ناقد بناء
مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
- إنضم
- 17 ديسمبر 2021
- المشاركات
- 8,828
- مستوى التفاعل
- 2,833
- الإقامة
- بلاد واسعة
- نقاط
- 14,803
- الجنس
- ذكر
- الدولة
- كندا
- توجه جنسي
- أنجذب للإناث
العم منصور
امتاز عم منصور بصفتين رئيسيتين .. الأولى أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين في كلية الطب لغالبية الطلاب، إن لم يكن جميعهم.. ولما لا، وهو خازن قلعة الأسرار ..
,
, المشرحة ..
,
, الرعب والصدمة الأولى التي تنتظرها، وتتلقاها في أول عهدك بدراسة الطب .. اللحظة التي تتخيلها كثيراً قبل أن تلتحق بالكلية .. ربما لأن دراسة الطب تعني للكثيرين عالم من الجثث الممزقة والأشلاء الدامية..
,
, يحدثك صديقك حين تعود من الكلية، بعد يوم واحد من التحاقك بها بانبهار عن عدد الجثث التي قمت بتشريحها .. وتنظر إليك أمك بتوجس فور أن تعود من الكلية، وعيناها لاتفارقان يديك بتأفف متسائلة :
,
, - ألن تستحم أو تغتسل ؟.. ظناً منها أنك ربما تسبح في الكلية في بحر من الجثث والدماء والأشلاء .. وتتأفف أختك حين تجلس بجوارها الى المائدة، متسائلة باستنكار..
,
, -هل تظن أنك ستأكل معنا؟.. طبعا ستجيب من بين أسنانك، وأنت تجاهد نفسك ألاتقضم رقبتها:
,
, - بالطبع لا .. من قال هذا؟.. أنا فقط أجلس بجواركم كي أستمتع برؤيتكم، وأنتم تتناولون الطعام .. إن هذا هو مايشبعني.
,
, لاتغضب ياصديقي لو حدث هذا لك، وغالباً سوف يحدث .. ستتحول في أعينهم الى كائن موبوء مصاب بالجرب، وسيستمر هذا بعض الوقت إلى أن يعتادوا عليك مرة أخرى، أو تعتاد أنت على اشمئزازهم منك، فلاتبالي بعد ذلك ..
,
, لذا من الصعب أن تتخيل أن هناك أشياء كثيرة مهمة في دراسة الطب، بل وربما تستحق ذعراً أكبر بكثير مما تتنظره من المشرحة والجثث ..
,
, كلمني عن عوالم علم دراسة الأنسجة (الهستولوجي) وشرائحها المتشابهة، وصبغياتها القاتمة اللعينة.. حدثني عن الكيمياء الحيوية بمعادلاتها الشيطانية التي لا تنتهي ..
,
, حدثني عن الامتحانات الشفهية .. رعب قوطي يستحق الاهتمام والدراسة، ولايعلمه إلا من عايشه .. صدقني لو أدركت عوالم هذه الاشياء المخيفة، لما سببت لك المشرحة بجثثها كل هذا الرعب..
,
, الشيء الآخر المميز في عم منصور، هو شراهته المتناهية في التدخين..
,
, فلم أره أبداً إلا وكان يدخن .. سجائر .. شيشة .. وبالتأكيد ذلك الملك المتوج لأصحاب المزاج العالي، المدعو الحشيش ..كان الرجل يدخن كمرجل بخاري نهم ..
,
, كان ابن مزاج حقيقي كما نقول..
,
, اعتدنا حين كنا طلاباً في المرحلة الأولى من كلية الطب على هيئته التى لم تتغير أبداً ، دوماً كنا نراه أمام باب المشرحة الخشبي ذو الزجاج المدهون بطلاء أبيض باهت سقيم .. يجلس على كرسي خشبي عتيق متهالك، ويضع على مسنده الخلفي وسادة قطنية؛ لتريح ظهره من قسوة الخشب..
,
, يثير في نفسك الكثير من التوتر بهيئته الضخمة وملامحه الغليظة، وجبهته العريضة الناتئة ..كان دوماً يذكرني بمسخ فرانكشتين، لو كنت قد شاهدت الفيلم يوماً ما، وتذكر كيف كان المسخ..
,
, كان عليك أن تحرص على أن تعلن له احترامك .. إياك أن تعامله على أنه مجرد عامل في المشرحة .. لن ينسى لك هذا أبداً لو فعلت ..
,
, بالتأكيد لن يتطاول عليك أبداً .. لكن حين يقترب ميعاد امتحان منتصف العام أو آخره، وتتداخل في ذهنك عشرات الأعصاب ومئات العضلات، والأوردة، والأوتار، ولاتدري من أين يبدأ هذا، وكيف ينتهي ذاك، وتحتاج لمن يعيد ترتيب هذه الأشياء في ذهنك مرة أخرى، ستتذكر المشرحة وتتذكره .. حينها لا تلومن إلا نفسك حين يرفض أن تدخل المشرحة في غير أوقاتها المحددة لك ،ولاتتذمر حين تعلم من أحد أصدقائك أن عم منصور ساعده بالأمس، وأعطاة أحد أطراف الجثث الطازجة التى لم تتدهور بعد من مباضع التشريح الكثيرة التى جرت عليها، أو تناقلها بين أيدي الطلاب مئات المرات ..
,
, طبعاً لا يقدم عم منصور هذه الخدمات مجاناً .. فهناك دوماً الدخان، والشاي الذي لايمل منه .. لكن أي قيمة لمثل تلك الأشياء الصغيرة أمام مغارة علي بابا التي باستطاعته أن يفتحها لك ؟..
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, عرفته في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حين التحقت بكلية الطب .. كنت غارقاً حينها في أنشودة البدايات السوداء، التى يعرفها كل طالب التحق بكلية الطب يوماً ما .. من الصعب أن تنسى المصطحات الكئيبة التى كنت تسمع عنها لأول مرة، ولاتدري كيف تنطقها أو تكتبها .. وهناك المذاكرة التي تشعرك في البداية أنك جاهل أحمق، ولم تكن لتصلح لأن تكون أكثر من صبي كواء ..
,
, هذه ذكريات تنسيك بهجة الحياة نفسها، في وقت كان عليك أن تعيش فيه هذه المباهج ..
,
, عرفت عم منصور بقامته الضخمة للغاية، ووجهه ذو الفك البارز والعينين الجاحظتين دائماً ، كأنما تزمعان مغادرة رأسه يوماً ما، وأطرافه الطويلة العريضة الهائلة الحجم .. فيما بعد علمت أنها حالة متقدمة لفرط إفراز هرمون النمو أثناء الطفولة .. لكن في ذلك الوقت كان من المستحيل إصلاح مثل هذا الخلل فعاش به..
,
, وحين عرفته، وتنفيذاً لنصائح أحد زملائي من الطلاب الأقدم سنّاً حرصت على أن تكون علاقتي به طيبة .. اقتربت منه، فساعدني الرجل بصورة كبيرة، فحين تقترب الامتحانات، كان يكفيني أن أذهب الى المشرحة ليخرج لي حينها أجزا ء طازجة من جثث جديدة لم تُمس بعد، كان يحتفظ بها للامتحانات .. كنت دوماً كريماً معه، لم أنسَ سجائره أو معاملته بصورة لائقة ..
,
, وكان خدوماً لي بالرغم من الفظاظة التي كثيراً ما يظهرها للطلاب..
,
, كان الرجل صورةً حية للمقولة التي تدعوك لئلا تربط بين شكل الرجل وقلبه .. فبالرغم من ملامحه الغليظة، وفظاظته التي كثيراً ماكان يبديها للطلاب، إلا أنه كان يمتلك طيبة شديدة ..طيبة تذكرك بحنو جدّك الراحل والتي تتذكرها بين طيّات ذكرياتك المبهمة عنه..
