NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,833
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
14,803
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
العم منصور


امتاز عم منصور بصفتين رئيسيتين .. الأولى أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين في كلية الطب لغالبية الطلاب، إن لم يكن جميعهم.. ولما لا، وهو خازن قلعة الأسرار ..
,
, المشرحة ..
,
, الرعب والصدمة الأولى التي تنتظرها، وتتلقاها في أول عهدك بدراسة الطب .. اللحظة التي تتخيلها كثيراً قبل أن تلتحق بالكلية .. ربما لأن دراسة الطب تعني للكثيرين عالم من الجثث الممزقة والأشلاء الدامية..
,
, يحدثك صديقك حين تعود من الكلية، بعد يوم واحد من التحاقك بها بانبهار عن عدد الجثث التي قمت بتشريحها .. وتنظر إليك أمك بتوجس فور أن تعود من الكلية، وعيناها لاتفارقان يديك بتأفف متسائلة :
,
, - ألن تستحم أو تغتسل ؟.. ظناً منها أنك ربما تسبح في الكلية في بحر من الجثث والدماء والأشلاء .. وتتأفف أختك حين تجلس بجوارها الى المائدة، متسائلة باستنكار..
,
, -هل تظن أنك ستأكل معنا؟.. طبعا ستجيب من بين أسنانك، وأنت تجاهد نفسك ألاتقضم رقبتها:
,
, - بالطبع لا .. من قال هذا؟.. أنا فقط أجلس بجواركم كي أستمتع برؤيتكم، وأنتم تتناولون الطعام .. إن هذا هو مايشبعني.
,
, لاتغضب ياصديقي لو حدث هذا لك، وغالباً سوف يحدث .. ستتحول في أعينهم الى كائن موبوء مصاب بالجرب، وسيستمر هذا بعض الوقت إلى أن يعتادوا عليك مرة أخرى، أو تعتاد أنت على اشمئزازهم منك، فلاتبالي بعد ذلك ..
,
, لذا من الصعب أن تتخيل أن هناك أشياء كثيرة مهمة في دراسة الطب، بل وربما تستحق ذعراً أكبر بكثير مما تتنظره من المشرحة والجثث ..
,
, كلمني عن عوالم علم دراسة الأنسجة (الهستولوجي) وشرائحها المتشابهة، وصبغياتها القاتمة اللعينة.. حدثني عن الكيمياء الحيوية بمعادلاتها الشيطانية التي لا تنتهي ..
,
, حدثني عن الامتحانات الشفهية .. رعب قوطي يستحق الاهتمام والدراسة، ولايعلمه إلا من عايشه .. صدقني لو أدركت عوالم هذه الاشياء المخيفة، لما سببت لك المشرحة بجثثها كل هذا الرعب..
,
, الشيء الآخر المميز في عم منصور، هو شراهته المتناهية في التدخين..
,
, فلم أره أبداً إلا وكان يدخن .. سجائر .. شيشة .. وبالتأكيد ذلك الملك المتوج لأصحاب المزاج العالي، المدعو الحشيش ..كان الرجل يدخن كمرجل بخاري نهم ..
,
, كان ابن مزاج حقيقي كما نقول..
,
, اعتدنا حين كنا طلاباً في المرحلة الأولى من كلية الطب على هيئته التى لم تتغير أبداً ، دوماً كنا نراه أمام باب المشرحة الخشبي ذو الزجاج المدهون بطلاء أبيض باهت سقيم .. يجلس على كرسي خشبي عتيق متهالك، ويضع على مسنده الخلفي وسادة قطنية؛ لتريح ظهره من قسوة الخشب..
,
, يثير في نفسك الكثير من التوتر بهيئته الضخمة وملامحه الغليظة، وجبهته العريضة الناتئة ..كان دوماً يذكرني بمسخ فرانكشتين، لو كنت قد شاهدت الفيلم يوماً ما، وتذكر كيف كان المسخ..
,
, كان عليك أن تحرص على أن تعلن له احترامك .. إياك أن تعامله على أنه مجرد عامل في المشرحة .. لن ينسى لك هذا أبداً لو فعلت ..
,
, بالتأكيد لن يتطاول عليك أبداً .. لكن حين يقترب ميعاد امتحان منتصف العام أو آخره، وتتداخل في ذهنك عشرات الأعصاب ومئات العضلات، والأوردة، والأوتار، ولاتدري من أين يبدأ هذا، وكيف ينتهي ذاك، وتحتاج لمن يعيد ترتيب هذه الأشياء في ذهنك مرة أخرى، ستتذكر المشرحة وتتذكره .. حينها لا تلومن إلا نفسك حين يرفض أن تدخل المشرحة في غير أوقاتها المحددة لك ،ولاتتذمر حين تعلم من أحد أصدقائك أن عم منصور ساعده بالأمس، وأعطاة أحد أطراف الجثث الطازجة التى لم تتدهور بعد من مباضع التشريح الكثيرة التى جرت عليها، أو تناقلها بين أيدي الطلاب مئات المرات ..
,
, طبعاً لا يقدم عم منصور هذه الخدمات مجاناً .. فهناك دوماً الدخان، والشاي الذي لايمل منه .. لكن أي قيمة لمثل تلك الأشياء الصغيرة أمام مغارة علي بابا التي باستطاعته أن يفتحها لك ؟..
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, عرفته في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حين التحقت بكلية الطب .. كنت غارقاً حينها في أنشودة البدايات السوداء، التى يعرفها كل طالب التحق بكلية الطب يوماً ما .. من الصعب أن تنسى المصطحات الكئيبة التى كنت تسمع عنها لأول مرة، ولاتدري كيف تنطقها أو تكتبها .. وهناك المذاكرة التي تشعرك في البداية أنك جاهل أحمق، ولم تكن لتصلح لأن تكون أكثر من صبي كواء ..
,
, هذه ذكريات تنسيك بهجة الحياة نفسها، في وقت كان عليك أن تعيش فيه هذه المباهج ..
,
, عرفت عم منصور بقامته الضخمة للغاية، ووجهه ذو الفك البارز والعينين الجاحظتين دائماً ، كأنما تزمعان مغادرة رأسه يوماً ما، وأطرافه الطويلة العريضة الهائلة الحجم .. فيما بعد علمت أنها حالة متقدمة لفرط إفراز هرمون النمو أثناء الطفولة .. لكن في ذلك الوقت كان من المستحيل إصلاح مثل هذا الخلل فعاش به..
,
, وحين عرفته، وتنفيذاً لنصائح أحد زملائي من الطلاب الأقدم سنّاً حرصت على أن تكون علاقتي به طيبة .. اقتربت منه، فساعدني الرجل بصورة كبيرة، فحين تقترب الامتحانات، كان يكفيني أن أذهب الى المشرحة ليخرج لي حينها أجزا ء طازجة من جثث جديدة لم تُمس بعد، كان يحتفظ بها للامتحانات .. كنت دوماً كريماً معه، لم أنسَ سجائره أو معاملته بصورة لائقة ..
,
, وكان خدوماً لي بالرغم من الفظاظة التي كثيراً ما يظهرها للطلاب..
,
, كان الرجل صورةً حية للمقولة التي تدعوك لئلا تربط بين شكل الرجل وقلبه .. فبالرغم من ملامحه الغليظة، وفظاظته التي كثيراً ماكان يبديها للطلاب، إلا أنه كان يمتلك طيبة شديدة ..طيبة تذكرك بحنو جدّك الراحل والتي تتذكرها بين طيّات ذكرياتك المبهمة عنه..
,
, ومرت الأعوام الدراسية سريعاً ، كما يُنتظر منها أن تمر ،وبالرغم من انتهاء حاجتي للمشرحة بعد عامين فقط من الدراسة ؛لا نتهاء دراستي حينها لمادة التشريح، إلا أنني حرصت على استمرار زيارته بحجرته بالمشرحة من حين لآخر، حيث لاحظت سعادته بمثل هذه الزيارات ..
,
, كان دوماً يرى أن الطلاب يعاملونه بصورة جيدة، ويتوددون إليه طالما هم في حاجة إليه .. أما بعد ذلك ،فكثير منهم يتجاهلونه، وإن قابلهم مصادفة ، فالكثير منهم قد يشيحون بوجوهم بعيداً عنه بشيء من التعالي، أو يحيونه بصورة باردة بلا ودّ حقيقي في الغالب، كأنما يتذكرون فجأة أنهم سيصيرون أطباء بعد أعوام قليلة، أما هو فسيظل دوماً عامل المشرحة البسيط وليس أكثر..
,
, كنت أطيب خاطره حينها بكلمات طيبة، فيهز رأسه بغير اقتناع، وهو يسحب دفقة كبيرة من دخان سيجارته التي لاتفارق يده، ليقول بعد أن يزفرها، وهو يرنو للسقف بعينين تسعان الفراغ كله:
,
, -لا تؤاخذني يادكتور ولا تغضب مما سأقوله الآن، إن مايقوم به زملائك ندعوه في عرفنا قلة أصل.
,
, بالطبع لم أكن أدري بما أجيبه، لذا كنت أكتفِ بهز رأسي بحركات مبهمة لاتوحي بشئ، وإن وافقته بداخلي على مايدعيه .. إن مايقومون به هو نوع من نكران الجميل والتعالي لا مبرر له، فليس ذنب الرجل أن مهنته بسيطة، ولا يجب أن نشعر الرجل بأنه لاقيمة له إلا باحتياجنا له.
,
, وتخرجت بعد حين من الكلية .. وتباعدت زياراتي لها، إلا أنني حرصت على زيارته بالمشرحة حين كنت أزورها..
,
, كنت ألاحظ أن الرجل - عاماً بعد عام - يزداد هرماً ، وتتكاثف بصورة مخيفة التجاعيد في وجهه، وحول فمه و عينيه .. كما لاحظت في الأعوام الأخيرة أن صدره لم يعد على مايرام .. صار يعاني من نوبات ربو حادة تستدعي أحيانا أن يتم تنويمه بعناية الصدر بالمستشفى بضعة أيام ..
,
, صار صدره يعمل كصافرة لاتكف أبدا عن الصراخ والشكوى .. المشكلة هاهنا أن الرجل كان أسوأ مريض من الممكن أن يقابله طبيب يوماً ما.. فبالرغم من خطورة حالته ،وسوء حالة رئتيه، فإنة ظلَّ يدخن كـ قطار بخاري .. حاولت مراراً أن أُثنيه وأُقنعه بتقليل مرات التدخين بلا أمل في استجابة منه .. كان دوماً يضحك ضحكته المشروخة المصحوبة بسعال عنيف، ثم يقول ،وهو يمسح بيده الغليظة قطرتين من الدموع أفرزتهم عيناه بعد نوبة السعال العنيفة التي تنتابه:
,
, -يادكتور دعك مما تقوله .. الدخان هو الشيء الوحيد الذي لن يضر الصدر أبداً .. إياك وتصديق كلام الكتب التي درستها هنا ..كلنا يعلم أن الصدر في حاجة للتدفئة، والدخان هو أفضل من يقوم بتدفئة الصدر..
,
, ثم يقطع حكمته تلك، ليدخل بعدها في سُعال عنيف مرة أخرى، حتى أظن أنه سيبصق روحه نفسها بعد قليل .. فأرمقه مشفقاً صامتاً ، لكني أفاجأ به يقول بعد أن يهمد سعاله ويسكن :
,
, -هل تعلم يادكتور أن الدخان الذي نشربه مفيد للصحة جداً ؟.. نعم إنه مفيد للغايه، أنت لا تصدقني فيما أقوله لكنني لا أمزح وأقول الحق.
,
, وابتسمت رغماً عني لطرافة كلماته، وسألته متصنعاً الجد :
,
, -وكيف هذا برأيك أيها الحكيم ؟.. إنبعث حينها بعض البريق من عينيه، قبل أن يجيب بصوته الخشن بجديّة حقيقية:
,
, -نعم يادكتور .. الدخان شيء صحي جداً أكثر من الهواء نفسه .. هل تعتقد يا دكتور أن هناك ميكروباً ما يستطيع العيش وسط سحب الدخان التى نستنشقها حين ندخن .. بالطبع هذا مستحيل .. الدخان يادكتور قادر على قتل أي ميكروب مهما كان، ولابد أنه يقوم بفعل هذا الشيء حين تتنشقه الرئتان .. إنه بلاشك يطهرهما من الميكروبات التي قد تعلق بهما.. ألا يُعد هذا أمراً صحياً يادكتور؟
,
, أطلقت حينها ضحكة عالية ، مدركا أنه من العبث أن أجادله .. الرجل له قناعاته التي عاش عليها، ولن يتركها بعد كل هذا العمر، كي يصدق هذا الهراء الذي يطلقه أمثالنا من الأطباء على آذانه..
,
, كان الأمر عجيباً عبثياً .. رجل يعمل في كلية الطب لأعوام طوال .. فيرى أن مايلقنونه من علوم لأطباء المستقبل هو الهراء ،ولا يؤمن إلا بآرائه .. كان من المستحيل إقناعه بخطأ ما يعتقده، لذا قلت له باستسلام متنهداً :
,
, -ربما كان الدخان مفيداً كما تقول، فمن يدري ياعم منصور؟!
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, مرت أعوام كثيرة بعدها، سافرت خلالها إلى إحدى بلاد النفط والنقود، كما يفعل أغلب الأطباء، ولم أعد أتردد مرة أخرى إلى الكلية .. وتوارى حينها عم منصور في ثنايا ذكرياتى المتناثرة، كالكثير من الذكريات الأخرى التي عشتها من قبل يوماً ما ونسيتها.
,
, لم أتذكره إلا حين أردت الحصول على بعض الكتب الطبية الحديثة، وذهبت إلى الكلية لأبتاعهم من إحدى مكتباتها، قررت حينها زيارته متوقعاً أن أجده بعد كل هذه الأعوام الكثيرة، قابعاً في مكانه الأزلي، على كرسيه الخشبي العتيق أمام المشرحة ..
,
, وكنت واهماً !.. عرفت هذا حين وجدت شاباً آخر يجلس على كرسي خشبي مختلف أمام المشرحة .. سألته عن عم منصور فأجابني بتعجب، وهو يتفحصني بشيء من اللزوجة في نظراته :
,
, - وهل كنت تعرفه ؟.
,
, وأجبته بتحفظ اعتراضاً مني على تطفله :
,
, -نعم أعرفه .. لكن أين يمكنني أن أجده الآن ؟
,
, - عم منصور تعيش أنت يا أستاذ .. مات بالمستشفى في حادث منذ خمسة أعوام .. إننى أتعجب أنك لا تعرف هذا بالرغم من انك تزعم انك تعرفه.
,
, وغادرته شاعراً بالصدمة والضيق دون أن أجيبه، فهاهو جزء آخر من ذكرياتي قد انتهى للأبد .. لا أدري لماذا سطعت في رأسي الكثير من الذكريات مع الرجل ؟.. بعض دعاباته ذات الإيحاءت الجنسية غالباً ، والتي كان يستمتع بروايتها، والضحك عليها دون ان ينتظر ليرى هل أعجبت مثل هذه النكات من يلقيها عليه أم لا ؟..كان يضحك عندئذٍ كأنما كان يلقيها لنفسه ليضحك هو عليها ..
,
, وهنا طفت على سطح ذاكرتي، ذكرى أخرى حكاها لي الرجل في مرة من المرات التي جمعتنا سويّاً .. كنت قد سألته يومها عن عالم الجثث الذي يعيش فيه .. فالرجل منذ عرفته لايغادر المشرحة تقريباً أبداً ، كما أنه لم يتزوج؛ ولهذا فإنه قد اتخذ المشرحة بيتاً له .. ولأنه أقدم العمال فقد سمحت له إدارة الكلية أن يعيش في حجرة بداخل المشرحة في شيء استثنائي .. وسألته يومها بشيء من الجد ،والكثير من المداعبة :
,
, -ألا تخشى الجثث ياعم منصور ؟.. ألاتخاف أن يظهر لك عفريت جثة ما في أي لحظة، وأنت تنام على بعد خطوات منها ؟.. ألاتخشى أن تنتقم أشباحها منك لما تفعله بها ؟..لوكنت مكانك لاهتممت بهذا الأمر، وخشيت على نفسي .. إن أرواح الموتى كما أعلم لا تعرف المزاح.
,
, هذه المرة رأيت عيني الرجل ولأول مرة، زائغتين مرتعشتين .. شحب وجهه كثيراً ، قبل أن يجيب بصوت مضطرب معاتباً :
,
, -هذه أشيا ء لا يصح السخرية منها أو الضحك فيها يادكتور .
,
, شعرت بالدهشة من رد فعله البادي على وجهه .. بدا واضحاً أن الرجل يهاب شيئاً ما ..كانت هذه أول مرة أرى تعبيراً كهذا في صفحة وجهه، ولم أكن لأتركه حينها حتى يُفصح عما يخفيه، فقلت مُلحاً :
,
, - هل تعني كلماتك هذده أنك قد صادفت شيئاً من هذه الأشياء من قبل؟.. أشعر أن هذا قد حدث بالفعل، وأرى الإجابات في عينيك تقفز مؤكدة ما أعتقده .
,
, أخذ حينها نفساً عميقاً من سيجارته التى بيده، وكتمه للحظات داخل صدره كأنما يلتمس به بث الطمائنينة في صدره، ثم أطلقه ببطء ناثراً سحباً من الدخان الكثيفة حولنا، وأجاب ببطء، وبصوت هامس:
,
, - هل تصدقني يا دكتور لو أخبرتك أنهم حولنا طوال الوقت، بل وإنني كثيراً ما أراهم، وأسمع أصواتهم،وصرخاتهم وبكائهم .. نعم أسمع بكائهم، ونحيبهم كأنما هناك ما يحزنهم ويسوءهم .. إنني لست واهماً فيما أدعيه، ولن أكذبك الحديث أبداً بعد هذا العمر..
,
, نعم، في البداية كنت أخشاهم ،وأشعر بالرعب والهلع منهم حين أشعر بهم، لكنني بعد حين اعتدت عليهم، فلم أعد أكترث بهذا كالسابق .. فبعد أن قضيت أكثر من أربعين عاماً من العمل مع الموتى، لاتتوقع أن تجد مايخيفني .. حتى الموت نفسه صرت لا أخافه كالسابق .. إننى أراه، وأعايشه كل يوم..
,
, -أتعني بما تقوله أن هناك بالفعل أشباحاً للموتى و عفاريت لهم ؟.. إذاً هذه الأشياء موجودة بالفعل .. أليس كذلك ؟!.
,
, -إنني لا أدري ماذا يكونون بالضبط ؟.. هل هم أشباح أم عفاريت أم أنهم قرين الموتى من الجان ..صدقني لا أدري ما حقيقتهم .. لكن هناك بالفعل أشياء مرعبة تدور دوماً حول الجثث .. أشياء شاب لها شعري مُذْ كنت شاباً صغيراً .. لكني كما ذكرت لك لم أعد أعبأ بها الآن، وقد صرت شيخاً كبيراً ، على أعتاب الموت .. ليكونوا مايكونون، فعمّا قريب سألحق بهم، وحينها حتماً سأعرف الإجابات كلها.
,
, كان مايقوله مثيراً ، وشعرت بنشوة هائلة مما أسمعه ..كانت هذه أول مرة أرى فيها من يُجزْم بوجود أشباح عايشها .. خبرة تمنيت أن أعايشها، ولو مرة واحدة في عمري، وإن كنت أخشى حدوثها بشدة .. ولا أدري حقاً ماذا سأفعل لو واجهت شبحاً في يوم ما .. هل سأعدو هارباً منه ؟.. أم تراني سأتفحصه ثابت الجنان ؟.. لن أعرف حقاً إلا لو واجهتهتم.
,
, لذا ملت نحوه متسائلاً بحماس :
,
, -إذاً أخبرني ب**** عليك كيف تراهم ؟ .. وكيف يبدون لك ؟.. هل تراهم كطيف مثلاً .. أو ضباب كما يصفهم البعض، أم أنهم يتخذون شكلاً مادياً محسوساً ؟
,
, -إنني لا أراهم بعيني بصورة واحدة متشابهة .. أحياناً هم كالظلال، وأحياناً أُخرى أراهم كالأحياء يحومون حول الطاولات التي تحوي جثثهم .. لكن في الكثير من الأحيان لا أراهم بعيني، بل أشعر بوجودهم حولي .. إن لهم حضوراً مميزاً لا شك فيه، ولو كنت دقيق الملاحظة، فسوف تشعر بهم حتماً حين يكونون حولك.
,
, صمت بعدها، وأخد نفساً عميقاً وأخيراً من الجزء الباقي من سيجارته،كأنما يعتصر دخانها المتبقي كله، قبل أن يلقيها أسفل قدمه ويسحقها، ثم سعل مرة أخرى بشدة ، وبصق على الأرض، قبل أن يُكمل:
,
, -لا أتكلم عن الأصوات والصرخات والأشياء التي تتحرك بلاسبب .. كل هذا يحدث كثيراً .. لكنني أتحدث عن الإحساس بهم وهم يحيطون بك .. دوماً هناك ذلك البرد الذي يتسلل إلى جسدك، فتكون تلك الارتجافة التى تخترق نخاع عظامك نفسه .. هناك ذلك الإحساس المريب أن هناك من يقف خلفك، فإذا ما التفت لاتجد أحداً .. أحياناً ترى تلك الظلال المنعكسة على الحوائط، والتى لاتمت بصلة للموجود بداخلها .. إنها أمور غريبة تحدث، وتنبئك بأن شيئاً ما غامضاً يدور حولك ولاتراه .. لكن في أحيان قليلة أخرى، قد أرى صاحب الجثة نفسه في الفراغ شاخصاً نحوي بعيون جامدة مفزعة .. هذه المرات النادرة هي ما أهابها بشدة وأخشاها.
,
, وبدت حركة ما مفاجئة حينها، فالتفت كالملسوع ونظرت حولي بتوتر ..كنا حينها في المشرحة، ولا أحد حولنا الآن على الإطلاق .. لم يكن اليوم يوماً دراسياً فلا محاضرات هناك أو طلاب، لذا بدا المكان مهجوراً تقريباً .. وشعرت بالرهبة للحظة ،واعتراني هاجس سخيف أن عم منصور يراقب هلعي المفاجئ هذا باستمتاع ..لم أرغب في أن أراه يرمقني هكذا ساخراً ، لذا قلت بتوتر :
,
, - ومع كل هذا مازالت تنام بالمشرحة بمفردك .. من العسير أن أتخيل نفسي مكانك .. أنت تمتلك قلباً فولاذياً لتفعل هذا.
,
, أطلق ضحكته المشروخة حينها، مجيباً بشيء من اللامبالاة:
,
, -أكل العيش يادكتور.. أكل العيش الذي لا يرحم.
,
, صمَتُ لوهلة متخيلاً أكل العيش الذي قد يدفع صاحبه للجنون أو الموت رعباً .. هذا مالا يمكنني ان أفهمه .. ما لذة الطعام أو الشراب أو الأموال لو عشت دوماً في فزع أو خوف ؟.. وكيف تتذوق حلاوة هذه الأشياء دون أن تحيا مطمئناً ؟.. ورمقته بحيرة وأنا لا أدري كيف أكمل حديثي، بينما أشعل هو سيجارة جديدة، وقال لي باسماً :
,
, -هل ترغب في تناول كوب من الشاى معي ؟
,
, أفقت من تأملاتي قائلاً على الفور:
,
, -لاداعي لهذا.. أشكرك.. لكن أخبرني، هل حاولت هذه الأشباح يوماً أن تؤذيك، أوتعترضك وتخيفك مثلاً، أم أنها تكتفى بالتواجد فقط.
,
, بدت نظرة شاردة على عينيه، وأخذ في التدخين بشيء من العصبية، لاحظتها في ارتجافة خفيفة سرت في أصابع يده الممسكة بلفافة التبغ ، وعيناه اللتان ارتفعت مقلتاهما نحو سقف الحجرة .. شعرت بأن هناك ذكرى ما يتذكرها الآن .. ذكرى ربما ذكره كلامي بها .. وبدت تلك الذكرى وكأنها غير سعيدة أبداً .. بدا هذا بشدة في ملامحه التى تقلصت بتوتر ، ويده التى واصلت الارتجاف..
,
, إلا أن فضولي كان عاتياً .. وأردت أن أسمع منه ماعاشه أو رآه في تلك المنطقة الغامضة .. عالم الأشباح والأرواح .. هذه خبرات قد لايعايشها المرء في حياته كلها .. والغالبية من البشر قد لاتصدق بوجودها، وترفض الإيمان بها.
,
, أنا شخصياً ، وبالرغم من قراءاتي لم أعايش مثل هذه الخبرات إلا بين صفحات الكتب أو عوالم السينما .. لا أرفض وجودها كلية، ولا أقبلها كذلك كأمر **** به .. المشكلة الحقيقية أن الأفاقين من شهود هذه الأحداث كثيرون للغاية، حتى لتختفي الروايات الصادقة بين أمواج الروايات الهزلية الملفقة .. لهذا أردت أن أسمع من عم منصور ماحدث له .. فالرجل مع طيبته هذه محدود التعليم، وقليل الخيال بالتأكيد، كما أنه غير كاذب .. هذا شيء عرفته عنه منذ زمن، ولهذا فمن الصعب أن أكذب ما سيقوله لي .. ربما لايكون دقيقاً تماماً فيما يذكره، إلا أنه حتماً لن يلفقه.
,
, وطال صمته حينها فقلت له مداعباً ، محاولاً حثه على البوح بما يخفيه عني:
,
, -أين ذهبت بعقلك أيها العجوز ؟!.
,
, بدت انتفاضة خافتة في وجهه، وقد أفاق من تأملاته .. قال بعدها راسماً ابتسامة باهتة على وجهه :
,
, -مازلت معك يادكتور .. لقد سبح عقلي نحو أحداث، جرت هاهنا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً .. أحداثاً مخيفة، وشريرة لأقصى حد .. إن الكثير من شعيرات رأسي البيضاء التى تراها الأن حدثت حينها .. ذكريات طالما تمنيت أن أنساها، وطالما دعوت **** كثيراً ألا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى .. فلم يعد قلبي كالسابق، قادراً على احتمال مثل هذه الأحداث الشيطانية، ولا شيخوختي عادت لتسمح للإثارة أن يكون لها دور في أيامي المتبقية.
,
, وسحب النفس الأخير في بقايا السيجارة الثانية التى يدخنها، تاركاً إياي أتطلع إليه مترقباً، ثم قال بصوت خافت كأنما يخشى أن يسمعه أحد ما:
,
, -هل تعلم أنني طالما كنت أحاول أن أتناسى هذه الأيام المشئومة .. وحين كانت بعض أحداثها تراودني في يقظتي أو ككوابيس في أحلامي، كنت أحاول أن أنساها بالقيام بالكثير من الأعمال أو بالصلاة وتلاوة القرآن ..
,
, وارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه، زادت تجاعيده، وأكمل:
,
, -هل تعلم يادكتور أنني لجأت للحشيش حينها كي أنسى ..كنت في حاجة لأن أغيب أحياناً عن الواقع ، وأن أنسى ما حدث .. هذه الذكريات لم تحمل لي الرعب فحسب، بل فقدت خلالها أحد ما كنت أعده ابناً لي.
,
, شعرت بالشفقة نحوه .. بدا لي الآن أنى أخطأت حين أيقظت بداخله تلك الذكريات الأليمة .. تمنيت لو كنت قد كتمت فضولي، لذا قلت معتذراً :
,
, -أنا آسف بحق ياعم منصور لو كنت قد أزعجتك بفضولي .. وأرجو أن تسامحني على هذا، فلم أقصد أن أذكرك بتلك الذكرى السيئة .. لو كنت أعلم أن هذا سيقلب عليك آلام مدفونة لما تحدثت أبداً .. لذا تجاهل أسئلتي كلها، ولا تحاول أن تتذكر أو تحكي أي شيء .. بل إنني سأنصرف الأن كي لا أضايقك أكثر من هذا.
,
, ونهضت حينهاً مبدياً جديتي في الانصراف، إلا أنه أسرع قائلا لي، وهو يجذبني من ذراعي داعياً إياي لأن أنتظر:
,
, - لا بأس أبداً بما قلته يادكتور .. أنت لا تزعجني بالفعل ، لذا اجلس أرجوك.. ربما يدهشك أني أريد الآن أن أحكي لك ماحدث .. إن هذه أول مرة أحكي فيها ماحدث لأحد ما .. فالكثير من الأشخاص الذين عايشوا ما حدث قد ماتوا، ومن عاش منهم ربما لم يعد يتذكرها الآن .. إنني مازلت أذكر كل شيء .. أذكر أشياءً أردت أن احتفظ بها لنفسي، وكنت أنتوى أن آخذها معي حتى قبري .. لكنني الآن أريد أن أحكي .. إن ماكتمته لأعوام طوال ليموج في صدري الآن ملحاً عليّ أن يرى النور ثانية، لذا فلا بأس من أن اقصَّ عليك ما جرى.
,
, - صدقني ياعم محروس أنا لا أريد مطلقاً أن أثقل عليك .. لقد كنت فقط أداعبك قليلاً .. لايهم كثيراً أن تقص عليّ أي شيء .. مايهمني هو ألا أوقظ في نفسك ما قد يؤلمك أو يضايقك.
,
, قلتها صادقاً مشفقاً ، شاعراً بالأسف الحقيقي نحوه .. لكنه قال مصرّاً :
,
, -كلا يادكتور .. أنت دوماً على الرحب والسعة .. ولكن هل لديك الوقت الكافي كي أقص عليك ماحدث، أم أن وقتك محدود؟..إن حديثنا سيطول.
,
, نظرت إلى ساعتي .. كانت مازالت الحادية عشر صباحاً ، ولم يكن هناك أي موعد لي قبل الرابعة عصراً ، فقلت له مطمئناً :
,
, - لاتقلق بشأني أيها العجوز .. فمازال أمامي مُتسع من الوقت لأسمعك .. يمكنك أن تحكي كما تشاء.
,
, وتنهد بإرتياح ونهض متجهاً إلى -سبرتاية- عتيقة قابعة على طاولة خشبية بجوار أحد جدران حجرته ،وهو يقول:
,
, -حسناً ليكن ذلك ..لكن دعني أولاً أعد بعض الشاي الثقيل من أجلنا.
,
, أخذ يعد الشاي بشرود كأنما يرتب ذكرياته ويصنفها في عقله ،ورحت أراقبه بلهفة، وأنا أنتظر ما سيلقيه على أذناي ..كنت متحمساً بشدة كي أسمع، يومها حكى لي الأحداث التى مر بها منذ أعوام بعيدة .. وكالعادة كنت مبهوراً كثيراً بما حكى .. بالطبع كانت الأحداث مرعبة ومخيفة وعسيرة التصديق .. إلا إنني لم أستطع أن أكذبه .. وقلت لنفسي حينها "مالذي يدفع رجل مثل هذا، وقد بلغ من الكبر عِتيا ، أن يختلق مثل هذه الأحداث؟.. لاشيء بالتأكيد..إن ماقصه علي لابد أنه قد حدث بالفعل، أو على الأقل هو يؤمن أنه قد حدث، لكنه لايكذب."
,
, بالطبع كنت محظوظاً ؛ فقد استطعت بعدها الحصول على الكثير من تفاصيل القصة من أهم أبطالها الذين عايشوها ..
,
, الدكتور محمد شاهين.. كان له دور رئيسي بالقصة ،وحكى لي فيما بعد ما يتذكره عن تلك القصة..
,
, واكتملت حينها خيوط القصة بأكملها في رأسي.. وكان عليّ أن أحكيها لكم ..
,
, وها أنا أفعل..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih و ☠️ B̷A̷D̷ M̷A̷N̷ ☠️
١


