NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول الطاووس الأبيض | السلسلة الثانية | أربعة وثلاثون جزء 3/11/2023

٢١




ومضــات خاطفة غزت لحظتها الشاردة، حين توقفت لبرهة على قارعة الطريق، منتظرة هدوء حركة السيارات، لتعبر للجهة الأخرى، استعادت لقطات من حديثها المحتدم مع والدتها، موجة الغضب الحارقة التي اجتاحتها منذ تلك اللحظة المشؤومة لا يمكن أن تُمحى آثارها القاسية بسهولة..،
,
, هي فقط حاولت الخروج من ذاك المكان الملعون بأقل الخسائر الممكنة، خاصة مع لقائها المنفر بابن عمها، فلا يعرقل ذهابها بتسلطه المقيت، وما إن عادت إلى منزلها –القابع بنفس البلدة- بصحبة والدتها فقط حتى ثارت ثائرتها، وتقاذفت حمم غضبها في كل مكان، التفتت ناظرة إلى أمها تلومها:
, -إنتي اللي عملتي فيا كده مش أنا!
,
, ردت "آمنة" متسائلة بوجهها العابس:
, -أنا يا "فيروزة"؟
, أكدت عليها ابنتها، بكل ما يعتريها من حنق:
, -أيوه، لو كنتي خدتي موقف من الكلام اللي اتقال في حقي، مكانش حد اتجرأ ولمسني..
, جاهدت لتخنق تلك الغصة التي احتل نبرتها، وقالت بمرارةٍ، وانكسار تكاد تراه في عينيها:
, -عارفة يعني إيه يكشفوا سترك؟ يجردوكي من كل حاجة عشان بس نفوسهم المريضة صدقت كدبة مالهاش أساس..
,
, أطرقت والدتها رأسها، ولم تعقب، فأكملت "فيروزة" حوارها أحادي الجانب، مفرغة تلك الشحنة الجاثمة على أنفاسها فيها:
, -جايز معملتيش حاجة معاهم، بس سكوتك واستسلامك خلاني في نظرهم كده، مذنبة من غير دليل، خاطية وأنا معملتش حاجة خالص.
, انتحبت والدتها وهي تعقب عليها:
, -خلاص بقى ذنبي دلوقتي؟
,
, نظرت ابنتها في عيني والدتها بنظراتها الجريحة، ثم تابعت بألمٍ شديد:
, -أنا اتكسرت من جوايا يا ماما، مع إني مظلومة، في حاجة اتهزت فيا، مابقتش زي الأول، حتى لو اللي اتعمل ده فيا إنتو شايفينه عادي!
, ربتت "آمنة" على كتفها بحنوٍ، وهونت عليها عذابها قائلة لها:
, -متقوليش كده، اللي حصلك مش سهل عليا برضوه.
,
, رغم بكائها الصادق، إلا أنها لم تشعر بتعاطفها الحقيقي معها، أفسدت سلبيتها المميتة رباط الثقة بينهما. بلعت "فيروزة" ذاك العلقم المرير في حلقها، وتنهدت متابعة بأنفاسها المنفعلة:
, -شوفتي نظرات "حمدية" ليا، مع إنها عارفاني كويس، بس كانت أول واحدة لفت حبل المشنقة حوالين رقبتي.
, علقت عليها بنواحٍ:
, -و**** أنا حاولت أتكلم مع عمك، جايز مايسمحش ده يحصلك وآ٤ نقطة
, قاطعتها "فيروزة" بحزنٍ جلي، وحسرة مقروءة في نظراتها:
, -عمي.. يا خسارة عليه!
, زاد اختناق صوتها مع قولها:
, -النهاردة اتأكدت إن السند راح من زمان!
,
, حاولت أن تكبح عبراتها لتبدو متماسكة، لكنها فشلت، فالأمر يفوق قدرة أي إنسان طبيعي على الاحتمال، كفكفت دموعها الحارقة، واستأنفت معبرة عن قسوة أقاربها:
, -وعمي وقت الجد خد صف ابنه، ونسى إني متربية تربية أصيلة، ما عملش العيبة ولا فيها موتي!!
, احتضنتها والدتها، ومسحت على ظهرها معتذرة منها:
, -حقك عليا يا بنتي.
,
, انسلت من أحضانها متسائلة في قهرٍ:
, -هترجع الكلمة دي إيه ولا إيه؟!
, تنفست "فيروزة" بعمقٍ لبضعة مرات حتى تقتل ضعفها الذي طغى على السطح، وقالت بحزم، وبقساوة كست نظراتها:
, -بالنسبالي كل حاجة ربطتني في يوم بالبلد دي انتهت!
, تساءلت أمها في حيرة:
, -يعني إيه؟
,
, قالت حاسمة أمرها نهائيًا، كمن يقرر، لا من يُخير:
, -أنا مش هارجع هنا تاني يا ماما .. حتى لو مت!
, عند تلك الكلمات الختامية استفاقت "فيروزة" من سرحانها المفطر للقلوب على صوت البوق المزعج لإحدى السيارات، انطلقت عابرة للجهة الأخرى، مانعة نفسها من ذرف أي عبرات، كانت كراهيتها لما مرت به خلال الفترة الأخيرة قد وصلت لمنتهاها، ليبقى ضعفها مخبئًا بداخلها، غير مسموح لأحدٍ، برؤية الهزيمة التي نالت من روحها وسحقتها.
,
, كان لسيرها المرهق الأثر المحمود في تخفيف وطــأة معاناتها، دارت لوقت طويل في الشوارع، آملة أن تفرغ شحنتها المكبوتة في صدرها، تمكن التعب من قدميها، فاتجهت أخيرًا إلى محل رفيقتها؛ وكانت آخر من تحبذ اللقاء بها في تلك الظروف، استقبلتها "علا" بتلهفٍ متحمس، ما إن رأتها حتى قفزت عن مكتبها، واتجهت إليها لتحتضنها مستهلة حديثها المرح معها بتهنئة حــارة:
, -نقول مبروك بقى؟!
,
, ضاقت نظراتها الملتهبتين نحوها باستهجانٍ بائن، وسألتها بما يشبه الاتهام:
, -يعني كنتي عارفة؟
, بتلقائيةٍ أجابتها رفيقتها:
, -أكيد.. "آسر" ليه مكانة مميزة عندي وآ٣ نقطة
, قاطعتها "فيروزة" متسائلة بنوعٍ من الهجوم:
, -ومحذرتنيش؟ أو حتى عرفتيني باللي ناوي يعمله؟
,
, تطلعت إليها في استغرابٍ، لم تبدُ سعيدة بتاتًا، مظاهر الفرحة الطبيعة كانت معدومة من على ملامحها الواجمة، لم تبعد عينيها المتفرستان في وجهها، وقالت مبررة تصرفها، بدهشةٍ غلفت نبرتها:
, -هو معملش حاجة غريبة، طلبك للجواز من أهلك، كأي حد عايز يرتبط ببنت بشكل رسمي.
, احتقنت عينا صديقتها، وبدت وكأنها تقاتل شيء ما بداخلها، بينما أكملت "علا" ببساطة شديدة؛ وكأنها لم تفعل ذلك حقًا:
, -ولو إنتي مش راضية أرفضيه عادي.
,
, هنا صرخت بها "فيروزة" بصوتٍ متهدج:
, -"علا" بسببه أنا اتأذيت!
, وضعت رفيقتها يدها على فمها، كبتت شهقة تنازع للخروج من بين شفتيها، وقد كانت في حالة صدمة، أخفضت يدها لتسألها في قلقٍ:
, -إزاي؟ هو عملك حاجة؟
, ندمت الأخيرة لاندفاع لسانها الأخرق، في البوح بما لا يفترض قوله، فصححت بحزنٍ ملموس بقوة في تعبيراتها الذابلة:
, -لأ مش هو.
, ألحت عليها متسائلة في فضولٍ شديد:
, -أومال؟
,
, تجنبت منحها الإجابة الحقيقية بنوعٍ من المراوغة:
, -حاجة مش مهمة، بس كان لازم على الأقل تعرفيني يا "علا"، إنتي صاحبتي.
, شعرت رفيقتها بغرابة تصرفاتها، بوجود ما تخفيه عنها، وردت في توجسٍ:
, -"فيروزة" أنا متوقعتش إنك تزعلي كده خالص، افتكرت هتفرحي بجو الخطوبة والحب والرومانسية، الحاجات اللي أي بنت بتحلم بيها.
,
, نظرت لها بعينين فارغتين، خالية من المشاعر تقريبًا، يغطيهما الحزن والهم، حاولت "علا" الابتسام، وأضافت بنعومةٍ، عل رفيقتها ترى الجانب الدافئ في شخصيته، مثلما تراه هي:
, -وعلى فكرة "آسر" بيحبك أوي، تقريبًا مش شايف غيرك، عايزة إيه تاني غير كده؟
, اعترفت دون ندمٍ:
, -وأنا مش بأحبه!
,
, ورغم كون ردها الصريح قد أراح "علا"، إلا أنها احتفظت بسعادتها في الخفاء، استمعت إلى رفيقتها وهي تواصل قولها:
, -ومش عايزة جواز صالونات، ولا حد يجبرني على حاجة مش عايزاها.
, تصنعت البراءة، وسألتها لتتأكد من فتور مشاعرها نحو "آسر":
, -أنا بجد مش فهماكي، حد يجيله عريس لُقطة زي ده، ويرفضه.
, أجابت بلا شكٍ:
, -لُقطة بالنسبة لغيري؛ لكن مش أنا.
, انفلتت تنهيدة حالمة من بين شفتي "علا"، تبعها نظرات ساهمة، وهي تردد في جنبات نفسها برجاءٍ عظيم:
, -يا ريتني كنت مكانك!
,
, امتزجت حرارة الجو، مع الرطوبة العالية، والتي غطت معظم رصيف الميناء، بشكلٍ غريب، لتمنح المتواجدين إحساسًا كبيرًا بارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد، أصبح الطقس خانقًا بشكل غير اعتيادي، خاصة والمكان يعج بزحامٍ شديد، بسبب تكثيف الإجراءات الأمنية لتفتيش كافة البضائع الواردة والصادرة. أظهر "تميم" تصريحه المروري ليلج للداخل بسيارته، بينما تساءل "ناجي" في تذمرٍ:
, -مش شغل الميناء والفواتير بتاع "هيثم"؟ مالنا احنا ومال القرف ده كله؟
,
, قال ببسمة باهتة مرتكزة على زاوية فمه:
, -عريس يا سيدي.. والفواتير دي لازم ناخدها قبل ما نسلم التوريد الجديد.
, علق ساخرًا من مكوثه الطويل بالمنزل:
, -هو هياخد الشهر كله وإلا إيه؟ ده كل الرجالة بتطفش من تاني يوم!
, رد عليه "تميم" ممازحًا:
, -سيبه كام يوم، بكرة النكد يلبس فيه.
, تجرأ صديقه ليسأله بوقاحة طفيفة، وذلك الفضول يبرز في نظراته نحوه:
, -صحيح الناس بتقول إن الجماعة بتوعك أعدين معاك في بيت العيلة، هو إنتو رجعتوا لبعض ولا إيه؟
,
, انعطف "تميم" بسيارته نحو الموقف المخصص لركن السيارات بداخل الميناء، رمقه بنظرة محذرة قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
, -ومن امتى أنا بأتكلم يا "ناجي" في حاجات تخص أهل بيتي مع حد؟
, برر له على الفور:
, -أنا يا سيدي عاوز أباركلك لو رجعتوا لبعض، وبعدين ده الناس اللي بتقول، إكمن شايفين الجماعة عندكم ليل نهار.
, زجره بحدةٍ، وتلك الشراسة المقلقة تغزو حدقتاه:
, -خلينا في شغلنا اللي جايين عشانه أحسن.
, لعق شفتيه، ورد دون تفكير:
, -اللي يريحك.
,
, في تلك الأثناء، وعلى مسافة غير بعيدة منهما، كان "محرز" يجري مكالمة هاتفية مع أحدهم، لإطلاعه بآخر مستجدات إنهاء إجراءات تخليص الحاوية التي تحوي ثمار التفاح المستوردة، أنهاها واستدار ببطءٍ ليتفاجأ بتواجد الاثنين في الميناء؛ وكأن مسألة حضوره إلى هنا مستبعدة عن ذهنه، بهتت ملامحه، وأصابته لوسة موترة، كان كمن تعرض للصعق كهربيًا، فهتف بصوتٍ خفيض:
, -يادي المصيبة، إيه اللي جابه هنا؟!
,
, بحث سريعًا بعينيه عن حاجز ما ليتوارى خلفه، قبل أن يلمحه شقيق زوجته، مرددًا لنفسه:
, -ده كده الحكاية كلها تتكشف لو عرف إني هنا!
, وجد ضالته المنشودة، سيارة نقل كبيرة، اختبئ عند مقدمتها، مانحًا عينيه زاوية رؤية جيدة، وضع الهاتف على أذنه ليهاتف نفس الشخص الذي حادثه قبل قليل، وردد بصوتٍ مضطرب:
, -بأقولك إيه يا أستاذنا، أخو مراتي هنا، كده مش هاعرف أتحرك براحتي..
,
, جاء صوت "آسر" من الطرف الآخر ناطقًا بذهول:
, -"تميم"؟ وده إيه اللي جابه؟ إنت مش قايلي إنه مالوش في شغل المينا؟
, رد في حيرةٍ:
, -معرفش، أنا زيي زيك اتفاجئت بيه هنا.. ها أأجل الحكاية ولا أعمل إيه؟
, أجابه معترضًا:
, -لأ استنى
, هتف متسائلاً:
, -لحد امتى؟
, جاوبه بهدوءٍ عاد ليسيطر على نبرته:
, -شوية، جايز يكون جاي في حاجة في السريع وماشي.
,
, على مضض عقب عليه:
, -طيب.
, سأله "آسر" في اهتمامٍ:
, -والأمانة فين؟
, بابتسامة واثقة، لا تنم عن كونها المرة الأولى أبدًا، أجاب:
, -في الحفظ والصون، مستني راجلي يعدي عليا ياخدها.
, حذره بلهجةٍ شديدة:
, -حاول ماتظهرش قصاد "تميم"، مش عايزين حد يشك فيك..
,
, خطر لـ "محرز" خاطر سريع، ذكره بليلة عرس "هيثم"، حين تفاجأ برؤية "آسر" في حفل الزفــاف، كان أمرًا صادمًا تواجده في المكان، ومع هذا عمد إلى التعامل معه كشخص غريب، لم يسبق له رؤيته أبدًا، والأخير تصرف بنفس الأسلوب؛ وكأن تعاملاتهما لا تمتد لسنواتٍ سابقة.. نفض ما يشوش صفاء تفكيره حاليًا، ليرد بزفيرٍ ممتعض:
, -حاضر يا سي الأستاذ.
,
, لم يمضِ الكثير من الوقت على تواجده بالميناء، فمجرد حصول "تميم" على الأوراق المطلوبة انصرف من هناك، ليستعيد "محرز" ضبط نفسه، ويخرج للعلن بعد أن كان يختبئ كالجرذان .. اتجه نحو المخرج، حيث ينتظره أحد أتباعه المخلصين، ممن يقومون بالتهريب مقابل ربح مادي سريع، لوح له الأخير بيده مرحبًا بهتافٍ مادح:
, -عمي وعم الناس كلها..
,
, لوى "محرز" ثغره مرددًا بسخطٍ طفيف:
, -فين أراضيك يا "حاتم"؟ أنا افتكرتك بطلت الشغالة، ومابقتش محتاج!
, هتف نافيًا:
, -حد يرفس النعمة بردك يا ريسنا؟ بس كان عندي شوية مشاكل كده ولبخ
, سأله بنظرات قاسية:
, -حاجة ليها علاقة بشغلنا؟
, نفى "حاتم" على الفور:
, -لأ خالص، احنا في السليم.
, تأبط "محرز" ذراعه، وجذبه بعيدًا نحو زاوية خالية من البشر، ثم أخفض صوته ليقول له:
, -طيب عاوزك في تهريبة خفيفة، بس يا تطلعك لفوق، يا تجيبك أرض.
,
, ابتسم وهو يقول دون تفكيرٍ:
, -معاك يا ريس.
, شدد عليه بلهجةٍ لا تمزح:
, -خد بالك، دي حاجة مهمة أوي، ولو نفع تجيب المدام معاك يبقى زي الفل، منها تزغلل عين بتوع الجمارك، ومنها لو اتقفشت ماتروحش في تُوكر، إنت بتاعنا وراجلنا.
, صمت للحظة في ترددٍ، قبل أن يستجمع جأشه ليعترف له:
, -مش هاينفع أجيب الجماعة معايا!
,
, ضغطت أصابع "محرز" على ذراعه، وقست نظراته متسائلاً
, -ليه؟ هي كانت أول مرة؟ ده إنت في جيتها بدل الطاق طاقين، يعني مافيش حاجة بتروح عليك
, قال موضحًا بنزقٍ:
, -أنا طلقت "نيرمين" من فترة، وبصراحة كده كانت وش بومة، جايبة لأمي الفقر!
, بدت علامات الحيرة والانزعاج ظاهرة على وجه "محرز"، والذي أردف قائلاً في استنكارٍ:
, -يا شيخ، دي كانت نفعانا في حاجات كتير.
, لم يكن مكترثًا بضيقه، وأضاف مقتضبًا:
, -اللي حصل بقى.
,
, فرك "محرز" طرف ذقنه، وقد بدا كمن يفكر في عمقٍ:
, -الليلة دي محتاجة حريم عشان نعرف نعديها.
, رد عليه مقترحًا:
, -أنا هاتصرف، هأجر واحدة من غير ما نديها تفاصيل.
, سأله بنبرة مهتمة:
, -عندك اللي يعمل كده؟
, أجاب مؤكدًا:
, -أيوه، الواد "ناصر" صاحبي عارف نسوان بعدد شعر راسه.
,
, شدد "محرز" من قبضته عليه، ليحذره مجددًا، من مغبة التصرف برعونة، في هذا الوضع الحرج:
, -احنا مش هنوسع الدايرة يا "حاتم"، الحكاية مش ناقصة شوشرة، ده احنا عمالين نقول يا حيطة دارينا، كده هتفتح العين علينا، وباليزيد.
, أوضح له معللاً:
, -أنا مش هاقوله حاجة، هافهمه إنها عملية تهريب هدوم عادية، زي ما بيحصل كل مرة، ويشوف واحدة كده من إياهم تساعدني، إكمن الشغل كتير، هلاوعه!
,
, استغرق "محرز" لدقيقة في تفكيره، يدير الأمر في رأسه، قبل أن يمنحه رده النهائي:
, -استنى ماتعملش حاجة غير لما أشور على كبيرنا
, تساءل "حاتم" بقلقٍ، وقد بدا في حاجة ماسة للمال:
, -هو ممكن يعترض؟
, رد عليه بوجه يكسوه الجدية:
, -أه طبعًا، ده كل خطوة بنعملها في شغلتنا دي محسوبة بالورقة والقلم.
,
, دقــات ثابتة على باب المنزل، حثت الصغيرة –ذات الجديلتين، والأعوام الخمسة- على التحرك نحوه لفتحه، ارتسم على شفتيها ابتسامة طفولية فرحة لرؤية والدها الغائب، فردت ذراعيها تدعوه للإقبال عليها واحتضانها. ترك "خليل" ما في يده من أكياس ممتلئة بالطعام والفواكه على الأرضية، لينحني حاملاً إياها، بعد غلقه للباب، ضمها إليها هاتفًا بحنوٍ، رغم اللهاث المصاحب لصوته:
, -حبيبة بابا.
,
, سألته الصغيرة بعتابٍ:
, -اتأخرت ليه؟
, أجاب "خليل" مبتسمًا:
, -كان عندي شغل أد كده.
, عبست الطفلة، وقالت ببراءتها غير الملوثة:
, -أنا بأزعل لما بتسافر.
, رد عليها بحنوٍ كبير، وهو يمسح على صدغها بكفه:
, -معلش يا حبيبتي، ده عشان أجيبلك لعب حلوة.
,
, ظهر أمامه امرأة عشرينية، حسنة الوجه، قمحية البشرة، تلتصق ثيابها المنزلية ببدنها بشكلٍ مغر، انفرجت شفتا "خليل" عن رغبة جائعة، خاصة مع دلالها الأنثوي وهي ترحب به:
, -حمدلله على السلامة يا "خليل".
, تقدم نحوها، والتف ذراعه الآخر حول كتفيها ليضمها إليه، وليشعر بمنحنياتها الجذابة على جسده، تنهد قائلاً لها بلوعة الاشتياق:
, -وحشتيني يا "سماح".
,
, لكزت كتفه برفقٍ، وتغنجت بجسدها معاتبة إياه في عبوسٍ رقيق:
, -كده بردك ماتتصلش بينا الفترة اللي فاتت يا سي "خليل"؟
, رد معللاً سبب غيابه:
, -ما إنتي عارفة "حمدية"، كانت فوق دماغي.. مش مخلياني أشم نفسي حتى.
, تأففت كمن تذوق شيئًا لاذع المذاق، لتقول بعدها بنفورٍ، وهي تضع يدها على صدرها:
, -أعوذو ب**** منها، لما تيجي سيرتها قلبي بيتقبض.
,
, قال مؤيدًا بسخطٍ كبير:
, -بومة طول عمرها، **** ياخدها ويريحني، وبعدين أنا جاي أقعد معاكي إنتي كام يوم.
, تمايلت "سماح" بجسدها بدلالٍ أكبر، وهي تحمل الطفلة عنه، لتسأله بعدها:
, -صحيح، إنت سيبتها في البلد لوحدها؟
, أجاب نافيًا بصوتٍ مرهق:
, -لأ، مع العيال، وبعدين هيجرالها إيه يعني؟
,
, ردت بتوجسٍ:
, -لأحسن تشك فيك، سفرك بقى كتير وكده.
, انتزع ساعة يده، وأزاح سترته المتعرقة عنه، ليرد بغير مبالاة، وهو يلقي بثقل جسده على الأريكة العريضة:
, -أنا قولتلها مأمورية طارئة، زي كل مرة.. تصدق ما تصدقش تتفلق، أنا هربان من مشاكل الدنيا كلها عشان أجيلك يومين أروق دماغي.
, هتفت بتدللٍ:
, -أحلى دلع هتشوفه معايا، ده أنا مراتك حبيبتك..
,
, ثم تحولت نبرتها لقليلٍ من الجدية، حين سألته:
, -إنت كنت قايلي قبل ما تسافر إن في خطوبة بنت أختك، عملتوا الخطوبة؟
, أخبرها بعد زفيرٍ بطيء، صرف معه إنهاكه:
, -لأ .. لسه.
, جلست الطفلة في حجره، وأحاطت بجسد والدها، بينما تساءلت "سماح" بفضولٍ:
, -ليه؟
,
, راوغها "خليل" في الرد، وقال:
, -بعدين بقى، أنا دماغي أد كده من الطريق.
, اعتذرت منه بابتسامةٍ، كانت لعوب إلى حد ما:
, -دلوقتي أنسيك التعب وهدة الحيل.
, اتسعت ابتسامته العابثة، وقال لها مستخدمًا يده في الإشارة:
, -هتلاقي في الشنط اللي هناك دي كباب وكفتة، أنا جايبهم عشان ناكل ونروق على نفسنا.
,
, سال لعابها مع إحضاره لذاك الطعام الشهي، وارتفع زئير بطنها الجائع، لتصيح في حبورٍ:
, -**** .. وأنا هاجهز السفرة على طول.
, أمرها بما يشبه الرجاء:
, -أوام يا "مووحة"، لأحسن أنا واقع من الجوع.
, ردت عليه بلؤم ممتزج بالخجل:
, -ما أنا زيك، محطتش الزاد في بؤي من ساعة ما اتصلت عليا وقولتلي أنا جاي، هو أنا يجيلي نفسك أكل ولا أشرب من غيرك؟
,
, هتف في انتشاءٍ:
, -أصيلة يا ست البنات.
, أحنت "سماح" جسدها للأمام لتجمع الأكياس التي أحضرها، بطريقة شبه مغرية، متعمدة أن تبدو مقوماتها في مرمى بصره، ليظهر تأثيرها عليه، وسألته، دون أن تعتدل في وقفتها:
, -صحيح عملت إيه في تأشيرة أخويا؟
, أجابها على الفور، ونظراته لم تفارق منحنيات جسدها:
, -كلمت الراجل معرفتي وهيخلصهالي قريب، متقلقيش.
,
, اعتدلت ببطءٍ في وقفتها، وردت تشكره في امتنانٍ
, -ماتحرمش منك يا غالي.. مسافة ما تغسل إيدك هتلاقي الأكل محطوط على التربيذة.
, هز رأسه مرددًا بابتسامة متحمسة، ويداه تلاطفان طفلته الصغيرة الجالسة في أحضانه:
, -ماشي يا عسل.
,
, صعدت إلى سطح المنزل، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وقفت عند حافته، عاقدة لساعديها معًا أمام صدرها، تتأمل بعينين متعبتين الأمواج المتلاطمة وهي تتكسر على الشاطئ، كانت روحها مثلها، تتكسر مع القساوة التي تختبرها من آن لآخر، وكلما حاولت لملمة شتاتها المبعثر، يظهر ما يحطمها من جديد، لم تختر أن تكون الضلع المنوط بتحمل عبء المسئولية كاملة؛ لكن فرض عليها رعاية أسرتها، في ظل طبيعة شخصية والدتها المسالمة، ومع رهافة مشاعر توأمتها، ووجود خالها الطامع وزوجته الحقود، وعائلة تسكن بعيدًا عنها، لا تلتقي بهم إلا في المناسبات السارة.
,
, أطالت "فيروزة" النظر في السواد الحالك على مرمى البصر، وهي تسمح لحزنها بالطفو بعيدًا عن الشامتين، بكت في صمت، نحيبها الخافت اختلطت مع أصوات المياه العالية، لم ترغب في مشاركة أحدهم ضعفها، لم تفعل ذلك من قبل، ولن تفعله الآن. انتفضت بقوةٍ مع رنين هاتفها الموضوع في قبضة يدها، لم تعتد على اهتزازه في مثل تلك الساعة، حدقت في الشاشة بالرقم الغريب الذي احتلها، تجاهلت الرد عليه؛ لكنه أصر على المواصلة، فاض بها الكيل، وأجابت بحدةٍ:
, -ألو.. أيوه..
,
, صوتًا رجوليًا عميقًا رحب بها بلطفٍ:
, -مساء الورد يا "فيروزة".
, تحفزت في وقفتها، وتقلصت تعبيراتها متسائلة:
, -إنت مين؟ وعرفت اسمي إزاي؟
, في خضم ما عايشته قبل لحظات لم تتبين من الوهلة الأولى صوته الناعم المألوف؛ ولكنه أجاب بهدوء، حتى لا يُطيل حيرتها:
, -أنا "آسر".
,
, ذكر اسمه كان كفيلاً باتقاد النيران فيها، لم تبادله الترحيب أبدًا، بل تسابق في عقلها الذكريات المؤلمة التي ارتبطت به، وهتفت تهاجمه بضراوة، دون أن تعطيه الفرصة لقول نصف كلمة على الأقل:
, -إنت جبت رقمي منين؟ ومين سمحلك تكلمني أصلاً؟ أنا مافيش بيني وبينك حاجة، ومش موافقة أتجوزك، يا ريت تكون فهمت.
, لحظة من الصمت حلت عليه، حاول أن يستوعب فيه ما اعترفت به توًا، قبل أن يرجوها:
, -طب ممكن تسمعيني؟
,
, صاحت بعصبية لافظة أي محاولة للتودد لها بمعسول الكلام:
, -ده اللي عندي، ويا ريت ماتتصلش تاني، لأني هاعمل بلوك لرقمك، ولأي رقم تفكر تتطلبني منه.
, ثم قطعت الاتصــال فجــأة، وصدرها ينهج بقوة، كافة الانفعالات الثائرة التي لطالما قاومتها، اندفعت ككتلة حارقة في تلك اللحظة تحديدًا، لم تهدأ ثروتها إلا بطرده من حياتها، وإن لم يرتكب شيئًا سيئًا في حقها؛ لكن وجوده اقترن بشرور لم تتعافَ منها بعد.
,
, بضعة أيامٍ أخرى انقضت عليها، في منزل خالتها، وهي تعافر آلام رحمها الصارخة، بدأت علامات الإجهاض تظهر عليها، من تقلصات موجعة تضرب أسفل بطنها؛ وكأنه يلفظ بشراسةٍ ما احتواه في الأسابيع الماضية، مع نزيف متزايد جراء اتساع عنق الرحم، ورغم هذا رفضت تصديق حدوثه، وأنكرت ما أخبرها به الطبيب عن تدهور حملها، واحتمالية خسارتها لجنينها، قاومت التقلصات الموجعة، واستعانت بالدواء المسكن لتكتم أنين جسدها المستنجد، تشبثت بقوةٍ، بالأمل الأخير الباقي لها، لاستعادة طليقها.
,
, اتجهت "خلود" للشرفة لتستنشق الهواء، أو الأحرى أن يُقال أنها تحاول عدم لفت الأنظار إليها، فقد ظهر عليها الإعياء، مع التعرق الغزير، وارتفاع درجة حرارة جسدها، استندت براحتيها على حافة الشرفة، لم تركز في أوجه المارة، كانت تعتصر عقلها محاولة البحث عن حل بديل لمأساتها، الأكيد ستدعمها والدتها وخالتها، موقف شقيقها على الحياد؛ لكن ماذا عن الجد وابنه؟ كلاهما عقبتان بارزتان في طريق إكمال سعيها، زفرت في سأم، وقالت لنفسها:
, -لازم يبقى ليها حل.
,
, تجمدت عيناها على وجه لم تحبه يومًا، حيث رأت "فيروزة" تسير متأبطة ذراع والدتها عند ناصية الشارع، تجمعت كراهية العالم بأسره في مقلتيها، نعتتها بصوتٍ خفيض بكلمات نابية عدائية:
, -بنت الـ (٣ نقطة) ٣ علامة التعجب
,
, تتبعت سيرها بغيظٍ طفح على ملامحها، توحشت عيناها، ولم تطرف بجفنيها، ومضة خاطفة شيطانية دارت في رأسها، عندما وجدت كلتيهما تتجهان نحو المدخل، حتمًا ستزوران "همسة"، فالأخيرة تسكن بالطابق العلوي، تحفزت أكثر وقد برزت معالم خطتها الجهنمية، لما لا تستغل مأزقها، وتورط تلك البائسة بشكلٍ أو بآخر معها، وتجبرها على الاشتباك البدني، لتكون السبب الرئيسي في إلحاق الأذى بالجنين، فتثأر لنفسها، وتنتقم منها.
,
, لم تتردد للحظة، أو تفكر مرتين، استدارت خارجة من الشرفة، لتقول بصوتٍ عالٍ بالكذب:
, -أنا هاطلع الزبالة يا خالتي، بدل ما تعمل ريحة في المطبخ
, أتاها صوت "ونيسة" معترضًا:
, -ماتتعبيش نفسك، "تميم" هيجي كمان شوية، يبقى ياخدهم مرة واحدة يرميهم في المقلب.
, أصرت على طلبها، وإلا لفسدت خطتها:
, -ولا تعب ولا حاجة، دي شنطة صغيرة.
,
, التقطت الكيس –شبه الفارغ- من الصندوق الملاصق لحوض المطبخ، واتجهت بخطواتٍ متعجلة نحو باب المنزل، تركت الكيس في مكانه بالخارج، وتلكأت وهي تدنو من الدرابزين لتتلصص على الأصوات الأنثوية الأتية من الأسفل، سمعت "آمنة" وهي تقول:
, -احنا مش هنطول عند "همسة"، هنطمن عليها، ونمشي.
, ردت "فيروزة" باقتضابٍ:
, -طيب.
,
, تراجعت "خلود" للخلف قبل أن تلمحها إحداهما، وهي تتجسس عليهما، استعدت لمواجهتهما، تفاجأت "آمنة" بوقوفها على حافة الدرج، ونظرت لها بغرابةٍ مرددة عليها التحية:
, -سلامو عليكم.. إزيك يا بنتي؟
, ردت عليها "خلود" بوقاحة:
, -أنا مش بنتك.
,
, حمرة حرجة تشعبت بها بشرة الأخيرة، بينما تقاذف الغضب في حدقتي "فيروزة"، وبادلتها نظرة قاسية محذرة، ومع هذا تعمدت "خلود" إحراج الضيفتين، واستفزازهما لأقصى الحدود، ليتم تنفيذ خطتها الوضيعة بحذافيرها، فأردفت بوقاحة:
, -طالعة أرمي الزبالة، لاقيتها في وشي، صحيح العمارة لازم تنضف كل شوية.
, أمسكت "آمنة" بذراع ابنتها التي بدأت في التشنج، وضغطت عليه تستحثها على التحرك، هامسة لها:
, -سيبك منها يا "فيروزة"، وخلينا نطلع.
,
, تابعت "خلود" قائلة بسخرية، وهي تضع يدها على أنفها:
, -ريحة زفارة وحشة، يا ساتر يا رب، هاجيب اللي في بطني.
, لم تصمت "فيروزة" عن إهانتها، وردت بقوةٍ، وبنظراتٍ احتقارية:
, -ماتبقيش تقفي جمب الزبالة كتير.. لأحسن ريحتها لازقت فيكي.
, التقطت الشرارة من هنا، ورفعت نبرة صوتها لتصرخ بها، وهي تلوح بذراعها في الهواء:
, -زبالة مين يا (٣ نقطة)، تعالوا وشوفوا مين بتكلم.
,
, حالت "آمنة" بينها وبين ابنتها، فقد عمدت الأخيرة للتطاول اليدوي لاستفزاز "فيروزة" بصورة فجة، وقالت برجاءٍ:
, -خلاص يا بنتي، عيب كده!
, استدارت "خلود" بجسدها، وتحركت بخطوات محسوبة لتغدو بالقرب من حافة الدرج، لتصبح مسألة انزلاق قدميها أكيدة، وتابعت صياحها المهلل بصوتٍ أعلى، وهي تصفق بيديها:
, -عيب؟ هو إنتو لسه شوفتوا العيب؟ ده أنا هاخلي اللي ما يشتري يتفرج عليكم!
,
, ردت عليها "فيروزة" وهي تمنع يدها من الإمساك بها، أو جذب ثيابها:
, -إنتي قليلة الأدب، ومش محترمة، وفعلاً تستاهلي الواحد يقل أدبه عليكي.
, ارتمت "خلود" بجسدها على "آمنة" قاصدة الاعتداء على "فيروزة" موجهة لها وابلاً من السباب الحقير، مستغيثة بخالتها:
, -تعالي يا خالتي شوفي اللي بيحصل برا.
,
, وفي لحظة معينة، عند لمحها لخالتها "ونيسة"، دفعت نفسها بارتدادٍ عنيف للخلف، سامحة لقدمها، بالتخلي عن قمة الدرج الواقفة عليه، لتبدو وكأنها مدفوعة عن عمدٍ، من قبل "فيروزة"، وصوت صراخها المفزع يزلزل جدران البناية:
, -الحقووووني٣ نقطة!
 
٢٢

قبيل الكارثة التي وقعت بلحظاتٍ، تأكدت من إعادة تنظيف الصــالة، ونفض الأسطح الزجاجية، وإزاحة أي عالق من الأتربة، ليبدو المكان مرتبًا، نظيفًا، وطيب الرائحة. انتقلت بعد ذلك لغرف النوم لتبدل الأغطية، وإعادة وضع الوسائد على الأَسرة بشكل جمالي رقيق، تأكدت "همسة" من اللمسات الأخيرة لمنزلها، وانتظرت بترقبٍ مجيء والدتها. مشط "هيثم" شعره، وعدَّل من ياقة الزي الرياضي الذي ارتداه، تركزت نظراته على زوجته حين أردفت قائلة بتنهيدةٍ متوترة:
, -ماما على وصول، وبصراحة كده أنا خايفة يحصل خناقة مع مامتك٣ نقطة
,
, ضاقت نظراته بقليلٍ من القلقٍ أيضًا، بينما أكملت "همسة" بنفس الصوت المتوتر:
, -هي أسلوبها صعب أوي، وآ٣ نقطة
, قضمت شفتها السفلى؛ وكأنها تستعد نفسيًا للبوح بالبقية، زفرت الهواء على مهلٍ، وعلقت:
, -و"فيروزة" مش هاتسكت لو سمعت حاجة معجبتهاش.
, فرك "هيثم" مؤخرة عنقه، كانت محقة في ذلك، لم يبعد نظراته عنها، وهتف مرددًا في حيرة وقلق:
, -مشكلة الصراحة.
,
, سألته بترقبٍ:
, -هنعمل إيه؟ هنفصل القوات إزاي؟!
, أجابها بأسلوبه المازح:
, -أقولك على حاجة حلوة..
, هزت رأسها في اهتمامٍ، فأضاف مبتسمًا:
, -احنا نسيبهم يخبطوا في بعض، ونقعد نتفرج، جايز أمي تطفش في النهاية، ونرتاح.
, أطلقت ضحكة ساخرة من طرافته التي تهون عليها صِعاب الأمور، لكن ما لبث أن تلاشت بسماعها لصياح والدته المتذمر:
, -الحق يا "هيثم"، شوف المصيبة اللي حصلت؟
,
, حيث قامت الأخيرة بإيقاف دورة الغسيل، غير عابئة بالمياه التي أغرقت الأرضية، وحَشرت زي الصلاة الخاص بها -والذي يمتاز بلونه الأحمر القاني- ضمن الثياب البيضاء، وأعادت تشغيل البرنامج، ليتم غسلهم جميعًا، على تلك الحرارة العالية، فجاءت النتيجة البديهية لمزج اللونين معًا؛ اكتساب غالبية الملابس للون الوردي، واختفاء اللون الأبيض تقريبًا عن قطع بأسرها. أمسكت بإحدى القطع في يديها، وعلى الفور ألقت بلومها على "همسة"، وهي ترفعها للأعلى لتريه إياها:
, -بص شوف مراتك، وعمايلها!!
,
, نظر لها "هيثم" متسائلاً في اندهاشٍ:
, -هي عملت إيه؟
, حدجتها "بثينة" بتلك النظرة الحقود، وأجابت وهي تلوح بالثياب الوردية:
, -الغسيل كله باظ.
, انفرجت شفتا "همسة" عن ذهولٍ، وعيناها تتابعان الثياب التي فسدت، في حين واصلت حماتها إلقاء التهم عليها:
, -يعني عامية مش شايفة الغسيل الأبيض من الألوان؟ ارتاحتي كده لما باظوا؟
,
, نفت تلك التهمة الباطلة عنها، وردت بصوتٍ شبه مختنق:
, -و**** أبدًا، أنا بصة كويس قبل ما أحطهم في الغسالة..
, لمحت تلك البسمة الصغيرة المتشفية فيها على ثغر "بثينة"، فقست تعبيراتها نحوها، فطنت للخدعة الدنيئة التي لفقتها، وتساءلت ببساطة؛ وكأنها تتحقق من صدق قولها الباطل:
, -وبعدين أنا مشغلة البرنامج، ومتأكدة إن كل حاجة تمام، يبقى إزاي ده حصل؟ إلا إن كان حد بقى وقف البرنامج وعدل عليه، عشان ينكد علينا.
,
, صاحت بها "بثينة":
, -قصدك إيه؟ إني عملت كده؟
, ردت بجراءة:
, -**** أعلم! لكن مش أنا.
, تدخل "هيثم" في الحوار، ليفض بينهما، وقال:
, -خلاص يامه هلبسهم بامبي، أنا مش زعلان..
,
, ثم استدار نحو زوجته، وأضاف بابتسامة عريضة؛ كمن يتغزل بها:
, -وأهوو الحياة تبقى بامبي بيني أنا ومراتي.
, زجرته والدته في تهكمٍ مستفز، كعادتها:
, -ياخويا أنا عارفة بتحبها على إيه، دي نحس، مافيش منها رجا!
, حذرتها "همسة" مشيرة بسبابتها أمام وجهها:
, -لو سمحتي بلاش الكلام ده، أنا مبغلطش في حد، فيا ريت متغلطيش فيا!
, دعم "هيثم" حديثها قائلاً:
, -يامه كده عيب، وآ٣ نقطة
,
, صرخت به في حدةٍ:
, -اخرس إنت، هتاخد في صفها كده على طول
, وقبل أن توبخ زوجته بعدائية بغيضة، انتبه ثلاثتهم لصوت الصراخ الصادر من الخارج، تعرفت "بثينة" على الفور على صوت ابنتها الغاضب، واندفعت لاكزة "همسة" في جانبها بغيظٍ، لتتجه نحو باب المنزل، لترى ما يحدث مع "خلود"، تبعها "هيثم" متوقعًا حدوث مصيبة ما، ولم تتأخر زوجته في اللحاق بهما.
,
, أمسكت "بثينة" بحافة الدرابزين بكلتا يديها، وأحنت رأسها للأسفل لتتطلع إلى "خلود" المتلاحمة بشراسة شديدة مع "فيروزة"؛ وكأنها تود الفتك بها، ووقفت إلى جوارها "همسة" المذهولة مما يحدث، فليست من طبيعة توأمتها افتعال المشاجرات مع تلك المستفزة، في حين هبط "هيثم" الدرجات سريعًا، ليتدخل فورًا، قبل تفاقم الشجار الذي لا يعلم سبب نشوبه. أرخت "بثينة" إحدى قبضتيها عن الحافة، ولوحت بذراعها تحذر ابنتها بصوتها الصادح:
, -خدي بالك يا بت!
,
, وكأن الأخيرة فاقدة لحاسة السمع، لم تتجاوب مع أي أصوات تناديها بالتوقف، بدت أكثر عزمًا على إتمام مخططها للنهاية، التفتت برأسها للوراء، لتلقي نظرة أخيرة على الثماني درجات من خلفها، لن تكون الإصابة جسيمة؛ إن تدحرجت عليه، خاصة مع بَسّطة السلم المربعة، ستفترشه بأريحية. رأها "هيثم" بوضوحٍ، من زاويته، وهي تتراجع ببطءٍ دافعة نفسها للخلف، دون أن تمسها أي يد، لتزلّ قدمها –بعمدٍ- عن حافة الدرج، وتسقط سقوطًا مروعًا عليه، أصاب المتواجدين بالصدمة والارتعاب الشديدين.
,
, غامت الصور في عينيها قبل أن تتحول لإظلام كامل، والأصوات الصارخة تجتاح عقلها الذي يتخلى عن وعيه تدريجيًا، بعد تلك السقطة العنيفة، التي حتمًا لن تتعافى منها بسهولةٍ، كان آخر ما أبصرته وجه شقيقها المرتاع، والذي قفز الدرجات قفزًا ليكون إلى جوارها، لامها بصوتٍ حزين:
, -عملتي كده ليه يا "خلود"؟
,
, لم تجبه، ومنحته تلك النظرة الأخيرة، لتطبق على جفنيها، مستسلمة للخدر الإجباري، الذي تفشى في جسدها، ورغم الرجفة المرعبة التي نالت منها لرؤيتها تسقط على الدرج بهذا الشكل الشنيع إلا أنها لحقت بها لتتفقدها، جلست "فيروزة" على ركبتيها أمامها، وصاحت تأمره في خوفٍ:
, -متحركهاش، أنا هاطلب الإسعاف.
,
, أومأ "هيثم" برأسه، وهو ينظر إلى شقيقته الفاقدة للوعي، جذبة عنيفة من كتف "فيروزة" طرحتها أرضًا بعيدًا عنها، وأسقطت الهاتف من يدها، تبعها سباب مهين، التفتت للمتسببة في ذلك، فرأت "بثينة" وهي تعنفها بنواحها المزعج:
, -أوعي يا بوز النحس عنها، عاوزة إيه تاني من بنتي؟ خلاص ارتاحتي لما جبتي أجلها؟
,
, هتفت "فيروزة" نافية التهمة عنها:
, -محدش جه جمبها، بنتك اللي عملت كده في نفسها، وكلكم واقفين وشاهدين.
, ردت "آمنة" مدافعة عن ابنتها بغرابةٍ لم تتوقعها الأخيرة:
, -أنا كنت ماسكة بنتي، وبعداها عنها، هي من الأول اللي قاصدة تشتبك معها!
,
, اندهشت "فيروزة" من موقف والدتها، وجالت بنظراتها على الحشد المتجمع من حولهم، فبالرغم من الشجار الحاد بينها وبين "خلود"، إلا أنها لم تغفل عن بعض التفاصيل الهامة، فحين رفعت رأسها للأعلى على إثر الصوت الحاد، القادم من فوقها، رأت "بثينة" وهي تتدلى بنصف جسدها للأسفل، لتحذر ابنتها بشكلٍ صريح، من الاقتراب من حواف الدرج، ووالدتها كانت شبه مقيدة لذراعيها، وحين أدارت رأسها للجانب، ظهرت "ونيسة" وهي تندفع خارجة من باب منزلها مع نبرتها المتسائلة عن سبب الجدال، فكيف لها أن تدفعها وهي منشغلة عنها –ذهنيًا وبدنيًا- في تلك اللحظة المصيرية؟
,
, انضمت "ونيسة" لأختها، وجلست على الدرجة الأخيرة تبكي وهي تقول:
, -استرها يا رب، دي في بطنها عيل، احميها يا رب.
, ردت عليها "بثينة" بصراخها:
, -مافيش غيرها إلا عايزة تجيب أجل بنتي واللي في بطنها.
,
, تحولت نظراتها المغلولة نحو "فيروزة"، بادلتها الأخيرة نظراتٍ غريبة مستنكرة ما تقذفه من اتهامات مجحفة، وضعت "همسة" قبضتها على ذراع توأمتها، لتنتشلها من تحديقها الناري بها، شدتها بعيدًا عن حماتها الغاضبة، والتي من المتوقع أن تتطاول باليد عليها، لتفرغ حنقها الأسود بها، وهتفت ترجوها:
, -تعالي معايا يا "فيرو".
,
, ردت عليها توأمتها بإصرار:
, -مش هامشي .. هو أنا جيت جمبها أصلاً؟
, همست لها بصوتٍ مضطرب:
, -أنا عارفة، بس بلاش تبقي في وشها السعادي.
,
, كانت تقصد بحديثها تلك المرأة، وبهدوءٍ انسحبت "فيروزة" لتفسح المجال للجد "سلطان" الذي هبط عن قمة الدرج، ملقيًا نظراتٍ مستريبة على "خلود" قبل أن ينطق بلهجته الصارمة:
, -كلم الإسعاف بسرعة يا "هيثم"، مش هانستنى لما روحها تطلع عشان نتحرك.
, هز رأسه قائلاً بحزنٍ:
, -حاضر يا جدي.
,
, -كلمت عمك "بدير"؟
, تساءل "سلطان" بتلك العبارة الجادة، وهو يجلس على المقعد المعدني –غير المريح- في بهو الاستقبال، بعد أن تم نقل "خلود"، بواسطة عربة الإسعاف، إلى أقرب مشفى، ووضعها بقسم الطوارئ للتعامل مع حالتها الحرجة، حرك "هيثم" رأسه بالإيجاب، وأضاف:
, -أيوه يا جدي، وهو جاي على طول على هنا، وقالي إنه هيعرف "تميم" باللي حصلها، وهيجيبه في سكته.
, زم شفتيه قليلاً، ليعقب بعدها مرددًا في هدوءٍ، وهو يستند بكفيه على رأس عكازه:
, -ماشي يا ابني..
,
, صمت للحظة، وأمر حفيده، وعيناه ترتكزان على "بثينة":
, -روح اطمن على أمك، وقولها بلاش تقلبها مندبة.
, وجه "هيثم" نظراته نحو والدته التي كانت تلطم على صدرها، وفخذيها، في حسرةٍ، للفاجعة التي آلمت بشقيقته، وصوتها اللائم لم يتوقف عن العويل:
, -كان مستخبيلك ده كله فين يا بنت بطني؟ رديتي بالهم والهم مرضاش بيكي ياحبة عين أمك!
, ربتت "ونيسة" على حجر أختها، وواستها قائلة:
, -استهدي ب**** ياختي، إن شاء**** تعدي منها على خير.
,
, هتفت في استنكارٍ ناقم:
, -خير منين يا "ونيسة"؟ هنضحك على بعض؟ ده البت كانت متكومة لا حس ولا خبر، ولا اللي في بطنها؟
, تنهدت ترد في رجاءٍ متضرع:
, -استرها عليه يا رب، ارمي حمولك على ****، وهو هينجيها.
, قالت في عدم رضا:
, -إنتي مش حاسة باللي أنا فيه ياختي.
, أنكرت عدم تقديرها، معاتبة إياها برفقٍ:
, -متقوليش كده، ده معزة "خلود" عندي زي معزة "هاجر" بنتي وزيادة.
,
, واصلت ندبها المتحسر مضيفة:
, -آه يا حرقة قلبي عليكي، يا ريتني كنتي أنا، ولا إني أشوفك كده بين الحياة والموت.
, رددت "ونيسة" في أسفٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****.
, قست نظرات شقيقتها، وكزت على أسنانها مغمغمة بغلٍ:
, -لأ وشوفي القادرة، جاية تقعد هنا عشان تشمت في بنتي.
,
, التفتت "ونيسة" ناظرة نحو "آمنة" التي اتخذت مقعدًا معزولاً عن المحيط المزدحم، شتت نظراتها عنها، وقالت مدافعة عنها:
, -بالعكس دي جاية تطمن عليها.
, عنفتها "بثينة" بحدةٍ، وقد تلونت عيناها بحمرتها الغاضبة:
, -إنتي بيخيل عليكي كُهن النسوان ده؟ أشوف قلبها محروق على بناتها قريب.
, وضعت يدها على فمها تهتف في ارتعابٍ:
, -حرام كده.. بلاش الدعوة دي!
,
, ارتفعت نبرتها الساخطة إلى حد ما وهي تقول:
, -لأ مش حرام مع الأشكال دي، هو أنا عندي أغلى من عيالي الاتنين؟ دخلتها كانت شوم علينا هي وبناتها الفقر!
, التقطت أذنا "هيثم" سبابها الأخير، فقال راجيًا والدته، كي تكف عن ازدرائها العلني:
, -خلاص يامه، المستشفى بيتفرجوا علينا.
, زجرته "بثينة" بغيظٍ:
, -غور من قدامي يا واد إنت، مش طايقاك.. عيلة مراتك جابوا أجل بنتي.
,
, كان يعلم كراهيتها لـ "فيروزة"، لكنه رأى الحقيقة كاملة، فرد ببرودٍ:
, -بلاش افتراء، أنا كنت واقف وشايف اللي حصل بعيني دول، "خلود" اللي حدفت نفسها وآ٤ نقطة
, قاطعته بوقاحةٍ، رافضة الإصغاء له:
, -هو إنت بقيت بتشوف أصلاً؟ من ساعة ما اتبلينا بالجوازة الشوم دي!
,
, طابق تلك الفواتير التي تحصّل عليها، بالأخرى المدونة في الدفتر الخاص بتسجيل المعاملات التجارية، لاحظ "تميم" اختلاف بعض الأرقام، لفواتير سابقة، وإن كانت النسب طفيفة، حك مؤخرة رأسه في حيرة، وواصل المراجعة الدقيقة، ليعرف سبب ذلك الخلاف؛ لكن قطع تركيزه نداء والده الصـارم:
, -يا "تميم"! سيب اللي في إيدك وتعالى معايا.
, رفع رأسه عن المكتب، وتطلع إليه بنظراتٍ حائرة، قبل أن يسأله مهتمًا:
, -في إيه يا حاج؟
,
, بدا صوته أكثر حدية وهو يرد:
, -من غير ليه، هتيجي معايا حالاً في المشوار ده.
, أغلق "تميم" الدفتر، وأعاد وضع الفواتير بعد طيها في الدرج السفلي، ثم أغلقه بالمفتاح، وعلق عليه معترضًا:
, -ده أنا لسه هاطلع على سوق الجملة، في بضاعة هناك وآ٤ نقطة
, قاطعه "بدير" بتجهمٍ، لم يخفه:
, -خلي حد من الرجالة يروح مكانك، الموضوع ده مايستناش.
, تطلع إليه باسترابةٍ، وسأله مباشرة:
, -وغوشتني يابا، حصل إيه؟
,
, أجاب على مضضٍ، ونظراته تتفرس في وجه ابنه، ليعرف ردة فعله:
, -بنت خالتك وقعت من على سلم البيت، واتنقلت على المستشفى.
, لم تتأثر ملامحه بما سمعه، بدت غير مقروءة، ومع هذا تساءل في اهتمامٍ:
, -يا ساتر، وده حصل إزاي؟
, أجابه بعد زفيرٍ:
, -مش عارف لسه، خلينا نروح نطمن عليها، و٣ نقطة
,
, تباطأت نبرته حين أكمل:
, -وعلى ابنك اللي في بطنها.
, أدرك من تبدل نبرته وجود خطب ما خطير، وليس الأمر مجرد حادثة عابرة، تبعه متجهًا إلى سيارته، بعد أن أملى على أحد رجاله أوامره لينفذها، جلس والده في المقعد الأمامي، واحتل "تميم" مقعده خلف الموقد، ليتجه بعدها إلى عنوان المشفى المعروف، وهو يغمغم بتضرعٍ:
, -عديها على خير يا رب
,
, تناقلت الأخبار سريعًا في تلك المنطقة الشعبية، وعَلم الجميع بالحادث المأساوي الذي تعرضت له "خلود"؛ لكن التفاصيل الحقيقية للحادثة، شابها الكثير من الأغلاط والأقاويل غير الصحيحة، لإضفاء التشويق على تلك النوعية من الأخبار. وصــل "محرز" إلى المشفى، واتجه إلى الاستقبال ليستعلم عن حالة المريضة، دلته إحدى الممرضات على عائلتها الجالسة في ردهة الانتظار المتسعة، وهناك اقترب من الجد "سلطان" ليسأله بلهاثٍ زائف؛ وكأنه جاء ركضًا:
, -ها يا جماعة، إيه الأخبار؟
,
, رمقه الجد بنظرة غريبة، قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنه، فأجاب "هيثم" عن جده، وهو يدعك بيده وجهه المتعب:
, -لسه مافيش جديد.
, رد عليه بقليلٍ من التفاؤل:
, -دلوقتي الدكتور يطلع ويطمنكم عليها.
, هز رأسه معقبًا عليه:
, -يا رب يا "محرز".
,
, تسلطت كافة الأعين على الطبيب الذي خرج لتوه من الداخل، مرتديًا زيه الأخضر، وذلك القناع الطبي يتدلى عن فكه، قاصدًا الاتجاه ناحيتهم، سألهم بنبرته الروتينية، وعيناه تتحركان على وجوههم القلقة:
, -حضراتكم أهل المريضة؟
, هبت "بثينة" واقفة بمجرد سماعها لصوته، وهرولت نحوه صارخة به:
, -أيوه .. أنا أمها يا ضاكتور.
, وقام "هيثم" بالتعريف أيضًا بنفسه:
, -وأنا أخوها.
,
, أشــار الطبيب بيده نحو موظفي الاستقبال؛ وكأنه يوجههم للذهاب إلى هناك، وهو يتابع قوله:
, -طيب عايزين توقيع حضراتكم على إجراء العملية.
, تساءلت "بثينة" بصدرٍ ملتاع، وملامح واجلة:
, -عملية إيه ياخويا؟ هي حالتها خطيرة للدرجاي؟
, أطرق رأسه قليلاً، وأجاب بحذرٍ:
, -للأسف، حصل إجهاض للجنين اللي في بطنها!
,
, لطمت بعنفٍ على صدغيها، لتصيح بعدها في عويلٍ صارخ:
, -يالهوي! يا لهوي! يا لهوي!
, أوقف "هيثم" والدته عن التصرف بتلك الطريقة المؤلمة، وهتف بحزنٍ صادق على شقيقته:
, -اهدي يامه.. ماينفعش كده.
, انضمت إليها "ونيسة"، ورجتها بصوتها الباكي:
, -حرام عليكي ياختي، ده أمر ****!
,
, التفتت "بثينة" نحو "سلطان" لتشاركه مصابها وصوتها لم يتوقف عن الصراخ المزعج:
, -سمعت بنفسك يا حاج، حفيدك مات قبل ما يشوف الدنيا!
, هز الجد رأسه للجانبين في أسفٍ واضح، وردد بصوتٍ خفيض:
, -لله الأمر من قبل ومن بعد.
, بينما أردفت "آمنة" معلقة على ما تراه، ودون أن تتدخل بشكلٍ مباشر لمؤازرة "بثينة":
, -جيب العواقب سليمة يا رب.
,
, -جوزك قالك حاجة؟
, وجهت "فيروزة" سؤالها المهتم لتوأمتها، والتي فرغت لتوها من مكالمة عاجلة مع "هيثم"، لتستعلم منه عن آخر المستجدات الخاصة بحالة شقيقته، رمت بجسدها المتعب على الأريكة إلى جوارها، ورفعت ساقيها عن الأرضية لتضمها إلى صدرها، وشبكت ساعديها حول ركبتيها، وأجابتها بحزنٍ بائن في نبرتها:
, -أيوه، "هيثم" قالي الحمل مكملش.
, ضغطت "فيروزة" على شفتيها في أسفٍ، توقعت حدوث ذلك، بعد سقطتها القوية، ثم حركت شفتيها لتنطق بهدوءٍ:
, -**** يصبرها.
,
, ردت عليها "همسة" بصوتٍ بدا مختنقًا نسبيًا؛ وتلك اللمحات الخاطفة عن معاناتها السابقة تدور في عقلها:
, -يا رب، صعب بصراحة على أي واحدة تخسر ابنها، وخصوصًا لو كانت مستنياه٣ نقطة
, ثم انخفضت نبرتها إلى حد ما، لتكمل بخفوتٍ؛ وكأنها تُحادث نفسها:
, -ما بالك بقى اللي نفسها في عيل، واحتمال ده ما يحصلش.
,
, أرهفت "فيروزة" السمع لكلامها الأخير، وبدت غير راضية عن حزنها الواهي، لذا علقت عليها بنبرةٍ موحية:
, -اللهم لا شماتة، شوفي هي عملت فيكي زمان إيه، وربنا أراد تجرب نفس الحكاية، سبحانه! ليه حكمة في اللي حصل!
, تنفست "همسة" بعمقٍ، لتخنق تلك الغصة العالقة في حلقها، وتساءلت في حيرةٍ:
, -الواحد بس مستغرب، هي عملت كده ليه في نفسها؟
,
, أجابت وهي تفرد ذراعها على حافة الأريكة، لتغوص أكثر بها:
, -معرفش، بس من الأول يا "همسة" كانت قاصدة تتخانق معانا، كأنها بتقول شكل للبيع، أنا وماما كنا طالعين عادي عندك، وهي زي ما يكون واقفة مستنيانا، وقلت أدبها جامد علينا، بصراحة كده أنا حاسة إنها كانت مستقصداني بالحكاية دي.
, عقدت "همسة" حاجبيها في اندهاشٍ، واستنكرت تفكير "خلود" اللئيم، لتقول معترضة:
, -مش للدرجادي، **** يهديها لنفسها.
,
, أضافت عليها "فيروزة" بتنهيدةٍ:
, -ويبعدها عننا..
, ســاد الصمت للحظاتٍ بين الاثنتين، قبل أن تقطعه "همسة"، وهي تحل وثاق ساعديها، لتسترخي في جلستها:
, -قوليلي إنتي مالك؟ من ساعة ما رجعتي وأنا حساكي في حاجة، بس مش عارفة إيه هي!
, ادعت الابتســام لتخفي ما يعتريها من ضيق وانكســار، لتقول بفتورٍ:
, -أنا بخير.. متقلقيش عليا.
, غمزت لها متسائلة في إلحاحٍ:
, -وأخبار قراية الفاتحة إيه؟ أنا عايزة أعرف كل التفاصيل، وبعدين العريس جابلك دبلة ولا لأ وآ٤ نقطة
,
, قاطعتها بعبوسٍ غريب:
, -مافيش نصيب يا "همسة".
, بهتت ملامحها تقريبًا من ردها الصادم، وسألتها وقد اعتدلت على الأريكة، لتبدو أكثر قربًا منها:
, -ليه؟
, غطت على ما تريد البوح به بمراوغتها:
, -بعدين نبقى نتكلم عني .. المهم حماتك عاملة إيه معاكي؟ أنا اتفاجئت إنها لسه موجودة هنا.
,
, نفخت "همسة" مرددة باستياءٍ شديد:
, -أعوذو ب**** منها، دي ماسبتناش للحظة من يوم السبوع، زي ما يكون قاصدة تخرب عليا أنا و"هيثم".. ولسه قبل ما تيجوا دابة خناقة معايا، بوظت الغسيل، ومتهماني فيه.
, علقت عليها "فيروزة" بتهكمٍ صريح:
, -وطبعًا بنتها نسخة عنها، وجوزك بيعمل إيه بقى؟
, أجابت دون تشكيك في موقفه الداعم لها:
, -الصراحة "هيثم" واقف على طول في صفي، تقريبًا مامته هتتنقط منه.
,
, ردت عليها توأمتها بإيماءة خفيفة من رأسها:
, -**** يبعد شرها عنكم.
, -يا رب، أنا هاكلم ماما أطمن برضوه منها على الوضع.
, قالت "همسة" جملتها تلك، وهي تنحني للأمام، لتمسك بهاتفها المحمول، وتعبث بأزراره، في حين هتفت شقيقتها ترد باقتضابٍ:
, -ماشي.
,
, بنظراتٍ حذرة جالت على الرواق المزدحم، انتظر هدوء الحركة من حولها، ليتقدم ناحيتها؛ وكأنه يتفقد أحوالها، بشكلٍ طبيعي، لا يدعو لإثارة الريبة حول تصرفه، مال "محرز" نحو "بثينة"، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهو يهمس لها:
, -عاوزك على جمب في كلمتين يا خالتي.
, حملقت فيه بغرابةٍ، ولم تجادله، تبعته إلى حيث توقف، بالقرب من مدخل المشفى، واستطردت تنوح له بشكواها:
, -شوفت اللي حصلنا يا "محرز"؟
,
, رد مواسيًا:
, -أيوه، وقلبي عندك يا خالتي.
, حركت كامل جسدها في اهتزازة ثابتة للجانبين، متابعة ندبها الشاكي:
, -خسرنا كل حاجة .. كله في ثانية راح!
, هز رأسه مؤكدًا:
, -**** هيعوضها قريب، البطن اللي شالت مرة هتشيل عشرة
, هتفت باستنكارٍ جلي:
, -إزاي؟ والمعدول ابن خالتها رافض يرجعلها، والعيل خلاص نزل، إيه اللي هيجبروه يرجعلها تاني؟
,
, برقت عيناه بوهجٍ عجيب، وقال عن ثقة واضحة:
, -أنا عندي الحل..
, وكأنه امتلك زمامها في غمضة عين، هتفت مستنجدة به:
, -قولي بسرعة عليه يا "محرز"، إلهي يسترك.
, رد مبتسمًا بغرورٍ:
, -متقلقيش..
, ثم قست عيناها وهي تتابع بغلٍ، ونظراتها مثبتة على "آمنة":
, -نفسي أشوف الولية اللي هناك دي متحسرة على بناتها قريب.
,
, لاحت بسمة ماكرة على زاوية فمه، حين رد بنفس النبرة الواثقة:
, -هيحصل يا خالتي، وبكرة أفكرك٣ نقطة
, تحولت نبرته للغموض الجاد، وهو يكمل:
, -بس ده لو سمعتي اللي هاقولهولك، ونفذتيه بالحرف!!
, لم تجادله، وهتفت مبدية استعدادها التام للانصياع له:
, -قول!
,
, للحظة تلفت "محرز" حوله، ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، قبل أن يرد قائلاً:
, -مش هاينفع نتكلم هنا، الحيطان ليها ودان، لازم نمشي الأول من المكان ده.
, تقلصت تعابير وجهها بشدة، وعلقت في استهجانٍ؛ وكأن طلبه لم يروقها:
, -وأسيب بنتي لوحدها؟! ده كلام بردك؟!
,
, أصــر عليها بجديةٍ أشد غلفت نبرته، وغطت ملامحه:
, -مش هنتأخر كتير، إنتي أصلاً محتاجة تجيبلها غيار عشان لازمًا هتبات في المستشفى، مش هيرضوا يطلعوها على طول.
, لانت تعابيرها قليلاً، وردت بزفيرٍ مهموم:
, -أيوه، في دي معاك حق، منهم لله البُعدة.
, وضع يده على جانب كتفها، ليحثها على التحرك، وتابع:
, -تعالي هوصلك، ونتكلم في الطريق.
, ســارت معه إلى حيث قادها، ولسانها يسأله:
, -ماشي.. بس عايز مني إيه؟
,
, جاء رده عاديًا، وهو ينظر في اتجاهها:
, -دي حاجة عادية، أمانة تبع الناس اللي ممشيالنا شغلنا في الدكان التاني، هاشيلها عندك كام يوم.
, رفعت حاجبها للأعلى في تعجبٍ، وسألته بوقاحةٍ:
, -وماتسيبهاش ليه في بيتك؟ ما إنت عندك خزنة أد كده!
, استنشق الهواء بعمقٍ، ولفظه مليًا، ليثبط مشاعر السخط بداخله. برع في رسم تلك الابتسامة السمجة على محياه، وهو يحاول إقناعها بالقبول مبررًا:
, -يا "أم هيثم"! ده كلام بردك؟ وأنا اللي بأقول عليكي مخك نِور، أسيبها عندي، و"هاجر" تخشلي في سين وجيم؟
,
, تلمست طرف حجابها الذي استرخى عن كتفها، وألقته عليه مجددًا، وهي ترد:
, -معاك حق.
, قضى "محرز" على ابتسامة انتشاءٍ تداعب ثغره، وردد صوته الرخيم:
, -تعالي عشان ما نتأخرش، وأقولك هنعمل إيه في سكتنا.
, برزت تلك النظرة البغيضة في عينيها، وهي تدمدم بإيجازٍ:
, -طيب.. أما نشوف أخرتها.
,
, ربتة خفيفة من جده، تلقاها على كتفه، كنوعٍ من المواساة، بعد أن أخبره بفاجعة إجهاض طفله الذي لم تكتب له النجاة، من تلك الحادثة العرضية المؤسفة، وقاصدًا عدم التطرق –مؤقتًا- لتفاصيل سقوطها عن الدرج، إلى أن تهدأ مهاجه الحزينة. لم يجد "تميم" ما ينطق به معبرًا عما يشعر به حاليًا، فواحدٌ غيره، لانفطر قلبه لمُصابه العظيم، وهاج وماج لخسارته أعز ما ينتظره؛ ولكن رغم مشاكله الأخيرة مع طليقته، بكل ما فيها من سخط وبغض، طغت أحاسيسه المتأثرة عليه، وكان تقبل خسارته المؤلمة، هو الخيار الوحيد المتاح له، استدار برأسه نحو والده الذي عزاه قائلاً:
, -**** يعوض عليك يا ابني، ده حكمته وقضائه.
,
, لعق شفتيه، وهتف بنبرة تعسة، وتلك اللمعة الرطبة تتسلل إلى طرفيه:
, -ما يعزش على اللي خلقه.
, علق الجد "سلطان" بجدية:
, -مسيرك تتجوز تاني وتجيب العيال اللي نفسك فيهم.
, نظر إليه بعينين مليئتين بالحزن، وقال بلمحة متأثرة:
, -خلينا نطمن الأول على بنت خالتي، أيًا كان اللي حصل بينا، هي بردك كانت مراتي في يوم من الأيام، واللي في بطنها كان ابني.
,
, رد والده في امتنانٍ:
, -طول عمرك بتفهم في الأصول يا ابني.
, من المعروف في الشريعة الإسلامية، وحين يتم إجهاض أحد الأجنة، أن يقوم فرد من الأسرة، بدفن البقايا، ولهذا كان من البديهي أن يتصرف "تميم" وفقًا لذلك. ابتلع غصة مريرة كالعلقم في جوفه، وأضاف بصعوبة، محاولاً إظهار صلابته وتماسكه:
, -هاروح أسأل استلمه منين عشان أدفنه.
, -أنا جاي معاك.
,
, هتف "هيثم" بتلك العبارة وهو يقترب منهم، ثم تبادل بعض الجمل المقتضبة مع ابن خالته، كنوعٍ من المواساة، وعرف منه بعض التفاصيل المتكررة، حيث اختلت قدم "خلود" عن حافة الدرج، خلال تواجدها عليه، وغفل الأول عن ذكر المشاحنة المفتعلة التي وقعت، ظن أنه لا طائل من تناول الحديث عنها الآن؛ لكن الجد أردف قائلاً فجأة، ليضع النقاط على الحروف، وليكمل المشهد المنقوص:
, -بس غريبة حكاية خناقة أختك مع جماعة مراتك يا "هيثم"، إيه اللي خلاها تطلع من البيت عندنا، وتقفلهم على السلم؟
,
, برزت عينا "تميم" على اتساعهما في صدمة، وحملق في جده باندهاشٍ ذاهل، بينما رد عليه "هيثم" بعفوية"
, -ولا أعرف يا جدي، هي كانت ماسكة في أخت "همسة"، وحلفانة ما تسيبها
, تضاعفت دهشة "تميم"، وانتفضت كامل حواسه الكامنة، لتعمل بكل طاقتها، وجد نفسه يهمس بتلقائية، بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيه؛ مستشعرًا تورطها –رغمًا عنها- في الأمر:
, -"فيروزة"!
,
, تابع "هيثم" موضحًا بنبرة حائرة، ومستخدمًا يده في الإشارة والتوضيح:
, -احنا سمعنا صوت الخناقة على السلم، طلعنا كلنا نشوف في إيه، بس كان حصل اللي حصل بقى، و"خلود" ملحقتش نفسها.
, المزيد من التفاصيل الغائبة عادت لتحتل المشهد، وتملأ رأسه بالشكوك، كان لديه عشرات الأسئلة يريد الاستفهام عنها؛ لكن تعذر عليه فعل ذلك بسبب مجيء الطبيب، توقفوا عن الثرثرة ليبادر "هيثم" متسائلاً:
, -إيه الأخبار يا دكتور؟
,
, أجاب مُبينًا طبيعة وضعها الصحي:
, -الحمد**** الحالة دلوقتي مستقرة، لكن العمود الفقري عندها اتعرض لحاجة بنسميها "الكسور الانضغاطية"، وده حصلها نتيجة وقعتها العنيفة.
, تبادلوا نظرات حائرة فيما بينهم؛ لكن كان "تميم" الأسبق في الاستفسار:
, -يعني إيه؟
, التفت الطبيب برأسه نحوه، وأوضح له:
, -يعني مش هاتقدر تمشي بشكل طبيعي في الأول!
,
, وقبل أن يسيئوا فهمه، بادر مستفيضًا:
, -لكن ده مش معناه إنها عاجزة لا سمح ****، هي بس هتضطر في البداية تستخدم حزام طبي، مع الأدوية المسكنة، وأدوية مرخية للعضلات، بحيث تقدر الفقرات تقوم بعملها من تاني، ولازم الراحة التامة، ويكون في متابعة مع دكتور متخصص في العلاج الطبيعي، وده عشان يساعدها في تخفيف الآلام اللي عندها، وكمان يقوي العضلات بحيث ترجع تمشي وتتحرك عادي جدًا.
,
, رد "تميم" دون تفكير:
, -هنعمل كده يا دكتور.
, تصنع الطبيب الابتسام، وقال وهو يمسح بيده على ذراعه:
, -وربنا يطمنكم عليها.
, رد "هيثم" مجاملاً:
, -متشكرين.
,
, كان من السخيف أن يلح "تميم" بأسئلته في الوقت الحالي على "هيثم"، نحى فضوله جانبًا، فهناك أوقات حرجة لا تصلح سوى للصمت، تناول الوصفة الطبية من الطبيب ليأتي بالأدوية المطلوبة، ليعود بعدها، ويجلس بجوار والدته، والتي لم تتوقف عن الشكوى، وإلقاء اللوم عليه لتقصيره في حق رعاية من كانت في يومٍ ما زوجته.
,
, نظرة أخيرة ألقتها على هاتفها المحمول، وقد أصبح الوقت متأخرًا لتعود بمفردها إلى المنزل، ومع هذا لم تحبذ "آمنة" الرحيل مبكرًا، آملة بتواجدها أن تخفف من وطأة الأمر على أصحابه، بدأ جسدها في الأنين من جلوسها غير المريح، فاضطرت أن تنهض من مقعدها، وتتجه إلى أفراد العائلة لتستأذنهم في الذهاب، تنحنحت لتزيح تلك الحشرجة عن أوتارها، ووجهت حديثها للحاج "بدير"، ووالده، مرددة بتلعثمٍ:
, -حمدلله على سلامتها.
,
, رد بإيماءة بسيطة من رأسه:
, -**** يسلمك يا حاجة.
, بينما عقب عليها "سلطان" بصوته الأجش:
, -كتر خيرك، تاعبة نفسك طول اليوم معانا.
, دون أن تبحث عن الإجابة، ردت بعفوية:
, -دي زي بنتي، وربنا يتمم شفاها على خير.
, شكرها "بدير" بلطفٍ:
, -يا رب، وتسلمي يا حاجة مرة تانية.
,
, ثم نادى عاليًا:
, -روح يا "تميم" مع الحاجة وصلها البيت.
, نظرت في اتجاه ابنه الذي نهض من جوار والدته على مهل، فاستدارت تنظر إلى "بدير"، واعترضت عليه بحرجٍ ظاهرٍ عليها:
, -مالوش لزوم، أنا هاخد تاكسي من هنا وآ٤ نقطة
, قاطعها بإصرارٍ:
, -لا مايصحش، ده العربيات كتير عندنا.
,
, تقدم "تميم" نحوها، وأشار لها بالتحرك بيده، وهو يدعوها:
, -اتفضلي.
, حاولت أن تبتسم وسط حرجها، وقالت وهي تهم بالسير:
, -كتر خيرك يا ابني.. أنا مش عارفة أقولك إيه؟!
, هز رأسه قائلاً بصوتٍ عبر عن حزنه:
, -الحمد****، ده قضاء ****.
,
, لم تكن بالمسافة الكبيرة التي تحتاج لسيارة أجرة لتقلها إلى منزلها، قطعت "فيروزة" الطريق عائدة إلى هناك سيرًا على الأقدام، دهشة عجيبة نالت من تعبيراتها الواجمة حين رأت إحدى عربات الشرطة تسد المدخل، أسرعت في خطاها، وتساءلت بصوتٍ شبه لاهث، وعيناها تدوران على أفراد الشرطة المتواجدين من حولها:
, -إنتو مين؟ بتسألوا على حد معين هنا؟
,
, اتجهت نظراتها نحو صاحب الصوت الخشن الذي سألها برسمية بحتة:
, -أيوه .. ده بيت "فيروزة أبو المكارم"؟
, لم تفكر وهي تجاوبه مُعرفة بنفسها:
, -أيوه.. دي أنا.
, قبضته القاسية، انقضت دون إنذارٍ، على ذراعها تجذبها بعدائية غريبة، وتجرها نحو السيارة، وصوته يأمرها:
, -اتفضلي معانا، الظابط عايزك في القسم.
, قاومته متسائلة في جزعٍ:
, -ليه في إيه؟ أنا معملتش حاجة أصلاً.
,
, ولحسن حظها –ربما- كان قد وصل بوالدتها إلى منزلها، لمح الأضواء المميزة لسيارتهم، فتوقف قلبه عن الخفقان في هلعٍ، سد "تميم" بسيارته الطريق على عربة الشرطة، وترجل منها دون أن يوقف محركها، ليهجم بلا تفكيرٍ على الضابط، منتشلاً ذراعها من قبضته، ومُكونًا بجسده حائلاً بينها وبينه، قبل أن يهتف بنبرةٍ كانت أقرب للزئير:
, -إيه اللي بيحصل هنا؟ وواخدينها على فين.
,
, رمقه الضابط بنظرة نارية، وهو يعنفه:
, -إنت إزاي تتجرأ تعمل كده؟ ليلتك سودة
, سيطرت عليه رغبة عارمة في حمايتها من الخطر؛ وإن كان يعني هذا وقوعه في المشاكل مع الجهات الأمنية المسئولة، بجهدٍ كبير حافظ على جمود تعابيره، وقال بتحفظٍ، ومدافعًا عنها بشكل غريب:
, -يا باشا مقصدش، بس في أكيد سوء تفاهم هنا، الأبلة طول عمرها ماشية في السليم.
,
, تفاجأت "فيروزة" من دفاعها عنها، رغم عدم معرفته مثلها بملابسات إلقاء القبض عليها، في حين احتضنت "آمنة" ابنتها، وحاوطتها بذراعيها، وتساءلت في رعبٍ جلي:
, -حصل إيه؟ وواخدين بنتي ليه؟
, أجاب الضابط ببسمة ساخطة، وبعد نظرة بطيئة فاحصة، تجولت على أوجه ثلاثتهم:
, -ده استدعاء رسمي للقسم، في بلاغ متقدم ضدها، بمحاولة قتل "خلود غريب".
,
, بمجرد أن تلفظ باسم طليقته، انفرجت شفتا "تميم" عن صدمة كبيرة، تخطت ما قد يخطر في باله مُطلقًا، وهتف مستنكرًا قوله، بقلبٍ توقف لحظيًا عن النبض، ونظراته تلتفت نحو طاووسه:
, -بتقول مين٣ نقطة؟!
 