,
, ومرت الأعوام الدراسية سريعاً ، كما يُنتظر منها أن تمر ،وبالرغم من انتهاء حاجتي للمشرحة بعد عامين فقط من الدراسة ؛لا نتهاء دراستي حينها لمادة التشريح، إلا أنني حرصت على استمرار زيارته بحجرته بالمشرحة من حين لآخر، حيث لاحظت سعادته بمثل هذه الزيارات ..
,
, كان دوماً يرى أن الطلاب يعاملونه بصورة جيدة، ويتوددون إليه طالما هم في حاجة إليه .. أما بعد ذلك ،فكثير منهم يتجاهلونه، وإن قابلهم مصادفة ، فالكثير منهم قد يشيحون بوجوهم بعيداً عنه بشيء من التعالي، أو يحيونه بصورة باردة بلا ودّ حقيقي في الغالب، كأنما يتذكرون فجأة أنهم سيصيرون أطباء بعد أعوام قليلة، أما هو فسيظل دوماً عامل المشرحة البسيط وليس أكثر..
,
, كنت أطيب خاطره حينها بكلمات طيبة، فيهز رأسه بغير اقتناع، وهو يسحب دفقة كبيرة من دخان سيجارته التي لاتفارق يده، ليقول بعد أن يزفرها، وهو يرنو للسقف بعينين تسعان الفراغ كله:
,
, -لا تؤاخذني يادكتور ولا تغضب مما سأقوله الآن، إن مايقوم به زملائك ندعوه في عرفنا قلة أصل.
,
, بالطبع لم أكن أدري بما أجيبه، لذا كنت أكتفِ بهز رأسي بحركات مبهمة لاتوحي بشئ، وإن وافقته بداخلي على مايدعيه .. إن مايقومون به هو نوع من نكران الجميل والتعالي لا مبرر له، فليس ذنب الرجل أن مهنته بسيطة، ولا يجب أن نشعر الرجل بأنه لاقيمة له إلا باحتياجنا له.
,
, وتخرجت بعد حين من الكلية .. وتباعدت زياراتي لها، إلا أنني حرصت على زيارته بالمشرحة حين كنت أزورها..
,
, كنت ألاحظ أن الرجل - عاماً بعد عام - يزداد هرماً ، وتتكاثف بصورة مخيفة التجاعيد في وجهه، وحول فمه و عينيه .. كما لاحظت في الأعوام الأخيرة أن صدره لم يعد على مايرام .. صار يعاني من نوبات ربو حادة تستدعي أحيانا أن يتم تنويمه بعناية الصدر بالمستشفى بضعة أيام ..
,
, صار صدره يعمل كصافرة لاتكف أبدا عن الصراخ والشكوى .. المشكلة هاهنا أن الرجل كان أسوأ مريض من الممكن أن يقابله طبيب يوماً ما.. فبالرغم من خطورة حالته ،وسوء حالة رئتيه، فإنة ظلَّ يدخن كـ قطار بخاري .. حاولت مراراً أن أُثنيه وأُقنعه بتقليل مرات التدخين بلا أمل في استجابة منه .. كان دوماً يضحك ضحكته المشروخة المصحوبة بسعال عنيف، ثم يقول ،وهو يمسح بيده الغليظة قطرتين من الدموع أفرزتهم عيناه بعد نوبة السعال العنيفة التي تنتابه:
,
, -يادكتور دعك مما تقوله .. الدخان هو الشيء الوحيد الذي لن يضر الصدر أبداً .. إياك وتصديق كلام الكتب التي درستها هنا ..كلنا يعلم أن الصدر في حاجة للتدفئة، والدخان هو أفضل من يقوم بتدفئة الصدر..
,
, ثم يقطع حكمته تلك، ليدخل بعدها في سُعال عنيف مرة أخرى، حتى أظن أنه سيبصق روحه نفسها بعد قليل .. فأرمقه مشفقاً صامتاً ، لكني أفاجأ به يقول بعد أن يهمد سعاله ويسكن :
,
, -هل تعلم يادكتور أن الدخان الذي نشربه مفيد للصحة جداً ؟.. نعم إنه مفيد للغايه، أنت لا تصدقني فيما أقوله لكنني لا أمزح وأقول الحق.
,
, وابتسمت رغماً عني لطرافة كلماته، وسألته متصنعاً الجد :
,
, -وكيف هذا برأيك أيها الحكيم ؟.. إنبعث حينها بعض البريق من عينيه، قبل أن يجيب بصوته الخشن بجديّة حقيقية:
,
, -نعم يادكتور .. الدخان شيء صحي جداً أكثر من الهواء نفسه .. هل تعتقد يا دكتور أن هناك ميكروباً ما يستطيع العيش وسط سحب الدخان التى نستنشقها حين ندخن .. بالطبع هذا مستحيل .. الدخان يادكتور قادر على قتل أي ميكروب مهما كان، ولابد أنه يقوم بفعل هذا الشيء حين تتنشقه الرئتان .. إنه بلاشك يطهرهما من الميكروبات التي قد تعلق بهما.. ألا يُعد هذا أمراً صحياً يادكتور؟
,
, أطلقت حينها ضحكة عالية ، مدركا أنه من العبث أن أجادله .. الرجل له قناعاته التي عاش عليها، ولن يتركها بعد كل هذا العمر، كي يصدق هذا الهراء الذي يطلقه أمثالنا من الأطباء على آذانه..
,
, كان الأمر عجيباً عبثياً .. رجل يعمل في كلية الطب لأعوام طوال .. فيرى أن مايلقنونه من علوم لأطباء المستقبل هو الهراء ،ولا يؤمن إلا بآرائه .. كان من المستحيل إقناعه بخطأ ما يعتقده، لذا قلت له باستسلام متنهداً :
,
, -ربما كان الدخان مفيداً كما تقول، فمن يدري ياعم منصور؟!
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, مرت أعوام كثيرة بعدها، سافرت خلالها إلى إحدى بلاد النفط والنقود، كما يفعل أغلب الأطباء، ولم أعد أتردد مرة أخرى إلى الكلية .. وتوارى حينها عم منصور في ثنايا ذكرياتى المتناثرة، كالكثير من الذكريات الأخرى التي عشتها من قبل يوماً ما ونسيتها.
,
, لم أتذكره إلا حين أردت الحصول على بعض الكتب الطبية الحديثة، وذهبت إلى الكلية لأبتاعهم من إحدى مكتباتها، قررت حينها زيارته متوقعاً أن أجده بعد كل هذه الأعوام الكثيرة، قابعاً في مكانه الأزلي، على كرسيه الخشبي العتيق أمام المشرحة ..
,
, وكنت واهماً !.. عرفت هذا حين وجدت شاباً آخر يجلس على كرسي خشبي مختلف أمام المشرحة .. سألته عن عم منصور فأجابني بتعجب، وهو يتفحصني بشيء من اللزوجة في نظراته :
,
, - وهل كنت تعرفه ؟.
,
, وأجبته بتحفظ اعتراضاً مني على تطفله :
,
, -نعم أعرفه .. لكن أين يمكنني أن أجده الآن ؟
,
, - عم منصور تعيش أنت يا أستاذ .. مات بالمستشفى في حادث منذ خمسة أعوام .. إننى أتعجب أنك لا تعرف هذا بالرغم من انك تزعم انك تعرفه.
,
, وغادرته شاعراً بالصدمة والضيق دون أن أجيبه، فهاهو جزء آخر من ذكرياتي قد انتهى للأبد .. لا أدري لماذا سطعت في رأسي الكثير من الذكريات مع الرجل ؟.. بعض دعاباته ذات الإيحاءت الجنسية غالباً ، والتي كان يستمتع بروايتها، والضحك عليها دون ان ينتظر ليرى هل أعجبت مثل هذه النكات من يلقيها عليه أم لا ؟..كان يضحك عندئذٍ كأنما كان يلقيها لنفسه ليضحك هو عليها ..