كانت البداية قبل أسبوع واحد من بداية العام الدراسي .. كانت هذه هي أيام التعب الفعلية في العمل بالمشرحة .. فالعمل كان حينها كثيراً بحق .. كانت هناك الكثير من أعمال الصيانة للمشرحة .. وهناك الكثير من الزيارات إلى مشرحة زينهم، وغيرها لجلب الجثث التي يحتاجها الطلاب في دراستهم .. أيضا كان هناك تحضير الجثث، وحفظها بالفورمالين كى لاتتحلل أو تتلف .. والعمل على جلب الكثير من العظام، والهياكل العظمية للطلاب لبيعها لهم أو إعارتها إياهم .
,
, كان هذا صيف 1971 م، تلك الأيام الكئيبة التي عاشتها مصر بأكملها مابين مرارة الهزيمة التي بددت الأحلام الضبابية التي عاشها المصريون طويلاً ، وخاصة قدرة الجيش على إلقاء إسرائيل، ومن عاونها في البحر، ولهيب الترقب في انتظار الحرب التي ستأتي بالثأر، و تعيد إلى الشعب جزءاً من كرامتهِ المهدره وأحلامه المفقودة.
,
, كان عم منصور قد أمضى في عمله بالمشرحة أكثر من عشرة أعوام .. تعلم خلالها كل أسرارها حتى صار كبير العمال بها .. لم يكن يعمل بمفرده بالطبع، فقد كان هناك ثلاثة عمال آخريين للمساعدة ..
,
, كان الأول هو عبد الدايم النوبي .. نوبي أسمر البشرة .. كان نحيل الجسم كعود ثقاب، لكنه كان نشيطاً كنحلة، كان في بداية العشرينات من عمره، وكان فيه كل ما في أبناء النوبة من طيبة ووداعة، ولهذا كان عم منصور يشعر نحوه بالراحة ويحبه ..
,
, كان هناك – أيضاً - متولي الديب .. فلاح من البحيرة، أدرك بفطنة أن أعمال الفلاحة والزراعة لن تغني شهوته للمال الذي يرغب فيه بشدة، فقرر هجرها، وباع القراريط القليلة التي يملكها في بلده، ليهاجر بزوجته، وابنيه إلى القاهرة ..
,
, كانت العاصمة قاسية معه في البداية، ولم تعانقه مرحبةً بهِ كما ظن.. وأدرك أن عليه أن يلتحق بعمل ما حتى يعرف طريقه، ويختار طريقاً ما يهيئ له أن يصير ثرياً يوماً ما كما يحلم .. لهذا لم يتردد في أن يعمل في المشرحة حين أخبره أحد جيرانه بالحي الشعبي الذي انتقل إليه للعيش فيه، أن كلية الطب تطلب عمالا للمشرحة ..
,
, تقدم بأوراقه، وتم قبوله في الحال .. كان لئيماً ماكراً، وإن لم يكن خبيثاً .. أدرك هذا عم منصور منذ النظرة الأولى، فلم يرتح له كثيراً .. لكن ماجدوى مشاعره هذه ؟.. إنه لن يتزوج أخته بالطبع، ومايربطه به هو العمل فقط .. كان متولي قد مضى على عمله بالمشرحة في ذلك الحين عامين كامليين، والحق يُقال، أنه قد تعلم بسرعة أسرار العمل ،وصار مفيداً بصورة ما.
,
, فى العام الماضي تحدث لعم منصور عن قدرته على إحضار مايلزم المكان من عظام الموتى التي يحتاجها الطلاب .. طبعاً مِنَ العبث أَنْ يسأله عم منصور عن مصدرها..
,
, سيسرقها بالتأكيد من المقابر .. بالتأكيد هذا ما كان يفعله.
,
, ولم يشأ عم منصور أن يتورط معه في أمر كهذا، لهذا أخبره أن لاحاجة به إلى ما يجلبه من تلك العظام..
,
, لكنه راح يلحظ من بعيد كيف صار متولي يغيب عن العمل، من حين لآخر ليومين أو ثلاثة، ليعود بعدها بالكثير من العظام .. لابد أنه يجلبها من مقابر قريته أو مقابر قرى المجاورة لها ..بالطبع صار الأمر أكثر بهجة لمتولي وقد ابتسمت الدنيا له .. وفي شهور قليلة صار مقصد الكثير من الطلاب، حيث يشترون منه مايحتاجونه من العظام .. كما ثناثرت- أيضاً - بعض الأقوال عن قدرته على جلب بعض الجثث الكاملة أو أجزاء منها لمن يريد مادام قادراً على الدفع ..
,
, كان عم منصور قد سمع، ورأى من قبل، مثل هذه النوعيات من البشر، التى لاتتردد في فعل أي شيء من أجل المال .. في الغالب لن يمضي وقت طويل قبل أن يكون متولي في السجن بتهمة نبش المقابر، هذا بالطبع إن لم يفتك به أصحاب تلك المقابر التى ينتهكها، ويسرقها لو نجحوا في اصيطاده يوماً ما..
,
, كان العامل الأخير هو جمال عبد الهادي ..بَدِين، أخرق، وكسول .. كان من القاهرة، وكان لا يفعل شيئاً إلا النوم،والأكل،والنميمة، والشكوى من زوجته التي تسيء معاملته بلسانها السليط حتى أحالت حياته لجهنم صالية، كما يحب أن يقول..
,
, هؤلاء كانوا عمال المشرحة ..
,
, وقبل أن يبدأ العام ظهرت المشكلة٣ نقطة
,
, لم يكن هناك إلا جثث ثلاث فقط بالمشرحة .. كان هذا العدد ضئيلاً للغاية، ولم يكن هذا العدد كافياً لمتطلبات الدراسة .. كان المعتاد أن يتوافر بالمشرحة عشر جثث على الأقل في بدء العام الدراسي، كي تكفي أعداد الطلاب المتزايدة .. ولم يتوافر إلا تلك الجثث الثلاث، وهنا كانت المشكلة.
,
, ذهب عم منصور أكثر من مرة لمشرحة زينهم، عسى أن يحصل منها على المزيد من الجثث، لكنها كانت تعاني من قلة الجثث الواردة إليها في ذلك الحين .. بدا الأمر حينها كأنما كف الناس عن الموت .
,
, بالطبع كان هناك الكثير من الاتصالات من الدكتور نعيم، رئيس قسم التشريح في ذلك الوقت، وغيره من الأساتذة بالمسؤولين بمشرحة زينهم، لكن كل هذا كان بلا جدوى، فالمشرحة بالفعل لم تحوي أي جثث لتذهب لكلية الطب.
,
, وفي قاعة المشرحة قال الدكتور نعيم، وهو ينفث دخان سيجارته بحنق، وعيناه تتأمل الجثث الثلاث باستنكار:
,
, -لست أصدق ما أراه .. ثلاث جثث فقط هي كل مالدينا .. هذا مستحيل .. لن يبدأ العام الدراسي بهذا العدد القليل أبداً .. علينا أن نفعل شيئا ما.
,
, وتبعه عم منصور، وهو يقول محاولاً تهدئته:
,
, -لاتقلق يادكتور .. مازال أمامنا بعض الوقت .. وأعدك أن أبذل قصارى جهدي كي أوفر الجثث المطلوبة .. لقد طلبت من عبد الكريم كبير العمال بمشرحة زينهم أن يعلمني لو توافرت أي جثث جديدة لديهم، ووعدني أن يفعل.
,
, -أعطه يامنصور بعض الأموال لو تطلب الأمر، ليهتم .. أمامنا أقل من أسبوع واحد على بدء الدراسة، ولابد أن نحصل على جثتين آخرتين على الأقل قبل ذلك.
,
, -لقد وعدته بإكرامية معقولة يا دكتور فاطمئن .. ولن أتركه إلا بعد أن يمدنا بما نحتاجه من الجثث.
,
, -هذا ما أنتظره منك يا منصور .. إننى أعتمد عليك في هذا.
,
, وغادر المشرحة في عصبية، وهو يتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومة، بينما اتجه عم منصور إلى الداخل حيث انهمك العمال الثلاثة في تحضير الجثث الثلاث، لحقنها بالفورمالين ..
,
, هناك كانت الرائحة الشيطانية التي لاتطاق .. إنه الفورمالين لمن لايعلم .. الكثير من الدموع والنيران الملتهبة بالعين والأنف، ونيران أخرى تشتعل طوال الوقت بالحلق، ولا يُجدي معها السعال أو أي شيءآخر .. إنه جحيم حقيقي يافتى لايمكنك أن تهرب منه أو تتجنبه.
,
, هنا اقترب منه متولي، وهو يمسح عينيه الدامعتين المحتقنتين بطرف كمه، وقال راسماً ابتسامة تعبق بالسماجة على وجهه:
,
, - لماذا كان الدكتور نعيم عصبياً هكذا .. هل هناك ما يغضبه؟
,
, - إنه حانق لقلة الجثث بالمشرحة، إن الجثث الثلاث لاتكفيه ويرغب في توفير المزيد منها.
,
, -لكنك قد ذهبت بالأمس إلى مشرحة زينهم من اجل هذا كما أعتقد .. لماذا إذا لم تجلب المزيد من الجثث من هناك ؟
,
, -لايوجد لديهم جثثاً تصلح لنا .. الجثة الوحيدة المتوافرة بها الآن محترقة تماماً، ولاتصلح للدراسة عليها.
,
, -وماذا تنوي أن تفعل ؟
,
, -لا أدري !.. لكنني بالتأكيد لن أهبط إلى السوق مثلاً لأجلبها .. ليس بيدنا أي شيء إلا أن ننتظر.
,
, هنا سعل متولي للحظة كأنما يطرد شيء ما من حلقه، قبل أن يميل نحو عم منصور، ويهمس في أذنه بصوت كالفحيح وعيناه تبرقان:
,
, -وماذا لو كنت أستطيع توفير جثث طازجة للمشرحة، وبأي عدد ترغبون فيه .. يمكنني أن أقوم بهذا الأمر بالطبع لو شئتم.
,
, واتسعت عينا عم منصور بالكثير من الامتعاض والدهشة، وقد أدرك مايلمح به متولي .. بالطبع لم يكن ليقبل بشيء كهذا .. لذا قال له بحدة:
,
, -اصمت يا رجل .. إننا لا نرغب في جثثك المشبوهة تلك..احتفظ بها لزبائنك، وحين أحتاج إليك سأخبرك.
,
, تجاهل متولي نظرة الامتعاض التي رمقه به عم منصور كعادته، ومضى مبتعداً ببساطة، وبرود،كأنما لم يحدث شيء، وشعر عم منصور بالغيظ .. هل صُنِعَ هذا الرجل من الثلج؟.. كان يحنقه بروده الشديد .. إنه رجل لا تنتظر منه أن يخجل منك لأي سبب ما، أو يتأثر برأيك فيه، أو نظرتك عنه .. هذه أشياء لاتترجم لديه إلى أموال، لهذا لا يعبأ بها ..
,
, وسمع متولي يقول ،وهو يبتعد متجهاً إلى الطاولة التي رقدت عليها الجثة التي يعمل عليها.
,
, -لقد كنت أعرض خدماتي فقط .. لا أدري لماذا تغضب ؟!..
,
, - لكننا لانحتاجها .. ظننت هذا واضحاً.
,
, أجابه عم منصور ببرود ، وعقله يفكر فيما يمكنه أن يفعله لحل هذه المشكلة ..لكنه لم يصل لحل يرضيه ..فقرر أن يترك الأمر لله ،فربما يأتي الفرج قريبا ..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٢


وظل الأمر هكذا إلى يوم الأربعاء، ولم يعد متبقياً غير أيام ثلاث، قبل أن تبدأ الدراسة .. لم ينجحوا إلا في توفير جثة أخرى .. لكن بالرغم من هذا مازال عدد الجثث بالمشرحة غير كافٍ .. ومازال الدكتور نعيم في جنون.
,
, وراح الدكتور نعيم يتجول بالمشرحة بعصيبة وحنق، ووجهه محتقن؛ حتى تخال أن الدماء المحتشدة في أوردتهِ سوف تنفجر منها في أي لحظة، كان بصحبته اثنان من أستاذة القسم الكبار، وعلى مقربة منهم بالخلف تبعهم عم منصور ..
,
, كان الرجل كعادته يدخن بشراهة وحنق، وهو يتطلع الى الجثث الأربعة الراقدة أمامه على طاولاتها الرخامية، وعيناه لاتصدق أن يبدأ العام الدراسى بهذه الجثث الأربع فقط .. كانت الجثث مغطاة بغطاء بلاستيكى قاتم، ومازلت رائحة الفورماليين الطازجة تفوح منها بصورة خانقة أدمعت العيون كافة، وأشعلت نيرانها، وهيجت أغشية الأنوف فأسالتها .. وتوقف في منتصف القاعة، وصاح بعصبية وهو يضرب كفاً بكف:
,
, -لا أدري كيف سنبدأ الدراسة بأربع جثث فقط .. هذا عبث !.. سوف يتكدس الطلاب حول الجثث، ونصفهم على الأقل لن يرى أي شيء .. إننا نرتكب جريمة حقيقة بحق الطلاب، لو قبلنا بهذا و لم نجد حلاً ما.
,
, قال الدكتور مصطفى رئيس القسم السابق محاولاً تهدئته، وقد كان يسير إلى يمينه:
,
, - إنها ورطة بالفعل .. لكنني أرى أن نلجأ لحلول مؤقتة حتى نحصل على باقي الجثث التى نحتاجها .. يمكننا مثلاً أن نقسم الطلاب إلى عدد أكبر من المجموعات .. هذا سيقلل عددهم في المجموعة الواحدة، مما يتيح لهم الفرصة لاستيعاب مايدرسونه.
,
, صمت الدكتور نعيم مفكراً للحظة، وهو يطلق من أنفه وفمه سحباً رمادية كثيفة من دخان سيجارته، قبل أن يهز رأسه رافضاً الفكرة، ويقول:
,
, -ومن أين سنجد الوقت الكافي لكل هذه المجموعات التي سوف نصنعها يا دكتور مصطفى ؟.. إن ساعات اليوم الدراسي محدودة للغاية كما تعلم .
,
, هنا قال الطبيب الآخر ، وهو الدكتور فؤاد، مقترحاً حلا آخر:
,
, -ما رأيكم لو قسمنا الطلاب إلى مجموعتين .. المجموعة الأولى تكتفي بالدراسة النظرية في أسبوع، والأخرى تقوم بالدراسة العملية بالمشرحة في هذا الأسبوع، وفي الأسبوع التالي نقوم بتبديل المجموعتين .. أظن أن هذا قد ينفع مؤقتاً.
,
, لكن هذا الاقتراح هو الآخر لم يرق للدكتور نعيم ، فغمغم معترضاً :
,
, - لكن هذا سيقلل من فترة احتكاك الطالب بالجثث في المشرحة، وهذا سيؤثر حتماً على استيعابهم .. على الطالب في البداية أن يمكث بالمشرحة حول الجثث أطول وقت ممكن، حتى يعتادها ويتعلم منها.
,
, وافقه الدكتور مصطفى قائلاً :
,
, -بالتاكيد يجب أن يفعل الطلاب هذا .. لكن الحلول التى نقترحها هى حلول مؤقتة، ريثما يتوافر العدد الكافي من الجثث .. لا أظن أن المشرحة ستعاني من نقص الجثث طوال الوقت .. لقد واجهنا نقصاً كهذا من قبل، ولم يدم الأمر لفترة طويلة .. هناك دوماً جثث جديدة .. فالناس لايكفون عن الموت أبداً .. وقال الدكتور نعيم، وهو يشعل سيجارة جديدة ، كانت الثالثة في أقل من عشر دقائق :
,
, -هذا صحيح، لكن هذا العام يختلف عما مضى .. طلاب الدفعة الجديدة سيزيدون خمسين طالباً عن طلاب الدفعة السابقة .. وهذا يعني حتما الحاجة للمزيد من الجثث، فما بالك، ونحن لم نستطع توفير الحد الأدنى من الجثث اللازمة للدراسة حتى الأن.
,
, وصمت الثلاثة بعدها، وراحت عقولهم تبحث عن حل ما، وهم يدركون فداحة الأمر .. راحت عيونهم تتفحص جوانب المشرحة بشرود، بينما كان عم منصور يتبعهم دون أن يتدخل .. وهنا فوجئ بالدكتور فؤاد يلتفت إليه، ويقول له مداعباً :
,
, -مارأيك في ما يحدث يا منصور .. ألديك اقتراح ما ؟!٣ نقطة أجابه عم منصور مبتسماً :
,
, - صدقني أنا لا أكف عن البحث يادكتور .. إنني أرتاد كل المستشفيات بحثاً عن جثة ما دون جدوى .. أتمنى لو كان هناك شيء ما أستطيع أن أفعله، كي أتمكن من جلب الجثث المطلوبة، وحل هذه المشكلة.
,
, ابتسم الدكتور مصطفى، وغمزة بعينه اليسرى، وهو يقول بلهجه غامضة غريبة لم يألفها منه عم منصور :
,
, -يمكنك أن تجلب إحدى الجثث من مقبرة ما .. هذا ليس بالأمر العسير هذه الأيام .. في الماضي كان عم عبدالفتاح –رحمه ****- يعرف ما عليه أن يفعله، حين نواجه مثل هذه المواقف .. لقد كان أريبا في هذه الأمور.
,
, شعر عم منصور بالدهشة مما يسمعه .. هذه أول مرة يطالبه الدكتور مصطفى بشيء كهذا .. أطلق بعدها ضحكة قصيرة ، وقال محاولاً أن يستشف إن كان الدكتور مصطفى يداعبه، أم أنه جاد في حديثه :
,
, -يمكنني أن أسرق عشرات الجثث لوشئتم .. لكن ماذا لو قبضوا عليّ ؟!.. حينها لن يكون هناك غير السجن بلاريب، ولا أظن أن طقسه الحار وأمراضه تناسبني هذه الأيام .. ربما لم أكن لأمانع لو كان الوقت شتاء.
,
, وضحك الثلاثة لدعابته، إلا أن الدكتور نعيم أسرع يقول، مستعيداً عصبيته التى تلازمه كظله:
,
, -ولماذا يمسك بك أحد ما أو يكون هناك سجن ؟.. كل ماعليك أن تفعله هو أن تراقب مقابر أحد النجوع أو القرى البعيدة عن القاهرة، و تأتي منها بجثة طازجة .. عم عبدالفتاح كان قد فعلها من قبل مراراً كما أخبرناك .. ولو كنت تخشى أن تفعلها بنفسك، يمكنك أن تستأجر من يفعلها بدلاً منك .. خذ ما تشاء من مال وأفعل!.
,
, وعقب عليه الدكتور فؤاد مؤيداً ، بينما الذهول قد عقد لسان عم منصور فلم يجد جواباً :
,
, -ثم إن هذه لاتسمى سرقة أبداً .. إنك تفعل هذا من أجل العلم ومن أجل أن يتعلم الطلاب .. حتما سيكون هناك ثواب عظيم عند **** من أجل الطلاب الذين سيتعلمون عليها ويدرسونها.
,
, ولم يكن هناك مايجيب به عم منصور، وقد صدمه طلبهم هذا، فاكتفى بتحريك رأسه بلا معنى، وقال الدكتور نعيم بلهجة آمرة، كأنما يرغب في إنهاء الأمر، وتوريط عم منصور بالموافقة:
,
, -اسمع يا منصور ..لو استطعت توفير جثة قبل يوم السبت فسوف أمنحك مكافأة طيبة .. كما أن كافة التكاليف، والمصاريف اللازمه لجلب الجثث سوف يتحملها القسم .. اجلبها مهما كانت التكلفة، وسوف أكافئك.
,
, وغادروا المشرحة بعدها، وتناهى لسمع عم منصور صوت الدكتور نعيم قائلاً قبل أن يخرج:
,
, -إنني في انتظار جثة أو اثنتين يا منصور قبل يوم السبت .. إن مكافأة حقيقية بانتظارك، لو استطعت توفير تلك الجثث.
,
, تركوا عم منصور دون أن يدركوا كيف شعربضيق شديد مما طلبوه منه ومن تورطه بالأمر..
,
, لم يكن يتخيل أن يحدث هذا معه..لكنه لن يقبل أن يكون نباشاً للقبور مهما حدث، كي يجلب لهم الجثث التي يريدونها .. ليفعلونها بأنفسهم لو شاءوا .. لكنه لن يفعل .. وبعد حين عاد ليفكر، هل كانوا يحدثونه بجدية، أم أنه أساء فهمهم، وأنهم فقط كانوا يداعبونه .. تمنى لو كان هذا حقيقاً .. لكنه كان يدرك أنهم جادون في الأمر تماماً .. كانت هذه مصيبة بحق .. كان عليه أن يجد حلاً ما.
,
, وأسند ذراعه إلى إحدى مناضد الجثث الفارغة .. أخرج من جيب بنطاله علبة سجائره، وأشعل سيجارة جديدة ، وأخذ يبصق دخانها بحنق .. لكن وبعد هنيهة - هُنَيْهَةً : وَقْتاً، لَحْظَةً قَصِيرَةً، يَسِيرَةً - قفز إلى عقله متولي، وحديثه من قبل عن قدرته على جلب الجثث .. تنهد بإرتياح حينها .. مادام الأمر قد وصل إلى سرقة الجثث من المقابر ، فليقم به إذا من يجيده .. ليخبر متولي بما قالوه، وليترك الأمر كله على عاتقه .. لن تكون هذه أول مرة يفعل فيها شيئاً كهذا بالتأكيد .. كما أنه هو الذي عرض خدماته من قبل لتوفير الجثث للمشرحة..
,
, اتجه للحجرات الملحقة بالمشرحة كي يبحث عنه .. وجده جالساً بإحدى غرف المشرحة الجانبية، يتجادل مع جمال الذي علا صوته الغليظ، وراحت ذراعاه الممتلئان تلوحان في الفراغ في كل إتجاه، وهو يحاول أن يثبت أمر ما، بدا متحمساً في حديثه واحتشد عرقه على جبهته زاحفاً عنحو وجنتيهه حتى وصل الى رقبته وتكاثف فيها، وقد بلل القميص من تحت إبطيه في منظر ملفت .. بينما جلس في ركن بعيد عبد الدايم يحتسي كوباً من الشاي، ويتابعهما باستمتاع، دون أن يشاركهم في الحديث..
,
, توقف عم منصور أمام باب الحجرة، ونادى متولي قائلاً باقتضاب :
,
, -متولي .. أريدك أن تساعدني في شيء ما بالداخل ؟.. انتبه متولي له، فالتفت برأسه نحوه، ورمقه محاولاً سبر غوره - سَبَر غَوْرَه : تبيَّنَ حقيقته وسِرَّه -، وأجاب بشيء من اللزوجة كعادته :
,
, -أساعدك في ماذا ياعم منصور ؟.. وهل مازال هناك عمل ما لم نقم به؟..
,
, -العمل بالمشرحة لاينتهي أبداً .. هيا انهض يارجل وسترى بنفسك.
,
, قال عبد الدايم بلهجته النوبية المميزة، عارضاً خدماته:
,
, -هل تريدني أنا –أيضا - ياعم منصور ؟.
,
, -لاداعي لهذا .. أكمل أنت شرب الشاي .. إن متولي يكفي.
,
, ظل متولي يحدق إلى عم منصور بعيون متسائلة، كأنما يرغب في النفاذ إلى عقله دون أن يغير من جلسته أو ينهض .. وتأفف بعدها عم منصور بنفاذ صبر، فنهض متولي بتثاقل، وهو يغمغم بضيق مفتعل:
,
, -حسنا يا عم منصور .. كما تحب .. أرني أين هو هذا العمل ؟. لم يجبه، وسار بخطوات سريعة نحو الداخل ، فتبعه متولي باستسلام، ولما استيقن عم منصور أنهما ابتعدا مسافة معقولة عن الباقين، التفت إليه، وقال محاولا تحاشى النظر إلى عينيه:
,
, -هل تستطيع إحضار جثة ما بحالة جيدة قبل يوم السبت؟
,
, وارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه متولي، والتمعت عيناه بشدة، قبل أن يقول بلهجة عجيبة:
,
, -إذاً احتجت خدماتي..
,
, -لست أنا من يحتاجك .. لقد طلب الدكتور نعيم أن نفعل هذا ففكرت فيك .. والآن أخبرني هل يمكنك أن تفعل ؟.
,
, -يمكنني بالطبع ..لكن هذا يتوقف على النقود .
,
, - وكم تريد؟..
,
, حكَّ متولي رأسه بيده متصنعاً التفكير، وقال :
,
, -أخبرني أولاً .. كم جثة تريدون ؟.
,
, -جثة واحدة فقط.
,
, - سأقبل بخمسين جنيها فقط في تلك الجثة .. إن هذا من أجلك أنت.
,
, تجمدت نظرات عم متولي ذهولاً .. خمسون جنيهاً مرة واحدة .. مبلغ كهذا كان ضخماً بحق في تلك الأيام .. كان أكبر من راتب شهرين كامليين له .. لهذا قال معترضاً بغيظ :
,
, -أنت تحلم .. لست أنا من سيدفع .. إنه الدكتور نعيم، وهو لن يقبل أبداً أن يدفع لك مثل هذا المبلغ .. لن يدفع أكثر من خمس وعشرين جنيهاً .. أنت واهم لو ظننت أن هناك من يدفع في جثة سعر كهذا.
,
, هنا صاح متولي معترضاً ، وهو يلوح بكلتا يديه، راسماً الامتعاض على وجهه :
,
, -لكن هذا قليل للغاية، هناك من يساعدني، وهناك السيارة التى ستنقل الجثة، ومجهودي و..و..
,
, وهتف به عم منصور ،مقاطعاً :
,
, - إذا سأقنع الدكتور نعيم بأن يدفع ثلاثين جنيهاً بلا أي مليم آخر .. هذا عرضي الأخير .. إما أن تقبل، أو أبحث عن أحد غيرك.
,
, صمت متولي مفكراً ، وحكّ رأسه مرة أخرى، وعيناه تبحثان عن شيء وهمي بالسقف، قبل أن يعاود رسم تلك الابتسامة الماكرة على وجهه، وقال باستسلام مفتعل :
,
, -بالطبع لا يمكنني أن أرفض .. لكن هذا من أجلك فقط ياعم منصور .. سأقوم بجلب تلك الجثة، حتى لو كان الأمر بلا مقابل .
,
, تمتم عم منصور بتأفف حقيقي، شاعراً بالإشمئزاز منه :
,
, -بل ستقوم به بمقابل جيد للغايه .. لا شيء مجاني في هذا الزمن .. أريد الجثة هاهنا قبل يوم السبت القادم .. من الأفضل لو أمكنك أن تجلبها الجمعة مساء ؟.. يمكننا أن ندخلها إلى المشرحة دون أن يشعر بنا أحد في هذا الوقت، وسأتولى أنا الأمر مع أمن الكلية .
,
, -توكل على **** يارجل ولاتقلق .. يمكنك اعتبار الجثة في المشرحة من الآن.
,
, غادره عم منصور، وهو يتساءل من أين هذا الوغد بكل هذه اللزوجة والجشع، خمسون جنيها في الجثة الواحدة ؟!.. هذا جنون بلا شك.
,
, بينما انصرف متولي سعيدا بهذه الصفقة .. لم يكن أيهما يدري أي كارثة مقبلين عليها حينها ..
,
, لو علموا حينها لأنهوا الأمر على الفور وما فعلوه ..
 