٢٣

قبضة الغريب على ذراعها، بدت بالنسبة له، كجمرات متقدة، تحرق جلده بقساوةٍ، وأشد ألمًا من طعنه بغتةً في صدره، لم يتردد للحظة للدفع بنفسه أمام المخاطر المهلكة، في سبيل عدم إلحاق الضرر بها. تشوش تفكيره في صدمةٍ؛ وكأنه أصيب بعطبٍ ما، حتى استوعب عقله ما صاغه الضابط من اتهامٍ صريح من قِبل زوجته السابقة لها، التفت "تميم" تلقائيًا برأسه نحوها، ليحدق في وجهها المغطى بعلامات الذهول، ثم عاود التحديق في الضابط، ونفى التهمة عنها دون الحاجة لسماع أدنى مبرر منها، مصدقًا إياها بكامل جوارحه:
, -استحالة الأبلة تعمل كده! أكيد في غلط في الحكاية!
,
, نظر له الضابط شزرًا، قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
, -هو أنا جاي أهزر معاكو هنا؟ ده استدعاء رسمي يا حضرت.
, لم تخفت الحدة من نبرة "تميم"، وهو يجادله:
, -يا باشا، أنا عارفها كويس، الأبلة دايمًا في حالها، وعمرها ما أذيت حد٣ نقطة
, استمعت له "فيروزة" بصدمة، أأنكر حقًا النزاعات السابقة بينهما، وكأنهما على وفاق منذ اللقاء الأول؟ تدلى فكها السفلي في مزيدٍ من الدهشة، في حين تلعثم "تميم" نوعًا ما، وهو يتابع إعطائه تلك المعلومة المزعجة:
, -دي غير اللي بتتهمها تبقى .. بنت خالتي و٥ نقطة طليقتي.
,
, رمقه الضابط بنظرة طويلة مهتمة، ليضيف بعدها، وهو يفرك راحتيه معًا:
, -حلو أوي .. هنشوف الكلام ده في القسم، لكن دلوقتي لازم الأستاذة تتفضل معايا.
, لم يكن حديث الضابط بالمازح مطلقًا، نظراته وحركته أكدت على احتمالية جره لها بإهانةٍ، ما لم تتجاوب معه، أدار "تميم" رأسه نحو "فيروزة" التي نظرت إليه بملء عينيها، وقالت بصوتٍ لاهث مضطرب نافية التهمة مجددًا عنها:
, -أنا معملتش حاجة اقسم ب****.
,
, عمق نظراته في عينيها المرتاعتين؛ وكأنه لا يرى سواها حوله، ورد بقلبه قبل أن ينطق لسانه:
, -من غير ما تحلفي، أنا مصدقك.
, لم تشعر "فيروزة" مطلقًا بأنه يخدعها، أو يكرر تلك العبارات الروتينية المستهلكة التي توحي بالدعم الزائف، بل منحتها نظراته المتلهفة، والمليئة بشيء لم تفهمه بالضبط، إحساسًا مريحًا بالطمأنينة والصدق، هذا الشعور الذي نزع منها مؤخرًا، بينما هتفت "آمنة" مدافعة عنها:
, -بنتي بريئة، مظلومة يا حضرت الظابط، مراته هي اللي وقفت قصادنا على السلم وآ٣ نقطة
,
, قاطعها الضابط بلهجته الرسمية، ونظرته الحادة مسلطة عليها:
, -هناخد أقوالكم كلكم كده هناك٣ نقطة
, ثم أشــار بكفه موجهًا حديثه الصارم لـ "فيروزة":
, -بس الأستاذة لازم هتيجي معانا الأول، يالا، مش هنقضي الليل واقفين هنا!
, على الفور صــاح "تميم" وهو يفرد ذراعيه في الهواء، محافظًا على بقاء جسده، كحائل بشري، يمنع أي فرد من الاقتراب بها:
, -هي هتركب من غير ما حد يتعرضلها.
,
, بدا الضابط على وشك فقدان صبره من تلك المماطلات السخيفة، ومع هذا تقبل بصعوبةٍ محاولة "تميم" إقنــاع "فيروزة" بالامتثال للأوامر، والصعود لعربة الشرطة، ســار إلى جوارها، وكامل عيناه عليها، حتى أنها لم تبعد نظراتها عنه، بل بدت أكثر إصرارًا على التحديق به وهي تكرر على مسامعه:
, -أنا مجتش جمبها، والكل كان موجود وشاهد.
, رد بكلمة واحدة عنت لها الكثير:
, -عارف..
,
, ثم أشــار لها لتصعد بالسيارة، وتابع بصوته القلق:
, -اطمني، أنا وراكي بالعربية، مش هاسيبك لوحدك.
, هتفت بنبرته التي مالت للاختناق:
, -ماعملتلهاش حاجة.
, هز رأسه بإيماءات متعاقبة وهو يخبرها بتوترٍ خائف عليها، حاول أن يخفيه عنها:
, -أنا متأكد من غير ما أسمع.
,
, حاولت "آمنة" اختراق أفراد الأمن لتصعد إلى السيارة مع ابنتها، لكن أبعدها أحدهم، فواصلت صراخها الملتاع، وهي ترجوهم بشدة:
, -سيبو بنتي، هي مظلومة، و**** ما عملت حاجة.
, وضع "تميم" يده على كتفها ليلفت انتباهها إليه، وقال على عجلٍ مشيرًا بعينيه نحو سيارته:
, -تعالي معايا يا حاجة، احنا رايحين وراها بالعربية.
, ردت بامتنانٍ عظيم، وعيناها تبكيان بشدة:
, -**** يكرمك يا ابني ماتسيبناش لوحدنا، ده احنا غلابة وآ٣ نقطة
, قاطعها مرددًا بنبرة عازمة:
, -أنا معاها للآخر.
,
, ثم هــرول ركضًا نحو سيارته التي تسد الطريق على عربة الشرطة، استقلها، وانتظر للحظة حتى ركبت "آمنة" إلى جوارها، تتبع سيارة الشرطة، والهاتف على أذنه، بعد أن هاتف محامي العائلة، انتظر أن يأتيه رده على أحر من الجمر، ليهتف بمجرد سماعه لنبرته:
, -ألوو.. أيوه يا أستاذ، عايزك تيجلي على قسم (٣ نقطة) حالاً، هافهمك لما أشوفك هناك.
,
, وفي تلك الأثناء، أخرجت "فيروزة" هاتفها المحمول من جيبها، بمجرد أن استقرت في العربة، لتطلب بأنامل مرتعشة، رقمًا احتفظت به، ولا تحبذ حتى استخدامه عند الطوارئ؛ لكنها باتت مرغمة على اللجوء لصاحبه، لتعرف أبعاد الكارثة الجديدة التي تخوضها، ارتجف صوتها بوضوح، وهي تنطق بنبرتها التي ظهرت للطرف الآخر متوسلة:
, -أيوه يا "ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأطلب حضرتك، بس في مشكلة كبيرة حصلتلي، ومافيش غير سعادتك يقدر يقف جمبي.
,
, لم تكن عيناه على الطريق أبدًا، طوال سيره الملازم لعربة الشرطة، وهو يقود من خلفها، ارتكزت نظراته القلقة على مراقبة ما يحدث معها، آملاً ألا تتعرض لأي نوعٍ من المضايقات السخيفة من قبل أحدهم، أبعد حدقتيه عنهت مضطرًا، حين توقفت السيارة أمام القسم الشرطي، ففتش، بصبرٍ مفقود، عن بقعة خالية، ليصف سيارته عندها، وهذا ما أدى لتعطيله لدقائق تُعد على أصابع اليد الواحدة، مضت عليه كأنها سنوات، أما قلبه فكان في جزع يفتك به.
,
, ركض "تميم" في اتجاه المدخل الرئيسي، سابقًا بخطواته والدتها، انحرف نحو الرواق الضيق، حيث يتواجد مكتب الضابط النبطشي، كان أحد العساكر قد وضع في يدها الأصفاد المعدنية، وكأنها محكوم عليها، استشاطت نظراته لرؤيتها في وضع المدانة، وهي أبعد ما يكون عن ذلك، تصلب جسده، وبصعوبة بدت على ملامحه قاتل ما يعتريه من مشاعر غاضبة، ودنا من الضابط الذي ألقى القبض عليها وهو يعطي أوامره لآخر:
, -هنحطها في الحجز لحد ما يجي الباشا "محمود".
,
, مجرد تخيلها وسط تلك الحفنة من النساء الغليظات، والتي لن تسلم من تعليقاتهن المتهكمة، وربما بعد المناوشات المسيئة معها، أصابه بالغضب المحموم، اكتسبت نبرة "تميم" حدة أكبر وهو يعترض بشدة على قراره:
, -ماينفعش تنزل هناك.
, تحفز الضابط ضده، وهتف فيه بوجه عابس للغاية:
, -إنت هتعرفني شغلي ولا إيه؟!
, رد "تميم" معترضًا بأنفاسٍ حارقة، ونظراته الملتاعة تتجه نحو "فيروزة":
, -لأ يا باشا، بس دي بنت ناس، ومش وش بهدلة.
,
, علق عليه الضابط ساخرًا منه:
, -آها .. قولتلي بقى، وإنت المحامي بتاعها كمان وأنا معرفش؟!
, بذل أضعاف ما يستطيع من جهدٍ ليكبت غضبه الذي يأكله، ليظهر على السطح، وقال بصوتٍ خرج هادرًا رغم هذا، والشرر يتطاير من عينيه:
, -يا باشا آ٣ نقطة
,
, قاطعه الضابط بغلظةٍ، وتلك النظرة الساخطة موجهة إليه:
, -دي جريمة قتل، مش لا مؤاخذة خبطت عربية حد!
, نفى عنها التهمة بإصرارٍ تعجبت "فيروزة" منه:
, -وهي بريئة معملتش حاجة.
, لكزة الضابط بخشونة قاسية في صدره وهو يرد بأسلوبه الساخر:
, -الكلام ده مش إنت اللي تقوله يا فتوة.
,
, ثم التفت أمرًا أحد رجاله:
, -خدها يا ابني على التخشيبة، لحد ما يجي الباشا "محمود".
, فشل "تميم" في منعهم من اصطحابها للحجز النسائي، ومع هذا ردد متعهدًا لها بصوته العالي ليضمن وصوله إليها:
, -مش هاسيبك هناك، هاطلعك!
, تفاجأ حين ردت عليه، وهي تحاول النظر إليه، خلال سحبها لنهاية الردهة الطويلة:
, -معملتش حاجة، هي السبب و****، هي اللي قاصدة تعمل كده في نفسها.
,
, ضرب "تميم" الحائط بقبضته بقوةٍ، حتى أن صوت الضربة العنيف لفت الأنظار إليه، لم يعبأ بأي أحد، ووضع الهاتف على أذنه صارخًا في محاميه؛ منذرًا إياه بتهديد شرس:
, -ألوو.. إنت فين يا أستاذ؟ جاي من المريخ ولا إيه؟ تعالى أوام، وإلا الدنيا هتخرب هنا٣ علامة التعجب
, أتاه صوت الأخير لاهثًا:
, -حاضر يا معلم "تميم"، دقايق وهاكون عندك في القسم.
,
, -رد يا "خليل"، مافيش مرة أطلبك وألاقيك ترد عليا!
, قالت كلماتها في غمغمة خافتة بلوعةٍ حزت بشدة في قلبها، ودموعها المتحسرة تهبط بغزارة، سعت للاتصــال بشقيقها؛ لكن تعذر عليها الوصول إليه، لم يكن هاتفه بالمتاح، شعرت باختناق أنفاسها، بعجزها، وبقلة حيلتها. انزوت "آمنة" عند الحائط الرمادي كئيب اللون، تستند بجسدها المهتز عليه، شعرت بارتخاء ساقيها، لو لم تكن تلك الكتلة الأسمنتية موجودة، لربما تكورت على الأرضية الباردة، ندبت حظها التعس ووحدتها قائلة لنفسها:
, -لا إله إلا ****، طب أعمل إيه يا ربي؟ بنتي هاتروح مني؟ وأنا هافضل كده ساكتة..
,
, لم يكن أمامها سوى الاتصــال به، هكذا قالت لنفسها بصوتٍ مسموع، مبررة نكثها بوعدها لابنتها:
, -مقدميش إلا هو٣ نقطة مهما كان الدم عمره ما يبقى مياه.
, وجدت رقم هاتفه، وضغطت على زر الاتصــال به، انتظرت إجابته على مكالمتها لتهتف مستنجدة دون استهلالٍ:
, -أيوه يا حاج "اسماعيل".. أنا واقعة في عرضك.. الحقنا قبل ما بنتي تضيع مني.
, سألها بصوته الرخيم:
, -خير؟ حصل إيه؟
,
, أجابت بصوتٍ بالكاد بدا مفهومًا له، من بين دموعها الغريزة:
, -"فيروزة" خدوها على القسم، واقعة في مصيبة كبيرة، وأنا مش عارفة أعمل إيه.
, أمرها بلهجته الشديدة:
, -قوليلي فين العنوان، ومتتحركيش من عندك، وأنا مسافة الطريق هاكون عندك، ومعايا "فضل".
, هزت رأسها، كأنه واقفٌ أمامها، وردت بصدرٍ ينهج:
, -ماشي يا حاج، متتأخرش عليا **** يكرمك.
,
, دفعة قاسية من كتفها نحو ذلك المكان المعتم نسبيًا، إلا من مصباحٍ يتيم يتدلى بسلكٍ قصير، من سقفية الغرفة المطلية بلون رماديٍ داكن، تفسده بعض الخربشات والكتابات الخجلة. حاولت "فيروزة" أن توازن خطواتها فلا تنكفئ على وجهها، زكم أنفها تلك الرائحة العطنة المنفرة، وأصابت على الفور معدتها بالغثيان، فالجو خانق بصورةٍ لا تحتمل، لذا وضعت يدها عليه لتسد الرائحة، وحاولت التقدم للأمام. نظرة بطيئة، لن تنكر أنها خائفة أيضًا، منحتها للسجينات المحتشدات من حولها٣ نقطة،
,
, دارت ببطءٍ على أوجههن المختلفات في تعبيراتهن نحوها؛ رأت من تدخن السجائر، ومن تعبث بخصلات شعرها المصبوغ باللون الأصفر الفاقع، ومن تعلك في ثغرها علكة بصوت مزعج، ومن تضع أحمر الشفاه على فمها، بشكل سافر.
,
, توقفت عيناها عن الدوران، والتفتت لجانبها، حينما سألتها إحداهن بنبرة تهكمية:
, -الحلوة جاية في إيه؟ آداب ولا تعاطي؟!!
, بينما علقت أخرى بسخرية، وتلك الضحكة الرقيعة تسبق إجابتها:
, -شكلها آداب يا أوخة.
, مصمصت شفتيها مضيفة، ونظرتها نحوها تؤكد أنها كذلك:
, -باين كده.
,
, ثم دنت منها لتفحصها عن قربٍ، انكمشت "فيروزة" على نفسها، وتقززت من لمستها الوقحة التي أرادت بها اكتشاف مفاتنها، وصرخت بها:
, -ماتلمسنيش.
, دارت المرأة حولها، وحذرتها بنبرة ذات مغزى:
, -لأ بالراحة علينا يا مُزة، ده احنا لو اتكاترنا عليكي هنفرمك.
, تلك التحرشات اليدوية بجسدها، نشطت ذاكرتها بقوةٍ، بمشهد لم يكن بالبعيد عنها، انتفضت بقوةٍ، ودفعت تلك المرأة بعيدة عنها، بقوةٍ لا تعرف من أين انطلقت، صارخة بحدةٍ، حتى جرحت بها أحبالها من ارتفاعها الشديد:
, -سيبوني في حالي.
,
, لوحت لها إحدى السجينات بيدها، قبل أن تعقب:
, -نظام خدوهم بالصوت مايكلش هنا ٣ نقطة
, ثم أمرت النساء من حولها:
, -صوتي يا بت منك ليها
, ارتفع الصخب النسائي الساخر من حول "فيروزة"، وشكلوا دوائر تضيق عليها، فباتت تقريبًا محاصرة من قبلهن؛ لكن الصوت الرجولي الصـــارم، أوقفهن قبل أن يسيئن إليها:
, -ارجعي يا حُرمة ورا.
,
, امتثلن لأمره، وابتعد عن محيط "فيروزة" ليرمقن إياه بنظرات جمعت بين العدائية والبغض، خاصة أنه يحمل عصا مهددة بيده، مرر الضابط نظراته عن كل واحدة على حدا، وكأنه يدرس ملامحها، قبل أن ينادي:
, -"فيروزة أبو المكارم"!
, وكأن نجدة هبطت من السماء إليها، أجابته بلسان يلهج:
, -أيوه أنا.
,
, أمرها وقد اتجهت أنظاره نحوها:
, -تعالي معايا، البيه الظابط عايزك.
, ابتسمت لخروجها من ذلك المكان الحقير، والذي بدا أشبه بمعجزةٍ تقرأ عنها؛ ولكن صوتًا أنثويًا متهكمًا جاء من ورائها يحقد عليها:
, -إنت لحقتي؟ حتى في البُورش بقى فيها كوسة!
,
, تم الاستعانة بعلاقاته الوثيقة بالمسئولين رفيعي المستوى، لتحسين أسلوب التعامل معها، ريثما يتم البت في قضيتها المعلقة، اصطحبها أحد أفراد الأمن، إلى غرفة أشبه بمكتبٍ لعقد الاجتماعات المحدودة، ولجت "فيروزة" للداخل، وألقت نظرة سريعة خاطفة عليه، كان المكان مفروشًا بالأرائك الجلدية العريضة، فيما عدا اثنتين متجاورتين، ومنضدة صغيرة خشبية تتوسطهم، وطلائه فاتح، غير ذلك القابض على الأنفس، استدارت كليًا للخلف حين سمعت صوته المألوف يسألها في اهتمام بائن في نظراته إليها:
, -هنا أحسن مظبوط؟
,
, تحرجت "فيروزة" من وجود "تميم" خلفها، ومع هذا شعرت بالارتياح لتواجده معها، الحق يُقال أنه بات مصدر أمنها المؤقت، باندفاعه غير المشروط لزود أي مخاطر عنها، تراجعت للخلف لتفسح له المجال، تاركة مسافة بينهما، كتفت ساعديها أمام صدرها، وباعدت نظراتها عنه، محاولة التحديق في أي شيء، إلا وجهه، أجبرت شفتاها على الابتسام، فظهرت ابتسامتها منقوصة وهي تشكره:
, -أيوه.. كتر خيرك.
,
, ولكونه يعلم طبيعة النساء المحتجزات بالقسم الشرطي، فانتابه هاجس مزعج، من احتمالية تعرضها لبعض المضايقات، أو التحرشات المنفرة من هؤلاء النسوة، لم يترك نفسه لحيرته، وسألها مباشرة، وعيناها تدرسان تفاصيلها الواجمة:
, -قوليلي حد عملك حاجة من الواغش اللي في الحجز؟
, قالت بنوعٍ من السخرية، وتلك الابتسامة المزدرية تتدلى على زاوية شفتيها:
, -لأ ملحقوش.
,
, منع سبة مزعوجة من الإفلات من فمه، وسحب الهواء بعمقٍ ليثبط به تلك الحمم التي تحرقه من الداخل، ثم لفظ الهواء المحمل بغضبه، وقال بوجه مقلوب:
, -بصي إنتي هاتفضلي هنا، محدش هيضايقك نهائي!
, كانت ممتنة لكل ما يفعله لأجلها دون أن يضطر حقًا لهذا، وذاك ما أصابها بالتخبط، فالماضي بينهما لم يكن بالجيد، ليدين لها بشيء، انتشلها من دوامة شرودها السريع موضحًا لها طبيعة ما يتم من إجراءات رسمية:
, -دلوقتي المحامي بيطلع على تفاصيل المحضر، وهنفهم بالظبط في ايه.
,
, نفت على الفور تلك التهمة المجحفة عنها، فلا يسيء الظن بها:
, -أنا مقربتش منها.
, ودون أن يضيع لحظة في التفكير، أخبرها بإحساس لا يعرف الزيف، وعيناه تبحران في تأمل حدقتيها التعيستين:
, -و**** مصدقك.
, سألته بلمسة قهر محسوسة في نبرتها؛ وكأنها تستكثر على نفسها قيامه بذلك:
, -بالبساطة دي؟
,
, تراءى له بوضوحٍ معاناتها في اكتساب ثقة الآخرين، وقال دون تشكيك:
, -أيوه، أنا مصدقك.
, فقط حدقت في عينيه المتطلعتين إليها بثبات، وكأنها تتبين مدى صدقه، فاسترسل متسائلاً بأريحية طفيفة:
, -ليه مش مقتنعة بكلامي؟
, أجابته مبررة ترددها:
, -أصلها غريبة إنك تكون معايا بدل ما تكون في صف مراتك! وخصوصًا بعد ما٣ نقطة
, صمتت للحظة لتضيف بأسفٍ لم تخفه:
, -خسرت طفلك اللي في بطنها.
,
, ودّ "تميم" لو تحسست قلبه النابض في تلك اللحظة، لتشعر بما يضمره لها من مشاعر لم تكذب يومًا، مع اكتشافه المثير لرهافة مشاعرها الرقيقة، والمخبأة خلف قناع القوة الذي على ما يبدو لم تخلعه كثيرًا، لم يحد بنظراته عنها، وأجابها بهدوء:
, -ده نصيب.. ومقدر ومكتوب٣ نقطة
,
, ثم عمق من نظراته نحوها، مشددًا بابتسامة راضية، رغب أن يبدد بها التعبير الحزين المحتل لصفحة وجهها:
, -بس لازم تعرفي إنها معدتش مراتي، هي بنت خالتي وبس.
, حملقت فيه بحيرة، بدا ما قاله تصريح عنه توضيح، لكن تشتت نظراتها عنه وصوت الفردي الأمني يقتحم حديثهما:
, -تعالى يا حضرت بدل ما تعملنا مشكلة.
,
, أشــار له "تميم" بيديه قائلاً على مضضٍ:
, -طيب يا دُفعة.
, عــاد ليتطلع إلى وجه "فيروزة" ممعنًا النظر فيها، مستغلاً فرصة لن تعوض في التواجد بقربها، قبل أن يخبرها، بنبرة أقرب لقطع وعدٍ نافذ، لا يمكن المناص منه أبدًا:
, -أنا راجعلك تاني.
,
, انتشر الدواء المخدر في خلايا جسدها، ليُسكن تلك الأوجــاع التي تصرخ في عظامها من آن لآخر، لتذكرها بما اقترفته، من أجل التخلص ممن اعتبرتها عدوتها، ورغم شراسة ما فعلته، لم تندم "خلود" للحظةٍ، على إقدامها على تنفيذ تلك الخطة الشنيعة، ففي كل الأحوال، خسارة جنينها كانت أكيدة؛ لكن تحويلها لملحمة درامي،ة تظهر فيها الضحية المضطهدة، والمجني عليها، أفضل بكثيرٍ، على أن تكون المُطلقة التعسة، ناهيك عن خلق تلك الفرصة الذهبية للمساومة مع حبيبها، واستعادته بالتأكيد، بعد لقاء والدتها المثمر بـ "محرز".
,
, أسند "هيثم" كيسًا بلاستيكيًا مليئًا بالعصائر الطبيعية، على المنضدة الملاصقة لنافذة المشفى، وتحدث إلى والدته متسائلاً في اهتمامٍ:
, -"خلود" عاملة إيه دلوقتي يامه؟
, ردت بتهكمٍ صدمه:
, -هاتقول تتحزم وترقص دلوقتي.
, انفرجت شفتاه في ذهول، بينما تابعت قولها بأسلوبها الناقم:
, -إنت مش شايفها مدشدشة قصاد عينك.
,
, علق "هيثم" بامتعاضٍ:
, -خلاص يامه، أنا غلطان إني سألت.
, رمقته بتلك النظرة الحقود قبل أن تأمره:
, -بأقولك إيه، استنى ماتمشيش، عاوزاك.
, لوى ثغره متسائلاً، وهو يضم كفيه معًا:
, -خير يامه
, أشارت له بعينيها ليجلس إلى جوارها، وهي تتابع بنبرة لانت تقريبًا معه:
, -كل خير يا حبيبي.
,
, رمقها بتلك النظرة المتشككة وهو يقول:
, -مش مستريحلك يامه، حاسس إن في حوار.
, تصنعت العبوس، وهي تنظر له بانكسارٍ مفتعل، قبل أن تغمغم بنوعٍ من المراوغة:
, -حوار إيه بس؟ ده كل اللي بنعمله عشان مصلحة أختك الراقدة دي.
,
, اعترض عليها مصححًا:
, -هي اللي عملت كده في نفسها، محدش قالها احدفي نفسك من على السلم، وموتي اللي في بطنك
, قالت في حزنٍ:
, -كانت ساعة طيش من الشيطان.
, سألها بنظرة ثاقبة:
, -والمطلوب مني إيه؟
, ابتسامة ماكرة ممزوجة باللؤم تكونت على شفتيها، وهي تجيبه:
, -كل خير يا ضنايا.
, ما زال متشككًا من أسلوبها المتلوي غير المريح، نفخ في ضيقٍ، وسألها:
, -قصدك إيه؟ قوليلي على اللي في دماغك يامه على طول.
,
, مالت عليه لتخبره بصوتٍ هامس بتحرير محضرٍ، ضد شقيقة زوجته، تتهمها فيه، بمحاولة قتل الأخيرة، خلال الشجار الذي نشب بينهما على الدرج، وطلبت منه -دون حياءٍ- إنكار الحقيقة كليًا، والشهادة في صالح أخته لمساعدتها في تقوية موقفها. حدق فيها بعينين متسعتين في عدم تصديق، وسألها بصوتٍ بدا غاضبًا:
, -عاوزاني أشهد زور يامه؟
,
, أجابته مبتسمة؛ وكأنها تجمل الأمر له:
, -مش زور يا واد، دي كلمتين كده لا راحوا ولا جوم٣ نقطة
, ثم لجأت إلى أسلوب الاستجداء، وتسولت عواطفه بنحيبٍ مكشوف:
, -وبعدين أختك غلبانة، وحالها يصعب على الكافر، يرضيك اللي هي فيه؟
, استنكر ما تطلبه منه، وأصر على رفضه بعنادٍ:
, -لأ مش هاعمل كده، وده اختيارها، وأنا مش هاقول غير الحق..
,
, اختفت ملامح اللين من وجهها، واِربد بالغضب وهي تعنفه:
, -إنت جاي تتوب دلوقتي يا عين أمك؟ ده إنت مكونتش بتعمل إلا الحرام طول حياتك!
, ورغم لسانها السليط إلا أنه قال مبتسمًا ليستفزها، وهو يقبل ظهر كفه وباطنه بفمه:
, -والحمدلله يامه **** هداني، جاية تبوظي ده تاني، بدل ما تدعيلي بالثبات؟
,
, قالت بوقاحةٍ، ونظراتها الحانقة مسلطة عليه:
, -لأ، أنا هادعي عليك طالما بتعصاني، ومش عايز تسمع كلامي.
, ردد مذهولاً:
, -إيه اللي أنا باسمعه ده، في أم كده؟
, عقبت عليه "بثينة" ببرودٍ مستفز:
, -أه ياخويا، وبعدين يرضي مين ما تدافعش عن أختك؟
, أجابها بصدقٍ:
, -عشان خايف من ****.
,
, ردت باستهجانٍ وقح:
, -وهو أنا قولتلك اكفر لا سمح ****؟ دي كدبة بسيطة، لا راحت ولا جت.
, هز رأسه في استياء شديد، وتعابيره تنطق بلسان حاله:
, -حقيقي يامه مش عارف أقولك إيه.
, وضعت يدها على كتفه تستحثه على الرضوخ لها:
, -وافق يا "هيثم" عشان أرضى عنك، ويتفتحلك أبواب الخير.
,
, قال في سخرية:
, -ده كده هتتقفل في وشي بالضبة والمفتاح.
, لكزته بغلظةٍ، وصاحت فيه بتشنجٍ، وقد فاض بها الكيل من رفضه العنيد:
, -قوم ياض غور من هنا، قلبي مش راضي عنك، واعرف إن كل مصيبة هتجرالك، بسبب إني مش مسمحاك.
, نهض من جوارها، وأضــاف وهو يضرب كفه بالآخر:
, -لا إله إلا ****! هو في كده؟
,
, بصقت في وجهه، كتعبيرٍ عن ازدرائها المستحقر له؛ لكنه رد بنوعٍ من الممازحة:
, -ده لو الشيطان كان واقف مكاني هنا، وسامعك وإنتي بتوسوسيله، كان اعتزل الشغلانة من زمان، وسبهالك.
, مدت "بثينة" يدها لتمسك بالكوب البلاستيكي المليء بالماء، قذفته به في وجهه، فأغرقه، وتناثر على كامل ثيابه، قبل أن تطرده من الغرفة بغضبٍ أكبر استبد بها:
, -امشي من هنا!
,
, غمغم في تهكمٍ، وهو يمسح الماء عن وجهه:
, -يعني بأطرد من الجنة؟ أنا طالع من غير قلة قيمة.
, نعتته بسبابٍ من خلفه؛ لكنه لم يستدر أو يهتم بغيظها المتزايد فيها، ومع هذا لم يعلم أن المسألة قد اتخذت بالفعل مسارها الخطير.
,
, عاد إليها بعد برهة، محملاً بأكياس الطعام الشهي، رغم فقدانها للشهية؛ لكنه أصر –وبشدة- على حثها على تناوله، وإن كان قدرًا بسيطًا، ليمكنها من استعادة طاقتها المفقودة، اعترضتٍ بلطفٍ، واكتفت بالغوص في الأريكة الجلدية، متنهدة بتنهيدات طويلة، راقبها "تميم" باهتمامٍ، وقال بلهجة حازمة:
, -مش هاينفع يا أبلة، لازم تاكلي..
, ثم قرب الأطباق الشهية منها، بعد أن أفرغ ما تحتويه الأكياس، على الطاولة المنخفضة الفاصلة بينهما، وأضاف بنوعٍ من المداعبة:
, -ده حتى يعتبر عيش وملح بينا.
, قالت في سخريةٍ:
, -المفروض عيش وحلاوة.
,
, أكد لها بعينين لم تطرفا:
, -إنتي مش هتطولي هنا.
, لم تخفت ابتسامة "تميم" معها، كان يبتسم بتلقائية، رغم عدم إدراكه لهذا، تطلعت إليه في استغرابٍ، وسألته:
, -للدرجادي إنت مصدقني؟ وواثق إني مش هاتسجن؟
, كان أول حوار هادئ بينهما، رغم تأزم الموقف، وبمزيد من الجدية جاوبها:
, -أيوه .. مع إنك كدبتي عليا في حاجة.
,
, ضاقت عينيها في استرابةٍ، فأوضح لها سريعًا، حتى لا تدور في رأسها الهواجس:
, -الحريقة.
, أرجعت "فيروزة" ظهرها للخلف، وقالت وهي ترفع رأسها للأعلى بتعبٍ:
, -إنت لسه فاكر، ده موضوع واتقفل.
, بقيت عيناه مثبتة عليها، وقال بوجهٍ شبه متقلصٍ:
, -عمومًا مش وقته، مدي إيدك وكلي..
,
, نظرت إليه مليًا، دون خجلٍ، وكأنها تحلل طبيعة شخصيته، كان لطيفًا للحد الذي أشعرها بالغرابة والخوف معًا؛ الغرابة من عدم اعتيادها على تصديقه لما قالته هكذا دون تعقيد، وبلا دليلٍ قاطع على عدم زيف ادعائها، والخوف من انسياقها -غير المتردد- وراء مشاعرها الغامضة التي تستحثها –وبقوة- على الوثوق به.
,
, وعلى الرغم من المواقف الخشنة، والمليئة بالمشاحنات التي جمعت بينهما فيما مضى؛ من صفعةٍ حرجة أمام العامة، من إهانة وقحة في منزلها خلال خطبة توأمتها، من صدام بالكلمات في المطعم، إلا أنه كان وديعًا معها، على نحوٍ غير مألوف، وكأنهما على وفــاق دائم، ولم يحدث بينهما أي صدام في يوم من الأيام؛ وهذا ما وترها نسبيًا!
, "تميم"؛ الوحيد الذي لم يشكك في قولها أبدًا، صدقها منذ الوهلة الأولى لاتهامها، ودون الحاجة لبرهان بيّن، مقارنة واقعية سريعة انعقدت في رأسها، بين أقاربها، وبينه؛ وكانت النتيجة في صالحه، الغريب عنها بدا أحن بكثيرٍ عمن تربطهم بها صلة الدم..
,
, انتعش عقلها بذكريات غير سارة؛ خذلان والدتها، عنف خالها، إهانات زوجته الحقودة، قساوة عمها، ووحشية ابن عمها، فاستنزفت روحها بالتدريج، وظل الوحيد الذي طعنته علنًا، وانتقصت من رجولته أمام العامة، هو الدرع الواقي لها بعد فراق والدها المؤلم، برحيله شعرت بخواء الحياة، وتناقص متعتها، حتى بدا الشقاء ملازمًا لها.
,
, ورغما عنها تسلل إلى عقلها المتكدر ذكرى أخرى تخشاها، سرحت فيها بكامل حواسها؛ جسد "غريب" المشتعل، تجسد المشهد من جديد أمامها؛ وكأنه يُعرض في شاشة سينمائية ضخمة، تحتل الفراغ بأكمله أمامها، حملقت بعينين غائرتين، تدوران في دوائر من التيه والتخبط، ومتسائلة بقلبٍ متألم، ينزف في صمت،
, لماذا لم تفنَ روحها في الحريق؟
,
, لو حدث حقًا هذا، لكانت أراحت الجميع من همها، واستراحت من الأعباء القاسية التي مزقتها، في معترك الحياة، تزايد إحساسها باليأس، وامتزج مع إحباطها الشديد، وبدأ ينعكس ذلك ظاهريًا عليها، حيث أحست بالهواء ينسحب من رئتيها، يصعب استعادته، بأن صدرها قد بات ثقيلاً، وقلبها يصرخ في ألم، أدركت "فيروزة" في تلك اللحظة، أنها أصبحت على وشك الدخول في إحدى نوباتها المهلكة، وتلك المرة أرادت بشدة أن يكون الموت رحيمًا بها، وتتمكن من التخلص من حياتها خلال معاناتها٣ نقطة!
 