,
, وهنا طفت على سطح ذاكرتي، ذكرى أخرى حكاها لي الرجل في مرة من المرات التي جمعتنا سويّاً .. كنت قد سألته يومها عن عالم الجثث الذي يعيش فيه .. فالرجل منذ عرفته لايغادر المشرحة تقريباً أبداً ، كما أنه لم يتزوج؛ ولهذا فإنه قد اتخذ المشرحة بيتاً له .. ولأنه أقدم العمال فقد سمحت له إدارة الكلية أن يعيش في حجرة بداخل المشرحة في شيء استثنائي .. وسألته يومها بشيء من الجد ،والكثير من المداعبة :
,
, -ألا تخشى الجثث ياعم منصور ؟.. ألاتخاف أن يظهر لك عفريت جثة ما في أي لحظة، وأنت تنام على بعد خطوات منها ؟.. ألاتخشى أن تنتقم أشباحها منك لما تفعله بها ؟..لوكنت مكانك لاهتممت بهذا الأمر، وخشيت على نفسي .. إن أرواح الموتى كما أعلم لا تعرف المزاح.
,
, هذه المرة رأيت عيني الرجل ولأول مرة، زائغتين مرتعشتين .. شحب وجهه كثيراً ، قبل أن يجيب بصوت مضطرب معاتباً :
,
, -هذه أشيا ء لا يصح السخرية منها أو الضحك فيها يادكتور .
,
, شعرت بالدهشة من رد فعله البادي على وجهه .. بدا واضحاً أن الرجل يهاب شيئاً ما ..كانت هذه أول مرة أرى تعبيراً كهذا في صفحة وجهه، ولم أكن لأتركه حينها حتى يُفصح عما يخفيه، فقلت مُلحاً :
,
, - هل تعني كلماتك هذده أنك قد صادفت شيئاً من هذه الأشياء من قبل؟.. أشعر أن هذا قد حدث بالفعل، وأرى الإجابات في عينيك تقفز مؤكدة ما أعتقده .
,
, أخذ حينها نفساً عميقاً من سيجارته التى بيده، وكتمه للحظات داخل صدره كأنما يلتمس به بث الطمائنينة في صدره، ثم أطلقه ببطء ناثراً سحباً من الدخان الكثيفة حولنا، وأجاب ببطء، وبصوت هامس:
,
, - هل تصدقني يا دكتور لو أخبرتك أنهم حولنا طوال الوقت، بل وإنني كثيراً ما أراهم، وأسمع أصواتهم،وصرخاتهم وبكائهم .. نعم أسمع بكائهم، ونحيبهم كأنما هناك ما يحزنهم ويسوءهم .. إنني لست واهماً فيما أدعيه، ولن أكذبك الحديث أبداً بعد هذا العمر..
,
, نعم، في البداية كنت أخشاهم ،وأشعر بالرعب والهلع منهم حين أشعر بهم، لكنني بعد حين اعتدت عليهم، فلم أعد أكترث بهذا كالسابق .. فبعد أن قضيت أكثر من أربعين عاماً من العمل مع الموتى، لاتتوقع أن تجد مايخيفني .. حتى الموت نفسه صرت لا أخافه كالسابق .. إننى أراه، وأعايشه كل يوم..
,
, -أتعني بما تقوله أن هناك بالفعل أشباحاً للموتى و عفاريت لهم ؟.. إذاً هذه الأشياء موجودة بالفعل .. أليس كذلك ؟!.
,
, -إنني لا أدري ماذا يكونون بالضبط ؟.. هل هم أشباح أم عفاريت أم أنهم قرين الموتى من الجان ..صدقني لا أدري ما حقيقتهم .. لكن هناك بالفعل أشياء مرعبة تدور دوماً حول الجثث .. أشياء شاب لها شعري مُذْ كنت شاباً صغيراً .. لكني كما ذكرت لك لم أعد أعبأ بها الآن، وقد صرت شيخاً كبيراً ، على أعتاب الموت .. ليكونوا مايكونون، فعمّا قريب سألحق بهم، وحينها حتماً سأعرف الإجابات كلها.
,
, كان مايقوله مثيراً ، وشعرت بنشوة هائلة مما أسمعه ..كانت هذه أول مرة أرى فيها من يُجزْم بوجود أشباح عايشها .. خبرة تمنيت أن أعايشها، ولو مرة واحدة في عمري، وإن كنت أخشى حدوثها بشدة .. ولا أدري حقاً ماذا سأفعل لو واجهت شبحاً في يوم ما .. هل سأعدو هارباً منه ؟.. أم تراني سأتفحصه ثابت الجنان ؟.. لن أعرف حقاً إلا لو واجهتهتم.
,
, لذا ملت نحوه متسائلاً بحماس :
,
, -إذاً أخبرني ب**** عليك كيف تراهم ؟ .. وكيف يبدون لك ؟.. هل تراهم كطيف مثلاً .. أو ضباب كما يصفهم البعض، أم أنهم يتخذون شكلاً مادياً محسوساً ؟
,
, -إنني لا أراهم بعيني بصورة واحدة متشابهة .. أحياناً هم كالظلال، وأحياناً أُخرى أراهم كالأحياء يحومون حول الطاولات التي تحوي جثثهم .. لكن في الكثير من الأحيان لا أراهم بعيني، بل أشعر بوجودهم حولي .. إن لهم حضوراً مميزاً لا شك فيه، ولو كنت دقيق الملاحظة، فسوف تشعر بهم حتماً حين يكونون حولك.
,
, صمت بعدها، وأخد نفساً عميقاً وأخيراً من الجزء الباقي من سيجارته،كأنما يعتصر دخانها المتبقي كله، قبل أن يلقيها أسفل قدمه ويسحقها، ثم سعل مرة أخرى بشدة ، وبصق على الأرض، قبل أن يُكمل:
,
, -لا أتكلم عن الأصوات والصرخات والأشياء التي تتحرك بلاسبب .. كل هذا يحدث كثيراً .. لكنني أتحدث عن الإحساس بهم وهم يحيطون بك .. دوماً هناك ذلك البرد الذي يتسلل إلى جسدك، فتكون تلك الارتجافة التى تخترق نخاع عظامك نفسه .. هناك ذلك الإحساس المريب أن هناك من يقف خلفك، فإذا ما التفت لاتجد أحداً .. أحياناً ترى تلك الظلال المنعكسة على الحوائط، والتى لاتمت بصلة للموجود بداخلها .. إنها أمور غريبة تحدث، وتنبئك بأن شيئاً ما غامضاً يدور حولك ولاتراه .. لكن في أحيان قليلة أخرى، قد أرى صاحب الجثة نفسه في الفراغ شاخصاً نحوي بعيون جامدة مفزعة .. هذه المرات النادرة هي ما أهابها بشدة وأخشاها.
,
, وبدت حركة ما مفاجئة حينها، فالتفت كالملسوع ونظرت حولي بتوتر ..كنا حينها في المشرحة، ولا أحد حولنا الآن على الإطلاق .. لم يكن اليوم يوماً دراسياً فلا محاضرات هناك أو طلاب، لذا بدا المكان مهجوراً تقريباً .. وشعرت بالرهبة للحظة ،واعتراني هاجس سخيف أن عم منصور يراقب هلعي المفاجئ هذا باستمتاع ..لم أرغب في أن أراه يرمقني هكذا ساخراً ، لذا قلت بتوتر :
,
, - ومع كل هذا مازالت تنام بالمشرحة بمفردك .. من العسير أن أتخيل نفسي مكانك .. أنت تمتلك قلباً فولاذياً لتفعل هذا.