٣


قبل أن تصل عقارب الساعة للعاشرة مساء يوم الجمعة، توقفت سيارة نصف نقل أمام الباب الخلفي للكلية .. هناك كان عم منصور يجلس بجوار محمد الريس حارس الأمن الشاب يدخنان سوياً ، مستمتعين بالنسمات الباردة التى بددت قيظ - أي حر - النهار الصيفي الخانق..
,
, أخبره عم منصور قبلها أنه بانتظار جثة جديدة من أجل المشرحة، فغداً سوف تبدأ الدراسة، ومازالت المشرحة بحاجة للمزيد منها، ولهذا اضطروا أن يأتوا بها ليلاً لضيق الوقت .. بالطبع لم يشك الحارس في شيء، ولم يعقب.
,
, بجوار السائق جلس متولي مبتسماً راضياً عن نفسه تماماً .. وتوقف السائق بسيارته أمام الباب، أطلق نفير السيارة لينبهما لقدومه، وفي نفس الوقت لوح متولي بيده خارج نافذة السيارة محيياً ، وهو يصيح:
,
, -إفتح الباب يا عم منصور .. إنه أنا.
,
, هرع محمد الريس إليهما كي يفتح الباب للسيارة ،والتي دلفت على الفور نحو فناء الكلية، ثم توقفت على بعد خطوات من الباب، فخرج متولي منها، بينما بقى السائق بداخلها منتظراً.
,
, لحق عم منصور بالسيارة، وقال لمتولي هامساً كي لايسمعه أحد:
,
, -كيف سارت الأمور ؟
,
, -أخبرتك ألا تقلق، كل شيء على مايرام، والأمانة موجودة بالسيارة .
,
, -إذن دعنا لانضيع الوقت، ولندخلها الى المشرحة بسرعة.
,
, قالها عم منصور، ثم سبقه مترجلاً إلى أحد الأبواب الجانبية المطلة على الفناء المتجه للمشرحة، وتبعه متولي والسيارة تسير خلفهما ببطء، ثم توقف الجميع أمام الباب.
,
, أسرع السائق بالهبوط، وفتح الباب الخلفي للسيارة .. كان هناك صندوق خشبي يشبه النعوش إلى حد ما يرقد على صندوق السيارة المعدني بطول الصندوق .. صعد السائق فوق صندوق سيارته، وأمسك بالصندوق الخشبي من الخلف، وقام بدفعه نحو الخارج ببطء، بينما تعاون عم منصور ومتولي على حمل الصندوق الثقيل من الناحية الأخرى ..
,
, اتجه الثلاثة بالصندوق الخشبي نحو المشرحة ،وغمغم متولي بقلق محذراً وعيناه معلقتان بالصندوق :
,
, -حاذروا لخطواتكم من فضلكم .. لو سقط الصندوق فقد يتحطم.
,
, صرخ فيه عم منصور بغيظ، شاعراً بثقل الصندوق يكاد أن يخلع كتفيه:
,
, -اصمت يا أحمق وتحرك .. صندوقك اللعين هذا، هو ما سيحطم أذرعنا قبل أن يتحطم.
,
, صمت متولي على الفور، وتحرك الموكب الصغير ببطء نحو المشرحة، وقال عم منصور فور أن دلفوا من باب المشرحة، موجهاً إياهما لمكان متسع خلف الباب:
,
, -لننزل هذا الصندوق هنا .. إن هذا يكفي.
,
, أنزلوا الصندوق برفق، وانتصبوا جميعاً ليلتقطوا أنفاسهم اللاهثة من ثقل الصندوق الخشبي، ومايحويه، والتفت عم منصور إلى السائق العجوز مرحباً به مرة أخرى، وهو يقدم له سيجارة من علبته، تناولها السائق بامتنان .. دعاه بعدها لتناول كوب من الشاي بالداخل، إلا أن السائق اعتذر متحججاً بضيق الوقت.
,
, هنا قال متولي :
,
, -دعه يذهب ياعم منصور .. مازال أمام عم بلال رحلة عودة طويلة.
,
, وصحبه متولي بعدها إلى السيارة .. أخرج من حافظته نقوداً ناولها له، فقام الأخير بعدها بسرعة، قبل أن يقبلها ثم يدسها بحافظة جلدية كبيرة أخرجها من جيبه، ثم رحل بسيارته.. وبالداخل كان عم منصور يتفحص بعينيه الصندوق الخشبي المغلق .. كان خشبه غير مدبوغ، وقد تلوثت جدرانه بالبقع، وبعض الطمي -الطميُ هو عبارة عن تربةٍ - الجاف .. أيقن عم منصور أن متولي لابد وأنه قد صنع هذا الصندوق من قبل خصيصاً لمثل هذه المهام القذرة، التي يقوم بها من حين لآخر.
,
, دلف متولي الباب وأشار إلى الصندوق بفخر، وابتسامته اللزجة مرة أخرى تملأ وجهه:
,
, -مارأيك ياعم منصور بهذا الصندوق .. لقد كلفني صنعه أكثر من عشرة جنيهات كاملة .. لكنه والحق يقال يستحق .. إنه من الزان.
,
, -لايهمني صندوقك ولا ما دفعته فيه .. إن ما أريده هو الجثة فقط.
,
, -إنها بداخله .. أراهن على أنها سوف تعجبك.
,
, -لا أريدها أن تعجبني .. فقط أريد جثة صالحة.
,
, -إنها كذلك بالفعل .. اطمئن .. إنها سليمة وطازجة .. سترى هذا بنفسك.
,
, وقال عم منصور بضجر، وهو وينحني نحو الصندوق، كي ينتهى الأمر :
,
, -إذا دعنا ندخلها لقاعة التشريح، لنرى هذا بأنفسنا.
,
, تعاونا سوياً وبصعوبه في حمل الصندوق، وإدخاله للقاعة، ثم اتجها به نحو طاولة فارغة، فأرقداه أسفلها، وانحنى متولي على الصندوق، وأخرج مفتاحاً صغيراً من جيبه، عالج به القفل الصغير الموضوع بجانب الصندوق، وفتحه، ثم رفع الغطاء العلوي للصندوق، لتظهر الجثة ملفوفة في كفنها الأبيض..
,
, شعر عم منصور بالضيق حين رأى الجثة مستورة بكفنها، وانتابه إحساس ساحق بأنه قد انتهك حرمتها، فهتف في متولي غاضباً :
,
, -لماذا لم تنزع الكفن عنها قبل أن تأتي بها ؟.. إنك تفعل أشياء حمقاء.
,
, - ظننت أنه لا بأس من الاحتفاظ به .. لا مبرر هنالك للتخلص منه.
,
, وابتسم مرة أخرى ابتسامته اللزجة مكملاً ، وهو يشير إلى الكفن:
,
, -إنه مازال جديداً كما ترى، يمكننا الانتفاع به مرة أخرى.
,
, رمقه عم منصور بنفور حقيقي، وقال بتأفف، وهو ينظر إليه شذراً - أي نظر بُمؤْخِرِ العين غضباً أو استهانة أو إعراضاً - :
,
, -هل تعلم أنك أكثر من رأيته جشعاً في حياتي كلها .. لا أدري كيف يحيا إنسان ما بتفكيرك وطمعك هذا .. إنك تشعرني بالغثيان يارجل.
,
, لم تختلج عضلة واحدة في وجه متولي، وهو يجيب بثبات، دون أن تتعكر ابتسامته لما يسمعه:
,
, -الحياة صعبة يا عم منصور، ولا يصلح لها إلا الشخص (المفتّح) القادر على انتزاع المال من فم الأسد، إننا نحيا من أجل هذا.
,
, وابتلع عم منصور لسانه، ولم يعقب .. لا جدوى من الكلام معه، فلن يتفهم أي منهما منطق الآخر، كلاهما يرى الدنيا من منظار مختلف .. ولن يجني من مثل هذه المجادلات، إلا إثارة أعصابه وحنقه.
,
, لذا صمت وانحنى نحو الجثمان ليرفعه كاتماً غيظه، قائلاً :
,
, -إذن عاونني لنضع الجثة على الطاولة. علينا أن ننتهي من عملنا.
,
, وحمل الجثة فشعر بالعجب حين اكتشف أنها خفيفة للغاية، بالرغم من طولها البادي عليها .. أرقداها على المنضدة برفق، ثم أشار عم متولي إلى الجثمان، قائلاً لمتولي:
,
, -هيّا انزع ذلك الكفن اللعين عنها .. لن أشارك في هذا العمل البغيض.
,
, وعلى الفور امتدت يد متولي نحو الكفن، وراح يزيله من جسد الجثة بسرعة، ومهارة من اعتاد فعل هذا عشرات المرات من قبل، في نفس الوقت أدار عم منصور جسده للخلف، كي لايرى ما يفعله متولي.
,
, لكنه حين استدار ثانية نحو الجثة، و رأى من تكون، أطلق شهقة عالية، وتراجع للخلف بذهول، كاتماً صرخة عالية كادت أن تفلت من فمه، بينما قال متولي، وهو ينظر إلى الجثة ببلاهة وذهول، كأنما يراها للمرة الأولى:
,
, - ما هذا..إنها فتاة ؟!. فتاة ؟!..
,
, كانت الجثة لفتاة بالفعل .. فتاة شابة في مقتبل العمر .. كانت حلوة .. بل أجمل فتاة رآها أحدهما في حياته كلها .. كانت بيضاء البشرة بشدة، وإن شاب شفتيها وخدودها بعض الصفرة والشحوب بتأثير الموت ..وامتلكت وجهها يحوي ملامحاً دقيقة وفاتنة للغاية .. بدت في منتصف العشرينات من عمرها، وحول وجهها إلتفّ شلال حر من الشعر الفاحم الحريري الناعم ..
,
, بدت الفتاة كنموذج للفتنة النائمة .. جمال كهذا لو رآه فنان لجن عقله، ولهام به عشقاً، وصنع من أجله عشرات اللوحات والصور.
,
, شعر الاثنان أنها كائن لاينتمي في روعته وجلاله لعالم البشر الفاني .. فمنذ متى والنساء في هذه الدنيا يحملن حلاوة كهذه ؟!..
,
, وبالرغم من أن عم منصور قد عمل لأكثر من عشرة أعوام مع الموتى ، رأي خلالها مئات الجثث، حتى صار يعرف الموتى بنظرة واحدة .. إلا أنه حين رآها شك بشدة أنها ميتة .. وهتف بصوت مبحوح مختنق، وعيناه مثبتتان عليها بإصرار:
,
, -ما الذى فعلته أيها الأحمق .. من هذه ؟.. وكيف أتيت بها ؟
,
, ابتلع متولي ريقه بصعوبة حقيقة، وأجاب بتوتر، وعيناه هو الآخر معلقة بها، وهو لا يصدق ما يراه:
,
, -لم أكن أعلم أنها فتاة .. ما أخبرني به اللحاد - حفّار القبور - أنها جثة طازجة، فظننتها جثة لرجل، لقد اعتدنا دائماً ألا نقرب جثث الإناث .. إنه لم يخبرني أنها لفتاة .. إنه خطأه.
,
, وتصلب عم منصور أمام جثمان الفتاة، وعيناه جاحظتان ترمقها بدهشة ممزوجة بالإشفاق .. فمد يده نحو عنقها متحسساً وريدها السباتي، هل تكون تحت تأثير غيبوبة ما ؟.. علم من قبل أن هذا قد يحدث أحياناً .. وأمام جمالها تمنى أن تكون كذلك.
,
, لكنها كانت باردة بشدة، ولم يشعر بأي نبض لها تحت أصابعه، إنها ميتة بالفعل .. ونظر إلى عينيها المغلقتين للحظات، بأسف متوقعاً أن تفتحهما في أي لحظة، ناظرة إليهما برعب و فزع .. لكنها لم تفعل ..
,
, نظر إلى جسدها العارى متفحصاً، فبدا هو الآخر سليماً تماماً .. حتى علامات الموت التى يراها في الجثث كالزرقة الرمية، وغيرها غابت عنها .. فكرر سؤاله مرة أخرى ،وتوتره يتصاعد بداخله:
,
, -من أين أتيت يارجل بهذه الجثة ؟.
,
, ولاحظ عم منصور أن توتر متولي وحيرته، لاتقل عما يشعر به، ومتولي يجيب بصوت مرتجف:
,
, - أحضرتها من مقابر إحدى القرى المجاورة لقريتي .. لم يكن هناك جثث جديدة بمقابر قريتي فبحثت هناك .. لقد أخبرني اللحاد أنها ماتت صباح اليوم، و دفنت بعد **** الجمعة ..
,
, كان هذا يعني أنها ماتت منذ أكثر من خمس عشرة ساعة، وبالرغم من هذا لم يظهر عليها أي من علامات التحلل .. وكان ذلك الوقت هو نهاية شهر سبتمبر، حيث مازال الحر على أشده، ولهذا كان من المستحيل أن تبقى في وقت كهذا، أي جثة على حالها، دون أن تظهر عليها علامات التحلل ..كان هذا مريباً غريباً.
,
, ظلّ يتأمل الجثة بتوتر، ووجد نفسه يغطي جسدها حياء ،كأنما مازالت حية .. لم ينْتابْه في يوم من الأيام شيء من هذه المشاعر التي يحس بها الآن أمام تلك الجثة .. لم يشعر يوماً ما بالأسف نحو جثة ما كما يحدث الآن.
,
, وجد نفسه يفكر في الفتاة .. ترى كيف، ولماذا ماتت هذه الفتاة ؟.. هل قتلها أهلها من أجل الشرف، ودرءاً للعار، كما يحدث في الأرياف كثيراً ؟.. لكنه لم يلحظ على جثتها أي آثار لعنف ما أو عدوان .. بشرتها سليمة رائقة لا غبار عليها ..
,
, هل ماتت لمرض ما ؟.. لكنه عاد واستبعد هذا الاحتمال .. فقد أوحت إليه الجثة أن صاحبتها قد ماتت في عنفوانها .. فلا وجود لآثار المرض ومخالبه على جسده ووجهها.
,
, لو ماتت هذه، فلابد أنها كانت بكامل صحتها وعنفوانها .. نامت في المساء، ولم تستيقظ بعدها قط .. ميتة هادئة، لكنها مؤلمة ومفاجئة لذويها .. وأخرجه متولي من شروده قائلاً ، وهو يشير بإصبعه نحو الجثة:
,
, -والآن ماذا سنفعل ؟
,
, -لست أدري .. إنني أشعر بالحيرة.
,
, قالها، وأخرج علبة السجائر من جيبه ليشعل سيجارة جديدة، ليبدد في دخانها توتره وحيرته .. شعر أن هذه الجثة تخصه هو .. جثة تحمل شيئاً من مشاعره وجيناته .. كان إحساساً سخيفاً .. لكنه لم يستطع أن يطرده من عقله ..
,
, كان يتمنى ألا يصيبها مايصيب الجثث هنا من تمزيق وتفكيك .. إن تلك الرقة والفتنة النائمة لخليقة أن تظل هكذا حتى يبتلعها الثرى، دون أن يرى أحد كيف تذهب الأرض بتلك الحلاوة والفتنة .. لذا غمغم بصوت خافت دون أن يتمالك نفسه:
,
, -هذة الفتاة لاتستحق أبداً أن توجد هاهنا .. هذا كله خطأ.
,
, واستدار متولي نحوه بغتة بشيء من الاستنكار، وهو يثب كالملسوع:
,
, -هل تعني بكلامك هذا أنك لاتريدها ؟! .. إنني لن أعيدها لقبرها ثانية.
,
, نظر إليه عم منصور، وهو يزفر سحابة كثيفة من الدخان نحو وجهه، وقال ببطء:
,
, -لم أقل هذا .. لقد جاءت إلى هنا .. هذا قدرها إذن.
,
, تنهد متولي بارتياح، بعدما ظن أن عم منصور سيطلب منه أن يعيد دفنها ثانية .. لكن عم منصور لم يقلها، وإن تمنى في أعماقه أن يفعل هذا .. كان متوتراً ، وشعر أنه لارغبة لديه في أن يبدأ إجراءات تجهيزها للحفظ بالفورمالين، ريثما يأتي أطباء القسم في الصباح كي يكملوا حفظها بالفورمالين .. وقال لمتولي وهو يجذبه من ذراعه:
,
, -دعنا نحتسي كوبين من الشاي أولاً، قبل أن نعود إليها، لنبدأ عملنا عليها.
,
, وافقه متولي، فانطلقا إلى حجرتيهما واجمين .. ورقد عم منصور على السرير المعدني الصغير، وراح يدخن ومازال يفكر في هذه الفتاة .. كيف ماتت .. وكيف عاشت ؟..
,
, تخيل مصيبة أهلها لفقدها .. لو كانت ابنته هو لَجُنَّ حتماً ..لم تكن المسألة لجمالها الآخاذ البادي عليها، حتى وهي ميتة .. لكنها مسحة الرقة و الجاذبية الخفية التي تنبعث من ملامحها .. راهن أن عشاقها كانوا بالمئات .. لا يظن أن أحداً منهم كان بالجسارة كي يقربها .. مثلها تستحق أن نتأملها من بعيد، خائفين أن نخدشها بنظراتنا، أو آهاتنا ودموعنا .. وغمغم بخفوت محاولاً إخراج نفسه من تأملاته الحزينة:
,
, -لا إله إلا **** ..لله ما أعطى ..ولله ما أخذ ..
,
, جلس متولي أمامه أمام السبرتاية يعد الشاي .. راقبه عم متولي ووجد نفسه في هذه اللحظة، يشعر بمقت هائل نحوه .. لولاه لظلت هذه في قبرها يسترها ويغطيها .. شعر أنه يجلس إلى أحد السفاحين الأقرب إلى الحيوانات منها للبشر .. وتعالى حنقه عليه، حتى تمنى لو مات متولي في هذه اللحظة، ليقوم بنفسه بتحنيطه، وحقنه بالفورمالين، مثلما سيحدث معها بعد قليل ..
,
, وأغمض عينيه، ووجد نفسه يتخيل كيف سيقوم بتقطيع متولي بالمنشار إلى أجزاء، حين يطلب الأطباء منه هذا .. لن يدع أحدا غيره يقوم بهذا .. سوف يقوم بالامر كله بنفسه .. هذا مخلوق طفيلي يستحق مصيرا كهذا، لا هذه الفتاة.
,
, ولاحت على وجه عم منصور ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه، وأحس بشيء من الراحة لخواطره تلك.
,
, قدّم له متولي كوب الشاى الساخن، فتناوله بصمت، دون أن يشكره عليه .. أخذ يرشفه ببطء، وهو يفكر في المهمه الثقيلة التي عليه أن يقوم بها بعد قليل مع جثة الفتاة .. حينئذ انقطع التيار الكهربائي فجأة فصاح متولي بسخط:
,
, -ماهذا النحس ؟.. هذا ليس وقته أبداً ..
,
, قالها وأشعل عود ثقاب، قبل أن يشعل به مصباحاً زيتياً موضوعاً على طرف المنضدة التي أمامه .. كانوا يحتفظون بهذا المصباح لمثل هذه الأوقات التي تنقطع فيها الكهرباء، وقال متولي، وهو يعلق المصباح من حلقة معدنية فيه إلى مسمار على الحائط :
,
, -لقد تأخرت على البيت ياعم منصور، ولا أريد أن تشعر زوجتي بالقلق لو تأخرت عليها أكثر من ذلك.
,
, -لاداعي للقلق يارجل، ربما عادت الكهرباء بعد قليل .
,
, قالها له عم منصور شاعراً بالراحة .. هذا سيؤجل الأمر بعض الوقت .. وجد نفسه يتمنى ألا يعود التيار ثانية .. كأن هذا سينقذ جثة الفتاة من مصيرها، ولكن متولي هتف بحنق واعتراض:
,
, -بهذه الصورة سأعود للبيت متأخراً .. إننى أكاد أموت إرهاقاً وتعباً ، فأنا لم أنم منذ الأمس .. هذا ليس سعدي بلا شك.
,
, -يمكنك أن تنام اليوم هاهنا معي بالحجرة لو تأخرت .. المكان يتسع لكلينا كما تعلم.
,
, -وماذا عن زوجتي التي أخبرتها أني سوف أعود إليها اليوم .. حتما سيقتلها القلق من أجلي إن لم أعد إليها الآن.
,
, كان محقاً في خوفه .. ففي ذلك الوقت لم تكن التليفونات متاحة إلا للقليلين، لهذا كان من المستحيل أن يُطمئن زوجته عليه، إلا بأن يعود بنفسه إلي بيته، لذا قال عم منصور بإستسلام:
,
, -حسناً .. يمكنك أن تذهب إلى بيتك، وسأتولى أنا تجهيز الفتاة بنفسي حين تعود الكهرباء.
,
, -وماذا لو لم تعد الكهرباء .. هل سنترك الجثة هكذا للصباح ؟..
,
, أخشى أن تفسد الجثة، أو تتصاعد رائحتها .. فالجو هاهنا أكثر دفئاُ من الخارج.
,
, كان هذا شيئاُ محتملاُ .. إلا أن شيئاُ بداخل عم منصور أشعره بأن هذا لن يحدث .. دعك من أن الفتاة ماتت بالفعل منذ الصباح، ولم يحدث لجثتها أي تلف بعد .. والطقس في هذه اللحظة ليس بالشديد الحرارة كما كان في النهار، لذا قال له مطمئناً :
,
, -لا أظن أنها ستتحلل بهذه السرعة، لوتركناها هذه الليلة .. إنها مازالت بحالة جيدة، ولا أعتقد أنها سيضيرها أن تنتظر بضع ساعات أخرى حتى الصباح .. عد لبيتك ولاتقلق.
,
, وانصرف متولي تاركاً عم منصور الذي راح يفكر مرة أخرى في الفتاة التي لم تفارق خياله.
,
, وظل النور مقطوعاً طوال الليل،ولهذا لم يجهزها، فانتظر الصباح، شاعراً بالراحة لتأجيل الأمر ..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٤


ماهذا ؟!
,
, قالها الدكتور نعيم بدهشة، وهو يحدق إلى جثة الفتاة التي جلبها متولي بالأمس .. لاحظ عم منصور يده المرتعشة الممسكة بالسيجارة المشتعلة، وهو يتطلع لجثة الفتاة بتوتر، فأجابه بسرعة:
,
, -إنها الجثة التي طلبت منا أن نحضرها، لقد جلبناها بالأمس.
,
, -أعلم إنها الجثة التي طلبتها .. إنني أسأل كيف، ومن أين جئتم بها ؟
,
, قالها، دون أن يرفع عينيه عنها، وأجاب عم منصور:
,
, -إن متولي هو من جلبها بالأمس، ولقد أتى بها كما أخبرني من مقابر قرية مجاورة لقريته، بالمناسبة إنه يطلب ثلاثين جنيها ثمناً لها .. لقد أخبرته أنك سوف تدفع له.
,
, -ليس هذا وقته يامنصور .. سأعطيه مايريده، لكن هل أخبرك متى توفيت هذه الفتاة بالضبط؟.
,
, قالها، وهو يقلب الجثة برفق على جانبيها، وينظر الى جسدها متفقداً، ثم امتدت أصابعه لتتحسس نبضها؛ كأنما يريد أن يتأكد بنفسه أنها جثة حقيقية، وقال عم منصور، وهو يراقب مايفعله:
,
, -يقول إنها ماتت صباح الجمعة ..
,
, -هذا يعني أنه قد مر على وفاتها أكثر من يوم .. إن هذا مستحيل .. لابد أنه قد أخطأ .. إنني لا أرى أي آثار للتحلل بها، ولاوجود للزرقة الرميّة أسفلها .. هذه الفتاة تبدو ،وكأنها قد ماتت منذ ساعة واحدة على الأكثر .. إنني أشعر بالدهشة.
,
, كان عم منصور مازال تائها في حيرته فلم يرد عليه، بينما استمر الدكتور نعيم في فحصها .. أمسك أناملها، وقربها إلى عينيه متأملاً أظفارها اللامعة، ثم أعادها لمكانها برفق، ثم فتح جفنيها فتضاعفت دهشته، وهو يقول :
,
, -إن هذا غريب بحق .. إنني لم أشاهد في حياتي جثة كهذه من قبل، من يراها يظن أنها فتاة نائمة .. لكن جسدها البارد ،ونبضها المفقود يشير إلى موتها ويؤكده.
,
, غطاها بعد ذلك بغطائها البلاستيكي، وأخرج سيجارة من علبة سجائره، وأشعلها قبل أن يقول بشرود:
,
, -احضر لي متولي هنا الأن .. أريد أن أعرف منه ما قصة هذه الجثة بالضبط، وكيف أتى بها ؟.
,
, تحرك عم منصور لإحضار متولي، تاركا إياه في المشرحة أمام الجثة .. خمّن عم منصور أن بعقل الدكتور نعيم الأن الكثير من الأفكار والهواجس، التي روادته عن الفتاة بالأمس ..
,
, وبعد دقيقة عاد ومتولي برفقته ..
,
, أخرج الدكتور حافظته الجلديه الأنيقه، وأخرج منها بعض النقود، فعدها ثم مد يده بها نحو متولي، الذي التقتطها على الفور ودسها في جيب بنطاله دون أن يعدها، وإن كان قد أحصاها بنظره بصورة خاطفة طمأنته إلى أنها المبلغ الذي ينتظره .. وقال الدكتور نعيم بعدها:
,
, - والأن أخبرني هل كنت تعرف هذه الفتاة من قبل؟
,
, -لا يا دكتور .. لم أكن أعرفها، لكنها من بلدة مجاورة لبلدتنا .. لقد أتيت بها من مقابر تلك القرية.
,
, -إذا لا تعلم كيف ماتت ؟!
,
, -هذا أيضاً لا أعلمه يادكتور .. لكن لوشئت، فمن الممكن أن آتيك بقصتها عن طريق بعض الأصدقاء من بلدتها.
,
, زفر الدكتور نعيم من فمه سحابة من الدخان، وهز رأسه للجانبين رافضا الفكرة، وهو يتمتم:
,
, -كلا .. كلا.. لاداعي لهذا .. هذا لايهم الآن .
,
, ثم التفت إلى عم منصور، وقال وهو يهز كفه الممسك بعقب السيجارة الذي قارب على الزوال:
,
, -عليك أن تبدأ الأن في تجهيزها يامنصور، وسوف أرسل الدكتور شريف إلى هنا كي يساعدكم.
,
, قالها، وألقى نظرة أخرى طويلة للجثة الراقدة أمامه تحت غطائها البلاستيكي المليء بالبقع، وهز كتفيه بحركة مبهمة، ثم غادر المشرحة دون أن يعقب.
,
, لم يشعر عم منصور بالراحة، وكره أن يكون هو من يقوم بإعداد جثة الفتاة هذه .. ولأول مرة يشعر بأنه لا يحب أن يقوم بعمله الذي اعتاد عليه منذ أكثر من عشرة أعوام..
,
, لكنه كان عمله الذي عليه أن يقوم به، تنهد للحظة، ثم أزاح غطاءها البلاستيكي عنها، ورمقها بتوتر قبل أن يبدأ في تهيئتها.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٥