٢٤

حول مائدة مستديرة، اجتمعت القيادات الأمنية، برتبها المختلفة، لمناقشة تطورات قضايا التهريب، وما يحدث خلالها من تجاوزات تضر المجتمع والمواطنين. رن هاتف "وجدي"، فأوصده على الفور معتذرًا عن ضجيجه الذي أزعج الحاضرين، وضعه على وضعية الصامت، وحرص على تدوين الملحوظات الهامة، من قبل رؤسائه المخضرمين، للاستعانة بها في تحرياته الدقيقة، خاصة بعد انتقاله لمكتب مكافحة المخدرات، وما يتطلبه ذلك من يقظة وفطنة شديدة، لاكتشاف أساليب المهربين الملتوية، لإدخال تلك المواد المخدرة، عبر حدود البلاد، أو الموانئ المختلفة.
,
, انفض الاجتماع، وخرج منه ليجد عدة مكالمات فائتة من صديقه "ماهر"، أيقن وجود خطب ما، فهاتفه على الفور، ليأتيه صوته الجاد متسائلاً:
, -إنت فين يا باشا؟
, أوضح له بتريثٍ، ونبرته يشوبها زفير مرهق:
, -كان عندي اجتماع مهم مع سيادة اللواء والقيادات في مديرية الأمن.
, علق في تفهمٍ:
, -عشان كده مردتش عليا.
,
, قال مقتضبًا:
, -أيوه ..
, سأله "ماهر" كتمهيدٍ في الحديث:
, -والدنيا تمام معاك؟!
, منحه ردًا حياديًا حين أجاب:
, -يعني أهوو.. بس إنت عارف شغل المكافحة، لازم تحريات دقيقة عن أي بلاغ يجيلنا، واحنا اليومين دول شغالين على حاجات من دي.
, تنحنح وهو يكمل بنبرة شبه حرجة:
, -**** يعينك، معلش يا باشا هاطلب منك خدمة على السريع، إنت عارف أنا في أجازة، ومش هاينفع أنزل دلوقتي وآ٣ نقطة
, قاطعه معترضًا على خجله منه:
, -أؤمر يا "ماهر" .. ومن غير ما تبرر يا باشا.
,
, شكره مجاملاً:
, -تسلملي يا غالي،..
, ثم دخل في صلب الموضوع متسائلاً:
, -فاكر البنت اللي جيت أتوسطلها قبل كده في القسم عندك، وقت ما كنت شغال هناك؟
, فرك جبينه؛ وكأنه ينشط بذلك ذاكرته، قبل أن يرد:
, -مش واخد بالي أوي.
, أعطاه إضافة أخرى ليتذكرها بقوله:
, -صاحبة "علا"، كان اسمها "فيروزة".
,
, على الفور تذكر مشاجرتها المميزة، خلال خدمته في ذلك القسم، وقال ببسمة جانبية صغيرة:
, -افتكرتها، مش دي بتاعة خناقة عربية الأكل؟ اللي كانت على الكورنيش؟
, أكد عليه صحة جوابه قائلاً:
, -أيوه هي دي.
, سأله "وجدي" في سخرية:
, -مالها؟ اتخانقت مع مين تاني؟
, أجابه بحيرةٍ لم يخفها عنه:
, -هي مش خناقة، حاجة تانية أهم، بس معنديش تفاصيل أوي عنها.
,
, أومـأ رفيقه برأسه، وقال:
, -خلاص، أنا هاطلع على القسم دلوقتي، أنا عارف "محمود" بيه، هتواصل معاه، وأعرفلك الليلة فيها إيه، وأكلمك بعدها.
, هتف في امتنانٍ أكبر:
, -حبيبي، مش هنسالك الخدمة دي.
, ابتسم معقبًا عليه:
, -احنا في الخدمة معاليك، النهاردة عندي، بكرة عندك، وكده
, ضحك "ماهر" معلقًا على كلماته الأخير:
, -بالظبط يا باشا، يالا مش هاعطلك بقى، وهستنى مكالمتك
, -بإذن **** .. سلام.
, قالها "وجدي" وهو يختم اتصاله معه، قبل أن يبحث في هاتفه عن رقم الضابط "محمود"، ليطلبه وهو يتابع سيره خارج المبني الأمني، حيث تتواجد سيارته.
,
, الجلوس معها –بمفردهما- كان يُعد حلمًا مستبعدًا، غير قابل للتحقيق، على أرض الواقع مُطلقًا، خاصة بعد معرفته بمسألة خطبتها بذاك البغيض، الذي فهمه بمجرد التطلع إليه؛ ولكن لقائه بها حدث، وإن كانت الظروف غير مناسبة، فماذا عن مشاركتها لقيمات معدودة من الطعام؟ شعور لا يوصف بالسعادة العارمة تخلل تحت جلده، تسبب له في تأثيرات حسية ظاهرية عليه، جعلته في حالة من الانتشاء والطرب٣ نقطة،
,
, حتى دقات قلبه خفقت بقوةٍ، من حماسه المتلهف، كقرعٍ عنيف على طبول أفريقية في احتفال قبائلي عظيم، وياله من إحساسٍ رهيب يخوضه الآن! لم يعشه من قبل أبدًا، ورغب بشدة ألا ينتهي شعوره به. اختلس "تميم" النظرات الحذرة نحوها، كان مفتونًا بابتسامتها الهادئة، وإن كان يشوبها الحزن، ورغم هذا كانت تمنحها جمالاً ناعمًا غير متكلف، وحين لجأت "فيروزة" للصمت، تولى زمام الحوار عنها، وأخبرها بهدوءٍ، ليواصل سلاسة حديثهما:
, -متقلقيش على الحاجة والدتك، أنا وصلتها البيت٣ نقطة
,
, تنحنح بخفوتٍ، وتابع بحرجٍ طفيف:
, -يعني ما يصحش ست محترمة زيها تفضل هنا، وتتبهدل من الأعدة في المكان ده، فاطمني عليها..
, كان حذرًا في اختيار كلماته، حتى لا يتسبب في إزعاجها، بدا مترددًا بعض الشيء وهو يكمل:
, -وأنا وعدتها هفضل معاكي..
, رفع عينيه نحوها ليراقب ردة فعلها، كانت محدقة به بغرابةٍ، فأبعد نظراته معتقدًا أنها أساءت فهمه، وبادر بالتوضيح بلجلجة خفيفة:
, -قصدي يعني إني موجود لحد ما تطلعي من هنا، كل حاجة هتتحل .. مش عايزك تشيلي هم يا أبلة.
,
, لم يجرؤ على النظر إليها، خشية أن يرى علامات الضيق في عينيها، بعد أن كانت مليئة بشيء مختلف، ظل مطرقًا لرأسه وهو يختم حديثه معها في ذلك الموضوع الشائك:
, -هو الغلط من عندنا احنا .. وبنت خالتي مكانش ينفع تعمل كده..
, بلع ريقه، واعتذر موجزًا:
, -فحقك عليا.
, انتظر أن يأتيه الرد منها، ولو كان على سبيل المجاملة؛ لكنها بقيت صامتة، رفع رأسه نحوها، وتطلع إليها بنظراتٍ حذرة، لم تكن تنظر ناحيته، بل كانت محدقة أمامها في الفراغ، وذلك الوجوم المريب يغطي وجهها، ناداها باهتمامٍ قلق:
, -يا أبلة!
,
, لم تعقب عليه، وبقيت جامدة في مكانها، لم تهتز لها عضلة، أو يتحرك لديها طرف من أطرافها، تحفز في جلسته، وضاقت عيناه بشكٍ، ثم سألها بتوجسٍ ظاهر في صوته:
, -مالك؟ إنتي كويسة؟ في حاجة تعباكي؟
,
, نهض من مكانه ليتأملها عن كثب، وكانت المفاجأة التي انخلع فيها قلبه؛ رؤيتها على نفس الحالة االمرضية التي عايشتها من قبل، مع فارق تأثيرها الأقوى، أزاح بيديه الطاولة التي تعوقه عن الوصول إليها، ثم وضع ركبته على الأريكة بجوارها، ليلقي بثقل جسده عليها، انحنى نحوها يربت على وجنتها برفقٍ، وهو يناديها بلهفةٍ ملتاعة:
, -"فيروزة"، ردي عليا.
,
, لم تتجاوب مع ضرباته الخفيفة، بل تراخى جسدها كليًا، وباتت في حالة من اللا وعي، تضاعف خوفه، وتراجع عنها مخفضًا ركبته، ليساعدها على التمدد على الأريكة، كان قريبًا من وجهها، ناداها بأنفاس مضطربة:
, -"فيروزة"، سمعاني؟
,
, خفق قلبه بقوة، حين استجابت لحظيا لندائه، والتفتت ناظرة إليه. منحته نظرة حزينة سريعة، عكست مدى الألم الذي تعانيه، وتخفيه عمن حولها، قبل أن تطبق على جفنيها، وابتسامة باهتة ظهرت على شفتيها، لتختفي مع هروب عقلها المؤقت عما يؤذيه. تركها في مكانه، واستدار مهرولاً نحو باب الغرفة طالبًا للنجدة، صاح بنبرة أقرب للصراخ المفزوع:
, -يا جدعــان حد يلحقنا.
,
, ولج إلى الغرفة على إثر صوته بعض أفراد الأمن، وكان على رأسهم أحد الضباط، فتساءل في جديةٍ، وهو يدنو منها ليتفقدها:
, -حصلها إيه؟
, أجابه بقلقٍ، وقد تضرج وجهه بحمرته المنفعلة:
, -دي نوبة بتجيلها كل شوية
, سأله الضابط بسذاجةٍ:
, -صرع يعني؟
, نفى ذلك كليًا، موضحًا له، بناءً على تصريح توأمتها السابق:
, -لأ، حاجة نفسية.
, هز رأسه في عدم اقتناعٍ، وهو يرد:
, -طيب .. هاشوف.
,
, رمقها الضابط بنظرة أخرى مدققة، وقد بدا مستخفًا بحديثه عن مرضها، انتظر "تميم" أن يتخذ ذلك الضابط الخطوة الملائمة للتعامل مع حالتها، لكنه لم يكن مهتمًا بالقدر الكافي، لذا هتف قائلاً بحدة ملموسة:
, شكلها مايطمنش، أنا هطلبلها الإسعاف وآ٣ نقطة
, قاطعه الضابط بلهجة رسمية:
, -هي مش سايبة عشان تعمل كده من نفسك، ما جايز تمثيلية منها وآ٤ نقطة
,
, رد عليه مقاطعًا بصوتٍ شبه قاتم، ونظراته الحانقة مسلطة عليه:
, -خلاص هاتلها دكتور يا باشا يشوفها، بدل ما ناخد وندي، وهي قصادنا كده مفرفرة.
, علق بسماجة باردة، تناقض طبيعة الموقف:
, -لازم الظابط يشوفها الأول، ويقرر.
, احتج بعصبية بائنة في نبرته، ونظراته، وأيضًا حركة جسده:
, -وأنا قولت إيه غير كده؟ هات حتى المأمور، بس نتصرف!
,
, علق الضابط ساخرًا منه:
, -إنت واخد بالك أوي منها، تكونش متجوزها؟
, رد بحنقٍ، وعروقه تنتفض بغضبه المكبوت:
, -لأ..
, بدا صوته كالهسيس وهو يحادث نفسه:
, -بس يا ريتني كنت متجوزها، على الأقل مكونتش سمحت لحد يتعرضلها ولا حتى دخلتها مكان زي ده!
, سأله الضابط السخيف بفضولٍ:
, -إنت بتكلم نفسك؟
, رد بوقاحةٍ:
, -ليه شايفني مجنون؟
,
, زجره بخشونةٍ:
, -اتكلم عِدل، ماتنساش نفسك، إنت هنا في قسم!
, تدخل "وجدي" مقاطعًا الاثنين بجديةٍ بحتة، ويتبعه شخص آخر، تبدو هيئته رسمية:
, -في إيه بيحصل هنا؟
, أجاب "تميم" موضحًا على الفور:
, -يا حضرت الظابط الأبلة تعبانة جدًا.
, مد الضابط الأول المتواجد بالغرفة مصافحًا زميله، وقاصدًا تجاهل ما أفصح عنه "تميم"، ليشعره بعدم أهميته:
, -"محمود" بيه، نورت معاليك.
, ثم انتقل للترحيب بزميله السابق، بمصافحة حارة أيضًا:
, -أهلاً "وجدي" بيه..
,
, تساءل "محمود" في اهتمامٍ، وهو يتجول بنظراته على جسد "فيروزة" المسجي أمام الجميع على الأريكة:
, -هي دي قريبة "ماهر" بيه اللي مكلمك عشانها؟
, تلك النظرات العادية، أو حتى غير المهتمة، من بعضهم على جسدها، كانت بمثابة السهام القاتلة التي تخترق صدره، وتفتك بأعصابه، لم يكن راضيًا أبدًا عما يحدث، احترقت أحشائه وتقطعت وهم يمررون عليها أنظارهم الفضولية، وعلى قدر المستطاع حاول حجبها عنهم بجسده، يتحرك مع اتجاه أي وجه ينظر إليها ليمنعه من النظر إليها، وليحافظ على خصوصيتها، انتبه إلى صوت "وجدي" المتسائل:
, -حصلها إيه؟
,
, أجابه محذرًا بأعصابٍ شبه تالفة من حنقه الشديد:
, -مش عارف، بس لو فضلت كده هيجرالها حاجة.
, التفت "وجدي" للضابط الأقل رتبة، وقال بلهجةٍ آمرة:
, -بعد إذنك يا "محمود" بيه، هتخلي حد من رجالتك يطلب الإسعاف.
, رد عليه بإيماءة من رأسه:
, -تمام يا "وجدي" بيه، وفي قوة أمنية هتروح معاها المستشفى٣ نقطة
,
, ضاقت عينا "تميم" بحدةٍ، لكن الضابط تابع كلامه موضحًا:
, -بحيث لما تفوق ناخد أقوالها هناك..
, ثم تركزت نظراته على "تميم" وهو يكمل باقي حديثه:
, -وبالمرة نتكلم مع الضحية، ونعرف بالظبط تفاصيل الواقعة.
, نظرات الاتهام كانت ظاهرة في عيني الضابط "محمود"، وقوبلت بزفيرٍ ثقيل من "تميم" الذي كان يكز على أسنانه، مانعًا نفسه من التصرف برعونة، فقط من أجل الوصول إلى الحقيقة، وإثبات براءتها.
,
, أصر على نقلها لأكثر المستشفيات حرصًا على تقديم الرعاية الطبية القصوى لمرضاها، ولا يدري إن كان ذلك لحسن حظه أم لسوءه، فقد تواجدت في نفس المشفى مع طليقته السابقة؛ ولكن كان الفارق في مكوث "فيروزة" بالطابق الخاص بالشخصيات الهامة، على عكس "خلود" التي مكثت بغرفة أقل تكلفة، وانتظر بترقبٍ خروج الطبيب المكلف بفحص حالتها لطمأنته عليها، جالت نظراته على القوة الأمنية المتواجدة أمام باب غرفتها، وبدا هذا مزعجًا له بحدٍ كبير، فلم يثبت بعد إدانتها، لتعامل بتلك الطريقة؛ لكن نصيحه محاميه الخاص، بعدم الاحتكاك بهم، حتى لا يتعقد الموقف، والانتظار ريثما تنتهي التحريات والإجراءات القانونية المتبعة في مثل تلك الظروف.
,
, مضى ما يزيد عن النصف ساعة، وهو ما زال واقفًا بالخارج، تحركت عيناه مع الطبيب الذي خرج لتوه من الداخل، أقبل عليه دون تأخير، وعيناه تحاولان التطلع إلى "فيروزة" من تلك الفرجة الصغيرة في موضع الباب، ليتمكن من رؤية ما يحدث لها، ثم سأله في اهتمامٍ واضح:
, -عاملة إيه دلوقتي؟
, أجابه بهدوء، ونظراتٍ ثابتة:
, -حالتها مستقرة حاليًا.
,
, سأله بترددٍ، وهو يشرأب بعنقه للأعلى ليلمحها بعد أن حجبت الممرضة -المتواجدة أمام فراشها- الرؤية عنه:
, -طب يعني أقدر أشوفها؟
, جاوبه بالنفي القاطع:
, -لأ..
, انخفضت عينا "تميم" على وجه الطبيب، فاستأنف موضحًا أسبابه:
, -هي هتفضل نايمة بسبب المهدئات اللي واخدها، وده أحسن لها الفترة دي.
, هز رأسه قائلاً بضيقٍ انتشر على تعابيره الواجمة:
, -طيب يا دكتور، طالما فيه الفايدة لديها.
,
, التفت الطبيب برأسه نحو المحقق الشرطي الذي سأله:
, -ها يا دكتور، ينفع نتكلم مع الأستاذة ولا ..؟
, تنحنح موضحًا من جديد:
, -لا يا فندم، هتضطر تنتظر شوية، المريضة مش في وعيها، ونايمة تحت تأثير المهدئ.
, حك الضابط "محمود" ذقنه؛ وكأنه يفكر في حديثه، لم يكن راضيًا عن رد الطبيب، ونظراته لم تفارق وجه "تميم" أيضًا، بينما طالعه الأخير بنظراتٍ متشفية؛ لكن الأول عاد ليقول بسماجةٍ رسمية:
, -عمومًا هنروح نشوف المجني عليها، وناخد أقوالها، بيتهيألي هاتكون فاقت.
,
, وارتسمت على قسماته ابتسامة باردة مستفزة، متوقعًا أن يعارضه زوجها الأسبق؛ لكنه خالف توقعاته، وقال مرحبًا:
, -يا ريت، وكمان تاخد أقوال الشهود كلهم اللي كانوا موجودين.
, انزعج الضابط من مناطحته الرأس بالرأس، وعنفه بلهجة قوية:
, -إنت مش هتعرفني أمشي شغلي إزاي؟
, بهدوءٍ تام علق عليه "تميم"، وهو يشير بيده:
, -وأنا أقدر يا باشا، تعالى أما أوديك بنفسي.
,
, حدجه الضابط "محمود" بنظرة قاسية، تعكس حنقه منه، وقبل أن يتكلم مجددًا ليعنفه، توقف أمامه أحد أفراد القوة الأمنية، انتبه إليه، عندما نطق برسميةٍ بحتة:
, -سعادت الباشا، مكالمة لحضرتك من الباشا المأمور.
, تناول الهاتف المحمول منه، وهو يرد على مضضٍ:
, -طيب.
, تحرك الضابط مبتعدًا عن محيط "تميم"، شيعه الأخير بنظراته القاتمة وهو ينصرف، ليردد في نفسه بقنوطٍ:
, -اتبسطتي كده لما خربتيها يا "خلود"؟
,
, -يعني إيه مكونتش عايزيني أعرف؟
, تساءلت "همسة" بتلك العبارة، وبصوتها الحاد، وهي تسحب والدتها بخطواتٍ متعصبة في اتجاه المصعد، فزوجها هاتفها ليطلعها على آخر المستجدات، والتي لم تكن على علمٍ بها، لتهرع بعدها إلى أمها، وتأتي بها إلى المشفى، في حالة انفعالية مفهومة. حاول "هيثم" إيقافها، وتهدئة ثروتها قائلاً:
, -ما هو ده اللي كنت خايف منه، تجي وتجيبي أمك على ملى وشها.
,
, رمقته بنظرة نارية وهي ترد عليه:
, -مش أختي يا "هيثم"؟ ولا عايزني أعرف اللي هي فيه وأنام على المخدة، ولا كأن في حاجة حصلت؟
, رد بوجه مقلوب، وتكشيرة جانبية:
, -ماشي، بس الأمور تتاخد بالعقل، مش قفش كده!
, صاحت بنفاذ صبر، وقد فُتح بابي المصعد:
, -معدتش في عقل..
,
, ولجت كلتاهما للداخل، وظلت "همسة" تردد بصوتها المنفعل:
, -ده احنا كلنا كنا واقفين وشايفين أختك عملت إيه.
, صاحت فيهما "آمنة" ليكفا عن الجدال:
, -خلاص يا ولاد، مش وقت خناق، لا ده مكانه، ولا حتى وقته، وخلوني أطمن على بنتي.
, رد "هيثم" وهو ينضم إليهما بداخل المصعد:
, -اتفضلي يا حماتي.
,
, منحت "همسة" زوجها نظرة لا تبشر بخيرٍ، وقد خبت نبرتها حين قالت له مهددة:
, -الكلام بينا لسه مخلصش يا "هيثم"!
, نظر لها بقلةٍ حيرة، وهو يردد في نفسه:
, -ده اللي أنا كنت خايف منه، هاتقلب الليلة عليا في الآخر، ويتقال أختي وأختك!
,
, اصطحب كلتاهما إلى غرفتها بالطابق المميز، ورغم المحاولات المضنية لمنعهما من رؤيتها، إلا أن والدتها وتوأمتها نجحتا في الأخير في الدخول لها، والبقاء بجوارها، بعد اللجوء لوساطات لا طائل لها من مسئولين ذوي مناصب هامة، كلمتهم مسموعة، ونافذة. انتظر "تميم" بالخارج مع ابن خالته، لم يحاول اقتحام خصوصية العائلة، وطلب من "هيثم" التواجد معه؛ لكن تلك النظرة المختلسة على وجه "فيروزة" النائمة، وهي تدير رأسها للناحية الأخرى، أشعرته بالارتياح. انغلق الباب، فاستدار "تميم" في اتجاه شقيق طليقته، ليمسك به من ياقته، جذبه بعيدًا عن أعين أفراد القوة الأمنية المراقبة لهما، ليشرع في توبيخه بغلظةٍ، وهو يكز على أسنانه:
, -إنت غبي يا ابني؟ كلمتهم ليه؟ لازمتها إيه الشوشرة دي؟
,
, حاول "هيثم" انتزاع ياقته من قبضته المحكمة عليه، وقال مبررًا تصرفه:
, -ما كده كده كانوا هيعرفوا، دي أمها ودي أختها، يعني مش حد غريب٣ نقطة
, ثم بلع ريقه، وأضاف بتمهلٍ؛ وكأنه يفصح عن عيبٍ خطير:
, -وبصراحة كده أنا مابعرفش أمسك لساني مع مراتي!
, أرخى "تميم" أصابعه عنه، ومنحه تلك النظرة الحادة، قبل أن ينطق بغيظٍ:
, -ما هو باين!
,
, سأله "هيثم" وهو يضبط هيئته:
, -ها قالك إيه الدكتور؟
, أجاب على مضضٍ، وبزفيرٍ سريع:
, -واخدة مهدئ، نفسيتها مش حلوة.
, أكمل "هيثم" مسترسلاً في الحديث بتوترٍ مختلط بالمزاح:
, -آه لو أمي عرفت إنها هنا، يا لهوي، هتولع الدنيا.. وهي أصلاً والعة لواحدها.
, نظر له "تميم" بطرف عينه، وقال:
, -ومين هيقولها غيرك؟!
, رفع ابن خالته كفيه معترضًا:
, -لأ مش للدرجادي، أنا برضوه بأفهم.
,
, ساد الصمت للحظات لم تدم كثيرًا ليبوح بعدها "هيثم" بمناقشته المحتدمة مع والدته:
, -ده أنا مرضتش أشهد زور
, التفت "تميم" كليًا نحوه، وسأله بوجه حائر:
, -تشهد زور في إيه؟
, رد بكتفين متهدلين:
, -ما هي عايزاني أخد صف "خلود"، وأقول إن أخت مراتي وقعتها من على السلم.
, تحفز ابن خالته في وقفته بعد سماعه لذلك، وسأله بقلبٍ يدق بقوةٍ:
, -والأبلة معملتش كده، صح؟
,
, أتاه دليل براءتها واضحًا حين جاوبه:
, -أنا شايف أختي وهي قاصدة تحدف نفسها من عليه، محدش لمسها، ده غير إن كان في مسافة كبيرة بينهم، ومراتي شافت ده كمان، بس أمي **** يسامحها ضميرها ميت.
, سكت "تميم" لبرهة ليستعرض في عقله ما يدور ويحلله، قبل أن يخبره:
, -وطبعًا هتجبرك تشهد معاها.
, حرك "هيثم" رأسه موضحًا موقفه النهائي:
, -ما أنا قولتلها لأ.. وقلبت بخنافة معها٣ نقطة
,
, ثم لفظ الهواء المحبوس في صدره ليطلب منه، بما يشبه النصيحة:
, -حاول إنت تحل الليلة دي كلها يا معلم، لأنها لو فضلت على الشكل ده مش هنخلص أبدًا، والحكاية هتوسع وهتبقى محاكم، وجايز يبقى فيها سجن.
, غامت عيناه بشكلٍ غريب، حاليًا لم يلم بعد بالأبعاد القانونية لتلك المسألة العويصة؛ لكن لا يضمن عواقب تركها معلقة، فخالته ليست بالشخص الهين الوديع، وابنة خالته لا تقل خطورة عنها، تنفس بعمقٍ، وتحدث بعدها بغموضٍ:
, -فعلاً لازملها حل، ويجيب من الآخر كمان.
,
, وجودهما بغرفتها، وإلى جوار فراشها، كان بدون طائل، ما زالت في سباتها الإجباري، ومع صرامة الضابط "محمود" الواضحة، اضطرت والدتها وتوأمتها للذهاب، وتركها بمفردها، وسط الحراسة المفروضة عليها، بدون أسباب معلومة؛ وكأن الضابط يشك في احتمالية هروبها، وإدعائها لتلك التمثيلة السخيفة، بعد ما وَرد إليه من معلومات، أو بمعنى أدق أوامر مشددة، بتضييق الخناق عليها، وزيادة القوة التأمينية، إلى أن ترد أوامر جديدة بشأنها.
,
, ألقى الضابط "محمود" نظرة متأملة عليها، بعد أن قرأ ما كتبه الطبيب في اللوح المعدني المعلق على فراشها، أمعن النظر فيها مرة أخرى وهو يسألها، رغم يقينه بعدم استطاعتها الرد عليه:
, -إنتي مزعلة مين من الكبارات؟
, الغريب في الأمر أن التوصيات التي جاءت لصالحها، تفوق تلك التي تشدد على إبقائها محتجرة، بدا الوضع متناقضًا، محيرًا، ومُريبًا بالنسبة له، يُظهر صراعًا خفيًا، محوره تلك الشابة غير الواعية، خرج من غرفتها، وأعطى أوامره للأفراد قائلاً بلهجةٍ صارمة:
, -محدش لا يدخل ولا يخرج من هنا بدون إذني، مفهوم؟
,
, أدى الفرد الأمني التحية العسكرية له، وقال:
, -تمام يا باشا.
, انصــرف بعدها الضابط "محمود" من المشفى، وقد تعذر عليه أيضًا الالتقاء بالطرف الآخر في قضيته المنوط بها؛ "خلود"، بسبب ظروف حالتها الصحية، ليعود إلى منزله، ويأخذ قسطًا من الراحة، قبل أن يأتي مجددًا لهذا المكان، ويبدأ في تحقيقه الدقيق، ويملأ تلك الفراغات المحيرة فيه.
,
, بوجه مكفهر، ونظرات متنمرة، وأنفاس مدمغة برائحة التبغ، من السيجارة المتدلية من بين شفتيه، التقط "فضل" بعينيه مساحة خالية، في المنطقة المخصصة لركن السيارات بالقرب من مدخل المشفى، تصلح لإيقاف السيارة العتيقة التي استأجرها، دفع جسده دفعًا للخروج من المقعد الجلدي المشقق، وهو يلعن بكلماتٍ قانطة، التفت نحو والده الذي ترجل من السيارة أيضًا، وإجهاد السفر يبدو واضحًا على تعابيره، وحركته الثقيلة، صــاح الأول فجــأة بما يعتريه من حنقٍ:
, -خلينا كده نلف ورا الهانم من الأقسام للمستشفيات!
,
, رد عليه "اسماعيل" بصوته الأجش:
, -دلوقتي نقابل مرات عمك، ونفهم في إيه بالظبط.
, لامه بنوعٍ من الهجوم، مستخدمًا يده في التلويح:
, -إنت اللي غلطان يابا، كان لازم تفضل معانا في البلد، مش مطلوقة كده لا ليها كبير ولا عاملة اعتبار لحد.
, نظر له بنظراتٍ متشددة، وقال على مضضٍ:
, -مش وقته الكلام ده.
, رد بعنادٍ، ونظراته لا تنم عن لمحة خير:
, -لأ وقته يا حاج، عايزني أسكت زي الحريم؟
,
, تطلع إليه والده في انزعاج، فتابع ابنه كلامه الناقم:
, -هانستنى إيه بعد كده؟ ده تلاقي أهل البلد واخدين سيرتها لبانة في بؤهم.
, علق باستهجانٍ، وهو يهم بالتحرك بعيدًا عن الموقف:
, -وحد يعرف في إيه لسه؟!
, تبعه بخطواتٍ شبه متعجلة، وبرر له سبب حمئته المتعصبة:
, -الناس بتألف على مزاجها، ومش هتقدر تمنع حد مايتكلمش، وحتى لو مش في وشك، هيتكلم من وراك، والكلام يمس سمعتنا.
,
, توقف "اسماعيل" عن السير، واستدار نحوه، ليزجره بنفاذ صبرٍ:
, -"فضل"! متخلنيش أندم إني جبتك معايا!!
, لوى ثغره معقبًا باستنكارٍ متهكم:
, -يعني كنت هاسيبك تروح لوحدك تدور وراها؟
, ثم نفخ عاليًا، لافظًا بقايا سيجارته المحترقة، وأكمل:
, -تعالى يا حاج نشوف راقدة في أنهو أوضة.
, تنهد أباه مرددًا بصوته المغلف بالتعب:
, -بينا.
, واتجه كلاهما إلى مدخل المشفى، الذي كان على بُعد بضعة خطوات، ليبادر "فضل" بالسؤال عن مكان حجرة "فيروزة"؛ حيث ترقد بها، أو الأحرى تحتجز بها مؤقتًا.
,
, بلغا الطابق المنشود، ولم يجدا صعوبة في معرفة غرفتها، فالحراسة الأمنية كانت كفيلة بالإشارة إلى تواجدها بالداخل، انعكست علامات السخط على وجه "فضل"، وظل يُسمع والده بالمزيد من العبارات الناقمة، عن سوء تصرفاتها، وتركها دون رقابة، لتسيء لنفسها ولسمعة العائلة في النهاية، أراد شحن عمها ضدها، فلا ينحاز لصفها، حين يتخذ القرار الحاسم، ويقيد حريتها. حاول ابن عمها تجاوز رجال الشرطة، والمرور عنوة للداخل، لكن تم منعه، ولم يسمح له أو لغيره برؤيتها دون موافقة الضابط المسئول عن التحقيق في قضيتها، بعد التعليمات الجديدة التي تلقاها، فأدى ذلك لانفلات أعصــاب "فضل"، فصرخ باهتياجٍ:
, -أنا ابن عمها، مش حد غريب.
,
, رد الفرد الأمني ببرود:
, -إن شاء**** تكون أبوها حتى، ممنوع.
, صاح به بغيظٍ، وقد انتفخ وجهه:
, -يعني إيه؟ هي محبوسة هنا؟
, قال بسماجة سخيفة؛ مظهرًا عدم اكتراثه به:
, -دي أوامر، ولو خالفتها هتتحبس يا أستاذ.
, غمغم في سخطٍ:
, -استغفر **** العظيم، يعني يبقى بيني وبينها باب، ومعرفش اطمن عليها؟
, لم تهتز شعرة للفرد الأمني، وعلق بجمودٍ:
, -حتى لو خطوة، ممنوع!
,
, اغتاظ "فضل" من أسلوبه السمج في طرده، فهدر به بانفعالٍ شديد:
, -إنت مخك قفل يا دُفعة؟
, اشتعلت نظرات الأخير، وسأله بتعابيرٍ محتدة:
, -بتغلط في الحكومة؟
, تدخل "اسماعيل" على الفور معتذرًا:
, -لأ يا دُفعة، مايقصدش، دي بردك بنتنا، وكنا عايزين نطمن عليها.
, نظر الفرد الأمني في اتجاه الرجل الكبير، ورد عليه يأمره بلهجته الجافة:
, -خد ابنك وامشي يا حاج.
, وضع "اسماعيل" قبضته على ذراع ابنه، وجذبه منه بمجهودٍ واضح، ليبعده عن الباب، وهو يرجوه بتوسلٍ:
, -تعالى يا "فضل"، الحكاية مش ناقصة شوشرة.
,
, استل ذراعه منه بخشونةٍ، وصاح محتجًا:
, -يابا مش شايف اللي بيحصل؟
, رد عليه بعقلانيةٍ، ونظراته مسلطة عليه:
, -خلينا نكلم محامي ونشوف هنعمل إيه، ده باين الحكاية فيها عوأ كبير، واحنا مش أده.
, بصعوبةٍ استجاب لوالده، وتحرك في اتجاه المصعد، ثم توقف أمامه يسأله بأنفاسه الهادرة، بعد أن ضغط على زر استدعائه:
, -ومرات عمي فين؟ المفروض تكون هنا، ولا هي بس فالحة تجيبنا من آخر الدنيا عشان المصايب دي..
,
, تنهد قائلاً بتعب:
, -جايز قالولها تمشي زينا.
, أضاف بنبرته المتنمرة:
, -وأنا بأطلبها وتليفونها مابيجمعش، حاجة قرف.
, أشــار له والده وهو يلج لداخل المصعد
, -بينا على بيتها، وهناك هنتكلم.
,
, تسمرت قدماه في مكانه، ورأسه تدور باحثة عن أحدٍ بالجوار، فسيارته محتجزة تقريبًا بسيارة شخصٍ آخر، لم يراعِ وضع مسافة بين السيارتين، لتمكنهما من الحركة بحرية، وبات عليه انتظاره، ليزيحها. أطل "اسماعيل" برأسه من نافذة السيارة، بعد أن طال وقوف ابنه بالخارج، نظر إلى وجهه الحانق، وقال له بهدوءٍ مغاير لما عليه الأول:
, -تعالى يا ابني اقعد بدل الوقفة دي.
,
, صاح بغضبٍ أكبر:
, -لأ يابا، أنا مستني أشوف الحمار اللي عمل كده عشان أربيه، ما قدامه حتت كتير فاضية.
, تلفت والده حوله ليجد انشغال غالبية الموقف بالسيارات، فتلك الفترة تقريبًا هي الموعد المخصص لزيارات أهالي المرضى بالمشفى، استراح في جلسته، وقال معللاً ما حدث:
, -جايز حد كان مستعجل، وملقاش ركنة.
,
, نعت "فضل" ذاك المزعج بسبة نابية، وتوعده بالرد العنيف حين يظهر أمامه.
, في تلك الأثناء، كان "تميم" قد انتهى لتوه من إيصــال "آمنة" وابنتها إلى منزل الأولى، وبصحبتهم "هيثم"، ثم توجه لاحقًا لأقرب مطعم لشراء وجبات جاهزة لـ "بثينة" ووالدته المرافقتين لـ "خلود"، لم يجد في البداية مكانًا متاحًا لركن السيارة، وبالتالي أوقفها بشكلٍ عشوائي، لبضعة دقائق، أمام إحدى السيارات، وبعيدًا عن طريق عربات الإسعاف، ليسلم الطعام للاثنتين قبل أن يعود ويصفها بالخارج، فما زال لديه حديث معلق مع طليقته.
,
, لمح "تميم" أحدهم، يرتدي جلبابًا من اللون البني، تظهر عليه بقع متفرقة مبللة من العرق، ويبدو في حالة غليانٍ، ووجهه يختلجه أمارات الغضب، فاعتذر من بعيد رافعًا ذراعه:
, -لا مؤاخذة يا عمنا.. أنا جاي أشيل العربية
, التفت إليه "فضل"، ولعنه:
, -**** يحرقك، إنت البغل اللي سيبنا ملطوعين كده، مش عارفين نتحرك
, تباطأ "تميم" في خطواته، وسأله بوجهٍ تلون بحمرة مشبعة بغضبٍ مهدد:
, -طب وليه الغلط يا بلدينا؟
,
, رد بوقاحةٍ أكبر:
, -شايفني واقف بعِمة قصادك يا طُربش، يا (٣ نقطة)؟
, حذره "تميم" بغموضٍ، وقد شمر عن ساعديه:
, -طب إدي بالك جيالك!!
, سأله "فضل" باستخفافٍ:
, -معناه إيه ده؟
, وقبل أن يتطور الوضع للأسوأ، ترجل "اسماعيل" من السيارة، ليحول دون استمرار ابنه في التشاجر مع الغريب، ورجاه:
, -بالراحة يا ابني.. ماينفعش اللي بتعمله ده.
, لم ينظر "فضل" في اتجاه والده، وقال بشراسةٍ:
, -خليك على جمب يا حاج، وسيبني أربي الأشكال بنت الـ٣ نقطة!
,
, عند تلك الإساءة المهينة، فقد "تميم" السيطرة على غضبه، وسدد لكمة عنيفة مباغتة إلى فك "فضل" جعلته يرتد للخلف، وتبعها بأخرى أشد قوة طرحته أرضًا، لم يتركه بعد، بل جثا فوقه يخنق عنقه بركبته، مانعًا الهواء من الوصول إلى رئتيه، ثم أشهر مديته المخبأة في جيبه الخلفي، وألصقها بجلد وجهه المتعرق، وهدده بوحشيةٍ جمعها مما مر به طوال اليوم من ضغوطات قاسية مكبوتة:
, -الـ (٣ نقطة) اللي مش عاجبك ده، هيرقدك الليلادي في الإنعاش٣ نقطة!
 
٢٥

بركبته الثقيلة، زاد من ضغطه القاسي، على جلد عنقه، قاصدًا منع رئتيه من الحصول على الهواء اللازم لإعاشته، تضاعفت معاناة "فضل"، وتخبط بذراعيه وهو يجاهد لإبعاده عنه، ورغم هذا إلا أن "تميم" كان محكمًا قبضته على كتلة اللحم المسجاة من أسفله، توحشت عيناه، ورمقه بتلك النظرة الميتة، والتي تعني بكل وضوح هلاك غريمه، قبض الأخير بيده على فك الأول يعتصره بشراسة، ثم غرز نصل مديته الحاد في جلده، متعمدًا اختراقه، كز على أسنانه يخبره بعدائية بحتة:
, -مش أنا قولتلك من الأول، إدي بالك جيالك؟
,
, صرخ "فضل" متأوهًا من وخز النصل المؤلم، والذي شق طريقه في وجهه، فتابع "تميم" موضحًا:
, -يعني هتاخد في وشك لحد ما أمك متعرفكش!!
, وتبع ذلك لكمة عنيفة جعلت الدماء تنزف من بين أسنانه، حاول "اسماعيل" إزاحة "تميم" عن ابنه؛ لكنه فشل أمام عنفه الشديد، اعتذر منه بتوسل:
, -خلاص يا ابني، سيبه، حقك عليا أنا، ابني "فضل" مايقصدش.
, لم يكلف "تميم" نفسه عناء النظر إليه، ليعرف من يخاطب، وقــال بصوته الأجوف، المحمل بغضبه:
, -ابنك ناقص رباية، وأنا هاظبطهولك!
,
, كان الشجار غير متكافئ من وجهة نظر "اسماعيل"، فابنه يتصارع مع شخصية عنيفة، ملمة بأساليب القتال المهلكة، وهو رغم بنيته الضخمة لا يجيد الحركة مثله، وبالتالي إن لم يتدخل فورًا، لربما خسر ابنه حياته، لذا هرول باحثًا عن مساعدة خارجية، يأتي بها لتعاونه في إبعاد هذا المعتدي الشرس عنه، بينما منح "تميم" من أرقده أرضًا لكمة أخرى، جعلته يشعر بتهشم فكه السفلي، بالكاد قاوم "فضل" للإبقاء على حياته، أرخى الجاثم فوقه ركبته عنه قليلاً، ليستنشق الهواء بصعوبة، فسعل وبكى وهو يستغيث:
, -يا جدعان، حد يحوشه عني!
,
, علق عليه "تميم" بنبرته الهازئة:
, -دلوقتي قلبت حُرمة؟ أومال كنت نافخ نفسك معايا ليه يا بغل؟٤ علامة التعجب
, عاد "اسماعيل" وبصحبته أفراد من أمن المشفى، استعان بهم في دفع "تميم" عن ابنه، ورغم كثرتهم، إلا أنهم وجدوا صعوبة في إزاحته، حتى نجحوا أخيرًا في تحرير "فضل" الذي تدحرج على بطنه، واستلقى عليها لبرهةٍ، قبل أن يزحف بإعياء بعيدًا عنه، وسعاله المتحشرج يجرح في أحبال صوته المتألمة، تحسس وجهه بتوجسٍ، ليرى الدماء تنزف من جرح المدية، والذي حتمًا سيترك أثره لبضعة أيام على وجنته. نفض "تميم" الأذراع القابضة عليه، وأعاد نصل مديته لمكانه بإبهامه قبل أن يوجه حديثه إلى الكهل المصدوم:
, -ربي ابنك يا حاج!
,
, لم تكن ملامح وجهه بالغريبة عن "تميم"، تذكره بمجرد التطلع إليه، وإن لم يتعرف إليه الأخير بعد، انخفضت عيناه نحو "فضل" الذي نهض على قدميه، ومسح بظهر كفه خيوط الدماء التي اصطبغت بها بشرته، بمنديل قماشي، كان محتفظًا به في جيب جلبابه، ابتعد أفراد الأمن بعد تحذير شفوي لثلاثتهم، بعدم افتعال الشجار مجددًا، ولم يكترث بهم "تميم"، أو بتهديدهم، كان مستعدًا لتصعيد الأمور لأقصاها؛ لكن الغليان الواضح على وجه "فضل" الذي أهين على يده، كان يأكله بشدة، وقبل أن يشرع في لعنه –حفظًا لماء الوجه- بعد بعثرة كرامته، وسحق رجولته أمام الغرباء، رفع "اسماعيل" ذراعه محذرًا ابنه:
, -خلاص يا "فضل"، مش جايين من آخر الدنيا عشان نتعارك مع خلق ****!
,
, رد بغيظٍ، وبنظراتٍ مغلولة موجهة نحو "تميم"، ويده لا تزال موضوعة على خده:
, -ماشي يابا، اللي تؤمر بيه.
, اتجهت أنظار "اسماعيل" إلى "تميم"، ودقق النظر فيه جيدًا، أدرك حينها أنه رأه سابقًا، وقبل أن تتحرك شفتاه ليسأله، بادر الأخير بالقول:
, -إنتو قرايب جماعة "هيثم"؟ نسايبه يعني؟
, دون تفكيرٍ أجابه "اسماعيل":
, -أيوه.. أنا شوفتك قبل كده.
,
, استقام "تميم" في وقفته، ولم تبتعد نظراته العدائية عن وجه ابن ذاك الرجل، وهو يرد عليه موضحًا:
, -مرتين يا حاج، هنا وعندكم٣ نقطة
, توقف هنيهة عن الكلام ليضيف بعدها:
, -بس مشوفتش البغل ده معاك!
, استشاط "فضل" على الأخير من إهانته له مجددًا، وصاح بصوته المبحوح في أبيه:
, -سامع يا حاج؟!
,
, تحداه "تميم" ببرود، وتحفز في وقفته، بدا كمن يستفزه عن عمدٍ، لجره لشجار آخر:
, -ما يسمع، هتعمل إيه يعني؟ الغلط بدأ من عندك، فاستحمل للآخر.
, صــاح "اسماعيل" بضيقٍ، ووجهه متضرج بحمرةٍ منزعجة:
, -خلاص بقى، مش عايزين مشاكل مع حد! كفاية اللي احنا فيه، وبينا من هنا!
, تجهم "فضل" معقبًا عليه، وملامحه يغطيها تكشيرة عظيمة:
, -عشان خاطرك يابا.
,
, ثم دنا من "تميم" ليقول له، بما يشبه الوعيد:
, -لينا كلام تاني، الحوار بينا مخلصش!!
, ابتسم مرحبًا بوعده، وقال باستهزاءٍ
, -وأنا جاهز، ومستنيه، بس ساعتها، مش هتدخل باب المستشفى ده
, وأشـــار بيده نحو المدخل المخصص لدخول المرضى، قبل أن يحركها نحو بقعة أخرى ليشير إليها وهو يتابع:
, -هتطلع من هنا..
,
, وغمز له مضيفًا بهسيس:
, -باب المشرحة!
, ازدرد "فضل" ريقه، وكظم غضبه مرغبًا ليتبع والده، وبضعة شتائم محتجزة في جوفه، شيعه "تميم" بنظراته النارية إلى أن انصـرف بسيارته، ليلقي بعدها نظرة على مبنى المشفى، وعقله قد انشغل مجددًا بـ"فيروزة".
,
, وقف في شرفته، المطلة على الحدائق الواسعة، في الحي الراقي الذي يسكن به، واضعا هاتفه المحمول على أذنه، وكوب النسكافيه الساخن بيده الأخرى، أسنده "آسر" على حافة السور، ليبرد قليلاً، وهتف مجاملاً بتملقٍ مبالغ فيه:
, -كل الشكر لمعاليك يا فندم على اهتمامك، عيلة قريبتي مش عارفين يودوا جمايل سيادتك فين!
,
, هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يصغي للطرف الآخر، ليعلق بعدها بلهجةٍ متشددة:
, -أكيد طبعًا، لازم القانون يحاسب البنت المجرمة دي.
, أطلق ضحكة مفتعلة قصيرة، كنوعٍ من إظهار اهتمامه بحديثه الساخر، وقال منهيًا مكالمته بتهذيبٍ:
, -شكرًا مرة تانية، وباعتذر عن إزعاجك.
,
, صافرة مليئة بالغبطة والانتشاء دندن بها لبعض الوقت، كتعبيرٍ عن سعادته لنجاح خطته التي رسمها على عجالة، حيث اتفق مع "محرز" سرًا، بعد أن أخبره بالمشكلة التي وقعت، على تحفيز "بثينة" وتوجيهها للإبلاغ عن حادثة ابنتها، وبما يخدم مصالحه وأهوائه الشخصية، ليتم اتهام "فيروزة" بشكلٍ صريح بالتسبب في إيذائها، ليتدخل لاحقًا أيضًا ويساعد في تقوية موقف "خلود"، باللجوء للوساطات الرسمية من ذوي الكلمة النافذة..
,
, فيضيق الخناق على "فيروزة"، وتشعر بجدية الموقف وخطورته، وتدرك أنها لن تجد المناص أبدًا من مشكلتها المهلكة، سوى بطلب مساعدته؛ باعتباره المحامي البارع، وإن لم تفعل هذا، لن يمانع أبدًا في فرض حضوره عليها، ليظهر كالبطل المغوار الذي أنقذها من مغبة عظيمة .. عاد ليمسك بكوبه، وحدث نفسه بتفاخرٍ:
, -نستنى بقى لحد ما "علا" تكلمني، وتعرفني باللي حصل .. وساعتها يجي دوري.
,
, وحدث ما توقعه، دقائق، وصدح رنين هاتفه، ألقى نظرة مستمتعة على شاشته التي امتلأت باسم "علا"، نشوة غريبة انتشرت في جسده، مستشعرًا مدى قوته وقدرته على التحكم في مجريات الأمور، اكتسبت نبرته هدوئًا مصطنعًا حين أجابها:
, -أيوه يا "علا".
, ردت عليه بتعجلٍ:
, -"آسر" .. الحق في مصيبة كبيرة حصلت لـ "فيروزة".
, تصنع القلق المتلهف وهو يرد:
, -بتقولي إيه؟
,
, وضع ولاعته التي تحمل شعار سيارة الجاغوار الشهيرة على علبة سجائره، بعد أن أخرج واحدةً، وأشعلها، ليحرر دخانها في الهواء الطلق، التفت "محمود" إلى "وجدي" الجالس إلى جواره في المطعم الحديث يسأله مستفسرًا، والفضول الحائر مسيطر عليه:
, -بصراحة أول مرة أقابل حاجة بالشكل ده، يعني ساعات نلاقي حد موصي على حد تاني، ونروق عليه، وحد عايزنا ناخد بالنا من حد عزيز عليه، لكن البنت دي ألاقي منها الاتنين، غريبة أوي؟ مش كده؟!!
,
, سحب نفسًا آخرًا عميقًا من سيجارته، وتطلع إلى "وجدي" الذي شاركه حيرته قائلاً:
, -و**** ما عارف أقولك إيه، يعني على حسب ما أعرفه عنها، مالهاش في أي حاجة، وخناقتها كانت عادية مقارنة باللي بنشوفه عندنا في القسم٣ نقطة
, ثم التقط فنجانه بيده الأخرى، وأوضح له:
, -ملفها نضيف، مالهاش سوابق..
,
, سأله "محمود" بنظرته الذكية المتشككة:
, -تفتكر مين ورا إصراره على حبسها ٣ نقطة؟!
, سكت للحظة وتابع موضحًا:
, -مع العلم إن المحضر لسه قيد التحقيق والتحري.
, رد وهو يرتشف قهوته التي أوشكت على الانتهاء:
, -مش عارف، بس شكله حد تقيل.
,
, أراح "محمود" ظهره للخلف، ورد بتنهيدة متمهلة:
, -عمومًا .. كل حاجة هتبان في وقتها.
, وافقه الرأي معقبًا عليه:
, -بالظبط..
, ثم أضــاف "وجدي" بهدوءٍ:
, -الغريبة يا سيدي إن خناقتها مع الواد البلطجي ده خلصت بمحضر صلح، يعني المفروض مافيش مشاكل بينهم.
,
, علق عليه "محمود" بابتسامة ساخرة:
, -استنى أما أقولك، الواد البلطجي ده بقى حكايته حكاية.
, انتبه له الأخير، وسأله في اهتمامٍ:
, -ماله؟
, رد بمزيدٍ من التشويق:
, -عارف يطلع مين بقى؟ طليق الست اللي أمها مقدمة في البت دي البلاغ، واللي هي برضوه خالته.
,
, أخرج "وجدي" سيجارة أخرى من علبة سجائره، وأشعلها بولاعته معقبًا في ذهولٍ:
, -أوبا.. دي جديدة.
, رد عليه بنفس الأسلوب المتهكم:
, -يعني ملخص الليلة دي خناقة جوز حريم في بعض.
, ضحك "وجدي" وهو يختم الحديث عن ذلك الموضوع:
, -أيوه، والرجالة اللي بتحاسب على المشاريب في الآخر.
,
, عاد "محمود" ليسأله:
, -وإنت أخبار شغلك إيه؟
, أجابه، وهو يطلق الدخان من رئتيه في الهواء:
, -في حاجة جديدة شغالين عليها، بلاغ غريب من واحدة ضد طليقها، من المهربين.
, ضحك مجددًا قبل أن يرد بطرفةٍ:
, -دايمًا كده تلاقي الستات ورا مصايب الرجالة..
, -مظبوط، بيجيبوا أجلهم بدري بدري.
,
, اقترب من السطح الرخامي الجالس خلفه عدة ممرضـات، كان مترددًا في الإقدام على ذلك، لكن قلبه المتلهف حثه على سماع ما يطمئنه عنها، ولهذا تشجع للتقدم منهن، أشار لإحداهن بعينيه لتنهض من مكانها، وتتبعه. وقف "تميم" معها بعيدًا عن الأعين المراقبة لهما، ثم أخرج من محفظته ورقة نقدية كبيرة، طواها في راحته، ومد بها يده إليها يطلب منها:
, -عاوزك في خدمة.
,
, تناولت الممرضة النقود منه، ودستها في جيب زيها الوردي، وسألته بحذرٍ، وعيناها تتلفتان حولها:
, -خير يا أستاذ؟
, أجابها "تميم" بصوته الخفيض:
, -تخشي تطمني على الأبلة اللي في الأوضة دي.
, اتجهت نظراتها نحو باب الغرفة، المرابط أمامه القوة الأمنية، عادت لتنظر إليه باسترابة، وعلقت:
, -بس هي نايمة، وآ٣ نقطة
,
, قاطعها قائلاً بجدية غير مازحة:
, -ما أنا عارف، بس بصي شوفيها عاملة إيه، وتطلعي تطمنيني، ومن غير ما تقفلي الباب.
, رغم غرابة طلبه، إلا أنها هزت كتفيها قائلة بإذعانٍ تام له:
, -حاضر يا أستاذ.
,
, راقبها بعينيه وهي تتحرك في اتجاه غرفتها، تبعها بخطواتٍ بطيئة، حتى توقف عند زاوية جيدة الرؤية، فإن فتحت الباب، سرق من الفرجة المواربة لحظاتٍ يتأمل فيها ملامحها الساكنة، ويروي ظمأه إليها، لمعت عيناه مع رؤيتها، وأحس بارتفاع دبيب قلبه، لم يهدأ لرؤيتها، بل ازداد شوقًا للتواجد بقربها، وفي محيطها، كان من الصعب عليه التحكم في انفعالاته المتأثرة به، بلع ريقه، وسحب الهواء دفعًا متعاقبة ليضبط مشاعره، واستدار للناحية الأخرى بمجرد خروج الممرضة من الداخل، تعمد السير بخطى متمهلة إلى أن اقتربت منه، ابتسمت وقالت بلطفٍ:
, -هي بخير يا أستاذ.
,
, شكرها بنصف ابتسامة:
, -متشكر ..
, سحب نفسًا آخرًا يخنق به تلك الغصة التي آلمت صدره؛ فقُربه منها مؤلم، وبُعده عنها مُهلك!
, استعاد "تميم" إيقاع تنفسه غير المنتظم، واتجه للمصعد بثباتٍ، ليهبط للطابق المتواجد به غرفة طليقته؛ حيث المواجهة التي تنتظره مع والدتها هناك؛ وربما أمه أيضًا، لم يستبعد حدوث ذلك.
,
, -إنت مين؟
, بوجهه المتورم، وتلك الضمادة التي تنتصف خده الجريح، تساءل "فضل" بتلك العبارة المتجهمة، بعد أن وجد شخصًا غريبًا يفتح له باب منزل زوجة عمه، لم يتعرف إليه، ولم يره مسبقًا، في حين رمقه "هيثم" بنظرة سريعة شاملة، جابت عليه من رأسه لأخمص قدميه؛ كأنه يتفحص هويته، ويدرس معالمه. ظل واقفًا في مكانه يسد عليه المدخل، ودون أن يتحرك، سأله ببرود ممتزج بالتهكم:
, -المفروض أنا اللي أسألك السؤال ده، إنت اللي جاي بتخبط عليا السعادي!
,
, اشرأب "فضل" بعنقه، محاولاً اختلاس النظرات من وراء ظهره، فشعر بوخزة موجعة تضرب فقراته التي عانت من قساوة "تميم"، فركها برفقٍ بيده، وسأله وهو ينفخ في ضيق:
, -مش ده بيت عمي "علي أبو المكارم"، ومراته، وبناتها؟
, لم تكن الحالة المزاجية لـ "هيثم" رائقة، ليتحمل على المزيد من الثرثرة السمجة، ورد عليه بسؤال:
, -أيوه.. إنت مين بقى؟
,
, لكزه "فضل" في صدره بخشونة، ليحركه من مكانه، قائلاً بعصبية مهينة:
, -إنت اللي مين يا بأف؟ وبتعمل إيه في بيته؟ وسع كده خليني أدخل.
, اعترض "هيثم" طريقه، وأمسك به من ياقته هاتفًا به بحدةٍ:
, --نعم يا خويا؟ بأف؟ استناني بقى!
,
, لم يكن من المقبول في عُرفه أن يصمت عن إهانته، وإن كانت غير مقصودة، أو زلة لسان من غريب وقح، لذا دفعه "هيثم" من صدره للخلف بيده الأخرى، مصرًا على منعه من اقتحام المنزل هكذا بوقاحةٍ، ودون استئذان، بالكاد طرده منه، وهو يواصل قوله الغليظ:
, -هي وكالة من غير بواب؟ أنا مش واقف قصادك شوال بطاطس! ولولا إني عامل احترام لأهل البيت ده كنت رميتك من فوق
, وقبل أن يتطاول باليد على ذلك اللزج، لمح "اسماعيل" يصعد الدرجات من خلفه، صائحًا به:
, -سيبه يا "هيثم"! ده ابني.
,
, ركز عينيه عليه، وصاح مدهوشًا:
, -حاج "اسماعيل"! بتعمل إيه هنا؟
, ردد "فضل" بغيظٍ كبير، وهو يبعد يده المحكمة عليه:
, -تعالى يابا، شوف مين ده كمان، ما هو أنا الكل واخدني ملطشة النهاردة!
, علق "اسماعيل" معرفًا به:
, -ده جوز بنت عمك؛ "هيثم".
,
, مد الأخير يده لمصافحته، فرفض "فضل" وضع يده براحته لإحراجه عن عمدٍ، ومع هذا قام "هيثم" بدفعه للجانب، ليتمكن من رؤية ضيفه الآخر، ورحب به معتذرًا بابتسامة سخيفة متكلفة:
, -لا مؤاخذة، يا أهلاً وسهلاً يا حاج، اتفضل.
, استشاط "فضل" غضبًا من معاملته الوقحة، ووبخه بتشنجٍ:
, -لولا أبويا كان ليا لي كلام تاني..
,
, منحه نظرة استحقارٍ قبل أن يرد في سخرية:
, -خلي الكلام بعدين، لما اللي على وشك يروح.
, تلقائيًا تحسس "فضل" الكدمات البارزة في وجهه، وكتم أنينه، وتلك النظرة النارية مسلطة على وجه "هيثم"، الذي أولاه ظهره ليقول:
, -اتفضلوا في الصالون لحد ما أنادي حماتي ومراتي.
,
, همسات خافتة دارت بين الشقيقتين، وهما جالستان على الأريكة الثنائية الجلدية، الموجودة في حجرة "خلود"، فالأخيرة استعادت وعيها، وتحدثت مع والدتها قليلاً بخفوت، لتعرف منها تفاصيل ما جرى لها عقب سقطتها المروعة، وأطلعتها أمها على ما نفذته بهسيس، حين ولجت شقيقتها للحمام، وأكدت عليها التمسك بقولها، إن أرادت الانتقام حقًا ممن دفعتها لارتكاب تلك الجريمة، استراحت ابنتها لأفكارها الجهنمية، ثم استسلمت لغفوتها المؤقتة.
,
, جمعت "بثينة" بقايا الطعام في الكيس البلاستيكي، وألقته في السلة الموضوعة على يمينها، وتركت "ونيسة" معظم طعامها كما هو، لم تمسه، كانت فاقدة لشهيتها، طغى حزنها على ما آلم بابنة شقيقتها عليها، خاصة خسارة حفيدها المنتظر، ما تعجبت منه هو حالة "بثينة"، لم تكن بالمقهورة مثلها، وإن كانت لا تزال ناقمة على ما حدث .. وبمجرد أن وقف "تميم" على أعتاب الباب، ران السكون في المكان، تحولت نظرات اللوم والاتهام نحوه من كلتيهما، ســارت خالته ناحيته لتمنعه من الدخول وهي تصيح به:
, -عايز إيه من بنتي يا "تميم"؟
,
, نظر لها بوجومٍ، فتابعت هجومها المتحفز ضده:
, -اللي بينكم انتهى خلاص، لا في عدة ولا في عيال!
, قالت "ونيسة" من خلفها لتهدئها:
, -اهدي يا "بثينة"، هو جاي يطمن عليها.. مش كده يا ابني؟
, ونظرت إلى ابنها، بنظرة ذات مغزى، ليفهم رجائها الخفي في تأكيد قولها، بينما استدارت شقيقتها برأسها نحوها لتقول بأسلوبها الفظ:
, -وأنا مش عايزاه هنا.
,
, تنحنح قائلاً بوجهه العابس؛ وكأنه يلمح لها بمعرفته المسبقة عن ملابسات الحادث:
, -هي اللي عملت كده في نفسها.
, اتهمته "بثينة" بوقاحةٍ:
, -بسبب معاملتك ليها، إنت مراعتيش **** فيها، خليتها توصل للحالة دي، وماتبقاش واخدة بالها من نفسها ولا اللي في بطنها٣ نقطة
, ثم تعلقت في عنقه لتمسك به من ياقته، هزته بعنفٍ وهي تواصل صراخها به:
, -دي الأمانة اللي موصياك عليها؟
,
, نظر لها بعينين محتقنتين مستنكرًا كذبها البين، ورد بهديرٍ مشحون بغضبه:
, -وأنا مخونتش الأمانة٣ نقطة
, ثم أزاح قبضتيها عنه، وأكمل:
, -الدور والباقي عليكم إنتم، ولا إنتو بتكدبوا الكدبة وتصدقوها؟
, وبخته بلسانها اللاذع:
, -صحيح، تقتل القتيل وتمشي في جنازته!
,
, رمقها بنظرة نارية قبل أن يكشف كذبها الملفق:
, -أنا برضوه؟ إيش حال ما كل اللي في البيت شافها وهي بتحدف نفسها، وأولهم ابنك "هيثم"..
, ثم أشار بيده لها متابعًا صراحته الوقحة معها:
, -وإنتي بقي عاوزاه يشهد زور بحاجة محصلتش أصلاً؟! مين الظالم والمفتري هنا؟
, ردت ببرود:
, -وهو أنا عملت حاجة لسه؟ كل حد زعل بنتي هاجيب أجله.
,
, اشتعل غضبًا من قصدها المتواري، وتوعدها بنظراته قبل أن ينطق بلهجة قاسية:
, -وأنا مش هاسمحلك تأذي حد بريء
, ردت باستخفافٍ:
, -مين إنت عشان تسمحلي؟
, ثم غلف عيناها شر يليق بشخصها المتوحش، وتابعت مهددة إياه:
, -ومش بعيد أرجعك مطرح ما خرجت يا معلم.
,
, خرجت شهقة مصدومة من شفتي "ونيسة"، وعلقت عليها تلومها:
, -مش للدرجادي يا "بثينة"؟ ابني مغلطش، وفوق ده كله احنا إخوات، وعمر الدم ما يبقى مياه!!
, حدجتها بنظرتها الشرسة وهي ترد:
, -واللي ابنك عمله في بنتي عادي؟ دي كان ممكن تروح فيها لولا ستر ****.
,
, أطرقت رأسها في أسفٍ، بينما صاح بها "تميم" بحدةٍ، وقد فاض به الكيل من كذبها الملاوع:
, -هاقولك من تاني هي اللي اختارت تعمل كده، وتموت نفسها بإيدها، بلاش تعيشوا دور مش راكب عليكم!
, قاطعته والدته لتسكته جبرًا:
, -"تميم"! متكلمش مع خالتك بالشكل ده!
,
, رمقها بنظرة قاتمة تعبر عن غضبه المحتدم، لم يرغب في إحراجها، أو تحويل مجرى الجدال معها، وقال بزفيرٍ ثقيل:
, -صح.. معاكي حق يامه، الكلام مش هيرجع اللي حصل!
, أبعد نظراته عن خالته التي تكاد تقتله بنظراتها، وأردف بوجهه المتقلص:
, -لو خلصتي أعدتك، فأنا جاهز أوصلك للبيت، أعدتك هنا لا هتقدم ولا هتأخر.
, همس ضعيف، بصوتٍ متقطع، ظهر وسط الأجواء المشحونة بالاتهامات يناديه:
, -"تـ.. تميم"!
,
, استدار برأسه في اتجاه فراشها، وجد ابنة خالتها تفتح عينيها بثقلٍ، وتجاهد لرفع ذراعها والإشارة إليه، لم يشعر بالشفقة نحوها، حتى إحساسه بالتعاطف معها تناقص كليًا مع لسان والدتها السليط، تلك التي انتفضت متحركة نحوها قائلة بابتسامة متلهفة، وهي تحني رأسها على جبينها لتقبلها منه:
, -"خلود"! بنتي حبيبتي.. الحمد**** يا رب إنك بخير.
,
, همَّ "تميم" بالتحرك، وترك الغرفة، فجاءه توسلها بصوتها الضعيف، وعيناها ترتكزان عليه:
, -"تميم".. ماتمشيش.
, أبعد نظراته عنها، وقال بنبرة جافة:
, -حمدلله على سلامتك يا بنت خالتي.
, راوغته برجاءٍ، وبكلمات موحية، استشف المقصود منها على الفور:
, -خليك.. لو يهمك مصلحتها.
,
, حملق فيها مجددًا بنظرة نافذة، وبادلته نظراتٍ لها معنى محدد، ثم لعقت شفتيها الجافتين، قبل أن تأمر والدتها:
, -معلش يامه سيبنا لوحدنا شوية.
, وحاولت النظر في اتجاه خالتها لتطلب منها:
, -روحي معاها يا خالتي.
, اعترضت عليها "بثينة" بشدة:
, -لأ يا "خلود"، أسيبك معاه يحرقلك دمك وإنتي في الحالة دي؟
, قالت وهي تحاول الابتسام:
, -اطمني عليا.
,
, وضعت "ونيسة" يدها على كتف شقيقتها تشجعها على الذهاب معها:
, -تعالي معايا يا "بثينة"، وربنا يهدي الحال بينهم.
, لحظات وخلت الحجرة إلا من الاثنين، تبادلا بينهما نظراتٍ مطولة، مليئة بالكثير من المشاعر المعبأة بالكراهية والسخط، استطردت "خلود" قائلة بتعابيرٍ مرهقة، وهي تريح جسدها على الوسادة التي سحبت خلف ظهرها:
, -إيه؟ مافيش كلمة تعزية ليا؟ اللي راح مني ده ابني اللي كنت مستنياه منك.
,
, رد بجفاءٍ، وعيناه تتطلعان إليها بكرهٍ:
, -**** يعوض عليكي.
, ضمت شفتيها بغيظٍ من رده الخالي من التعاطف، وسألته بعدها مباشرة، دون تمهيد:
, -خايف عليها؟
, منحها رده الصريح:
, -أيوه.
,
, احترق قلبها كمدًا وقهرًا، من اعترافه القاسي، وغير المزين بكلماتٍ حتى مشفقة عليها، نظراته الثابتة عليها أكدت له صدق قوله، مما أغضبها بشدة، اهتمامه بها أشعل جذوة حنقها، فبدلاً من أن يكون حبه، ورعايته، وكامل جوارحه معها، غيرها يحظى بذلك، من لا تربطه بها أي صلة. ابتلعت غصة كالعلقم في جوفها المشبع بمرارته، وعلقت بابتسامة باردة؛ كأنها تقطع وعدًا على نفسها:
, -وأنا هضيعهالك.
,
, حدق فيها بنظرات قاسية، فأكملت بنفس الابتسامة:
, -مش هسيبها تتهنى بلحظة معاك، هاخرب حياتها، وأسود عيشتها.
, هدر بها متسائلاً بأنفاس منفعلة، وهو يشير بيده لها:
, -إنتي بتعملي كده ليها فيها؟ إيه الشر والغل اللي جواكي ده؟
, ردت على الفور:
, -عشان بأحبك.
,
, احتج على تبريرها هاتفًا بصوته المحتد:
, -إنتي ما بتحبيش إلا نفسك! اللي بيحب عمره ما يأذي حد بالشكل ده..
, دنا من فراشها، ووقف قبالتها يرمقها بتلك النظرة النافرة، قبل أن يسألها بوضوحٍ:
, -بتكرهي "فيروزة" للدرجادي ليه؟
, تلفظه باسمها، بكل ذلك الاهتمام، زاد من احتراق أحشائها، فصرخت به باهتياجٍ:
, -ماتنطقش اسمها قصادي
, منحها نظرة أخرى مشمئزة وهو يضيف:
, -فعلاً، اسمها ماينفعش يتقال قصاد واحدة فيها كل الشر ده.
,
, ضحكت بهيسترية رغم الألم الشديد الذي ضرب بجسدها، امتزجت عبرات وجعها مع صوتها المتقطع وهي تقول بصعوبةٍ، وكأنها تحاول السيطرة على نوبة ضحكها الغريبة:
, -هي مشافتش لسه حاجة مني٣ نقطة
, وضعت يدها على بطنها، واستأنفت بضحكٍ مجلجل:
, -عارف يا حبيبي، أنا هعلق رقبتها على حبل المشنقة.
,
, تقدم خطوة أخرى من فراشها حتى التصق به، رفعه ذراعه على الحائط فوقها، وأسنده، ليميل عليها بجسده، أصبح صوته قريبًا، مهددًا، وأنفاسه تلفح بشرتها حين تعهد لها:
, -مش هايحصل طول ما أنا موجود يا بنت خالتي!
, مدت يدها لتداعب ذراعه العضلي بأناملها، رغم الوهن المسيطر عليها، وقالت في تحدٍ:
, -يبقى إنت متعرفنيش كويس.
, كالملسوع أبعد ذراعه عن لمساتها غير المقبولة، وقال بهجومٍ:
, -إنتي مش طبيعية.
,
, صاحت بحشرجة الألم:
, -أيوه، أنا مجنونة، وبأحبك، وبنت الـ (٣ نقطة) دي وقفت في طريق حبي ليك، وخطفتك مني.
, رد عليها بنفس النبرة الهجومية، ومدافعًا عن "فيروزة" باستماتةِ:
, -إنتي سامعة نفسك؟ احنا الاتنين مش في حساباتها أصلاً، أفعالك وقراراتك الغلط هي اللي خربت عليكي حياتك، مش هي٣ نقطة
, ثم اشتد صوته قساوة وهو ينهي حديثه العقيم معها:
, -وأنا هاطلعها من المصيبة دي بطريقتي.
,
, وضعت "خلود" قبضتها على ذراعه تشده منه ناحيتها، تفاجأ من حركتها المباغتة، التي لا تتناسب مع وضعها الصحي، غالبت آلام جسدها، واعتدلت في رقدتها لتصير أقرب منه، غرزت أظافرها في لحم ساعده، بكل ما فيها من غلٍ وحقد، ثم هدرت بأنفاسها في وجهه:
, -شوف يا "تميم" اللي تقتل ابنها بمزاجها، اعرف إنها مستعدية تقتل أي حد يبعد عنها حبيبها٣ نقطة
,
, اقشعر بدنه لاعترافها المثير، فأكملت بصوتٍ لا يبدو مازحًا على الإطلاق، ودون أن يرف لها جفن:
, -يعني حتى لو طلعت منها براءة، فأنا هاقتلها، اقسم ب**** هدبحها قصادك٣ نقطة!
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٢٦