,
, أطلق ضحكته المشروخة حينها، مجيباً بشيء من اللامبالاة:
,
, -أكل العيش يادكتور.. أكل العيش الذي لا يرحم.
,
, صمَتُ لوهلة متخيلاً أكل العيش الذي قد يدفع صاحبه للجنون أو الموت رعباً .. هذا مالا يمكنني ان أفهمه .. ما لذة الطعام أو الشراب أو الأموال لو عشت دوماً في فزع أو خوف ؟.. وكيف تتذوق حلاوة هذه الأشياء دون أن تحيا مطمئناً ؟.. ورمقته بحيرة وأنا لا أدري كيف أكمل حديثي، بينما أشعل هو سيجارة جديدة، وقال لي باسماً :
,
, -هل ترغب في تناول كوب من الشاى معي ؟
,
, أفقت من تأملاتي قائلاً على الفور:
,
, -لاداعي لهذا.. أشكرك.. لكن أخبرني، هل حاولت هذه الأشباح يوماً أن تؤذيك، أوتعترضك وتخيفك مثلاً، أم أنها تكتفى بالتواجد فقط.
,
, بدت نظرة شاردة على عينيه، وأخذ في التدخين بشيء من العصبية، لاحظتها في ارتجافة خفيفة سرت في أصابع يده الممسكة بلفافة التبغ ، وعيناه اللتان ارتفعت مقلتاهما نحو سقف الحجرة .. شعرت بأن هناك ذكرى ما يتذكرها الآن .. ذكرى ربما ذكره كلامي بها .. وبدت تلك الذكرى وكأنها غير سعيدة أبداً .. بدا هذا بشدة في ملامحه التى تقلصت بتوتر ، ويده التى واصلت الارتجاف..
,
, إلا أن فضولي كان عاتياً .. وأردت أن أسمع منه ماعاشه أو رآه في تلك المنطقة الغامضة .. عالم الأشباح والأرواح .. هذه خبرات قد لايعايشها المرء في حياته كلها .. والغالبية من البشر قد لاتصدق بوجودها، وترفض الإيمان بها.
,
, أنا شخصياً ، وبالرغم من قراءاتي لم أعايش مثل هذه الخبرات إلا بين صفحات الكتب أو عوالم السينما .. لا أرفض وجودها كلية، ولا أقبلها كذلك كأمر **** به .. المشكلة الحقيقية أن الأفاقين من شهود هذه الأحداث كثيرون للغاية، حتى لتختفي الروايات الصادقة بين أمواج الروايات الهزلية الملفقة .. لهذا أردت أن أسمع من عم منصور ماحدث له .. فالرجل مع طيبته هذه محدود التعليم، وقليل الخيال بالتأكيد، كما أنه غير كاذب .. هذا شيء عرفته عنه منذ زمن، ولهذا فمن الصعب أن أكذب ما سيقوله لي .. ربما لايكون دقيقاً تماماً فيما يذكره، إلا أنه حتماً لن يلفقه.
,
, وطال صمته حينها فقلت له مداعباً ، محاولاً حثه على البوح بما يخفيه عني:
,
, -أين ذهبت بعقلك أيها العجوز ؟!.
,
, بدت انتفاضة خافتة في وجهه، وقد أفاق من تأملاته .. قال بعدها راسماً ابتسامة باهتة على وجهه :
,
, -مازلت معك يادكتور .. لقد سبح عقلي نحو أحداث، جرت هاهنا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً .. أحداثاً مخيفة، وشريرة لأقصى حد .. إن الكثير من شعيرات رأسي البيضاء التى تراها الأن حدثت حينها .. ذكريات طالما تمنيت أن أنساها، وطالما دعوت **** كثيراً ألا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى .. فلم يعد قلبي كالسابق، قادراً على احتمال مثل هذه الأحداث الشيطانية، ولا شيخوختي عادت لتسمح للإثارة أن يكون لها دور في أيامي المتبقية.
,
, وسحب النفس الأخير في بقايا السيجارة الثانية التى يدخنها، تاركاً إياي أتطلع إليه مترقباً، ثم قال بصوت خافت كأنما يخشى أن يسمعه أحد ما:
,
, -هل تعلم أنني طالما كنت أحاول أن أتناسى هذه الأيام المشئومة .. وحين كانت بعض أحداثها تراودني في يقظتي أو ككوابيس في أحلامي، كنت أحاول أن أنساها بالقيام بالكثير من الأعمال أو بالصلاة وتلاوة القرآن ..
,
, وارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه، زادت تجاعيده، وأكمل:
,
, -هل تعلم يادكتور أنني لجأت للحشيش حينها كي أنسى ..كنت في حاجة لأن أغيب أحياناً عن الواقع ، وأن أنسى ما حدث .. هذه الذكريات لم تحمل لي الرعب فحسب، بل فقدت خلالها أحد ما كنت أعده ابناً لي.
,
, شعرت بالشفقة نحوه .. بدا لي الآن أنى أخطأت حين أيقظت بداخله تلك الذكريات الأليمة .. تمنيت لو كنت قد كتمت فضولي، لذا قلت معتذراً :
,
, -أنا آسف بحق ياعم منصور لو كنت قد أزعجتك بفضولي .. وأرجو أن تسامحني على هذا، فلم أقصد أن أذكرك بتلك الذكرى السيئة .. لو كنت أعلم أن هذا سيقلب عليك آلام مدفونة لما تحدثت أبداً .. لذا تجاهل أسئلتي كلها، ولا تحاول أن تتذكر أو تحكي أي شيء .. بل إنني سأنصرف الأن كي لا أضايقك أكثر من هذا.
,
, ونهضت حينهاً مبدياً جديتي في الانصراف، إلا أنه أسرع قائلا لي، وهو يجذبني من ذراعي داعياً إياي لأن أنتظر:
,
, - لا بأس أبداً بما قلته يادكتور .. أنت لا تزعجني بالفعل ، لذا اجلس أرجوك.. ربما يدهشك أني أريد الآن أن أحكي لك ماحدث .. إن هذه أول مرة أحكي فيها ماحدث لأحد ما .. فالكثير من الأشخاص الذين عايشوا ما حدث قد ماتوا، ومن عاش منهم ربما لم يعد يتذكرها الآن .. إنني مازلت أذكر كل شيء .. أذكر أشياءً أردت أن احتفظ بها لنفسي، وكنت أنتوى أن آخذها معي حتى قبري .. لكنني الآن أريد أن أحكي .. إن ماكتمته لأعوام طوال ليموج في صدري الآن ملحاً عليّ أن يرى النور ثانية، لذا فلا بأس من أن اقصَّ عليك ما جرى.
,
, - صدقني ياعم محروس أنا لا أريد مطلقاً أن أثقل عليك .. لقد كنت فقط أداعبك قليلاً .. لايهم كثيراً أن تقص عليّ أي شيء .. مايهمني هو ألا أوقظ في نفسك ما قد يؤلمك أو يضايقك.
,
, قلتها صادقاً مشفقاً ، شاعراً بالأسف الحقيقي نحوه .. لكنه قال مصرّاً :
,
, -كلا يادكتور .. أنت دوماً على الرحب والسعة .. ولكن هل لديك الوقت الكافي كي أقص عليك ماحدث، أم أن وقتك محدود؟..إن حديثنا سيطول.
,
, نظرت إلى ساعتي .. كانت مازالت الحادية عشر صباحاً ، ولم يكن هناك أي موعد لي قبل الرابعة عصراً ، فقلت له مطمئناً :
,
, - لاتقلق بشأني أيها العجوز .. فمازال أمامي مُتسع من الوقت لأسمعك .. يمكنك أن تحكي كما تشاء.