فى هذا اليوم كان على عبد الدايم أن يبيت في المشرحة، ففي تلك الأيام كان النظام المتبع، أن يبيت أحد عمال المشرحة فيها كل ليلة طالما هناك جثث بها .. لذا كان العمال يتناوبون المبيت فيها .. ظل هذا الأمر معمولاً به لسنوات طويلة، حتى انتهى الأمر بعم منصور إلى المكوث بالمشرحة بصورة دائمة، حينها انتهى نظام الدور مكتفين بوجود عم منصور..
,
, كانت ليلة صيفية أخرى، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مسا ء .. مازالت حرارة الجو مرتفعة، والرطوبة في عنفوانها خانقة لاتمرح .. كان نهار ذلك اليوم شديد الحرارة، ويبدو أن هذا القيظ سيستمر هكذا طوال الليل..
,
, خلع عبد الدايم جلبابه وصار بملابسه الداخلية .. أخد يدندن بعض الأغاني النوبية، وهو يُعد لنفسه كوباً آخراً من الشاي الثقيل .. انتهى منه، ثم خرج من المشرحة متجهاً نحو الحديقة الصغيرة الموجودة خلف المشرحة، متلمساً في فضائها المفتوح بعض النسمات الباردة ..
,
, بدت السماء حالكة السواد صافية، وتناثرت في أرجائها الكثير من النجوم دون أن يسطع قمرها .. إنه آخر يوم في الشهر العربي فلا تنتظرن قمراً يافتى ..
,
, وجلس عبد الدايم على كرسي خشبي جلبه من قلب المشرحه .. وضعه في منتصف الحديقة، وأخذ يرشف الشاي الساخن باستمتاع وتلذذ ، دون أن يلتفت إلى الناموس الصغير الذي يلسعه من حين لآخر .. هذه أشياء اعتاد عليها مُذْ كان في بلاده أسفل الشلال، فلم تعد تؤرقه أو تثير انتباهه..
,
, غاب في تأمل السماء الصافية، وهو يتذكر الليالي النوبية الحارة، تذكر جلسات السمر الصيفيه الليلية حول الأخشاب المشتعلة التى كانوا يشوون الذرة الخضراء في قلبها، وعادت لذاكرته الحكايات التي لاتنتهي عن الأجداد وبطولاتهم، وحكاياتهم عن القبائل الزنجية الهمجية القادمة من الجنوب، والتي طالما دارت بين قومه، وتلك القبائل المعارك العظيمة والتي كانت تنتهي في الغالب بانتصار قومه، ودحر الغزاة مرة أخرى نحو الجنوب ..
,
, لقد ولّت أيام البطولات الحقيقة الى الأبد ولم يعد باقياً إلا الشتات.
,
, تذكر داره الطينية الصغيرة التي تلاشت هي وقريته كلها الآن؛ لأن بحيرة السد قد غمرت وأغرقت كل شيء خلفها .. لقد تم ترحيل أبناء النوبة إلى أماكن جديدة شمالاً .. لكن أي مكان، ومهما كان حلواً ، لم يكن ليعوض أي منهم عن بلادهم السمراء الذهبية التي امتدت حكاياتها وجذورها لآلاف الأعوام.
,
, استغرق حيناً في تأملاته .. لكنه خرج منها حين لمح بطرف عينيه ظلاً ما يتحرك خلف الباب الزجاجي للمشرحة.
,
, نبض قلبه بقوة .. ودون أن يشعر حبس أنفاسه بترقب، وهو يتطلع إلى الظل البشري الذي بدا واضحاً من انعكاسه من خلال الزجاج الداكن لباب المشرحة ..
,
, كان ظلاً بشري .. هذا مؤكد .. في البداية فكر أنه قد يكون أحد حراس أمن الكلية الذين يأتون أحياناً الى المشرحة، كي يسألونه دخاناً أو سكراً ، أو أي شيء آخر قد يكونون في حاجة إليه .. لكنه أدرك أن هذا الاحتمال غير ممكن .. فهو يجلس قبالة الباب، ولو جاء أحد من الخارج لرآه أو سمع على الأقل صوت خطواته ..
,
, إذن من يكون هذا؟ ومن أين جاء؟ وماذا يريد ؟..
,
, كلها أسئلة حائرة تبحث عن إجابة ما ..
,
, تحرك الظل فجأة للداخل، فجف ريقه توتراً .. إذاً فهناك شخص ما بالفعل في المشرحة .. لم يكن يتوهم إذاً ..
,
, لكن الشيء العجيب أن خطوات ذلك الشخص الغامض لم تصدر أي جلبة أوصوت .. كان بمفرده في هذه البقعة من الكلية، يحيط به الصمت التام والسكون، الذي لايقطعه إلا بعض هسيس الحشرات ، وبعض الأصوات البعيده للسيارات التي تمر عبر الطريق القائم خلف الكلية .. لذا فلو تحرك فأر صغير في هذا المكان، فسيسمع صوت خطواته بالتاكيد ..
,
, لكنه بالفعل لم يسمع شيئاً ، فكيف يتحرك ذلك الظل بكل تلك الخفة والسكون ؟..
,
, ظل في مكانه للحظات لايدري ماذا يفعل، قبل أن يقرر أن يدخل المشرحة ليرى من هناك ..
,
, اتجة بخطوات مترددة نحو الداخل، ودلف الباب، وتطلع إلى الفناء الطويل والممتد أمامه حتى قاعة التشريح، والذي بدا خالياً مقبضاً تحت أضواء النيون البيضاء الباردة التي تنير المكان ..
,
, كانت حجرته أول الحجرات التي قابلته .. دخلها وفحصها بعينيه بسرعة، لكنها كانت فارغة .. والتقط عصا خشبية غليظة بيديه،كسلاح له لو واجه أحد ما، وقرر أن يفتش المشرحة بأكملها ..
,
, كانت الحجرة التالية هي الحجرة التي يتم إعداد الجثث بها .. المفترض أنها مغلقة بالمفتاح .. تأكد أنها كذلك، وقرر أن لاحاجة لفتحها وتفتيشها ..
,
, اتجه بعد ذلك إلى قاعة المشرحة؛ حيث ترقد الجثث، وأضاءها فبدد الضوء الصادر من لمبات النيون ظلامها ووحشتها .. جالت عيناه القاعة الواسعة، والتى تناثرت في أرجائها المناضد الرخامية المخصصة لوضع الجثث، كان بعضها يحوي جثثاً والباقي فارغاً ..
,
, كان كل شيء في مكانه .. أحصى الجثث بعينيه بسرعة .. كانوا خمسة .. تطلع إلى جوانب المكان بسرعة مرة أخرى .. لكن القاعة بدت بريئة تماماً ، كان من الصعب أن يختبئ أحد ما في القاعة دون أن يراه..
,
, كاد أن يعود أدراجه حين لاحظ شيئاً ما .. إحدى الجثث قد انحسر عنها غطاؤها .. توتر بعض الشيء .. إنه متأكد من أن جميع الجثث كانت مغطاة بغطائها البلاستيكي قبل قليل، فكيف صارت تلك الجثة عارية إذا ؟..
,
, واتجة ببطء نحو الجثة كي يغطيها مرة أخرى ..
,
, هنا أطلق صرخة مكتومة دون أن يملك كتمها ..
,
, كانت جثة الفتاة الجديدة .. وكانت تحدق فيه بعيون لامعة مفتوحة باتسعاها .. عيون حية لا أثر للموت فيها !!.
,
, وثب للخلف بفزع ،وهو يصرخ مستنجداً ب**** .. وأخذ قلبهُ يتراقص بهلع في قفصه الصدري .. ما الذى يحدث هاهنا ؟
,
, ظل متجمداً مكانه بإضطراب لايدري ماذا عليه أن يفعل .. قبل أن يحزم أمره محاولاً تشجيع نفسه، وقال هامساً:
,
, -لابد أن شيئاً ما أدى إلى فتح عينيها هكذا .. ربما هي عضلات وجهها قد انقبضت لتيبسها، ففتحت الجفون المغلقة .. لاداعي للهلع يا عبد الدايم، ولا تكونن جباناً هكذا كالأطفال .. لقد رأيت مثل هذا مراراً ..
,
, ومد يديه بعدها نحو الجثة متحاشياً النظر إليها، أعاد الغطاء البلاستيكي إلى موضعه مغطياً إياها، ثم عاد إلى حجرته دون أن يطفئ أضواء قاعة المشرحة كما كان يفعل في العادة ..
,
, أحكم إغلاق باب حجرته عليه، بل ووجد نفسه يضع كرسياً خلف الباب، ويحشره بإحكام بين الأرضية ومقبض الباب، صانعا عائقا بدائياً لمن يفكر في فتح الباب أو اقتحامه من الخارج ..
,
, لم يكن عبد الدايم من الجبناء .. فلا يستطيع أحد أن يدعي عليه شيئاً كهذا .. لكن هذه الحقيقة تنطبق على ما يعرفه ..لن يخاف من لص أو من رجل مهما بلغ من القوة، أو حتى ذئب أو حيوان مفترس ما..
,
, لكنه هذه المرة كان مضطرباً خائفاً .. كان يخاف مما يجهله .. ووجد عقلهُ يستعيد مئات القصص عن الجان والعفاريت والنداهات وغيرها .. تلك الحكايات المخيفة التي طالما سمعها في طفولته ببلاد النوبة .. فلم يشعر بالراحة..
,
, حاول أن ينام .. لكن الوصول للنوم كان صعباً .. كانت أذناه يقظتين منتبهتين لأدنى صوت قد يصدر بالمشرحة .. لكن شيئاً لم يحدث ،وبعد ساعة كاملة داعب النوم أجفانه ..ودون أن يشعر راح في سبات عميق.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦


وقبل أن تبلغ عقارب الساعة الثالثة صباحا استيقظ فجأة ..
,
, كانت هناك خطوات خافتة تتردد في الردهة بالخارج !!..
,
, في المعتاد لم يكن مرور قطار بجوار رأسه ليوقظه .. لكنه وجد نفسه مرة واحدة مستيقظاً .. ومرة أخرى تواثب قلبه في قفصه الصدري مضطربا .. أرهف السمع .. كانت هناك بالفعل خطوات يسمعها تتردد بالخارج، فشعر بالهلع..
,
, كان قد أغلق باب المشرحة من الداخل قبل أن ينام .. وقد فتش المشرحة جيداً قبلها .. فمن يتحرك بالخارج إذاً، وكيف دخل الى المشرحة ؟!..
,
, أيكون جاناً أم عفريتاً لأحد الجثث ؟.. كان خاطراً مرعباً .. وتذكر أن المشرحة تحوي الآن جثتين لشخصين قد أعدما شنقاً، ورفضت أسرتاهما أن تتسلمهما .. هل يكون هذا أحد عفاريتهم ؟..
,
, أراد أن يهتف من هناك ؟.. لكن صوتاً لم يخرج من حنجرته.. كان حلقه جافاً بشدة كرمال الصحراء في ظهيرة الصيف، فاكتفى بالنظر إلى الباب، دون أن يتحرك كاتماً أنفاسه بقوة، كأنما يخشى أن يدرك من بالخارج وجوده من صوت أنفاسه ..
,
, استمرت الخطوات في التردد خارج الحجرة لفترة طالت، حتى ظنّ أنها لن تتوقف، قبل أن تتوقف فجأة .. راح يتنفس ببطء شديد مترقباً أن تعود الخطوات الثقيلة مرة أخرى .. ومضى الوقت بطيئاً دون أن يتناهى لمسامعه أي صوت ..
,
, هل ابتعد هذا الشيء ؟.. تمنى هذا، وهو يرتل في سره ماتسعفه به ذاكرته من آيات القرآن الكريم .. ولما طال الصمت غادر الفراش ببطء، سائراً على أطراف أصابعه كي لا يحدث صوتاً ، واتجه ببطء نحو باب الحجرة، وانتظر لفترة متجمداً بجواره ،ولما اطمئن إلى استمرار الصمت اقترب من الباب بأذنه وألصقها به ..
,
, حينئذ و في نفس اللحظة كان هناك صوت احتكاك بالباب من الخارج، كان الصوت يشبه صوت الخربشات التى تحدثها الأظافر على الخشب .. بعدها بدأت كف قوية تضرب الباب، كأنما هناك من يحاول أن يخترق الباب الخشبي، وتعالى في نفس الوقت صوت حلقي مفزع، في الردهة بالخارج، ذكره بالأصوات التي يصدرها الصم والبكم.
,
, ارتد بعنف للخلف على الفور وعيناه لاتغادر الباب المغلق، وأطلق صرخة عالية دون أن يشعر .. هذه المرة أفلتت دموعه، وثارت هواجسه، وصاح بفزع :
,
, -من هناك بالخارج ؟!. من هناك ؟.. تحدث أرجوك .. من الذى يتحرك؟..
,
, زاده رعباً أن تحرك مقبض الباب ببطء، كأنما يريد الموجود بالخارج أن يفتحه ..
,
, اندفع نحو المقبض النحاسي، وتصلبت أصابعه عليه محاولاً منعه من الدوران .. في الواقع لم يكن في حاجة لهذا،فـ الباب مغلق بإحكام بواسطة المقعد المثبت به .. لكن الرعب لم يترك في عقله أي منطق للتفكير .. وظل يصرخ بلهجة نوبية مذعوراً:
,
, -ابتعد من هنا أرجوك .. ب**** عليك ارحل .. ابتعد .. ابتعد.
,
, ومرت اللحظات بطئية ثقيلة، حتى ظن أنها الدهر كله، ثم هدأ كل شيء فجاة .. لم يعد هناك صوت الخربشات على الباب، ولا الصوت الحلقي المخيف .. توقف صوت الخطوات،لكنه مع ذلك ظلّ ممسكاً بالمزلاج بكلتا يديه بإصرار وقوة، وهو يرفع صوته بآية الكرسي التي يتلوها ،ويكررها عسى أن تدفع عنه شر من بالخارج..
,
, طال الصمت والسكون؛ فاطمئن قليلاً ، ولم يعد يسمع إلا صوت أنفاسه اللاهثة، ابتعد عن الباب بحذر، وعاد بخطوات مرتجفة إلى الفراش وألقى بجسده عليه باعياء ..
,
, رنت عيناه الى ساعة الحائط .. كانت تعلن الثالثة والنصف صباحاً .. مضت نصف الساعة منذ بدأ الرعب، ومازال أمامه أربع ساعات أخرى، على الأقل قبل أن يأتي أحد زملائه في الصباح إليه .. وقرر أنه لن يغادر مكانه هذا حتى الصباح مهما حدث ..
,
, شعر بحاجة ماسة للتبول لكنه كتمها بأقصى مايمكنه .. لن يخرج حتى لو بال على نفسه .. وببطء راح يراقب عقارب الساعة التي راحت تتحرك ببطء شديد أمام عينيه المكدودتين ..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٧


لم يدرِ كيف ولا متى نام ،ولكنه استيقظ على طرقات صاخبة دوت في عقله كقرع طبول همجية في أحراش السافانا الإفريقية ..
,
, في البداية ظن أن الشيء بالخارج قد عاد، فاختلج قلبه .. لكنه انتبه بعدها إلى صوت جمال الذى كان يصرخ منادياً باسمه .. انتقلت عيناه إلى النافذة الصغيرة أعلى الفراش، فلاحظ ضوء النهار المتسلل إلى الحجرة من خلالها، فأسرع إلى باب الحجرة ليفتحه.
,
, أزاح الكرسي المثبت إلى مقبض الباب، ثم اتجه إلى باب المشرحة الخارجي وفتحه .. لكنه قبل أن يفعل، أرسل بصره إلى الردهة الطويلة، فاطمأن أن لا أحد هناك..
,
, فتح الباب فوجد أمامه جمال ببدانته وعرقه الغارق فيه دائما واقفاً يحمل إفطاره المكون من شطائر ملفوفة بورق الجرائد ..
,
, وما إن رآه الأخير حتى صاح فيه بغضب مصطنع، وهو يدفعه جانباً ليدخل:
,
, -أين كنت كل هذا أيها الصعيدي الكسول .. إنني أطرق الباب منذ زمن حتى انقطعت أنفاسي ..ظننت أنك قد مت بالداخل..
,
, في العادة كان عبد الدايم يحتج عليه ويخبره أن ليس صعيدياً .. إنه نوبي، لكنه هذه المرة لم يهتم وقال له وهو يدعك عينيه المرهقتين بكلتا يديه :
,
, -كنت نائماً ، ولم أسمع صوت الطرقات إلا الآن ..
,
, -كل هذه الطرقات لم تسمعها .. أنت تمزح حقاً يارجل .. لقد ظللت أطرق الباب حتى خشيت أن يستقيظ الموتى بالداخل، وأن أجد أحدهم هو من يفتح لي الباب محتجاً على إيقاظه.
,
, لم يعقب عبد الدايم، واتجه جمال إلى حجرتهم ليتناول الإفطار مع الشاي .. هذه هي الطقوس اليومية له، والتي يحرص على ألا يكسرها منذ عمله بالمشرحة، ولهذا اعتاد أن ياتي كل يوم للعمل قبل موعده بقليل،كي يتناول إفطاره بهدوء، دون أن يطالبه أحد ما بأي عمل ..
,
, فتح لفافات الشطائر داعياً عبد الدايم الى مشاركته الإفطار .. لكن الأخير كان قد فقد شهيته للطعام، فأزاح جانباً اللفافة التي ناوله إياها جمال، دون أن يقربها.
,
, تساءل جمال بدهشة، وهو يلاحظ مافعله باللفافة ،إن كان مريضاً إلا أنه أسرع مجيباً :
,
, -إنني أشعر ببعض الصداع .. لكنه حتماً سيزول بعد قليل، لا تقلق بشأني.
,
, وتذكر مثانته الممتئلة عن آخرها والتى يمسكها بالكاد، فراحت تصرخ فيه محتجة ومنذرة بالفيضان القادم، فأسرع إلى الحمام ..
,
, وحين عاد كان هناك عم منصور، الذي جلس على طرف الفراش وتناول هو الآخر شطيرة من جمال، وأخذ يأكلها بشهية .. حَيّاه وجلس بجواره صامتاً ، شارداً ..
,
, لاحظ عم منصور توتره وشحوب وجهه، فسأله عما به، فأجابه نفس الإجابة المبهمة التي أجابها لجمال .. كان جمال قد انتهى من إفطارة فحمل إناء الشاي، واتجة به للخارج ليغسله ويملأه بالماء، راقبه عبد الدايم حتى اختفى، ثم انحنى نحو عم منصور، وقال هامساً :
,
, -هناك ما أريد أن أخبرك به ياعم منصور.
,
, دارت رأس عم منصور ناحيته، ورمقه بعين أزدادت جحوظاً من الدهشة، متفحصاً ، وهو يبتلع ماتبقى من شطيرته، ثم قال باهتمام:
,
, -هل حدث لك مكروه ما يا ولد ؟
,
, -ليس أمام جمال .. دعنا نتحدث بالداخل.
,
, قالها عبد الدايم، وعيناه ترقبان باب الحجرة، فتطلع إليه عم منصور بشيء من الدهشة، وإن لم يعقب حين تعالى صوت جمال القادم نحوهم .. فصاح عم منصور به، وهو ينهض :
,
, - اهتم أنت بالشاي ياجمال؛ ريثما أحضر بعض الأشياء من الداخل.
,
, قالها والتفت الى عبد الدايم ،وسحبه ببساطة من يديه قائلاَ :
,
, -تعال معي لتساعدني ياعبد الدايم.
,
, واتجها بخطوات سريعة إلى داخل المشرحة .. واسترق عبد الدايم النظر إلى جثة الفتاة، متوقعاً ألا يجد غطاءها عليها كما حدث بالأمس، لكن الجثة كانت تحت غطائها ساكنة بريئة .. توقفا عند حجرة صغيرة تلي قاعة المشرحة، حيث اعتادوا أن يحفظوا بعض أجزاء الجثث بداخلها .. كانت رائحة الفورمالين بها عنيفة للغاية، الا أنهما كانا قد اعتادا عليها فلم يهتما، والتفت عم منصور إلى عبد الدايم قائلاً :
,
, -والآن أخبرني ماذا بك؟ أرى أنك لست على مايرام اليوم .. ما الذى هناك ياولد ؟..
,
, ازدرد عبد الدايم لعابه ببطء، وصمت للحظة كأنما يدير الأمر بعقله .. وعينا عم منصور ترقبه، قبل أن يقص عليه ماحدث له بالأمس .
,
, نظر إليه عم منصور بذهول .. كان ما يسمعه الآن لم يحدث بالمشرحة من قبل .. كان قد أمضى عشرة أعوام بالمشرحة، رأى خلالها الكثير من الأشياء الغريبة، ولكن كانت هذه أول مرة يحدث فيها أن يهاجم شيء ما أو شخص ما أحداً بالمشرحة ليلاً ..
,
, طال صمته وشروده، فقال عبد الدايم متوتراً ، وهو يتطلع الى عينيه الجاحظتين، والتي انعكست عليهما الحيرة :
,
, -ألا تصدقني ياعم منصور .. أقسم ب**** أنني لا أكذب، وأن ما قصصته قد ٤ نقطة
,
, هنا قاطعه عم منصور بسرعة، وهو يلوح بكفه الضخم في الهواء، مانعاً إياه من من إكمال قسمه :
,
, -بالطبع أصدقك ياولد .. لو كنت متولي لظننت أنها تمثيلية يقصها لهدف ما .. ولو كان جمال لظننت أن هذا تأثير الحشيش الذى يتناوله، أما أنت فإنني أثق بك، وبما تقوله، وما دمت قد رأيت هذا، فلابد أنه قد حدث فعلاً ، وهذا ما يحيرني ويقلقني.
,
, وتنهد عبد الدايم بارتياح، فقد خشى ألايصدقه عم منصور، أو أن يتهمه باختلاق هذه الأحداث، أو توهمها على الأقل، ولهذا فقد أحجم أن يقص ماحدث له لجمال .. كان يريد أن يحكي لعم منصور أولاً ؛ لأنه توقع أن يصدقه، وقد صدق تخمينه فلم يكذبه الرجل .. ولأنه يرغب في رأيه.
,
, وانتبه إلى عم منصور الذي قال له، وهو يشعل سيجارة بعصبية:
,
, -إن ماتقوله خطير ومحيّر ..أنت بقولك هذا تعني أن أحداً ما قد هاجمك بداخل المشرحة .. وأنت أيضا تجزم أنك قد فتشت المشرحة ، ولم تجد بها أحد ما قبل أن تنام .. إذا فمن الذي هاجمك ؟..وكيف دخل إلى المشرحة المغلقة ؟.. وماذا كان يريد منك ؟.. إن ما حدث لك بالأمس لم يحدث هاهنا من قبل !..
,
, غمغم عبد الدايم بحيرة وقلق:
,
, -أنا لا أعلم ما الذي واجهته بالضبط .. لقد بدا ظله من خلف الباب بشرياً تماماً .. لكنني فتشت المشرحة بأكملها فلم أجد أحداً بها .. لقد كدت أموت فزعاً ، حين هاجم ذلك الشيء حجرتنا في منتصف الليل .. إنه لم يتكلم، وظل يصدر تلك الأصوات المخيفة، التي أرعبتني حتى الموت، وهو يحاول اقتحام الحجرة .. لقد انتظرتك؛ لأنني ظننت أنك ربما تملك تفسيراً ما لما حدث معي.
,
, ضحك عم منصور ضحكة متوترة ، وهز يده الممسكة بالسيجارة المشتعلة لينفض منها بعض الرماد وأجاب :
,
, -ولماذا تظن أنني أملك تفسيراً ما .. إنني لاأرغب في إخافتك، لكن ماتقوله يوحي بأفعال (بسم **** الرحمن الرحيم) الجان والعفاريت .
,
, ارتجف عبد الدايم على الفور، حين ذكر الجان، فقام هو الآخر بالبسملة، وهمس بخفوت، ودقات قلبه تدق بعنف، وبلا إنقطاع:
,
, -هل تظن حقاً أن من هاجمني بالأمس قد يكون جاناً أو عفريتاً .. رحماك ي**** .. لقد بدأت أشعر بالرعب من المشرحة .. علينا أن نفعل شيئاً ما، لنعرف مايحدث هاهنا .. ألن نفعل ياعم منصور ؟..
,
, -وماذا تقترح أن نفعل ؟!.. لاشيء يمكننا أن نفعله الآن، فلو قصصنا الامر على أحد ما فلن يصدقنا .. لذا عليك أن تلزم الصمت، ولا تخبر جمال أو متولي بما شاهدته .. في الغالب قد تأتي هذه الأشياء وتنتهي فجأة .. فقط لا داعي لأن تثير الفزع بإخبار الجميع .. فطالما لم يقع أي ضرر أو مكروه لك، فمن الأفضل أن نحتفظ بماحدث داخل صدورنا، وأن ندعو **** ألا يتكرر الأمر ثانية.
,
, ثم ألقى بعقب سيجارته التي أنهاها على الأرض وسحقها بحذائه العتيق بقوة، كأنما يسحق معها هواجسه، ثم رفع رأسه نحو عبد الدايم، ووضع كفه الضخم على كتفه ،وقال باشفاق :
,
, - أرى أن عليك أن تستريح اليوم من العمل .. عد للبيت وأخلد للنوم فوراً ، وحاول أن تنسى ماحدث، وفى الصباح سيكون كل شيء على مايرام إن شاء **** .
,
, شعر عبد الدايم بالامتنان له مرة أخرى .. كان عم منصور في عمر أبيه الراحل تقريباً ، ومنذ عمل عبد الدايم بالمشرحة، راح يعامل عم منصور كأب له، والأخير يعامله كابن له .. ومع توالي الأيام نمت تلك العاطفة بينهما وتأججت .. وكل مرة يختبر فيها تلك العاطفة يتأكد من وجودها.
,
, وهاهو الأن يشعر بتلك العاطفة الأبوية المريحة، وهو يرى النظرات المشفقة في عيني عم منصور، التي يرمقه بها .. تمنى أن يحتضنه، وأن يخبره بما في قلبه .. لكنه لم يفعل .. فقط اكتفى بنظرات الامتنان وشكره، ثم انصرف، تاركاً عم منصور يقلب أفكاره، مفكراً في ماحدث .
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨



وفي المساء اتجه جمال للمشرحة كي يبيت فيها .. كان هذا من أيام الأسبوع الممتعة له .. اليوم لن يكون مضطراً لأن يمكث طوال الليل بجوار جمالات زوجته ..
,
, ويا لها من ليلة سعيدة إذا تستحق الإحتفال بها!
,
, كان أحمقاً غبياً حين تزوجها، هكذا إعتاد أن يتحدث عن نفسه .. وهاهو يدفع في كل يوم ثمن حماقته تلك طوال ثمانية أعوام؛ هي عمر زواجه بها .. قبل زواجه سمع الكثير عن الزواج ومتاعبه ومشاكله، وتبارى رفاقه الذين صارت المقهى ملجأهم الدائم بعد العمل. هرباً من الزوجة والعيال في قص الحكايات والأهوال التي لاقوها في زواجهم .. كانوا يتحدثون إليه عن الحجيم الذي بانتظارهم دوماً بالبيت، لكنه لم يصدقهم حينها أبداً ، ليس لأنه أريب .. لكن لأنه حمار، وبإذنين طويلتين .. فهكذا كان يرى نفسه.
,
, كان يرى أنهم يبالغون في قصصهم هذه حتماً .. وكان يعجب من قولهم أن الزواج لاتستمر حلاوته أكثر من شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر ، إلى أن تبدأ بطن الزوجة في الاستدارة، معلنة عمن ينمو بداخلها .. حينها تنتهي حلاوته ولذته، لتبدأ متاعبه ومعاناته ..
,
, فهناك الحمل، وما أدراك كيف تتعامل النساء معه كأعجوبة تستحق الكثير من الاهتمام والرعاية من الزوج .. ستبدأ زيارات لاتنتهي للأطباء، حيث تضطر فيها لانتظار دورك أحياناً لساعات طويلة .. وهناك أتعاب الطبيب، والوصفة الطبيبة التي تلتهم في كل مرة جزءاً لابأس به من راتبك .. عليك أيها الرجل الصغير أن تحتمل كل هذا صابراً آملاً ، أن ينتهي كل هذا الهراء بعد الولادة ..
,
, كانوا يبالغون بلاشك ويهزلون .. هكذا كان يحدث نفسه، ومازالوا يحدثونه عن متاعبهم بعد ولادة الأطفال .. كانوا يقولون له بعد أن تسبح عقولهم في كون آخر، بفعل الحشيش والدخان والبيرة أحياناً ..
,
, -ستدرك يا جمال كم كنت مغفلاً حين ظننت أن الولادة ستكون هى النهاية .. فبعد الولادة صار عليك أن تتوارى .. فقد جاء من سيصير جل اهتمام زوجتك للأبد .. وستتحول أنت بعدها لأبي العيال، وهذا ليس تشريفاً لو كنت حصيفاً .. بل يعني أن تعمل وتعمل كالحمار بلاتوقف؛ كي توفر لهم مايحتاجونه .. ومايحتاجونه لاينتهي أبداً .
,
, عليك أن تتنازل عن رفاهيات كثيرة اعتدت عليها؛ لأن البيت صار أولى بكل قرش في جيبك .. ولا تنتظر في المقابل أن توليك زوجتك اهتماماً خاصاً ؛ تقديراً لما تقدمه، وماتنازلت عنه .. فالإسطوانة موجودة تجيد أبجدياتها كل النساء .. ستنكد عليك حياتك، وستندب حظها لزواجها ممن لايرحم .. ستصرخ دوما في وجهك: (إنت عليّ والعيال) .. طبعاً مع الوقت ستتعود على كل هذا، وستتعلم الهروب .. ولن تعدم حينها مقهى ما، تجلس فيها كغيرك هرباً من هذا الجحيم ..
,
, صورة قاتمة بها الكثير من السوداوية .. هكذا كان جمال يفكر قبل أن يتزوج في ما يسمعه ممن سبقوه بالزواج .. لم يذكر أحدهم أبدا الزوجة التي تجيد الطهي ..
,
, الطعام !!.. العشق الأول والأخير لقلبه! ..
,
, فقط أريدها تجيد الطهي .. وحينها ستكون الحياة مبهجة بحق ..
,
, وحين خطب جمالات كان الكثيرون يتحدثون عن براعتها في الطهي .. كانت أكذوبة استطاعت أمها نشرها في محيطها لإقناع أحد المغفلين، بأن يدق باب بيتها لخطبة ابنتها جمالات .. وكان جمال ذلك المغفل كما يحلو له أن يقول عن نفسه .. بالطبع وبعد الزواج اكتشف أن أطنان الطعام الشهي، التي التهمها أثناء الخطوبة ؛والتي زعمت حماته أن جمالات هي من قامت بإعدادها، كانت حماته هي التي تطهوه في الواقع..
,
, إكتشف أن جمالات لاتجيد الطهي على الإطلاق، ولانفس لها في الطعام .. والأكثر إبهاجاً أنها كانت من هواة النكد طوال الوقت، وكانت كذلك سليطة اللسان، ولاتتورع عن سبه أمام الجميع .. كانت زوجة تفوح بالبهجة بحق !..ويالها من بهجة !..
,
, وكان من الممكن أن يطلقها لولا الأولاد .. فقد كانت كالعادة قد أجادت اللعبة الأزلية لجميع السيدات، فقيدته بها بأن أنجبت منه أربعة ***** في أربعة أعوام متتالية .. هكذا صار الانفصال عنها مستحيلاً ، وتحول أضحى المقعد الذي اتخذه في أحد زوايا المقهى بأول الشارع الذي يقطن فيه، حلاً لا بأس به للهروب منها، ومن سلاطة لسانها ..
,
, كان يظل بالمقهى كل يوم حتى بعد منتصف الليل، إلى أن يطمئن أنها قد نامت، فيعود الى البيت، ليرقد بجوارها في صمت؛ سائلاً **** ألا يوقظها شيء .. ويظل يرقب شخيرها وتنفسها الثقيل مفكراً إن كان عليه أن يضع على وجها وسادة ما، ويجلس فوقها ليرتاح منها .. كانت أفكاراً ، لكنها ممتعة .. وتمنى لو كان أقل جبناً ليتمكن من تنفذيها.
,
, لهذا كانت الأيام التي يبيت فيها بالمشرحة من الأيام التي يحبها .. إنها بضع ساعات من الليل، لايفعل فيها غير النوم والأكل، ليتسلم في المقابل أجراً لابأس به آخر الشهر .. كان هذا مريحاً.
,
, وكان يعد نفسه لهذا اليوم .. يحضر معه الكثير من الطعام، وكذلك الراديو الصغير الذي يجلبه من البيت ليؤنسه .. ولابأس أحياناً بقرش حشيش أو زجاجة من البيرة .. أشياء لن يعلم بها أحد، لأنه يخفي آثارها في الصباح قبل أن يأتي الجميع،لكنها تؤنس وحدته ..
,
, في هذه الليلة تناول عشاءه، وأعد بعدها كوباً من الشاي، ولف سيجارة محشوة بالحشيش، ثم خرج بعدها الى الباحة الخلفية للمشرحة حيث الحديقة الصغيرة .. وحرص قبل خروجه على رفع صوت المذياع حتى يصل إلى مسامعه .. جلس على الكرسي الخشبي ، وراح يرشف الشاي، والسيجارة معاً باستمتاع، وهو يتأمل السماء المظلمة من فوقه بنجومها اللامعة، شاعراً برضا شديد عن نفسه ..
,
, وتعالى صوت أم كلثوم في المذياع :
,
, "ياحبيبى ..الليل وسماه ونجومه وقمر..قمره وسهره ..وأنت وأنا ..ياحبيبى أنا ..ياحياتى أنا ..كلنا في الحب سوا ..والهوا ..آه منه الهوا ..سهران الهوا ..يسقينا الهنا"
,
, شعر بانتشاء يدغدغ مشاعره؛ كأنما تغني الست الآن من أجله هو ، وصاح بجذل :
,
, -**** .. **** عليك ياست ..
,
, الحياة أحيانا تكون جميلة بحق .. من قال غير هذا ؟! .. هكذا فكر.
,
, وحانت منه بعد حين التفاتة نحو باب المشرحة، فرأى أن هناك من يقف خلفه متوارياً خلف الزجاج الملون ..
,
, ظل بشري واضح من خلف الباب الزجاجي !..
,
, تدلى فكه الأسفل في بلاهة، واختلج قلبه .. أغمض عينيه للحظة ، ودعكهما بشدة، ولما فتحهما اختفى ذلك الظل الغريب .. ومرت دقائق ثقيلة من الترقب قبل أن يسكن اضطرابه، وراح يفكر .. إنه تأثير الحشيش الذي شربه الآن .. لاشك في هذا .. إنه الحشيش بلاريب !..
,
, وأخذ يختلس النظرات إلى الباب بشك من حين لآخر، لكنه لم يلحظ أي شيء غير طبيعي .. وبعد قليل تناسى الأمر باعتباره أوهام اختلقها عقله بتأثير الحشيش .. ومرة أخرى تعالى صوته مردداً خلف أم كلثوم:
,
, "ياحبيبى .. يلا نعيش في عيون الليل .. ونقول للشمس .. تعالى تعالى .. بعد سنة .. مش قبل سنة .. دى ليلة حب حلوة .. بألف ليلة وليلة.."
,
, هنا شعر بالحاجة لقضاء الحاجة، فقام بتثاقل متجهاً للحمام.
,
, وحين دخل المشرحة لاحظ أن قاعة التشريح صارت مضاءة .. لا يذكر أنه دخل هناك، أو أنه أضاء مصابيحها .. لكنه طرح هذا جانباً ، ودلف إلى الحمام حيث قضى حاجته .. وعندما خرج اتجه إلى القاعة ليغلق النور .. لكنه قبل أن يفعل تطلع لحظة إلى الجثث الراقدة على مناضدها ..
,
, كانت إحدى هذه الجثث دون غطاء .. واتجه إليها ببطء دون أن يعير الأمر اهتماماً .. ربما عمل أحد الأطباء عليها، ونسى تغطيتها .. وحين وصل إلى الجثة وجدها جثة الفتاة وهي ترمقه بعينين، متسعتين براقتين، ورأى بسمة ما ترتسم على شفتيها، بدت وكأن الحياة قد عادت لها، وإنها قد تصرخ في وجهه بعد قليل ..
,
, اضطرب قلبه بشدة، وغامت الدنيا في عينيه ، وترنحت قدماه، حتى كاد أن يسقط، فأمسك بسرعة بقائم حديدي، بجواره كي لايقع ..
,
, لايجب أن يفقد الوعي الآن .. هكذا حدّث نفسه .. يجب ان اخرج من هنا ..
,
, وغادر المشرحة مترنحاً ، دون أن يلتفت إلى جثة الفتاة مرة أخرى، أو يغطيها .. وما إن وصل إلى حجرته حتى غير مؤشر الراديو الصغير إلى إذاعة القرآن الكريم، وتعالى صوت الشيخ المنشاوي بآيات كان يتلوها من سورة البقرة، وبعد حين هدأ روعه قليلاً ..
,
, استلقى بعدها على الفراش، دون أن يفارقه اضطرابه، ودون أن تختفي من خياله عينا الفتاة البراقتين وبسمتها المخيفة .. إنها ميتة ولابد أنه يتوهم ما رآه .. وراح يحاول أن يقنع عقله بهذا.
,
, دوما تشعره هذه الجثة منذ رآها أول مرة بالتوتر .. وكان يشعر بخوف مبهم حين ينظر إليها، أو يسير بجوارها .. لم يدرِ سر هذا، وإن لم يبح بهذا لأحد .. حاول أن يتشاغل بشيء آخر ، كي لا يفكر بالعينين اللتين كانتا تحدقان فيه بثبات، لكنه فشل ..
,
, لكنه بعد حين شعر بخدر لذيذ يغزو عقله تدريجياً، و رويداً رويداً غلبه النعاس، فنام وتعالى شخيره صاخباً .
,
, و في الثالثة صباحا وجد نفسه مستيقظاً منتبهاً، ونيران هائلة تستعر في أحشائه .. كان العرق الغزير يحتشد الأن على جسده، حتى كاد أن يغرقه، وكانت أنفاسه مضطربة لاهثة ..
,
, وكان هناك من يطرق الباب !
,
, كان أبلهاً بالتاكيد .. لأنه فعل أشيا ء كثيرة شديدة الحماقة في الواقع.
,
, أولها - أنه نسي حذره .. فحين تكون بمفردك في المشرحة، وتعلم أنه لا أحد غيرك بها، ثم تسمع طرقات بعد منتصف الليل بباب حجرتك الداخلي، فعليك حينها أن تتوتر أو تفزع، أو حتى تتريث قبل أن تقدم على فعل أي شيء .. لكنه لم يفعل أي من تلك الخيارات ..
,
, ثانيا - عندما تشم هذه الرائحة العطرية المثيرة، تفوح بشدة من خلال الباب، وتملأ فتحتي أنفك متسللة بيسر نحو عقلك لتخدره، فعليك أن تنتبه .. إن هذا عطر أنثوي مثير، لو كان يفهم في الروائح الأنثوية .. لكنه لم يكن يفهم فيها كثيراً ، فزوجته جمالات حين ترغب في التعطر من أجله، كانت تصب على جسدها الكيروسين أو الخل .. فمن أين له أن يميّز الفارق ..
,
, ثالثا - وحين تسأل عن من يطرق الباب، دون أن يكون الجواب أكثر من همهمات الغامضة، وأصوات خافتة غير مفهومة، فعليك أن تكون أكثر حيطة وتعقلاً ، ولاتفتح الباب أبداً ، إلا بعد أن تطمئن وتعلم من الطارق .. لكنه لم يفعل شيء مما سبق، وكان أرعناً، ففتح الباب بلاتفكير ..
,
, وبالتأكيد لم يدرِ ماحدث له بعد ذلك .. وآخر ماشعر به كان العطر الأنثوي القوي .. وبعدها لا شيء ..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٩