بنظراتٍ حاقدة، نطقت عما تجيش به نفسها من بغضٍ شديد، معتبرة نفسها في مركز قوة، شحذت قواها، واستجمعتها معًا، بالرغم من الألم الذي يئن في أنحاء جسدها، أظهرت "خلود" الجانب المظلم في شخصها المريض، دون حاجتها لارتداء أقنعة الاضطهاد والخنوع، لاسترقاق قلب طليقها، وتسول مشاعره .. ركزت عينيها على ملامحه المصدومة، وأضافت بتلك النبرة المميتة، التي جعلت شعيرات ساعديه تنتفض فزعًا على حبيبة لا تعرف عن حبه الصادق شيئًا:
, -ومش هندم للحظة.. هي مش أغلى عندي من اللي كان في بطني!
,
, أكدت عليه جدية نيتها الوحشية وهي تكمل:
, -طول ما واقفة بينا يا "تميم"، ومنعاك ترجعلي، فأنا هاموتها.
, استفاق من غيبوبة عقله المؤقتة على الكارثة التي تخطط لها علنًا، وصرخ فيها باستنكارٍ:
, -إنتي بتقولي إيه؟ استحالة تكوني طبيعية!
, تجاهلت عصبيته، وأراحت ظهرها على الوســادة لتساومه بما يشبه الاختيار:
, -حياتها قصاد إننا نكون سوا، اختار يا معلم!!
,
, رأى "تميم" في وجهها استمتاعًا مريضًا بهوسها غير العقلاني بتملكه؛ وكأنها تسلبه حريته بتهديدها الشرس، وما أكد ذلك قولها المشدد:
, -اثبتلي إنك ليا وبس، بتاعي لوحدي، وإنك مش في بالها زي ما بتقول .. واتجوزني.
, رفض الخضوع لها، وهدر بها محتجًا، بعروقه التي انتفضت ثائرة في وجهها؛ معترضًا على تجبرها غير الطبيعي:
, -سامعة نفسك يا "خلود"؟
,
, ردت بابتسامة غريبة:
, -أيوه.. وعارفة أنا بأعمل إيه كويس٣ نقطة
, لم تبعد أنظارها عنه، وتابعت مشيرة بيدها:
, -إنت من حقي أنا لوحدي، أنا اللي أخلصت ليك في حبي، مفرقش معايا عمري يضيع واستنيتك تخرج، وتكون ليا ..
,
, سأم بنفورٍ انعكس على ملامحه المتجهمة، من تكرار نفس الأسطوانة المستهلكة على مسامعه، في أي وقت تسنح لها الظروف بهذا، وكأنها وحدها صاحبة الفضل في التكرم على شخصه، والموافقة على الزواج منه، وليس باتفاقٍ من الطرفين، قاطعها - قبل أن تستأنف نفس السيل من الكلمات العقيمة- متسائلاً بأنفاسه المنفعلة:
, -عايزاني أعيش معاكي إزاي بعد كل اللي حصل بينا؟
,
, ردت بهدوءٍ استفزه؛ وكأنها قد استحضرت الإجابة مسبقًا في عقلها:
, -سهلة أوي، انساه، ونبدأ من جديد، على مياه بيضاء.
, رمقها بتلك النظرة الحانقة، قبل أن يسألها بصوته المتشنج:
, -بالبساطة دي؟
, غاصت برأسها في الوسادة، وأرخت ذراعها إلى جانب جسدها، ثم ابتسمت قائلة له ببرودٍ تام، مناقض للغضب المستبد به:
, -إنت اللي عاوز تعقدها يا حبيبي، والحكاية مش عايزة ده كله، خد اللي بتحبك، وشارياك، ومستعدة تعمل أي حاجة عشان تكون جمبك٣ نقطة
,
, ثم اتسعت ابتسامتها، وأخبرته بتنهيدة:
, -احنا طول عمرنا لبعض، مش من النهاردة، لأ من زمان يا حبيبي.
, وصل النقاش معها لطريق مسدود، لن تقتنع مطلقًا بحقيقة انتهاء ما كان بينهما في يومٍ، ولم يكن ليقبل أبدًا بفرض ذلك الاختيار عليه؛ العودة إليها. تحكم بأعجوبة في أعصابه المنفلتة، ضبطها ليرد برسمية شديدة، ضاغطًا على كلماته؛ كأنه ينعتها:
, -عارفة يا بنت الـ٤ نقطة أصول.
,
, تطلعت إليه بابتسامتها السمجة، فأضــاف مهددًا:
, -لولا إنك بنت خالتي، وعامل حساب للي كان بينا في يوم، كنت عملت اللي ما يخطرش على بالك.
, رفعت ذراعها أعلى رأسها، وأراحتها فوقها، ثم بادلته تلك النظرة غير المبالية، قبل أن تجلي صوتها المتحشرج، لترد بعدها باستخفافٍ، متعمدة ازدراء تهديده:
, -طب عارف يا "تميم"، إنت بتاع كلام وبس٣ نقطة
,
, استشاطت نظراته من تعقيبها الفج، وأكملت مؤكدة على ما نطقت به:
, -أيوه، دي الحقيقة اللي الكل عارفها عنك، عمرك ما هتعمل حاجة تأذيني بيها، أقولك ليه؟
, انتظرت للحظة لتضمن استحواذها على كامل تركيزه، لتستكمل بعدها بأسلوبها المغتر الواثق، الذي يغيظه:
, -لأنك بتخاف على العيلة دي، وأنا يا حبيبي من العيلة، وكنت مراتك، وهارجعلك تاني، وبمزاجك.
,
, علق بتهكمٍ، وهو يحدجها بنظراته الحادة:
, -الظاهر البرشام عملك دماغ متكلفة..
, ضحكت ساخرة منه، وهزت رأسها بالنفي؛ لكنه أعلن صراحةً لها، بنبرة مختلفة كليًا عما اعتاد التحدث به:
, -شوفي يا بنت خالتي، يا اللي معتبرة سكوتي ده ضعف، وعشانك من العيلة، لو انطبقت السماء على الأرض مش هارجعلك!!
,
, ابتسم لها لثوانٍ معدودة ليبدو غير مبالٍ بما هددته به، ثم اختفت تلك الابتسامة كما ظهرت، وغطى وجهه تعبيرًا محذرًا، ليتوعدها بعدها مشيرًا بعينيه اللاتين غلفهما القسوة:
, -وفكري تقربي من الأبلة، ساعتها بس هاتشوفي وشي التاني، اللي عمرك ما تعرفي عنه حاجة.
, ببرودٍ سمج تحدته قائلة، وقد ارتخت نظراتها:
, -هترجعلي يا "تميم"، وبكرة أفكرك يا معلم.
, تحرك في اتجاه الباب، وأخبرها دون أن ينظر إليها، قبل أن يصفقه في وجهها بعنفٍ:
, -ابقي اتغطي كويس..
,
, انجرحت أحبالها بألمٍ، حين صاحت بأعلى صوتها، ليصله:
, -احنا لبعض يا "تميم"، إنت جوزي، وأنا مراتك، هنفضل مع بعض لحد ما نموت سوا.
, بدت غير طبيعية بالمرة، وصراخها يخترق الكتل الخشبية ليصله، اندفع متجهًا إلى المصعد رافضًا البقاء في مكانٍ واحد يجمعه بها، لا يمكن أن يعود أبدًا لما كان عليه من قبل معها، لن يستطيع إجبار نفسه على العيش معها؛ لكنه بقي أمام عقبة خطيرة، تهديدها غير المازح لطاووسه، فكيف سيحميها من شرها الخفي؟
,
, انزوى كلاهما بغرفتها المعزولة عن الخــارج، ليتحدثا سويًا، بعد أن تأزم الوضع، واتخذت المشاجرة العابرة، منحنًا قانونيًا، يستلزم حلاً فوريًا حاسمًا لإنهائه، قبل أن يتم تصعيده، أو يزداد تعقيدًا. سحبت "خلود" زوجها من ذراعه، ووقفت إلى جواره عند الشرفة، رمقته بتلك النظرة غير المتسامحة، وأخبرته بصوتٍ خافت؛ لكنه صارم:
, -زي ما أمك وقعتنا في الخيّة دي، تطلعنا منها.
,
, رد "هيثم" وهو يهز كتفيه، كتعبيرٍ ظاهري عن قلة حيلته:
, -وأنا بإيدي إيه ومعملتوش؟
, صاحت به بنبرة ارتفعت نسبيًا:
, -اتصرف.. وبعدين إنت أخوها، يعني المفروض ليك كلمة عليها.
, علق في تهكمٍ:
, -لأ مش مع دي، إنتي متعرفيش "خلود" كويس يا "هموسة"..
,
, ارتسمت بسمة هازئة على شفتيه وهو يختم جملته:
, -ده تلاقيها دلوقتي بتتعاون مع أمي على الإثم والعدوان.
, احتفظ وجهها بتكشيرته العظيمة، وهتفت به:
, -إنت هتهزر يا "هيثم"؟ أختي هتتسجن ظلم، وإنت فايق للتنكيت.
, ازدرد ريقه، وخفف من ابتسامته، ليرد بحذرٍ؛ وكأنه ينصحها:
, -إن شاء**** مش هتوصل لكده، وهيبقى ليها حل.
,
, ارتخت عضلات وجهها المتصلبة، حين قالت بحدية أقل:
, -يا ريت و****، لأن بجد حرام أوي اللي بيحصل في "فيروزة" ده كله، هي ماتستهلش كده.
, امتدت يد "هيثم" لتمسح على جانب ذراعها؛ وكأنه يداعبها، قبل أن يطلب منها بلطفٍ:
, -اهدي بس إنتي، أعصابك يا "هموس".
, نظرت لحركة يده، صعودًا وهبوطًا على طول ذراعها، ومنحته تلك النظرة الصارمة، لتوبخه بعدها بتحفظٍ شديد:
, -وده وقته، شيل إيدك!
, رفع كفيه في الهواء متراجعًا عن الاقتراب منها، فلم تكن في مزاجٍ جيد لتقبل مزاحه؛ لكن ابتسامته لم تفتر نحوها.
,
, على الجانب الآخر، جلجل صوت "فضل" المتزمت بين جدران غرفة الصالون، ليعلن عن سخطه الصريح تجاه ما حدث مع "فيروزة"، بل وأكثر من ذلك حملها المسئولية كاملة عن وقوعها في تلك المصيبة؛ وكأنها كانت تتصرف برعونة –ودون تفكير- لتزج بنفسها في المتاعب، بإرادتها الحرة. تحفز في جلسته، ولوح بذراعه في وجه أبيه متابعًا تذمره:
, -قولتلك يابا من الأول، أعدة الحريم لوحدهم بتجيب نصايب.
,
, رد عليه والده بزفيرٍ منزعج:
, -خلاص يا "فضل".
, تحولت نبرته لشيء آخر، يحمل الشدة، وأيضًا الإلزام، عندما أكمل حديثه، وعيناه موجهتان نحو زوجة عمه:
, -لازمًا ولابد يكون في راجل معاهم، والكلام ده نهائي.
, عاتبته "آمنة" قائلة بنظراتها الحزينة، ووجهها التعس:
, -مالوش لازمة تقول كده يا "فضل"، احنا طول عمرنا في حالنا، وماشيين جمب الحيط، لا حد سمع عنا حاجة، ولا بنعمل مشاكل مع خلق ****.
,
, سألها "فضل" بصوته المتعصب، وعرقه الغزير يتجمع عند جبينه، بسبب انفعاله المغتاظ:
, -أومال اللي حصل ده تسميه إيه؟
, ضغطت شفتيها قليلاً، قبل أن تجيبه:
, -النصيب..
, علق بأسلوبٍ متنمر، وشفتاه مقلوبتان:
, -كلام خايب!
, رد عليه "اسماعيل" بنفاذ صبر:
, -مش وقته يا ابني، عايزين نشوف هنعمل إيه..
,
, توقف ثلاثتهم عن الحديث، حين ولجت "همسة" إلى الغرفة، حاملة بين ذراعيها صينية بها عدة فناجين للقهوة، أسندتها على الطاولة التي تنتصف الأرائك، وتراجعت لتجلس في واحدة شاغرة، وعلى مقربة منها جلس "هيثم"، بعد أن انضم إليهم. ارتكزت أنظار "فضل" على وجه زوج ابنة عمه، رمقه بنظرة مغلولة، وصوت هدير أنفاسه شبه مسموع، ثم تشدق هاتفًا بنزقٍ، مستخدمًا يده في الإشارة نحوه:
, -ولما إنتو عيلة في قلب بعض، ومافيش مشاكل، ليه أخت الأفندي اللي متجوزاه "همسة" اتبلت على البت أختها؟
,
, شعرت "همسة" بإهانة واضحة تسيء لتوأمتها في كلامه عن شخصها، ناهيك عن تقليله من شأنها هي شخصيًا؛ وكأنها نكرة، فصاحت فيه تحذره:
, -أختي مش بت، ليها اسم تناديه بيه.
, تصلب في جلسته، وقست ملامحه إلى حد كبير، وهو يرد بنوعٍ من الهجوم:
, -إنتي هتعلي صوتك عليا؟
,
, قبض "هيثم" على كتف زوجته يمنعها من النطق، وانتفض واقفًا ليرد منذرًا إياه، بنفس أسلوبه العدائي:
, -إلزم حدودك! دي مراتي اللي بتفكر تغلط فيها، هي مش سايبة، ولا شغل فَتونة، هتقل أدبك عليها، هتلاقيني معَلم عليك في الناحية التانية من وشك.
, هتفت "آمنة" بحرقةٍ، وقد فاض بها الكيل من تلك المشاحنات الجانبية:
, -يا ناس كفاية خناق ومشاكل اللي يكرمكم، احنا كلنا هنا عشان نشوف حل للمصيبة اللي فيها بنتي.
, رفعت "همسة" ذراعها لتمسك بمعصم زوجها، جذبته منه ليجلس، وهي تقول له:
, -تعالى يا "هيثم".
,
, غمغم بتبرمٍ خافت، ونظراته الحانقة مسلطة على وجه "فضل":
, -قريبكم ده أعوذو ب****.
, ردت عليه بصوتها الهامس:
, -مكانش كده زمان، كانت أعدته حلوة، ودمه خفيف، والكل بيحبه، معرفش قلب كده ليه!
, التفت ناحيتها ليحدجها بنظرة مغتاظة غاضبة، وهو يرد من بين أسنانه المضغوطة:
, -نعم .. في إيه؟
, سألته بعدم فهم، بنفس النبرة الخفيضة:
, -إيه اللي في إيه؟
,
, احتدت نظراته نحوها، وأجابها متسائلاً بصوتٍ بدا محمومًا:
, -إنتي هتتغزلي فيه قصادي؟
, نفت على الفور سوء فهمه، لتصحح له:
, -لأ يا "هيثم" مقصدش، بس حساه بقى واحد تاني.
, جاء رده صارمًا بشأن تلك المسألة، وهو ينهرها:
, -لا تحسي ولا غيره، الكائن ده مايتحطش في أي جملة مفيدة ولا ضارة.
, هزت رأسها بقبولٍ، لترد بعدها:
, -حاضر.
,
, ثم تابع مخاطبًا إياها بصوته الهامس، وعيناه تتطلعان إليه:
, -ده تنح، ودمه واقف.
, تلقائيًا نظرت في اتجاه "فضل"، والذي تجشأ بصوتٍ خافت، بعد أن انتهى من تجرع زجاجة المياه الغازية، ليمسك بفنجان القهوة، وردت بنفورٍ انتشر على محياها:
, -معاك حق.
,
, انتهى عامل القهوة من رص أكواب الشاي الساخنة الجديدة، على الطاولة المربعة الموضوعة بين ثلاثتهم، ليجمع بعدها الأكواب الفارغة من أمامهم، وينسحب تاركًا إياهم يتناقشون في اهتمامٍ حول الموضوع الشائك، المطروح على الساحة، وعلى غير العادة، كان الجد "سلطان" متواجدًا في الدكان لوقتٍ متأخر؛ لكن الخطب جلل، وحتمًا سيحتاج حفيده لمشورته. لم يمد "تميم" يده ليمسك بكوبه، وتطلع إلى والده الذي سأله بتعابيرٍ جادة:
, -يعني مالهاش حل؟
,
, أجابه بوجومٍ شديد، وظهره محني قليلاً:
, -مش عارف، بس أنا استحالة أرجعلها.
, علق "بدير" في يأسٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****.
, أراح ابنه ظهره للخلف؛ لكن بقي كتفاه متهدلان، حين أضاف بحنقٍ:
, -الواحد إزاي كان مخدوع فيها كده، ده أنا بأفهمها وهي طايرة، أبقى غبي للدرجادي؟!!
,
, عقب عليه جده "سلطان" بنبرة عقلانية:
, -صوابعك مش زي بعضها، وزي ما في العيلة الكويس، فيها برضوه الوحش.
, التفت برأسه ناحيته ليرد بندمٍ لم يجاهد لإخفائه:
, -وكانت قدامي الفرصة أسيبها، ولا تظلمني ولا أظلمها.
, وفجــأة خاطبهما "بدير"؛ وكأنه تذكر ما غفل عنه:
, -احنا ناسيين حاجة مهمة يابا.
, تركزت الأعين عليه؛ لكن بادر "سلطان" بسؤاله:
, -إيه هي يا "بدير"؟
,
, أجاب مشيرًا بعينيه:
, -الكاميرات اللي ركبت.
, نظر له "تميم" بغرابةٍ، ولم يتفقه ذهنه إلى مقصده، بينما علق الجد مشاركًا في حواره:
, -صحيح، إنت كنت قولت هتجيب واد يركبهم.
, هز رأسه مؤكدًا، وقد لانت ملامحه:
, -أه وعملت ده فعلاً وقتها.
, ليقتل الفضول الذي يساوره، تساءل "تميم" على الفور:
, -كاميرات إيه اللي بتحكوا عنها دي؟
,
, بأريحيةٍ أجابه والده، دون أن ينتبه لكونه لم يأتِ على ذكر تلك الحادثة من قبل:
, -بعد السرقة إياها، كان اللواء معرفتي قالي أركب كاميرات للأمان في العمارة، وده عملته واحدة ناحية المنور، وواحدة عند المدخل، ما نشوف كده جايز تكون بينت حاجة.
, استنفر في جلسته، وتطلع إليه بنظراتٍ حادة، قوية، متسائلاً في ضيقٍ بائن على تقاسيم وجهه:
, -سرقة؟! إيه ده كمان؟ وإزاي أنا معرفش أي خبر بيها؟
,
, تدارك والده خطأه غير المقصود، لعق شفتيه، وقال متهربًا من إجابته:
, -مش وقته يا ابني.
, أصر عليه بعنادٍ، وكل الضيق يتجمع في عينيه الملتهبتين:
, -لأ يابا وقته، هو أنا قاعد كده معاكو زي الأطرش في الزفة ولا إيه؟
, رد عليه جده بهدوءٍ:
, -موضوع وعدى بقاله فترة، وخلصنا منه.
,
, استدار برأسه في اتجاه جده، وقال له بإلحاحٍ، رافضًا تمرير الأمر:
, -لازمًا يكون عندي عِلم بيه، مين اللي اتجرأ وفكر يخش البيت؟ وبعدين افرضوا كان الحرامي ده عمل حاجة فيكو ولا آ٤ نقطة
, قاطعه "بدير" موضحًا له:
, -ما هو مكانش حد غريب.. طيش عيال وراح لحاله.
, احتقنت عيناه بشدةٍ، وهتف في استنكارٍ:
, -كمان؟ يعني حد نعرفه؟
,
, لم يكن والده موفقًا في التطرق لذلك الموضوع تحديدًا، وبات مرغمًا بالحديث عن تفاصيله، فأردف طالبًا منه بملامح جادة:
, -أيوه، بس قبل ما أقولك مين هو اوعدني الأول ما تتهورش عليه، الموضوع ده كان اتحل وخلص من زمان.
, توزعت نظراته بين وجهي أبيه وجده، وقال في صدمةٍ غاضبة:
, -شكل الحكاية كانت كبيرة.
, رد عليه جده ملطفًا من حدة غضبه:
, -لأ مش أوي.
,
, بجملٍ مرتبة مختصرة، قصَّ عليه تفاصيل حادث السرقة، والذي وقع خلال ليلة عرسه، حيث قام "هيثم" بالتسلل خلسة للمنزل، عبر منور العمارة، وتسلق الشرفات غير المستخدمة، المطلة عليه، ليقتحم المكان من المطبخ، ومنه إلى الدرهة الطويلة، وصولاً إلى غرفة النوم، وسرقة الدرج العلوي الذي كان يحوي بعض النقود، ثم هروبه، واكتشاف السرقة، ومعرفة هويته بمساعدة غير رسمية من أحد رجال الشرطة. اِربد وجه "تميم" بالغضب الشديد، وهدر من بين شفتيه بانفعالٍ مغتاظٍ:
, -ابن الـ٣ نقطة، ويوم فرحي كمان!
,
, عقب عليه الجد محاولاً تهدئة انفعالاته الثائرة:
, -خلاص يا "تميم"، الواد تاب ومكررهاش تاني، وأبوك عمل معاه الصح.
, توعده بهسيسٍ:
, -وقعته سودة، بس أفوق من اللي أنا فيه ده.
, رد عليه "بدير" بضجرٍ ظاهر عليه:
, -هتخليني أندم إني قولتلك.
, قال له معاتبًا:
, -كان لازم أعرف بنصيبته دي من بدري يا حاج.
,
, سأله والده بتبرمٍ:
, -يا ابني الواد ماشي زي الألف، هنرجع نحاسبه تاني على القديم؟
, ضم شفتيه في غيظٍ، كان في موقفٍ مُحير، واستدار برأسه ليحدق في وجه "سلطان" الذي استطرد يقول لهما:
, -سيبكم من الهري ده، وخلونا نشوف الكاميرات، جايز نلاقي فيها اللي عايزينه.
, غمغم حفيده على مضضٍ:
, -ماشي.
, في حين أضــاف والده قائلاً:
, -هاجيب الواد اللي ركبهالي، ونشوف.
, زفر وهو يهز رأسه بإيماءات متتالية:
, -طيب.
,
, لم يكن مُحنكًا فيما يخص استخدام التكنولوجيا الحديثة، فقط معلومات عامة أولية، تمكنه من التعامل مع أجهزة المحمول المتطورة؛ لكن فيما يتعلق بالمستجد والمستحدث من الأدوات الالكترونية وتعقيداتها، لم يكن ملمًا بها، ولهذا –وبشكلٍ بديهي- لم ينتبه "تميم" للجهاز العجيب الموضوع على (الدرسوار) في صالة منزله، والذي يشبه تلفازًا صغيرًا، معتقدًا أنه أحد قطع الديكور، المُهداة ربما من زوجته أو شقيقته، خاصة مع تغطية والدته له بقماشٍ مطرز، لحمايته من الاتساخ، كعادة معظم الأمهات.
,
, كان المنزل خاليًا من والدته، وبالتالي كانت المهمة بسيطة، لا أسئلة، ولا استفسارات فضولية تحتاج لتبرير. جلس الشاب المختص بتركيب الكاميرات وتفريغها على مائدة الطعام، موصلاً حاسوبه الشخصي، بالجهاز الآخر، تطلع "تميم" إلى شاشة الحاسوب المحمول، وحملق فيها مراقبًا ما يفعله بحيرةٍ، ما استطاع أن يفهمه من ثرثرته المملة، طوال عمله المتلكع، أن الذاكرة المستخدمة في تسجيل ما يدور، تمحو تلقائيًا ما يُوجد عليها، بعد وصولها لعدد معين من الساعات، وامتلائها، لتبدأ عملها من جديد، وسعة تلك الذاكرة يجعلها تستغرق ما يقرب من الأسبوع.
,
, تنفس الصعداء، فهناك احتمالية كبرى لتسجيل الشجار، ارتكزت كامل حواسه على تفريغ الأشرطة، وكانت المفاجأة، من الزاوية العالية الموضوعة بها الكاميرا، حين رأى "خلود" تبعد مسافة خطوتين عن "فيروزة"، ولا تمكن الأخيرة بأي حالٍ من الوصول إليها، ودفعها، كما أظهرت انزلاق قدم الأخيرة بميلها الزائد للخلف، دون أن تلمسها يد. رفع أنظاره نحو والده وجده اللذين كانا يراقبان الشاشة مثله، نطق والده أولاً؛ وكأنه يحاول الكشف عن نواياه:
, -هتعمل إيه يا ابني؟
,
, أجابه "تميم" مبتسمًا بثقةٍ وبكلمة موجزة:
, -الصح..
, ثم وجه حديثه للشاب بما يشبه الأمر:
, -حطلي الفيديوهات دي على فلاشة.
, هز الشاب رأسه طواعية وهو يرد:
, -ماشي يا معلم.
, رفع "تميم" رأسه في اتجاه والده، حين طلب منه والده بهدوءٍ جاد:
, -تعالى يا ابني، عايزك في كلمة.
, انصرف معه بعيدًا عن الشاب، لكون الموضوع حرجًا، وخاصًا، استطرد "بدير" يحذره بلهجة جادة:
, -خالتك مش هتعدي ده على خير.
,
, وقبل أن يعلق عليه، رد "سلطان" الذي تبعهما بحسمٍ:
, -بنتها السبب، تستحمل بقى غلطها.
, قال له "بدير" بتوجسٍ:
, -الموضوع كده هياخد سكة تانية خالص يا حاج، بوليس ونيابة، وجايز محكمة، و"بثينة" دماغها شيطان.
, تنحنح مرددًا بتريثٍ:
, -هنحاول نلمه.. وبالعقل.
, هتف "تميم" بنبرة عازمة، وعيناه تلمعان بوميضٍ غريب؛ لكنه مشرق، وممتلئ بالحماس:
, -هنشوف حكايتها بعدين، المهم دلوقتي الغلبانة اللي اتظلمت بسببها، وكانت هتضيع من غير ذنب.
,
, ساعاتٍ مكثها أمام القسم الشرطي، منتظرًا قدوم الضابط المسئول عن التحقيق في البلاغ المقدم ضد "فيروزة"، وبصحبة محاميه، من أجل تقديم دليل براءتها؛ وإن كان يعني ذلك نشوب مشكلات عائلية لاحقة، لتوريطه طليقته السابقة في مسائل قانونية، تخص تقديم البلاغ الكاذب وتبعاته، وربما لجوء الأولى لرفع قضايا ثأر شخصية، لرد الاعتبار. لم يكترث لكل ذلك، المهم حاليًا أن يوفي بوعده الذي قطعه لها، وما إن التقاه الضابط "محمود" حتى أعطاه (الفلاشة) على عجالةٍ، ليقول له موضحًا:
, -دي نسخة يا باشا، وتقدر تشوف الأصل من الكاميرات عندنا.
,
, تفحصها الضابط بأصابعه، قبل أن يضعها في المكان المخصص لها، ليوصلها بجهازه، ثم قام بتشغيل محتوياتها، وتابع ما تعرضه التسجيلات باهتمامٍ، ليهز بعدها رأسه في استحسان، أوقف تشغيل ما يُعرض، والتفت إلى "تميم" ليسأله بنوعٍ من الفضول:
, -بس مش غريبة إنك بنفسك جاي تعمل كده؟ والموضوع كله يخص مراتك؟
, صحح له بنظرات نافذة، وتلك البسمة الخفيفة تتشكل على زاوية فمه:
, -طليقتي يا باشا، وماينفعش أسكت عن الحق.
,
, مط ثغره في إعجابٍ للحظةٍ، ثم قال:
, -تمام.
, تساءل "تميم" في تلهفٍ متحمس، ونظراته تتجول على وجه الضابط، ومحاميه:
, -إيه اللي هيتعمل بعد كده؟
, هنا أخبره المحامي بهدوءٍ:
, -متقلقش يا معلم "تميم"، ولا تشغل بالك، الإجراءات معروفة، وأنا هتابع بنفسي كل حاجة، وهتأكد إن الأستاذة "فيروزة" معدتش طرف في أي حاجة.
,
, تحولت أنظار "تميم" نحو الضابط "محمود" الذي أضاف عليه بابتسامة متكلفة، وهو يسحب فاتحة الأظرف من غمدها ليعبث بها، كلازمةٍ معتادة منه:
, -زي ما المحامي قالك.. اطمن.
, نهض واقفًا، ومد يده لمصافحته، وهو يشكره بامتنانٍ:
, -متشكرين يا باشا.
,
, تراجع "محمود" في مقعده، وأراح ظهره معلقًا بقليلٍ من السخرية:
, -أنا معملتش حاجة، بالعكس إنت اشتغلت شغل الداخلية!
, منحه "تميم" ابتسامة صغيرة صامتة؛ لكن صوته الداخلي انطلق في جنباته، وعقله يجسد ملامح وجهها في مخيلته:
, -طالما ليها، أنا مستعد أشتغل أي حاجة.
,
, انتصفت الشمس في كبد السماء، ولم تمنع الستائر الخفيفة أشعتها من اختراق الزجاج لتملأ الأرضية بها، وطيف وجهه المتلهف خوفًا عليها، يحتل المساحة الخالية على البلاط اللامع. باعدت "فيروزة" نظراتها الشاردة عن وهم صورته، لتحدق في وجه الضابط "محمود" الذي جاء إليها خصيصًا، ليخبرها بالتطور الجديد في البلاغ المقدم ضدها، وكيف انتهى بأعجوبة لصالحها. لم ترمش بعينيها رغم صدمتها من تصرف "تميم"، فلم يخطر على بالها مطلقًا، أن يبذل قصارى جهده -وأزيد- لأجلها، بدا الأمر محيرًا وموترًا، ملبكًا إن دق التعبير، توقفت عن شرودها، محافظة على جمود ملامحها، لتسأله بلهجة هادئة:
, -يعني أقدر أمشي من هنا؟
,
, أجابها ببساطة:
, -أيوه طبعًا، إنتي حرة تتحركي، وكمان الأمن اللي واقف برا خلاص مالوش لازمة.
, هزة خفيفة من رأسها صاحبها ردها المختصر:
, -كويس.
, وقبل أن ينصرف "محمود" من الغرفة، أشار لها بسببته مرددًا:
, -حاجة أخيرة بس محيراني.
, نظرت له بحاجبين معقودين، وهي ترد:
, -إيه هي؟
, أمسك بقبضته حافة فراشها المعدني، وأجاب:
, -إنتي مزعلة مين عشان يوصي عليكي بالشكل الغريب ده، رغم إنه محضر عادي، لسه قيد التحري؟!
,
, زادت تعبيراتها تعقيدًا، وهتفت:
, -مش فاهمة!!
, بسّط لها سؤاله المحير قائلاً:
, -يعني في حد حاطك في دماغه، وحد مش سهل كمان!
, سكتت للحظاتٍ تدير الأمر، وتفكر فيه مليًا في عقلها، بلعت ريقها في حلقها الجاف، وسألته بحيرة ملموسة في صوتها:
, -وأنا المفروض أقلق ولا أعمل إيه؟
, رد بدبلوماسية:
, -خدي بالك وخلاص ..
,
, ثم ابتسم منهيًا حديثه معها بقوله:
, -وحمدلله على سلامتك مرة تانية.
, قوست شفتيها قليلاً لتظهر ابتسامة باهتة عليهما وهي ترد:
, -**** يسلمك.
, شيعته بنظراتها إلى أن خرج من الغرفة، لتستغرق في أفكارها الحائرة مجددًا، وبشكلٍ أعمق، سؤالاً واحدًا ظل يلح عليها:
, -مين ده اللي عايز يأذيني؟!
, لكن أفعــال "تميم" وشهامته الزائدة معها، عادت لتطفو على السطح، وتلهيها عن التفكير مؤقتًا في أي شيء .. سواه!
,
, لم يمر الكثير بعد على زيارة الضابط "محمود"، لتأتي إليها "علا"، حاملة بطول ذراعها لباقة من الورد الطبيعي الأبيض، أسندته على طرف الفراش، وجلست إلى جوارها ماسحة بيدها على كفها، نظرت نحوها، وابتسمت قائلة في لطفٍ:
, -حبيبتي.. قلبي عندك.
,
, وقبل أن تخبرها "فيروزة" بشيء، تجمدت الكلمات على طرف لسانها، بسبب رؤيتها لـ "آسر" الذي انضم إليهما، وفي يده علبة شيكولاته فاخرة، وضعها على الطاولة، واستقر في المقعد متسائلاً في اهتمامٍ مبالغ فيه:
, -عاملة إيه دلوقتي؟
, أجابت على مضضٍ، وبضيقٍ لم تسعَ لتغطيته:
, -الحمد****.
,
, أشــار بعينيه نحو باب الغرفة المفتوح، وعلق متسائلاً:
, -بس مش غريبة إننا ملقناش حد من الأمن برا؟ يعني على حسب ما عرفت كانوا مانعين الزيارة وآ٣ نقطة
, قاطعته بجدية بحتة، وعيناها تحدجاه بنظرة غامضة:
, -ما هو الأخبار الحلوة مابتوصلش زي الوحشة.
, سألتها "علا" مستفهمة، ووجهها يعلوه ذلك التعبير الحائر:
, -يعني إيه؟
,
, التفتت برأسها نحوها، وأجابت على مهلٍ، بدون التطرق لأي تفاصيل:
, -المشكلة اتحلت، كان في سوء تفاهم..
, ثم استدارت في اتجاه "آسر"، وأكملت:
, -ومكانش في داعي تتعبوا نفسكم.
, ردت عليها "علا" بعتابٍ رقيق:
, -إزاي تقولي كده؟ أنا و**** اتجننت لما عرفت من "ماهر" باللي حصل، وبعدين تتصلي بأخويا وماتكلمنيش أنا؟
,
, تنحنحت بخفوتٍ، وابتسمت وهي تجاوبها:
, -محبتش أقلقك، على أساس إن ساعتها مكونتش عارفة أتصرف إزاي، وهو بيفهم في الحاجات دي، بس الحمد****، كله بقى تمام.
, تحركت أنظارهما في اتجاه الباب، عندما بادر "آسر" مرحبًا بأحدهم بودٍ شديد:
, -جاي بنفسك يا "وجدي"؟ إيه الصدف الحلوة دي؟
,
, تحرجت "فيروزة" من كثرة الزيارات الذكورية، والتي لا طائل منها سوى إرهاقها، وتقييد حريتها، بالطبع رسمت تلك الابتسامة السخيفة على محياها، وهي تشكره على قدومه، ولم تسلم من بعض النصائح الوجوبية منه، بضرورة تجنب كافة أنواع الشجارات والمشاكل، والتي تنتهي بتواجدها في قسم الشرطة. قبل أن ينصرف، تساءل "وجدي" مُخاطبًا "علا":
, -لو خلصتي أخدك في سكتي، أنا رايح ناحية بيتكم.
,
, التفتت تلقائيًا ناظرة إلى "آسر"، كان التردد واضحًا عليها؛ لكن تلك النظرة الغامضة من الأخير، منحتها الجواب الحاسم، بالذهاب معه، وتركه بمفرده مع "فيروزة"، عبثت بحقيبتها، وردت بابتسامتها المشرقة:
, -أوكي.. أنا مش عايزة أتعب "فيرو"، هي أكيد محتاجة ترتاح.
, ثم نهضت لتحتضنها، وودعت "آسر" قائلة له؛ وكأنها توصيه:
, -خد بالك منها
, رد بابتسامة عريضة:
, -في عينيا، متخافيش عليها.
,
, كانت حيلة مكشوفة، ومفهومة لها، ظلت محافظة على هدوئها، ورفيقتها تلوح لها بيدها لتنسحب مع "وجدي"، حاولت "فيروزة" ألا تحدق في اتجاه زائرها الأخير، ضغطت على أصابعها في توترٍ، حيث أن تواجده معها في الغرفة، بمفردهما، لم يكن من الصواب، اختفت ابتسامتها الباهتة، وطلبت منه، بتحفظٍ:
, -تقدر تمشي يا أستاذ "آسر"، أنا بقيت كويسة، وكمان عشان معطلكش.
,
, ارتبكت، وكسا وجهها الشاحب القليل من الحمرة، حين وجدته ينهض من مكانه ليقرب مقعده من فراشه، تقريبًا ألصقه به، ورد في عتابٍ محب، ورأسه ينحني في اتجاهها:
, -أستاذ وتعطليني؟ ينفع كده يا "فيروزة"؟
, رمقته بنظرة صارمة وهي تطلب منه:
, -لو سمحت ممكن تبعد شوية؟ كده أي حد ممكن يفكر إن بينا حاجة، وأنا مش عايزة شوشرة..
,
, بامتعاضٍ منزعج قال لها:
, -حاضر.. طالما ده اللي عايزاه.
, تراجع بمقعده خطوتين للخلف؛ لكنه أبقى انحناءة ظهره نحوها، واستأنف حديثه معها قائلاً بأسلوبه الناعم:
, -أنا مش فاهم إزاي يعملوا كده مع واحدة محترمة زيك؟
,
, كانت غير رائقة المزاج لتبادله الحديث، يكفيها ما مرت به، ليعيد تذكيرها بالتفاصيل البغيضة إلى نفسها، اشتدت تعبيراتها، وحملقت ناحيته باستغرابٍ، وقد هتف عاليًا:
, -أنا استحالة أسكت عن المهزلة دي؟ هو كل حد يقول كلمتين خلاص يصدقوه ويجرجروه على الأقسام؟ البلد دي فيها قانون، وإجراءات رسمية لازم تتعمل قبل ما حتى يفكروا يقبضوا عليكي.
,
, علقت في هدوء:
, -الموضوع اتحل، فمالوش لازمة نتكلم فيه.
, أسبل عينيه نحوها يُخبرها بكلماتٍ بطيئة:
, -لأ ليه لازمة، إنتي غالية عندي أوي، حتى لو مافيش نصيب بينا ..
, أحنت رأسها على صدرها حرجًا منه، لم تحبذ تطرقه لتلك الجزئية، المصحوبة بذكريات مذلة، تزيد من إحساسها بالخذلان، ابتسم "آسر" وهو يعاتبها:
, -وبعدين ينفع أعرف من برا، ومش منك؟ ده لولا "علا" كلمتني تستنجد بيا، مكونتش هعرف باللي حصلك!
,
, ضغطت على شفتيها قبل أن تحررها لتعلق عليه:
, -أستاذ "آسر"، أنا آ٤ نقطة
, امتدت يده لتمسك بكفها، انتفضت في ارتباكٍ حرج، ورمقته بنظرة حادة، كانت على وشك جذب يدها من أصابعه القابضة عليها؛ لكنه رفض تركها تتملص منه، واعترف لها، وعيناه تسبحان في نظرات عينيها:
, -أنا بأحبك يا "فيروزة"!
,
, لم تتوقع بوحه بمشاعره، رغم صدها له بكل الطرق الممكنة؛ ولكن هز الغرفة صوتًا رجوليًا غاضبًا، يتهمها بوقاحةٍ، عرفت صاحبه الفظ على الفور، دون الحاجة للنظر في وجهه المقيت:
, -إيه جو الغراميات ده؟ إنتي عاملة فيها عيانة ولا مقضيها مسخرة وقلة أدب هنا؟٣ علامة التعجب
, استعادت "فيروزة" يدها، وهتفت محتجة على اتهام "فضل" المسيء لها:
, -ماسمحلكش..
,
, في حين انتفض "آسر" من مكانه ليحدجه بنظرات معادية، وحذره بشدةٍ:
, -إنت مين يا كابتن؟ وإزاي تدخل علينا الأوضة كده؟
, قست ملامح "فضل"، وزجره بسبابٍ حاد، قاصدًا التشاجر معه، وبكراهيةٍ واضحة اندفعت من عينيه:
, -أنا ابن عمها يا (٣ نقطة)!
,
, استشاط "آسر" على الأخير من إهانته الوقحة له، وأمام من؟ من يعدها خطيبته؛ كان شيئًا يمس هيبته، وإن كانت رجولته منقوصة؛ لكنه لن يقبل أبدًا بالتحقير من شأنه، بينما رمقته "فيروزة" بتلك النظرة الساخطة الاحتقارية، فمجيئه كما عهدت منه –مؤخرًا- كان مصحوبًا بنوايا غير بريئة نحوها، لن تسلم منها، ولن تقوى على مجابهتها، نظراته الاتهامية نحوها أكدت لها ذلك، سيحطم ما تبقى منها بمزاعمه المهلكة لروحها التي ما زالت تتعافى .. وقبل أن يزيد الطين بلة، صرخت فيه لتوقفه، بما لم تتخيل أنها سترتضي به:
, -ملكش دعوة بخطيبي!
,
, تصريح مفاجئ وصادم، خرج من داخل الغرفة، ليرن صداه بقوة في الردهة، فهز بقساوته الجارحة، بدن ذاك القادم من على بعد، ليشعر "تميم" فجأة بخفقة قابضة اعتصرت بشراسة لا ترحم صدره، فجعلت مباهج الدنيا تختفي كليًا، وحلت تعاسة أبدية في عينيه، انسحب هاربًا، وعبراته تختنق في حدقتيه، كانت حالته أشبه بمن فقد عزيز لديه، هبط الدرجات سريعًا، وقد أدرك الحقيقة المريرة، أن ما ظنه حبًا ينمو بين ضلوعه، اُغتيل بغتةً في مهده، ولا عزاء إلا لنفسه٣ نقطة!
 