,
, وتنهد بإرتياح ونهض متجهاً إلى -سبرتاية- عتيقة قابعة على طاولة خشبية بجوار أحد جدران حجرته ،وهو يقول:
,
, -حسناً ليكن ذلك ..لكن دعني أولاً أعد بعض الشاي الثقيل من أجلنا.
,
, أخذ يعد الشاي بشرود كأنما يرتب ذكرياته ويصنفها في عقله ،ورحت أراقبه بلهفة، وأنا أنتظر ما سيلقيه على أذناي ..كنت متحمساً بشدة كي أسمع، يومها حكى لي الأحداث التى مر بها منذ أعوام بعيدة .. وكالعادة كنت مبهوراً كثيراً بما حكى .. بالطبع كانت الأحداث مرعبة ومخيفة وعسيرة التصديق .. إلا إنني لم أستطع أن أكذبه .. وقلت لنفسي حينها "مالذي يدفع رجل مثل هذا، وقد بلغ من الكبر عِتيا ، أن يختلق مثل هذه الأحداث؟.. لاشيء بالتأكيد..إن ماقصه علي لابد أنه قد حدث بالفعل، أو على الأقل هو يؤمن أنه قد حدث، لكنه لايكذب."
,
, بالطبع كنت محظوظاً ؛ فقد استطعت بعدها الحصول على الكثير من تفاصيل القصة من أهم أبطالها الذين عايشوها ..
,
, الدكتور محمد شاهين.. كان له دور رئيسي بالقصة ،وحكى لي فيما بعد ما يتذكره عن تلك القصة..
,
, واكتملت حينها خيوط القصة بأكملها في رأسي.. وكان عليّ أن أحكيها لكم ..
,
, وها أنا أفعل..
امتاز عم منصور بصفتين رئيسيتين .. الأولى أن الرجل هو أهم شخص طوال العامين الأولين في كلية الطب لغالبية الطلاب، إن لم يكن جميعهم.. ولما لا، وهو خازن قلعة الأسرار ..
,
, المشرحة ..
,
, الرعب والصدمة الأولى التي تنتظرها، وتتلقاها في أول عهدك بدراسة الطب .. اللحظة التي تتخيلها كثيراً قبل أن تلتحق بالكلية .. ربما لأن دراسة الطب تعني للكثيرين عالم من الجثث الممزقة والأشلاء الدامية..
,
, يحدثك صديقك حين تعود من الكلية، بعد يوم واحد من التحاقك بها بانبهار عن عدد الجثث التي قمت بتشريحها .. وتنظر إليك أمك بتوجس فور أن تعود من الكلية، وعيناها لاتفارقان يديك بتأفف متسائلة :
,
, - ألن تستحم أو تغتسل ؟.. ظناً منها أنك ربما تسبح في الكلية في بحر من الجثث والدماء والأشلاء .. وتتأفف أختك حين تجلس بجوارها الى المائدة، متسائلة باستنكار..
,
, -هل تظن أنك ستأكل معنا؟.. طبعا ستجيب من بين أسنانك، وأنت تجاهد نفسك ألاتقضم رقبتها:
,
, - بالطبع لا .. من قال هذا؟.. أنا فقط أجلس بجواركم كي أستمتع برؤيتكم، وأنتم تتناولون الطعام .. إن هذا هو مايشبعني.
,
, لاتغضب ياصديقي لو حدث هذا لك، وغالباً سوف يحدث .. ستتحول في أعينهم الى كائن موبوء مصاب بالجرب، وسيستمر هذا بعض الوقت إلى أن يعتادوا عليك مرة أخرى، أو تعتاد أنت على اشمئزازهم منك، فلاتبالي بعد ذلك ..
,
, لذا من الصعب أن تتخيل أن هناك أشياء كثيرة مهمة في دراسة الطب، بل وربما تستحق ذعراً أكبر بكثير مما تتنظره من المشرحة والجثث ..
,
, كلمني عن عوالم علم دراسة الأنسجة (الهستولوجي) وشرائحها المتشابهة، وصبغياتها القاتمة اللعينة.. حدثني عن الكيمياء الحيوية بمعادلاتها الشيطانية التي لا تنتهي ..
,
, حدثني عن الامتحانات الشفهية .. رعب قوطي يستحق الاهتمام والدراسة، ولايعلمه إلا من عايشه .. صدقني لو أدركت عوالم هذه الاشياء المخيفة، لما سببت لك المشرحة بجثثها كل هذا الرعب..
,
, الشيء الآخر المميز في عم منصور، هو شراهته المتناهية في التدخين..
,
, فلم أره أبداً إلا وكان يدخن .. سجائر .. شيشة .. وبالتأكيد ذلك الملك المتوج لأصحاب المزاج العالي، المدعو الحشيش ..كان الرجل يدخن كمرجل بخاري نهم ..
,
, كان ابن مزاج حقيقي كما نقول..
,
, اعتدنا حين كنا طلاباً في المرحلة الأولى من كلية الطب على هيئته التى لم تتغير أبداً ، دوماً كنا نراه أمام باب المشرحة الخشبي ذو الزجاج المدهون بطلاء أبيض باهت سقيم .. يجلس على كرسي خشبي عتيق متهالك، ويضع على مسنده الخلفي وسادة قطنية؛ لتريح ظهره من قسوة الخشب..
,
, يثير في نفسك الكثير من التوتر بهيئته الضخمة وملامحه الغليظة، وجبهته العريضة الناتئة ..كان دوماً يذكرني بمسخ فرانكشتين، لو كنت قد شاهدت الفيلم يوماً ما، وتذكر كيف كان المسخ..
,
, كان عليك أن تحرص على أن تعلن له احترامك .. إياك أن تعامله على أنه مجرد عامل في المشرحة .. لن ينسى لك هذا أبداً لو فعلت ..
,
, بالتأكيد لن يتطاول عليك أبداً .. لكن حين يقترب ميعاد امتحان منتصف العام أو آخره، وتتداخل في ذهنك عشرات الأعصاب ومئات العضلات، والأوردة، والأوتار، ولاتدري من أين يبدأ هذا، وكيف ينتهي ذاك، وتحتاج لمن يعيد ترتيب هذه الأشياء في ذهنك مرة أخرى، ستتذكر المشرحة وتتذكره .. حينها لا تلومن إلا نفسك حين يرفض أن تدخل المشرحة في غير أوقاتها المحددة لك ،ولاتتذمر حين تعلم من أحد أصدقائك أن عم منصور ساعده بالأمس، وأعطاة أحد أطراف الجثث الطازجة التى لم تتدهور بعد من مباضع التشريح الكثيرة التى جرت عليها، أو تناقلها بين أيدي الطلاب مئات المرات ..
,
, طبعاً لا يقدم عم منصور هذه الخدمات مجاناً .. فهناك دوماً الدخان، والشاي الذي لايمل منه .. لكن أي قيمة لمثل تلك الأشياء الصغيرة أمام مغارة علي بابا التي باستطاعته أن يفتحها لك ؟..
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, عرفته في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حين التحقت بكلية الطب .. كنت غارقاً حينها في أنشودة البدايات السوداء، التى يعرفها كل طالب التحق بكلية الطب يوماً ما .. من الصعب أن تنسى المصطحات الكئيبة التى كنت تسمع عنها لأول مرة، ولاتدري كيف تنطقها أو تكتبها .. وهناك المذاكرة التي تشعرك في البداية أنك جاهل أحمق، ولم تكن لتصلح لأن تكون أكثر من صبي كواء ..
,
, هذه ذكريات تنسيك بهجة الحياة نفسها، في وقت كان عليك أن تعيش فيه هذه المباهج ..
,
, عرفت عم منصور بقامته الضخمة للغاية، ووجهه ذو الفك البارز والعينين الجاحظتين دائماً ، كأنما تزمعان مغادرة رأسه يوماً ما، وأطرافه الطويلة العريضة الهائلة الحجم .. فيما بعد علمت أنها حالة متقدمة لفرط إفراز هرمون النمو أثناء الطفولة .. لكن في ذلك الوقت كان من المستحيل إصلاح مثل هذا الخلل فعاش به..