بالطبع ماحدث بعدها كان عجيباً .. في الصباح كان عبد الدايم أول من وصل، ليجد أن باب المشرحة مغلقاً من الداخل .. نادى جمال فلم يرد عليه .. تذكر ماحدث له بالأمس فتداعت آلاف الأفكار السوداء أمام عينيه، فأخذ يطرق باب المشرحة بعنف وتوتر .. لكن دون مجيب .. تسمّر بمكانه ، ولم يدر ماذا يفعل ؟.. هل يكسر الباب ؟!..
,
, لكنه خشى أن يكون نوم جمال الثقيل، والذى اشتهر به، هو مايمنعه من فتح الباب، حينها سيكون كسر الباب ضرباً من الحماقة، ولن تجدي تبريراته حينها ..
,
, لكن الاحتمال الآخر المخيف، أن يكون مكروهاً ما قد حدث لجمال بالداخل .. وربما كان في حاجة للمساعدة الآن ..
,
, كان عليه أن يفعل شيئاً ما .. عليه ان يفكر بسرعة، ويقرر ما ينبغي عليه فعله ..
,
, لم يصل عقله لقرار .. لذا استمر في طرق الباب بضربات قوية للغاية ، وارتفع صوته عالياً منادياً جمال عسى أن يجيبه ويستيقظ لو كان نائماً .. وما من مجيب لندائه ..
,
, ومضى بعض الوقت وأتى متولي، الذي بادر بتعجب وصوت الطرقات تدوي صاخبة في ممرات الكلية الفارغة من الطلاب في تلك الساعات المبكرة من الصباح :
,
, -لماذا تصرخ وتطرق الباب هكذا ؟.. إنني أسمع طرقاتك وصراخك هذا منذ دخلت من باب الكلية حتى هنا .. ماذا حدث يا رجل؟..
,
, - جمال بالداخل ولا يرد .. أخشى أن يكون مكروها ما قد أصابه.
,
, -وماذا في هذا ؟.. ربما كان يغط في نومه العميق كعادته، وربما شرب الكثير من الحشيش بالأمس .. أنت تعلم أنه يتناول هذه الأشياء اللعينة، وربما أسكرته وسلبته وعيه .. إنه خرتيت لن يؤذيه أي شيء فلا تقلق .. هيا إبتعد عن الباب، ودعني أجرب حظي ..
,
, قالها، والتفت إلى الباب بعد أن تنحى عبد الدايم جانباً، وأخذ يطرقه بقوة، ويصيح بأعلى صوته على جمال منادياً ، لكنه لم يكن أكثر حظاً من رفيقه، فلم يجيبه غير الصمت، وقال عبد الدايم متوتراً بعد دقائق:
,
, - أرى أن نكسر الباب الآن .. إن هذا كثير ، ولابد أن مكروهاً ما قد أصابه بالداخل .. مستحيل أن يظل نائماً بعد كل هذه الضوضاء التي قمنا بها .. ورفض متولي إقتراحه بلا تفكير، و قال معترضاً على الفور :
,
, -إياك أن تفعل .. ربما سبب لنا هذا بعض المشاكل مع رئيس القسم ، أنت تدري كم هو عنيف وعصبي، ولسنا بحاجة لمواجهته .. أرى أن ننتظر قليلاً ، ونفكر في حل آخر .
,
, ولم يكد يقولها، حتى ظهر عم منصور قادماً من بعيد، يسبقه دخان سيجارته .. حياهم، وهو يرمقهم بدهشة، وقال متعجباً:
,
, -لماذا تقفون هكذا ؟..هل حدث شئ ما؟..
,
, وأجابه متولي بسرعة، وهو يشير لباب المشرحة:
,
, -إن جمال بالداخل، و لايستجيب لندائنا ولا لطرقنا على الباب .. يبدو أنه قد أفرط في شرب الحشيش بالأمس .. لابد أنه قد فعل هذا.
,
, هنا تبادل عم منصور مع عبد الدايم نظرة قلقة ذات معنى، وقد تبادر إلى ذهنه ماحدث لعبد الدايم بالأمس، فأخذ يطرق هو الآخر الباب بشدة، منادياً على جمال في نفس الوقت، ولكن مرة أخرى أجابه الصمت ..
,
, في النهاية توقف يائساً ، والتفت إليهما، وقال بتوتر:
,
, -إنه بالفعل لايرد، أيكون مكروهاً ما قد أصابه ؟.. ماذا تقترحون أن نفعل ؟.. هيا أخبروني !.
,
, -أرى أن نحطم الباب .. هذا هو الحل الوحيد.
,
, أجابه عبد الدايم .. وفكر للحظة ثم وافقه مغمغاً :
,
, - يبدو أنه لامفر من القيام بهذا ..دعونا نفعل.
,
, إلا أن متولي أسرع مرة أخرى يقول معترضاً:
,
, - أرى أ لا نتسرع في فعلٍ ما، وأن ننتظر قدوم أحد الأطباء من القسم ليقرر هو ماعلينا أن نقوم به، حتى لاتكون هناك مشكلة ما مع الدكتور نعيم.
,
, - يا أحمق إن جمال بالداخل لا يرد، ولا ندري ما أصابه، وأنت تطالبنا ألا نفعل شيئاً، فقط لأنك تخشى الدكتور نعيم .. اصمت ب**** عليك وإبتلع لسانك، وإلا حطمت رأسك قبل الباب، سوف نفتح هذا الباب اللعين مهما كانت العواقب.
,
, قالها عم منصور بحزم وتوتر وبصره معلق بالباب المغلق .. وفجأة قال عبد الدايم، وحل ما يرتسم في مخيلته:
,
, -نافذة الحمام الخلفية.
,
, التفت إليه الاثنان، فأكمل بحماس :
,
, - يمكننى أن أدخل خلالها .. إنها صغيرة، ولكنى أستطيع أن أحشر جسدي خلالها.
,
, كانت فكرة جيدة، فقال له عم منصور بأمل:
,
, - إذاً أسرع يارجل وافعلها يا ولد .. الرجل لايرد ولاندري ما اصابه بالداخل.
,
, اختفى عبد الدايم من أمامهم، فانتظر الاثنان بترقب أن يفتح الباب ، ولم يمض أكثر من ثلاث دقائق حتى كان عبد الدايم يفتح لهما الباب من الداخل، فدلفوا المشرحة مسرعين .. لم يجدوا جمال بالغرفه .. كان بابها مفتوحا ، لكن لا أثر له ..
,
, اتجهوا إلى قاعة التشريح، لكنه لم يكن هناك أيضاً .. وقال عم منصور بتوتر، وهو يتلفت حوله ، وعيناه تجوبان المكان:
,
, - أين تراه قد ذهب ذلك الأحمق .. لا أثر له في كل مكان، وهو لم يتبخر بالتأكيد، إذا أين يكون ؟!..
,
, وانتبه متولي لشيء ما، وهو ينظر إلى المناضد التى ترقد عليها الجثث، فقال ببطء وحذر:
,
, -كم عدد الجثث بالمشرحة ؟
,
, أجابه عم منصور ، وهو ينظر إليه بدهشة:
,
, -إنها خمس .. لماذا تسأل؟!..
,
, أشار متولي بيد مرتعشة إلى المناضد التي رقدت عليها الجثث، وقال بصوت مخنوق :
,
, -لكن الجثث ها هنا ست ..
,
, وتحولت أبصارهم على الفور إلى المناضد التي تحوي جثثاً مغطاة لتحصيها .. كانت ستاً بالفعل .. اضطربت قلوبهم بشدة، وشعر عم منصور بالحمض الحارق يتصاعد إلى فمه، ليملأ أنفه برائحته النفاذة، وهاجس مخيف يلح على عقله ..
,
, أيكون جثمان جمال هو الجثة الجديدة السادسة ؟..
,
, تجمدوا في أماكنهم للحظة ،دون أن يفعلوا أي شيء، إلا أن عم منصور أخرج نفسه بسرعة من جموده، وهتف فيهم، وهو يتجه إلى أقرب منضدة منه ليفحصها :
,
, - لا تقفوا هكذا كالأصنام .. تحركوا وافحصوا كل منضدة، لنرى من أين أتت الجثة السادسة.
,
, واندفع كل منهم إلى أقرب منضدة منه، وكشف غطاءها، ولم يكن بها غير الجثث القديمة ،فاتجهوا الى الصف الثاني ٣ نقطة
,
, كان جمال راقداً بالمنضدة الآخيرة، وكان متولي من وجده، فأخذ يصرخ برعب حين كشف الغطاء، لتصطدم عيناه بوجه جمال الشاحب..
,
, أسرع نحوه الاثنان، وكشفوا باقي الغطاء عن زميلهم، وصاح عبد الدايم بهلع :
,
, -يا إلهى.. هل مات ؟!
,
, لاحظ عم منصور أن صدره يعلو ويهبط ببطء ،فقال وهو يحيط جسده بذراعه ليحمله :
,
, - إنه مازال يتنفس .. لا تتسمروا هكذا .. هيا ساعدوني لنخرجه من هنا.
,
, أسرعوا بحمله، وإتجهوا الى حجرتهم، فأرقدوه على الفراش، وأخذ عم منصور يضربه ضربات قوية على جبهته وخديه ليفيق ،وهو ينادي عليه .. إلا أنه لم يستجب .. كان أسيراً لغيبوبة عميقة تقاوم بإصرار محاولاتهم لإخراجه من سيطرتها .. فهتف عبد الدايم بقلق :
,
, -ألا يجب أن نذهب به إلى طوارئ المستشفى ليسعفوه؟.
,
, كاد عم منصور أن يجيبه بالموافقة ،لولا أن ارتفع صوت من خلفهم متسائلاً :
,
, -من الذى تريدون أن تذهبوا به إلى المستشفى ؟.. هل هناك مصاب ما هاهنا ؟..
,
, كان الدكتور حاتم أحد المعيدين بالقسم هو الذي يسأل .. وأجابه عم منصور بلهفة، وهو يشير بيده نحو جسد جمال الساكن أمامهم:
,
, -أنجدنا يا دكتور .. لقد وجدنا جمال فاقداً لوعيه هاهنا، وهو لا يستجيب لمحاولتنا لإفاقته ..
,
, واندفع الدكتور حاتم نحو الجسد الهامد، وبدأ على الفور في إفاقته .. تحسس أوردته فلاحظ نبضه السريع الضعيف وتنفسه الثقيل .. فتح مقلتيه ،متأملا بؤبؤ العين للحظة.. بدا متسعا ، فقال بحيرة:
,
, -ليأتني أحدكم بجهاز الضغط والسماعه من الحجرة الآخرى.
,
, خرج عبد الدايم ليجلب ما طلبه، وعاد بهما في أقل من الدقيقة .. فتناولهما الدكتور حاتم منه، وأكمل فحصه،وعيونهم معلقة به بترقب وقلق ..
,
, كانت نتيجة فحصة سلبية .. لم يجد خللا عضوياً يفسر تلك الغيبوبه .. لذا فقد أخذ يضغط على جبهته ،وصدغيه ضغطات مؤلمة حاثاً مراكز الألم في مخه على تنشيط جهازه العصبي كي يفيق، وهو يردد قائلاً:
,
, - هيا يارجل ..كفى دلعاً ، واستيقظ .. إن كل شيء بك على مايرام.
,
, ومضت لحظات من الترقب قبل أن يسعل جمال .. فتح عينيه بوهن ، وراح ينظر إليهم بتوتر وحيرة، محاولاً استيعاب ما يجري حوله، ثم قال بدهشة حقيقية:
,
, -ماذا يحدث هاهنا ؟!.. ولماذا ترمقونني هكذا ؟!!..
,
, ماذا هناك ياعم منصور؟!..
,
, لكن أحدا منهم لم يجبه .. فقد ألجمهم القلق وأخرسهم.
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
١٠


وبعد أقل من الساعه علم كل من بالمشرحه ماحدث لجمال، فأرسل إليه الدكتور نعيم ليخبره الحقيقة .. ذهب إليه ومعه عم منصور ، هناك أخبره جمال ماحدث له بالأمس .. لم يخفِ شيئاً ، لأن حيرته وخوفه كانا هائلين ..
,
, حكى له عن الظل الذى ظنّ أنه شاهده ، وأخبره بجثة الفتاة المفتوحة العنين، والتي ثبتت نظراتها عليه، وكانت تبتسم له .. وأخيراً تلك الطرقات التي سمعها بعد أن نام، وكان آخر ما يتذكره هو فتح الباب .. أما بعد ذلك فهذا ما لا يذكره ..
,
, رمقه الدكتور نعيم بشيء من الشك والريبه، قبل أن يعود بمقعده للخلف، وراح يمج سيجارته ببطء وصمت، قبل أن يقول بلهجة هادئة، بطيئة، حملت الكثير من الاتهام :
,
, -هل حدث أن سرت أثناء النوم من قبل ؟!..
,
, وأدرك جمال أن الدكتور نعيم لا يصدقه، فارتبك .. وتكاثف العرق على جبهته، وأجاب مطرقاً رأسه لأسفل، بارتباك:
,
, -لا يادكتور .. لم يحدث هذا لي أبداً .. إنني أنام على فراشي كالجحر.
,
, -إذا فأنت تتعاطى شيئاً ما حتما ؟.
,
, -شيء ما مثل ماذا يادكتور ؟.. لست أفهم ما تقصده ..
,
, سأله جمال بحذر، وهو يخشى أن يضطر للاعتراف بأنه يتناول الحشيش أو البيرة حين يبيت بالمشرحة .. خشي أن يكلفه هذا وظيفته.
,
, وأجابه الدكتور نعيم ببطء، وهو يميل بجزعه نحوه من فوق مكتبه :
,
, -أتحدث عن المخدرات أو الكحوليات .. تلك الممنوعات التى تعرفها جيداً .. أي شيء من هذا القبيل .. هل تفعل يا رجل ؟..
,
, مرة أخرى أطرق جمال برأسه للأسفل، متحاشياً أن تتلاقى عيناه بعيني الدكتور نعيم الحادتين، وهو يغمغم:
,
, -الشيشة فقط يادكتور .. أنا لا أشرب غيرها .
,
, هنا هزّ الدكتور نعيم كتفيه بنفاذ صبر ، وصاح بعصبية:
,
, -إذن كيف ب**** عليك وجدوك بغرفة التشريح، راقداً على منضدة أحد الجثث ؟.. أخبرنى لماذا فعلت هذا ؟.. هل كنت تتسلى مثلاً ؟.. أم أنه خاطر أحمق طرأ برأسك الغليظ هذا فجأة، ودفعك لفعل هذا ؟.
,
, ازداد جمال توتراً ، وهو يشعر باتهام مباشر يُوجه له بين طيات كلام الدكتور نعيم، فقال ضارعاً:
,
, -أقسم ب**** أنني لا أدري كيف حدث هذا .. أنا لم أشعر بأي شيء إلا حين أفقت في الصباح .. أنا حتى لم أكن أدري أنهم وجدوني نائماً على تلك المنضدة بجوار الجثث .. لو أفقت حينها ووجدت نفسي هكذا لمت هلعاً.
,
, ثم التفت إلى عم منصور مستنجداً به، فاكتفى الأخير بهز رأسه مؤكداً ماقاله ..
,
, صمت الدكتور نعيم، وراح يتفحصه بنظرات نافذة كسهام تتخلل جسده؛ لتستكشف إن كان صادقا فيما يدعيه، أم أن وراءه شيء ما يخفيه، بعدها أخذ يدخن الجزء الباقي من سيجارته، وهو يطلق سحابات كثيفة من الدخان نحو سقف الحجرة، بينما راحت أنامله تعبث بقلم أنيق، يحمل شعار إحدى شركات الأدوية، مصدراً صوتاً معدنياً رتيباً.
,
, حطم هذا الصمت مقاومة جمال، فبدا مضطرباً وخائفاً بصورة لا ادعاء فيها .. لقد كان مذعوراً بحق؛ وكان وجهه شاحباً في تلك اللحظة كالموتى .. لذا قال الدكتور نعيم في النهاية ليصرفه :
,
, -حسناً ..يمكنك الانصراف يا جمال، عد لبيتك الأن لتنال قسطاً من الراحة، وفيما بعد سنحاول أن نفهم ماحدث.
,
, وشكره جمال، وهو ينصرف، واستدار عم منصور الذي تابع كل ماحدث صامتاً ليرافقه، إلا أن دكتور نعيم استبقاه قائلاً :
,
, -انتظر يا منصور .. هناك ما أرغب في التحدث فيه إليك .
,
, -تحت أمرك يادكتور.
,
, قالها عم منصور ،وهو يعود متقدماً نحو المكتب ،بينما انتظر الدكتور نعيم للحظات حتى غادر جمال الغرفة، فقال لعم منصور:
,
, -هل هناك ما أخفاه عني جمال .. ربما أخبرك بشيء ما، ولم يشأ أن يخبرني به .. لا أظن أنك أنت الآخر تصدق ما قاله.
,
, وهز عم منصور رأسه نافياً . وأجاب بهدوء:
,
, - لقد أخبرني بما ذكره لسيادتك .. إن روايته التي حكاها لكلينا واحدة دون أي تغيير .. ولا أظن أنه كان يدعي الغيبوبة التي وجدناه عليها .. لقد فحصه الدكتور حاتم، ويمكنك أن تسأله كيف كان .
,
, -ألا تظن أنه قد يكون قد نام من تلقاء نفسه بقاعة المشرحة دون أن يدري .. ربما كان يعاني من مرض نفسي ما .. وربما كان يسير أثناء نومه دون أن يعلم ذلك .. أشياء كهذه تحدث أحيانا.
,
, -ربما كان هذا ماحدث، من يدري؟! .. الأمر كله عجيب، ولم يحدث من قبل .. أخشى أن أقول أن هناك أحداثاً غريبة تدور في المشرحة في الآونة الأخيره لم يكن جمال شاهدها الوحيد ..
,
, - أحداث غريبة هاهنا بالمشرحة ؟.. هل حدث شيء ما بالمشرحة لا أدريه ؟!..
,
, قالها الدكتور نعيم بدهشة واستنكار .. لم يجب عم منصور على الفور، بل صمت للحظة متردداً ، لكنه أمام النظرات الصارمة للدكتور نعيم تكلم، وقص عليه ماحدث لعبد الدايم من قبل..
,
, وضاقت عينا الدكتور نعيم، وعاد يعبث بالقلم الذى يمسكه مرة أخرى مصدراً طرقات خافتة على سطح مكتبه، وعيناه تنتقلان بين وجه عم منصور المضطرب وفراغ الغرفة، قبل أن يقول مستنكراً بلهجة حادة:
,
, -أتتكلم عن عفاريت، و أشباح جثث تلهو بالمشرحة ؟.. هل هذا ما تقصده يارجل ؟.. وهل تعتقد أن مثل هذه الخزعبلات التي تحكونها في قراكم حين يحل المساء، ليخيف بعضكم البعض قد تحدث هاهنا في كلية الطب ؟.. لو شئت رأيي في مايحدث، لأخبرتك أن رجالك حمقى ، واهمون بالتأكيد، وربما يتعاطون شيئاً ما لست أدريه .. عليك أن تبحث عن هذا، لكنني لن أقبل أن أستمع الى هذا الهراء مرة أخرى .. أخبرهم بكلامي هذا كي لا يتمادوا في أوهامهم، فينشروا هذه التُرّهات في كل مكان.
,
, لاذ عم منصور بالصمت ولم يعقب، كان يعلم أن الدكتور نعيم لن يقبل مناقشة هذا الأمر مادام قد رفض تصديق ماحدث من البداية .. لذا فلاطائل من مجادلته، كان هو شخصياً يؤمن بالعفاريت والجان .. ألم يقل **** في كتابة الحكيم "ويخلق ما لاتعلمون"
,
, إذا فلابد أن لله خلق كثير لا نعلم عنهم شيئاً ، بالرغم من أنهم قد يتواجدون حولنا دون أن نشعر بهم أو نراهم ..
,
, لذا اكتفى بهز رأسه، وقال باستسلام:
,
, -كما تشاء يا دكتور .
,
, -منصور .. لا يجب أن يعلم أحد بما حدث .. فمع بداية الأسبوع القادم سوف يبدأ الطلاب دروسهم العملية مع الجثث، ولا أريد أن تكون هناك بلبلة ما حول المشرحة.
,
, هز عم منصور رأسه موافقاً ، وأكمل الدكتور نعيم آمراً :
,
, -هناك شيء أخير .. لا أريد لأحد منكم أن يبيت بالمشرحة بمفرده بعد الآن .. ليتواجد اثنان منكم كل ليلة بالمشرحة .. سيكون هذا مؤقتاً حتى أتأكد أن تلك الأوهام لم تعد تحدث .. أخبر الآخرين بذلك، وابدءوا في تنفيذ هذا الأمر من الليلة.
,
, وتركه عم منصور ليخبر الباقيين بما جرى، وتناهى إلى مسامعه وهو يخرج من الباب ضحكة عصبية أطلقها الدكتور نعيم، هو يقول ساخراً :
,
, -عفاريت هاهنا بالمشرحة .. في المرة القادمه سيحدثونني ربما عن لعنة الفراعنة، أو مصاصي دماء يتحركون في الليل .. يالهم من رجال !.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١١