٢٧
لحظة فارقة، لم تظن أنها ستحدث هكذا، حيث اختارت فيها الهروب مما يطاردها، ولإسكات لسانه الشرير الذي ينهش في سمعتها، بتهمه المجحفة، والتي لا تتوقف أبدًا عن النيل منها، لجأت لآخر الحلول المستبعدة عنها، إلى ذاك الذي زج بها منذ البداية في مستنقع الآلام، ليكون الخلاص لها منه؛ وإن كان يعني هذا إلقاء نفسها، في مجهول محفوف بالمفاجآت الصادمة لها؛ لكنها لن تُعايش مثل تلك التجربة المذلة مجددًا بسبب أكاذيبه المُضلة. رمقته "فيروزة" بتلك النظرة النارية الناقمة عليه، وأكدت له بصراخها:
,
, -إنت ملكش دعوة بأي حاجة تخصني من هنا ورايح.
, وبكل وقاحةٍ علق عليها "فضل"، والشرر يتطاير من حدقتيه:
, -ولما هو كان عاجبك من الأول، رفضتيه ليه؟!
, هدرت به بانفعالٍ:
, -وإنت مالك؟
,
, تابع "آسر" بنظرات فضولية، واهتمامٍ لا بأس به، حدة الأجواء بينهما، وفَطن لوجود رواسب خلاف سابق، ما تزال عالقة، وقد راقه الأمر كثيرًا، ففي الأخير هو يصب في مصلحته، لهذا استغل الفرصة، وهتف بنوعٍ من الجراءة التي تُغاير طبيعته الهروبية:
, -اهدي يا حبيبتي، لو البني آدم ده مضايقك فأنا جاهز أربيه
, زجره "فضل" قائلاً بنوعٍ من الازدراء، وهو يرمقه بتلك النظرة الدونية بعد أن تحولت عيناه إليه:
, -اركن على جمبك ..
,
, تقدم "آسر" نحوه، ورد بتحدٍ، وهو يلوح له بذراعه:
, -إنت بتكلم إزاي بالأسلوب ده معايا؟ إنت عارف أنا ممكن أعمل فيك إيه؟
, بادله "فضل" سبة مهينة لإحراجه، وتحرك صوبه ليهمّ بضربه، مما دفع "فيروزة للتدخل فورًا، وإيقاف تلك المهازل المخجلة بصراخها العنيف:
, -بس بقى، كفاية فضايح.
, على إثر صوتها جاءت "همسة" ركضًا من الخارج، متسائلة في جزعٍ:
, -في إيه اللي بيحصل هنا؟
, ردت عليها "فيروزة" بصوتها الصارخ، وتعبيراتها المهتاجة:
, -تعبت بقى، سيبوني في حالي.
,
, تبع "هيثم" زوجته، ومن خلفه ظهرت "آمنة"، ارتكزت نظرات الأول على وجه "فضل"، متعجبًا من وجوده، فقد تحجج الأخير بحاجته لشراء بعض الأشياء قبيل ذهابهم، وسيلحق بهم في المشفى فيما بعد، وها هو الآن متواجد بغرفة "فيروزة"، لم يسترح لحضوره، استراب من تصرفاته غير المفهومة، اتجهت أنظاره نحو "آسر"، واستنكر وجوده أيضًا، ثم تساءل بوجه متجهم:
, -دول بيعملوا إيه هنا؟
,
, حرك "هيثم" رأسه في اتجاه "فيروزة" التي واصلت صراخها:
, -كله يطلع برا، مشوهم من هنا، مش عايزة أتكلم مع حد.
, ردت عليها "همسة"، وهي تمسك بها من ذراعها لتهدئها:
, -حاضر يا "فيرو"، هنعمل كل اللي إنتي عايزاه.
, وانضمت إليها والدتها لتحتوي غضبها الغريب، بينما أشــار "هيثم" بذراعه للاثنين ليطردهما:
, -يالا يا كابتن، سمعتوها، بالسلامة من هنا.
,
, بسماجةٍ سخيفة، تنحنح "آسر" قائلاً، وعيناه تتطلعان إلى "فيروزة":
, -خلاص يا حبيبتي، هنتكلم تاني، نظبط فيه كل حاجة.
, وصــل إليه "هيثم" ودفعه نحو الخارج، بعد أن طرد "فضل" الذي كان يحترق غيظًا بالخارج، ثم صفق الباب في وجهيهما، وانزوى عند الركن يتابع بصمت، حالة تلك البائسة التي كانت تقريبًا في وضع انهيار.
,
, أين المفر من حبٍ حُكم عليه بالنهاية قبل أن يبدأ حتى؟ لذا كان كل ما سرقه، وفي غفلة منها، نظرة أخيرة لملامح وجهها المتشنج، وهي تنطق باعترافها المُهلك، لينسحب سريعًا بعدها، وصوت "آسر" يلازمه في عقله، ليؤكد له موافقتها الواضحة على خطبته، وأنها تنتمي إليه. "فيروزة"! اسم حُرم من تداوله بين شفتيه، وإن كان قد مُنح فرصًا لينطق به أمامها وبعيدًا عنها؛ لكنه بات محرمًا عليه كليًا من الآن فصاعدًا. وفي جانب هادئ تمامًا، في نهاية طريق الكورنيش الموازي للشاطئ، أوقف "تميم" سيارته، ليستند بظهره على مقدمتها، ويحدق بعينين تحتجزان العبرات الحزينة الرقراقة، وقلب محطم في زرقة المياه القاتمة.
,
, كانت المرة الأخيرة التي يسمح فيها لنفسه بالظهور بهذا الضعف، فكما أجاد إدعاء جهله بسرقة "هيثم" أمام أبيه وجده، متقنًا دوره ببراعة، بينما كانت والدته قد أطلعته سابقًا على تفاصيل السرقة، سيفعل ذلك مجددًا، سيدرب نفسه، ويطوعها أكثر، ليجيد إخفاء مشاعره المهزومة؛ وكأنه جماد، بلا قلب نبض مرة لأجل الحب. مسح عبراته التي تسللت خارجة من طرفيه، بظهر كفه، وتحدث إلى نفسه قائلاً؛ وكأنه يحفزها:
, -أيوه، إنت هاتقدر تنساها يا "تميم"، زيها زي أي حاجة كان نفسك فيها وراحت، مش نهاية الدنيا.
,
, غلف نبرته حزنًا غير مستتر، وهو يكمل إفراجه عن مكنونات نفسه لنفسه:
, -بس هي مش زي أي حد..
, أطبق على جفنيه بقوة، وهمس بحرقةٍ:
, -هي "فيروزة" واحدة وبس!
, عند نطقه باسمها رغمًا عنه، أجهش بالبكاء، وقد فقد قدرته على ضبط انفعالاته، ببساطة خرجت مشاعره عن السيطرة، واستسلم لمرةٍ أكد لنفسه مرارًا وتكرارًا أنها ستكون الأخيرة، بإظهار جرحه المعنوي، باكيًا حبًا يجهل عنه العالم بأسره .. فيما عدا قلبه!
,
, غيابه كان مريبا حد الشك، وهي بمفردها مع أبنائه في البلدة، بعيدة كل البعد عن أجواء الصراع المحتدمة في المدينة، أكلها فضولها وحثها على الذهاب؛ لكنها لم تكن لتتحمل أعباء ومشاق السفر بمفردها، ما نما إلى مسامعها من تطورات مثيرة حفزها على العودة، تبقى لها فقط إعلام زوجها، وسحب القطيع خلفها .. كعادته في تجاهل الرد على اتصالاتها المتعاقبة التي تلاحقه، خاصة حين يكون في ذروة عمله، يئست "حمدية" من الوصول إليه، لولا سماعها لأنفاس لاهثة، قبل أن تضغط على زر إنهاء الاتصــال، تبعها سؤال طفولي لصغيرة ما:
, -ألو، مين معايا؟
,
, اعتدلت في جلستها بشرفة منزلها المطلة على الأرض الزراعية، وتساءلت بوجهٍ تبدلت ملامحه للجدية التامة:
, -مش ده تليفون "خليل"؟
, أجابت الصغيرة بتلقائيةٍ:
, -أيوه..
, سألتها بشكلٍ آلي، وعقلها مشحونٍ تقريبًا، بالتفكير الاستنباطي، في ماهية تلك الطفلة التي أجابت عليها:
, -هو فين؟
, ردت باقتضابٍ:
, -هناديه ..
, أرهفت "حمدية" السمع جيدًا للطرف الآخر، وبدا لها أنها تسمع أنفاسٍ لاهثة لتلك الصغيرة التي تركض تقريبًا، ثم جاء صوتها مناديًا بعفوية واضحة:
, -بابا! يا بابا!
,
, انقبض قلبها بقوةٍ، وشعرت بضيقٍ يجثم على صدرها، تمالكت أعصابها، وكتمت أنفاسها الشاهقة بيدها لتبدو هادئة كليًا، أتاها صوت زوجها واضحًا وهو يتساءل:
, -في إيه يا "كوكي"؟
, جاوبته بتمهلٍ:
, -حد بيتصل بيك.
, تصلب جسد "حمدية"، وبدت تعبيراتها غائمة، وزوجها يجيب على الهاتف:
, -ألو، مين؟
, ردت عليه بوجومٍ شديد:
, -إنت فين يا "خليل"؟ ومين دي اللي ردت عليا؟
, استطاعت أن تتبين الارتباك في صوته المهتز، حين ادعى كذبًا:
, -ده أنا.. على القهوة، مع صاحبي و.. آ..دي بنته كانت بتلعب في الموبايل وآ٣ نقطة
,
, قاطعته متسائلة بقتامةٍ:
, -جاي امتى؟
, هتف دون تفكيرٍ:
, -على طول يا حبيبتي، ده أنا خلصت الشغل كله، وكنت هفاجئك وأرجع النهاردة..
, ولسوء حظه هللت "سماح" تناديه:
, -يا "خليل"! السفرة جاهزة، تعالى قبل ما الأكل يبرد.
,
, لم تكذب "حمدية" أذنيها، كان النداء واضحًا، ويخص زوجها، وما تبعه من كلام يشير لوجود ما يخفيه عنها، غلت الدماء في شرايينها، وتصاعدت إلى رأسها لتزيد من حنقها، بالكاد كظمت غضبها وهو يهتف موضحًا بكذب:
, -مرات صاحبي عازمنا على الأكل، وأنا مش عارف أخلع منهم.
, ردت تسأله مباشرة لتكشف كذبه الواهي:
, -هو إنت على القهوة؟ ولا عند مرات صاحبك؟
,
, تلجلج وهو يقول:
, -ده احنا كنا في القهوة تحت بيت صاحبي، ومراته بتنادي علينا نطلع.
, علقت عليه باستنكارٍ، ونظراتها تقدح بالشر:
, -وواخدة عليك أوي؟ بتقولك يا "خليل" كده حاف؟
, تنحنح وهو يبرر لها:
, -دي أد أمي .. وأنا ما بأردش..
, ثم أخفض صوته ليتغزل بها:
, -ولا إنتي بتغيري يا "أم العيال"؟ ده إنتي اللي في القلب.
,
, أنهت معه المكالمة قائلة بغموضٍ، تأكدت أنه سيربك كافة حساباته:
, -تعالالي على البلد على طول يا "خليل"، هنتكلم لما تيجي.
, لم تمهله الفرصــة للرد، وأغلقت الاتصــال، وشكوكها الأنثوية تتزايد بداخلها، قبضت على أصابعها المحتوية للهاتف، وضغطت عليهم بشدة، حتى ابيضت مفاصلها، لتغمغم لنفسها بتوعدٍ بعدها:
, -أه لو طلعت متجوز عليا، ولا بتلعب بديلك من ورايا يا "خليل"، ساعتها بس هتعرف مين هي "حمدية"٦ علامة التعجب
,
, في الناحية الأخرى، انسابت ساقي "خليل"، وشعر بانخفاض ضغط دمه، تهاوى جالسًا على الأريكة الموضوعة بجوار النافذة، اختفى التورد من وجهه، وتحول للشحوب والارتعاب، كان حرفيًا يرتجف، يداه تهتزان بتوترٍ رهيب. تطلعت إليه "سماح" باندهاشٍ، وسألته:
, -مالك يا راجل في إيه؟ مش على بعضك كده ليه؟
, أجابها بغموضٍ، وبصوتٍ متذبذب:
, -نصيبة يا "سماح"، وحلت على دماغي!
,
, قطبت جبينها متسائلة:
, -نصيبة إيه دي؟
, لعق شفتيه، وأجابها بأنفاسٍ مضطربة:
, -"حــ.. حمدية" اتصلت.
, ردت ببرود:
, -ما تتصل، فيها إيه؟
, انخفضت نظراته نحو هاتفه، الذي سقط من يده إلى جواره، وقال بتوجسٍ:
, -هي اللي كانت على الخط، وسمعتك إنتي والبت!
,
, لطمت على صدرها في صدمةٍ، ورمشت بعينيها متسائلة:
, -يا لهوي، طب والعمل؟ تفتكر إنها شكت فيك؟
, رد بتشتتٍ:
, -مش عارف ٣ نقطة
, استجمع نفسه، ونهض من مكانه بقدمين مرتعشتين، ثم أكمل عازمًا، بتوتره البادي عليه، وبؤبؤاه يتحركان بقلقٍ كبير:
, -بس أنا لازمًا امشي دلوقتي من هنا، وأرجع البلد..
,
, سألته "سماح" بعبوسٍ:
, -طب والأكل؟
, أجابها وهو يهرع متجهًا نحو غرفة النوم:
, -كليه إنتي!
, زمت "سماح" شفتيها في سخطٍ، وحركتهما للجانبين، قبل أن تدمدم بتذمرٍ، وهي رافعة ليديها في السماء:
, -منك لله يا "حمدية"، دايمًا معكننة كده عليا!
,
, مكثت في غرفتها وحيدة، منعزلة عن البقية، بعد أن خرجت من المشفى، وعادت إلى منزلها، رافضة النقاش مع أي أحد في قرارها الأخير، كانت بحاجة لمساحة خاصة، تجعلها تفكر برويةٍ، وبعمقٍ، فما حاربت لعدم حدوثه، أعلنت عن رغبتها في تنفيذه! دقت "همسة" الباب على توأمتها قبل أن تفتحه، وتلج للداخل، وهي حاملة لصحن صغير بيدها، ابتسمت تشجعها على تناول ما به:
, -شوية شوربة بمكرونة لسان عصفور حكاية.
,
, استلقت "فيروزة" على جانبها، ورفضت قائلة:
, -ماليش نفس
, أسندت الصحن على الكومود، وتمددت إلى جوارها، لتمسح برفقٍ على جانب كتفها، وسألتها بنبرة مهتمة:
, -مالك يا "فيرو"؟ من ساعة ما رجعنا البيت، وإنتي واخدة جمب٣ نقطة
, لم تجبها شقيقتها، وظلت ممددة على جانبها، استمرت "همسة" في تمسيد شعرها، وكتفها، وهي تسألها بإلحاحٍ طفيف:
, -حصل إيه في المستشفى خلاكي تتعصبي؟
,
, لم تمتلك من الشجاعة ما يدفعها للالتفاف، والنظر في وجه توأمتها، وأجابت بفتورٍ:
, -مافيش.
, سألتها مجددًا معللة أسباب سؤالها المستفسر:
, -"فضل" ضايقك؟ بيني وبينك كلامه بايخ معايا، وكان هيشتبك مع "هيثم"، فأكيد عمل دقة نقص معاكي، صح ولا أنا غلطانة؟
, حافظت على جمود تعبيراتها، وتنهدت ترجوها بهدوءٍ:
, -عشان خاطري بلاش نتكلم عنه، كفاية أوي إنه غار من هنا.
, ابتسمت تؤيدها:
, -على رأيك..
,
, أراحت "همسة" ظهرها للخلف، ووسدت يديها وراء رأسها، وأضافت:
, -تعرفي يا "فيرو"، أنا فرحانة إنك هتتخطبي، مع إن الظرف مش مناسب، يعني عشان اللي مريتي بيه، بس دي فرصة تدلعي، وتشوفي نفسك مع واحد بيحبك.. حاجة حلوة أوي إن الواحدة تحب وتتجوز حد كويس٣ نقطة
, تحولت عباراتها للفضول عندما سألتها:
, -صحيح إنتي واقفتي عليه ليه؟ مش كنتي رفضتيه في البلد وآ٣ نقطة
,
, قاطعتها منهية النقاش في ذلك الموضوع قبل أن يبدأ:
, -"همسة" لو سمحتي، أنا دماغي تقيلة، وعايزة أنام، ممكن نتكلم في ده بعدين.
, هزت رأسها في تفهمٍ، لتقول بعدها:
, -ماشي يا حبيبتي، خدي راحتك ..
,
, ثم اعتدلت في رقدتها، ومالت نحو توأمتها تقبلها من أعلى رأسها، شعرت بتخبطها، بحالة العزوف المسيطرة عليها، ولم ترغب في الضغط عليها، لتحصل على ما تريد من معلومات، تركتها تختلي بنفسها، وختمت حديثها الودي معها بقولها:
, -أنا هاقعد شوية مع ماما برا وهمشي، وهكلمك أطمن تاني عليكي.
, استدارت لتنظر إليها في امتنانٍ، لترد بكلمةٍ مقتضبة:
, -أوكي.
,
, أشــارت "همسة" بعينيها نحو الكومود، قبل أن توضح لها:
, -الشوربة هغطيهالك، بس كليها، دي عمايل إيديا، وإنتي عارفة أنا طباخة بريمو.
, حانت من "فيروزة" ابتسامة لطيفة تشكلت على ثغرها، وودعتها بنظراتها إلى أن خرجت من الغرفة، لتختفي تلك البسمة الزائفة، وتعود لحالة الجمود الحزينة التي تمكنت منها.
,
, منذ لحظة وصوله، وتبدد الهدوء الذي عم المنزل لصخب وشجار، لم يتوقف "فضل" عن إثارة المتاعب مع من يلقاه في طريقه؛ وكأنهم وسيلته لإفراغ الكبت المحبوس بداخله، بعد أن تمت إهانته لأكثر من مرة، أراد التغطية على شعور النقص المستبد به، باستعراضِ قوةٍ زائفة على من هم أضعف منه؛ شخصيةً، وبنيانًا. وبخطواتٍ متمهلة اقتربت منه "سها"، وهو جالس بمفرده في المضيفة لتسأله، دون أن يطرأ ببالها أنه سيثور هكذا في وجهها:
, -مرات عمك و"فيروزة" بنتها عاملين إيه؟ عدت المشكلة اللي كانوا فيها على خير ولا إيه الأخبار؟ طمني كده عليهم.
,
, التفت ناظرًا إليها بعينين حادتين، قبل أن يوبخها:
, -مالك إنتي ومالهم يا ولية يا حشرية؟ عايزة تعرفي أخبارهم ليه؟ كنتي من بقية أهلهم وأنا معرفش؟ ولما أحب أتكلم في حاجة تخصهم هاجيبك إنتي يا أم مخ فاضي أحكي معاكي، وأخد برأيك؟!!
,
, تلون وجهها بحمرة خجلة من إهانته الشديدة، وتقليله لشأنها، كانت أدرى بطبيعته المتقلبة، ولم تقابل أسلوبه المتعنت معها إلا بالهدوء، فمن الخير أن تتجاهل فظاظته البشعة حتى لا تثير غضبته البائنة عليه، جلست على المصطبة الخشبية إلى جواره، وقالت متصنعة الابتسام، كأنها لم تسمع ما يهينها قبل ثوانٍ:
, -وماله ياخويا لما نتكلم سوا، ما أنا مراتك بردك، وإنت لما تفضفض معايا هتشيل عن قلبك وترتاح.
,
, دفعها بقساوة من كتفها، ليزيحها من جواره، وقال بعينين شرستين:
, -قومي فِزي يا ولية، اتكشحي من هنا، مش ناقصك!
, ابتلعت مرارة الإهانة، خاصة حين رأت "سعاد" مُقبلة عليها، وفي عينيها نظرات إشفاقٍ ولوم، أطرقت رأسها، وانسحبت من المكان سامعة صوت الأخيرة يعنف ابنها:
, -حرام عليك يا "فضل"، عملتلك إيه المسكينة دي عشان تبهدلها كده؟
,
, لوى ثغره معلقًا عليها بنبرة جافية:
, -مالكيش دعوة يامه، دي مراتي، وأنا حر فيها، إن شاء**** أقطم رقبتها٣ نقطة
, ثم اكتسب صوته إيقاعًا غريبًا وهو يتابع:
, -مش زي بنت "آمنة" اللي ملاقتش اللي يربيها ولا يلمها..
, حملق في الفراغ أمامه، وكز على أسنانه متوعدًا -في نفسه- بنوعٍ من التمني:
, -آه لو كانت مراتي، كنت عرفتها مقامها، دي مكانش ينفعها إلا واحد زيي، يمشيها على العجين متلخبطوش!
,
, استغربت "سعاد" من تحامله عليها، وسألته مباشرة بعد أن استقرت على المصطبة:
, -مالك ومال "فيروزة" يا "فضل"؟
, انتبه لها، وأجاب وقد برقت عيناه:
, -مافيش يامه، بس إنتي عارفة، أنا مابيعجبنيش الحال المايل.
, تهدل كتفاها، وأضافت في لهجة هادئة، متعمدة الدفاع عنها:
, -بنت عمك طول عمرها في حالها، ماشية زي الألف، مالهاش في أي حاجة، فبلاش تيجي عليها تاني.
,
, لا إراديًا، تحسس "فضل" بيده الجرح المتروك أثره على وجهه، بعد أن أزاح الضمادة من عليه، متذكرًا عدائية "تميم"، وتهديداته التي لم تكن من فراغ، تقوس فمه في امتعاضٍ ظاهر عليه، وهسهس بسبة نابية انحصرت بين شفتيه، بينما لانت تعبيرات والدته حين تكلمت بحماسٍ:
, -وبعدين المفروض نفرحلها، أبوك قالي إنها وافقت على العريس، وكلها أيام وهتتخطبله ويتكتب كتابها، يعني احنا يدوب نجهز نفسنا عشان نروحلها.
,
, رد بوجهٍ عابس:
, -أنا مش رايح في حتة.
, سألته باستغرابٍ، والدهشة تغزو محياها:
, -ليه كده؟ ده إنت ابن عمها الكبير، ومش عايزين النفوس تفضل شايلة من بعض، ده الضفر مايطلعش من اللحم.
, أجلى أحبال صوته المحتشرجة بنحنحة عالية، قبل أن يعلق عليها بسخطٍ، مستخدمًا يديه في التلويح:
, -المثل بيقول إيه يامه، أردب ماهولك (مش ليك) ما تحضرش كيله، تتعفر دقنك، وتتعب في شيله .. وأنا الليلة دي كلها ماليش فيها خلاص، أنا شيلت إيدي.
,
, نطق بلسانه ما يناقض رغبته الحقيقية، فلو اتيحت له الفرصة، وكان في مركز قوة، وهي تحت يده، وحاضرة هنا في بلدته، لحشد أعيانها، وأجبرها على الزواج منه قسرًا، ومارس عليها طغيانه، كما اعتاد أن يفعل مع زوجته المقهورة، أشاح بنظراته عن والدته التي ما تزال محدقة فيها بتعجبٍ، تنهدت الأخيرة ببطءٍ، لم تعرف ما الذي يدور في رأس ابنها؛ لكنه لم يكن هكذا يحاوطه الغموض، نهضت من جلستها، وهي تردد في يأسٍ:
, -هاقولك إيه يا ابني، غير **** يهديك لحالك.
,
, بأعجوبةٍ، وألاعيب المخضرمين من المحامين، خاصة الداهية "آسر"، نجت "بثينة" ببدنها من كارثة كادت تزج بها بالسجن، وتعرضها لمشاكل في غنى عنها حاليًا، بعد كشف الحقيقة كاملة، وإظهار براءة "فيروزة" من التهمة الملفقة التي اتهمتها بها، انتهى المحضر على خير، وحُفظ في الأدراج، كغيره ممن ينتهون دون تصعيد قانوني. تجرعت "بثينة" رشفة كبيرة من كوب الماء، وأسندته في مكانه بالصينية، ثم بدأت تهت جسدها بحركة عصبية، بعد أن جلست في الصالون، بصحبة ضيفيها "محرز"، وزوجته، تنوح مُصابها لهما:
, -بقى دي أخرتها يا "هاجر"؟ شوفتي أخوكي وعمايله؟ كان ناقص يحبس خالته، ولولا ستر **** وولاد الحال!
,
, نظرت "هاجر" لخالتها في حرجٍ، وظلت تهدهد رضيعها بين ذراعيها باهتزازة خفيفة ثابتة، بينما واصلت الأولى ندبها الناقم:
, -هي دي صلة الرحم اللي **** أمره بيها؟ مش كفاية مراته خسرت اللي في بطنها، لأ يزود الهم علينا ويجرجرنا في الأقسام.
, رفرفت بعينيها وهي تتطلع إلى زوجها في ترددٍ، ثم استدارت ناظرة إليها مرة أخرى، وردت تواسيها :
, -متزعليش يا خالتي، ده أنا جاية أخد بخاطرك النهاردة، وأراضيكي.
,
, هتفت معترضة في سخطٍ:
, -لا يا "هاجر"، اللي عمل أخوكي ده مش هايروح بالطبطبة.
, أردف "محرز" قائلاً بهدوءٍ، وعيناه تلمعان في خبثٍ:
, -يا حاجة ده إنتي طول عمرك قلبك طيب.
, انخرطت في بكاءٍ مصطنع وهي ترد عليه، لتستجدي مشاعرهما
, -هو أنا مضيعني غير قلبي وحنيته؟
,
, وضع "محرز" يده على كتف زوجته يحثها على النهوض، عندما أمرها بلطفٍ:
, -قومي يا "هاجر" شوفي بنت خالتك، أكيد الموضوع مش سهل عليها، طيبي خاطرها بكلمتين، وخديلها الواد تشيله شوية.
, ردت بإيماءة موافقة من رأسها:
, -طيب يا "محرز".
, بدا كحمامةٍ للسلام ولسانه ينطق بمعسول الكلام، ليزيل الوحشة المعششة في القلوب، ما إن تأكد من اختفاء زوجته بالداخل، حتى انتقل من مكانه، ليجلس قريبًا من "بثينة"، أحنى رأسه عليها، وهمس لها؛ وكأنه يلومها:
, -كنتي هتودينا في داهية، مش تاخدي بالك إن في كاميرات راكبة؟ لولا البيه بتاعي كان زمانك لبستي فيها.
,
, مسحت دموع التماسيح التي لم تترك مقلتيها، وردت بخفوتٍ بلهجة جافة:
, -وأنا كنت أعرف منين؟ بأشم على ضهري إيدي ولا بأضرب الودع؟
, قست نظراتها، وانزلقت مضيفة من تلقاء نفسها:
, -وأختي "ونيسة" مجابتليش سيرة عن الحكاية دي.
, سألها "محرز" بجديةٍ، رغم انخفاض نبرته:
, -سيبك من ده، وقوليلي هنعمل إيه دلوقتي؟ زي ما احنا ولا غيرتي رأيك؟
,
, تصلب كتفاها، وردت بحقدٍ مغلول:
, -أغيره؟ ده أنا عايزة أنتقم منه، أولع في جتته، ده أنا خسرت كل حاجة.
, ابتسامة لئيمة خطت على شفتيه وهو يرد بتلذذٍ انعكس كذلك في نظراته:
, -حلو الكلام، قريب هتسمعي البشارة.
, تنهدت في رجاءٍ:
, -يا ريت يا "محرز".
, أضاف طالبًا منها:
, -عايزك تجيبلي الأمانة اللي شايلها عندك.
, سألته في استغرابٍ، والفضول يكسو أنظارها:
, -ليه؟
,
, أجاب بتهكمٍ، وبتعابير جادة:
, -صاحبها عايزها، هاقوله لأ؟ هاتيها بسرعة قبل ما تخرج "هاجر" من جوا.
, همهمت وهي تحرك جسدها بثقلٍ لتنهض من جلستها:
, -ماشي ياخويا.
, شيعها بنظراتٍ كالصقر وهي تمرق عبر الردهة الطويلة متجهة إلى غرفتها، فقد أزف الوقت للقيام بعملية التهريب المُرتب لها، بعد أن صدرت الأوامر العليا بالشروع فورًا في تنفيذها٣ نقطة!
 
٢٨

برويةٍ انحنت بجسدها للأمام لتفتش بين أغراضها في دولابها الخشبي، خاصة الرف الأوسط، والذي تحتفظ به بأغطية الفراش المطوية النظيفة، وجدت "بثينة" ضالتها، فاعتدلت في وقفتها، وأخرجتها من الداخل لتنظر لها مجددًا؛ لفةٌ بلاستيكية مغلقة بإحكام، بلونٍ داكن، لا يظهر ما تحويه بداخلها، تبدو بيضاوية بعض الشيء، أدارتها بين يديها، متسائلة في نفسها بفضولٍ كبير:
, -يا ترى فيها إيه دي؟
,
, لم تكن أيضًا بثقيلة الوزن؛ لكنها أصابتها بالحيرة، رغبت في معرفة ما بهل، ومع ذلك تحركت بها نحو ضيفها المنتظر بغرفة الصالون، ناولته إياها وهي تسأله:
, -دي عبارة عن إيه يا "محرز"؟
, كان متحفظًا، ومراوغًا، في رده عندما أجابها:
, -سيبك منها، وخلينا في المهم٣ نقطة
, ثم أسندها إلى جواره؛ وكأنه غير مبالٍ بها، ليقول بهدوءٍ:
, -عندي طلبية جديدة تبعنا، توريدة من العيار التقيل، يومين وهخلصها، وأجيبلك المعلوم.
, هزت رأسها في استحسان، وعلقت:
, -كويس.. أهي حاجة تعوض الخسارة اللي حلت عليا.
,
, استأذنها "محرز" بتهذيب:
, -هاتعبك معايا يا ست الكل، عايز فنجان قهوة مظبوط يعدل دماغي
, -إنت تؤمر يا "محرز".
, تابعها بنظراتٍ مراقبة إلى أن اختفت بداخل مطبخها، فأخرج هاتفه المحمول، وطلب على عجالةٍ أحدهم، أخفض نبرته، ليبدو صوته غير مسموعٍ حين قال:
, -الأمانة معايا، جاهزة على التسليم.
, أصغى للطرف الآخر بانتباهٍ تام، وعقب:
, -حاضر هبلغ "حاتم"، وأظبط معاه.
, بتعجلٍ أنهى المكالمة محافظًا على ثبات تعابيره، وفحص اللفة بدقةٍ، ليتأكد من عدم فتح "بثينة" لها؛ كانت كما هي، ابتسم في رضا، فقد كانت كل الأمور تسير على ما يرام، وجلس مسترخيًا منتظرًا عودتها إليه.
,
, -أيوه يا "هاجر" أخوكي ظلمني!
, رددت تلك العبارة المصحوبة بنبرة حارقة، وصدرها قد غص بالبكاء الخانق، حين سألتها شقيقة طليقها عن أحوالها، لم تمسح "خلود" دموعها عن خديها، تركتهم كدليلٍ حي وملموس عن قهرها، ومدى الظلم الذي تعايشه الآن، نظرت في عينيها بنظراتٍ ملتهبة، وتابعت نحيبها بمشاعرها الناقمة:
, -وإنتي أكتر واحدة عارفة أنا بأحبه إزاي.
,
, اقتربت منها بعد أن مددت رضيعها على الفراش، وضعت يدها على كتفها، وربتت عليه بحنوٍ، قبل أن ترد بتعاطفٍ:
, -من غير ما تقولي، أنا متأكدة يا حبيبتي.
, تحركت خطوة بعيدًا عنها، لتزيح يدها من على كتفها، والتفتت نحوها لتواجهها، واستطردت مُلقية بسيلٍ من التهم الحانقة عليه:
, -وبدل ما يقف جمبي، يهون عليا اللي حصلي، رميني خالص، وشاغل عقله باللي خربت بيتي ٣ نقطة
,
, سكتت للحظة لتثبط من اضطراب أنفاسها المختنقة، ثم كزت على أسنانها معاودة لومها له بعينين ناريتين:
, -تلاقيه دلوقتي بيفكر يتجوز من تاني، ويعيش حياته، وإياكش أنا أولع
, اعترضت عليها "هاجر" بحذرٍ، حتى لا تثور ثائرتها مجددًا:
, -أنا مش معاكي يا "خلود"، "تميم" مش كده!
, نظرت لها ابنة خالتها بعدائية، في حين أكملت موضحة لها:
, -ولا عمره بتاع بنات، ممكن أصدق أي حاجة عليه إلا كده، لا دي كانت أخلاقه، ولا تربيته.
,
, علقت عليها بنظرات جامدة، وقد توقفت عن ذرف الدموع:
, -إنتي مش عارفة حاجة.. طيبة زي تملي يا "هاجر"، أنا بأموت كل ثانية وهو مش جمبي فيها، حسي بيا يا "هاجر"، ده احنا بنات زي بعض.
, هزت رأسها في تفهم، ثم انخفضت نظراتها نحو يد "خلود" التي قبضت على رسغها، ضغطت عليها الأخيرة بقبضتها، ورجتها بما يشبه التوسل:
, -أنا عاوزاكي تساعديني أرجعه.
, حملقت فيها باندهاشٍ مليء بالغرابة، وسألتها بترددٍ:
, -إزاي؟
,
, تعمدت "خلود" التهاوي بساقيها لتركع قبالتها على ركبتيها، رفعت أنظارها المغلفة بدموعٍ تنجح دومًا في استدعائها، حين حاجتها إليها، لتتسول عواطف الآخرين، انتحبت بصوت مرتفع، واستعطفتها بصوتٍ ذليل:
, -عشان خاطري يا "هاجر"، اقفي جمبي، ماترفضيش ب**** عليكي.
,
, حاولت الأخيرة سحب يدها من بين أصابعها التي تشدها، وفي محاولة يائسة منها لإجبارها على النهوض، تمكنت "هاجر" من إيقافها، ثم ردت عليها بقلة حيلة:
, -وهو أنا في إيدي حاجة؟ يعلم **** مقطعاه تقريبًا، وعمالة ألومه في الرايحة والجاية.
, لهج لسانها وامتزج عبراتها بمخاط أنفها، وهي تزيد من ضغطها عليها برجائها المُلح:
, -خليه يرجعلي، أنا بأموت من غيره، وحياة ابنك "سلطان"، اتكلمي معاه، قوليله مراتك بتحبك، مراتك مستعدة تسامحك، بس يردني ليه، إن شاء**** أكون خدامة تحت رجليه.
,
, تفاجأت "هاجر" من حالتها التعيسة، بدت لوهلة مصدومة من وضعها، اعتبر ما تمر به يقطع نياط القلوب، ويدفعك للتعاطف مع ظروفها غير العادلة، بسبب إخلاصها الشديد وتفانيها في حبها، هزت رأسها بالموافقة، قبل أن تؤكد لها علنًا، ودون إعادة تفكير:
, -من غير ما تحلفيني بيه، أنا هاعمل اللي عليا، وربنا يقدم اللي فيه الخير.
, برزت ابتسامة امتنانٍ باهتة على محياها، واكتفت بعدم إضافة المزيد، عل إلحاح من حول "تميم"، والإشارة لبؤسها الموجع، وقهرها المفطر للقلوب، يعيده إليها.
,
, أصغت لأكاذيبه والترهات التي لم يتوقف عن الثرثرة بها، منذ لحظة عودته إلى المنزل، مدعية تصديقها له؛ لكن حدسها يؤكد لها النقيض، لم تبتسم، وبدا وجهها خاليًا من أي تعبير غريب، بل على العكس قالت له بنبرة عادية؛ وكأنها تهتم لأمره:
, -**** يكون في عونك يا خويا، غير هدومك كده وروق على نفسك.
,
, مسح "خليل" عرقه الزائد المتصبب على جبينه، بمنديل قماشي مصنوع من القطن، لعق شفتيه، وتابع كذبه:
, -و**** يا "حمدية" الواحد بيتعب جامد في شغله، نفسي أسيب الهم ده كله وأركز في الدكان الجديد.
, ببرودٍ مريب قالت له:
, -وماله يا "خليل"، شوف المصلحة فين وأعملها.
, ابتسم مضيفًا:
, -تسلمي يا "أم العيال"..
,
, ثم تنهد في تعبٍ، وأكمل؛ وكأنه يوضح لها باقي روتينه:
, -هاخش الحمام أخد دش، لأحسن جسمي معفر من الطريق، وبعد كده هاقعد معاكي إنتي والعيال، وآخر النهار هنزل عند "آمنة" اعرف منها الجديد.
, علقت بكلماتٍ موحية، أظهرت التوتر على ملامحه:
, -الجديد كله عندي.
, ابتلع ريقه، وسألها:
, -قصدك إيه؟
, أجابته بنفس الهدوء المربك له:
, -متخدش في بالك يا "خليل"..
,
, وأشارت له بيدها، حين تكلمت مضيفة:
, -ابقى شوف السخان حرارته عالية ولا لأ.
, حرك رأسه بإيماءة صغيرة، وخطا في اتجاه الحمام مكملاً حديثه له، بما يشبه الوعد:
, -لما **** يفرجها معانا، هنبقى نجيب سخان غاز نركبه بدل التعبان ده.
, قالت بوجهٍ جامد التعبيرات:
, -إن شاء **** ..
,
, رافقته "حمدية" بنظراتٍ غريبة، توحي بنوايا غير بريئة مطلقًا، وما إن اختفى في الداخل حتى توعدته:
, -قالوا للبومة كام مهرك، قالت 10 بيوت خراب، وأنا هاخربها عليك يا "خليل"، لو طلعت متجوز عليا!
,
, سكونها كان ظاهريًا؛ لكن بداخلها كان كل التخبط الذي لا يمكن تخيله، ما رفضته، وأصرت على عدم القبول به، لكونه يجبرها على اختيارات لا تروق لها، اليوم ترتضي به، وبخنوعٍ يناقض شخصيتها المتمردة على ما هو عقيم. أشاحت برأسها للجانب، بعد أن اكتفت من التطلع لزرقة المياه المغرية، وعادت لتطلع إليه، بابتسامته المنمقة، وهيئته اللبقة، لم تمس "فيروزة" كأس مشروبها البارد، والذي تحول للسخونة بفعل حرارة الجو، واحتفظت بصمتها المغلف بابتسامة مرسومة بعناية، خلال محادثة "آسر" لها، في نفس المطعم الذي اجتمعت به توأمتها مع زوجها وأقربائه.. يا للسخرية!
,
, الزمن يعيد نفسه، مع فارق أنها تجلس كعروسٍ مستقبلية، لشخص لا تكن له أي مشاعر، ولا تشعر نحوه حتى بقدرٍ من الانجذاب .. انتفاضة منزعجة سرت ببدنها، وقد تجرأ مُضيفها على لمس كفها المستريح على الطاولة، سحبته سريعًا للخلف في صرامةٍ وتحفظ، أسندته في حجرها، لتمنعه من تكرار الأمر، وعلى عكس ما توقعه، بدا "آسر" هادئًا، لم يظهر على تعابيره المسترخية أدنى تغيير احتجاجًا على جمودها المتشدد معه، تركزت نظراتها المحملة بالكثير على وجهه عندما سألها:
, -تحبي ننزل امتى ننقي الشبكة؟
,
, ردت بهدوءٍ، وتاركة لها حرية الاختيار؛ وكأن الأمر لا أهمية له لديها:
, -الوقت اللي يناسبك.
, استند بمرفقيه على الطاولة، بعد أن أبعد فنجان قهوته، بادلها النظرات المهتمة، وقال:
, -أنا معاكي في اللي تختاريه يا "فيروزة".
, تنهيدة بطيئة لفظها من جوفه، ليكمل بعدها:
, -بس أتمنى نخلص كل حاجة بسرعة، إنتي عارفة بعد كتب الكتاب لازم أسافر، عشان أرتب للإقامة بتاعتك، وبعد كده أبعت أجيبك، وآ..
,
, أعطته جوابًا صريحًا:
, -هسأل ماما، وأرد عليك.
, أومأ برأسه معقبًا عليه، وابتسامته ما تزال تحتل شفتيه:
, -تمام ..
,
, ســاد الصمت من جديد، وعادت "فيروزة" لتدير رأسها بعيدًا عنه، وتحدق في أمواج البحر المتقلبة، في فترة وجيزة تبدلت الأمور عليها؛ ما بين سعيها لإقامة مشروع شبابي يدر عليها المال، وبين معاناتها لحرق حلمها، وبيعه بسعر زهيد، ليتبع ذلك إذلالها بين الأقرب إليها، وأخيرًا تجربة الحبس المهينة، لمحات غير مضيئة مرت بحياتها أضفت المزيد من السواد عليها، انتشلها "آسر" من استغراقها في تفكيرها المرهق لروحها، نظرت إليه مرة أخرى، وقد استطرد متجاذبًا معها أطراف الحديث:
, -أنا عاوز أسألك في حاجة، بس متردد شوية.
,
, سمحت له قائلة:
, -اتفضل.
, سألها بصراحةٍ، ونظراته الحذرة تدور على ملامحها، لتلاحظ ردة فعلها:
, -هو إنتي زعلانة عشان مش هنعمل حفلة للخطوبة أو حتى للفرح؟ أكيد إنتي بتحلمي بليلة مميزة زي أي عروسة، وده طبيعي.
, بمنطقية بحتة أجابته، ودون أن تتأثر تعبيراتها:
, -إنت هاتكون مش موجود، أعتقد مافيش داعي ليه، الفرح مش هايكون ليه لازمة من غير وجود العريس.
,
, كانت محقة في رأيها، وأيدها مدعيًا حزنه:
, -فعلاً.. اللحظة دي مهمة عندي زي ما هي عندك، بس أنا أوعدك هاعوضك.
, حركت شفتيها لتظهر ابتسامة مجاملة، بينما أخبرها "آسر" وهو مسبل عينيه نحوها:
, -"فيروزة"، أنا عايزك تتأكدي إنك هاتكوني أكتر واحدة سعيدة معايا.
, ظلت ابتسامتها المصطنعة كما هي على ثغرها، وهي ترد:
, -إن شاء****.
,
, أرجع ظهره للخلف، واعترف لها بحماسٍ:
, -الصراحة متوقعتش إني أقع في الحب بسرعة كده، ومن أول لحظة شوفتك فيها مع "علا".
, تنحنحت بخفوتٍ، ورمشت بعينيها قبل أن تتشجع لتبوح له:
, -أنا حابة أكون صريحة معاك، أنا لسه مش حاسة ناحيتك بحاجة دلوقتي، يعني بأقدرك، وأحترمك، جايز مع الوقت آ٣ نقطة
, قاطعها بشكلٍ مفاجئ:
, -أنا مش مستعجل، المهم نكون سوا يا حبيبتي.
,
, قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في استنكارٍ، فاستأذن منها، وهو يبتسم:
, -اسمحيلي أقولك يا حبيبتي..
, اعتذرت منه بجديةٍ بائنة في قسماتها، وكذلك نظراتها:
, -ممكن ماتقولهاش غير لما تبقى العلاقة بينا رسمية، ده أفضل.
, اعترض بلطفٍ:
, -أنا عارف كلها كام يوم وهنكون سوا، بس مش قادر أستنى، أنا مجنون بيكي.
,
, تحرجت من اعترافاته الهائمة بها، لم تعتد على مثل ذلك، فتجنبت الخوض معه في جدال، ربما سيسير في اتجاه حميمي أكثر إن استمرت في الاعتراض عليه، وللمرة الأولى امتدت يدها، وتناولت الكأس، بللت جوفها بالمشروب الطبيعي المنعش، وسألته بعدها:
, -إيه اللي عجبك فيا؟ أنا عادية جدًا، معنديش حاجة مميزة، في مليون بنت غيري تقدر تتقدملها، وأكيد ظروفهم أحسن مني.
, صمت لبرهةٍ، وعيناه مثبتتان على وجهها؛ وكأنها تدرسانه، ليقطع سكوته اللحظي معترفًا لها بصدقٍ؛ وإن كانت نواياه خبيثة:
, -لأنك يا "فيروزة" مختلفة عن أي حد عرفته.
,
, على الجانب الآخر، جلست "همسة" مع والدتها على طاولة ثنائية، وإلى يسارهما جلست "حمدية" بصحبة زوجها، على طاولة منفصلة، ركزت الأولى كامل انتباهها مع توأمتها، وخطيبها، بدت سعيدة للتجاذب اللطيف بينهما، وإن كان خاليًا من أي حماس؛ لكنه مُرضي للطرفين، مالت نحو والدتها، ليبدو صوتها مسموعًا إليها، وهي تقول لها:
, -حلوين أوي يا ماما، شكلهم يفرح القلب، تحسيهم لايقين على بعض.
,
, التفتت "آمنة" لتنظر نحوهما، وردت بإيجازٍ:
, -**** يهنيهم.
, أراحت "همسة" جانب وجهها على باطن كفها، وتطلعت إليهما بمحبةٍ، قبل أن تواصل حديثها:
, -يا رب.. بجد "فيروزة" تستاهل كل خير.
, لم تكن ملامح والدتها بالسعيدة مُطلقًا، فقد رأت جريرة رفض ابنتها الأولي له كخطيب، وشعرت بأنها مرغمة على القبول به، لتنأى بنفسها من شر ابن عمها، وإن كان يعني ذلك تعاستها، دمدمت بأنفاسٍ مهمومةٍ، والضيق يكسوها:
, -طول عمرها حظها قليل.
,
, استغربت ابنتها من التشاؤم البادي عليها، واعترضت بصوتٍ خفيض:
, -ماتقوليش كده يا ماما، كل واحد بياخد نصيبه، وأنا واثقة إن "فيرو" هتلاقي مع "آسر" كل اللي كانت بتتمناه.
, همهمت بفتورٍ:
, -يا ريت.
,
, استدارت "همسة" برأسها للجانب الآخر، وألقت نظرة على "خليل" وزوجته، كانا مشغولان بتناول الطعام الشهي، احتلت الأطباق المليئة بالأصناف المختلفة مساحة الطاولة بالكامل، وهذا غير اعتيادي على خالها، حيث كان الأخير حريصًا كل الحرص على عدم إنفاق ماله إلا في الضرورة القصوى، وبمعايير معينة، واليوم ينفق بسخاء شديد، مطت فمها في دهشةٍ، ثم أبعدت نظراتها لتهمس لوالدتها، بنوعٍ من التهكم:
, -أومال خالي واخد جمب مع مراته ليه؟ مش بعوايده يدلعها كده، جايبلها أكل غالي، وحلويات وعصاير، ده يتحسد.
,
, بدت غير مبالية وهي تجيبها:
, -جايز بيعوضها عن غيابه.
, لم يكن بالرد المقنع، فكتفت ساعديها، وتساءلت باهتمامٍ فضولي:
, -تفتكري؟!
, نهرتها والدتها عن التدخل فيما لا يعنيها مشددة عليها بنظراتها، وأيضًا بنبرتها:
, -مالناش دعوة بيهم، هما أحرار.
, ثم طردت الهواء الثقيل من صدرها، ونطقت بتعب:
, -خلينا نشوف هنعمل إيه بعد كده، لسه ورانا حاجات كتير تخص جوازة أختك.
,
, بطيئة كأدهر، انقضت الليالي عليه كل واحدة تشبه الأخرى، بما فيها من كآبة، وأحزان، لم يترك نفسه لعقله، أرهقه بإغراقه في المزيد من الأعمال المستنزفة لقواه، ليعود مساءً إلى فراشه، غير قادرٍ على الحركة أو التفكير، فينام مانعًا الأحلام من زيارته .. عكف "تميم" على مراجعة دفتر آخر، بعد أن اكتشف عدم تطابق البيانات والأرقام في الدفتر الأول، قارنه بالفواتير المجمعة في ظرف قديم من اللون الأصفر الداكن.
,
, والتي من المفترض أنها تخصه، لاحظ وجود نفس الفروق على فترات متزامنة، ليست متعاقبة؛ لكنها متكررة بطريقة تدعو للاسترابة، ناهيك عن ضياع بعض الفواتير ذات القيم الشرائية العالية. لف يده خلف رأسه، ليضعها على عنقه، ويفرك بها فقراته المتيبسة، مرددًا لنفسه:
, -الحكاية دي مش طبيعية، مش مرة والسلام!
,
, قلب في الفواتير مجددًا، وفتش في الدرج السفلي الذي تتواجد به الأظرف، باحثًا عن فاتورة ضائعة، أو أخرى تائهة بين مقتنياته؛ لكن لا شيء، مما ضاعف من حيرته، توقف عن البحث، وأرجع ظهره للخلف ليريحه، متابعًا حديث نفسه؛ وكأنه توصل لاستنتاج ما:
, -إما إن في حد بيسرقنا، يا حد بيعمل شغل من ورانا.
,
, أنهكه البحث عن التفسير المنطقي للتلاعب البائن في الأوراق التي فحصها، وبالتالي لم ينتبه لمن يراقبه في الخلف، غامت تعابير "محرز"، وتوحشت نظراته، بخطواتٍ حثيثة، انسحب قبل أن يلحظه وهو يتوعده:
, -هو لو فضل على الحال ده، كل حاجة هتتكشف، يبقى لازم أتغدى بيك قبل ما تتعشى بيا.
, كالمذعور قفز في مكانه حين باغته "هيثم" متسائلاً من خلفه:
, -بتعمل إيه يا "محرز"؟
,
, استدار نحوه بوجهٍ مفزوعٍ، وادعى بالكذب، وهو يحاول لملمة شتاته:
, -بأراجع الطلبات اللي ورانا في دماغي، الشغل اليومين دول كتير والحمدلله.
, حك "هيثم" طرف ذقنه معلقًا عليه بطرافة:
, -إيه يا عم هتحسدنا ولا إيه؟!
, رمقه بتلك النظرة الحادة قبل أن يوبخه:
, -أنا عيني شبعانة طول عمرها، الدور والباقي عليك، يوم هنا، ويوم في أجازة، تقولش موظف شغال في الحكومة.
, رد عليه بتعصبٍ:
, -هو بمزاجي يا "محرز"؟ ما إنت عارف المشاكل اللي واقعة اليومين دول، ده غير أخت الجماعة هتتجوز.
,
, كان في البداية غير منتبه لجدالهما الصاخب؛ لكن إفصاحه عن قرب زواج "فيروزة"، وتطرقه إلى سيرتها، دفعت حواس "تميم" للتيقظ كليًا، واشتعلت بروحه المعذبة، تلك النيران التي تلتهم صموده الزائف، وتزيد من تحطيم فؤاده، جاهد بكل ما امتلك من بقايا قوى وعزيمة على تجاهل ما يخصها؛ لكنه فشل، دومًا تسحبه إلى دوامتها المهلكة؛ وكأنها تعرف من أين تُجيد تعذيبه. عض على شفته السفلى، كاتمًا مشاعر الحنين لحبٍ لا أمل فيه، وخنق بقساوةٍ دمعة غادرة فرت إلى طرفه، ليهب بعدها واقفًا، ودافعًا مقعده الخشبي للخلف، قبل أن يلتفت نحوهما ليصيح بهما بخشونة:
, -ما كفاية رغي بقى، وكل واحد على شغله، البضاعة لسه في سوق الجملة، عايزة تتشحن على التلاجات.
,
, نظر "محرز" في اتجاهه، وقال بوجومٍ:
, -أنا واخد الرجالة وطالع على هناك..
, ثم التفت ناحية "هيثم" ليسأله:
, -جاي معايا؟
, هز رأسه بالنفي وهو يرد:
, -لأ، رايح مع الجماعة مشوار عند الجواهرجي، ولو خلصت معاهم بدري هحصلك.
, انفلتت أعصاب "تميم" بعد جملته العفوية تلك، بدا في تصرفه المنفعل عليه، وكأنه قنبلة نُزع فتيلها للتو، فامتلأت الأجواء بالبارود الحارق، حيث صرخ به:
, -نسيبنا من شغلنا، ونركز مع موال جماعتك يا "هيثم"، ده مال ناس، ومصالح، ولا عايزنا نجيب ضرفها بدري؟!
,
, رد عليه بأسلوبٍ شبه هازئ:
, -لأ يا معلم، مش هتوصل للدرجادي، أنا بردك خايف على المصلحة .. وبعدين هانت .. كلها يومين وتتفض الليلة دي كلها.
, طعنه بكلماته الأخيرة دون أن يدري، فاحترق أكثر، وانكوى بنيران هجرٍ لن يتذوق مرارته سواه، بلغ تلك الغصة التي تشكلت في حلقه، وقال بجمودٍ منهيًا الحوار، ومستديرًا بظهره ليبتعد عنهما:
, -يكون أحسن.
,
, ركل "تميم" المقعد بقدمه في عصبيةٍ، فأسقطه أرضًا، مما سبب صخبًا مزعجًا، وجمع الدفاتر معًا، ليعيدها في مكانها بالخزينة، قبل أن يغلقها وينصرف. تابعه كلاً من "محرز" و"هيثم" بنظراتٍ متعجبة، فتساءل الأول في استغرابٍ:
, -هو ماله ده؟
, أجاب الأخير بنفس الحيرة:
, -مش عارف!
, ربت "محرز" بيده على ذراعه، وأضاف، وقد همَّ بالتحرك:
, -طيب خليك إنت هنا، وأنا ماشي.
, اكتفى بهز رأسه، وظل ماكثًا في الدكان يدير حركة العمال، بعد ذهاب الجميع.
,
, -لسه زي ما إنت؟
, تساءل "محرز" بتلك الجملة الساخرة وهو يدفع الباب ليلج للسطح، ليجد "نوح" ما زال يدخن تلك النارجيلة المشبعة بالمواد المخدرة، وهو يجلس مستلقيًا على الوسائد الأرضية، انضم إليه، وجذب منه خرطومها ليسحب نفسًا عميقًا يختبر به مدى جودة المنتج، أطلق الدخان في الهواء، وقال في مدحٍ:
, -حتة أصلي يا صاحبي.
, قال بتفاخرٍ، وهو يستعيد خاصته ليستنشق دخانها:
, -إنت عارفني، في المزاج أستاذ.
, أثنى عليه "محرز" بهدوءٍ:
, -طبعًا.
,
, ثم مد يده ليتناول إحدى زجاجات البيرة، نزع غطائها، وألقاه على الأرضية، ثم تجرع ما بها في جوعه، لتتقلص عضلاته مع مذاقها اللاذع، أدار رأسه في اتجاه رفيق السوء، عندما تساءل بفتورٍ، وهو يضبط حجر الفحم المتقد ليزيد من وهجه:
, -ها .. السبوبة إيه المرادي؟ نقلة جديدة؟
, نفى موضحًا بغموضٍ مثير:
, -لأ، حريقة كبيرة.
,
, بدا من حديثهما المتبادل في اقتضابٍ، أنها لم تكن المرة الأولى التي يتشاركان فيها في أعمالٍ غير مشروعة، تساءل "نوح" بفضولٍ، وقد أظهر استعداده للمشاركة:
, -حلو .. فاضي ولا مليان؟
, رد غامزًا له بابتسامة منتشية:
, -مليان يا بونط.
, حرر "نوح" أنفاس الدخان من صدره، وقال بتلميحٍ متوارٍ:
, -كده الفيزيتا (التكلفة) هتعلى!
, أكد له بثقةٍ ملموسة في صوته، وتعابيره المستريحة:
, -متقلقش.. هنتراضى كويس.
,
, تساءل، وخرطوم نارجيلته بين شفتيه:
, -زي الفل، الكلام على مين بقى؟
, جاوبه بغموضٍ، ونظراته تحولت للقتامة:
, -واحد حبيبك..
, سأله مستفسرًا، قبل أن يسحب نفسًا آخرًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره المحترق:
, -مين يعني؟
, ثوانٍ لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة صمت خلالها، لينطق بعدها مفصحًا عن هوية الضحية الجديدة:
, -"تميم"، ودكانه.
,
, بمجرد الإعلان عنه، هبطت الصدمة غير المتوقعة على رأسه، لتصيبه بالارتباك والذهول، اختنق بدخان نارجيلته، وسعل بقوةٍ جارحًا أحباله الصوتية، بصوتٍ مبوحٍ مختلط ببقايا الدخان والسعال، سأله في توجسٍ مندهش:
, -نعم .. "تميم" بتاعنا؟ ابن الحاج "بدير"؟
, حرك "محرز" رأسه بإيماءة بسيطة، دون أن يبدو عليه التعاطف معه، وقال مؤكدًا –وبحسمٍ- وتلك اللمعة الشيطانية تتراقص في نظراته:
, -أيوه .. هو المغضوب عليه٣ نقطة!
 