,
, وحين عرفته، وتنفيذاً لنصائح أحد زملائي من الطلاب الأقدم سنّاً حرصت على أن تكون علاقتي به طيبة .. اقتربت منه، فساعدني الرجل بصورة كبيرة، فحين تقترب الامتحانات، كان يكفيني أن أذهب الى المشرحة ليخرج لي حينها أجزا ء طازجة من جثث جديدة لم تُمس بعد، كان يحتفظ بها للامتحانات .. كنت دوماً كريماً معه، لم أنسَ سجائره أو معاملته بصورة لائقة ..
,
, وكان خدوماً لي بالرغم من الفظاظة التي كثيراً ما يظهرها للطلاب..
,
, كان الرجل صورةً حية للمقولة التي تدعوك لئلا تربط بين شكل الرجل وقلبه .. فبالرغم من ملامحه الغليظة، وفظاظته التي كثيراً ماكان يبديها للطلاب، إلا أنه كان يمتلك طيبة شديدة ..طيبة تذكرك بحنو جدّك الراحل والتي تتذكرها بين طيّات ذكرياتك المبهمة عنه..
,
, ومرت الأعوام الدراسية سريعاً ، كما يُنتظر منها أن تمر ،وبالرغم من انتهاء حاجتي للمشرحة بعد عامين فقط من الدراسة ؛لا نتهاء دراستي حينها لمادة التشريح، إلا أنني حرصت على استمرار زيارته بحجرته بالمشرحة من حين لآخر، حيث لاحظت سعادته بمثل هذه الزيارات ..
,
, كان دوماً يرى أن الطلاب يعاملونه بصورة جيدة، ويتوددون إليه طالما هم في حاجة إليه .. أما بعد ذلك ،فكثير منهم يتجاهلونه، وإن قابلهم مصادفة ، فالكثير منهم قد يشيحون بوجوهم بعيداً عنه بشيء من التعالي، أو يحيونه بصورة باردة بلا ودّ حقيقي في الغالب، كأنما يتذكرون فجأة أنهم سيصيرون أطباء بعد أعوام قليلة، أما هو فسيظل دوماً عامل المشرحة البسيط وليس أكثر..
,
, كنت أطيب خاطره حينها بكلمات طيبة، فيهز رأسه بغير اقتناع، وهو يسحب دفقة كبيرة من دخان سيجارته التي لاتفارق يده، ليقول بعد أن يزفرها، وهو يرنو للسقف بعينين تسعان الفراغ كله:
,
, -لا تؤاخذني يادكتور ولا تغضب مما سأقوله الآن، إن مايقوم به زملائك ندعوه في عرفنا قلة أصل.
,
, بالطبع لم أكن أدري بما أجيبه، لذا كنت أكتفِ بهز رأسي بحركات مبهمة لاتوحي بشئ، وإن وافقته بداخلي على مايدعيه .. إن مايقومون به هو نوع من نكران الجميل والتعالي لا مبرر له، فليس ذنب الرجل أن مهنته بسيطة، ولا يجب أن نشعر الرجل بأنه لاقيمة له إلا باحتياجنا له.
,
, وتخرجت بعد حين من الكلية .. وتباعدت زياراتي لها، إلا أنني حرصت على زيارته بالمشرحة حين كنت أزورها..
,
, كنت ألاحظ أن الرجل - عاماً بعد عام - يزداد هرماً ، وتتكاثف بصورة مخيفة التجاعيد في وجهه، وحول فمه و عينيه .. كما لاحظت في الأعوام الأخيرة أن صدره لم يعد على مايرام .. صار يعاني من نوبات ربو حادة تستدعي أحيانا أن يتم تنويمه بعناية الصدر بالمستشفى بضعة أيام ..
,
, صار صدره يعمل كصافرة لاتكف أبدا عن الصراخ والشكوى .. المشكلة هاهنا أن الرجل كان أسوأ مريض من الممكن أن يقابله طبيب يوماً ما.. فبالرغم من خطورة حالته ،وسوء حالة رئتيه، فإنة ظلَّ يدخن كـ قطار بخاري .. حاولت مراراً أن أُثنيه وأُقنعه بتقليل مرات التدخين بلا أمل في استجابة منه .. كان دوماً يضحك ضحكته المشروخة المصحوبة بسعال عنيف، ثم يقول ،وهو يمسح بيده الغليظة قطرتين من الدموع أفرزتهم عيناه بعد نوبة السعال العنيفة التي تنتابه:
,
, -يادكتور دعك مما تقوله .. الدخان هو الشيء الوحيد الذي لن يضر الصدر أبداً .. إياك وتصديق كلام الكتب التي درستها هنا ..كلنا يعلم أن الصدر في حاجة للتدفئة، والدخان هو أفضل من يقوم بتدفئة الصدر..
,
, ثم يقطع حكمته تلك، ليدخل بعدها في سُعال عنيف مرة أخرى، حتى أظن أنه سيبصق روحه نفسها بعد قليل .. فأرمقه مشفقاً صامتاً ، لكني أفاجأ به يقول بعد أن يهمد سعاله ويسكن :
,
, -هل تعلم يادكتور أن الدخان الذي نشربه مفيد للصحة جداً ؟.. نعم إنه مفيد للغايه، أنت لا تصدقني فيما أقوله لكنني لا أمزح وأقول الحق.
,
, وابتسمت رغماً عني لطرافة كلماته، وسألته متصنعاً الجد :
,
, -وكيف هذا برأيك أيها الحكيم ؟.. إنبعث حينها بعض البريق من عينيه، قبل أن يجيب بصوته الخشن بجديّة حقيقية:
,
, -نعم يادكتور .. الدخان شيء صحي جداً أكثر من الهواء نفسه .. هل تعتقد يا دكتور أن هناك ميكروباً ما يستطيع العيش وسط سحب الدخان التى نستنشقها حين ندخن .. بالطبع هذا مستحيل .. الدخان يادكتور قادر على قتل أي ميكروب مهما كان، ولابد أنه يقوم بفعل هذا الشيء حين تتنشقه الرئتان .. إنه بلاشك يطهرهما من الميكروبات التي قد تعلق بهما.. ألا يُعد هذا أمراً صحياً يادكتور؟
,
, أطلقت حينها ضحكة عالية ، مدركا أنه من العبث أن أجادله .. الرجل له قناعاته التي عاش عليها، ولن يتركها بعد كل هذا العمر، كي يصدق هذا الهراء الذي يطلقه أمثالنا من الأطباء على آذانه..
,
, كان الأمر عجيباً عبثياً .. رجل يعمل في كلية الطب لأعوام طوال .. فيرى أن مايلقنونه من علوم لأطباء المستقبل هو الهراء ،ولا يؤمن إلا بآرائه .. كان من المستحيل إقناعه بخطأ ما يعتقده، لذا قلت له باستسلام متنهداً :
,
, -ربما كان الدخان مفيداً كما تقول، فمن يدري ياعم منصور؟!
,
, ٤ العلامة النجمية
,
, مرت أعوام كثيرة بعدها، سافرت خلالها إلى إحدى بلاد النفط والنقود، كما يفعل أغلب الأطباء، ولم أعد أتردد مرة أخرى إلى الكلية .. وتوارى حينها عم منصور في ثنايا ذكرياتى المتناثرة، كالكثير من الذكريات الأخرى التي عشتها من قبل يوماً ما ونسيتها.
,
, لم أتذكره إلا حين أردت الحصول على بعض الكتب الطبية الحديثة، وذهبت إلى الكلية لأبتاعهم من إحدى مكتباتها، قررت حينها زيارته متوقعاً أن أجده بعد كل هذه الأعوام الكثيرة، قابعاً في مكانه الأزلي، على كرسيه الخشبي العتيق أمام المشرحة ..
