياتك، وشراء بيت جديد
, مدّت يدها تجاهه بالحجر فالتقطه وقد لمع في نفسه بصيص أمل فظلّ يُفسح له، بدا كطفل صغير عثر على الحلوى التي يحبّها للتوّ، تواثبت نظراته في فرح وقال بعد صمت لطيف:
, -وأستطيع أن أتزوج من الفتاة التي أحبّها!
, شعرت بالحرج الشديد، واصطبغ خداها بحمرة الخجل، لا بدّ أن تهرب من أمامه الآن، أشاحت بعينيها بعيدا عن عينيه، لم يجد مناصًا من أن يخبرها بما في قلبه، فسألها متعجلًا:
, -هل تقبلين الزواج من كاتب مجنون؟
, كان قلبه يختلج، وعيناه تتذبذبان وكأنّه أصيب بصاعقة، غمر العرق جبينه رغم البرد الذي يلفّ المكان
, قالت وهي تنسحب على استحياء:
, -سيُسرّ أبي بلقائك، وسيسعد أخي"أنس" برؤيتك، وجدي، وأمّي، و٢ نقطةأنا٢ نقطةأيّها المحارب!
, خلعت معطفه وتركته بجواره تحت الشجرة، وهرولت نحو بيت "الحزاورة"، همست لنفسها وهي تتعثّر في خطاها٣ نقطة
, "أيّها المجنون، أحببت فيك حتى تصدّعاتك الخفيّة"
, كان الجميع يجلسون حول المدفأة، وكلّ منهم يحلّق في عالمه الخاصّ، مرّت الليلة هادئة، خلدوا جميعًا للنوم، أمّا "مَيسان" فلم يغمض لها جفن،كانت تحتضن ابنتيها وهي ممددة على الفراش، وضعتا رأسيهما على صدر أمهما، يجترّان الذكريات، أصابهن هذا السكون الذي يعقب مصيبة الموت، عندما يرسل **** برحمته النعاس على من فقد حبيبًا لتهدأ أوجاعه، استسلمن للنوم ودموعهن تسيل، لن يذبل جرح الفراق فجأة، لكنّه سيندمل حتمًا في لحظة ما، وتبقى الندبات تُذكرهن بالماضي الذي لن يُنسى.
, أقبل الفجر يوشّي التلال بتيجان من فضّة، استيقظوا جميعًا في وقت مبكّر، قررت "مَيسان" أن تلتحق بالمكتبة العظمي وكذلك ابنتاها، رحلن مع "يُوسف" و"حبيبة"، ووصلوا جميعًا لمقرّ المكتبة، فالتحقت "مَيسان" وابنتاها بالعمل لخدمة الكتب وعالمها هناك، وبعد انتهاء مراسيم استرداد كلمات كتاب "أيجيدور"، وتمامًا كما حدث مع كتاب "إيكادولي" من قبل، أقيم حفل زفاف "عُبيدة" و"جلاديولس" بالقلعة البيضاء، كانا رائعين، وكان الحفل بديعًا، ودُعيت "الحوراء" وابنها وقومها للحضور، أضفى "المغاتير" جوًّا لطيفًا على الحفل فقد كانوا يهزجون بالأشعار والأراجيز، ويلعبون بالسّيوف، والرّماح، ويثبون هنا وهناك بخفّة ورشاقة وفي فرح غامر.
, كانت لحظات الوداع ثقيلة على الجميع، ترك "يُوسف" معطفه لـ"مُوراي"، وترك في قلبه دفئًا عظيمًا، بكى كلاهما.