٢٩


كان من العسير عليه، أن يستوعب فكرة التخلص من أحد أهم رجــال منطقتهم الشعبية، ممن يملكون الصيت القوي، والسلطة غير المحدودة، ناهيك عن سيرة واسعة النطاق، بين أوساط رجال السوق، والتجار الثقال. ظل "نوح" باقيًا على حالته المندهشة، محدقًا في وجه "محرز" بنظراته المصدومة، لعق شفتيه، وسأله مجددًا، ليتأكد من كونه لا يهزئ، وأن مفعول المخدر لم يعبث برأسه حقًا:
, -إنت بتكلم عن المعلم "تميم" بتاعنا؟ مش حد تاني؟ ولا ده المدعوق اللي بأشربه؟
,
, أجابه ببرود، وهو يحرر دفعة أخرى من الدخان من صدره:
, -أيوه هو!
, دعك وجهه بيده المتعرقة، وصاح متسائلاً في توترٍ:
, -طب ليه؟ وعشان إيه؟
, استوى على المقعد الهابط، واسترخى أكثر عليه، قبل أن يجيبه بغموضٍ، وبلهجةٍ شبه آمرة:
, -من غير ما تسأل، وتوجع دماغنا، نفذ على طول
, ثبت عينيه عليه، وأظهر تردده بوضوحٍ عندما أكمل:
, -بس الحكاية كده ماتطمنش، طول عمر المعلم جدع معانا، وآ٣ نقطة
,
, قاطعه بجمودٍ، وتعابيره القاسية بائنة للعيان:
, -ساعته أزفت، كفاية عليه كده!
, اعترض بنفس الخوف البائن في نبرته:
, -بس آ٣ نقطة
, تلك المرة قاطعه بحزمٍ، ليقطع عليه السبل للتراجع:
, -بأقولك إيه، ماتلوكش كتير، واعتبره زي أي مصلحة بنخلصها، الفرق هناخد سبوبة زيادة.
, ورغم هذا رد "نوح" بتوجسٍ مفزوع:
, -ده احنا هنهيج علينا الدنيا كلها، المعلم "تميم" مش واحد عوأ والسلام، ده آ٣ نقطة
,
, توقف عن الكلام ليبتلع ريقه؛ لكن "محرز" مد ذراعه ناحيته، ووكزه برفقٍ فيه، ثم غمز بطرف عينه يستحثه:
, -ماتخافش، وخلي قلبك جامد، دي زي طلعات زمان.
, لم يخبت خوفه، بل زاد عليه موضحًا هواجسه:
, -ده أنا لازم أخاف، وأعمل حسابي مليون مرة، ده المعلم "تميم"، هو إنت بتكلمني عن واحد صايع، ولا موظف كحيان، ده ليه شنة ورنة!
, سأم من خذلانه الواضح، وهدر به يوبخه:
, -يخربيت المعلم زفت بتاعك ده، فلقت دماغي بيه٣ نقطة
,
, ثم لانت نبرته قليلاً، حين استخف به:
, -ده ولا يقدر يعمل أي حاجة، صدقني، اللي زي "تميم" ده من بتوع الصيت ولا الغنى.
, تساءل "نوح" ببساطة، وقد رأى مدى بغضه له في حدقتيه:
, -للدرجادي إنت بتكرهه؟!
, رمقه "محرز" بتلك النظرة النافرة، قبل أن يبعد نظراته عنه، وعلق بفتورٍ:
, -لا كره ولا محبة، أنا مع المصلحة مطرح ما تكون!
, لم يسترح لرده، ولا للمسألة برمتها، شعر أنها ستكون بداية النهاية لمسيرتهما غير المشروعة، لفظ زفيره ببطءٍ من صدره، وهمهم بارتعابٍ معلوم أسبابه:
, -استرها علينا يا رب!
,
, تصدع غير مرئي شعرت به في علاقتها معه، رغم تلك الابتسامات المنمقة التي تغطي محياها، لتشعر من حولها أنها حقًا تهتم لأمره، أغدق عليها بكل ما تحتاج إليه الفتاة؛ من المحبة، الاهتمام، والتفاهم، ليستحوذ عليها قلبًا وقالبًا؛ لكن علاقتهما افتقرت إلى الانسجام، والتناغم. لم تجد روح "فيروزة" الضائعة نصفها المكمل في شخصه الهادئ٣ نقطة،
,
, بدا بأسلوبه المنظم والدقيق غريبًا عنها، وإن كان يسعى بشتى الطرق ليشعرها بقربه، وتواجده في محيط حياتها، بذلت جهدًا مضاعفًا لتجبر عقلها، وقلبها –معًا- على فكرة تقبله، وكان ذلك من الأمور المستعصية عليها، مذكرة نفسها أنه لم يفعل ما يسئ لها مطلقًا، دومًا يعاملها بلباقةٍ وتهذيب، يمنحها معطيات السرور الأولية، لهذا بعقلانية رجحت كفة الميزان المنطقية، واستمرت في مسعاها لإتمام زيجتهما.
,
, زيارة شبه يومية كان يقوم بها، ليحرص على إنجاز ما تم الاتفاق عليه أولاً بأول، وفي مرته تلك، جلس منفردًا بها في غرفة الصالون بمنزلها، إحساسًا من الرهبة اتخذ طريقه إليها، وتسلل أسفل جلدها، بعد أن منحها مظروفًا مغلفًا يحوي الأوراق التي تخص سفرها، رفعت أنظارها لتتطلع إليه، وهو يوضح لها بابتسامته الثابتة:
, -كل حاجة مترتبة يا "فيروزة"، مش ناقص بس غير إنك تنوريني في بيتنا المتواضع في "دبي".
, بادلته نظراتٍ تائهة، لم يكن بالمازح حين أخبرها أنها ستنتقل للإقامة معه بعد عقد قرانهما، ببضعة أسابيع، قطعت صمتها اللحظي لتسأله:
, -هو لازم أسافر؟
,
, رد "آسر" متسائلاً، بنوع من العتاب الممتزج باللؤم:
, -يعني ينفع كل واحد فينا يفضل في بلد؟
, بدت تعبيراتها غير مسترخية وهي تعقب عليه:
, -أنا كنت مفكرة هنكتب الكتاب، ونقعد فترة، عقبال ما نوضب بيتنا هنا، ونتجوز فيه، وبعد كده نسافر سوا.
, أكد لها بابتسامة أكثر اتساعًا، تناقصت مع استمراره في حديثه:
, -ده هيحصل، وبيتي موجود زي ما قولتلك٣ نقطة
,
, تنهد سريعًا، وعلل لها ساردًا أسبابه:
, -بس هياخد وقت في التوضيب، لأنه قديم، فمالوش لازمة التأخير عشان أظبط مع شوية عمال، ومقاولين، وبتوع نجارة، ومش عايز أقولك إن كل يوم يدوني ميعاد شكل، ومافيش حد بيلتزم، ولا حاجة بتخلص في وقتها ٣ نقطة
, ثم تجرأ ليمسك بيدها الموضوعة في حجرها، احتضنها بين كفيه، وأسبل عينيه نحوها قائلاً لها بتنهيدة بطيئة:
, -وبعدين يا حبيبتي، أنا بعد الثواني عشان نكون سوا.
,
, شعرت بقشعريرة مزعجة تجتاحها لمجرد تلمسه لها دون استئذانٍ، سحبت يدها سريعًا للخلف لتتحرر منه، وقالت بوجهٍ شبه عابس؛ كأنه تهذبه:
, -لو سمحت، مش بحب كده.
, هز رأسه بإيماءة متفهمة، وقال دون أن تخبو بسمته، وهو يعيد ظهره للوراء:
, -براحتك .. وأنا مش حابب إني أضايقك.
, وعلى حين غرة ولج "خليل" للداخل لينضم إليهما مرحبًا بضيفه:
, -منور يا عريس.
,
, استدار "آسر" برأسه نحوه، ورد مجاملاً:
, -البيت منور بأصحابه دايمًا يا أستاذ "خليل".
, سأله الأخير مستوضحًا:
, -على ميعادنا الخميس الجاي إن شاء ****؟
, هز رأسه بالإيجاب وهو يقول:
, -أيوه، اتفقت مع المأذون يجي هنا على بعد **** العشا، وسلمته الورق المطلوب.
,
, تصنع العبوس، وزفر الهواء بتمهلٍ، ليضيف بعدها؛ وكأنه حقًا يشعر بالتعاسة لأجلها:
, -كان نفسنا نعمل حفلة وهيصة، دي بنتنا وفرحتها تهمنا.
, تحولت أنظار "آسر" نحو "فيروزة" ليتأمل تعابيرها الواجمة، بدت غير راضية عن تذمر خالها، ومع ذلك استغل الفرصة ليكرر اقتراحه بهدوءٍ واثق:
, -معنديش مشكلة .. لو "فيروزة" حابة، فأنا جاهز نحجز في أكبر فندق و آ٣ نقطة
, قاطعته حاسمة أمرها، بما لا يدع أي مجال للمناقشة:
, -لأ مش عايزة، زي ما اتفقنا من الأول، أعدة عائلية على الضيق.
,
, على أعتاب الغرفة، وقفت "حمدية" في سكونٍ حذر تتابع بتلصص ما يدور بالداخل، وعلامات الامتعاض تكسو وجهها، حدجتها بنظرة ساخطة مزدرية، وتمتمت من بين شفتيها بصوتٍ خفيض:
, -وش فقر!
,
, تنحنحت عاليًا بعدها وهي تكمل سيرها نحو الداخل، وصينية موضوع بها حلوى الجلي بالموز تحملها بين يديها، وضعتها أمام الضيف، وقالت مفتعلة الضحك:
, -بص بقى يا سي الأستاذ دي عمايل إيدي، ولا أجدعها شيف فيكي يا جمهورية.
, هتف مجاملاً، ونظرته المشرقة تضيء قسماته:
, -ما هو باين من شكلها اللي يفتح النفس.
,
, ضحكت مجددًا، وجلست إلى جوار "فيروزة"، ثم استطردت مضيفة بسماجة سخيفة:
, -بس أنا زعلانة منك، إزاي تهاود عروستنا كده، وتعملها فرح سُكيتي؟ ده إنت مقامك عالي، وهي ..
, تعمدت التباطؤ في كلماتها الأخيرة، وعيناها مرتكزتان على وجه "فيروزة"، لتراقب ردة فعلها بانتشاءٍ مستفز؛ وكأنها تريد تذكيرها بمذلتها الأخيرة، في بيت عمها، على يدها، ويد غيرها، من أجل كسر هامتها:
, -بنت بنوت، وزي الفل.
, ببساطة علق عليها "آسر":
, -و**** أنا مش ممانع.
,
, نظراتها الوقحة، وتعابيرها الشامتة كانتا كفيلتان بإشعال جذوة غضبها، تلون وجهه "فيروزة" بحمرة نارية، وصاحت بها بعصبيةٍ، قاصدة إحراجها، وربما التشاجر معها:
, -ممكن ماتدخليش، دي حاجة تخصني.
, اغتاظت "حمدية" من هجومها عليها، خاصة أنها بدت متحفزة للتشابك اليدوي معها، وهيئتها أكدت استعدادها الفعلي للمضي قدمًا في ذلك، لذا التفتت نحو زوجها تشكوها له:
, -شايف يا "خليل" بتكلمني إزاي؟ أل وأنا اللي عايزاها تفرح وتتبسط!
,
, على ما يبدو لم يكن زوجها منتبهًا لها، فهاتفه المحمول كان في يده، وتركيزه بالكامل تقريبًا مع ما تم إرسـاله إليه عبر رسائل خطه، في حين ردت "فيروزة" بتشنجٍ، ونظراتها قد تحولت للقتامة:
, -وإنتي مالك؟ دي حياتي أنا، خليكي في اللي يخصك وبس.
, أشــار لها "آسر" بيده، راجيًا:
, -اهدي يا "فيروزة"، الموضوع مش مستاهل ده كله.
, للمرة الثانية أحرجتها أمام الضيف، فشعرت "حمدية" بمزيدٍ من الاستياء، وهتفت في زوجها:
, -ما تقول حاجة يا "خليل"؟!
,
, رفع الأخير نظراته المشغولة عن شاشة هاتفه، وأدرك أن كافة الأعين متجهة إليه، خاصة نظرات "حمدية" الحانقة، أومأت له برأسها في اتجاه ابنة أخته، ليقول بصوتٍ رخيم، وبجملة اعتراضية محايدة، محاولاً مجاراة المحادثة التي لا يدرك ماهية تفاصيلها بالضبط:
, -جرى إيه يا "فيروزة"؟ ماتزعليش حد منك!
, ردت عليه "حمدية" بتهكمٍ:
, -ده اللي **** قدرك عليه؟
,
, هنا تدخلت "آمنة"، وزجرتها بصرامةٍ:
, -خلاص يا "حمدية"، زي ما بنتي تعوز هنعمل.
, استغربت الأخيرة من تضامنها مع ابنتها، على عكس المعتاد منها، وقالت لاوية ثغرها بتأففٍ:
, -هو أنا قولت حاجة غلط؟ على رأي المثل، العروسة للعريس والجري للمتاعيس.
, نهض "خليل" واقفًا ليستأذن، بقليل من الربكة البادية عليه:
, -معلش يا ابني، المدير طالبني في الشغل، هارد عليه في البلكونة، وراجعلك تاني.
, أشــار له "آسر" قائلاً بتفهمٍ:
, -اتفضل خد راحتك يا أستاذ "خليل".
, لعق شفتيه، وقال مؤكدًا:
, -دقيقة وجاي.
,
, لم تسترح "حمدية" للتوتر الملبك الظاهر على تصرفات زوجها؛ كان مرتبكًا، متلجلجًا، يبدو وكأن به خطب ما، استراب حدسها الأنثوي بشدة، وانتظرت خروجه لبضعة لحظات، حتى تتبعه، وتفتش ورائه .. ســارت بخطواتٍ حثيثة، استندت بظهرها على الحائط الملاصق لنافذة الشرفة، وأرهفت السمع لهسيس صوته وهو يقول:
, -حاضر يا "سماح"، إديني كام يوم بس، وهاقولها أي حِجة، وأجيلك.
,
, غمامة مظلمة حلت على ملامح "حمدية"، والتي كانت تكتم أنفاس حنقها بصعوبة، مجهود يفوقها بذلته لتبدو ساكنة، وهي تكتشف حقيقة خيانته لها مع امرأة غيرها، وإن كانت زوجته، لا يحق لأخرى مشاركتها فيه، تصلبت في مكانها، ولازمت الهدوء، فلا ينتبه لوجودها، سمعته يقول لها بلهجة منزعجة رغم خفوتها:
, -هعمل إيه يعني؟ خدي البت للدكتور يشوفها.
,
, زفيره الطويل وصل إلى مسامعها، ليكمل بعدها منهيًا مكالمته:
, -طيب هبعتلك فلوس بكرة في البريد، سلام بقى.
, على عجالةٍ أخفت تعابير الغضب، وتراجعت بضعة خطوات للخلف، لتبدو وكأنها قد جاءت لتوها، ادعت اهتمامها الزائف بأمره، وسألته:
, -في حاجة يا "خليل"؟
, تفاجأ من وجودها، فردد بلعثمة متوترة، والعرق يغزو جسده:
, -"حــ٣ نقطةحمدية"!
, ببرودٍ متقن سألته، وكأنها لا تعرف الحقيقة المخبأة:
, -وشك قلب كده ليه؟
, لعق شفتيه الجافتين، وقال نافيًا:
, -مـ.. مافيش.
,
, رفعت حاجبها للأعلى، وتساءلت بابتسامة ساخطة، أخفت ورائها نيران حقدها:
, -ها، المدير كان عايزك في إيه السعادي؟
, تنفس الصعداء لاعتقاده أنها صدقت بسذاجة كذبته السخيفة، وأجابها بعبوسٍ:
, -ده .. بيقولي إن بنته تعبانة، ونقلها المستشفى، واتحجزت هناك.
, زمت شفتيها في أسفٍ، وتساءلت:
, -يا حرام.. شوف إزاي؟ وده من إيه يا خويا؟
,
, تنهد على مهلٍ، ثم جاوبها مسترسلاً في تجميل كذبته بوقائعٍ منطقية، علها تنطلي عليها:
, -مش عارف.. بس باين من كلامه حالتها صعبة، واحتمال يغيب كام يوم، وبيرتب معانا الشغل هيمشي إزاي.
, قطبت جبينها، وعلقت باقتناعٍ مفتعل:
, -ده شكل الموضوع كبير.
, أكد عليها بثباتٍ، بعد أن استعاد كامل هدوئه:
, -الظاهر كده، المرض مالوش كبير.
, ضاقت عيناها، وقالت:
, -أيوه.
,
, نظر إليها مضيفًا بشيء من الرجاء المختلط بالسخرية:
, -عندك حق. ادعيلها يا "حمدية"، ده إنتي دعوتك مستجابة.
, على ثغرها ارتسمت ابتسامة باهتة وهي ترد:
, -أه طبعًا.
, وقبل أن يختتم كلامه معها، أخبرها بحذرٍ، مترقبًا لردة فعلها:
, -مش عارف بقى إن كان هيكلفني أقوم بالشغل مكانه ولا لأ.
,
, أتاه تعليقها حياديًا:
, -هنشوف يا "خليل"..
, ثم ربتت على كتفه تستحثه:
, -بلاش نشغل بالنا بحاجة لسه مجاش وقتها، وتعالى نشوف العريس اللي مستني جوا.
, وافقها الرأي، وقال في استحسانٍ:
, -معاكي حق.
, تباطأت "حمدية" في خطواتها وهي تتبعه؛ لكن نظراتها نحوه أكدت أنها ستذيقه من الويلات ما لن يطيق مطلقًا.
,
, أزاح المنشفة عن رأسه المبلل بعد تجفيف خصلاته تقريبًا، وألقى بها بإهمالٍ على فراشه، ليقف أمام المرآة، ويبدأ في تمشيطه، وترتيب المتنافر منه، وما إن انتهى "تميم" من إكمال ارتداء ثيابه، حتى خرج من غرفته، واتجه إلى غرفة الطعام؛ حيث شرعت شقيقته في رص الأطباق، استعدادًا لتناول الغذاء، ألقى عليها التحية متسائلاً:
, -عاملة إيه يا "هاجر"؟ وحبيب خالو أخباره إيه؟
, بوجهٍ شبه متجهم أجابته:
, -الحمد****.
,
, كان متفهمًا لجفاء معاملتها معه، فتلك وسيلتها المكشوفة للضغط عليه، من أجل العودة إلى زوجته السابقة؛ لكنه لم يشتكِ من جمود تصرفاتها، وتقبل ما تفعله برحابة صدر، بينما تساءلت "ونيسة" بصوتٍ شبه عالٍ، وهي تضع صينية البطاطس بالفرن الساخنة في المنتصف:
, -مش ناوي تتغدى معانا؟
, هز رأسه بالنفي وهو يجاوبها:
, -لأ يامه، كلوا إنتو بالهنا والشفا، أنا عندي شغل متلتل ورايا.
,
, عقبت في تذمرٍ ساخط:
, -أهوو كل يوم واجع قلبي كده، لا بترضى تاكل، ولا بقينا نشوفك، ولا كأنك تعرفنا، زي ما تكون قاعد في لوكاندة، تيجي تبات فيها آخر النهار، مش بيت أهلك ولا ٣ نقطة
, ثم تطرقت للموضوع الآخر، والذي لا يحبذ سماعه مُطلقًا:
, -حتى مش عايز ترد "خلود" الغلبانة تاني لعصمتك، ده البت بعد كل اللي حصل فيها لسه شرياك، هتموت نفسها عليك، وبتحبك، و**** ما يرضي حد إنك تظلم مراتك كده!
, حاول إجبار شفتيه على التقوس، والابتسام قليلاً، ثم صحح لها –ككل مرة- بأسلوب ساخر:
, -ما بقتش مراتي يامه، دي بنت خالتي وبس، إنتي على طول كده ناسية؟!
,
, حدجته بنظرة قوية مستنكرة، قبل أن تتنمر عليه:
, -ده اللي فالح فيه، تتنأرز عليا بالكلمتين الخايبين دول.
, أصر على قوله مشددًا عليها، علها تتخلى عن تلك الفكرة الميؤوس من حدوثها:
, -ماهي دي الحقيقة اللي لحد دلوقتي إنتي مش قادرة تستوعبيها.
, اِربد وجهها بالضيق من تعنته، والتفتت إلى ابنتها تُشركها في الحوار:
, -قوليله حاجة يا "هاجر"، اتكلمي معاه إنتي، أنا جبت أخري، ومابقاش عندي حاجة أقولها.
,
, وقبل أن تشرع شقيقته في لومه، بادر الجد "سلطان" متدخلاً، وهو يجلس على رأس المائدة:
, -ما تسيبوا "تميم" في حاله، بلاش شغل الحريم ده عليه.
, ردت عليه "هاجر" مبررة تصرفها:
, -يا جدي احنا كلنا عايزين مصلحته، نفسنا نشوفه متهني في بيته وآ٣ نقطة
, قاطعها معلقًا بنبرة هازئة:
, -ومافيش إلا بنت "بثينة" عشان تعمل كده؟!
,
, أطبقت على شفتيها في حرج، فتابع ملوحًا بذراعه:
, -ما أكم (يوجد) في مليون بنت غيرها.
, ردت عليه "ونيسة":
, -احنا أولى بيها من الغريب.
, أشاح بنظراته الباردة عنها، وقال:
, -خليها للغريب، معدتش تنفعه.
, كان "تميم" يراقب جدالهم دون أدنى تدخل منه، كان فاقدًا للرغبة في النقاش في أمر يستبعد كليًا تكراره، ابتسم بتلقائيةٍ، وارتخت ملامحه، حين أخبره جده:
, -اتوكل على **** يا ابني، وسيبك من كلامهم، دي صفحة واتقفلت من حياتك.
,
, هز رأسه في استحسانٍ، واستطرد بكلماتٍ مقتضبة:
, -تسلم يا جدي.
, ثم ودع والدته، التي لم تنبس بكلمةٍ، واتجه إلى خارج المنزل، ليتساءل بعدها "سلطان" موجهًا حديثه إلى حفيدته:
, -وجوزك عامل معاكي إيه؟ معدناش بنشوفه خالص.
, أجابته بتنهيدة متمهلة:
, -الحمد****، مشغول على طول يا جدي في الدكان.
,
, رفع حاجبه للأعلى، وقال بابتسامةٍ ذات مغزى:
, -يعني زي أخوكي، طفحان الدم، مش فايق لرغي الحريم، ولا مين طلق مين.
, تلون وجهها بحمرةٍ حرجة من تلميحه الصريح، وتلعثمت وهي تبرر:
, -أنا عاوزة الخير لأخويا.
, أشار لها بعينيه قائلاً بصرامةٍ:
, -أخوكي عارف مصلحة فين، وركزي إنتي في حياتك، وابعدي عن الوسواس الخناس خالتك!
, على مضضٍ ردت:
, -طيب.
,
, زيلت بيدها توقيعها بجوار اسمها في قسيمة الزواج الموضوعة أمامها، قبل أن تلطخ إبهامها بالحبر الأزرق لتختم به الأوراق، وأصوات الزغاريد تصدح حولها، ليتم الإعلان بهذا عن إتمام عقد قرانها. تلقت "فيروزة" التهنئات الغبطة من "همسة" أولاً، مصحوبة بقبلات حارة على جانب وجنتها، ثم تبعتها والدتها، وزوجة عمها، وصديقتها "علا"، بينما وقفت "حمدية" على الجانب ترمقها بنظراتها الحاقدة. كان التجمع عائليًا، ومحدودًا؛ المقربون فقط هم من حضروا، لم يتجاوز عددهم عن العشرين، تواجدوا في مطعمٍ شهير تم حجزه مسبقًا للاحتفال بالزواج.
,
, التفتت "فيروزة" برأسها للجانب، عندما تحدث إليها عمها:
, -مبروك يا بنت الغالي، بارك **** لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.
, وبوجه خالٍ من التعبيرات، ردت تجامله:
, -أمين، شكرًا يا عمي.
, وضع يده على كتفها، واعتذر منها:
, -أنا مش عايزك تزعلي مني يا بنتي بسبب اللي حصل، أنا عارف إنك بنت أصول، ومتربية، بس الشيطان بقى وآ٣ نقطة
,
, أفسد عليها –دون قصد منه- مزجها المتوتر مسبقًا، بكلماته المُحفزة، لذكريات ترفض وبشدة نبشها من جديد، لذا قاطعته مدعية كذبًا:
, -خلاص يا عمي، أنا نسيت الموضوع ده.
, ربت على كتفها بضربات خفيفة، وابتسم يمتدحها:
, -**** يكملك بعقلك..
, ثم صمت للحظة ليضيف بعدها:
, -"فضل" كان عايز يجي، بس مراته تعبانة، عقبالك يا رب حامل.
, بابتسامة متحفظة ردت:
, -**** معاها.
,
, انتهى من حديثه معها، لتتخذ "سعاد" دورها في إسماعها بعض التوصيات التقليدية من أجل حياة أسرية سعيدة، مستقرة، وهانئة، دقائق أخرى انقضت عليها وهي تجيد تمثيل اهتمامها بالإصغاء للجميع، حتى لمحت زوجها مقبلاً عليها.
,
, تقدم "آسر" نحوها وهو يتأملها بنظراتٍ بطيئة، متمهلة، مليئة بالإعجاب، تجول بعينيه على ثوبها الكريمي الرقيق الخالي من البهرجة، أو الزينة المبالغة فيها، كان قماشه مدعمًا بطبقاتٍ من التل المتراصة فوق بعضها البعض، ليمنح الثوب كثافة مقبولة، فتزيده حجمًا من الخصر، وصولاً للأسفل، أما كتفيه فكانا يغطيان ذراعيها بالكامل، وفتحه صدره لا تكشف إلا عن عنقها فقط، لاق الثوب بها كثيرًا.
,
, ارتفعت أنظاره نحو تفاصيل وجهها، مسحة ناعمة من مساحيق التجميل ازدانت بها بشرتها، فمنحتها المزيد من الجمال الباعث على السرور في النفس، كما أنها لم تحرر خصلاتها، وعقدتها في كعكة تدلت لأسفل رأسها، مزينة بطوقٍ من الإكسسوارات الذهبية، ووضعت مشبكًا رقيقًا، على جانب شعرها، تصميمه كان كما تحب؛ لطاووسٍ صغير.
,
, ابتسم بعذوبةٍ وهو يمد يده ليمسك بكفها، رفعه "آسر" إلى فمه ليقبله في لباقةٍ تحرجت منها للغاية، لكونه يفعل ذلك علنًا، ثم مال نحو صدغها برأسه، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهمس لها:
, -زي القمر يا "فيروزة".
, ردت بابتسامةٍ صغيرة:
, -شكرًا.
,
, رفع ذراعه للأعلى تقريبًا، وبخفةٍ مسد على شعرها، وكأنه يسويه، شعرت "فيروزة" بيده تنتزع مشبك رأسها من الجانب، اختفت ابتسامتها، وتطلعت إليه باندهاشٍ مستنكر، وقبل أن تعترض على تصرفه، كان مشبكها في راحته، يخبئه بداخلها، حاوطها بذراعه من خصرها، وظلت أنظاره مثبتة على وجهها المتقلص عضلاته، ابتسم موضحًا لها بصوتٍ خفيض:
, -شكله رخيص، وبلدي أوي عليكي.
,
, ردت بتحفظٍ محتجة على رأيه:
, -بس عاجبني.
, أومأ برأسه بحركة خفيفة، وقال ملطفًا:
, -هاجيبلك الأحسن منه، ده مافيش حاجة تغلى عليكي يا حبيبتي.
, اتسعت ابتسامته أكثر، وغمز لها بطرف عينه، قبل أن يقول بعبثيةٍ:
, -دلوقتي من حقي أقولك يا حبيبتي.
,
, من المفترض –وفي تلك الليلة- أن تسعد "فيروزة" كثيرًا لمشاعر الحب الودودة المحاصرة لها، وكذلك لتلهف زوجها على التودد إليها؛ لكنها لم تشعر بمظاهر السعادة تجتاحها مطلقًا، فقط أحاسيس الانقباض، والخوف من المجهول، وبدا ذلك مُربكًا لها.
, ارتفع صوت الموسيقى، فأرخى "آسر" قبضته عن المشبك، ليلقيه بغير مبالاة على الأرضية، تحرك بخفةٍ في اتجاهه، ودعسه بقدمه ليحطمه بكعب حذائه، وفي غفلة منها، وكأنه تخلص من قمامة، لا قيمة لها.
,
, بقلبٍ مكسورٍ، وروحٍ محطمة، وعينين تحبسان الدمع فيهما، اختبأ "تميم" كاللصوص، في تلك البقعة المعتمة نسبيًا، في سيارته، وعلى مسافة جيدة من هذا المطعم تحديدًا، حيث تكشف حوائطه الزجاجية عما يدور بالداخل للمارة في الطريق، رأها توقع صك ملكيتها لغيره، ولم يجرؤ على إبعاد نظراته عنها، ومع سماعه لانطلاق أصوات الزغاريد، ذرف الدموع قهرًا، فالحقيقة أصبحت نافذة، لم ولن تكون له أبدًا، تبخرت الأحلام البسيطة، وتلاشت في معترك الحياة الأليمة، أما الوحشة فعادت لتحتل قلبه وتغلفه، اشتدت أصابعه على عجلة المقود، وقال لنفسه بحزنٍ؛ وكأنه يواسيها:
, -هي خلاص اختارت طريقها، وحتى ماتعرفش أصلاً إني٣ نقطة
,
, بتر اعترافه بعشقه المنفرد، قبل أن تتجرأ شفتاه على النطق به، تنفس بعمقٍ، ومسح بظهر كفه وجهه المبتل، ثم قال في أسفٍ، كما لو كان يناجي المولى، وبنبرته الحزينة:
, -يا رب أنا ما عمريش طلبت حاجة لنفسي مخصوص، طول عمري بأفكر في غيري، وضحيت بسنين من عمري عشان غيري٣ نقطة
, نشج صوته أكثر، وغلفه المزيد من الشجن، وهو يتابع:
, -هي الحاجة الوحيدة اللي اتمنيتها من كل قلبي.. بس راحت خلاص مني..
,
, انسابت دموعه الحرقة مرة أخرى تأثرًا بابتعاده المحتوم عنها، والذي بدا وكأنه دوامة ساحقة للروح من العذاب الأبدي، نكس رأسه منتحبًا في أنينٍ خافت، وأنهى سلوان نفسه مرددًا بعينين ارتفعتا ببطءٍ نحو السماء:
, -أكيد يا رب ليك حكمة في كل اللي بيحصلي، أنا راضي بقضاءك، فصبرني عليه.
, أخفض حدقتيه المشبعتان بعبراته ليراها تحملق أمامها بشرودٍ، التقت عيناه -وسط العتمة التي يختبئ بداخلها- بنظراتها الضائعة لمرة كانت فعليًا الأخيرة له.
,
, بغير ترتيب مسبق، اتصل هاتفيًا بها، في تلك الساعة المبكرة، لتستفيق من نومها العميق على خبر صدمها بشدة، وجعل حواسها تتيقظ بالكامل، خاصة أنه كان بعد بضعة ساعات من عقد قرانها عليه، ليربك كافة حساباتها، ويفسد جميع مخططاتها بشأن إعادة تغيير تصاميم الديكور للمنزل المملوك لزوجها، والذي لم تره بعد! سألته "فيروزة" في ذهولٍ، وهي تدعك عينيها بقبضة يدها، لتطرد بقايا آثار النعاس منهما:
, -يعني إيه إنت في المطار؟
,
, رد عليها "آسر" بنبرة هادئة معتذرًا منها:
, -أنا أسف يا حبيبتي، بس في مشكلة حصلت في الشغل، ولازم أسافر حالاً.
, تعقدت ملامحها وهي تسأله مستفهمة:
, -فجأة كده؟
, أخبرها باقتضابٍ:
, -أيوه.
, سألته بنفس النبرة المصدومة:
, -طب وأنا؟ وترتيباتنا سوا، احنا متفقين على إننا هنروح نختار ألوان الدهان، وآ٣ نقطة
,
, منعها من إكمال جملتها بتكرار اعتذاره:
, -حقك عليا، هعوضك لما تجي عندي، هتقضي أحلى أيام.
, سألته كمحاولة أخيرة فاشلة، كانت متأكدة أنها لن تجدي نفعًا:
, -مكانش ينفع تأجلها كام يوم؟ الموضوع شكله بايخ أوي لما تسافر تاني يوم كتب كتابنا.
, بهدوءٍ علق على ذلك، وقال:
, -حبيبتي محدش ليه عندنا حاجة، وبعدين كان صعب أأجل السفر.
, زلة لســان انفلتت منه دون وعيٍ، التقطتها "فيروزة"، وسألته مباشرة على الفور:
, -يعني إنت كنت حاجز قبلها؟!
,
, تلجلج وهو يبرر لها:
, -لأ.. مش بالظبط٣ نقطة ده أنا آ٣ نقطة
, وقبل أن يبدو ضعيف الحُجة أمامها، أضاف بلهجة رسمية للغاية:
, -بصي أنا هاكلمك أول ما أوصل، لأحسن الطيارة ميعادها جه، خلي بالك من نفسك.
, طردت زفيرها المهموم من رئتيها، قبل أن تنطق:
, -حاضر.
, غازلها بمعسول كلامه الناعم، فقال:
, -هتوحشيني يا قلبي، الدنيا من غير مالهاش طعم، غصب عني أسافر.
, لم تجد ما تقوله له سوى:
, -حصل خير.
, أنهت معه المكالمة وهي ما تزال في حالة اندهاش من سفره المباغت، خابت آمالها، وانهار سقف توقعاتها في تشييد مسكنها؛ لكن ما باليد حيلة، عليها أن تتعامل مع الواقع ومفاجآته الصادمة.
,
, بمحض الصدفة عَلِم من "وجدي"، خلال حفل عقد قرانه، عن انشغاله مؤخرًا، بكشف الخيوط المؤدية لإحدى عصابات التهريب الخطيرة، بعد انتقاله لمكتب المكافحة، واستشف من جمله المقتضبة، أنه بصدد الإمساك بأول أطراف الخيط معًا، فاتخذ "آسر" حذره، وحجز تذكرة ذهابٍ (فقط) لدولة الإمارات، على أول طائرة متجهة إلى هناك، استقر في مقعده بدرجة رجال الأعمال، وأمسك بهاتفه المحمول ليهاتف "محرز" ليأمره بلهجة من يقرر:
, -ماتخليش أي حاجة ليها صلة بينا، سامعني.
,
, سأله مستوضحًا:
, -ليه يا ريس؟
, رد بكلماتٍ ذات دلالة مفهومة لهما:
, -النسر بيشمشم.
, جاءه صوته متوترًا وهو يلاحقه بأسئلته:
, -أوبا، وبعدين؟ إيه العمل؟ وحاجات الناس؟
, أمره بنفس اللهجة الصارمة:
, -نضف كل حاجة وراك، مافيش قشاية.
, لم يكن "محرز" راضيًا عما يخبره به، ومع هذا قال له بإذعانٍ مرغم:
, -ماشي الكلام، مع إن فيها خسارة كبيرة.
,
, شدد عليه بنبرة لا تمزح:
, -الخسارة تتعوض، لكن حياتنا لأ.
, رد عليه مستسلمًا:
, -معاك حق.
, عــاد "آسر" ليأمره، بعباراتٍ متوارية:
, -واطلع شم هوا، الجو حلو اليومين دول، قبل الزحمة.
, علق بنوعٍ من السخرية:
, -حاضر.. نقضيها مصايف.
,
, أنهى "آسر" المكالمة معه، وأغلق هاتفه المحمول، ليغوص بعدها في مقعده المريح، وقد قامت المضيفة بالتأكد من ربطه لحزامه، التفت للنافذة البيضاوية إلى جواره، واستمع بابتسامةٍ تعلو زاوية فمه، إلى صوت المذياع الداخلي بالطائرة، حيث تطلع المضيفة جميع الركاب، على إرشادات السلامة خلال الرحلة الجوية، وشعوره بالارتياح اِزداد تدريجيًا مع بدء تحرك الطائرة على مدرج الطيران٣ نقطة!
 
٣٠

في نفس ليلة عقد القران، وتحديدًا قبيل الفجر تقريبًا؛ حيث الهدوء الطبيعي في تلك الساعة، والتزام غالبية سكان المنطقة لمنازلهم، ظهر هذا الغريب من بقعة ما، وبثيابه السوداء، وغطاء الرأس الذي أحكم وضعه عليه، بمقدمته المقوسة، ليخفي ملامحه عن عدسات كاميرات المراقبة، تسلل ذلك الملثم بخطوات حذرة نحو البناية التي يعرف مداخلها جيدًا، تلفت حوله يمينًا ويسارًا، ليتأكد من عدم تتبع أحدهم له، وكان الطريق خاليًا من المارة، مجهورًا إن دق التعبير، كما ساعدته الحُلكة السائدة على ستره من الأعين التي يُمكن أن تلمحه، انتظر لهنيهة قبل أن يحمل الجِوال الأزرق المصنوع من (الخيش) فوق ظهره، لم يكن ثقيلاً؛ لكنه بحاجة للانتباه لمحتوياته حتى لا تتبعثر، فتُحدث فوضى دون داعٍ.
,
, توقف عند أعتاب المدخل، ورفع رأسه للأعلى ليلقي نظرة متأملة عن كثب، كل النوافذ مغلقة، لا إضاءة تقريبًا إلا من تلك المنبعثة من أعمدة الإنارة، السكون كان سيدَ الموقف، ابتسم من خلف الوشاح الذي يلثم به وجهه، وواصل السير الحثيث نحو الداخل، اعتلى الدرجات في حذرٍ شديد، عاونته المصابيح ذات الإنارة الباهتة على رؤية مساره، صعد قاصدًا ألا يتسبب وقع أقدامه في إصدار أقل صوت، وبحرصٍ مبالغ فيه، توقف عند الطابق الخاص بعائلة "بدير"، تركزت أنظاره القاتمة على اللافتة النحاسية المحفور عليها لقب "سلطان"، قست نظراته، وغلفها الضيق، وهمس لنفسه، بما يشبه الوعيد:
, -النهاية قربت.
,
, تجاوز الباب ليصعد للطابق الأعلى؛ لكنه توقف في منتصف الدرجات، ليسند الجِوال على البسطة الصغيرة التي تتوسط الدرج، استقام في وقفته، ووضع يده على الدرابزين، سمع حفيف أقدام قادمًا من الأسفل، يزداد وضوحًا كلما تقدم، قفز قلبه في رعبٍ، وانحنى متواريًا عن الأنظار، حبس أنفاسه، وانتظر في ترقبٍ، لم يتوقع قدوم أحدهم في تلك الساعة المتأخرة، وآخر من توقع رؤيته هو "تميم"، لمحه وهو يقف عند باب المنزل، يدس المفتاح في قفله، حرص كل الحرص على عدم التحرك، وتابعه بعينين متوترتين، آملاً ألا يشعر بوجوده، وما إن أغلق الباب حتى نهض من جلسته غير المريحة، والتي آلمت قدميه، ليفر هاربًا قبل أن يكتشف أمره، ومثلما جاء في الخفاء، اختفى في الظلمة، دون أن تظهر من ملامحه أي تفصيلة تدل عليه.
,
, جلس في شرفة غرفته، بعد أن عاد متأخرًا من الخارج، على المقعد الخشبي، ممددًا ساقيه للأمام، مكث فيها حتى سطع النهار، يتذكر تلك اللحظات المؤلمة لقلبه، والتي أبت أن تتركه يهنأ بسلامه الزائف، حرك عنقه المتيبس للجانبين، وبين إصبعيه سيجارته المشتعلة، قربها من فمه، وسحب نفسًا عميقًا منها، كتمه بداخله لبرهةٍ، ليحرر بعدها دفعة جديدة من الدخان الحارق لصدره، قبل أن يتوقف عن تدخينها، ويطفئها في المنفضة التي امتلأت عن آخرها بأعقاب سجائره، واحدة تلو الأخرى تناولها، كوسيلة متاحة –ووحيدة- أمامه للتنفيس عما يخنقه، نظر إلى آخر سيجارة أخرجها من علبتها الكرتونية مقوسًا ثغره في سخرية، طوى العلبة بقبضته، وألقاها إلى جواره، وأمسك بالسيجارة بين شفتيه ليشعلها، وأغمض عينيه في إرهاق غطى كامل وجهه.
,
, تصلب في جلسته غير المريحة، حين سمع صوتًا أنثويًا يأتي من الأعلى، وكأنه يتحدث مع أحدهم:
, -دي قلة ذوق منه و****، إزاي يسيبها كده؟ ده أنا اتجننت لما ماما قالتلي.
, استغرقته بضعة لحظاتٍ ليدرك أنه صوت "همسة"، تتحاور مع زوجها، اعتدل في جلسته، وركز كل حواسه مع جدالهما، فقد خمن أن لنقاشهما المشبع بأمارات الانزعاج علاقة قوية بليلة الأمس، خاصة بعد ترديد اسم طاووسه بقوة على لسانها:
, -"فيروزة" ماتستهلش كده!
,
, نهض "تميم" من مقعده، وتراجع للخلف، حتى لا يلاحظا وجوده، ويتوقفا عن سرد التفاصيل المبهمة التي يتطلع لمعرفتها بتلهفٍ واهتمام، أتاه صوت "هيثم" مبررًا بنبرة عادية:
, -أكيد حصله مصيبة في شغله، الظروف ياما بتحصل.
, ارتفعت نبرتها المتذمرة وهي تعقب عليه:
, -ماما بتقولي إنه كان حاجز تذكرة الطيران من قبلها، يعني الموضوع مش مفاجأة بالنسباله.
,
, حاول "تميم" أن يستجمع أطراف الخيوط معًا، ويربطها، ليصل في الأخير إلى صورة أولية تفسر حديثهما الغامض؛ لكن "هيثم" أنهى النقاش قائلاً:
, -كبري دماغك يا "هموس"، هما أحرار مع بعض.
, على مضضٍ قالت له:
, -طيب، بعد ما أكمل نشير للغسيل، أنا هاروح أقضي اليوم مع "فيروزة"، هاخد بخاطرها، أكيد هي زعلانة.
, رد عليه "هيثم" بنبرة شبه مستاءة:
, -ماشي، بس عايزين نركز في بيتنا.
,
, ردت بتبرمٍ:
, -هو أنا هاقعد في الشارع؟ ده من بيت لبيت يا "هيثم".
, اقتضب زوجها في رده قائلاً:
, -ماشي.
, شعور بالاستغراب والاسترابة في نفس الآن تسرب بقوة إلى "تميم"، وحثه على عدم تجاهل الأمر، ودون إعادة تفكير قال لنفسه بنبرة عازمة:
, -لازم أعرف الحكاية فيها إيه!
,
, كناجٍ وجد طوق النجاة، بعد معاناة مع الغرق، تلكأ في خطواته بمجرد خروجه من المنزل، وإغلاقه لبابه، ظل "تميم" واقفًا أمام عتبته، منتظرًا نزول "هيثم" من الأعلى، ليسأله بنوعٍ من المراوغة، عن تفاصيل ما سمعه خلال حواره مع زوجته، استطاع أن يسمع صوته وهو يودعها، فاستعد للتحرك، ليبدو كما لو أنه التقاه مصادفةً على الدرج، تنحنح بصوتٍ شبه مرتفع، ليستهل حديثه بعدها، وهو ينظر في اتجاهه:
,
, -صباح الخير.
, رد وهو ينظر في اتجاهه:
, -صباحك فل يا معلم.
, سأله بفتور؛ وكأن التوق لا يحرقه لاستدراجه في الحديث، واستخراج المعلومات التي يحتاج لمعرفتها منه:
, -جاي معايا يا "هيثم"؟
, رد بنظراتٍ شردت في اتجاه الجِوال:
, -أيوه٣ نقطة
, ثم تساءل وعيناه مثبتتان عليه:
, -هو الشِوال ده تبع حد؟
, قطب "تميم" جبينه، ورد متسائلاً في استغرابٍ:
, -أنهو شِوال؟
, أشــار "هيثم" بيده وبعينيه نحوه موضحًا:
, -اللي محطوط هنا.
,
, تحرك ابن خالته في اتجاهه، مُرجئًا ما يفكر فيه لبعض الوقت، حتى يتبين الموضوع، وصعد على مهل بضعة درجاتٍ، ليقف أمام الجِوال المريب، دارت نظراته عليه دون أن يمسه، فحصه من الخارج، وهو يتساءل أيضًا:
, -ده بتاع إيه ده؟ حاجة تخص جماعتك؟
, نفى على الفور:
, -لأ.. وبعدين ده مكانش موجود هنا بالليل.
,
, استراب من جملته الأخيرة، وبدأت الهواجس تساوره، لذا قام "تميم" بفتحه من الأعلى، فوجد نشارة أخشاب جديدة تملأوه، تلك المستخدمة في صناديق نقل الأشياء الضخمة الثمينة، حتى لا تتحطم، مما زاد من دهشته، نظر إلى ابن خالته، وردد بقليلٍ من الحيرة:
, -دي نشارة خشب!
,
, زوى ما بين حاجبيه مغمغمًا:
, -نشارة! وجايبينها هنا ليه؟
, نظر لها بنظراتٍ حادة، قبل أن يعلق بسخطٍ:
, -بتسألني أنا؟
, لعق شفتيه، وقال وهو يهز كتفيه:
, -ما أنا زي زيك مش عارف.
, تساءل "تميم" في فضولٍ حائر؛ وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
, -مين اللي جابه من برا لهنا؟ وإزاي ماشفنهوش
, ببلاهة أجاب "هيثم":
, -مش عارف، وبالليل لما رجعنا مكانتش هنا.
,
, ضاقت عينا "تميم" بشكٍ، فهذه الأنواع من الأجوال، تستخدم في بعض الأحيان، لتهريب المواد المخدرة والممنوعة، هتف مفصحًا عما يدور في رأسه فجأة:
, -لأحسن يكون فيه حاجة من إياها!
, تحولت تعابير "هيثم" للصدمة، وقال مذهولاً:
, -أوبا، ده ابن ٣ نقطة اللي يفكر يعمل كده، لأ وعندنا كمان؟!
, -هنشوف.
,
, أوجز حديثه بتلك الكلمة، ولف ذراعه خلف ظهره، ليخرج من جيب بنطاله الخلفي مديته، أشهرها، ونغز بنصلها الحاد –وبعمقٍ- أماكن متفرقة في الجوال، ليكشف بتلك الوخزات عن وجود ما يعيق مرور نصله، وبالفعل علقت مديته في شيء ما، جذبها بخشونة ليحدث شقًا عريضًا في تلك المنطقة، ثم دس يده، وسحب العائق؛ وكانت المفاجأة، وجد كلاهما مغلفًا مريبًا، مصنوعًا من البلاستيك، مخفيًا داخله. تفحصه "تميم" بنظراتٍ دقيقة، واستعان بمديته مرة أخرى، ليفض الكيس المحكم، وهنا تم الكشف عن أشرطة دواء غريبة، تبادلا النظرات المصدومة، نطق "هيثم" أولاً وهو يزدري لعابه:
, -يا صباح اللومان، لأ وعشماوي كمان.
,
, وبخه "تميم" بصوته الأجش، وتلك النظرة الصارمة تكسو عينيه:
, -إنت هتعدد؟ اسكت، مش ناقصين فضايح.
, سأله بسذاجةٍ ليتأكد من صحة ما تفقه إليه ذهنه:
, -ده برشام، مظبوط؟
, أجاب ابن خالته بنفاذ صبر، وكأنه يزجره:
, -أيوه، واهدى على نفسك مش عايزين شوشرة.
,
, هوى قلبه في قدميه رعبًا، فمعنى وجود تلك المواد المخدرة معهما أنهما متورطان فيها، وإن قام أحدهم بالإبلاغ عن وجودها، لوقعا في المحظور، وأصبحا في أزمة خطيرة، لذا على عجالة تساءل في خوفٍ، معبرًا عن هواجسه:
, -طب وهنعمل إيه؟
,
, تجاهل "تميم" الرد عليه، ليكمل مهمته في فحص باقي الجِوال، بعد إسناده للمغلف على إحدى الدرجات، ليضمن خلوه من أي مواد مخدرة مخبأة فيه، اعتدل في وقفته، بعد أن أعاد نصل مديته إلى مكانه، ثم أشار بيده لابن خالته المتوتر، ملقيًا بأوامره عليه:
, -خد الشِوال ده ارميه في المقلب اللي على أول الشارع، واطلع ورايا على السطح بعد كده.
, بإيماءة موافقة من رأسه كذلك، قال "هيثم" بانصياعٍ:
, -ماشي.
,
, وبثباتٍ انفعالي يناقض طبيعة الموقف الموترة للأعصاب، صعد "تميم" لسطح المنزل، باحثًا عن إحدى صفائح علب الجبن المعدنية الفارغة، والمخزنة بالأعلى، ضمن الكراكيب المهملة فيه، ليضع بداخلها المغلف، ثم التقط زجاجة البنزين المملوءة بكمية بسيطة منه، والتي أحضرها من الدرج المخصص لأدوات النظافة الموجود أسفل الحوض في مطبخ منزله، ليسكب كل محتوياتها على المغلف، وأخرج ولاعته من جيبه، ثم أشعل النيران بالصفيحة، ليحرق ما بداخلها بالكامل، راقب ألسنة اللهب وهي ترتفع، وتخرج عن حافة الصفيح.
,
, لكنها التهمت المغلف وما يحتويه، ضاقت عيناه أكثر، ولم يتوقف عقله عن التفكير للحظة في ذلك المجهول الأرعن الذي تجرأ، ودس مثل تلك الأشياء المهلكة في بيت عائلته، حتمًا لم يفعل ذلك مصادفةً، ولم يأتِ تصرفه الموجه لشخص العائلة من فراغ، هناك من يتربص في الخفاء قاصدًا إلحاق الأذى بأحد أفرادها؛ ولكن من يا تُرى هذا الوغد؟ قطع استغراقه في أفكاره التحليلة صوت "هيثم" اللاهث وهو يسأله:
, -تفتكر مين اللي عايز يلبسنا تهمة تعلق رقبتنا على حبل المشنقة؟
,
, أجابه "تميم" بغموضٍ:
, -دلوقتي هنعرف.
, تطلع إليه في عدمِ فهمٍ، ولاحقه بالسؤال:
, -هتعمل إيه؟
, رد على مهلٍ مُشيرًا لخطوته التالية، ونظراته موجهة إليه:
, -هكلم الواد بتاع محل الكاميرات، يجي يشوفلنا الليلة دي بدأت إزاي.
, لوح "هيثم" بذراعه، وتساءل مرة أخرى:
, -طب والقرف ده؟
,
, سكت عن الكلام لثوانٍ، ثم قال بصرامةٍ نافذة:
, -اكفي على الخبر ماجور، محدش يعرف عنه حاجة، سامع.
, أطبق على شفتيه وهو يعلن في صمتٍ عن اتباعه لأوامره، فهذه المسألة لا تحتاج لجدال أو لفت الانتباه، لكون الخطأ بها يودي للهلاك الحتمي.
,
, بعد أن فرغا من التخلص من تلك المواد المخدرة، ومهاتفة "تميم" للشاب المسئول عن تركيب كاميرات المراقبة، هبط كلاهما للأسفل، وتحديدًا في منزل "سلطان"، شدد الأول على ابن خالته بالتزام الصمت التام، وألا يتفوه بأي حماقة تخص ما اكتشفاه، حتى لا تثار أي ضجة، ونفذ "هيثم" ما أُملي عليه بالكامل، وجلس منتظرًا قدوم الشاب بأعصابٍ متوترة، جاءت "ونيسة" لتحيته متسائلة عن عمدٍ، وهي تضع كوب الشاي أمامه:
, -أختك عاملة إيه دلوقتي يا "هيثم"؟
,
, نظر أولاً إلى "تميم"، الذي على ما يبدو لم يكن مهتمًا بسماع رده، وقال بعدها ببسمة مقتضبة:
, -الحمد**** أحسن.
, تركزت عينا خالته على ابنها الصامت، وأضافت بوجه مقلوب:
, -**** يصبرها على اللي هي فيه، ويعوضها خير.
, علق بإيجازٍ:
, -يا رب
, تابعت؛ وكأنها تقصد بذلك إخبار ابنها بطريقٍ غير مباشر:
, -أنا رايحة اطمن عليها عند أمك، بقالي كام يوم ماشوفتهاش، وهي يا حبة عيني من آخر مرة كانت مش عجباني.
,
, تنحنح بخفوتٍ قبل أن يعقب عليها:
, -تنوري البيت يا خالتي.
, وجه "تميم" حديثه إلى والدته، فاستطرد قائلاً لها:
, -احنا شوية ونازلين يامه، لو وراكي حاجة خلصيها، مش عايزين نعطلك.
, نظرت له شزرًا، وبملامح عابسة متجهمة، قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه، ثم أخبرت ابن شقيقتها بابتسامةٍ صغيرة:
, -إنت مش غريب يا "هيثم"، لو عوزت تاكل ولا تشرب، ماتكسفش، قولي.
,
, تصنع الابتسام وهو يشكرها:
, -تسلمي يا خالتي، دايمًا عامر، بس أنا كلت مع "همسة".
, تنهدت وهي تعقب على كلامه:
, -**** يهنيكم مع بعض.
, -يا رب.
, شيع "هيثم" خالته بنظراته خلال انصرافها من المكان، ثم مـال برأسه نحو "تميم" ليسأله بمزاحٍ حذر، بعد أن لاحظ التوتر السائد بينهما:
, -هي خالتي مقطعاك ولا إيه؟
, رد الأخير بدون مبالاة:
, -متخدش في بالك.
,
, أضــاف "هيثم" بنفس الأسلوب الساخر:
, -ماتحسسنيش إن "خلود" السبب.
, تجمدت عينا "تميم" عليه، وقال بتحفظٍ:
, -**** يهديها لحالها.
, فهم ابن خالته من جملته المقتضبة، أنه لا يحبذ أبدًا، التطرق لما كان بينهما في يومٍ ما، من شأن خاص، واحترم تلك الرغبة فيه، وانشغل بالتفكير في كشف غموض واقعة المواد المخدرة.
,
, على وجهِ السرعة، جاء الشاب لمنزل "تميم" ليفحص بحاسوبه النقال، ما تم تسجيله على أشرطة كاميرات المراقبة، جلس الثلاثة بغرفة الصالون، وحرص مُضيفهم على توفير الخصوصية، ليتم مراجعة ما دار بسريةٍ؛ كان الأمر واضحًا كالشمس في كبدِ السماء، ذلك الملثم يعرف جيدًا ما يفعله، أخفى وجهه بشكلٍ احترافي، فلا تظهر ملامحه، وتعمد التحرك بظهره، ليزيد من حرصه، ما أدهش "تميم" وصدمه بشدة، وجعل الدماء أيضًا تغلي في عروقه، إظهار الفيديو لوجود الملثم في الطابق العلوي، ومراقبته له بتحفزٍ؛ وكأنه يتربص به، للانقضاض عليه، في حين غفلة، خلال عودته المتأخرة للمنزل، كز على أسنانه مدمدمًا في حنقٍ:
,
, -ابن الـ٣ نقطة كان مرقدلي في الضلمة!
, رد عليه "هيثم" بنبرة مغلفة بالقلق:
, -الحمد**** إنه معملش فيك حاجة، ده شكله ابن ليل!
, التفت برأسه نحوه، ورد بتوعدٍ، وأصابعه قد تكورت على بعضها البعض لتشكل قبضة قوية، تستعد للكم:
, -أه لو كنت لمحته، كنت علقته زي الدبيحة.
,
, تأمل "هيثم" هيئته المتحفزة، كان على وشك الفتك بأحدهم، أدار رأسه بعيدًا عنه، ليحدق فيما تعرضه شاشة الحاسوب، لمح شيئًا بدا مألوفًا له خلال مشاهدته، فصاح بغتة، وهو يلكز بيده على كتف الشاب:
, -استني كده، وقف الكاميرا هنا.
, على الفور تساءل "تميم" في اهتمامٍ كبير:
, -في إيه؟
,
, رفع رأسه في اتجاهه، وقال:
, -عايز أتأكد من حاجة..
, ثم مال على الشاب ليبدو قريبًا من الشاشة، وأمره:
, -رجعها لورا..
, بقيت نظراته تراقب تفاصيل المشهد بدقةٍ، إلى أن هتف فجأة، عند مقطع بعينه:
, -بس وقف.
, أوقف الشاب التسجيل، لتتجمد الصورة، وتحتل الشاشة بأكملها، هنا أشــار "هيثم" بسبابته، نحو بقعة فيها، وهتف موضحًا:
, -الطقية دي بتاعة الواد "نوح"!
,
, حين أفصح عن هويته، تجهمت تعابير "تميم" بشدةٍ، وسأله بوجهٍ مقلوب، وقد احتدت عيناه:
, -إنت متأكد؟
, أتاه جوابه الواثق، بما لا يدع أي مجالٍ للشك:
, -أيوه أنا اللي جايبهاله، وكانت مقطوعة من الجمب.
, توعده ابن خالته بلهجة تحولت للقتامة:
, -هيتروق عليه الواد ده، هايشوف النجوم في عز الضهر، و**** لهخليه عبرة لمن لا يعتبر.
,
, تعلق "هيثم" بذراعه ليستوقفه قبل أن يتحرك، وأضاف بنبرة شبه مهتزة:
, -استنى كده يا "تميم"، دي مش مشيته، ولا ده جسمه، أنا متأكد.
, الذبذبة التي استشعرها في صوته، جعلته يرتاب منه، لذا انتزع "تميم" ذراعه من قبضته بعصبيةٍ، واستنكر دفاعه عنه بقوله الفظ:
, -ولا عشانك اتأكدت إنه صاحبك؟ وشبهك؟
,
, كان تلميحه –رغم عفويته- وقحًا، ويحمل الاتهام في طياته، بأنه مثل رفيقه، ارتكب من الأمور الطائشة والمخجلة، ما يضعه في موضع شبهة، ابتلع "هيثم" إهانته، وقال بنظرات معاتبة:
, -**** يسامحك.. مش هارد عليك، بس عشانه زي ما قولت صاحبي، فأنا عارفه كويس، ودي مش مشيته!
, لم يبدُ "تميم" مقتنعًا بما اعتبره لغوًا فارغًا، بينما أصر "هيثم" على توضيح مقصده، فأردف:
, -ولما قولت إنها طقيته، مقصدش إنه هو، بس ده واحد غيره لابسها.
,
, زم شفتيه للحظة، قبل أن يعقب بتهكمٍ:
, -هنشوف إن كانت بتاعته ولا لأ..
, ثم خاطب الشاب قائلاً له، وقد أخرج من جيبه حفنة من النقود:
, -خد حسابك يا ابني، ومحدش يعرف سيرة بده.
, أغلق الشاب حاسوبه، ورد بهدوءٍ:
, -تمام يا معلم.
,
, استغرقهما الأمر خمس دقائق ليصلا إلى عنوان منزله، أوقف "تميم" سيارته على ناصية الطريق، بسبب الزحام الغريب في المنطقة، في هذا التوقيت المبكر، حشدٌ متداخل يسد الشارع تقريبًا، وهمهمات صاخبة تتحدث عن حادثة قتل مروعة تعرض لها أحدهم، ترجل الاثنان من السيارة، وتحركا في اتجاه هذا التجمع، بادر "هيثم" متسائلاً، وهو يشق طريقه بين الأجساد البشرية المتلاحمة:
, -في إيه يا جدعان؟ إيه اللي بيحصل هنا؟
,
, أجاب أحد ساكني البناية بقليلٍ من الأسف:
, -الواد "نوح" اللي ساكن في السطوح لاقوه مقتول.
, تخشب في مكانه مصعوقًا، وحملق فيه بعينين متسعتين في ارتعابٍ، شل وقع الخبر المفجع تفكيره، وأيضًا لسانه، ففقد قدرته على النطق أو التعليق، على عكسه كان "تميم" أقل تأثرًا، وأكثر تماسكًا، فتساءل مستفسرًا عن ملابسات مقتله:
, -عرفتوا منين؟
,
, استرسل الساكن يسرد له:
, -واحدة من إياهم كانت الظاهر طالعة عنده، ولاقته مقتول وسايح في دمه، صويتها جاب التايهين، ولم كل السكان.
, تعقدت تعابير "تميم" في استغرابٍ مليء بالاسترابة والشكوك، وسأله في اهتمامٍ، آملاً أن يعرف منه المزيد:
, -وإزاي ده حصل؟
,
, رد الساكن بنبرة عادية:
, -محدش عارف لسه! في ناس بتقول واحد ابن حرام اتخانق معاه عشان بت شمال، وناس بتقول ولاد الليل طلعوا عليه، إكمنه ليه في الشم والكيف، قتلوه لأنه ماسددش اللي عليه.
, هز "تميم" رأسه في تفهمٍ، وعلق عليه:
, -الكلام كتير يعني.
, أضــاف الساكن مؤكدًا:
, -أيوه، والبوليس والنيابة فوق، ويا خبر بفلوس!
, اختتم معه حديثه هاتفًا:
, -متشكرين يا سيدي.
,
, ثم استدار في اتجاه ابن خالته، وجذبه بقليلٍ من القوة بعيدًا عن الحشد، متراجعًا به للخلف، وهو شبه يأمره:
, -اتحرك معايا يا "هيثم".
, كان الأخير متثاقلاً في خطواته، يجر قدميه تقريبًا، رافضًا التحرك، ونطق من بين شفتيه، بنبرة مصدومة:
, -"نوح" اتقتل يا "تميم"، اتقتل.
, بدون شفقة ظاهرة عليه، غمغم ابن خالته:
, -**** يرحمه.
,
, تساءل "هيثم" في صدمةٍ؛ وقد بدا غير قادرٍ على استيعاب ذلك:
, -طب قتلوه ليه؟
, لم يشاركه "تميم" في إظهار عواطفه نحوه، كان تفكيره مشغولاً بشيء آخر، وردد مع نفسه في حسرةٍ انعكست على ملامحه العابسة:
, -مفتاح أول الخيط كان عنده، ودلوقتي ضاع!
,
, وقع المفتاح من يده، وهو يحاول دسه في القفل، ليفتح باب منزله، ما زالت أطرافه ترتجف، بعد تلك الليلة العصيبة التي خاضها، استجمع جأشه، وتمكن أخيرًا من فتح الباب، ولج للداخل، وأغلقه خلفه بهدوءٍ، حاول "محرز" أن يضم طرفي سترته السوداء معًا، ليخفي آثار اللطخات التي تلوث قميصه الكريمي، وطوى في قبضته الأخرى الطاقية التي استعارها، توقع أن يجد زوجته غافلة؛ لكنه تفاجأ بها تتجول في صالة المنزل، حاملة لرضيعهما بين ذراعيها، تهدهده في لطفٍ وحنو حتى يغفو، اندهشت "هاجر" من رؤية زوجها على تلك الحالة الفوضوية، وسألته؛ وكأنها تحقق معه:
, -مالك يا "محرز"؟ جاي مبهدل كده ليه؟
,
, ارتبك من حضورها، وجاهد ليبدو هادئًا فلا تستريب في أمره، تشتت نظراتها عنه للحظة حين بكى الرضيع، فلاطفته بكلماتها الرقيقة، قبل أن تركز عينيها من جديد عليه، وهي تلاحق بمزيدٍ من أسئلتها:
, -وبعدين إنت مش كنت قايلي هترجع بالليل، إيه اللي أخرك لحد الصبح؟ وقافل تليفونك ليه؟
, ادعى كذبًا بصوتٍ مضطرب:
, -مش أنا قايلك صاحبي عامل عقيقة لابنه، وهافضل معاه طول الليل.
,
, زمت شفتيها في امتعاضٍ، وأعادت تكرار السؤال عليه بسخطٍ، ونظراتها الغاضبة موجهة لشخصه:
, -وموبايلك؟ إيه مكانش عندك وقت تكلمني فيه؟
, استمر في كذبه قائلاً:
, -موبايلي فصل شحن، وأنا نسيت الشاحن، ما كفرتش يعني.
, تباعد طرفا سترته عنه، فظهرت البقع الملوثة على قميصه، شهقت "هاجر" مرددة في استنكارٍ:
, -إيه اللي حصل للقميص يا "محرز"؟
,
, لا إراديًا انخفضت نظراته نحوه، وجمع طرفي السترة معًا، ليخفي الآثار الجافة للدماء عنها، لعق شفتيه، وهتف بصوتٍ متلعثمٍ:
, -ده.. الخروف، أصل بعد ما .. دبحناه كان لسه فيه الروح، وقام جرى، فأنا مسكته، وبهدلني زي ما إنتي شايفة
, كانت على سجيتها، فلم ترتاب مطلقًا في أمره، لهذا اقتنعت بسهولة بكذبته، التي بدت منطقية للغاية، وصدقتها دون أدنى تشكيك في صحة أقواله، وبتلقائيةٍ طلبت منه:
, -غير هدومك، وسيبهالي على جمب، وأنا لما أنيم "سلطان" هغسلها وآ٣ نقطة
,
, قاطعها بصوتٍ شبه مرتبك:
, -لأ.. متغسلهاش.
, تطلعت إليه باستغرابٍ، والحيرة تغلف نظراتها نحوه، في حين بلع ريقه، وواصل كذبه:
, -أصلها اتبهدلت، وريحتها تقرف، هرميها، وأبقى أجيب جديد غيرها.
, ببساطةٍ ردت عليه:
, -ما هي لما هتتغسل هتنضف.
, أصر على رأيه مرددًا بعنادٍ غريب:
, -مالوش لازمة يا "هاجر"، هي قلة فلوس يعني!
,
, هزت كتفيها في استسلامٍ، وقالت بفمٍ ملتوٍ:
, -براحتك، ما أنا اللي كنت هاغسلها، إنت كنت هتتعب في إيه؟
, رسم ابتسامة متكلفة على محياه، وعلق عليها بنوعٍ من الدعابة:
, -أنا عايز راحتك يا "أم سلطان"، إنتي غاوية شقا ليه؟
, -ماشي يا "محرز"، هاروح أحط الواد في سريره.
,
, قالتها "هاجر" وهي تتجه نحو الردهة الطويلة لتضع صغيرها بغرفته، بينما أسرع زوجها في خطاه نحو الحمام، أوصده من ورائه، ووقف في المنتصف ينزع سترته عنه، ثم حل أزرار قميصه، وخلعه بتعجلٍ، امتدت بقع الدماء للفانلة الداخلية، فأفسدت لونها الأبيض، مما أفزعه بشدة، بالكاد سيطر على أعصابه أمامها، جمع كل ما ارتداه من ثيابٍ معًا، في كومة واحدة، ليتخلص منها لاحقًا، ثم تحرك في اتجاه المرآة التي تحتل ظهر باب الحمام.
,
, وقف مطولاً خلفها، يتأمل في انعكاسها قسمات وجهه الشاحبة، كانت تعابيره توحي بخطبٍ جلل، لم ينبس بكلمة، وظل جامدًا في مكانه، مسترجعًا في ذاكرته، ومضاتٍ من مشاهدٍ عنيفة غير متوقع حدوثها؛ لكنها، وللأسف الشديد، أفضت للقتل في الأخير.. ازدرد "محرز" ريقه، وحدث نفسه بهسيسٍ لا يحمل الندم:
, -إنت اللي اخترت نهايتك يا "نوح"٣ نقطة!
 