,
, وكنت واهماً !.. عرفت هذا حين وجدت شاباً آخر يجلس على كرسي خشبي مختلف أمام المشرحة .. سألته عن عم منصور فأجابني بتعجب، وهو يتفحصني بشيء من اللزوجة في نظراته :
,
, - وهل كنت تعرفه ؟.
,
, وأجبته بتحفظ اعتراضاً مني على تطفله :
,
, -نعم أعرفه .. لكن أين يمكنني أن أجده الآن ؟
,
, - عم منصور تعيش أنت يا أستاذ .. مات بالمستشفى في حادث منذ خمسة أعوام .. إننى أتعجب أنك لا تعرف هذا بالرغم من انك تزعم انك تعرفه.
,
, وغادرته شاعراً بالصدمة والضيق دون أن أجيبه، فهاهو جزء آخر من ذكرياتي قد انتهى للأبد .. لا أدري لماذا سطعت في رأسي الكثير من الذكريات مع الرجل ؟.. بعض دعاباته ذات الإيحاءت الجنسية غالباً ، والتي كان يستمتع بروايتها، والضحك عليها دون ان ينتظر ليرى هل أعجبت مثل هذه النكات من يلقيها عليه أم لا ؟..كان يضحك عندئذٍ كأنما كان يلقيها لنفسه ليضحك هو عليها ..
,
, وهنا طفت على سطح ذاكرتي، ذكرى أخرى حكاها لي الرجل في مرة من المرات التي جمعتنا سويّاً .. كنت قد سألته يومها عن عالم الجثث الذي يعيش فيه .. فالرجل منذ عرفته لايغادر المشرحة تقريباً أبداً ، كما أنه لم يتزوج؛ ولهذا فإنه قد اتخذ المشرحة بيتاً له .. ولأنه أقدم العمال فقد سمحت له إدارة الكلية أن يعيش في حجرة بداخل المشرحة في شيء استثنائي .. وسألته يومها بشيء من الجد ،والكثير من المداعبة :
,
, -ألا تخشى الجثث ياعم منصور ؟.. ألاتخاف أن يظهر لك عفريت جثة ما في أي لحظة، وأنت تنام على بعد خطوات منها ؟.. ألاتخشى أن تنتقم أشباحها منك لما تفعله بها ؟..لوكنت مكانك لاهتممت بهذا الأمر، وخشيت على نفسي .. إن أرواح الموتى كما أعلم لا تعرف المزاح.
,
, هذه المرة رأيت عيني الرجل ولأول مرة، زائغتين مرتعشتين .. شحب وجهه كثيراً ، قبل أن يجيب بصوت مضطرب معاتباً :
,
, -هذه أشيا ء لا يصح السخرية منها أو الضحك فيها يادكتور .
,
, شعرت بالدهشة من رد فعله البادي على وجهه .. بدا واضحاً أن الرجل يهاب شيئاً ما ..كانت هذه أول مرة أرى تعبيراً كهذا في صفحة وجهه، ولم أكن لأتركه حينها حتى يُفصح عما يخفيه، فقلت مُلحاً :
,
, - هل تعني كلماتك هذده أنك قد صادفت شيئاً من هذه الأشياء من قبل؟.. أشعر أن هذا قد حدث بالفعل، وأرى الإجابات في عينيك تقفز مؤكدة ما أعتقده .
,
, أخذ حينها نفساً عميقاً من سيجارته التى بيده، وكتمه للحظات داخل صدره كأنما يلتمس به بث الطمائنينة في صدره، ثم أطلقه ببطء ناثراً سحباً من الدخان الكثيفة حولنا، وأجاب ببطء، وبصوت هامس:
,
, - هل تصدقني يا دكتور لو أخبرتك أنهم حولنا طوال الوقت، بل وإنني كثيراً ما أراهم، وأسمع أصواتهم،وصرخاتهم وبكائهم .. نعم أسمع بكائهم، ونحيبهم كأنما هناك ما يحزنهم ويسوءهم .. إنني لست واهماً فيما أدعيه، ولن أكذبك الحديث أبداً بعد هذا العمر..
,
, نعم، في البداية كنت أخشاهم ،وأشعر بالرعب والهلع منهم حين أشعر بهم، لكنني بعد حين اعتدت عليهم، فلم أعد أكترث بهذا كالسابق .. فبعد أن قضيت أكثر من أربعين عاماً من العمل مع الموتى، لاتتوقع أن تجد مايخيفني .. حتى الموت نفسه صرت لا أخافه كالسابق .. إننى أراه، وأعايشه كل يوم..
,
, -أتعني بما تقوله أن هناك بالفعل أشباحاً للموتى و عفاريت لهم ؟.. إذاً هذه الأشياء موجودة بالفعل .. أليس كذلك ؟!.
,
, -إنني لا أدري ماذا يكونون بالضبط ؟.. هل هم أشباح أم عفاريت أم أنهم قرين الموتى من الجان ..صدقني لا أدري ما حقيقتهم .. لكن هناك بالفعل أشياء مرعبة تدور دوماً حول الجثث .. أشياء شاب لها شعري مُذْ كنت شاباً صغيراً .. لكني كما ذكرت لك لم أعد أعبأ بها الآن، وقد صرت شيخاً كبيراً ، على أعتاب الموت .. ليكونوا مايكونون، فعمّا قريب سألحق بهم، وحينها حتماً سأعرف الإجابات كلها.
,
, كان مايقوله مثيراً ، وشعرت بنشوة هائلة مما أسمعه ..كانت هذه أول مرة أرى فيها من يُجزْم بوجود أشباح عايشها .. خبرة تمنيت أن أعايشها، ولو مرة واحدة في عمري، وإن كنت أخشى حدوثها بشدة .. ولا أدري حقاً ماذا سأفعل لو واجهت شبحاً في يوم ما .. هل سأعدو هارباً منه ؟.. أم تراني سأتفحصه ثابت الجنان ؟.. لن أعرف حقاً إلا لو واجهتهتم.
,
, لذا ملت نحوه متسائلاً بحماس :
,
, -إذاً أخبرني ب**** عليك كيف تراهم ؟ .. وكيف يبدون لك ؟.. هل تراهم كطيف مثلاً .. أو ضباب كما يصفهم البعض، أم أنهم يتخذون شكلاً مادياً محسوساً ؟
,
, -إنني لا أراهم بعيني بصورة واحدة متشابهة .. أحياناً هم كالظلال، وأحياناً أُخرى أراهم كالأحياء يحومون حول الطاولات التي تحوي جثثهم .. لكن في الكثير من الأحيان لا أراهم بعيني، بل أشعر بوجودهم حولي .. إن لهم حضوراً مميزاً لا شك فيه، ولو كنت دقيق الملاحظة، فسوف تشعر بهم حتماً حين يكونون حولك.
,
, صمت بعدها، وأخد نفساً عميقاً وأخيراً من الجزء الباقي من سيجارته،كأنما يعتصر دخانها المتبقي كله، قبل أن يلقيها أسفل قدمه ويسحقها، ثم سعل مرة أخرى بشدة ، وبصق على الأرض، قبل أن يُكمل:
,
, -لا أتكلم عن الأصوات والصرخات والأشياء التي تتحرك بلاسبب .. كل هذا يحدث كثيراً .. لكنني أتحدث عن الإحساس بهم وهم يحيطون بك .. دوماً هناك ذلك البرد الذي يتسلل إلى جسدك، فتكون تلك الارتجافة التى تخترق نخاع عظامك نفسه .. هناك ذلك الإحساس المريب أن هناك من يقف خلفك، فإذا ما التفت لاتجد أحداً .. أحياناً ترى تلك الظلال المنعكسة على الحوائط، والتى لاتمت بصلة للموجود بداخلها .. إنها أمور غريبة تحدث، وتنبئك بأن شيئاً ما غامضاً يدور حولك ولاتراه .. لكن في أحيان قليلة أخرى، قد أرى صاحب الجثة نفسه في الفراغ شاخصاً نحوي بعيون جامدة مفزعة .. هذه المرات النادرة هي ما أهابها بشدة وأخشاها.