بدأ نظام المبيت الجديد في نفس الليلة .. واتفقوا أن يكون عم منصور ومتولي في الليلة الأولى ..
,
, لم يتذمر أحد منهم من الأيام الإضافية التي سوف يبيتونها في المشرحة .. فأمام ما يحدث خاف كل منهم مما جرى، وأخذ يبحث عن الصحبة في مواجهة أمر مبهم كهذا.
,
, وفي المساء جاء عم منصور مبكراً ، لم تكن الساعة قد تجاوزت السادسة حين كان بها، أخبره متولي أنه سيتأخر قليلا ؛ لينهي بعض أموره فلم يعترض .. وظل بمفرده بالحجرة راقدا على الفراش يدخن ويجرع أكواباً كثيرة من الشاي كعادته، ويسمع الراديو ، حتى جاء متولي حين قاربت الساعة العاشرة..
,
, كان قد جلب معه من بيته بعض الأواني التي تحوي أرزاً و "كوسة" مطبوخة ولحم .. شعر عم منصور بالدهشة الحقيقية، وهو يرى هذا الكرم الغير معتاد من متولي، وقد عهده بخيلاً.. وقال متولي بمرح ،وهو يفرغ ما تحويه الآنية في بعض الأطباق الموجودة بالحجرة :
,
, -لا أظن أنك تناولت طعاماً منزلياً منذ زمن طويل .. لذا قررت أن أذكرك به هذا اليوم ثانية .. أتمنى أن يعجبك.
,
, وابتسم عم منصور بامتنان، وهو يجلس على الأرض المكسوة بحصيرة قديمة .. كان ما قاله متولي صحيحاً تماماً .. فنادراً ما عاد يتمتع بمثل هذ الوجبات المعدّة في المنزل، منذ انتقل للعيش بالقاهرة .. كما أنه ليس بالطباخ الماهر، فكان يلجأ للوجبات الجاهزة الرخيصة؛ كي يسد رمقه .. وإكتفى بتناول الطعام المنزلي في الأجازات التي يعود فيها لبلدته.
,
, ففي كل عام، وبعد انتهاء الدراسة كان يغادر القاهرة لشهر كامل عائدا لبلدته بالمنيا .. فهناك أخوته البنات المتزوجات، اللاتي يتفنن حينها في إعداد كل ما يعلمن أنه يشتهيه من طعام، بل ويزودونه بالكثير منه قبل عودته للقاهرة، ليكفيه لبضعة أيام أخرى، قبل أن يعود ثانية للطعام الرديء الذي يشتريه.
,
, وقال وهو يلوك بفمه الطعام الشهي، وقد راقت له رائحته الذكية وطعمه الحلو:
,
, -يمكنك أن تشكر زوجتك من أجلي .. إنها بارعة في طهيها كثيراً .. أنت محظوظ في كل شيء يارجل.
,
, -بالهناء والشفاء ياعم منصور ..لكن أخبرني أيها الكهل .. لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟.. ألم تحاول أن تقترن بواحدة من قبل ؟..
,
, سؤال تكرر كثيراً على مسامعه، فضحك ببساطة، وأجاب بعد أن مضغ قطعة لحم كان يأكلها :
,
, -لأنه لاتوجد من تقبل أن تتزوج غولاً مثلس .. ألا ترى كيف أبدو يارجل .. إننى أبدو كالغول والعمالقة، والنساء يخشين من هو مثلس حتماً ،إلا لو كان بها عيب ما؛ لتقبلني من أجله، وهذا ما لن يروقني..إذاً فلا حاجة لي بهن ولاحظ لهن معي ..معادلة بسيطة ومريحه كما ترى..
,
, وضحك متولي بصورة صاخبة، وقال وهو يزدرد ملعقة من الأرز مخلوطة بصلصة الكوسة :
,
, -لو كانت هذه مشكلتك فلا مشكلة إذن .. اترك الأمر لي، وسأزوجك من ترضى بك هكذا .. انت تبالغ في النفور من نفسك كثيراً، والأمر لا يسير هكذا أبداً.
,
, -امرأة من طرفك أنت .. **** الغني يارجل .. لن يكون هذا أبداً.
,
, -إذا فأنت الذي لا يريد .. فكر في الأمر .. إن أمامي عروساً تناسبك، و أنا أجزم أنها سوف تروق لك كثيراً. إنها كاللوز المقشور.
,
, - ومن قال لك أني أريد الزواج. أو أفكر فيه .. إنني أحب حياتي هكذا ، ولا أرغب في تغييرها .. كما أنني لا أحب اللوز .
,
, - صدقني ياعم منصور، أنت مخطئ في تفكيرك هذا، وستندم حتماً حين يتقدم العمر بك، ولا تجد من يكون بجانبك حينها ليرعاك .. إننا نتزوج كي نجد من يؤنس وحدتنا، ثم ننجب الأبناء، كي ندخرهم إلى أن نحتاج اليهم في شيخوختنا وعجزنا.
,
, -حينها لن أعدم من يساعدني من أولاد الحلال .. إنهم في كل مكان فلا تقلق بشأني.
,
, وانتهيا من العشاء، فأشعل عم منصور سيجارة جديدة ، بينما قام متولي بجمع الأطباق ليغسلها .. وتولى عم منصور إعداد الشاي ..ثم إتجها بعدها للحديقة الخلفية ..
,
, حملا معهما الشيشة، وطبق فخاري مليء بالفحم المشتعل، وأكواب الشاي الأسود الشبيه بالحبر.
,
, ظلا يدخنان، ويثرثران حتى انتصف الليل ..فجمعا أغراضهما، وعادا ثانية للمشرحة استعداداً للنوم .. وقال عم منصور مقترحاً :
,
, -مارأيك لو فتشنا المكان قبل أن ننام؟..لا أريد أن نفاجأ بشئ ما.
,
, رحب متولي بالفكرة ،ففتشا المشرحة بأكملها ،لكنهما لم يعثرا على ماقد يريبهما ..أغلقا بعدها الباب الخارجي للمشرحة بإحكام، وكذلك باب حجرتيهما..ثم رقد عم منصور على الفراش الذي كان صغيراً لايتسع لكليهما معا ، بينما رقد متولي على حصيرة فرشها على الأرض.
,
, بعد ساعتين،شعر متولي بمثانته ممتلئة، فنهض واتجه إلى الحمام مترنحاً شبه نائم .. انتهى ،فعاد بعيون ناعسة شبه مغلقة ؛ليكتشف أن باب الحجرة مغلقاً .. أمسك مقبضه وأدراه ،ودفعه بقوة لكنه لم يتحرك ..
,
, هنا طار النوم من عينيه تماماً ،وهو يحاول دون جدوى فتح الباب الذي صمد أمام محاولاته ،ولم يهتز..وبينما راح يدفعه بعصبية، شعر بأن هناك من يراقبه من الخلف..
,
, كان إحساساً مبهماً لكنه استجاب له، والتفت بتوتر نحو البقعة المظلمة في نهاية رواق المشرحة ،كان هناك بالفعل من يقبع في الظلام منتصباً ، ساكناً دون حراك..
,
, كان هذا نهاية التوتر والتعقل ،وبداية الجنون عنده، فأطلق صرخات توقظ الموتى، وهو يستغيث وينادي عم منصور بهستريا ،ويداه تطرقان الباب ، وتحاولان فتحه بفزع وعنف، دون أن يفارق عينيه ذلك الشيء المتدثر بالظلام ..
,
, استيقظ عم منصور على صرخاته ،وكاد أن يتعثر ،وهو يندفع نحو الباب المغلق ليرى ما هنالك..فوجئ هو الآخر بالباب المغلق.. وحاول أن يفتحه فلم يفلح ،فتصلب أمامه يرمقه بحيرة ..
,
, كان المزلاج غير مغلق ..فكيف يقاوم ذلك الباب اللعين فتحه إذا ؟..
,
, بالخارج ارتفع عويل متولي وصرخاته ، وهو يتضرع إلى عم منصور ،ويرجوه أن يفتح له الباب ،فزاد عم منصور من محاولاته الشرسة كي يفتح الباب، وقد قرر أن يفتحه بأي طريقة حتى لو حطمه ..
,
, تراجع للخلف قبل أن يندفع نحو الباب بكتفه ليحطمه ..لم يتأثر الباب بمحاولته فتراجع ثانية ليعيد الكرة، وهو يصيح في متولي:
,
, - ماذا هناك يامتولي .. ما الذى يجري عندك ..لماذا تصرخ هكذا؟..
,
, بصعوبة فهم مايقوله متولي من بين صراخه الذي استمر صاخباً ليوقظ الموتى.
,
, -أنجدني ياعم منصور.. إنه هناك في الظلام..إنه ينظر إليّ ..افتح الباب أرجوك ،وانجدني..
,
, -من هذا يا متولي؟ ..لاتصمت يارجل ،وأجبني..تحدث،وأخبرني من هذا؟
,
, لكن متولي أخذ يصرخ دون أن يجيبه هذه المرة .. تحرك ذلك الشيء المخيف مغادراً ظلمته، وإتجه نحوه ..فانهار متولي برعب بجوار الباب يائساً من محاولة فتحه ، لكنه استمر يصرخ منادياً عم منصور سائلاً نجدته بيأس حقيقي ..
,
, توترت عضلات عم منصور أكثر وصرخات متولي الفزعة تصله عبر الباب المغلق دون أن يستطيع نجدته، ظل الباب صامداً كوتد مثبت بالصخر دون أن يتحرك قيد أنملة بالرغم من محاولاته الجدية لتحطيمه ،بدا كأن قوة شيطانية تتلبسه فتزيده صلابه ..
,
, فى النهايه تحول صراخ متولي لنحيب مكتوم ..أخذ يرتعد، وهو يلاحظ شبح ذلك الكائن يتقدم نحوه بإصرار وهدوء .. بدأت الدنيا في الإظلام أمام عينيه ..و دخل ذلك الشيء دائرة الضوء ،فعرف من يكون ..
,
, كانت فتاة .. الفتاة التى جلب جثتها منذ أيام ..لابد أن هذا شبحها وقد أتى لينتقم منه ..إنه وقت الحساب والإنتقام إذا ،فمرحبا بالفزع.
,
, ارتسمت ابتسامة ساخرة ،ومخيفة على شفتيها، وبدت عيناها متوهجتين مشتعلتين كجمرتين ،بينما تطاير من خلفها شعرها الأسود الطويل كأنما يحركه تيار خفي من الهواء للخلف ..وكانت تتحرك بانسيبابية غريبة كأنما تسبح في الهواء.
,
, أراد أن يصرخ فيها أن تبتعد عنه وتتركه ،لكن صوته خذله ، فلم يخرج من فمه إلا عواء غير مفهوم..وطمس الرعب حاسة الشم في أنفه، فلم يشم رائحة العطر الأنثوي الذي عبق شذاه الفراغ حوله..
,
, ظلت تقترب بتؤدة - تؤدة أي رزانة وتَأَنٍّ وتمهُّل تكلّم بكلِّ تُؤَدَةٍ ورويَّة - ورتابه حتى صارت أمامه تماماً ،وألجمه الرعب ،فأصابه شلل مؤقت فلم يتحرك ..هنا امتدت يدها نحوه ،وابتسامتها الساخرة المرتسمة على وجهها تزداد اتساعاً ، فلم تعد مراكز وعيه قادرة على إبقاءه يقظاً أطول من هذا الوقت ، ففقد الوعي ..
,
, في نفس اللحظة زالت مقاومة الباب فجأة أمام محاولات عم منصور المستميتة ،ففتح مرة واحدة كاد معها عم منصور أن يسقط أرضاً ..
,
, رأى حينها متولي راقداً أمام الباب شاحباً ، وفاقداً لوعيه.. فحصه بتوتر ، وهو يناديه، ويهز جسده بعنف ليفيق .. كانت أنفاس متولي ضعيفة مضطربة،وجبهته تتصبب عرقاً بارداً ،وجسده متخشباً.
,
, بعد لحظات استجاب متولي لمحاولات عم منصور الحثيثة لإفاقته ، ففتح عينيه ببطء .. ثم هزّ رأسه بعنف متلفتاً حوله كأنما يتيقن أن الخطر قد زال .. نظر بعدها إلى عم منصور ،ثم انهار مرة واحدة باكياً وهو يحتضنه..
,
, ساعده عم منصور كي ينهض ،ثم أرقده على الفراش ..وراقبه وهو يبكي، ويرتعد من الفزع الذي لاقاه منذ قليل .
,
, حاول عم منصور أن يخمن ما الذي شاهده متولي ،وأرعبه هكذا؟..ولم يرغب في أن يسأله الأن ،وهو يراه منهاراً أمامه هكذاً، فانتظر إلى أن يهدأ قليلاً من اضطرابه وبكائه.
,
, بعد فترة ليست بالقصيرة هدأ روعه..وبكلمات مضطربة متقطعه، حكى ماحدث ..
,
, أقسم بعدها ألا يكمل ليلته في هذا المكان، حتى لو كان في الأمر طرده من عمله و إقالته ..
,
, لذا فقد قررا أن يتركا المشرحة سوياً الآن ،ولتذهب كل الجثث التي بها إلى الجحيم ..
,
, قرر عم منصور أن يذهب في الصباح إلى الدكتور نعيم ليخبره ماحدث..ولو أراد حراسة المشرحة ؛فليبحث عن آخرين غيرهم ،فلن يجسر أيهم بعد الآن على المبيت ثانية بها مهما كان الوعيد أو الترغيب ..
,
, غادرا المشرحة لكنهما تركا الباب الخارجي دون أن يهتموا بغلقه.
,
, كان خطأ كبيراً ، أدركاه فيما بعد..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٢


في الصباح كانت هناك أسماء ..فتاة ذكية ..رقيقة.. وحالمة.
,
, كانت تحلم أن تغير في يوم من الأيام التاريخ الطبي ، حيناً باكتشاف عشرات الأمراض الجديدة ،وأحياناً أخرى باختراع عشرات العقاقير التي تشفي كل الأمراض، وخاصة البلهارسيا التي كانت تنهش أكباد المصرين وأبدانهم بوحشية في ذلك الوقت ..
,
, عشرات الأحلام التي تولد وتموت في كل لحظة، والكثير من النشاط غير المحدود ،وحماس بلاسقف يردعه ..كل هذا كان أسماء..
,
, تفوقت في دراستها ،وكان ترتيبها الأولى دائما .. علمت أن هذا ما كان عليها أن تفعله كي تصير في يوم من الأيام، الدكتورة أسماء كما تتمنى ..
,
, رقيقة دون ادعاء ..ملاك لايرى في الدنيا إلا الجمال فقط ..لاتفكر إلا في الحياة، ولاتعلم شيئاً عن الشيء المخيف الآخر المدعو الموت ..
,
, رقتها جعلتها في قلق دائم من أن تفشل أحلامها أمام خشيتها من الجثث ومن المشرحة ..هي التي لم تعتد أبداً أن تتعامل مع أي شيء يمت بصلة للموت ،صار عليها لو أردات أن تنجح ،وأن تتعلم كيف تتعامل مع الموتى بجرأة وشجاعة.
,
, كانت تموت هلعاً لو ألقى أخوها الصغير نحوها بصرصار ميت ..بل وكاد قلبها أن يتوقف يوماً ،حين اتجهت في منتصف الليل في أحد الأيام إلى الحمام لتطأ بقدميها العاريتين شيئاً ما.. نظرت إليه حينها،ولم تتبين ماهو في الضوء الشاحب ..وحين أضاءت مصباح الردهة ..اكتشفت ماهو ،فأطلقت صرخة مريعة قبل أن تفقد وعيها..
,
, لقد كان فأراً ميت ..
,
, كانت أمها قد وضعت من أجل اصطياده السم في بعض بواقي وجبة الدجاج التي التهموها ذلك اليوم، ولا بد أنه لم يدرك الشرك الذي نصب له فالتهم الطعام المسمم ؛ليموت على الفور..المشكلة أنه قد اختار المكان الخطأ ليموت فيه، فكادت أسماء أن ترقد بجواره ميتة من الرعب ..
,
, أيضا لم تنسَ كيف فارقها النوم لأيام عدة، حين ماتت جدتها ودخلت إلى حجرتها لتلقي عليها النظرة الأخيرة ..أصابها الهلع حين رأت كيف شحب وجه جدتها ،وتغضن وكساه لون أزرق مخيف ..ظل هذا الوجه يطاردها في أحلامها ،ولايفارق مخيلتها لزمن طويل بعدها..
,
, كانت طبيعتها تتصادم مع رغبتها في دراسة الطب ..حتى أن والدها حاول أن يثنيها برفق عن دراسة الطب ،ملوحاً لإمكانية أن تتجه لدراسة شيءآخر لا مكان فيه للدماء أو الموتى ..لكنها أصرت على دخول كلية الطب ، مؤكدة لنفسها ،ولكل من حولها أنها قوية ولن يرهبها شيء من هذا ..
,
, اليوم جاءت مبكرة ..وكان هذا هو يومها الثالث في الكلية ..في اليوم الأول لم يكن هناك شيء إلا محاضرة تعريفية بنظام الدراسة في الكلية ،وبالمواد المطلوبة منها ..يوم خفيف وهدوء ماقبل العاصفة.
,
, في اليوم الثاني كانت البداية المرعبة.. ثلاث محاضرات تمهيدية وثقيلة بحق للمواد الدراسية وباللغة الإنجليزية ..كانت هناك عشرات المصطلحات الغامضة التي لم تفهم منها شيئاً ..لكنها كانت متحمسة بالرغم من إحباط الكثيرين من حولها في نهاية اليوم ..
,
, كل شيء صعب في بدايته ،وسأعتاد هذا مع الوقت ..هكذا طمأنت نفسها..
,
, كانت الساعة الآن السابعة والنصف،ومازال الوقت مبكراً للغاية، فمحاضراتها لن تبدأ قبل التاسعة ..فبدت الكلية في حينها هادئة ومريحة بلاصخب أو زحام.
,
, كانت في قرارة نفسها قد قررت أن تواجه مخاوفها اليوم .. واتخذت قرار خطيراً..ستذهب اليوم إلى المشرحة !
,
, أخبرها بعض زملائها الأقدم سنّاً أن الجثث موجودة بها الآن بالفعل .. فقررت أن تكون مواجهتها الأولى مع الجثث بالمشرحة بمفردها..كانت ترغب في أن تختبر نفسها..هل سترتعد من مرآها؟.. أم ستحتمل الأمر ، ولن تخشاها؟..
,
, لم تكن ترغب في أن يكون أحد ما معها في مواجهتها الأولى هذه.. خشيت أن يصدر منها شيء ما، كأن تصرخ مثلاً أو تفقد وعيها فتصير أضحوكة بين زملائها ..
,
, لهذا لتكن مواجهتها الأولى بمفردها ،وليكن حينها ما يكون ..
,
, لهذا جاءت اليوم مبكرة ،واتجهت بخطوات مرتبكة إلى المكان الذي أخبروها أنه المشرحة ..
,
, من بعيد ،وقبل أن تصل إليها ،وصل لأنفها رائحة الفورمالين النفاذة .. فاضطرت أن تخرج منديلها وتغطي أنفها به.. بلغت الباب، ورمقت ببصرها اليافطة الخشبية المكتوب عليها (المشرحة) بانفعال وإثارة وتردد، قبل أن تمد يدها الرقيقة نحو الباب الزجاجي لتطرقه .. انتظرت للحظات أن يجيبها أحد ما.. وحين شعرت أن وقتاً طويلاً قد مر بعدما طرقت الباب ، دون أن يجيبها أحد، طرقت الباب مرة أخرى بقوة أكبر،وقد خشيت أن لايكون بها أحد ليدخلها ،فتنتهى مغامرتها قبل أن تبدأ..
,
, لاحظت أن الباب استجاب لطرقاتها هذه المرة فانزاح للداخل قليلاً ..دفعته برفق ففتح باتساعه أمامها كأنما يرحب بها ويدعوها لأن تدخل ..أدخلي يافتاة ..لا شيء بالداخل لتفزعي منه ..
,
, مدت رأسها للداخل فلم تر أحداً في الرواق الطويل .. استرقت السمع لبرهة فلم تسمع شيء.. هل يوجد أحد هنا ؟..
,
, دلفت بعدها المكان بتردد ورهبة فلم يقابلها أحد، لاحظت أن رائحة الفورمالين قد صارت أقوى الآن ،ومثيرة لأنفها ومقلتيها بعنف ،حتى أن عينيها أخذت تحرقانها بشدة ،وبدأت دمعات ساخنة في التسرب من محجريها.. انتهت الردهة التى تسير بداخلها إلى قاعة المشرحة ..كانت مضاءة بأضواء شاحبة لمصابيح نيون كساها الغبار ،ولاحظت أن نوافذها المرتفعة مغلقة ..تطلعت الى المناضد التى ترقد فوقها الجثث المغطاة أمامها، فارتجف قلبها للحظة ،وفكرت في التراجع ،وقد زاد السكون الذى يحيط بها في رفع توترها ..
,
, حاولت التماسك، فهمست لنفسها مشجعة ،ومغالبة رغبة هادرة بداخلها تدفعها للتراجع:
,
, -إما الآن وإما لا للأبد ..تقدمي يا أسماء ،ولاتكوني جبانة ..ستندمين للأبد لو تراجعت الآن.
,
, شعرت أن عبارتها لم تزدها شجاعة ،وأن قدميها قد التصقتا بالأرض أكثر الآن، دون أن تطاوعاها على التحرك للأمام خطوة واحدة..مرة أخرى حدثتها نفسها، وألحت عليها أن تعود أدراجها ،وأن تعاود الكرّ ة في وقت آخر ..ربما كان الأفضل لها أن تاتي بإحدى زميلاتها لتكون معها أول مرة ..إلا أن صوت عنادها اندفع من أعماقها صائحاً فيها بغضب :
,
, -مما تخافين يابلهاء إنها مجرد جثث ..ماهم إلا بشر نائمون كما يقول بابا..تقدمي الآن أو اعترفي لنفسك أنك جبانة وضعيفة.
,
, استجمعت شجاعتها ،ودفعت قدميها الملتصقتين بالأرض بإصرار للأمام دفعاُ ..واتجهت بخطوات مترددة إلى أقرب الجثث إليها ،ثم توقفت أمامها لأكثر من دقيقة محبوسة الأنفاس من الإثارة والترقب، وبأصابع رقيقة متوترة ومرتجفة، مدت يدها إلى الغطاء الذى يغطي الجثة، ثم ببطء شديد بدأت ترفعهُ وتزيحه عن الجسد المسجى أمامها..
,
, كانت متوترة للغاية، وراح قلبها ينتفض بعنف، وشغف في قفصه الصدري ، وهي تنظر الى الجثة ..لدهشتها كانت جثة فتاة شابة..بل وكانت فتاة جميلة للغاية ..لاحظت أن لونها لم يكن يشبه كثيراً لون جدتها القاتم الذي رأته على وجهها حين ماتت..كان وجه الفتاة أمامها مازال محتفظا بنضارته ، وإن شابه بعض الشحوب ..
,
, كان وجه فتاة نائمة لا أكثر ..أهكذا نصير حين نموت؟ ..
,
, تأملت جمالها المبهر فشعرت بالأسى من أجلها ..كان وجه هذه الفتاة يشي بأنها لا تكبرها إلا بأعوام قليلة ..لابد أنها امتلكت في يوم من الأيام أحلاماً كأحلامها ،هل ياترى حققت بعض أحلامها ،أم أن الموت قد فاجأها قبل أن تفعل ..شعرت بالشفقة عليها ؛لأنها أتت إلى هنا لينتهي بها الحال ممزقة مشوهة تتناقلها عشرات الأيدي، وتعبث بجسدها مئات الشفرات الحادة .. تخيلت نفسها مكانها ..بالتأكيد لم تتمن أن يصير هذا مصير جسدها لو ماتت فجأة ..كان مصيراً مؤلماً ..ما الذى أتى بهذه الفتاة إلى هنا ياترى ؟!..تمنت لو تعرف.
,
, تذكرت فجأة ما أخبرها زملاؤها القدامى أن الجثث تكتسب لوناً بنياً باهتاً كأوراق الصناديق الكارتونية، نظراً لحفظها بالفورمالين ..لم يشبه وجه هذه الفتاة الصور التي تخيلتها للجثث المحفوظة ..ربما لم يَعْدُوها بعد؟ .. وجدت نفسها تتحمس أكثر ،فمدت يدها إلى وجه الفتاة لتلمسه ..
,
, كانت ترغب في أن تقتل الخوف بداخلها من مرأى وملمس الجثث .. وجدت نفسها تغمض عينيها بقوة، ويدها تمتد نحو وجه الفتاة الميتة لتلمسه..شعرت يداها بملمس الجلد الناعم ..كان لايخلتف كثيرا في ملمسه عن ملمس بشرتها ..وكان الجلد دافئا ..
,
, وحين فتحت عينيها ،وجدت أن العالم قد تغير تماماً عما قبل .. كانت الجثة التي أمامها قد فتحت عينيها ،وراحت ترمقها بثبات وابتسامة ساخرة تتلاعب على شفتيها ..
,
, كانت أسماء فتاة رقيقة ..وكان من الصعب أن يحتمل قلبها الصغير شيئاً كهذا أبدا ؛فتوقف لأول مرة عن القيام بواجبه الأزلي ولم يعد يدق ، ولم تشعر بعدها بأي شيء ..
,
, وكان هذا من حسن حظها !
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٣