٣١

قشعريرة قارصة نالت من بدنه المبتل، رغم دفء المياه المتدفقة على جسده؛ لكن كان لذكرى مقتل "نوح" على يده، الأثر الكبير في توتر أعصابه، وربما خوفه أيضًا. أغمض "محرز" عينيه، وشرد بمخيلته لساعات مضت، حيث كان قلب ضحيته ما زال ينبض بالحياة، كانت التعليمات صريحة ومباشرة، التخلص كليًا من أي شيء أو شخص له صلة بالمواد المخدرة، لقطع كافة الخيوط التي من المحتمل أن تؤدي إليه أو لـ "آسر"، ولهذا بذل ما في وسعه، وأعمل عقله الداهية من أجل القضاء على كل التهديدات المحتملة .. وقف كلاهما خلف أحد الأكشاك المغلقة، ومعهما الجِوال الأزرق، تساءل "نوح" في فضولٍ، بصوتٍ شبه هامس، والقلق يتراقص في نظراته المراقبة لما حوله:
, -هو احنا بنعمل هنا إيه؟
,
, أجابه "محرز" مقتضبًا، وهو يفتح مقدمة الجِوال:
, -شغل.
, نظر "نوح" أمامه، وسأله مرة أخرى برنة القلق الظاهرة في صوته:
, -بس احنا قريبين من بيت المعلم "تميم" وآ٣ نقطة
, قاطعه الأول متسائلاً بتهكمٍ منزعج، وقد تضرج وجهه بأمارات الحنق:
, -هو محرم علينا نبقى في الشارع اللي هو فيه؟
, بلع ريقه، ثم رد نافيًا:
, -لأ.. بس بعد الكلام إياه، واتفاق حرق الدكان، آ٣ نقطة
,
, قاطعه مجددًا، وكأنه يوبخه:
, -بأقولك إيه؟ أنا مش جايبك معايا عشان ترغي وتصدعني، ده شغل اللي بنعمله.
, سأله مستوضحًا:
, -هتعمل إيه طيب؟
, لم يكن "محرز" راضيًا عن تردده الواضح، ومع هذا قال له بهدوءٍ زائف، وهو يدس اللفافة بداخل جِوال النشارة:
, -هخزن البضاعة فوق السطح، لحد ما ألاقي تصريفة ليها.
, تساءل بنفس الصوت القلق:
, -واشمعنى هنا بالذات؟
,
, ثم توقف هنيهةٍ ليضيف بعدها بنزقٍ:
, -ما جايز يكون مغرز منك، وبعدها هتبلغ عنه.
, فاض به الكيل من خوفه البائن، وصاح في ضجرٍ:
, -البيت فيه كاميرات يا أبو مخ ذكي٣ نقطة
,
, بدت نظراته غريبة نحو "نوح"؛ وكأنه يُعيد تقييم موقفه معه، لم ينكر أن الهواجس قد بدأت تساوره ناحيته، تردده غير المشكوك فيه، عزز من ذلك الإحساس، لهذا حاول التصرف بعقلانية، حتى ينهي ما جاء لأجله، فاسترسل موضحًا له:
, -شوف يا "نوح"، لو فكرت بشوية عقل، هتلاقي إنهم هيعرفوا مين اللي جاب البضاعة، كل الحكاية إني هتاويهم كام يوم، لحد ما أشوف مكان تاني آمن.
,
, تطلع إليه بنظراتٍ حائرة، فأكد عليه "محرز" بابتسامته السمجة:
, -ماتبقاش خرع كده، ده احنا متودكين في الشغلانة بقالنا ياما.
, رد عليه بلهجةٍ محذرة:
, -أيوه، بس مش مع المعلم "تميم"!
,
, اغتاظ "محرز" من إعطائه لكل تلك الأهمية لـ "تميم"، ناهيك عن خوفه الزائد منه؛ وكأنه من ذوي السلطة المطلقة، لا يجرؤ أحدهم على المساس به، أو حتى التفكير في الإساءة إليه، ورغم ذلك كظم حقده مرغمًا، وهتف من بين أسنانه المضغوطةٍ بنبرة آمرة:
, -بأقولك إيه.. هات الطاقية بتاعتك.
, ضاقت عينا "نوح" باستغرابٍ وهو يسأله:
, -ليه؟
,
, علق ساخرًا قبل أن يختطف غطاء رأسه من عليه عنوة:
, -هتغندر بيها..
, ارتداها "محرز" على رأسه، ووضع الجِوال على ظهره، ليقول بلهجة الآمر الناهي:
, -بطل رغي، وراقب المكان.
, دعك "نوح" رأسه الذي لفحه الهواء البارد بيده، ليعيد إليه دفئه المفقود، وقال على مضضٍ:
, -طيب
,
, -أنا قلبي وقع في رجلي لما شوفته طالع عندك٣ نقطة
, بأنفاسٍ لاهثة ردد "نوح" تلك العبارة، وهو يلج إلى منزله بعد إنهاء "محرز" لمهمته السريعة ببناية عائلة "سلطان"، تمكن الخوف منه، وشعر بالرهبة من احتمالية كشف أمره، وبمجرد أن لمح "محرز" يخرج، حتى قطع الاثنان الطريق عدوًا كاللصوص، ليهربا قبل اكتشاف أمرهما، تسللا عبر الأزقة الضيقة، والشوارع الجانبية ليصلا في الأخير إلى منزل الأول، ظلت بقايا آثار القلق معكوسة على ملامحه، رغم انقضاء المهمة بسلاسةٍ .. استوى "نوح" على الوسائد التي يفترش بها أرضيته، وتابع إفصاحه عما يعتريه من مخاوف، بنبرته التي جمعت بين الجدل والهزل:
,
, -أنا خوفت لتتمسك، وساعتها كنت هاقر للمعلم "تميم" بكل حاجة من طأطأ لسلامو عليكم، قبل ما يعلقني.
, استشاطت عينا "محرز" على الأخير، بدت تعبيرات وجهه متغيرة للغاية، يغلفها الحقد والقساوة، وسأله، وكأنه يحقق معه:
, -للدرجادي عمله حساب ومش خايف مني؟
, بنوعٍ من الاستخفاف، وعدم الاحتراز، أجابه:
, -إنت تمامك معروف؛ لكن هو نابه أزرق.
,
, مع تلك الكلمات بلغ "محرز" ذروة غيظه، لم يتحمل احتقاره المتواري؛ وإن لم يقصد ذلك عمدًا، فعقب بصوتٍ بالكاد كان مسموعًا، وبنبرةٍ موحية، تحمل في طياتها شرًا عظيمًا:
, -يبقى متعرفنيش كويس.
,
, وقعت أنظاره على السكين الموضوع في طبق الطعام المتسخ، التقطه بيده، ونظر إليه ليتأكد من عدم ملاحظته له، ثم أخفاه عنه، وتقدم نحوه بخطواتٍ ثابتة متسائلاً بكذبٍ:
, -الفحم فين؟ خلينا نولع حجرين.
,
, كان سؤالاً مخادعًا، ليلهيه عن عمدٍ عن التركيز معه، أو تتبع خطواته، وبحسن نيةٍ أرشده "نوح" إليه، معتقدًا أنه يريد مشاركته المزاج، وليس الغدر به .. التف "نوح" من ورائه، وجثا على ركبته، ليتخذ موضعه خلفه، ثم رفع ذراعه الممسكة بالسكين للأعلى، وقام بوضع نصلها القاطع على جلد عنقه، لينحره بغتةٍ، وبشراسةٍ عنيفة، وهو يهمس في أذنه:
, -إنت اللي اخترت نهايتك، ماتزعلش يا صاحبي.
,
, خرج صوت "نوح" كالخوار من جوفه، وهو يسد بيده المرتعشة أنهر الدماء التي تدفقت من عنقه المذبوح، قبل أن يتبع ذلك شهقة مميتة، لتلقيه طعنة نافذة في قلبه، ارتخت أطرافه بالكامل، وسقط رأسه للخلف بعد أن جحظت عيناه، ليستكين بعدها جسده للأبد، تأمله "محرز" بنظراتٍ مليئة بالاستهجانٍ والغضب، ثم نهض واقفًا من جلسته خلفه، استدار حوله، وبحث عن قطعة قماشٍ يمسح بها آثار أصابعه من على السكين الذي بقي مغروزًا في قلبه، سدد له نظرة أخيرة، ثم استطرد قائلاً له، بما يشبه الشماتة:
, -أشوفك في جهنم!
,
, مضى بعض الوقت بالمكان ليتأكد من إزالة ما له علاقة به، ليتسلل بعدها خارجه، لينتقل إلى رفاقِ سوءٍ آخرين، أراد الاستعانة بهم في إكمال باقي مخططه، وأيضًا التخلص من عقبة لا تُذكر؛ تدعى"حاتم".
,
, عاد "محرز" إلى محيطه الواقعي، وقد فرغت المياه الدافئة من السخان، انتبه لانخفاض الحرارة به، فأحس بالمزيد من البرودة تنخر عظام جسده المتجمد، أغلق الصنبور، وخرج من المغطس، ثم لف جسده بالمناشف القطنية، وجمع كل ثيابه في كومةٍ واحدة، ليضعها في أحد أكياس القمامة السوداء، حين يرتدي ملابسه النظيفة ويخرج من الحمام، فيتخلص منها لاحقًا، ابتسامات انتصار متنوعة غزت وجهه الذي كان غائمًا قبل قليل، وما ضاعف من شعوره بالنشوة، رنين هاتفه برسالةٍ تؤكد له إيقاع ضحيته التالية في الفخ، دندن مع نفسه بانتشاءٍ:
, -هو ده الكلام!
,
, في سابقة لم تبدُ له غريبة، طلب منه أحد الأشخاص، توصيل أحد الطرود خارج المنفذ الجمركي، بعد أن نما إلى مسامعه، قيامه بمثل تلك الأمور بسلاسةٍ ويسر، ولكون التوصية من "محرز"، فلم يتردد في قبول العرض السخي، كان الطرد يحوي بطاريات خاصة بتشغيل ساعات اليد؛ لكنها من النوع الباهظ، ومع ذلك لم تكن مهمته بالصعبة، بل بدت من أيسر عمليات التهريب التي يقوم بها، تحمس "حاتم" لتنفيذها، نظير ذلك المبلغ المالي المغري، يا لسعادته!
,
, ربحٌ سريع سيجنيه في بضعة ساعات! وبحماسٍ واضح عليه، قسم الطرد على دفعاتٍ سينقلها بالتتابع، من خلال حقيبة يد جلدية سيعلقها على كتفه، لن تثير الشكوك مطلقًا، سيظن مسئولي الجمارك أنه أحد مندوبي الشركات، أو موظف ما في مصلحة حكومية ينتقل من مكان لآخر، لإنجاز بعض الأعمال، كان واثقًا من نجاحه، سريعًا ما تبدد شعوره بالثقة إلى الخوف والارتياب، خاصة مع رؤيته لكم أفراد التفتيش المرابطين على جميع بوابات المنفذ، بلع ريقه، وواصل تقدمه نحو الحافلات المخصصة لنقل الركاب للخارج، مؤكدًا لنفسه أنه قادر على إتمامه.
,
, لاحظ خلال سيره تزايد القوات الأمنية، فبدا متوترًا بشكل كبير، يناقض اعتياده على تنفيذ مثل تلك المهام غير القانونية، أقنع نفسه أن تلك المرة مختلفة، المبلغ المعروض عليه مغري للغاية، ويستحق المحاولة. تنفس بعمقٍ، ليستعيد انضباطه، ثم تسلل بحذر نحو المنفذ الجمركي، مترقبًا بأعين كالصقر اللحظة المناسبة للتحرك والخروج منه، صوت أنفاسه كان مسموعًا له، بحث عن منديل ورقي في أحد جيبه، وجد واحدًا، فرفع يده الممسكة به للأعلى، حركه على جبينه، ماسحًا حبات العرق الغزيرة المتجمعة عليه. طال الوقت وهو ينتظر اللحظة المناسبة، وما إن تأكد "حاتم" من هدوء الأجواء، حتى استعد للتحرك بحرصٍ، اقترب من حافلة شبه ممتلئة بالركاب، تستعد للمغادرة؛ لكنه شعر بألمٍ موجع يصيب كتفه، مصحوبًا بصوت آجش خشن يسأله بلهجته الرسمية:
, -على فين؟
,
, التفت برأسه للجانب، ليجد شخصًا يفوقه طولاً، هتف متسائلاً بنبرة مذعورة:
, -إنت.. مين؟
, نظر له الضابط "وجدي" بنظراته القوية النافذة، قبل أن يسأله بتهكمٍ ملموس في نبرته:
, -معاك إيه بقى المرادي؟
, خمن هويته سريعًا بعدما جاب بأنظاره على ثيابه الرسمية، نظرة خاطفة ألقاها على هؤلاء الرجال المحيطين به من كل اتجاه؛ وكأنه هارب من العدالة، ارتجفت نبرته للغاية وهو يجيبه بتلعثمٍ:
, -أنا.. مش معايا حاجة، ده أنا طالع أركب مكروباص و٣ نقطة
,
, قاطعه "وجدي" ساخرًا:
, -علينا يا "حاتم"؟
, صدم من معرفته لهويته، فسأله بنزق:
, -إنت عرفت اسمي منين؟!
, أجابه مبتسمًا ابتسامة انتصار، وهو ينظر له بتفاخر:
, -ده إنت متوصي عليك جامد!
, انفرجت شفتاه للأسفل بهلع كبير، فتابع الضابط متسائلاً:
, -ورينا مهرب إيه المرادي يا نجم؟!
,
, اهتز جسده من فرط الخوف، باتت نهايته وشيكة إن اكتشف ما معه، جاهد ليخفي توتره الكبير؛ لكنه فشل كليًا، أكمل الضابط بتشفٍ:
, -ماهو كله اتكشف خلاص، واللي مشغلينك اتمسكوا معاك!
, ردد لنفسه في ذهولٍ:
, -اتمسكوا!
, توقف عقله عن التفكير، فمن يعمل لصالحهم كُثر، وسقطوه، والإمساك بهم، يعني قضايا لا حصر لها، هنا أدرك الحقيقة المريرة، مصيرًا مظلمًا ينتظره خلف القضبان الموحشة، لعق شفتيه الجافتين، وغمغم مع نفسه مصدومًا، ونادبًا حظه التعس:
, -روحت في داهية يا "حاتم"!
,
, كان الوقت قد اقترب من الظهيرة، حين تواجد كلاهما بالدكان، بدا "هيثم" شاردًا، واجمًا، حزينًا بصدقٍ على مقتل صديقه؛ وإن كانت علاقتهما –مؤخرًا- غير وطيدة، دفعه "تميم" برفقٍ نحو أحد المقاعد الخشبية الشاغرة بالمكان، أجلسه عليه، وصاح مناديًا على أحد عماله، بصوتٍ جهوري:
, -حد يجيبلنا قهوة يا رجالة.
,
, رد عليه أحدهم من الداخل:
, -فوريرة يا معلم.
, رفع "تميم" بذراعه مقعدًا آخرًا، ووضعه في مواجهة ابن خالته، ثم استهل حديثه معه مواسيًا إياه:
, -**** يرحمه يا "هيثم"، ادعيله، مافيش في إيدينا حاجة نعملها.
, سأله وهو يحبس الدموع في عينيه:
, -مين قتله يا "تميم"؟
,
, لم يملك ابن خالته الإجابة على سؤاله، فأبعد نظراته الحزينة عنه ليتابع:
, -أنا عارف إنه دايمًا منفض دماغه، وتايهة منه معظم الوقت، بس مالوش في السكة دي.
, ربت "تميم" على كتفه مهونًا عليه أحزانه، وقال بهدوءٍ:
, -مسير كل حاجة تبان.
, ثم التفت باحثًا بعينيه عن زوج شقيقته، لم يظهر بسماجته السخيفة على الساحة، ليتقصى الأخبار، لهذا تساءل بنبرة مرتفعة:
, -يا رجالة! أومال فين الريس "محرز"؟
,
, أجابه أحدهم من الداخل وهو يرفع أحد أقفاص الفاكهة:
, -مجاش يا معلم لحد دلوقتي.
, تعقدت ملامحه متسائلاً في اندهاشٍ كبير؛ وكأن مسألة تأخره مستبعدة كليًا:
, -خالص؟ ولا حتى ساب خبر إنه هيتأخر؟
, رد العامل نافيًا:
, -لأ يا معلم، مافيش خبر عنه، وطلبناه مردش!
,
, مط "تميم" فمه في استغرابٍ أكبر، وغمغم مع نفسه:
, -غريبة!
, انصرف العامل ليتابع عمله، بينما عقب على ذلك الأمر، مفكرًا بصوتٍ مسموع:
, -ده عمره ما عملها من سنين، الدنيا تتشال وتتهبد، وهو ولا فارقة معاه، بيجي الدكان في ميعاده، إيه اللي حصله بقى.
, حديثه كان منفردًا، لم يشاركه "هيثم" التعليق، أو حتى أظهر اهتمامه، حزنه كان طاغيًا على أي شيء آخر، صدح رنين هاتفه، فتجاهله، تكرر الاتصــال، ولم يحرك ساكنًا، مما دفع "تميم" لإخباره، بصيغةٍ آمرة:
, -رد على تليفونك.
,
, قال بوجومٍ، وكتفاه متهدلان للأسفل:
, -ماليش مزاج.
, هز رأسه في تفهم، وهو يرد:
, -براحتك.
, تركه بمفرده، لينهض من مكانه، متجهًا إلى عماله، ليتابع معهم سير العمل بالدكان، مر بعض الوقت على انشغاله، اهتز هاتفه المحمول في جيب بنطاله، أخرجه منه، ونظر فيه، وجد اسم والده يملأ شاشته، أجاب عليه دون تأخيرٍ، فقال:
, -أيوه يا حاج.
,
, سأله الأخير بصوتٍ بدا جادًا للغاية:
, -إنت فين؟
, بتلقائيةٍ أجاب:
, -في الدكان يا حاج.
, رد عليه بلهجةٍ صارمة:
, -طب سيب كل حاجة، وتعالى بسرعة على البيت.
, سأله "تميم" بتوجسٍ، وهو يشير بيده لأحد عماله ليخرج رصة الأقفاص من الثلاجة:
, -خير في إيه؟
, أخبره على عجالةٍ:
, -البوليس عندنا، ومشقلب كيان البيت، ولو "هيثم" عندك، خليه يجي، بيفتشوا في بيته، وأنا واقف مع مراته.
,
, تبدلت تعابيره للقلق والانزعاج، وهتف مرددًا بتلهفٍ:
, -على طول هنكون عندك يابا.
, اندفع خارجًا من الدكان، وجاذبًا "هيثم" من ذراعه بغتةً، اندهش الأخير من تصرفه الغليظ معه، وسأله وهو يحاول التحرر من قبضته:
, -في إيه؟
, التفت نحوه، وأجابه بغموضٍ؛ لكن عيناه نطقتا بالكثير من التوقعات:
, -اللي كنت خايف منه حصل!
,
, في حالة فوضوية، تُرك الأثاث الخاص بالمنزلين؛ وكأن حربًا اندلعت بالمكانين، بسبب تفتيش أفراد القوة الأمنية الدقيق، بحثًا عن المواد المخدرة المخبأة في أحدهما، كل شيءٍ كان نظيفًا، لا وجود لما يُدين ساكنيه، تحفز "بدير" في وقفته، وقد رأى نظرات الاتهام واضحة في أعين المتواجدين، اتجه إلى الضابط المسئول ليقول له، بضيقٍ كبير، معكوس على تقاسيم وجهه قبل نبرته:
, -يا باشا ده أكيد بلاغ كيدي، احنا طول عمرنا ماشيين في السليم، مالناش في شغل الهَبو، ولا البودرة.
,
, رمقه بتلك النظرة المتفحصة، قبل أن ينطق بأسلوبٍ متهكم:
, -واحنا بنشوف شغلنا يا حاج.
, رد عليه في استياءٍ شديد:
, -وأنا معترضش، بس سمعتنا نضيفة، واللي بتعملوه ده يشبهنا.
, قال له الضابط بلهجةٍ رسمية:
, -يا حاج احنا مش بنتحرك كده عشوائي، في بلاغات وتحريات وآ٣ نقطة
, قاطعه "تميم" قائلاً عن ثقة، رغم الحنق البادي عليه:
, -براحتك يا باشا، فتش في كل مكان، احنا عارفين نفسنا.
,
, التفت نحوه الضابط، ونظر له بتعالٍ، ليشيح بوجهه بعيدًا عنه، تحرك نحو أعتاب باب المنزل، ورفع رأسه للأعلى ليلمح الكاميرات المعلقة بزوايا الدرج، تساءل عاليًا وهو يشير بيده نحوها:
, -الكاميرات دي شغالة؟
, من تلقاء نفسه أجاب "بدير":
, -أيوه.
, رد عليه آمرًا:
, -عايز كل تسجيلاتها!
,
, أخفى "تميم" ابتسامة صغيرة، كادت تلوح على زاوية فمه، فما سجلته عدسات الكاميرات سابقًا تم محوه، بأوامر منه للشاب المتخصص في تركيبها، للبت في الأمر بنفسه، تصنع قلة الحيلة، وأجاب وهو يتقدم نحو الضابط:
, -مش شغالة يا باشا بقالها كام يوم، وأنا مكلم الواد اللي ركبها يشوف مالها.
, غامت عينا الضابط، وعلق عليه بصوتٍ حاد:
, -أنا اللي أقرر وأشوف إن كانت شغالة ولا لأ، مش إنت.
, رفع كفيه للأعلى في استسلامٍ، وهو يرد:
, -خد راحتك يا باشا.
,
, على الجانب وقفت "همسة" مع زوجها، بعد أن هبطت للطابق السفلي، لتمكث في منزل "بدير"، ولاحقته بأسئلتها في خوفٍ لم تسعَ لإخفائه:
, -هو في إيه؟ بيعملوا فينا كده ليه؟ هو في حاجة حصلت؟
, لم يجبها، وأشار لها بإيماءة من رأسه لتصمت، أطبقت على شفتيها بامتعاضٍ، والتزمت السكوت مرغمة؛ لكن بقي بالها مشغولاً بما يحدث حولها من أمور مُريبة، فالطرقات العنيفة على باب منزلها، وصوت الضابط الشرطي الصارم جعل الرعب يدب في قلبها، ولولا وجود "بدير" لازدادت فزعًا من حضورهم المفاجئ، وغير المرحب به.
,
, لم يتوقف لسانها عن الثرثرة لوالدتها، وتوأمتها، بكل التفاصيل المهمة، وغير الهامة، عن زيارة أفراد الشرطة لمنزلها، ولمنزل عائلة "بدير" صباحًا، لتفتيشهما، وكيف انقضى الأمر على خير، دون وجود سبب فعلي للاتهام الباطل، تنهدت "همسة" في تعبٍ، واختتمت حديثها عن هذا الموضوع، وقالت:
, -ده اللي حصل، والمحضر اتحفظ.
, ردت عليها والدتها في ارتياحٍ:
, -الحمد لله إنها عدت على خير.
,
, أضافت باهتمامٍ، مستخدمة يدها في الإشارة:
, -بس أنا برضوه شاكة زي المعلم "تميم" إن الحكاية دي مخرجتش برا حد يعرفوه.
, ازدرت ريقها، وقالت بتخوفٍ:
, -كلامك يقلق بصراحة.
, حركت "همسة" رأسها في اتجاه شقيقتها المتابعة في صمت، وسألتها:
, -وإنتي إيه رأيك يا "فيرو"؟
, بفتورٍ علقت عليها:
, -حاجة متخصنيش.
,
, لم تسترح لتعبيراتها الجامدة، تفرست فيها متسائلة بفضول:
, -يا بنتي مالك؟ من ساعة ما اتكتب كتابك، وإنتي مش مبسوطة.
, حاولت أن تبتسم قبل أن ترد عليها:
, -أنا كويسة، اطمني.
, لم تقتنع بجوابها المقتضب، نظراتها الشاردة، عزوفها عن البوح بما يختلج صدرها كان جليًا، أرادت "همسة" الضغط عليها مجددًا، علها تفرج عن مكنونات قلبها؛ لكن منعها من فعل ذلك قرع جرس المنزل، فتساءلت في استغرابٍ قليل:
, -مين اللي جايلنا؟
,
, ورغم ذلك أجابت بنفسها على سؤالها:
, -ماظنش إنه "هيثم"، قالي وراه مصالح مع ابن خالته.
, أومأت والدتها برأسها، وأردفت قائلة:
, -تلاقيها مرات خالك.
, سخرت معلقة على تطفلها السمج:
, -أيوه صحيح، هو في غيرها بيحشر نفسه معانا؟!
, زمت "فيروزة" شفتيها، وردت بتعابيرها المتجهمة:
, -اللي فيه طبع بقى.
,
, وبخطواتٍ متكاسلة، نهضت "همسة" من على الأريكة، واتجهت إلى باب المنزل، فتحته بابتسامتها المرحة، والتي تلاشت كليًا، فور رؤيتها لآخر من توقعت تواجده بالمكان، حلت أمارات المفاجأة على قسماتها، واتسعت حدقتاها في ذهولٍ كبير، ثم تحركت شفتاها لتنطق باسمها، في صدمةٍ متوترة للغاية:
, -"خلود"٣ نقطة!
 
٣٢


ظهرت هكذا بجراءة -وبحضورها غير المرحب به- دون ميعاد سابق أمام باب منزلها، اكتسب وجه "همسة" تعابيرًا مصدومة، سريعًا ما تحولت للقلق الممتزج بالانزعاج، لكونها تعلم أن وجودها سيكون مصحوبًا بمشاكلٍ جمة، واربت الباب، وسألتها بلعثمةٍ ظاهرة في نبرتها:
, -خير في إيه؟
, بوجهٍ غائم، ونظرات تكسوها القتامة ردت عليها "خلود":
, -عايزة اتكلم مع أختك.
,
, ظلت "همسة" تسد بجسدها الباب، وممسكة بيدها الأخرى حافته، لتمنعها من رؤية من بالداخل، وقالت لها بلهجةٍ يشوبها التوتر:
, -مافيش بينك وبين "فيروزة" حاجة، لو سمحتي آ..
, قاطعتها بإصرارٍ عنيد:
, -مش إنتي اللي هاتقولي!
, ثم استخدمت قوتها الجسدية في إزاحتها عن طريقها، لتقتحم المكان، وصاحت منادية، بصوتٍ أقرب للصراخ:
, -"فــــيروزة"!!
,
, خرجت الأخيرة على إثر صوتها المرتفع لتتفاجئ بها تحتل صالة المنزل، رمقتها بتلك النظرة الحادة، قبل أن تسألها بجمودٍ:
, -إنتي؟ بتعملي إيه هنا؟
, لانت تعابير "خلود"، وغطتها تعاسة مبالغ فيها، لتقول لها بتوسلٍ، مستجدية مشاعرها:
, -عشان خاطري رجعيلي جوزي.
, تعقدت تعبيراتها بشدة، وسألتها باستنكارٍ واضح:
, -جوزك؟ إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟
,
, انحنت للأمام لتمسك بيدها، جذبتها منها بقوةٍ، وادعت محاولتها لتقبيل ظهر كفها، وهتفت بنفس الأسلوب الرخيص في استنزاف عواطفها:
, -أبوس إيدك، أنا مستعدة أعمل أي حاجة عشان أخليه يرجعلي٣ نقطة
, لكن سريعًا ما لبث أن تحولت نظراتها للإظلام، وملامحها للقساوة، وهي تكمل باقي جملتها:
, -وتبعدي عنه!
,
, انتشلت "فيروزة" يدها بأعجوبة منها، تراجعت للخلف لمسافة آمنة، ثم صاحت معترضة على ما قالته:
, -وأنا مالي بيه أصلاً؟ إنتو أحرار مع بعض!
, استقامت "خلود" في وقفتها، ورمقتها بتلك النظرة الحقودة، قبل أن تنطق بغلٍ شَاب نبرتها:
, -هو مش شايف غيرك دلوقتي، إنتي إيه؟ عملاله سحر؟٣ علامة التعجب
, ردت عليها "همسة" في لهجة مستنكرة:
, -مايصحش اللي بتقوليه ده!!
,
, تدخلت "آمنة" في الحوار المحتدم، وقالت:
, -عيب يا بنتي الكلام ده، بنتي متربية، مالهاش دعوة لا بجوزك ولا بغيره٣ نقطة
, توقفت للحظة لتقترب منها، وأنذرتها:
, -وماتنسيش إنك هنا في بيتنا!
, التفتت "خلود" لتواجهها، وهدرت:
, -لأ، ليها!
,
, ضاقت عينا "فيروزة" في رفضٍ تام لما صرحت به، ورغم صدمتها من وقاحتها الفجة، واتهامها غير المقبول، إلا أنها هتفت تحذرها بلهجةٍ صارمة، مستخدمة سبابتها في الإشارة نحوها:
, -مش هاسمحك تقولي كلام زي ده عني، أنا واحدة متجوزة وآ٣ نقطة
, قاطعتها "خلود" صارخة بهياجٍ منفعل:
, -جوزي بيحبك، وإنتي واقفة في طريق سعادتنا!
,
, تفاجأت من كلماتها المعترفة بحبٍ لا تعلم عنه شيءٍ، وممن؟ من آخر من يمكن أن تربطها به أي علاقة! ورغم هذا خفق قلبها بتوترٍ، حافظت "فيروزة" على جدية تعبيراتها المشدودة، وردت محتجة عليها، رافضة التفكير في احتمالية صدق أقوالها المزعومة:
, -إيه؟ بيحبني؟ إنتي أكيد غلطانة!
,
, أصرت على تأكيد حديثها بقولها المتعصب، وشرارات الحقد تتطاير من مقلتيها:
, -لأ أنا متأكدة من اللي بأقوله، ده اعترفلي بحبه ليكي، عايزة أكتر من كده إيه؟
, كان صوت أنفاسها مختنقًا وهي تسترسل بمرارةٍ وحنق، ملفقة المزيد من الأكاذيب:
, -جوزي بيعترف لي وهو نايم على فرشتي، بأنه عاشق لواحدة تانية غير مراته، إيه جبروتك ده؟ شيلي السحر اللي عملاه ليه٣ علامة التعجب
,
, كلماتها كانت باعثة على الغضب، والاستياء، زجرتها "فيروزة" بقوةٍ، نافية كل ما اتهمتها به بعصبيةٍ واضحة:
, -الكلام ده مش مظبوط، إنتي بتخرفي؟
, ودون تحذيرٍ، انقضت عليها "خلود" لتمسك بها من ذراعيها، غرزت أظافرها في لحمها، وهزتها منهما بعنفٍ، وهي تسألها بكل ما يعتريها من غيظٍ وانفعال:
, -قوليلي عملتيله إيه عشان يحبك بالشكل؟
, بأعجوبةٍ، انتزعت "فيروزة" نفسها من براثنها، ودفعتها بعيدًا عنها، لترد بتشنجٍ:
, -إنتي مجنونة؟
,
, عادت لتمسك بها من جديد، وسألتها بنفس الصوت الحانق:
, -اشمعنى إنتي يحبك وأنا لأ؟٤ علامة التعجب
, رفضت "فيروزة" تجرأها عليها، وهدرت دافعة إياها للخلف لتتخلص منها:
, -ابعدي إيدك عني.
, رفضت "خلود" تركها، وأصرت على الاعتداء عليها قائلة لها:
, -وأنا مش هاسيبك إلا لما ترجعيه ليا٣ نقطة
,
, ثم أطبقت حول عنقها بقبضتيها قاصدة خنقها، غلف نظراتها ظلامًا مهلكًا، وردت بشرٍ عظيم:
, -حتى لو كان فيها موتك!
, لم تستمر كلاً من "همسة" و"آمنة" في موقف المتفرج كثيرًا، تدخلتا لإبعادها عنها، والفض بينهما، وصوت "فيروزة" يتردد عاليًا:
, -إنتي إنسانة مريضة في عقلك، استحالة تكوني طبيعية.
, أومأت "خلود" برأسها لتؤكد لها صفات الجنون بها:
, -أيوه، وهاقتلك، ومحدش هيحاسبني.
,
, شحذت "فيروزة" كامل قواها الدفاعية، واستخدمتها لتنجو ببدنها منها، فجذبتها من **** رأسها للخلف، وعرقلتها بقدمها، لتطرحها أرضًا، ثم جثت فوقها لتثبتها، وهي تضربها بضربات عشوائية، في أماكن متفرقة، أصابتها بالألم، وجعلت مقاومتها لها تضعف، بينما أسرعت "همسة" لإحضار هاتفها المحمول، بحثت عن رقم زوجها، ودون أي مقدمات، استغاثت به فور إجابته على اتصالها:
, -ألوو، الحقنا يا "هيثم"، أختك موجودة عند ماما، وماسكة في أختي، هاتقتلها لو مجاتش بسرعة٤ علامة التعجب
,
, كالأفعى المنتظرة في جحرها المظلم، مترقبة بتلهفٍ لحظة هجومها على طريدتها، تتبعت "حمدية" خطوات زوجها، بحرصٍ شديد، راقبته من مسافة جيدة، لم تمكنه من رؤيتها؛ لكنها منحتها الأفضلية للحاق به، ادعت تصديقها بسذاجةٍ لكذبه المكشوف بشأن تلك المأمورية الطارئة، أتقنت في تمثيل دورها، وأوهمته أنها اقتنعت بكل ما ملأ به أذنيها، حتى صدق أن خدعته انطلت عليها، خرجت ورائه بعد ذهابه، استأجرت عربة أجرة، وأمرت السائق بالسير ورائه، مقابل المبلغ المادي الذي سيطلبه، استغرقها بضعة ساعات حتى وصل زوجها الخائن إلى وجهته الأخيرة، منطقة شعبية ضيقة، تتجاور فيها العمارات القديمة بشكل لا يترك مساحة كافية لمرور سيارتين معًا.
,
, دفعت للسائق أجرته دون مفاوضة أو اقتطاع، ثم ترجلت من السيارة، وعيناها تلاحقان زوجها، رأته يعرج نحو أحد محال البقالة، انتظرته "حمدية" في مكانها، وتساءلت مع نفسها بصوت خفيض:
, -يا ترى مخبي عني إيه تاني يا "خليل"؟!
,
, بعد برهةٍ خرج منه، وقد ابتاع الكثير من الأشياء، في أكياسٍ بدا عاجزًا عن حملها، بسبب وزنها الثقيل، كزت على أسنانها تلعنه بسخطٍ:
, -إن ما عملتها ودخلت عليا قبل كده، بشنط كتير زي دي، زي باقي مخاليق ****!
,
, ظلت محاصرة في مكانها، إلى أن واصل حركته نحو بناية لم تكن بالبعيدة، اختفى عند مقدمتها، لذا لم تكن متأكدة من ولوجه بداخلها، تحفزت للمضي قدمًا، والتحري عنه من صاحب محل البقالة، وقفت أمامه، وألقت عليه التحية بهدوءٍ عجيب، مغاير لبراكين الغضب المتأججة بها حاليًا:
, -سلامو عليكم.
,
, بادلها مالكه الترحيب متسائلاً:
, -وعليكم السلام، طلباتك يا حاجّة؟
, حدجته بنظرة مغتاظة من نعتها بالسيدة العجوز، فهمهمت بنقمٍ:
, -كل ده وحاجّة؟ أعمى البصر بصحيح!!
, على ما يبدو لم يفهم ما تفوهت به، فسألها بنبرة رسمية:
, -لا مؤاخذة مش سامعك، أجيبلك إيه؟
,
, تصنعت الابتسام، واستطردت متسائلة:
, -أنا كنت عايزة أسأل عن الأستاذ "خليل"، اللي كان هنا من شوية.
, أتبعت جملتها الأخيرة بإشارة من يدها للخلف، لتشير إلى اتجاه سيره؛ لكنه رد بغلظةٍ، وكأنه يحقق معها:
, -إنتي قريبته؟
, أجابت بابتسامتها المتكلفة:
, -أنا من جيرانه القدام، وبقالنا ياما مشوفناهوش من ساعة ما عزل من حتتنا.
,
, علق بسخافةٍ:
, -خلاص روحي اسأليه، أنا مش شغال في الشئون الاجتماعية عشان أشغل بالي بكل من هب ودب!
, لم يكن الرجل من النوع الثرثار المتطفل، وظهر هذا بوضوح من خلال أسلوبه الجاف، استشاطت "حمدية" غضبًا من وقاحته، وانعكس ذلك في نظراتها النارية نحوه، ما خفف من وطأة الأمر، قيام إحدى السيدات بالمبادرة بحديثها عنه بما يشبه المدح، من تلقاء نفسها، ودون دعوة لفعل ذلك:
, -الأستاذ "خليل" هو في زيه! ونعم الجيرة و****!
,
, ردت عليها تؤمن على كلامها، فأضافت:
, -معاكي حق، ده راجل طيب وفي حاله.
, دفعت المرأة ثمن ما اشترته، وحثت "حمدية" على التحرك معها خارج محل البقالة، لتثرثر كلتاهما بأريحيةٍ، فعقبت الأولى مسترسلة:
, -الحق يتقال ياختي، معمرناش سمعنا عنه حاجة وحشة هو أو مراته!
, رفعت "حمدية" حاجبها للأعلى، ورددت باندهاشٍ، صحبه المزيد من الغضب:
, -مراته٣ علامة التعجب
,
, سألتها المرأة باستغرابٍ، حين لاحظت علامات الصدمة الجلية على محياها:
, -هو إنتي متعرفيش إنه اتجوز ولا إيه؟
, ادعت جهلها، وقالت:
, -لا ياختي، ما أنا بقالي فترة مشوفتوش، بس كان قايل إنه هيخطب.
, تأبطت المرأة ذراعها، وواصلت السير المتهادي معها، وهي تخاطبها:
, -أهوو **** كرمه، واتجوز واحدة سُكرة، تتحط على الجرح يطيب.
, بجهدٍ عظيم حافظت على ثبات بسمتها، ودعت لهما كذبًا:
, -**** يباركله فيها.
,
, استأنفت المرأة حديثها قائلة:
, -من يوم ما سكنوا حارتنا، وهما قافلين بابهم على نفسهم، محدش يعرف عنهم حاجة.
, علقت ساخرة من جملتها الأخيرة، والتي بدت صحيحة:
, -مظبوط.
, تنهدت المرأة، ثم زادت في قولها:
, -إنتي عارفة، قليل في الزمن ده اللي في حاله.
, على مضضٍ نطقت لتُجاريها:
, -أيوه.
,
, مصمصت شفتيها، وأثنت أيضًا على طفلته بعفويةٍ:
, -ولا بنته، زي العسل، طالعة لأمها، أدب، وجمال، وتربية.
, لكن ما لبث أن تبدل صوت المرأة للأسف وهي تغمغم:
, -**** يعوض عليه بالولد، مراته بتحاول أديلها زمن تجيبله ابن يشيل اسمه.
,
, عقبت باقتضابٍ، ونيران غيرتها وحقدها تزأر بداخلها:
, -معلش
, أكملت المرأة مضيفة:
, -كل شيء بآوان.
, ردت، وكأنها تؤيدها:
, -أه طبعًا..
, ثم لعقت شفتيها، وسألتها مباشرة:
, -هو ساكن فين هنا عشان أعدي عليه؟ ما أنا لازمًا أزوره، وأسلم على جماعته.
, بتلقائيةٍ أرشدتها إلى عنوانه:
, -بيت نمرة 12، اللي هناك ده، الدور التالت، الشقة اللي على اليمين.
,
, ابتسمت "حمدية" لتسهيلها الأمر عليها، وشكرتها:
, -كتر خيرك يا حبيبتي، ماتحرمش منك.
, قالت المرأة ببساطةٍ:
, -على إيه، هو أنا عملت حاجة؟
, أقبلت "حمدية" عليها لتحتضنها، وتعمق من روابط الود العجيبة بينها وبين تلك الغريبة التي تجهل حتى اسمها، وقالت بزيفٍ:
, -و**** قلبي اتفتحلك، ده إنتي وشك سِمح!
,
, ربتت المرأة على كتفها، وأردفت بامتنانٍ:
, -القلوب عند بعضها، قوليلي إنتي ساكنة فين بقى؟
, راوغتها "حمدية" في جوابها حين عقبت:
, -لأ، أنا مش من هنا، ده أنا كنت جاية في زيارة لجماعة قرايبي، وعديت بالصدفة من حارتكم وشوفت "خليل"، قصدي الأستاذ "خليل"، بس حظي حلو إني أشوفك وأتعرف عليكي.
,
, ضحكت المرأة، وشكرتها:
, -كل ذوقك يا حبيبتي، ده أنا الأسعد ..
, اختتمت "حمدية" حديثها معها بوعودٍ كاذبة بلقاءٍ آخر، لتبتعد بعدها عنها، ثم دمدمت بوعيدٍ مرعب، وعيناها تقدحان بحمم حارقة:
, -متجوز ومخلف! ماشي يا "خليل"، هاتشوف٥ علامة التعجب
,
, -بالعافية أخوها جابها هنا!
, نفخت "بثينة" في إنهاكٍ، بعد أن قالت تلك العبارة، لتنهي سردها تفاصيل ما حدث من ابنتها من تصرفات مليئة بالرعونة لـ "محرز، حيث اقتحمت منزل عائلة "فيروزة"، واشتبكت معها بالأيدي، بعد وابلٍ من الاتهامات المجحفة، وبصعوبة نجحت نساء المنزل في تقييد حركتها، وإفقادها للوعي، مترقبات على أحر من الجمر وصول شقيقها لإخراجها منه.
,
, قبل أن ينتهي التشابك العنيف بكارثة دموية أخيرة، لتعود إليها في حالة انهيار تامة، أجبرتها على ابتلاع بعض الأقراص المهدئة لتغفل بعد عناء .. كان ضيفها قد جاء لزيارتها، في وقت مبكرٍ، وعلى غير العادة، متعللاً بحجج واهية، لتبدو شاهدة على تواجده، إن حدث ما لم يتوقعه، وخرجت الأمور عن السيطرة، خاصة بعد قتله لـ "نوح"، صرف عن ذهنه مشهد موته، وأصغى باهتمامٍ لها، ثم علق معترضًا على طيشها:
, -معلش، ما هي بردك مش تصرفات ناس عاقلين.
,
, ردت عليه في حدةٍ:
, -وهو المعدول خلى فيها عقل؟ داهية تاخده مطرح ما هو قاعد.
, قال مبتسمًا ببرود:
, -يا رب.
, ثم أكمل تناول قهوته السادة، في هدوءٍ؛ وكأنه لم يقترف ما يجعل الولدان شيبًا، انتفاضة دبت في جسده، وقد سمع طرقًا عنيفًا عليه، ترك فنجانه، وشيع بنظراته "بثينة" التي اتجهت إليه لتفتحه، وصوتها اللائم يرن في جنبات الصالة:
, -بالراحة يا اللي بتخبط، إيه هتهد الباب على دماغنا؟!
,
, نظرات السخط والكراهية احتلت وجهها، عندما رأت "تميم" يقف قبالتها، في حالة تحفزٍ، وغضب مكتوم، وبكل برودٍ سألته:
, -خير؟
, تخلى عن أسلوب الوقار المصحوب باللين في التعامل معها، ودفعها ليدخل، وصوته المزمجر يسألها:
, -بنتك فين؟
, تعلقت خالته بذراعه لتبطئ من حركته، وهدرت به:
, -اقف هنا وكلمني؟ عايز من "خلود" إيه؟
,
, رمقها بنظرة لا تبشر بأي خيرٍ، وقال بوقاحةٍ:
, -كلامي معاها مش معاكي.
, هتفت محتجة بشراسةٍ:
, -وأنا أمها يا ادلعدي!
, في البداية لم يلمح "تميم" زوج شقيقته، حيث كان متواريًا في ظهر الأريكة العريض، استجمع الأخير شجاعته، ونهض من مكانه، ليظهر على مرمى بصره مُلطفًا بسماجته المعتادة:
, -ما تصلوا على النبي يا جماعة.
,
, ردت "بثينة" بامتعاضٍ، وهي تسد بجسدها الطريق على زوج ابنتها السابق:
, -عليه الصلاة والسلام.
, اعتلت الدهشة تعابير وجهه المشدودة؛ لكنها تلاشت سريعًا، ليسود الوجوم على قسماته وهو يسأله:
, -"محرز"! بتعمل إيه هنا؟
, عمدت خالته لصرف انتباهه عنه، وهتفت فيه بحدةٍ، وهي تلوح بيدها:
, -ملكش دعوة بيه.
,
, تركزت عينا "تميم" بالكامل عليه، فنفذت إليه؛ وكأنها تعريه من كافة الأقنعة، ثم علق بشكٍ واضح:
, -أصلها غريبة إنك تكون هنا، وغايب عن الدكان!!
, بلع "محرز" ريقه، وقد شعرت بالتخبط من نظراته المستريبة، واستنكر بعبوسٍ مفتعل:
, -هو ممنوع أزور الجماعة ولا إيه؟
, أجابه بوجهه الغائم، قاصدًا بث الخوف في نفسه الأمارة بالسوء:
, -لأ مش ممنوع، بس أحوالك مش مريحاني، فيك حاجة مش فاهمها.
,
, حاول أن يبدو مستقيمًا في وقفته خلال مجابهته، ورد بهدوءٍ، لم يكن مقنعًا:
, -أنا زي ما أنا يا معلم، وبعدين الحاجّة كانت قصادني في الخير، وأنا الصراحة مقدرش اتأخر عنها.
, أضافت عليه "بثينة" لتشد من أزره، فلا يظهر بمظهر الضعف أو التردد قصاده:
, -**** يكرمك يا "محرز" يا ابني، ما هو أنا معنديش رجالة يقفوا في ضهري، ابني مراته بلفاه في عبها، متعرفش تاخد منه لا حق ولا باطل، أروح للغريب يعني؟
,
, لم يحد "تميم" بنظراته القاسية عن وجهه، واقتضب معهما مرددًا بنبرة غير مبالية:
, -براحتكم!
, ضبط "محرز" طرفي ياقة جلبابه، وأطرق رأسه مخاطبًا مضيفته:
, -طيب استأذن أنا، ولو احتاجتي أيتها حاجة كلمني على طول يا ست الكل.
, ربتت على جانب ذراعه تشكره بامتنانٍ، متعمدة استفزاز ابن شقيقتها:
, -تسلملي يا ابن الأصول! يا غالي!
, لوح بيده، وهو يمرق سريعًا من أمام "تميم"، هاتفًا بأنفاس مضطربة:
, -سلامو عليكم!
,
, أوجز في رده إليه؛ وكأنه لا يستحقه:
, -وعليكم..
, ثم استدار برأسه في اتجاه خالته يأمرها بلهجة حاسمة:
, -خشي نادي بنتك من جوا، ده لو عايزة اليوم يعدي على خير.
,
, لم يكن بالمازح في تهديده، ازدردت ريقها، وضمت شفتيها في غيظٍ مكبوت، لم تعقب عليه، أو تجادله، بل انصرفت هاربة من نظراته النارية، لتذهب إلى غرفة ابنتها الغافلة، حتى تحثها على الاستفاقة، وكلها يقين أنها لن تتوانى عن النهوض من أجله.
,
, أمنية حالمة، شكَّلها لا وعيها، فغابت في تفاصيلها الوردية، وعايشت ما تضمنته من لحظات رومانسية عميقة، مليئة بالجموح والرغبة، سعادة مزيفة؛ لكنها مزيلة بالآمال والأطماع، انتهت فجأة بهزة عنيفة اجتاحت جسدها، وانتشلتها رغمًا عنها من أحضانه الدافئة، لتعيدها إلى واقعها المؤلم، أفاقت "خلود" من غفوتها على صوت والدتها المتكدر، كادت أن تفرغ غضبها عليها، لولا أن أخبرتها بوجوده الفعلي..
,
, تبددت الانفعالات الثائرة، بمشاعرٍ متلهفة، مشتاقة، تواقة إليه، هبت ناهضة من فراشها، وشددت على والدتها عدم التدخل بينهما، مهما اشتد الجدال، تحركت سريعًا، غير عابئة بمظهرها، وركضت نحو الخارج لتلتقيه .. وبنظراتٍ والهة تطلعت إلى وجهه، تأملته مطولاً، وتقدمت نحوه متسائلة، بصدرٍ ينهج:
, -"تميم"! إنت هنا؟
,
, اقتربت أكثر منه، لم تهتم بأمارات الحنق الظاهرة عليه، ورفعت يدها لتتلمس وجهه وهي تقول بابتسامة متسعة في سعادةٍ:
, -أنا مش مصدقة إنك موجود، افتكرت نفسي بأحلم ٣ نقطة
, وبكل جراءة ألقت بنفسها في أحضانه، محاولة الالتصاق به، أغمضت عينيها قائلة بتنهيدة اشتياقٍ:
, -حبيبي، إنت رجعتلي، أنا بأحبك.
,
, بغلظةٍ أبعدها عن صدره، ودفعها للخلف، فكادت تُطرح على ظهرها؛ لكنها تمالك نفسها، كان رافضًا اقترابها غير الجائز منه، ولو بدافع الشفقة، سلط نظراته القاتمة عليها، وهدر بخشونةٍ:
, -هو سؤال واحد وعايز أعرف إجابته منك.
, لم تنصدم من إقصائه لها، أبدت استعدادها التام لتحمل جفائه، ظلت ابتسامتها المتسعة مرسومة على محياها وهي ترد:
, -أنا كلي ليك يا حبيبي.
,
, لم يرف له جفن، وقست ملامحه أكثر، عندما سألها:
, -روحتي عندها ليه؟
, تجاهلت سؤاله، ولم تكترث لرنة الغضب المغلفة لصوته، بل تقدمت من جديد نحوه، وعاودت الكرة، ورفعت يدها متلمسة بأناملها ذقنه النابتة، تحسستها وهي تتنهد قائلة، ونظراتها تحوم على قسماته:
, -يـــاه، إنت وحشتني أوي.
,
, بقسوةٍ أزاح يدها عنه، وتجاهل بوحها بمشاعرها، ليرد متسائلاً بلهجته الصارمة المليئة بالحنق الشديد:
, -كنتي عند "فيروزة" ليه؟
, استفزها ترديد لسانه لاسمها، فتبدل هدوئها الناعم لعاصفة غاضبة، وصرخت في وجهه:
, -برضوه بتنطق باسمها قدامي؟ ليه عايز تعذبني؟ إنت بتتبسط لما بتشوفني كده؟
, رد عليها بنبرته المرتفعة:
, -بطلي أوهامك دي، وجاوبي على السؤال، ليه روحتيلها؟
,
, أجابت ببساطةٍ، ونظراتها عليه:
, -عشان أرجعك لحضني.
, عنفها بغيظٍ:
, -وتقوليلها كلام محصلش؟
, هزت كتفيها قائلة بأنفاسٍ هادرة:
, -مش فارق معايا، أنا مستعدة أسف التراب، وأذلل نفسي ليها أو لغيرها، المهم تكون ليا في النهاية، وترجع لحضني، أنا بأحبك يا "تميم".
, نظر لها بازدراء، وصاح بنبرة متصلبة:
, -مهما عملتي يا "خلود"، استحالة نكون سوا، اللي بينا انتهى خلاص.
,
, ردت عليه بعنادٍ، وبصوتها الصارخ:
, -لأ مانتهاش يا "تميم"، إنت جوزي، وأبو عيالي.
, سدد لها نظرة احتقارٍ، قبل أن ينطق بوجهه المتجهم:
, -كنت.. يا بنت خالتي..
, ثم أشار بإصبعه يحذرها بلهجة قوية:
, -ولآخر مرة بأقولك إياكي تقربي من "فيروزة"، لأني ساعتها هاخش فيكي اللومان!
,
, تغاضت عن ذكره لاسمها، حين رأته يدير ظهره، ويستعد للذهاب، هرولت ركضًا نحوه، وحاوطته من الخلف، لتحتضنه، اختنق صوتها وهي ترجوه:
, -استنى! رايح فين؟ ماتسبنيش، أنا مصدقت إنك هنا.
, من جديد انتزع قبضتيها عنه، وقال في سأمٍ واضح:
, -كلامي معاكي مالوش أي فايدة، بأدن في مالطة!
, رفضت تركه، والتصقت كالعلقة بذراعه، مما جعله يسحبها خلفه، اخترق صوتها المستفز أذنه وهي تردد على مسامعه عباراتها المستهلكة:
, -إنت لسه بتحبني، كفاية قساوة عليا.
,
, استل ذراعه منها، ودفعها بعنفٍ بعيدًا عنه، ولسانه ينطق باستياءٍ:
, -أعقلي بدل ما أحطك بنفسي في السرايا الصفرا!
, فتح الباب، واندفع خارجًا من منزلها، ليصفقه بعصبيةٍ من ورائه، ارتمت "خلود" على الكتلة الخشبية وهي تنتحب في إحباطٍ حزين، انهارت جالسة على الأرضية، لتجد والدتها تنظر إليها بسخطٍ، لم تتأثر ملامحها وهي ترجوها:
, -ماتخليهوش يمشي يامه.
, تجمدت "بثينة" في مكانها، تراقبها بعينين حاقدتين، تعكسان غلاً يتعاظم يوميًا بداخلها تجــاه "تميم"، بسبب ما يفعله في ابنتها الرافضة لتصديق أنهما ليسا معًا.
,
, خلوة جديدة، انفرد بها مع نفسه، عند تلك الكتل الصخرية، حيث تتحطم من أسفلها، أمواج البحر العاتية، فهناك المتنفس الوحيد لكل ما يعتريه من مشاعر، يأبى تحريرها بسهولة، خرج من صدره زفيرًا بطيئًا، محملاً بالهموم والأثقال، وكلام "هيثم" يصدح في رأسه، عن ادعاء شقيقته بحبه الشغوف بـ "فيروزة"، لم تكذب حين أخبرتها –وسط دوامة غضبها الأعمى- بمشاعره المقدسة ناحيتها، واستثيرت أعصابه لاستباحة ما يخصه علنًا٣ نقطة
,
, ما أزعجه حقًا، أنه تمنى لو امتلك من الشجاعة، القدر الكافي، لينطق شخصيًا باعترافه، وأمامها، وليس على لسان غيره، بذلك الأسلوب الرخيص، ألقى "تميم" بحصوة صغيرة ابتلعتها المياه في لمح البصر، متخيلاً أنه مثلها، غارقًا في قساوة الحياة، وهو يلوم نفسه:
, -يا ترى هاتقول عني إيه بعد ما عرفت منها الحقيقة؟
,
, توقع ألا تطيق النظر في وجهه مطلقًا، أن تزدريه، وتستحقره، وترفض حتى ملاقاته مصادفةً في عرض الطريق، زفير آخر تعيس لحق بما سبقه، قبل أن يدمدم في حزنٍ:
, -ليه كده يا "خلود"؟ ضيعتي مني حتى حلمي المستحيل!
,
, استلت نفسها من أحضــان والدتها، لتنظر إليها بعينين تلمعان بعبراتٍ كثيفة، قاتلت لمنعها من الانسياب؛ لكنها طفت على أهدابها، وعلى عكسها انخرطت "آمنة" في بكاءٍ مؤلم، لتوديعها ابنتها عند المطار، وتساءلت بنشيجٍ:
, -الوقت أوام كده عدى؟
, خنقت "فيروزة" غصتها، وردت بابتسامةٍ، سعت لتكون مشرقة:
, -غصب عني و**** يا ماما إني أمشي، بس متقلقيش، أنا راجعة تاني.
,
, جذبتها أمها لحضنها من جديد، شددت من ضمها لها، وهي تمسح على ظهرها، ثم أردفت قائلة:
, -هتوحشيني أوي يا "فيروزة".
, رغبت بشدة أن تظل هكذا، تحتويها أحضانها الحانية، بدلاً من الغربة التي تنتظرها؛ لكنها باتت الخيار الأمثل، لتهرب من كل التهديدات المدمرة لبقايا أطلال سلامها النفسي، والوجداني، تنفست ببطءٍ، ثم همست بنبرة أظهرت حبها الغريزي لوالدتها:
, -وإنتي أكتر يا ماما.
,
, ابتعدت عنها والدتها، وسألتها بصوتها الباكي:
, -مكانش ينفع تفضلي شوية.
, كانت صادقة حين أخبرتها بنبرة ذات مغزى:
, -كده أحسن للكل.
,
, تفهمت توأمتها رغبتها في الابتعاد عن محيط المشاكل المحاصرة بها، وآخرها اتهام "خلود" لها، بتورطها في تخريب علاقتها بزوجها السابق، لم تجد "همسة" من الكلمات ما تنطق به، دون أن تهطل دموعها، فالتزمت الصمت، مدعية الابتسام، وركزت عينيها مع صوتها القائل:
, -وبعدين ما أنا هاكلمكم كل يوم، وكل شوية، لحد ما تزهقي مني.
,
, عاتبتها "آمنة" برقةٍ:
, -وحد يزهق من ضناه؟
, توسلتهما "همسة" بعبوسٍ:
, -كفاية بقى عشان هاعيط منكم.
, وضعت "فيروزة" يدها على كتف توأمتها، وشجعتها بضحكة مبتورة:
, -لأ اجمدوا كده.
, مسحت "همسة" عبراتها المتسللة من طرفيها، وتساءلت:
, -هو "آسر" عارف ميعاد وصولك؟
,
, أجابتها "فيروزة" بإيماءة من رأسها.
, -أيوه، وهيقابلني أول ما أنزل من الطيارة.
, أكدت عليها والدتها بعينيها التعيستين:
, -كلمينا يا "فيروزة" عشان نطمن عليكي.
, حافظت على ثبات بسمتها المهزوزة، وهي ترد:
, -حاضر يا ماما.
,
, ثم مالت عليها، واحتضنتها لمرة أخيرة، لتقول بعدها، بابتسامةٍ أرادت أن تظل آخر ما يلمحاه في وجهها:
, -هاسيبكم بقى، عشان يدوب ألحق أخلص الإجراءات جوا.
, مسحت والدتها على وجنتها بنعومةٍ، ودعت لها بتضرعٍ:
, -**** يحفظك يا حبيبتي، ويسلمك من كل شر.
, -يا رب
, ثم أضافت مختتمة حديثها معها:
, -لا إله إلا ****.
,
, ردت والدتها ببكاء مرير:
, -محمد رسول ****!
, رجتها "فيروزة" بصوتٍ متأرجح بين الضعف والجدية:
, -عشان خاطري كفاية.
, بررت لها صعوبة تماسكها، فقالت:
, -غصب عني يا حبيبتي.
,
, داعبتها بكلماتٍ لطيفة قاصدة تهوين الأمر عليها، قبل أن تجر حقيبة سفرها خلفها، وتختفي بداخل بوابة المطار، وضعت "همسة" ذراعها على كتفي والدتها لتحتضنها، وهتفت بابتسامةٍ منقوصة:
, -أنا متفائلة خير يا ماما.
, لم تنظر "آمنة" في اتجاهها، وظل بصرها متعلقًا بطيفها الذي رحل، وهي ترد:
, -أنا لأ، قلبي مقبوض.. أول مرة بنتي تبعد عني المسافة دي كلها، يا ريتها كانت ساكنة هنا، ده بينا بلاد!
, -إن شاء**** هترجعلنا قريب.
, -يا رب.
,
, انضم إليهما "هيثم" متسائلاً، بعد أن ترك لثلاثتهن مساحة من الخصوصية للحديث بأريحية، دون أن يتطفل عليهم:
, -ها يا جماعة خلاص سلمتوا عليها واطمنتوا؟
, ردت عليه "همسة" بهزة خفيفة من رأسها:
, -أيوه.
, أشــار بيده نحو موقف السيارات، وأضاف:
, -طيب يالا بينا عشان ألحق أوصلكم، قبل ما أطلع على الدكان.
,
, لحظات تمنى أن تنقضي سريعًا، حتى لا يقتله هذا الشعور المُهلك بالفقد، بذل المستحيل ليلتهي عن التفكير فيها؛ لكن كل خلية فيه تعي جيدًا أنها راحلة اليوم، وما أقساه من إحساسٍ تعاني فيه وحدك –وبجميع جوارحك- من ألم الفراق، دون أن يعلم الطرف الآخر عن عذابك شيء! تحولت الأرقام في عينيه إلى سرابٍ، تداخلت البيانات، وتلاشت قدرته على تفسير ما احتوته الأوراق..
,
, توقف "تميم" عن المطالعة، وحملق بشرودٍ –وبعينين تحبسان الدمع فيهما- في الفراغ المعتم أمامه، بعد أن أطفأ المصباح، لم يرغب في رؤية أحدهم لدموعه العزيزة، التي دومًا ترفض الانصياع له، وتبوح بما يعجز اللسان عن قوله، وفي غمرة كل هذا، لم ينتبه للمتربص به في الظلام، جاء خلسة بعد انصــراف جميع العمال ليراقبه، منتظرًا بحقدٍ اللحظة المناسبة لقطع رأسه، والتخلص للأبد من تهديده الواضح.
,
, وبخطواتٍ متسللة، ســار "محرز" على أطراف أصابعه في اتجاهه، بعد أن أخفى وجهه بوشاحٍ أسود، فيما عدا عينيه، استمر في تقدمه الحذر نحوه، رافعًا تلك العصا الغليظة للأعلى، بكلتا قبضتيه، ليضربه بها على رأسه، قاصدًا تهشيم جمجمته، في اللحظة التي هوى بها عليه، تحرك "تميم" من تلقاء نفسه، بضعة سنتيمترات للجانب، غير مدرك للشيطان المتواجد حوله، لتهبط العصا على كتفه، بدلاً من رأسه، فأصابه بإصابة مؤلمة٣ نقطة
,
, جعلته يصرخ من شدة الوجع المباغت، التفت مقاومًا آنات ألمه، فتلقى ضربة أخرى على جبهته، أحدثت شرخًا نازفًا فيها، وطرحته أرضًا، مستلقيًا على ظهره، ومع ذلك جاهد لمقاومة المعتدي، مُغالبًا كل آلامه، استطاع أن يقف على قدميه، وهو يصيح به، بتوعدٍ؛ وكأنه الفائز في تلك المشاجرة المفاجأة، وغير المرتبة:
, -فاكر نفسك غلتني؟ ده أنا هوريك!
,
, اتخذ "تميم" موقفًا هجوميًا؛ لكن ضربة عنيفة مباغتة أصابته في معدته، من آخرٍ ظهر من العدم من خلفه، فـ "محرز" لم يأتِ بمفرده، استعان بأعوانه من حلفاء الشر، ومع هذا تصدى له "تميم"، تاركًا الشعور بالألم للضعفاء، وانتزع العصا من يد مهاجمه، وضربه بشراسةٍ بها، أحاط به ثلاثة آخرين، فاستدار في مكانه محاولاً التعرف على ملامحهم وسط تلك العتمة، وهدر بهم يلعنهم، بشجاعة منقطعة النظير:
, -يا ولاد الـ ٦ نقطة، مش "تميم سلطان" اللي يكش ويخاف من شوية (٣ نقطة)!
,
, وبالرغم من الصحوة التي دفعت الأدرينالين في عروقه، إلا أن كثرة المعتدين عليه، من زوايا متفرقة، جعلت كفة الميزان ترجح لصالحهم، فأصبحت الغلبة لهم، وتدحرج أرضًا مستقبلاً المزيد من الضربات المحطمة للضلوع، والكاسرة للعظام. شيئًا واحدًا فقط أبصرته عيناه رغم الغمامة التي اندفعت زاحفة إلى عقله، لتحجب الرؤية عنه، حين كان المعتدي الأول عليه جاثيًا على ركبته بالقرب منه، ليتأكد من هلاكه؛ حرقًا مميزًا يشبه الثقب، يحتل خياطة الجيب الأمامي لجلبابه، جعله يتعرف إليه، ويدرك حرفيًا أن وراء هذا القناع، شخصية نجسة، خائنة، لا أمان لها مطلقًا، وليؤكد له أنه قد علم هويته، همس "تميم" باسمه بأنفاسٍ واهنة:
, -"مــ.. محرز"!
,
, رأى عينيه تتسعان بغتةً في صدمة، قبل أن ينتفض مبتعدًا عنه، حتى وهو في حالته غير الواعية يهابه؛ كان آخر ما لمحه "تميم"، واشتم أنفه رائحته أيضًا، سكب هؤلاء الأوغاد للكروسين بأركان الدكان، الملاعين يريدون إحراق جسده حيًا! تفقه ذهنه المتأرجح بين اليقظة والهذيان لتصرفاتهم، من خلال الجلبة والصياح الآمر:
, -عايزكم تجيبوا عاليه واطيه، يبقى كوم تراب!
,
, عجز عن إجبار أطرافه المتآذية بشدة على التحرك، استسلم مرغمًا للسواد الذي تغلغل وانتشر في عقله، ليكون آخر ما احتل مخيلته لمحةً من ماضٍ بعيد، جمعته آنذاك بها٣ نقطة!
 