, حملت "قطرة الدمع" "حبيبة" وحلّقت بها، وكاد "الرّمادي" يحمل "يُوسف" لولا وصول "عُبيدة" الذي جاء بأقصى سرعته ليودّع صديقه الحبيب مرّة أخرى، ترجل عن فرسه وهرول نحو "يُوسف" وعانقه بحرارة، قال "يُوسف" بتأثّر:
, -وداعًا يا رفيق الدرب؟
, -سأفتقدك يا أخي٣ نقطةلقد كُنت دليلي
, -بل أنت من كُنت دليلي! لقد كُنت معلّمًا لي يا "عُبيدة"، وقد أحسنت شرح الدّرس، كنت أتخبط دومًا في وحدتي بعد فقدي لأبي وأمّي، أشعر بالانكسار، والضعف، لكنني وبعد أن التقيت بك، ورأيت ثباتك بعد فقدك لأهلك وعشيرتك صرت الآن أقوى
, قال "عُبيدة" بعينين دامعتين:
, -هكذا الحياة يا يُوسف"، الأرواح تصعد، والأجساد تفنى، ويبقى الأثر هنا٣ نقطة
, ثُمّ أشار لقلبه وأردف قائلًا:
, -لن تنساهم أبدًا، ولكن لا بدّ أن تكمل طريقك، وتسلك دروبك
, احتضنه "عُبيدة" مرّة أخرى، وزفر بحرقةٍ وهو يقاوم دموعه، قال "يُوسف" وهو يضع يديه على كتفيه:
, - لن أنسى أبدًا وقوفنا معًا للصلاة في ظلمة زنزانة قلعة الدّيجور، كان لهذا لذّة لم تذقها روحي من قبل، ارتعاش صوتك وأنت تلهج بالدعاء لوالديك في سجودك سيظل يتردد في أذني
, قال "عُبيدة" بصوت تخنقه الدموع:
, -اكتب عنّا حتى لا تنسانا
, -أتدري يا "عُبيدة"؟ ربّما كتبتُك، لكنني تعلّمت منك، وربّما صغتك حرفًا، لكنك علّمتني معنى الحروف
, وضع "يُوسف" يده على صدر "عُبيدة" وقال له:
, - أوصيك بـ"جلاديولس"، رفقًا بها، ولا تُحاسبها على ماضيها، وإيّاك أن تعايرها بأخطائها السّابقة، ولا تنس "مُوراي"، وكن صديقه كما كنت صديقي، وخفف عنه أوجاعه٢ نقطة
, كفكف "عُبيدة" دموعه وقال وهو يلوّح له وهو يبتعد:
, -وداعًا يا أخا العرب
, افتر ثغر "يُوسف" عن ابتسامة لطيفة عندما سمعه يقولها، فهمس قائلًا بتأثّر:
, - وداعًا٣ نقطةيا رفيق الدرب والروح.
, حلق "الرّمادي" حاملًا "يُوسف"، وانصرف النّاس تباعًا، وبقي "عُبيدة" و"مُوراي" وكأنّ على رأسيهما الطير، يحملقان في صفحة السّماء ويتبعانه بأعينهما حتى اختفى تمامًا.
, سار "عُبيدة" نحو "مّوراي"، والذي كان يتدثّر بمعطف "يُوسف" وناداه قائلًا:
, -هيّا بنا يا رفيق الدرب والروح
, التفت "مُوراي" نحوه فرحًا بالنداء، أسعده سماعه من "عُبيدة"، تماما كما أسعد هذا النداء "عُبيدة" منذ لحظات عندما ناداه به "يُوسف"، سارا معًا في ظلال البستان، يتكئ كلّ منهما على ذراع الآخر.