فتح عبد الدايم المشرحة في الصباح ،وبينما كان يبحث بقلق عن زملائه بها اكتشف جثة أسماء ..وفي أقل من الساعة امتلأت المشرحة بالعشرات من رجال الشرطة بأزيائهم المميزة ،وخبراء المعمل الجنائي بحثاً عن دليل ما يرشدهم للفاعل..
,
, كان هناك عميد الكلية ووكيلاه، وبالطبع كان معهم الدكتور نعيم ،وبعض أساتذة القسم، وبعض أساتذة الأقسام الأخرى وقد ألهب الحادث فضولهم..
,
, طالبة بالفرقة الأولى تُقْتَل بالمشرحة ..
,
, كانت التفاصيل محيرة ومبهمة ومثيرة ..وجد عبد الدايم جثتها على أحد مناضد المشرحة، وكانت بكامل ثيابها ..لكن المخيف هاهنا أن جلدها قد اكتسب اللون البني المميز للجثث المحفوظة ،وقد تصاعدت منها رائحة الفورمالين قوية طازجة تماماً ..
,
, انهمك رئيس المباحث في حوار جانبي في أحد الأركان مع عبد الدايم وجمال ، بينما انهمك خبراء البحث الجنائي في رفع البصمات ،والبحث عن أي أدلة قد تكون مفيدة لكشف غموض القضية ..وحول الجثة انهمك الطبيب الشرعي هو الآخر في فحص الجثة ،ويشاركه في هذا الدكتور محمود عبدالفتاح رئيس قسم الطب الشرعي بالكلية ..
,
, بدأ الاثنان في إجراءات الفحص الظاهري المبدئي على الجثة قبل أن يقول الطبيب الشرعي -الدكتور هشام -للدكتور محمود بتوتر وهو ينتصب قائماً لِيُعَدّل من وضع نظارته:
,
, -لا أفهم أى شيء في هذه الجثة .. إنها محيرة بحق.
,
, أجابه الدكتور محمود بتؤدة ، ووقار وهو يفحص بمثابرة يدي الفتاة وذراعيها :
,
, -أرى ألا نتعجل في إبداء آرائنا الآن..مازال أمامنا وقت طويل قبل أن يطالبنا أحد بتفسير ما حدث مع هذه المسكينة..الأمر لم ينته بعد تنهد الدكتور هشام بحيرة ،وغمغم، وهو يشبك أصابعه أمامه :
,
, -إنها مسكينة بالفعل ..مسكينة ومحيرة ..لا آثار عنف أو مقاومة ظاهرة على جسدها ..لا إصابات ظاهرة ..لا كدمات بأي مكان .. كافة الأوردة والشرايين الظاهرية سليمة ،إذن كيف تم حقنها بكل هذا الفورمالين ،ومتى وجد القاتل الوقت الكافي ليفعل ذلك؟..
,
, هنا أعاد الدكتور محمود ذراعي الفتاة إلى مكانهما برفق، ثم نهض ،وقال :
,
, -أظن أن اكتشاف سر تلك الألغاز التى طرحتها الأن يحتاج منا إجراءات دقيقة أثناء التشريح ..ولهذا أرجو ألايضايقك أن أتقدم بطلب رسمي للمشاركة في إجراءات تشريحها.
,
, أجابه الطبيب الشرعي على الفور :
,
, - ولماذا يضايقني مشاركتك يا دكتور محمود ..إن معاونتك لي في قضية كهذه مفيد للغاية ..أنت أحد العلماء القليلين في مجالنا هذا ،ويشرفني دوماً أن أعمل معك .
,
, ارتسمت ابتسامة مريحة ،ممتنة على وجه الدكتور محمود وغمغم بتواضع :
,
, -أرجو ألا تعد الأمر تشكيكاً في قدراتك - حاشا لله - إنه الفضول العلمي لا أكثر، بالإضافة لكون الفقيدة إحدى طالباتنا. إنني أريد أن أعلم كيف، ومتى ،ولماذا تم حقن هذه الفتاة بالفورمالين ؟..هناك هاجس بداخلي يصر أن مقتل هذه الفتاة ليس جريمة قتل بسيطة..أشعر أن هناك شيئاً أكبر يختفي خلف قتل هذه الفتاة .
,
, حينئذ اقترب الدكتور نعيم منهماً ،كان منزعجاً بشدة ،وقال وهو ينفث دخان سيجارة بعصبية واضحة لم يستطع كتمانها:
,
, - هل توصلتم لشيء ما ؟
,
, أجابه الدكتور محمود :
,
, -ليس بعد.. فكما ترى لا آثار عنف ظاهرة، ولاسبب مباشر للوفاة..مازال علينا أن نقوم بالتشريح ،لنرى إن كان هناك تلف داخلى أم لا ..كما أن علينا ألا ننسى المخدرات والسموم وغيرها .. ولهذا أخشى أننا لن نصل لشيء ما، قبل أن نتنهي من عملية تشريحها ،وفحص أنسجتها وتحليل مكوناتها ودمائها..الامر ليس واضحاً او بسيطاً أبداً هذه المره.
,
, - وماذا عن الفورمالين ..هل عرفتم كيف تم حقنها به هكذا؟
,
, -ليس لدي إجابه لسؤالك هذا في هذه اللحظة ،لكننا حتما سنعرف.. اطمئن يا دكتور نعيم..إنها مسألة وقت لاأكثر .
,
, زادت تلك الإجابات المبهمة من توتره ،فابتعد دون أن يعقب وظل ينفث دخانه بعصبية، وهو يتمتم بحنق وصوت خافت:
,
, -طالبة تُقْتَل في المشرحة ..كأن هذا ماكان ينقصنا !..ياله من عام !
,
, فوجئ بعميد الكلية يتجه نحوه مع مفتش المباحث ،ووكيل النيابة الشاب الذي وصل لتوه هو الآخر ،وقال العميد بعد أن قدمهم لبعضهم البعض :
,
, -لقد اتفقنا جميعا على كتمان الأمر عن الجميع ،وبخاصة الطلاب والصحافة ..لانريد أن نثير الذعر في نفوس الطلاب أو أهاليهم..كما لانريد أن تصيب الكلية تلك الفرقعات الإعلامية للصحفيين..
,
, هزّ الدكتور نعيم رأسه متفهماً ، وهو يقول:
,
, -إن هذا أفضل حتماً ..حسنا فعلتم.
,
, هنا قال وكيل النيابة الشاب موجهاً سؤاله للدكتور نعيم وعيناه الضيقتان النافذتان لاتكفان عن التنقل، والبحث في كل مكان بالمشرحة :
,
, -أخبرني يادكتور نعيم ..من كان أول من اكتشف الجثة ؟
,
, أجاب الدكتور نعيم ،وهو يشير بيده نحو عبد الدايم الذي انكمش في أحد الأركان مذهولاً قلقاً ،بصحبة جمال وهما يراقبان مايجري حولهما بتوجس وترقب:
,
, - إنه عبد الدايم أحد عمال المشرحة هاهنا ..لقد وجدها في الصباح.
,
, -وكيف علمتم أن الجثة لإحدى طالبات الكلية ؟..
,
, -لقد وجدنا حقيبتها بجوارها ،وحين فتشناها عثرنا على بطاقتها الشخصيه ، وبطاقة التحاقها بالكلية ..كانت هناك بعد الصور الفوتوغرافية لها .. أترغب في التحدث إلى عبد الدايم؛ ليقص عليك بنفسه ماحدث؟
,
, -لا داعي لهذا الآن..سيتم التحقيق مع الجميع في النيابة فيما بعد.. قالها باقتضاب، ثم التفت إلى رئيس المباحث، وسأله :
,
, -هل انتهى رجال المعمل الجنائي من عملهم هاهنا.
,
, لاحظ رئيس المباحث بعض التراخي في رجال البحث الجنائي مما يوحي بأنهم قد إنتهوا من عملهم ،فغمغم وهو يهز رأسه الضخم:
,
, -أظن أنهم قد انتهوا الآن ؟..
,
, -وماذا عن سبب الوفاة ..هل علمتم كيف قتلت تلك الفتاة ؟..
,
, -لقد تحدث إليّ الدكتور هشام – طبيبنا الشرعي – في هذا منذ لحظات ، وقد أخبرني أنه لايعلم سبب الوفاة حتى الآن ..أظن أنه سيؤجل إجابته لحين انتهائه من تشريح الجثة.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه بحركات مبهمة قبل أن يلتفت نحو الدكتور نعيم الذي كان يراقب مايحدث بضيق وعصبية ،وقال له:
,
, -أخبرني يادكتور نعيم ..لماذا برأيك تم حقن هذه الجثة بالفورمالين ..هل تظن أن القاتل قد رغب في إخفاء أدلة ما بفعله هذا .
,
, أجاب الدكتور نعيم، وهو يهز كتفيه بحيرة :
,
, -وما أدراني ؟.. إنني لم أقابل شيئا كهذا في حياتي كلها ..ربما كان مختلاً ولهذا فعل ذلك ..لكن كيف فعلها ،ومتى وجد الوقت المناسب لذلك فهذا مايحيرنى للغاية..إن حقن الجثث بالفورمالين أمر ليس بالهين ويحتاح للجهد والوقت.
,
, -وهل يمكن لشخص واحد أن يقوم بالامر بمفرده دون معاونة ما؟..
,
, -هذا ممكن بالطبع ،لكن سيتطلب هذا منه الكثير من الوقت..هناك إجراءات لابد أن تتبع وهناك الجهد وهناك الوقت ..إنه أمر صعب لو شئت رأيي.
,
, رمقه وكيل النيابهة الشاب محاولاً استيعاب الإجابة ،وخيم الصمت بينهم ، وساد سكون غريب في أرجاء المشرحة كلها، كأنما اتفق الجميع على السكوت ،وكل منهم يسبح في خواطره..قبل أن يعاود وكيل النيابة حديثه إلى رئيس المباحث الضخم الجثة :
,
, -هل بعثتم يا محمد - رئيس المباحث - من يخبر أهلها ويأتي بهم ؟
,
, -لقد أرسلنا إليهم بالفعل أحد أمناء الشرطة بإحدى سياراتنا لجلبهم إلى هنا..مازال علينا ان نعرف منهم الكثير من الأشياء الغامضة أهمها متى أتت الى الكلية ،هل أتت هذا الصباح ،أم كانت هاهنا منذ الأمس؟..
,
, - حسنا ..أرى أن تجري تحرياتك لتعلم إن كان لتلك الطالبة أصدقاء هاهنا أم لا؟..ومن هم لو وجدوا؟ ..وهل كان بصحبتها أحد ما حين أتت إلى هنا أم كانت بمفردها ..ولاتنسَ أن تتحرى عن عمال المشرحة جميعهم، ولتنظر إن كان هناك مايريب في أحدهم أم لا؟.
,
, أومأ رئيس المباحث محمد وهدان برأسه ،وهو يغمغم:
,
, -سأتأكد من تنفيذ هذا يا وائل بك.
,
, تحرك وكيل النيابة بعدها في أرجاء المشرحة مرة أخرى، وأخذ يطالع الجثث الراقدة على مناضدها، وهو يغالب الغثيان الذي يسببه له رائحة الفورمالين ، وحاول بعقله رسم تصور مقبول لما جرى ..لكنه فشل ..فالمكان بالرغم من كل الأشخاص الموجودين به، يبدو بريئاً تماماً ولا شيء في غير موضعه ..
,
, وجد نفسه يتساءل إن كانت الفتاة قد قتلت في مكان آخر ،ثم قام القاتل بجلبها للمشرحة بعد ذلك ،كان احتمالاً قائماً ..خطر بباله شيء ما ،فعاد إلى الدكتور نعيم وسأله:
,
, -هل تدري يادكتور ،لماذا جاءت تلك الفتاة بمفردها إلى المشرحة؟
,
, -لا أدري..أنت تعلم الطلاب ،وشططهم وإندفاعهم..لا أحد يعلم أبداً ما الذى يدور برءوسهم..ربما أردات أن ترى الجثث ..أو ربما راهنت شخص ما على أن تدخل المشرحة بمفردها إثباتاً لشجاعتها ..إننا دوماً نقابل من الطلاب أشياء مثل هذه.
,
, -وهل اعتدتم ترك المشرحة مفتوحة دون أحد ما يحرسها ليدلفها من يشاء.
,
, - كلا بالطبع ..ففي كل ليلة على أحد العمال المبيت بها، انتبه وكيل النيابة بشدة لما ذكره الدكتور نعيم ،فقال باهتمام:
,
, -و منْ مِنْ العمال كان هاهنا بالأمس ؟
,
, شعر الدكتور نعيم بالتوتر يتصاعد في جوفه، فتنهد بقوة وأجاب ببطء:
,
, -المفترض أن كبير العمال، ويدعى منصور، وعامل آخر يدعى متولي ،هما من كانا بالمشرحة بالأمس.
,
, -وأين هم الآن..إنني لم أرى أي منهما هاهنا.
,
, -لست أدري .. فحين جئنا إلى هنا لم يكونا بالمشرحة..لقد ذكر عبد الدايم أنه وجد باب المشرحة مفتوحاً ،ولم يعثر علي أيهما حين أتى في الصباح.
,
, التمعت عينا وكيل النيابة الشاب ، وغمغم لنفسه ببطء:
,
, -إن هذا يغير الأمر تماماً ..يجب أن نعلم أين هما الآن ؟
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٤


شعر عبد الدايم أن ساقيه عاجزتان عن حمله ،فاستند بيده على الحائط المجاور له كي لا يسقط، كان يخشى دائماً كل ما يمت للسلطة بصلة ، وكان يهاب الشرطة بشدة.. خشى أن يتم توريطه بصورة ما في جريمة القتل هذه ..وظلت الأفكار السوداء تراوده ،بينما كان يقف في الردهة الطويلة لمبنى النيابة في انتظار الإدلاء بأقوله في جريمة قتل الطالبة ..
,
, انتبه إلى صوت يناديه باسمه ..كان الجندي الواقف على باب وكيل النيابة يدعوه للدخول ، فتحرك بأ قدام لينة كأعواد المكرونة نحو الحجرة..
,
, لم يدعوه وكيل النيابة للجلوس ،بل تركه واقفاً ، وعيناه الضيقتان الحادتان ترمقانه بنظرات نافذة حادّة، لدقيقة أو أكثر ،ثم إلتقط سيجارة من علبة كانت أمامه على المكتب ،وأشعلها بولاعة أنيقة ،ثم بدأ ينفث دخانها ببطء دون أن يرفع عينيه عنه ..
,
, تصاعد التوتر بداخل عبد الدايم حتى أن حبّات من العرق البارد بدأت في الاحتشاد على جبينه..هل يقصد وكيل النيابة أن يحطم أعصابه بصمته الطويل هذا ،ونظراته المليئة بالاتهام ؟ ..لو أن هذا مأربه، فقد نجح.
,
, في النهاية بدأ وكيل النيابة في توجيه الأسئلة ..بدأ بأسئلة روتينية عن اسمه، ومحل إقامته وعن عمله بالمشرحة وغيرها ..أخذ عبد الدايم يجيب عليه بثبات محاولاً ألا يتلعثم ، أو يرتبك..
,
, لايجب أن يبدو مضطرباً أو مريباً في إجاباته .. وإلا شكوا فيه وارتابوا في أمره٣ نقطة
,
, بعد ذلك سأله وكيل النيابة :
,
, -حسناً ؟ أخبرني الآن كيف اكتشفت الجثة ومتى ؟
,
, ابتلع عبد الدايم ريقه بسرعة ،وقد شعر أن مرحلة الأسئلة الصعبة قد حانت؛ فأجاب محاولاً أن يكون دقيقاً ومحدداً :
,
, - لقد حدث هذا في الصباح ..كانت الساعة الثامنة تقريباً ..وصلت للمشرحة ،ووجدت بابها مفتوحاً ..اتجهت في البداية إلى حجرتنا ،فلم أجد بها عم منصور أو متولي ، توقعت أن يكونا بالداخل لشأن ما، فاتجهت لقاعة التشريح ، وهناك رأيت جثة الفتاة راقدة على إحدى طاولات التشريح..كانت على أول طاولة في قاعة التشريح ولم يكن فوقها ملاءة أو غطاء ما ..لقد كانت واضحة تماماً ولم يكن من العسير ألا ألحظها.
,
, -ألم تشكّ أنها إحدى جثث المشرحة وخاصة انها كانت محفوظة بالفورمالين ولاتختلف كثيراً عن باقي الجثث التي حولها؟
,
, -لم يكن هذا ممكناً ..أنا اعرف الجثث الخمس الموجودة بالمشرحة ..كما أنّ هذه الجثة كانت مازالت بكامل ملابسها والجثث الأخرى عارية تماماً ..كان من العسير أن أخطأها،وألا أدرك أنها لاتنتمي للمكان.
,
, -وهل لاحظت حينها أي شيء غير طبيعي في المشرحة، شيئ ما في غير مكانه مثلاً..أشياء مبعثرة بجوار الجثة..أتذكر شيء من هذا
,
, -لا ..لقد كان كل شيء في مكانه ..الشيء الوحيد الغريب هو تلك الفتاة .. أقصد جثتها..كانت على طاولة المفترض أنها كانت فارغة .
,
, -وماذا عن جثة الفتاة محفوظة بالفورمالين ،هل وجدت بجوار الجثة أي شيء يدل على حقنها بالفورمالين..محاقن مثلاً ..آنية ..سوائل ..أشياء كهذه.
,
, حاول عبد الدايم أن يتذكر..كانت ذاكرته قوية منظمة طالما إفتخر بها..كان من اليسير عليه أن يتذكر أي شيء حدث له ،حتى لو كان هذا منذ زمن بعيد ،ولهذا استطاع أن يستحضر بسهولة من ذاكرته، كيف وجد الفتاة ..لم يكن بجوارها أي شيء فقال بعدها واثقاً :
,
, -كلا ..لم يكن هناك شيء من هذا..كانت تلك الجثة راقدة على المنضدة ..ولاشيء بجوارها على الإطلاق.
,
, -وماذا فعلت حين وجدت الجثة ؟
,
, -أسرعت حينها إلى أمن الكلية لأخبره ،كي يتصل بالشرطة،واتصلت بالدكتور نعيم لأخبره.
,
, هزّ وكيل النيابة رأسه بتفهم، وصمت للحظات أخذ خلالها يعبث في ولاعة سجائره دون أن يخفض عينيه عن عبد الدايم الذي أخذ يتحاشى نظراته .. بعد هنيهة عاد وكيل النيابة لأسئلته وهو يقرأ إسمين من ورقه أمامه :
,
, -لقد ذكرت أن منصور ،ومتولي لم يكونا بالمشرحة حين أتيت ..أكان طبيعياً أن يغادرا المشرحة، ويتركانها مفتوحة هكذا ؟
,
, -الطبيعي ألا نغادر المشرحة قبل أن نتأكد من إحكام إغلاقها .. وكان من المفترض أن يكونا بالداخل حين ذهبت ..لقد قضيا ليلتهما بها ليحرسانها ، لكني لم أجدهما حين جئتها..
,
, -إذا فقد تركا المشرحة قبل أن تأتي ،ولابد أن سبباً ما قد دفعهم لذلك .. برأيك ماذا قد يكون قد حدث؟.
,
, -لست أدري ..
,
, صمت وكيل النيابة مرة أخرى ،واستمر بالعبث بالولاعة الحديدية لفترة ،ثم نظر إلى عيني عبد الدايم مباشرة ،وقال ببطء:
,
, -في الآونة الأخيرة هل حدث شيء ما غير طبيعي بالمشرحة، لك أو لأحد زملائك ..هل لاحظت أمراً ما غير طبيعي في المشرحة ،أو رأيت غريباً ما يحوم حول المشرحة.
,
, هنا ارتفعت نبضات قلبه أكثر ..تردد عبد الدايم للحظة، وفكر ..هل يخبره ماحدث له بالمشرحة، أم يكتمه في نفسه.. لكنه في النهاية حسم أمره، وقصّ عليه ماحدث له.
,
, ارتسمت ابتسامة استخفاف على وجه وكيل النيابة ،وقال ساخراً :
,
, - لقد أفدتنا كثيراً ياعبد الدايم بقصتك هذه ..على العموم إننا نتوقع منك أن تبادر بإبلاغنا بأي شيء تراه أو تسمعه ،وتظن أنه قد يفيدنا في هذه القضية ..أليس كذلك؟ وعده أن يفعل ،ولأنه لم يكن هناك ما يدينه فقد أمر وكيل النيابة ،بإخلاء سبيله..
,
, بعدها تم التحقيق مع حارسي أمن البوابة ..لم يضيفا الكثير ،فقط ذكر الأول أنها قد أتت في الصباح بعد السابعة بقليل وذكر الآخر، وكان هو المسؤول عن الباب الخلفي للكلية، أشار إلى أن عم منصور ومتولي قد غادرا الكلية بعد **** الفجر مباشرة ،ولم يرهما يعودان مرة أخرى..وأضاف الحارس أنهما بديا في عجلة من أمرهما، وكانا مرتبكين للغاية ؛بدت المعلومة مهمة وخطيرة ، فوجد نفسه يفكر إن كان منصور ومتولي قد فعلاها..أم أن هناك أمرا آخر قد دفعهما إلى ترك المشرحة في وقت مبكر كهذا ..
,
, انتبه للرائد محمد وهدان الذي دخل عليه في تلك اللحظة .. رحب به، و أشار إليه بالجلوس ،وهو يقول له:
,
, -أتمنى أن يكون الحظ قد حالفك، وتوصلت إلى شيء ما.
,
, أجاب الرائد محمد بإجهاد وإبتسامة باهته تزين شفتيه:
,
, -لا شيء على الاطلاق..لا أصدقاء لها بالكليه ..وقد تعرف عليها حارس الأمن بالكلية حين عرضت عليه صورتها ،وأخبرني أنها كانت أول من أتى في الصباح من الطلاب ..كان هذا بين السابعة والسابعة والنصف صباحاً تقريباً.
,
, -لقد اخبرني بهذا بالفعل ،والجريمة قد اكتشفت في حوالي الثامنة ..إذن فقد تمت الجريمة في مدة لاتتجاوز النصف ساعة ..ألاتجد أن هذا عسير التصديق.
,
, -إنه كذلك بالفعل..إننا نتحدث عن جريمة قتل ،يقوم فيها القاتل بحفظ الجثة بالفورمالين بعد قتلها ،ويقوم بعدها بإزالة آثار الجريمة، ثم يعيد كل شيء كما كان في المكان.. من المستحيل أن تتم جريمة كهذا مهما كانت مهارة القاتل، أو حتى عددهم لو كانوا عدة أشخاص في نصف الساعة..أمر كهذا بحاجة لعدة ساعات على الأقل كي يتم بهذه الصورة التي رأيناها.
,
, -إنه أمر محير بالفعل..و واجبنا ان نكشف سر كل هذا الغموض.
,
, قالها وكيل النيابة بإحباط،وخيّم الصمت للحظات بينهما،بعدها عاد ليقول :
,
, -وماذا عن أهل الفتاة ؟..هل أخبروك بشيء ما قد يفيدنا ؟..
,
, -حالهم في منتهى السوء ..الأم منهارة للغاية ،والأب كذلك ، إلا إنني استطعت التحدث إليه.
,
, رمقه وكيل النيابة الشاب باهتمام وانتظر أن يكمل،فاستطرد الرائد محمد:
,
, -هو يؤكد أن ابنته قد غادرت المنزل في السادسة والنصف بصحبته ، حيث يقوم بتوصيلها بسيارته إلى الكلية كل يوم ، وقد وصلوا إلى الكلية قبل السابعة بدقائق ،فتركها أمام باب الكلية قبل أن ينصرف.
,
, -إن هذا يؤكد رواية الشهود ،ويؤكد توقيتنا المحدد للجريمة ..لكن ألم يخبرك لماذا جاءت مبكرة هذا اليوم؟.
,
, -يظن أنها ربما أرادت حجز مقعد في الصفوف الأمامية في مدرج المحاضرات.. لقد أخبرته قبلها أن المدرج يكون مزدحماً للغاية ويجب أن يأتي الطالب الذي يبغي مقعداً متقدماً مبكراً قليلاً.
,
, -هذا محتمل .. لكن علينا أن نعلم هل ذهبت إلى المشرحة من تلقاء نفسها أم أن هناك من دفعها لذلك ..ألم تعلم منه إن كان يشك في أحد ما قد يفعل هذا ..أو اعداء له قد يقومون بأمر كهذا ؟..
,
, -إنه لايصدق أن هذا قد حدث لإبنته..إنه لايتهم أحداً وذكر مراراً أنه لا أعداء له ..
,
, - وماذا عن عاملا المشرحة اللذين غادراها دون سبب مقنع تلك الليلة .. ألم تصلوا إليهما بعد؟
,
, -هناك من ذهب لإحضارهما ..لكن هل تعتقد أنهما قد يكونا الفاعلين؟
,
, -لقد غادرا المشرحة قبل حدوث الجريمة بوقت طويل، وهذا يبعد الشبهة عنهما..لكني أظن أن لديهما ما قد يفيدنا في قضيتنا هذه ..عليهما أن يفسرا لنا لماذا غادرا المشرحة هكذا وكأنهما يفران من شيء ما بِهِمَا ..ربما رأيا شيئاً ما قد يفيدنا أن نعلمه في قضيتنا تلك ..
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٥


"هذا عجيب .."
,
, هتف بها الدكتور هشام ، وهو يتطلع إلى جثة الطالبة التي يقوم بتشريحها بمعاونة الدكتور محمود ، ثم أشار إلى الجثة بتوتر ،وهو يقول:
,
, -هذه أول مرة أرى شيئاً كهذا في حياتي..لا نقطة ددمم واحدة في العروق.. كيف يمكن أن يحدث شيء كهذا ..هذا مستحيل تماماً.
,
, كانا يدركان أنه من المستحيل أن تخلو جثة ما تماماً من الدماء .. فلابد أن تتبقى كمية ما من الدماء في الجثة مهما كان ماتعرضت له من أذى ..فحتى لو قمت بتمزيق الجثة إرباً فهناك دوما دماء باقية في نسيج أو تجويف أو عرق ما.. عقد الدكتور محمود كلتا يديه خلف ظهره، وهو يقول :
,
, -السؤال الذي يجب أن نجيب عليه هو أين ذهبت دماء الفتاة؟! ..لاثقوب خارجية ..لا إصابات أو كدمات بأي مكان بجسدها..جميع الأوردة والشرايين السطحية سليمة ..إذن كيف فقدت دماءها؟
,
, غمغم الدكتور هشام بصوت خفيض ؛ربما خشية أن يبدو رأيه سطحياً أمام أستاذه:
,
, -ربما كان هناك نزيف داخلي بداخل أحشائها ؟..
,
, تطلع إليه الدكتور محمود للحظة قبل أن يهز رأسه نافياً :
,
, -لايوجد نزيف داخلي يفعل شيئاً كهذا .. أي نزيف داخلي هذا الذي لم يترك قطرة ددمم واحدة في عروق الفتاة؟..فحتى لو انفجر الشريان الأورطي ،وتمزق تماماً ، وأفرغ كل دمائه بأحشائها، سيبقى بعض الدماء بالأنسجة والشرايين ..الأمر يبدو هاهنا، وكأنما امتصت دماءها تماماً.
,
, تطلع إليه د.هشام بفضول وحيرة،وغمغم بحذر:
,
, -ألاتوجد سابقة لشيء كهذا؟
,
, -لوكانت هناك سابقة لجثة تخلو من الدماء، فإنني أجزم أننى لم أسمع عنها ..أن يفقد الإنسان كل دمائه ،أمر لم نسمع عنها إلا في قصص مصاصي الدماء الخرافية..وأرجو ألانضطر في النهاية لإتهام مصاص دماء بفعل هذا معها.
,
, ابتسم الدكتور هشام لطرافة التعليق ،وقد تخيل أن يكتب تقريراً رسمياً يجعل فيه القاتل مصاص دماء ، فقال مازحاً محاولاً تبديد بعض التوتر الذي يعصف بهما:
,
, -ربما نلجأ لهذا التفسير في النهاية، لو عجزنا عن الإجابة عن الألغاز التى تتعلق بهذه الفتاة.
,
, هزّ الدكتور محمود كتفيه ،وهو يقول برصانة دون أن يلتفت لما في الأمر من دعابة:
,
, -حتى لو كان من أحدث هذا مصاص دماء، فأين آثار أنيابه على جلدها ..إن عملنا قائم على العلم والأدلة والبراهين ،ولو قدمت لهم احتمالاً كهذا، عليك قبلها أن تخبرهم من أي وعاء دموي امتصّت دماؤها ،كما أن عليك أن تجيب عن سؤال آخر مهم للغاية..
,
, رمقه الدكتور هشام بترقب، واهتمام ،وهو يعدل من وضع نظارته الطبية فأكمل :
,
, -كيف تم حقن أوردتها بالفورماليين دون أن نجد أثراً واحدا لذلك المحقن.
,
, جالت عينا الدكتور هشام على الجثة صامتا ..لم يكن يملك إجابة لتساؤلاته، وإن كان قد شعر بالارتياح لوجود الدكتور محمود معه ..تخيل كل هذه الأسئلة التي عليه أن يجيب عليها ، وماذا سيفعل لو لم يكن الدكتور محمود معه ..
,
, أخرجه الدكتور محمود من خواطره، وهو يلتقط أحد أدوات الجراحة بيده ،وينحني نحو جثة الفتاة قائلاً :
,
, -إذن هيا بنا نكمل عملنا ،فربما وصلنا إلى إجابات لحيرتنا هذه..
 
١٦


في اليوم التالي جلس الدكتور نعيم على مكتبه شارداً مكتئباً .هل يتحول عامه الأول كرئيس لقسم التشريح بالكلية إلى كابوس وفشل ..في البدايه كان عدد غير كافي من الجثث ..بعدها أحداث غريبة تجري في المشرحة لأول مرة ..والآن هناك طالبة تُقتَل بصورة غامضة بالمشرحة ،ومازالت عجلة الألغاز تدور وتمرح بلانهاية ..
,
, ترى ماذا يخبأ لة الغد؟..
,
, كان بحجرته الدكتور مصطفى صديقه الحميم ،وإن كان يكبره بأعوام ..كان الرئيس السابق للقسم، قبل أن يصل للسن القانوني للمعاش ، فانتقلت رئاسة القسم له بعدها..
,
, قال الدكتور مصطفى، وهو يتابع الدكتور نعيم الذي اشعل سيجارته - ربما - المائة في هذا اليوم:
,
, - أشعر أن هناك أمراً غامضاً يجري في الخفاء بالمشرحة .. لست أظن أن حادثة قتل تلك الطالبة جنائي تماماً ..إن خلف مقتلها لغزاً ما.. هزّ الدكتور نعيم كفه التي تقبض على سيجارة بإعياء ، وقال متسائلاً :
,
, -وهل تعتقد أن الأمر بحاجة للمزيد من الألغاز ..لقد ماتت الفتاة وهذا يكفي لأن يصير الأمر كابوسياً لي.
,
, -لكني لا أجد أي مبرر لقتل تلك الطالبة ،كما أنني لا أفهم ماهدف القاتل من حفظها بالفورمالين ؟.. إنني أتساءل ،هل نواجه هاهنا مختلاً عقلياً قاتلاً ويعيش بيننا؟..وإن كان الأمر كذلك، فمن تراه يكون ؟
,
, -إن كل هذا لايهمني ،كل ما خنقني هو أمر واحد.. فمهما كان مايصبو إليه ذلك القاتل الحقير، فقد نجح في إفساد العام الدراسي برمته .. هنا قال الدكتور مصطفى بحزم محاولاً انتزاعه من كآبته :
,
, -أنت تبالغ كثيراً في هذا يا نعيم..إنها مجرد أحداث عابرة وستمر، وسيعود كل شيء بعدها كما كان وأفضل..كل عام وله مشاكله ..لقد واجهت مشاكل مماثلة من قبل كنت شاهداً عليها حينها ،وجميعها انتهت كما تعلم ..هل تذكر مشكلة المعدات التى سرقت منذ عامين..لقد كاد الأمر أن يصل للنيابه ،وفي النهاية انتهى الأمر ومر ..
,
, تطلع إليه الدكتور نعيم بشك ،وكأنه لايثق فيما يقوله الدكتور مصطفى ، واستمر بتدخين سيجارته ،ثم غمغم بصوت خافت لم يسمعه هو نفسه تقريباً :
,
, -أتمنى هذا !
,
, ارتفع صوت طرقات على الباب فرفع رأسه نحو الباب وصاح:
,
, -ادخل..
,
, كان القادم هو عم منصور..كان يحمل وجهاً شاحباً مكدوداً ومرهقاً، احتشدت تجاعيده ، وتكاثفت فأضفت عشرات الأعوام فوق عمره ..بدا كأنما لم ينم منذ أعوام ..
,
, بادره الدكتور مصطفى مرحّباً، ومشفقا مما حدث له :
,
, -إذاً فقد عدت يارجل ..متى أطلقوا سراحك؟..
,
, ارتسمت ابتسامة باهتة على فمه قبل أن يجيب:
,
, - منذ قليل ..لقد أخرجوني بعد التحقيق معي ، ومتولي كذلك. أشار إليه الدكتور نعيم بالجلوس قائلاً :
,
, -اجلس يامنصور ..وقل لي أولاً ..لماذا تركتم المشرحة أول أمس قبل الفجر كما علمت؟
,
, جلس عم منصور بإعياء، وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يقول بإرهاق:
,
, -لا أدري هل ستصدقوني ،أم تتهموني في عقلي، كما فعلوا معي في النيابة ؟
,
, قال الدكتور مصطفى مطمئنا إياه باهتمام حقيقي:
,
, -لن يحدث هذا منا نحوك ..ومهما كان ما سوف تخبرنا به غريباً فلن نكذبك..إن رجال الشرطة والنيابة لايعرفونك ،ولهذا قد يشككون فيما تقوله؛ لكننا هاهنا نعرفك جيدا، وكلنا يعلم مدى صدقك و أمانتك.
,
, أطرق رأسه للحظة متردداً، قبل أن يقص لهم ماحدث له، و لمتولي بالمشرحة ..استمع إليه الاثنان بتعجب ودهشة ..لكنه ما إن انتهى حتى فوجئ بالدكتور نعيم يصيح فيه بعصبية:
,
, -وهل تطلب من عاقل أن يصدق قصة مثل هذه .؟ أنت تتحدث مرة أخرى عن الجان والعفاريت، و تلك الخزعبلات التي لا أول لها ولا آخر ..هذه أشياء؛ كما قلت لك تصلح أن تقصها في قريتك في ليالي الصيف لتخيف الصغار والبلهاء..ربما توهمتم ماحدث لأنكم تناولتم شيئاً ما ،أو ربما كان هناك من يريد إفزاعكم ؟..
,
, فوجئ عم منصور بعصبية وسخرية الدكتور نعيم، فلاذ بالصمت إلا أن الدكتور مصطفى مال نحوه ،وقد عدل من جلسته ،وقال باهتمام:
,
, -هل قلت أن من هاجم متولي كان فتاة؟.. التفت إليه عم منصور، ورد بحذر:
,
, -هذا ماقاله متولي..لقد كنت بداخل الغرفة، ولم أرَ أي شيء مما حدث له.
,
, -وهل رآها جيداً ؟ ..أعني هل يستطيع أن يصفها مثلاً؟
,
, صمت عم منصور، فقد خشى أن يسخر الدكتور نعيم من إجابته؛ إلا أنه حين وجد أن كليهما ينظران إليه بترقب في انتظار إجابته،طرح تردده جانبا، وأجاب ببساطة:
,
, -يقول إنها جثة الفتاة التي جلبها للمشرحة.
,
, تطلع الاثنان إليه بدهشة قبل أن يطلق الدكتور نعيم ضحكة ساخرة، ويقول:
,
, -جثة الفتاة هي من هاجمته؟..أي مخدر رديء تناوله هذا الأحمق .. إنها جثة..جثة يارجال انتهى أمرها للأبد ..هل رأيت جثة من قبل تهاجم أحدا ما؟..هل ردت إليها الروح من أجل أن تخيفه ، ثم عادت لموتها ثانية ؟ ..إنكم تهزلون يارجل وتمزحون٣ نقطة
,
, أطرق منصور برأسه أرضاً، بينما غرق الدكتور مصطفى في التفكير .. فأكمل الدكتور نعيم بضجر :
,
, - من الأفضل أن تحتفظوا بقصصكم وأوهامكم هذه بصدروكم ..وإياكم أن تحدثوا أحدا ما عنها ..لا أريد المزيد من البلبلة هنا ..كفانا هاهنا حادث مقتل الفتاة ..
,
, كان عم منصور قد توقع ألا يصدقه ، وأعد نفسه لهذا، فلم يضايقه عدم تصديق الدكتور نعيم لما يقوله .. كما أنه لم يأتي الآن من أجل هذا ، بل جاء من أجل غرض آخر ،لذا قال بهدوء :
,
, -أريد أن أخبرك يادكتور أن جميعنا صار يشعر بالفزع من المشرحة، ولا أحد منا يرغب في المبيت في المشرحة بعد الآن.. لقد طالبني كل العمال بإبلاغك بهذا .
,
, هنا أجابه الدكتور نعيم بلا مبالاة:
,
, -لابأس بهذا ..أنا أيضا أرى أنه من الأفضل ألا يتواجد أحد ما بالمشرحة هذه الأيام ،بعد انتهاء اليوم الدراسي ..لكن عليكم أن تتأكدوا من إغلاق المشرحة بإحكام ، قبل أن تغادروها كل يوم .
,
, شعر عم منصور بالارتياح لهذا القرار فشكره وانصرف ..
,
, وقال الدكتور نعيم بعدها محدثاً الدكتور مصطفى بعد أن اختفى عم منصور:
,
, -هل سمعت مايقوله ؟.. إنه يتحدث عن جثة عادت للحياة كي تعبث معهم .. إنني بالكاد أصدق أنني أسمع هذا الهراء ،هل تتخيل ماذا سيحدث لو سمع الطلاب مثل هذا الهراء ..ستعج المشرحة بالفوضى التامة.
,
, -إنني أوافقك بالتأكيد في ضرورة أن نكتم مثل هذه الأخبار عن مسمع الطلاب منعا للبلبة..لكنني أعلم منصور هذا جيداً ،ولا أعتقد أنه يكذب ..هناك أمر ما غير مفهوم يدور هاهنا، ولهذا أرى أن نتحقق من الأمر، وألا نكتفي برفضه ،وتجنب التفكير فيه، إن جريمة القتل التي تمت هاهنا مازالت أسبابها غامضة، وأخشى أن أقول إنني أتوقع ألا تكون الأخيرة.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٧