٣٣

القلب، ليس فقط موطنًا لشخص عزيز، وإنما منبعًا لكل ما هو نفيس، من مشاعر وأحاسيس، يحيا بهم الكيان، ولأنها تدخر تلك المكنونات الغالية لشخص بعينه، يستحق ما احتفظ به القلب طوال تلك السنوات، توهمت أنها ستمنح كنز مشاعرها المرهف لمن أصبح زوجها، رغم ما يعتريها من قلق وخوف. وحيدةٌ في مقعد ثلاثي، استقرت عليه "فيروزة" بجوار النافذة، صامتة، يشوب ملامحها الشرود، فبعد أن أنهت الإجراءات الخاصة بسفرها، صعدت على متن الطائرة، وشعورها بالريبة يتضاعف بداخلها.
,
, قاومت طوال الأيام الماضية التفكير فيما أعلنت عنه "خلود" خلال نوبة غضبها، عن حبٍ بدأ وانقضى بعيدًا عنها، تحولت السحب من حولها لما يشبه شاشة العرض السينمائية، تعرض لقطاتٍ قصيرة، تُذكرها بمشاهدٍ جمعتها مع آخر من ظنت أن قلبه دق لأجلها؛ اتهامات متبادلة بسبب عملها الذي لا شـأن له به، صفعة قاسية منها أمام دكانه، وعيدٌ برد الاعتبار، واستعادة الكرامة المنتهكة..،
,
, حفل خطبة لتوأمتها وجدال عند عتبة مطبخها، مناوشات كلامية دارت بينهما في المطعم، مصادفة عابرة في الطريق ليلة الاحتفال بميلاد رفيقتها، لقاءاتٌ غير مرتبة في محل بيع الهدايا، دفاعه عن شقيقتها في المشفى، وتهذيبه لزوجته للسانها السليط، إصراره على التواجد في محيطها كلما سنحت له الفرصة بذلك، دعمه غير المشروط لها في مأزقها الأخير، حين كاد يزج بها في السجن، بتهمة لا تمت لها بصلة، وقبل كل هذا ذكرى حادث الطفولى المأساوي.
,
, كان رغم الكراهية المبررة منها نحوه شهمًا معها، محافظًا على حدود علاقته به، لم يمسها بسوء، دومًا متواجدًا عندما تحتاج إليه، والآن اكتملت قطعة اللغز الناقصة، كان ولا يزال يفعل ما يفعله .. لأنه فقط أحبها، في غفلة منها، وبدون علمها .. لم يكذب ذاك الصوت الصارخ بداخلها، عندما أشعرها أن اهتمامه بها لا يرجع لرجولة متأصلة به، وإنما لمشاعر غالية يكنها القلب لها.
,
, بات عسيرًا عليها الآن الاستمرار في التفكير في أمره، وعيناها تقاتلان للاحتفاظ بدموعها في محجريهما، لم تعرف "فيروزة" لماذا تبكي! كان عليها أن تشعر بالفخر لكونها –كأنثى- باتت محط أنظار الجنس الآخر، حازت على اهتمام أحدهم؛ لكنها بدت أكثر تعاسة عن ذي قبل، وجاهدت لتبتعد كليًا عما يمكن أن يعرضها لمواجهة معه، لترحل كما خططت؛ وإن ملأ الأسى قلبها، عقدت العزم على أن تصنع سعادتها بنفسها، وأوهمت عقلها أنها قادرة على ذلك، اختفت شجاعتها اللحظية، وتبددت دفعة واحدة، كما اجتاحتها رعشة باردة تغلغل بقوة في أطرافها، عندما سمعت صوت المذياع الداخلي ينطق:
, -برجاء الجلوس في أماكنكم، وربط الأحزمة، استعدادًا للإقلاع، الكابتن وجميع أفراد طاقم الطائرة يتمنون لكم رحلة جوية سعيدة وآمنة.
,
, زاد إحساسها بالرهبة، وكان هذا أكثر ما يُربكها، ألا تعلم ما تخبئه الحياة لها، لاكت في جوفها علكةً لتخفف به وطأة تغيير الضغط عليها، ودعت **** في نفسها:
, -استرها يا رب معايا في اللي جاي..
, خبا صوتها الداخلي وهي تنهي حديث نفسها الصامت:
, -مش هاقدر استحمل أذية تانية.
,
, بحرفية قائدٍ خبير، انحرف بشاحنته الكبيرة عند ناصية الشارع غير المعبد، فحجمها الضخم لا يسمح بمرورها بين المباني القديمة المتجاورة، ليقترب من الدكان، فأبطأ من سرعتها بالقرب من تلك المساحة الخالية المسموح له فيها بالاصطفاف، دون أن يعيق حركة المارة، ليصدح صوت زئير المكابح المزعج عاليًا، ويرن صداه في الأجواء الهادئة. أوقف "سراج" تشغيل المحرك، والتفت إلى الحاج "عوف" الجالس في مقعد الراكب بجواره، واستطرد يقول له، بوجهه المتجهمٍ، وعلامات العناد تنعكس في نظراته كذلك:
, -لا مؤاخذة يا عم الحاج، أنا مش جاي معاك المشوار ده.
,
, استدار الأخير نحوه، ورجاه بصوته الهادئ:
, -يا ابني متعقدش الأمور، مش النفوس خلاص هديت؟
, رد عليه بامتعاضةٍ ظاهرة على محياه:
, -الكلام ده صوري يا حاج "عوف"، فض مجالس يعني، وإنت وأنا عارفين ده كويس، مافيش حد بيتصافي!!
, سأله مستفهمًا، وقد أدرك أنه ما زال على موقفه العدائي نحوه:
, -هو "تميم" ضرك في حاجة من وقت ما اتصالحتوا؟
,
, أجابه بصدقٍ، رغم رنة الانزعاج المحسوسة في صوته:
, -الشهادة لله لأ، ملتزم باتفاقه، وحق البضاعة بالكامل بيوصل قبل ما يستلمها حتى.
, ابتسم الحاج "عوف" وهو يُصر عليه، عله يتخلى عن عناده، ويقنعه:
, -طيب، فيها إيه لما تيجي معايا، ونظهر حسن النوايا؟
, أبقى على رفضه معتذرًا منه:
, -إنت عارف يا حاج إني مابحبش أكسرلك كلمة، بس اعفيني أنا..
,
, نظر له "عوف" بأسفٍ، فأكمل "سراج" بنوعٍ من العتاب اللطيف:
, -وبعدين لو كنت قولتلي من الأول إنك جاي عنده، مكونتش جيت معاك منطقته، ووفرت على نفسنا الإحراج ده.
, سحب الأول عصاه التي يتكئ عليها، واستعد للترجل من الشاحنة مغمغمًا بيأسٍ:
, -لا حول ولا قوة إلا ب****، **** يهدي النفوس.
, استقام واقفًا بعد هبوطه منها، وأغلق الباب خلفه، ثم رفع أنظاره إليه ليردف بعدها:
, -عمومًا أنا مش هتأخر عليك، هسلمه فلوس التوريد، وراجعلك، عشان نلحق نطلع مشوارنا.
, هز رأسه في تفهمٍ، وهو يريح ذراعه على المقود، ليقول بوجه جامد:
, -ماشي يا حاج.
,
, سار بخطواتٍ متمهلة، في الزقاق المختصر، والمؤدي إلى دكان عائلة "سلطان"، متوقعًا تواجد "تميم" بالخارج، في انتظاره، كما اتفق معه في مكالمة هاتفية قبل ساعةٍ تقريبًا، تسمر "عوف" في مكانه مصدومًا، وقد رأى اثنين من الغرباء يحومان حول المكان بشكل يبعث على الاسترابة، بسبب الأوشحة التي تخفي معالم وجهيهما، ضاقت عيناه بشكٍ كبير، حينما وجد أحدهما يسكب سائلاً غريبًا على واجهات الدكان، فهدر بصوتٍ أجش:
, -إنت بتعمل إيه؟
,
, التفت الملثم نحوه بشكلٍ مفاجئ، وحالة من الارتباك المختلط بالفزع تسيطر عليه، وكأنه يخشى التعرف عليه، بسبب تواجده غير الموضوع في الحسبان، هرع الوضيع يركض فرارًا منه؛ لكنه ألقى بقداحته على السائل المسكوب، لتنتفض ألسنة النيران كالحمم، بعد ملامسة شرارتها له، صــاح "عوف" لاعنًا إياه بغضبٍ شديد:
, -يا ابن الـ ٦ نقطة! **** يخرب بيوتكم!
,
, هرول في اتجاه باب الدكان الذي تحول لكتلة من اللهب المستعر، وصراخه المذعور يهدر في أركان المنطقة الشعبية:
, -حريقة يا نـــــــاس! دكـــان الحاج "سلطان" بيولع!
, لم تسعفه سنوات عمره المتقدمة، في التصرف كالشباب في خفتهم وسرعتهم، لذا كانت وسيلته المتاحة الصيـــاح الهادر، جلبة سريعة انتشرت بأرجاء المنطقة، مصحوبة بأصوات صراخ فزع للنســاء، حاول "عوف" اختراق ألسنة النيران الحارقة، والمرور للداخل، حين رأى جسد "تميم" مسجي على الأرضية، وربما فاقد لوعيه؛ لكنه عجز عن تنفيذ هذا، فواصل صياحه المستغيث:
, -الحقوا المعلم "تميم"، ده محبوس جوا دكانه! انجــــدوه يا رجالة!
,
, وفي غمضة عينٍ ازدحم المكان بعشرات المواطنين ممن هبوا لإطفاء الحريق، باستخدام الدِلاء، أو الرمل، أي شيء يمكن أن يخمد النيران الجائعة .. أكثر ما كان يخشاه "عوف" وسط تلك الفوضى المخيفة! هو احتمالية خسارة "تميم" لحياته، جراء فعلة خبيثة لأحد شياطين الإنس، وقبل أن تسود النهايات السيئة في رأسه، لمح "ســراج" وهو يضع تلك البطانية -والتي أغرقها بدلوٍ مملوء بالمياه- فوق كامل جسده، لتغطيه، وتحجب عنه الألسنة الحارقة والتواقة لإشباعها، اندفع دون ترددٍ وسط النيران، ملقيًا بنفسه داخل الدكان، رغم امتلاء جسده وضخامته، لم يظهر عليه الخوف، وأبدى استعداده التام لإنقاذه رغم الصراعات الدموية بينهما، في حين شرع من بالخارج في إخماد النيران التي تقاتل لتبلغ عنان السماء.
,
, جثا على ركبته أمامه، وسعل باختناقٍ، وحشرجة مؤلمة، وهو يكمم أنفه، ليمنع رئتيه من استنشاق المزيد من الدخان الخانق، طقطقات الخشب المحترق أنذرته بانهيارٍ وشيك، لهذا وجب التصرف على قدرٍ من السرعة والحذر، أحنى "سراج" جزعه على جسد "تميم"، رأى علامات الضرب الموحشة تاركة آثارها عليه، أدرك أنها لم تكن مشاجرة متوازنة القوى تلك التي خاضها حتمًا بمفرده، اقترب برأسه من وجهه ليهتف به وهو يهزه:
, -"تمــيم"! سامعني؟!
,
, حاول استراق السمع لصوتٍ ربما شق طريقه إليه؛ لكن لا استجابة حيوية منه، تدل على بقائه على قيد الحياة من عدمه، ومع هذا حسم أمره بإخراجه من هنا مهما تكلف الأمر، رفع ثقل جسده بذراعيه، ثم استدار ليمدده على ظهره، ومرر ذراعيه المرتخيتان من حول عنقه، ليتمكن من رفعه للأعلى، ثم ألقى بالبطانية فوقهما، كوسيلة حماية ضرورية أثناء تحركهما للخــارج، استقــام "سراج" واقفًا، ونظر في اتجاه باب الدكان، صوتًا ضعيفًا نما إلى مسامعه هامسًا:
, -"فـ٣ نقطةفيروزة"!
,
, تجمد مشدوهًا للحظةٍ في مكانه، وتساءل:
, -"تميم"! إنت فايق؟
, لم يجبه، فظن أنها ربما تكون هلوسة ما جراء ما تعرض له، واصل سيره الحذر تجاه الباب، متحاشيًا الكتل الخشبية التي تتساقط بغتةً فوق الرؤوس، توقف "سراج" مرة أخرى، وقد سمعه ينطق بصوتٍ بدا واضحًا له:
, -"مــ..".. "محرز"!
, هتف متسائلاً في استغرابٍ:
, -"محرز"؟ ماله؟ موجود جوا ولا إيه؟
, كرر عليه اسمه بصعوبةٍ وضعف:
, -"مـ..حرز"!
,
, تغاضى "سراج" مؤقتًا عن الإنصات إليه، وركز حواسه مع الصراخ الآتي من الخارج، حيث بات مدخل الدكان –إلى حد ما- مهيئًا لخروجهما بعد مساعدة أهل المنطقة، وما إن اقتربا منه، حتى تشجع اثنان آخران لمعاونتهما .. بعد لحظاتٍ كان الجميع خارج الدكان المحترق، تمدد "تميم" على الأرضية المغبرة، وانحنى عليه "عوف" ليتفقد أنفاسه، وقلبه يدق في خوفٍ وارتعاب، ما إن شعر بحركة ضئيلة لصدره، مع هواء ضعيف يخرج من جوفه حتى هلل مكبرًا:
, -**** أكبر، لسه فيه النفس.
,
, وبصوتٍ لاهث هتف "سراج" مشيرًا نحو الدكان:
, -كان بينادي على "محرز"، مش عارف إن كان جوا ولا لأ.
, صاح "عوف" عاليًا ليحث أهل المنطقة على تفقد المكان مجددًا، للتأكد من خلوه من أي شخص:
, -شوفوا في لسه حد جوا الدكان ولا لأ، الظاهر "محرز" كان مع "تميم" فيه.
, هبطت ألسنة النيران وانحصرت عند الباب الجانبي، فحث ذلك أحد الرجال على اقتحام الدكان، وإلقاء نظرة متفقدة على ما به،
,
, -لازمًا نوديه المستشفى حالاً يا حاج، إنت مش شايف عامل إزاي
, رد بإذعانٍ تام:
, -أيوه مظبوط.
, رفض "سراج" تركه في حالته الحرجة، دون أن يتخذ موقفًا رجوليًا معه، مُنحيًا الخلافات السابقة جانبًا، وأصــر على التواجد بصحبته أثناء نقله للمشفى، بادر أحد سكان المنطقة بإحضار سيارته لإيصاله في التو والحال، وتشارك عدة رجــال في حمله بحرصٍ، والاتجاه به نحوها، ليتم إسناد جسده المتأذي بالمقعد الخلفي، وأصوات فرقعات الزجاج المتهشم، من الحرارة العالية، بداخل الدكان، تسود في الخلفية.
,
, نفسًا عميقًا سحبته لتملأ به صدرها، بعد أن وطأت ساحة الوصول بالمطار، استعانت "فيروزة" بالعلامات الإرشادية الموضوعة في كل مكان لتصل إلى الخارج، بعد إتمام تسجيل دخولها للبلاد، توقفت عند المكان المخصص لاستقبال المسافرين من ذويهم، وبحثت بعينيها عن زوجها، اشرأبت بعنقها للأعلى تفتش عنه، عله يقف في زاوية غير واضحة الرؤية لها..،
,
, لن تنكر أنها شعرت بالخوف يتفشى في أوصالها، عندما لم تجده في انتظارها، زاد إحساسها بالضياع؛ لكنه تناقص تدريجيًا مع رؤيتها له بطلته المهندمة، وهو يتقدم نحوها، حاملاً باقة من الزهور الحمراء في ذراعه، ابتسامة عريضة ظهرت على شفتيه، قبل أن يلاطفها بكلماته الرومانسية:
, -حبيبتي، وعمري كله، حمدلله على السلامة.
,
, بادلته ابتسامة ارتياحٍ، وإيماءة خفيفة من رأسها، تصلبت بالمعنى الحرفي، واتسعت حدقتاها مصدومة، حين خطا في اتجاهها، ولف ذراعه حول جسدها ليضمها إلى صدره، ويحتضنها، لم تستطع فعل المثل معه، ربما لخجلها، أو عدم اعتيادها على تصرفاته الجريئة معها، تراجع عنها، وذراعه لا يزال مستقرًا على خصرها، نظر لها ملء عينيه، ليضيف متسائلاً:
, -الرحلة كانت كويسة؟
,
, أجابت باقتضابٍ بعد ابتلاع ريقها:
, -أيوه.
, أعطاها الباقة قائلاً:
, -ده عشانك
, تناولتها منه، واحتفظت بابتسامتها وهي ترد:
, -شكرًا
, مــد "آسر" يده، وسحب حقيبة سفرها بذراعه الآخر، ثم أكمل بعذوبة، وغمزة سريعة من عينه تلازم كلامه:
, -إن شاء**** نقضي أحلى شهر عسل هنا.
,
, ضغطت على شفتيها في ارتباكٍ، وقالت بجدية، لتغطي على هذا:
, -أنا عايزة أكلم ماما أطمنها عليا.
, بوجهٍ غير مقروء، أخبرها:
, -هيحصل، بس لما نوصل البيت.
, خبت بسمتها المتكلفة، وتطلعت أمامها، وهو يقودها للتحرك في اتجاه المخرج، حيث يصف سيارته بالموقف المخصص لهذا، حاولت أن تسترخي في حضوره، لكن جسدها ما زال محتفظًا بتصلبه، مع لمساته غير المستحبة عليه.
,
, بدون دعوةٍ، اقتحمها شعورًا جديدًا بالاغتراب، غالبته بمجهودٍ لتدعي ابتهاجها بالنقلة الكبيرة في حياتها، راقبت الطرقات النظيفة، والشوارع المنظمة بعينين نهمتين للتطلع إلى ما لا تألفه، وتساءلت في جملٍ مقتضبة عن أسماء بعض الأماكن الجاذبة للأعين، ومنحها زوجها الرد عن كل استفســار بإسهابٍ زائد، فبدا ذلك جيدًا –من وجهة نظره- لإذابة الجليد، وكذلك للتقارب بينهما. عند ضاحية راقية، تضم مبانٍ مصممة على طراز عالمي، وفريد من نوعه، تأملت "فيروزة" الإبداع الفني الذي خطف أنظارها، وأيضًا أنفاسها، فتساءلت عفويًا:
, -هو إنت ساكن هنا؟
,
, أجابها "آسر" بابتسامة لبقة:
, -لأ، بس احنا قريبين من هنا.
, انتقل عبره إلى ضاحية أخرى، كانت جيدة؛ لكنها ليست بمستوى الرقي المبهر الذي رأته، ومع هذا بدت معجبة بما تراه من علامات التحضر الواضحة، وعند مدخل أحد الأحياء، عرج "آسر" بسيارته، نحو موقف خاص، يتسع لعشرات السيارات، ليصفها بينهم، ثم أشــار بعينيه نحو إحدى البنايات المصممة على الطراز الفرنسي، وقال:
, -احنا ساكنين هنا.
,
, ثبتت أنظارها على المبنى وهي تسأله:
, -دي شقتك؟
, رد نافيًا:
, -لأ يا "فيروزة"، دي شقق سكنية للإيجار، زي عندنا كده.
, اعترى ملامحها تعبيرًا غامضًا، ولمس "آسر" الشك في عينيها، تنحنح، ثم أخبرها بلهجة جمعت بين الجدل والهزل:
, -عشان أقدر أشتري حاجة فخمة هنا، محتاج يكون عندي ثورة بالملايين، وده طبعًا صعب عليا، أنا مش أمير عربي٣ نقطة
,
, ثم مد يده ليمسك بكفها، خلل أصابعه في أناملها، وأسبل عينيه نحوها مضيفًا بغموضٍ، جعلها تتوتر:
, -بس معاكي مش هايكون مستحيل.
, رفع "آسر" كفها الذي يحتضنه إلى فمه، قبله ببطءٍ، وعيناه تتطلعان إليها بنظرات حالمة، تعبر عن تلهف كبير إليها، اعتقدت أنه سيكون تصرفًا فظًا منها إن سحبت يدها منه، وهو له كامل الحق في التمتع بها، فاكتفت بالابتسام الزائف له.
,
, على عكس ما رسم لها من وصفٍ مبالغ فيه لمنزله الفخيم، في أحد أهم أحياء المدينة، بدا الأثاث عاديًا، مقارنًا بما تخيلته، نعم يتسم بالحداثة، والتصميم المختلف؛ لكنه ليس باهظًا كما أوهمها، شعرت "فيروزة" أن غالبية ما يتعلق بزوجها يتخلله الغموض، ابتلعت أسئلتها الفضولية مؤقتًا، لتتجه إلى الحمام، القابع في نهاية رواق متوسط الطول، بعد أن دلها عليه، كانت بحاجة للاغتســال من آثار مجهود السفر العالقة بجسدها، فلا يصح أن تكون ليلتها الأولى مع زوجها يشوبها شائبة، التفتت برأسها نحو "آسر" عندما خاطبها:
, -هابعت أجيب عشاء، حاجة على ذوقي، هتعجبك أوي.
, قوست شفتيها لتبتسم، وهي تعلق عليه:
, -تمام.
,
, ولجت إلى الحمام، وأغلقت الباب خلفها، استدارت لتتأمله، وكانت صدمتها الثانية، ليس حديثًا على الإطلاق، المغطس مغطى بستارة زرقاء، تبدو مستهلكة، فمعظم الحلقات المعلقة بالحامل المعدني مفقودة، كما ظهر الإصفرار على الفواصل الأسمنتية الممسكة بالبلاط الأزرق كمرأى الشمس في كبد السماء، تحولت أنظارها نحو المرحاض، وكان يتشارك مع باقي محتويات الحمام في قدمه، اقتضبت عضلات وجهها، وحلّ التجهم عليها، من المستحيل أن يكون ذلك مطابقًا للوصف الذي صدع به رأسها كثيرًا، تغاضت عن شعورها بالنفور والضيق، لتستحم وتبدل ثيابها، وحدسًا قويًا بداخلها، يخبرها بأن هناك المزيد من المفاجآت -غير السارة- تنتظرها.
,
, جالت عيناه بخوفٍ كبير، على الأوجه التي ترمقه بنظرات ما بين جادةٍ ورسمية، لا أحد يبدو مازحًا على الإطلاق، ولماذا يمزحون وقد قبض عليه متلبسًا بالجرم المشهود؟ استمع "حاتم" إلى قائمة الاتهامات التي تنتظره بعقوباتها الصارمة، مرتعشًا في جلسته، نظر بارتعابٍ إلى الضابط "وجدي"، حين ضرب على كتفه، قبل أن يقول له بتحذيرٍ مستتر:
, -هاعيد كلامي عليك تاني يا "حاتم"، عشان تطمن، ومتخافش٣ نقطة
,
, لم يعلق عليه الأخير، فقط راقب تحركاته في صمتٍ، غير قادرٍ على الاعتراض بنظراته حتى، استأنف "وجدي" حديثه مرددًا:
, -كل اللي هاتقوله هيتاخد في عين الاعتبار، وده هيحسن من موقفك في القضية.
, تساءل "حاتم" في تلعثمٍ مغلف بأملٍ زائف، وهو يرف بجفنيه:
, -يعني ٣ نقطة هطلع براءة؟
,
, رد ضاحكًا بما يشبه التهكم:
, -براءة إيه بس؟ إنت ممسوك متلبس!!
, نظر "حاتم" إليه بنظراتٍ ضائعة، وقد تيقن من سوء خاتمته، عاد الأمل ليبث فيه عندما أعلمه الضابط:
, -لكن احتمال يتخفف الحكم عليك، وجايز تاخد إفراج بدري .. في حاجات كتير ممكن تحصل ٣ نقطة
,
, ثم تحولت لهجته للجدية، ونظراته للوعيد، وهو يكمل بأسلوبٍ حمل التهديد في طياته:
, -ولو فضلت ساكت، وعملت فيها مخلص، الحيتان الكبيرة هتتنعم في خيرات ****، وإنت هتدفن بالحيا جوا السجن، وإنت عارف كويس إن يوم السجن بسنة، وجايز يسلطوا عليك اللي يجيب أجلك.
,
, التزم "حاتم" الصمت لدقائق، مستغرقًا في أفكاره التحليلية؛ وكأنه يعيد تقييم الموقف برمته، ليحتسب مكاسبه فيه من خسائره، وكانت النتيجة أن حسم رأيه قائلاً بنزقٍ:
, -خلاص سعادتك، أنا هاقول يا باشا على كل حاجة.
, ابتسامة انتصــار احتلت ثغر "وجدي" وهو يرمقه بنظراته الواثقة، جلس خلف مكتبه، في مقعده الوثير، مسترخيًا عليه، ثم مدح قراره، فقال له:
, -كده إنت بتفكر صح.
,
, ركز "حاتم" كامل نظراته، على وجه الضابط المتابع له بإمعانٍ، لم يتعجل الأخير استجابته، تركه يأخذ كل ما يريد من وقتٍ، ليخبره بما يرغب في معرفته بالأخير، تنفس الأول بعمقٍ، ليستعيد انضباط انفعالاته المذعورة، وباسترسالٍ غير مقطوعٍ، هتف مُفصحًا عن أحد شركائه:
, -اللي كان بيديني الأوامر، لنقل الممنوعات يا سعادت الباشا، واحد اسمه.. "محرز"٣ نقطة!
 
٣٤
الاخير

طرقة خافتة التقطها بأذنيه، فاتجه على الفور –بخطوات سريعة- إلى باب منزله، وقد عرف هوية القادم، ابتسامة مقتضبة تشكلت على محياه، وهو يراجع سريعًا فاتورة الطعام الجاهز الذي أرسل في طلبه، دفع لعامل التوصيل المبلغ المطلوب، وزاد عليه قليلاً، كنوعٍ من البقشيش، ثم أغلق الباب، وهو يدندن بصافرة مبتهجة، فمن المفترض أنه سيحتفل بقدوم عروسه الليلة، اتجه "آسر" إلى مائدة الطعام المربعة –ثنائية المقاعد- والتي تحتل الصالة، أفرغ عليها ما احتوته الحقائب، ثم ســار نحو المطبخ الصغير الذي يحتل مقدمة الجانب الأيسر من الصالة، وبحث عن أكواب نظيفة في الرفوف العلوية، ليصب فيها المشروب البارد، ابتسم لنفسه في انتشاءٍ، وقال:
, -كده تمام أوي.
,
, لم ينسَ "آسر" الاستعانة بإحدى تلك الحبوب العجيبة، حيث أكد له من منحه إياها بأنها الوصفة السحرية –والمضمونة- لعلاج (عجزه)، ورغم عدم اقتناعه بنتيجتها، إلا أنه لم يمنع نفسه من التجربة، فمنذ اكتشافه لعلته، نتيجة خلل عصبي، أصابه منذ الطفولة، في تلك المنطقة الحرجة، لجأ للأطباء، وكانت الصدمة الكبيرة، بعد سعي دؤوب، بعدم فاعلية العلاج طويل المدى، أو حتى بالتدخل الجراحي، وبات حله المتاح تجربة الجديد من الأدوية، عل أحدهم يحقق له المعجزة المنتظرة..
,
, ابتلع بآمال معلقة في الخيال القرص الدوائي بشربةِ ماء، ثم عاود أدراجه ليبدأ في تنظيم الطعام بشكلٍ مرتب، ليبدو مناسبًا خلال تناوله للعشاء المتأخر مع زوجته، وربما أثناء حديثهما الرومانسي المحمل بالأشواق والرغبات، تستجيب خلاياه المستكينة منذ فترات طويلة للتأثير الوهمي للدواء، زفرة بطيئة خرجت من جوفه، قبل أن يتمتم، بقليلٍ من التفاؤل:
, -جايز تظبط معايا ٣ نقطة
,
, ثم حملق أمامه بنظرات هائمة، ليتابع حديث نفسه:
, -المزة المرادي تستاهل، وحاجة مختلفة!
, تبخرت الخيالات الجامحة التي عكست ابتسامة بلهاء على ملامحه، لتتحول لعبوس منزعج بسبب الرنين المتكرر من "محرز"، لم يرغب "آسر" في الرد عليه حاليًا، فسماجته، مع سخافته الزائدة، لا يمكن تحملها في تلك الساعة المميزة، أغلق هاتفه، وتجاهله كليًا، حتى أعماله العالقة أرجأها لوقت لاحق.
,
, السقوط في الهاوية، لن يكون مصيره، إن تخلى عنه الجميع، خاصة من يؤدي عنهم أعمالهم القذرة، وغير القانونية، جلّ ما يرعبه حاليًا، هو نجاة خصمه من الحادث المدبر، وبالطبع إن تكلم ضاع ما رتبه طوال السنوات المنصرمة سُدى، لهذا توارى "محرز" عن الأنظار مؤقتًا، ريثما تتضح الصورة كاملةً، وتنقشع تلك الغمة عنه، فبعد أن دفع المال المتفق عليه لأعوانه، بحث عن مخبأ يأويه، ووجد واحدًا تتوافر في الشروط المناسبة، في مكانٍ بعيد؛ لكنه لن يبقى فيه للأبد، وبدا الاختيار المتاح له الآن مخابرة "آسر"، ليحميه ويعاونه في مأزقه، لذا حدث نفسه بعزمٍ:
, -أنا ياما ساعدته، جه دوره عشان يطلعني من الوحلة دي.
,
, اضطر أن يخرج من مخبأه، وسار بحذرٍ شديد بين المارة، متخذًا من الطرق الجانبية مسلكًا له، بحث عن أحد المحال الخاصة ببيع كروت شحن الرصيد، من أجل إجراء تلك المكالمة الدولية الهامة، وبعد عناءٍ من اللف، والاستعانة بإرشادات بعض المواطنين، تمكن أخيرًا من تعبئته بالمال اللازم، توقف عند بقعة هادئة، ووضع الهاتف على أذنه مترقبًا بأعصاب متلفة رده عليه، استشاط غيظًا حين تجاهله أكثر من مرة، وبلغ ذروة غضبه في لحظة عندما وجد هاتفه مغلقًا، تذكر امتلاكه لرقمٍ آخر يستخدمه عند الطوارئ، لهذا فتش عنه متوعدًا إياه:
, -قسمًا ب**** لو ما رديت عليا، لهكشف المستور كله!
, قالها "محرز" لنفسه، وكتبها في رسالة نصية قصيرة، قاصدًا بها التشديد على جدية تهديده.
,
, كنوعٍ من الهروب، غابت بداخل الحمام لوقت حاولت استطالته؛ لكن في الأخير، كان عليها الخروج، والالتقاء به، لم تحبذ "فيروزة" أن يراها زوجها للمرة الأولى بالفاضح من الثياب، لهذا انتقت قميصًا حريريًا من اللون الأبيض، ومن فوقه أحكمت ربط روبه، فلم يظهر إلا وجهها، وكفيها، تنفست بعمقٍ، وأقنعت نفسها أنها مهيأة نفسيًا لبدء حياتها مع شخصٍ يملك من السمات الجيدة، ما يحسدها عليه غيرها، وما إن فتحت باب الحمام، حتى عبقت رائحة الشامبو القوية -والذي دلكت به فروة رأسها لعدة مرات- الهواء بكثافة، لازمت أنفها رائحته النافذة، وتمكن زوجها أيضًا من استنشاق عبيره المميز، ليقول لها بكلماتٍ ذات مغزى، وهو يدنو منها:
, -نعيمًا يا حبيبتي، حمام الهنا.
,
, وقبل أن ترد عليه، ضمها إلى صدره ليحتضنها، ويشعر بدفئها المنعش يغزوه، حاولت أن تنسل من بين ذراعيه المطبقين عليها، وردت بنوعٍ من المجاملة:
, -شكرًا.
,
, استمر في ضمه له، وهو يشتم رائحة شعرها، مستحضرًا في ذهنه، كل الأفكار الجامحة في العلاقات الزوجية، ليحفز المستكين من خلاياه المستعصية في استجابتها؛ لكنها أبت الانصياع له، وفشل كالعادة في استحضار ما لا يملكه، في نفس الوقت تراجعت عنه "فيروزة"، وقد استشعرت جموده المريب، تاركة مسافة خطوتين بينهما، ورفعت رأسها لتتأمل باهتمام تفاصيل المكان، الذي لم تكن منتبهة له جيدًا، وإن كانت غير راضية عما رأته بالداخل٣ نقطة،
,
, ليس رغبة منها في الثراء؛ لكن لكونه قد خدعها بطريقة ملتوية، وهذا ما لم تقبله! تجنبت نظراته الدائرة على تفاصيلها الأنثوية، وحدقت فيه بتشجعٍ، لمحت في عينيه الرغبة، وذلك ما أصابها بالتوتر، باعدت أنظارها عنه، وانشغلت بتأمل لوحة زيتية على الحائط لمنظر من الطبيعة، استدارت ناظرة نحو حين قال لها، وهو يشير بيده يدعوها للجلوس:
, -الدليفري جاب الحاجة، وأنا جهزت السفرة.
,
, ردت بهدوءٍ، وابتسامة متحفظة:
, -تسلم إيدك.
, أضاف وهو يضع يده على خصرها ليدفعها نحو الطاولة:
, -إن شاء**** يعجبك، المطعم ده معروف بأكله هنا.
, اكتفت بهزة من رأسها، وسحبت المقعد لتجلس في مواجهته، فأخبرها وهو مسبل عينيه نحوها:
, -حقيقي البيت نور بوجودك فيه٣ نقطة
,
, امتدت يده لتمسك بكفها، ومال نحوها بعد أن رفعه إلى فمه ليقبله، نظر لها بعينين متطلعتين في اهتمام، وأخفض من نبرته قائلاً، بلهجةٍ ذات مغزى:
, -أد إيه أنا كنت مستني اللحظة دي.
, قشعريرة موترة سرت في أوصالها، وبلطفٍ حذر استعادت يدها من قبضته، لم يبعد "آسر" نظراته المعلقة بها، وتابع:
, -أنا عارف إنك مستغربة الوضع شوية، بس كل ده مؤقت.
, أجبرت "فيروزة" شفتيها على الابتسام، وردت بتفهمٍ:
, -مافيش مشكلة..
,
, للحظة حاولت ألا تتطرق لتزييفه للحقائق؛ لكنها لم تستطع، فأدرفت قائلة:
, -هو في سؤال محيرني شوية
, بدأ في إزاحة ورق السلوفان عن أطباق الطعام، وسألها، بعينين محملقتين في تعبيراتها:
, -إيه هو؟
,
, دارت بنظراتها في المكان، وتوقفت عنده، لتسأله مباشرةً:
, -يعني الشقة دي كنت عايش فيها قبل كده؟
, توقف عما يفعل، واستقام في جلسته، ليقول بصوتٍ هادئ، وبكلماتٍ مرتبة:
, -اتنقلت فيها من قريب، هي مش بطالة، تقضي الغرض، ومناسبة للإيجار بتاعها، يعني أنا.. أصلي كنت عايش في حتة تانية، بس أقل من دي بكتير، حاجة شبه العشوائيات.
,
, صدمها بصراحته، ومع ذلك حافظت على جمود تعبيراتها، تطلع إليه بنظراتٍ تُعيد دراسته، وأخبرته دون تجميلٍ:
, -أنا مش قصدي حاجة، بس كان في دماغي صورة عنك غير دي.
, رد عليها متسائلاً:
, -عشان مظهري ولبسي؟
, ضمت شفتيها للحظة، وحركتهما قائلة بصراحةٍ:
, -مكدبش عليك.. أيوه.
,
, قال ببرودٍ، ولمحة من الغطرسة تشوب صوته:
, -دي شكليات، يعني لزوم شغلي، مش معقول هالبس مقطع ومبهدل، أنا بأتعامل مع علية القوم، والحياة هنا غالية جدًا، لما تاخدي على الوضع، هتفهمي كلامي.
, هزت رأسها بإيماءة صغيرة، لتعلق باقتضابٍ، وتعبيراتها يكسوها الامتعاض.
, -تمام.
, أشـار لها بيده قائلاً:
, -يالا بقى عشان الأكل ما يبردش.
,
, دفعت "فيروزة" مقعدها للخلف، وقالت وهي تنهض:
, -طيب أنا هاقوم أجيب مياه.
, أوقفها صائحًا؛ كما لو أنها على وشك ارتكاب جريمة خطيرة:
, -لأ استني، احنا مش بنشرب من الحنفية، دي مياه خزان.
, ضاقت عيناها في استغرابٍ، سألته، والدهشة تعلو قسماتها:
, -وإيه يعني؟
,
, أوضح لها ببساطةٍ، مستخدمًا يده في التلويح:
, -لأ مياه الخزانات للنضافة، للحمام؛ لكن الأكل والشرب بنستخدم القوارير المعدنية٣ نقطة
, ثم نهض من مكانه، وطلب منها بلهجةٍ شبه آمرة:
, -استريحي إنتي يا حبيبتي، وأنا هاجيبلك.
,
, استجابت لطلبه، وتابعته بنظراتها المهتمة، وهو يتجه نحو الثلاجة الموجودة خلفها، لم تكن قد لاحظتها في البداية، وها هي مع الوقت تكتشف المزيد عن تفاصيل المكان الذي ستعيش فيه القادم من أيامها، استدار "آسر" ليواجهها، وقال وهو يحمل في يده زجاجة بلاستيكية، نصف ممتلئة بالمياه:
, -تقريبًا مافيش عندي أزايز معدنية كفاية، بكرة هنزل الصبح أجيب من السوبر ماركت.
, ضغطت على شفتيها في استياءٍ، لم تستطع إخفائه، وردت عليه بإيجازٍ:
, -أوكي.
,
, أفرغ ما تبقى من المياه المعدنية في كوبٍ أحضره لها، وناولها إياه، ابتسمت له بامتنانٍ، وتجرعت ما فيه لتبلل حلقها الجاف، واستأذنت منه بابتسامة بذلت فيها الجهد لتبدو طبيعية:
, -ينفع أكلم ماما بقى أطمنها عليا.
, بادلها ابتسامة زائفة، ورد متهربًا منها:
, -إن شاء****، ناكل بس الأول.
, أومأت برأسها وهي ترد:
, -طيب.
,
, عاد ليلوك الطعام في جوفه بنهمٍ، وأكمل حديثه معها مغيرًا الموضوع:
, -الأكلات هنا مقولكيش، هندي، وصيني، وكوري، وكل اللي نفسك فيه.
, تطلعت بنظراتٍ مهمومة إلى أطباق الطعام، وتنهدت معلقة عليه:
, -أنا مش أكيلة أوي.
,
, اقتطع قطعة من الدجاج المشوي الموجودة في صحنه، وغرسها في شوكته، ثم مد بها ذراعه نحوها، ورجاها:
, -دوقي بس ..
, على مضضٍ تقبلت تناول ما لم تستسغه من طعامٍ، وابتلعته مضطرة، وهي تصغي لثرثرته عن مواضيعٍ مختلفة ومتشعبة، وقبل أن يفرغ كلاهما منه، صدح رنين هاتف "آسر" الآخر، والذي نسي كليًا إغلاقه، زفر في ضيقٍ، ثم نهض من مكانه معتذرًا منها:
, -سوري يا حبيبتي.
,
, اتجه بخطواتٍ متعجلة إلى غرفة النوم، وانتزع الهاتف من شاحنه، لينظر إلى رسالة تهديدية مرسلة من "محرز"، إن لم يجب فيها على مكالمته، سيحدث ما لا يحمد عقباه، غامت ملامحه، واسودت نظراته، بدا مرتبكًا إلى حد كبيرٍ من كلماته القوية، أطلق لعنة خافتة، قبل أن يرتدي قناع الهدوء، ثم استطرد معللاً بنبرة كذبة:
, -مش هاخلص من الشغل وقرفه.
, سألته باهتمامٍ:
, -في حاجة مهمة؟
, تحدث من زاوية فمه قائلاً بأسلوبٍ مراوغ:
, -لا مش مهم ..
,
, ثم ارتشف ما تبقى من كوب مياهه دفعة واحدة، وهتف متنحنحًا:
, -حبيبتي، أنا هنزل أجيب حاجة ساقعة من تحت، وطالع على طول.
, تعقد حاجباها في استغرابٍ وهي تكرر عليه، بنوعٍ من التساؤل المندهش:
, -دلوقتي؟
, ضحك بسخافةٍ، وأردف:
, -عشان نهضم.
, لم يكن أمامها سوى الرد بتنهيدة ملولة:
, -خد راحتك.
,
, اقترب منها، وانحنى برأسه نحو خدها، ليطبع قبلة صغيرة عليها، وكرر من جديد على مسامعها:
, -مش هتأخر يا حبيبتي.
, رغم ترديده لذلك اللقب الحميمي، وإرفاقه بنوعٍ من المداعبة اللطيفة، إلا أنها لم تشعر بقربه الودي منها، شيعته بعينين جمعت بين الحيرة والتوتر، انتفاضة خفيفة انتابتها بمجرد خروجه من المنزل، تسرب إليها شعورًا جديدًا، ومخيفًا في نفس الوقت، إنه ذلك الإحساس العظيم بالاغتراب، والوحدة، شعورٌ لم تألفه بعد؛ لكنه سيكون ملازمًا لها –وبقوةٍ- خلال الأيام القادمة.
,
, "الأخبار السيئة تصل سريعًا".. مقولة صح معناها، فور أن علمت الحاج "بدير" بالمصاب الذي طال ابنه، حتى هرع إلى المشفى، تاركًا باقي أسرته خلفه، ليلحقوا به لاحقًا، لم يعبأ بحريق دكانه، فليفنى عن بكرة أبيه، المهم ألا يفقد وليده، من ضحى لأجل العائلة، انتحب في صمتٍ عاجز، وانسابت عبراته المكلومة كالأنهر، تشق طريقها على صفحة وجهه المجعد، أما والدته فنواحها المفجوع، وعويلها الصارخ كانا كفيلان بتليين القلوب المتحجرة، واستعطاف الغرباء قبل الأقرباء، آسفًا على حالها المفطر للفؤاد .. انهارت، ولم تعد قادرة على الحركة، فالمصاب أقوى من استيعاب إدراكها له، الوحيد الذي بقي متماسكًا كان الجد "سلطان"، آمن بقوةٍ أن مصيره بين يدي ****، ووحده -تعالى- من يعلم الغيب، وما عليه إلا الدعاء والتضرع له .
,
, وبخطوات غير متماسكة، تسندها عصا مهتزة، أسرع "بدير" في خطاه عبر الردهة الطويلة، في المشفى الخاص، الذي انتقل إليه "تميم"، قاصدًا الطريق المؤدي لغرفة العمليات، اعترض "سراج" مساره حينما لمحه، آخر من توقع وجوده بالمكان، بل وإنقاذ ابنه رغم الخصومة العنيفة بينهما، استوقفه الأخير بجسده قائلاً بنبرة أظهرت مؤازرته له:
, -متقلقش يا حاج، إن شاء**** هايبقى كويس.
, رفع رأسه المنكسر لينظر إليه بكل هموم الدنيا ونصائبها الثقيلة، بلع ريقه المشبع بالعلقم، وهتف بصوتٍ فشل أن يكون صلبًا:
, -عايز أشوف "تميم".. ده ابني!
,
, ربت على كتفه بلطفٍ، وأكد له بهدوءٍ:
, -هيحصل، لما الدكاترة يخرجوا من جوا، ويطمنونا عليه، ادعيله يا حاج.
, تهاوى كتفاه، وظهر انحناء ظهره، وربما انكسار هامته، وهو يرد عليه برجاءٍ خاشع، وعيناه تبكيان بألمٍ:
, -يا رب سمعنا كل خير عنه.
,
, ادعت أسفها وهي تتلقى من شقيقتها الأخبار المؤسفة عن حادث "تميم"، وحريق الدكان، ذرفت عبرات التماسيح الكاذبة تضامنًا معها، ووعدتها بالمجيء فورًا للتواجد معها، ومساندتها في هذه الكارثة الرهيبة؛ لكن ما إن انهت "بثينة" المكالمة معها، حتى مسحت بلا ندمٍ البقايا العالقة من دموع عن صدغيها، وارتسمت ابتسامة مسرورة على شفتيها، استرخت على الأريكة، وهزت هاتفها المحمول المتدلي من يدها، لتغمغم في انتشاء:
, -طلعت أد كلمتك بصحيح يا "محرز".
,
, ضحكة عالية سعيدة أطلقتها، ودمدمت بمزيد من الكلمات الشامتة، استغربت "خلود" من حالة الابتهاج المسيطرة على والدتها، حين خرجت من غرفتها، فسألتها في فضولٍ، وأخبرتها الأخيرة بنبرة فاترة عن السبب؛ وكأنها حادثة عابرة، انخلع قلب ابنتها، وهوى بين قدميها في ارتعابٍ مهلك، جرفتها مشاعر الرهبةِ، وسألتها في عدم تصديقٍ:
, -إنتي بتقولي إيه؟ "تميم"؟ استحالة! ده كدب!
,
, مصمصت والدتها شفتيها، وقالت ببرود وجفاء:
, -ده اللي خالتك بلغتني بيه.
, أجهشت بالبكاء، وصرخت منفعلة، بصدرٍ ناهج من شدة انفعالها، وعقلها رافضٌ استيعاب الأمر بشكلٍ كلي:
, -مش معقول، جوزي! أكيد ده كدب.
, بقساوةٍ علقت عليها، غير مبالية بحالة الانهيار الوشيكة، والظاهرة عليها:
, -يا بت فوقي من أوهامك، ده مش جوزك، والبعيد يستاهل اللي حصله! إياكش نسمع خبره قريب.
,
, هزت رأسها بهستيرية، ولسانها يصيح ببكاءٍ:
, -"تميم".. حبيبي!
, لعقت "بثينة" شفتيها، وقالت بتنهيدة بطيئة، عبرت عن شماتتها:
, -يالا، أهوو **** بيسلط أبدان على أبدان.
, وكأنها مفصولة عنها، ركضت بلا وعي في اتجاه باب المنزل، وهي تصرخ:
, -أنا لازم أروحله حالاً، هو موجود فين؟
,
, تمكنت والدتها من إيقافها بصعوبةٍ، وقبضت على ذراعها لتشدها للداخل، أغلقت مزلاج الباب، واستندت بظهرها عليه، ثم رمقتها بتلك النظرة الصارمة، وسألتها بغضبٍ بدأ يتشكل على تقاسيم وجهها:
, -تروحي فين؟ يا بت اهدي كده واقعدي، إنتي عايزة تفرجي الناس علينا؟
, انهارت على ركبتيها أمامها، ولطمت على صدغيها مواصلة صراخها المتوسل:
, -سبيني يامه، ده "تميم" ٣ نقطة جوزي!
,
, ركلتها أمها بقدمها في ركبتها، لتجبرها على النهوض .. كالمغيبة، استندت "خلود" على يديها لتقف، رمقتها بنظرة نارية من عينين ملتهبتين بحمرتها الغاضبة، لتنفجر صارخة باهتياجٍ شديد، واتجهت إلى منقولات البيت، بدأت في إلقاء ما تطاله يديها، وتحطيمه، وصراخها المتعاقب يكاد يصم الآذان، زجرتها "بثينة" بخشونةٍ، ودون أدنى تعاطف مع حالة الهياج العصبي التي تمكنت منها:
, -هي ناقصة جنان؟٣ علامة التعجب
,
, في عالمٍ رسم فيه الخيال لقائهما المستحيل طوعًا، كان معها بكل وجدانه، ودقات قلبه تنتفض لأجلها اشتياقًا، ركز "تميم" عينيه العاشقتين عليها، لم يرغب للحظة في إغماضهما، ليبقى هكذا للأبد، يتأملها، يحفظ أدق تفاصيلها الساحرة .. كانت معه في ظلمته، تنير له عتمته، تبتسم له بنعومةٍ، وتنظر إليه في ولهٍ، لطالما حلم به منها .. وجودها الوهمي أغناه عن قساوة العالم الآخر، المليء بالنكبات، والصدمات المحبطة، حاول وسط ضلالاته أن يمد ذراعه إليها، يتلمس تلك البشرة اللامعة التي أسكرته بتعويذة جمالها، يخبرها أنه لم يعشق غيرها، أن القلب نبض بحبها؛ لكنه لم يتمكن!
,
, شعر بشللٍ غريب مسيطر عليه، حركته معدومة، أخفض نظراته، وتفقد جسده، فأدرك أنه مكبل اليدين والقدمين، قاوم في يأسٍ القيود التي تعوقه عنها، خاصة وطيف البغيض "آسر" يحوم من حولها، اتسعت عيناه هلعًا، ونظر إليها في جزعٍ، حرك شفتيه لينطق ويحذرها، لم يفعل، كرر المحاولة بقوة أكبر ليناديها؛ لكنهما كانتا مضمومتان بشدة، ملتصقتان بخيوط قوية، وكأن أحدهم أجرى له عملية جراحية ليمنعه عن الكلام..،
,
, رمقته بنظرة تعيسة، تحمل اللوم في طياتها، ليس لأنه خذلها، لكن لعجزه الواضح عن إنقاذها، برزت مقلتاه في فزعٍ أشد، ويدٌ غادرة تطوق عنقها لتخنقها منه، انتفض، وتشنج، وصرخ بصوتٍ مكتوم، لم يسمعه أحد، عله ينجح في تحرير نفسه، وإبعاد شروره عنه، تلاشى طيفها تدريجيًا أمام ناظريه، وظلت تلك اللمحة الحزينة هي آخر ما علق في ذهنه، قبل أن يغرق في سواد لا خروج منه، ولسانه المحبوس قهرًا يناديها، بحسرةٍ لا طائل لها:
, -"فيروزة"..!
,
,
, انتهى الجزء الثاني ،،،



 
روووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووعه
 

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%