,
, ٥ العلامة النجمية
,
, وبعد أيّام٦ نقطة
, في مملكة البلاغة، وفي رحاب بستان "حيزوم"، كانوا جميعًا هناك. توطّدت علاقة "الزاجل الأزرق"، بـ"كِرشاب"، و"عُبيدة" وصار الثلاثة أصدقاء، أمر"كِرشاب"حرّاسه بإقامة مأدبة كبيرة بالبُستان، فأسرعوا بإحضار ما لذّ وطاب من قصره، كان منتشيًا يرفّ قلبه من السعادة، فقد رمم الرضيع ذاك الصدع الذي أصاب كيانه بعد ما مرّ به وبزوجته من خُطوب، فعاد جدار الحبّ لحاله فاستظلا به، فسكنت زوجته "هيدرانجيا" وهي تحتضن ابنها وتجلس بوداعة وهدوء بالبستان، وجلست بجوارها "مَيسان" وابنتاها، حيث كانت "زمرّد" تستند على كتف "هيدرانجيا" وتراقب الرّضيع، وفمه الدقيق، وأنفه الضئيل، وابتسامته الملائكيّة وهو يسبح في عالم الأحلام، بينما كانت"الحوراء" تراقبها في إعجاب شديد، فهي بفراستها تراها عروسًا لطيفة تليق بابنها "الزاجل الأزرق"٣ نقطة
, تعهّدت "الحوراء" برعاية "الحزاورة"، حيث سُرّت بقرار "مُوراي" ورفاقه الستّة بالانضمام للمغاتير، فقد أعجبها نُبل"مُوراي" ورأت أنّ لديه من المروءة ما يؤهله لهذا، سيكون إذًا هو ورفاقه من "المغاتير"، يُخفون وجوههم ويفعلون الخير مثلهم، يطوفون بخيولهم كالغيث أينما حلّ نفع، ولا ينتظرون الشكر من أحد، يستغنون عن النّاس فيغنيهم **** عنهم، ودائما يكونون في الطليعة. قررت "الحوراء" أن تخصص للحزاورة الصغار من يهتم بتعليمهم وتثقيفهم وتلحقهم برعيتها في القصر، ولن ينقطعوا بأيّ حالٍ عن زيارة هذا البُستان. وتحت ضوء القمر، وبينما جميعهم هناك، كانت "لؤلؤة" تقلّب تلك الكرة البلّورية التي عثرت عليها "حبيبة" بين يديها، بينما "مُوراي" يراقبها من طرف خفيّ وهو يتساءل، هل ما يشعر به تجاهها هو الوجد، أم النجوى، أم الشوق، أم الشغف! لمع سطح الكرة فجأة، وارتفعت في الهواء، وانبثق منها وميض غريب ألوانه خلّابة، فاقتربت "لؤلؤة من الكرة وهي تحدّق في سطحها، رفعت يدها وأشارت بإصبعها وصاحت في سعادة:
, -لقد تزوجا!
, أقبلوا جميعًا فرأوا "يُوسف" و"حبيبة" في حفل زفافهما، ضج البستان بصيحات الفرح، وانطلق "مُوراي" ورفاقه يرقصون بالسيوف والرماح٢ نقطة
, ٥ العلامة النجمية
,
, "يوسف"
, وأخيرًا حلمي بين يديّ، كانت "حبيبة" تسير بتؤدة وهي تتأبّط ذراع أبيها ويقتربان منّي أمام الحضور، وكُنت وحيدًا فأصابتني رجفة، لولا كفّ جدّها الذي لاحظ انفعالي فربّت على ظهري بحنان، ثبتتني عيناه الواثقتان، ومنحتني ابتسامته الهادئة دفئًا كُنت أحتاجه، رحت أتخيّل "موراي"، و"عُبيدة"، و"مِسكة"، و"الحزاورة"، و"مَيسان" وابنتيها معي وخلف ظهري، ليتهم هنا الآن، فهم عائلتي، شعرت بوحشة للحظات، دمعت عيناي ففوجئت بـ"أنس" يقترب ويحتضنني وكأنّه قرأ ما بنفسي وأراد أن يُشعرني أنّني لست وحدي هنا! وكان لهذا الحضن أثر عظيم في نفسي، اقتربت "حبيبة" فسلّمتُ على أبيها، واحتضنت كفّها الرقيق بيديّ وكانت أكثر منّي تخبّطًا، كنت مفتونًا بنونتيها الغائرتين في خدّيها، وابتسامتها الرقيقة، انحنيت وقبّلت جبين زوجتي الطاهر لأوّل مرّة!
, نعم، هي الآن زوجتي! زوجتي أنا! حبيبتي صارت زوجتي، ناديتها أخيرًا باسمها مجرّدًا:
, -"حبيبة"
, فأصابت الكلمة معناها في عقلي ونفسي ولامست شغاف قلبي، قالت ضاحكة:
, -آنسة "حبيبة" لو سمحت!
, قُلت بتلهّف:
, -بل"حبيبة" وحبيبتي للأبد٤ نقطةأُحبّك!