ابتسم الدكتور محمود، حين رأى الدكتور هشام يدلف باب حجرة مكتبه، وقال الأخير محرجاً :
,
, -أرجو ألا أكون قد أزعجتك أو عطلتك عن عملك حين أتيت بغير ميعاد.
,
, أجابه الدكتور محمود على الفور ،وهو يدعوه للجلوس مرحباً وابتسامة عريضة ،ومرحبةً ترتسم على وجهه:
,
, -بل لقد اسعدتني زيارتك هذه يادكتور هشام، بل وقد كنت أنتظرها في الواقع.. لكن أخبرني في البداية ،ماذا تحب أن تشرب؟
,
, - لو كنت مصرّاً فهي القهوة السادة.
,
, استدعى الدكتور محمود عامل البوفيه، وأمره بإحضار فنجانين من القهوة السادة ،وما إن انصرف ،حتى سأل الدكتور هشام باهتمام:
,
, -ما هي آخر أخبار التحقيقات بشأن مقتل طالبتنا..هل هناك من جديد.
,
, أجابهُ الدكتور هشام بسرعة ،وكأنه ينتظر هذا السؤال :
,
, - لقد أتيت اليوم من أجل هذا ..إنهم يطالبونني بتقرير عن سبب الوفاة .. وبالطبع من المفترض أن نشترك في إعداده معاً ..فأنت مثلي صرت مكلفاً بإعداده بصورة رسمية.
,
, هزّ الدكتور محمود رأسه متفهماً قبل أن يقول:
,
, - في الواقع سبب الوفاة هو سبب تأخيري في تقديم تقريري بنتيجة التشريح ..فما زلت لاأعلم كيف ماتت تلك الفتاة ،كما أنني افتقد لإجابات الألغاز الأخرى التي واجهتنا معاً حين قمنا بتشريح جثة الفتاة ..فجثتها كانت خالية من الدماء بلاسبب..ولاندري كيف تم حقنها بالفورمالين ..وكيف تم هذا في تلك الفترة القصيرة التي لاتتجاوز النصف ساعة ..لاحظ أننا لم نستفد كثيراً من تشريح الجثة ..فـ باستثناء الأنسجة المتشبعة بالفورمالين لا شيءآخر ذو بال وجدناه .غير القلب الضامر الفارغ تماماً من الدماء هو الآخر..
,
, It was completely collapsed-
,
, -هذا صحيح ..إنني لم أرى شيء كهذا من قبل ..بدا وكأنه بالون تم تفريغه من الهواء تماماً..تمنيت لو إحتفظت بالقلب لتتم دراسة كيف صار هكذا ..أعتقد أننا لو فعلنا لإكتشفنا ظاهرة جديدة.
,
, -الجثة كلها تصلح للدراسة كظاهرة جديدة وليس القلب فقط يادكتور محمود ..إنها كنز حقيقي لعلماء الطب الشرعي والتشريح.
,
, -لا أعتقد أن أهلها سيوافقون ابدا على أمر كهذا ..إن العبث بالجثث أمر مرفوض تماماً في مصر كما تعلم .
,
, مطّ الدكتور هشام شفتيه بتوتر وغمغم:
,
, -هذا صحيح للأسف ..لكن دعنا من هذا وأخبرني.. ماذا تقترح أن نكتب في تقريرنا ؟!
,
, -لا أدري يابني ..حقا إنني مستاء ؛لأنني لم أقدم لك الدعم الذي كنت تتوقعه مني ..لكن القضية غامضة بالفعل بصورة لم أعهدها من قبل .. صمتا لبعض الوقت قبل أن يقول الدكتور هشام بتردد:
,
, -أرجو ألاتسخر مني فيما سأقوله لك ..إنني أشك أننا نواجه أمراً غير مألوف في قضيتنا هذه ..أمرا أشبه باللعنات الغامضة والأمور الخارقة .فلا يوجد أي شيء منطقي في هذه القضية على الإطلاق.. والكيفية التي ماتت بها الفتاة من المستحيل علميا أن تكون فعلاً بشرياً ..ألست توافقني في هذا ؟.
,
, رمقهُ الدكتور محمود بدهشة، وصمت مفكراً في كلماته ،وهو يهز رأسه ببط ثم قال بهدوء:
,
, -لا أرحب في الواقع بهذه التفسيرات الخوارقية ..ودائماً أنفر منها ..لكن للأسف هذه أول مرة لا أرى البديل المنطقي عنها.
,
, دخل عامل البوفيه في هذة اللحظة ،و وضع القهوة أمامهما ثم انصرف بصمت، فاستطرد الدكتور محمود متسائلاً ، وهو يشير بيده نحو القهوة داعياً الدكتور هشام لتناول فنجانه:
,
, -وماذا عن البصمات والأدلة الأخرى؟..هل قادتكم إلى شيء؟
,
, تناول الدكتور هشام فنجان قهوته، وارتشف رشفة منه ثم أجاب:
,
, -لم تُضِف شيئاً .. فلا بصمات غريبة و جدوها ،غير بصمات العمال ، والأطباء بالقسم..إنها قضية الألغاز الكثيرة للجميع.
,
, تناول الدكتور محمود فنجانه هو الآخر، وارتشف منه رشفة صغيرة، وسأله:
,
, -وماذا عن المشتبه فيهم ..سمعت أنهم في البداية اشتبهوا في عاملين بالمشرحة قبل أن يطلقوا سراحهما..
,
, -لم يصلوا معهما لشيء ..والفتاة كذلك لا أعداء لها أو لأهلها .. ولم يتهم والدها أحد ما ..
,
, صمت بعدها للحظة؛ ليشرب بعض قهوته، وأكمل:
,
, -رجال المباحث أيضا يتخبطون في الظلام،فلا خيط أمامهم ليمسكوا به في هذه القضية..إنها أغرب قضية رأيتها في حياتي!..
,
, أنهى الدكتور محمود قهوته ،فوضع الفنجان أمامه ،وقال وهو يمسح فمه بمنديل ليزيل آثار القهوة عنه:
,
, - إذاً فعلينا أن نتمهل قليلاً قبل تقديم تقريرنا..لقد نويت أن أرسل نتائج التشريح ،وبعض الصور إلى بعض أصدقائي بالخارج لآخذ مشورتهم..فربما صادفوا في عملهم شيئا كهذا لم نصادفه في عملنا هنا..وربما كانوا أكثر حظاً منا وعلموا كيف تم الأمر.
,
, كانت فكرة جيدة ،راقت للدكتور هشام كثيراً ، فقال بحماس:
,
, -اقتراح ممتاز..فعقول عدة تفكر في القضية خير من عقل واحد بالتأكيد ، وربما مانراه هنا للمرة الأولى ،قد صادفه غيرنا من قبل ..سوف أنتظر نتيجة مراسلاتك،وسوف أتابع التحقيقات في القضيه،فربما قادتنا جميعاً لشيء ما.
,
, نهض بعدها لينصرف، وقال مودعاً ، وهو يمد يده مسلماً على الدكتور محمود وعلى شفتيه ابتسامة مرهقة:
,
, -لو اكتشفت شيئا سأخبرك على الفور ..وسوف أنتظر نتائج مراسلاتك ..
,
, نهض الدكتور محمود مودعاً ، وراقبه حتى غادر الحجرة ..ثم عاد لمقعده ثانية ،وظل صامتاً لفترة قبل أن يقول بشرود:
,
, -أتكون حقاً لعنة ما ؟..
 
١٨


مر أسبوع كامل، و لم يحدث خلاله أي شيء غير طبيعي بالمشرحة .. قرر مجلس القسم لمادة التشريح خلالها ، مد فترة الدراسة النظرية للطلاب، قبل السماح لهم ببدء الدراسة العملية على الجثث بالمشرحة ..
,
, راح الجميع خلال هذا الأسبوع يترقبون أن يحدث شيء ما بالمشرحة .. لكن بعد أن انتهى هذا الأسبوع بهدوء دون أن يعكر صفوه شيء ما ، قرر الدكتور نعيم رئيس القسم بدء إعداد الجثث للدراسة ..
,
, كان الأمر يقتضي تشريح أجزاء بسيطة من الجثث في البداية ، وليس كما يتخيل البعض بأنه يتم تشريح الجثة بأكملها مرة واحدة ..
,
, فمثلاً ،يدرس طلاب الفرقة الثانية الرأس والعنق ؛لذا يقتضى الأمر في البداية إظهار بعض الأعصاب والأوردة والعضلات لهم مع عدم المساس بمساراتها الأصلية ؛كي يرى الطالب بعينيه وضع ومسارات هذه الأنسجة الصحيح بالجسم ..كما يدرس طلاب الفرقة الأولى في البداية الطرفان العلويان .. وهذا يقتضي تشريح هذه الأجزاء فقط..
,
, كان من يقوم بعملية التشريح هم المعيدون القدامى بالقسم و ليس الطلاب بالطبع..الجثث قليلة للغاية ومن العسير تعويضها لو أتلف طالب ما جزء منها، لذا لايقوم الطلاب بالتشريح إلا فيما ندر.
,
, بداخل قاعة المشرحة إلتفّ ثلاثة معيدين حول الجثث من أجل تشريحها ..كانت عملية شاقة لاتحتمل أي خطأ..فالقاعدة هنا صارمة للغاية ؛إياك أن تمزق أو تغير من مسار أي عضلة أو عصب أو وعاء دموي ..عليك أن تكشفه، وتظهر مساره بحرص ثم تتوقف ..
,
, كان الثلاثة هم ،الدكتور شريف ،والدكتور حاتم ،والدكتورة زينب، و راح كل منهم يعمل بمفرده على إحدى الجثث.
,
, قال حاتم مازحاً بطريقته الساخرة التي اعتادها زملاؤه، وهو يمسح بـ كم البالطو الأبيض الخاص به حبات من العرق تفصدت - معنى تَفَصَّدَ : سَالَ عَرَقُهُ، رَشَحَ، تَقَطَّرَ - على جبهته بسبب الحر ورائحة الفورمالين الخانقة التي تحيط بهم:
,
, - لم أتخيل حين دخلت الكلية أن ينتهي الأمر بي هكذا..كنت دوماً أرى نفسي طبيبا منهكماً بإنقاذ عشرات الأرواح في وقت واحد وحوله عشرات الممرضات ينتظرن أوامره ..والآن إنتهى بي الأمر بالعمل كصبي جزار في هذه المشرحة.
,
, ابتسمت زينب لدعابته، وقالت دون أن تنظر اليه، وهي تبحث بعينيها عن أفضل نقطة يظهر من خلالها أحد أوردة الرأس في الجثة التي تعمل عليها:
,
, - ومن الجزارون إذا ،مادمت أنت الصبي ؟..
,
, - أطباؤنا العظام بالقسم بالطبع..أبناء أبي الهول ياعزيزتي .. هل ترين جزارين حولك غيرهم .. كلنا هاهنا ياصغيرة جزارين ،لكننا نختلف عن الآخرين بأننا ببدلة أنيقة ،ورباطة عنق لطيفة.
,
, أطلقت زينب ضحكة خافتة، في حين قطب شريف حاجبيه بضيق، وقال له جاداً ، وهو يتوقف عن عمله ويلتفت نحوه :
,
, -ألا تكف مرة واحدة عن السخرية من الأساتذة الأجلّاء هاهنا..أنت تتصرف دائماً كطالب خائب ،لايجيد إلا السخرية من معلميه ،كي يداري فشله وبلادته. رد عليه حاتم بلهجة ساخرة على الفور :
,
, -لن أفعل ،قبل أن تكف أنت عن لعب دور الطالب المتملق لأساتذته ؛كي يصل الى مآربه..
,
, رمقه شريف بعصبية ،وقد احتقن وجهه ،وقال بغضب، وهو يلقي بأدواته الحادة التى يعمل بها فوق المنضدة الرخامية التي أمامه :
,
, -أنت تعلم أنني لا أتملقهم ولا مآرب لي عندهم ..إنني أحترمهم، وأقدر علمهم ،وإذا كنت تفسر الاحترام تملقاً ؛ فأنت مريض وفي مشكلة حقيقية.
,
, - أحقاً لاتفعل ولاتتملقهم؟!..يبدو أنني قد اخطأت الحكم عليك يارجل ، وهذا يعني أن علي أن أعتذر إليك، أرجوك لا تخبرني أن علي أن أفعل.
,
, هنا اشتعلت شياطين الغضب كلها في وجه شريف..ورمق حاتم بنظرات نارية ،وفكر للحظة أن يتشاجر معه قبل أن يتمالك نفسه، وينهض بغضب، ثم ركل مقعده بقدمه ؛فسقط بصوت مدوى ،وغادر المشرحة ،وهو يهتف بحنق:
,
, - أنت بالفعل إنسان لا يطاق ..ويوماً ما سوف ترى أيّنا سيعلو شأنه ،ومن سيظل كما هو دائماً ولن يتغير.
,
, كان يكره جداً أن يصف أحد ما أسلوب تعامله واحترامه الشديد لأساتذته بالقسم بالتملق والنفاق..إنهم أساتذته ومعلموه..ألم يمدحهم **** في كتابه حين قال «إنما يخشى **** من عباده العلماء»، أفلا نعطيهم نحن حقهم في الاحترام والتقدير لمكانتهم ..كان دوماً يبوح لزملائه بهذا الكلام المنمق الرائع .. لكن هل كان حقاً يؤمن بما يدعيه؟..
,
, كان في أعماقه يدرك أنه بالفعل يتملقهم ،ويتودد إليهم لأسباب آخرها هو احترام مكانتهم العلمية كما يزعم..كان يتطلع لأن يصل إلى أعلى درجة ممكنة له في أقصر وقت ..وكان يرى أن طريق النفاق هو أقصر الطرق جميعاً ..
,
, إنه الطريق المباشر للارتقاء منذ بداية الحياة، وحتى نهايتها ..إن تاريخنا يعج بالمنافقين منذ الفراعنة ..ألم ينافق الشعب فراعينه فعبدهم ؟..أن النفاق ليس مذموماً دائماً مادام لن يضير احد ما به ..
,
, كان يرى أن أمثال حاتم هؤلاء حمقى يَئِدون مستقبلهم المهني بأيديهم .. من المستحيل أن ترتفع مكانتهم، بسخريتهم ومزاحهم هذا ..
,
, لكنه كان يكره من يشعره أنه يعي مايجول بنفسه ..وكان حاتم أحد هؤلاء.. كان يحنقه تفوقه الدائم عليه ..فترتيبه في الكلية دوماً كان يسبقه ،وسرعة استيعابه كانت مثيرة لحنقه..
,
, كان يشعر بالتعري أمامه مهما حاول أن يتسلح بأقنعة مزيفة..كان هذا سبباً حقيقاً لكراهيته له، و كان هناك سبب آخر يحاول جاهداً ألا يدركه أحد ..
,
, كانت بينهما زينب..الدكتورة زينب الوكيل.. الفتاة التي يحلم بها ويتمناها، ويشعر أنها تنتمي لعالم حاتم ..
,
, كان يثير جنونه أن يسخر منه حاتم أمامها .. ويود أن يمزقه بأسنانه لو لمح ابتسامة ترتسم على محياها من سخريته منه.. لذا كان دوماً ،إما أن يتشاجر معه ،أو يحدثه بأسلوب عنيف،محاولاً تسخيف دعاباته وأفكاره ..هذه المرة لم يرغب في أن يتطور الأمر إلى شجار، لذا اختار أن يغادر المشرحة، ولينتظر حتى ينتهيا من عملهما، ليعود ويكمل عمله هو الآخر..
,
, بالداخل توقفت زينب عن عملها، واعتدلت على كرسيها، ورمقت حاتم بإعجاب، وهو منهمك في عمله ..كانت تحب سخريته ،وتهيم بلامبالاته وتعشق وسامته..
,
, كانت مثل هذه الأشياء، تذكرها بأبطال الروايات الرومانسيين، فرسان الأزمنة البعيدة..أما شريف فكان يذكرها دوماً بالموظفين الحكومين، ذلك الصنف الذى يشعرها بالرتابة والملل،كان حاتم هو التجديد والمغامرة، وكان شريف هو الجمود والثبات ..كانا مختلفين ،ولم يكن صعبا على قلبها أن يختار بينهما ..كان فارسها هو حاتم ..
,
, وبالرغم من هذا قالت له معاتبة فور انصراف شريف غاضبا :
,
, -لقد كنت قاسياً معه ياحاتم ..لم يكن هناك حاجة لأن تنعته بالنفاق وتسخر منه هكذا..كان من الممكن أن تتغاضى عما قاله لك.
,
, هزّ حاتم كتفيه باستخفاف ،وهو ينتهي من فصل طبقة من الجلد تغطي وريداً صغيراً ، وقال:
,
, -لكنه ينافق ويتملق بالفعل ،فلماذا التجمل إذن؟!..
,
, -لكنه زميلنا ..وبعض اللباقة في التعامل معه لن تضير.
,
, أطلق ضحكة ساخرة دون أن يتوقف عن عمله، وهو يجيب:
,
, -إنك محقة في هذا..أنا سأعامله بفظاظتي، و عامليه أنت بلباقتك..وهكذا يتحقق التوازن في المعاملة.
,
, ابتسمت، وهي تدرك أنه لافائدة من محاولة إثنائه عما يفعله، فعادت لتواصل عملها ..أخدت تقطع بيديها الأنسجة بمهارة، لكن عقلها كان في كون آخر يمرح فيه .. في عوالم من الجِنان .. عوالم يرسم حدودها حاتم فقط ولا أحد غيره.. وتنهدت بصوت خافت كي لا يلحظ ما يجول بخاطرها.
 
١٩


اطمئن شريف إلى خلو المشرحة من حاتم وزينب، قبل أن يعود إليها ثانية ..كان يشعر حينها بضيق شديد ،وتمنى لو غادر المكان بأكمله ..لكنه لم يكن قد أنهى عمله بعد ،فلم يكن أمامه إلا أن يعود ثانية ..
,
, اتجه إلى جثة الفتاة..كانت هي التالية بعد أن أنهى العمل بجثة رجل مشنوق..جمع حاجياته وأدواته من حول تلك الجثة التي أنهاها، واتجه إلى جثة الفتاة ..
,
, سمع خطوات أقدام خلفه، فالتفت إلى صاحبها ..كان جمال عامل المشرحة أو البرميل المتحرك؛ كما يحب أن يدعوه بين زملائه ..قال له بشيء من الحزم والتعالي، كما اعتاد أن يعامل كل العمال:
,
, -لماذا تقف خلفي هكذا ..هل تريد شيئاً ما ؟!
,
, أجابه جمال بسرعة، وهو يمسح عن جبهته عرقاً احتشد عليها:
,
, -إنها الثالثة والنصف يادكتور..
,
, أخد شريف في ترتيب أدواته على المنضدة التي أمامه بجوار الجثة، وهو يقول ببرود:
,
, -وهل يعني هذا أمراً ما مهما ؟
,
, -إنه موعد انصرافنا ،ولم يبقَ إلا حضرتك ،وأنا هنا بالمشرحة.
,
, -لتنتظر قليلاً ..إنها نصف ساعة فقط، وسأنتهي بعدها لنغادر سوياً.
,
, رد عليه جمال بإحراج بعد سبّه في سره :
,
, - إن أتوبيس الساعة الرابعة الذي يقل الموظفين من الكلية ، سوف يتحرك بعد قليل ،وأرغب في أن أستقله .فجئت لأستئذنك أن أنصرف لألحق به.
,
, لم يجبه شريف على الفور ،كما اعتاد أن يفعل حين يطالبه أحد العمال أو الطلاب بشيء ما ٣ نقطةكان يعجبه دوماً أن يشعرهم أنه الرجل المهم صاحب القرارات ،حتى لو كان الأمر تافهاً ..كأن يأتيه أحد الطلاب مثلاً راغباً في تغيير مجموعته لمجموعة أخرى..حينها كان يتأخر في اتخاذ قراره ؛كي يوحي لمن أمامه أن مايطلبه منه أمر جلل يستحق التأمل والتفكير، قبل أن يقرر.
,
, لذا قال بعد فترة جاوزت الدقائق الثلاث، متشاغلاً خلالها بتجهيز أدواته، وجمال يراقبه بضيق وتململ، ولايكف عن سبابه في أعماقه:
,
, -حسناً يمكنك أن تنصرف ،وسأتولى أنا إغلاق الباب خلفي بعد أن أنتهي من هذه الجثة.
,
, -ولكن الدكتور نعيم أمر ألا يمكث أحد بالمشرحة بمفرده أبداً.
,
, -لا شأن لك بما أمر به الدكتور نعيم..اذهب الآن ولاتضيع وقتي.
,
, قالها بصرامة فانصرف جمال محرجاً حانقاً عليه، متسائلاً في نفسه عن السبب الذي يجعل البشر يتعالون على بعضهم البعض ..إنها وضاعة الأصل، والغرور ..من المستحيل أن يتصرف بتلك الطريقة الخشنة أحد من أصل طيب ..هكذا كان يرى السبب ..
,
, لكنه بعد ثوان كان قد نسي كل شيء ..فما كان يهمه حينها هو أن يلحق بأتوبيس الكلية، وأن يجد به مقعداً شاغراً ،كي لايضطر للوقوف فيه حتى يصل إلى بيته.
,
, أما شريف فقد واصل عمله، كشف الغطاء البلاستيكي عن الجثة التي أمامه، فطالعه وجه الفتاة بملاحة لم يطمسها الموت، ولاحجبها الفورمالين ..جميلة للغاية و فاتنة صاحبة تلك الجثة..
,
, تطلع إلى ملامحها الدقيقة وتنهد..كانت تمثل الجمال الذي يحلم بأن يقتنيه يوما ما حين يتزوج ..ويخشى دائماً ألا يظفر به لدمامته التي لاتخفى عليه ..
,
, لكنه سرعان ما نفض تلك الأفكار التي راودته عن عقله، و امتدت يده إلى كفها الأيسر ليبدأ عمله، وبلا تردد مزق الجلد الداكن قليلاً بتأثير الفورمالين، كاشفاً عن أنسجته وأوردته بمهارة حقيقية.. اقترب من الوريد الأزرق الداكن ،وحاول أن يحدد مساره بعينيه، ثم أخذ يفصل طبقة الشحوم الخفيفة من حوله محاولاً أ لا يصيبه.
,
, لكنه دون أن يشعر فوجئ بالمشرط الحاد الذى يعمل به يخترق الوريد فيمزقه .. كان خطأ معتاداً وكثيراً ما يحدث ، وإن لم يتمنَ أن يحدث معه ..
,
, اخترق المشرط الوريد؛ فاندفعت منه على الفور الدماء الحمراء القانية .. دافئة ، سائلة ولزجة .. لوثت يده التي يعمل بها، وتسرب بعضها إلى الأرضية مكوناً بقعة من الدماء راحت تتسع ببطء ..تطلع إلى الوريد بذهول، وهو يغمغم متراجعاً بظهره للخلف:
,
, -دماء طازجة..أي عبث هذا؟!٣ نقطة
,
, كان من المستحيل أن تتواجد دماء طازجة في أي جثة بالمشرحة..فالدماء سريعاً ما تتجلط فور الوفاة ..هذا ماتعلمه ،ورآه دوما ..
,
, فمن أين جاءت هذه الدماء الطازجة الدافئة التي تنساب بغزارة الآن؟..
,
, حانت منه إلتفاتةٌ إلى وجه الجثة فارتعد..
,
, كان وجهها حيئذ مُربَّداً وممتلأ بالغضب ..كانت ترمقه بعينين براقتين انقعدت حواجبهما المرسومة بدقة في غضب، و تقلصت العضلات حول فمها بصورة ذكرته بوجه أمه حين كانت تقسو عليه وتعاقبه.
,
, دقات قلبه تحولت لطبول إفريقية تقرع صدره بلارقيب وضاقت أنفاسه فشعر بالإختناق..تراجع بظهره للخلف، وحاول أن ينهض من مقعده مبتعداً ، فخذلته قدميه فهوى مع المقعد أرضاً .. شعر حينها بألم حاد بذراعه الأيسر؛ حيث اخترقه المشرط الذي كان يحمله بيده الأخرى ..
,
, لم يبالِ بإصابته، ولا بدمائه التي انهمرت بغزارة من ساعده ، وهو يحدق بعيون جاحظة مذعورة للجثة التي دبت فيها الحياة فجأة، لم تعد جثة الآن، وزال من جسدها كل أثر للموت .. نهضت من رقدتها وأخذت ترمقه بابتسامة ساخرة..لاحظ برعب أن ذلك اللون الداكن المميز للجثث المحنطة قد زال عن بشرتها الآن..
,
, لاحظ صدرها العاري الذي اختفى عنه تغضنه ، فاستدار و صار مثيراً بصورة لاتقاوم ..
,
, طالما حلم في يقظته من قبل بامرأة تمتلك صدراً مثله ..لكن مثل تلك الأفكار لم تراوده في هذه اللحظه ،لقد أذهب الهلع عقله، وذكرياته، وأحلام يقظته ..صرخ وهو يرتطم بمنضدة اعترضت طريقه، وهو يتراجع بظهره، فسقط أرضاً مرة أخرى ..
,
, أراد أن يتلو آية الكرسي، فلم يتذكرها،كأنما تبخرت فجأة من عقله .. استمرت الفتاة في التقدم نحوه ،وأخذ يتراجع بظهره زاحفاً ، كأنما يخشى أن يوليها ظهره فتنقض عليه من الخلف ..حانت منه إلتفاتة إلى يدها التي قام يتشريحها منذ قليل فوجدها سليمة لا أثر لمبضعه فيها..
,
, وفوجئ بها تقول بصوت رخيم، وهي تمد نحوه يدها كأنما تدعوه إليها:
,
, -لا تخف أيها الصغير الجميل..اقترب مني ولاتخف..وأعدك ألا تشعر بشيء..
,
, هذه المرة انطلقت صرخاته المكتومة، فاستدار ،واندفع نحو باب المشرحة ليجده مغلقاً ، إزداد رعبه ،وقد أيقن أنه قد صار حبيساً معها في المشرحة بمفردهما..فأخد يطرق الباب بجنون عسى أن يسمعه أحد ما بالخارج فيأتي لنجدته ..ومن خلفه وصله صوتها قريباً من أذنه كثيراً ،قائلاً :
,
, -كلكم حمقى.. هكذا أنتم أيها البشر..أنتم حمقى بالفعل.
,
, شعر بأنفاسها الحارة تصطدم برقبته من الخلف..انتشر في الفراغ عبق أنثوى مثير..استدار بيأس؛ ليجدها خلفه تماماً ، ويديها تمتدان نحوه..حاول أن يدفعها بعيداً عنه بيديه، لكن يديه خانتاه فلم تستجيبا له..أحاطت وجهه بأنامل رقيقة حانية ،وهي تقول بصوت مخيف،وابتسامتها المخيفة تتسع في وجهها كله:
,
, -لقد صرت لي الآن ياصغير..توقف عن المقاومة ،ولاتخشى شيئاً..سينتهى الأمر سريعاً فلاتقلق.
,
, هذه المرة قررت مراكز المخ العلوية، أن وقت الإغماء قد حان ..فهوى على الأرض مغشياً عليه .. للأبد.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%