, وآه من تلك الكلمة، أحبّك، كانت حروفها تخرج من بين شفتيّ ولكلّ حرف منها لذّة، ترنّحت أعطافي وأنا أنظر في عينيها وأتملّى، وددت أن أقبض على قلبي حتى لا يطير، امتزجت نفسي بنفسها فما عدت أعرف أين أنا! كانت بثوب الزفاف تشبه حمامة بيضاء رقيقة، تعلّقت بذراعي بخفّة وابتسمت فنفح ثغرها ريحانا، عندما نادتني باسمي هوى قلبي كما تهوي ورقة الشجر مع الرياح، من فرط جمالها كان لها شعاع وكأنّها كوكب درّي سطع فجأة، كانت حسناء بعضها يزيّن بعضًا في احتشام، أبحرتُ في عينيها بشراعي، وصارت عيني لها كالمرآة المجلوّة فأشرق فيها وجهها بملامحه الجميلة، وغبت أنا عن المكان وعن الزمان، وغابت معي، وذبنا معًا، وسلكنا درب الحب الحلال معًا.
,
, وفي ذات اللحظة٣ نقطة
, وبينما ينهلان من رحيق الحبّ، كانت هناك سيّدة لطيفة الحاشية، على وجهها بقايا جمال متعب، تجلس في عيادة الطبيب الشهير "مهنّد فاروق" استشاريّ الأمراض النفسية والعصبية، كانت تجلس في اضطراب وتنتظر دورها في الكشف، وفور أن نادت الممرضة على اسمها، دلفت على استحياء وجلست أمامه بوقار شديد، فسألها بعد أن ردّ عليها التحيّة:
, -مرحبًا سيّدتي، تفضّلي ما شكواكِ؟
, قالت بصوت مرتعش:
, -حدث لي أمر عجيب!
, -ما هو؟
, داهمتها دوّامة من الانفعالات جالت في صدرها وارتفعت لرأسها فتعرّقت وارتجفت وهي تقول:
, -أنا كاتبة، وبينما كنت أكتب رواية من رواياتي وجدت نفسي في عالم غريب وأرضٍ أخرى
, ثُمّ رفعت كفّها وهي ترتعش وأردفت قائلة:
, -لقد ذهبت إلى هناك بنفسي! حتى أنني اختفيت من منزلي لعدّة أيّام!
, سألها متعجبًا:
, -وأين أسرتك؟ ألم يلاحظوا غيابك؟
, قالت بألم:
, -أعيش وحدي٢ نقطة
, -حسنًا وماذا حدث هناك؟
, تنهّدت وقالت:
, - وكأنها رواية تخصّ كاتبًا آخر، سرت وحدي وطرقت باب بيت إحداهن، كانت سيّدة حنونة ولطيفة، استضافتني وأطعمتني، فبقيت لأرعى بناتها عندما غابت فجأة مع ابنتها الصغرى، لأردّ لها الجميل٣ نقطةولكن٣ نقطة
, -لكن ماذا؟
, -التقينا مرّة أخرى، ولم تعرفني! حتى زوجها وابنتها "لؤلؤة"، لم يتعرّفا عليّ عندما دلفا لقرية "الدحنون"! وكأنهم جميعًا لم يروني من قبل!
, -كيف هذا؟
, تحسست بشرتها بيدها المرتعشة وقالت:
, -لقد تغيّرت ملامحي مرّتين! عدت لشبابي هناك! ويبدو أنني أفسدتُ الأمور، وأحدثتُ الكثير من الفوضى
, -كيف حدث هذا؟
, رفعت حاجبيها وقالت:
, -سأخبرك بالتفصيل
, ضغط الطبيب على زر جهاز التسجيل ليقوم بتسجيل حواره معها، ثُمّ أمسك القلم ليكتب بياناتها في ملف ورقي خاصّ قبل أن يرفع البيانات على الحاسوب وسألها:
, -ذكّريني باسمك سيّدتي؟
, أجابته وهي تُخرج عويناتها من حقيبتها وترتديها:
, -اسمي "مِسكة".
,
, تمت ،،، بقلم د.حنان لاشين, خارج القائمة
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%