,
, وبدت حركة ما مفاجئة حينها، فالتفت كالملسوع ونظرت حولي بتوتر ..كنا حينها في المشرحة، ولا أحد حولنا الآن على الإطلاق .. لم يكن اليوم يوماً دراسياً فلا محاضرات هناك أو طلاب، لذا بدا المكان مهجوراً تقريباً .. وشعرت بالرهبة للحظة ،واعتراني هاجس سخيف أن عم منصور يراقب هلعي المفاجئ هذا باستمتاع ..لم أرغب في أن أراه يرمقني هكذا ساخراً ، لذا قلت بتوتر :
,
, - ومع كل هذا مازالت تنام بالمشرحة بمفردك .. من العسير أن أتخيل نفسي مكانك .. أنت تمتلك قلباً فولاذياً لتفعل هذا.
,
, أطلق ضحكته المشروخة حينها، مجيباً بشيء من اللامبالاة:
,
, -أكل العيش يادكتور.. أكل العيش الذي لا يرحم.
,
, صمَتُ لوهلة متخيلاً أكل العيش الذي قد يدفع صاحبه للجنون أو الموت رعباً .. هذا مالا يمكنني ان أفهمه .. ما لذة الطعام أو الشراب أو الأموال لو عشت دوماً في فزع أو خوف ؟.. وكيف تتذوق حلاوة هذه الأشياء دون أن تحيا مطمئناً ؟.. ورمقته بحيرة وأنا لا أدري كيف أكمل حديثي، بينما أشعل هو سيجارة جديدة، وقال لي باسماً :
,
, -هل ترغب في تناول كوب من الشاى معي ؟
,
, أفقت من تأملاتي قائلاً على الفور:
,
, -لاداعي لهذا.. أشكرك.. لكن أخبرني، هل حاولت هذه الأشباح يوماً أن تؤذيك، أوتعترضك وتخيفك مثلاً، أم أنها تكتفى بالتواجد فقط.
,
, بدت نظرة شاردة على عينيه، وأخذ في التدخين بشيء من العصبية، لاحظتها في ارتجافة خفيفة سرت في أصابع يده الممسكة بلفافة التبغ ، وعيناه اللتان ارتفعت مقلتاهما نحو سقف الحجرة .. شعرت بأن هناك ذكرى ما يتذكرها الآن .. ذكرى ربما ذكره كلامي بها .. وبدت تلك الذكرى وكأنها غير سعيدة أبداً .. بدا هذا بشدة في ملامحه التى تقلصت بتوتر ، ويده التى واصلت الارتجاف..
,
, إلا أن فضولي كان عاتياً .. وأردت أن أسمع منه ماعاشه أو رآه في تلك المنطقة الغامضة .. عالم الأشباح والأرواح .. هذه خبرات قد لايعايشها المرء في حياته كلها .. والغالبية من البشر قد لاتصدق بوجودها، وترفض الإيمان بها.
,
, أنا شخصياً ، وبالرغم من قراءاتي لم أعايش مثل هذه الخبرات إلا بين صفحات الكتب أو عوالم السينما .. لا أرفض وجودها كلية، ولا أقبلها كذلك كأمر **** به .. المشكلة الحقيقية أن الأفاقين من شهود هذه الأحداث كثيرون للغاية، حتى لتختفي الروايات الصادقة بين أمواج الروايات الهزلية الملفقة .. لهذا أردت أن أسمع من عم منصور ماحدث له .. فالرجل مع طيبته هذه محدود التعليم، وقليل الخيال بالتأكيد، كما أنه غير كاذب .. هذا شيء عرفته عنه منذ زمن، ولهذا فمن الصعب أن أكذب ما سيقوله لي .. ربما لايكون دقيقاً تماماً فيما يذكره، إلا أنه حتماً لن يلفقه.
,
, وطال صمته حينها فقلت له مداعباً ، محاولاً حثه على البوح بما يخفيه عني:
,
, -أين ذهبت بعقلك أيها العجوز ؟!.
,
, بدت انتفاضة خافتة في وجهه، وقد أفاق من تأملاته .. قال بعدها راسماً ابتسامة باهتة على وجهه :
,
, -مازلت معك يادكتور .. لقد سبح عقلي نحو أحداث، جرت هاهنا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً .. أحداثاً مخيفة، وشريرة لأقصى حد .. إن الكثير من شعيرات رأسي البيضاء التى تراها الأن حدثت حينها .. ذكريات طالما تمنيت أن أنساها، وطالما دعوت **** كثيراً ألا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى .. فلم يعد قلبي كالسابق، قادراً على احتمال مثل هذه الأحداث الشيطانية، ولا شيخوختي عادت لتسمح للإثارة أن يكون لها دور في أيامي المتبقية.
,
, وسحب النفس الأخير في بقايا السيجارة الثانية التى يدخنها، تاركاً إياي أتطلع إليه مترقباً، ثم قال بصوت خافت كأنما يخشى أن يسمعه أحد ما:
,
, -هل تعلم أنني طالما كنت أحاول أن أتناسى هذه الأيام المشئومة .. وحين كانت بعض أحداثها تراودني في يقظتي أو ككوابيس في أحلامي، كنت أحاول أن أنساها بالقيام بالكثير من الأعمال أو بالصلاة وتلاوة القرآن ..
,
, وارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه، زادت تجاعيده، وأكمل:
,
, -هل تعلم يادكتور أنني لجأت للحشيش حينها كي أنسى ..كنت في حاجة لأن أغيب أحياناً عن الواقع ، وأن أنسى ما حدث .. هذه الذكريات لم تحمل لي الرعب فحسب، بل فقدت خلالها أحد ما كنت أعده ابناً لي.
,
, شعرت بالشفقة نحوه .. بدا لي الآن أنى أخطأت حين أيقظت بداخله تلك الذكريات الأليمة .. تمنيت لو كنت قد كتمت فضولي، لذا قلت معتذراً :
,
, -أنا آسف بحق ياعم منصور لو كنت قد أزعجتك بفضولي .. وأرجو أن تسامحني على هذا، فلم أقصد أن أذكرك بتلك الذكرى السيئة .. لو كنت أعلم أن هذا سيقلب عليك آلام مدفونة لما تحدثت أبداً .. لذا تجاهل أسئلتي كلها، ولا تحاول أن تتذكر أو تحكي أي شيء .. بل إنني سأنصرف الأن كي لا أضايقك أكثر من هذا.
,
, ونهضت حينهاً مبدياً جديتي في الانصراف، إلا أنه أسرع قائلا لي، وهو يجذبني من ذراعي داعياً إياي لأن أنتظر:
,
, - لا بأس أبداً بما قلته يادكتور .. أنت لا تزعجني بالفعل ، لذا اجلس أرجوك.. ربما يدهشك أني أريد الآن أن أحكي لك ماحدث .. إن هذه أول مرة أحكي فيها ماحدث لأحد ما .. فالكثير من الأشخاص الذين عايشوا ما حدث قد ماتوا، ومن عاش منهم ربما لم يعد يتذكرها الآن .. إنني مازلت أذكر كل شيء .. أذكر أشياءً أردت أن احتفظ بها لنفسي، وكنت أنتوى أن آخذها معي حتى قبري .. لكنني الآن أريد أن أحكي .. إن ماكتمته لأعوام طوال ليموج في صدري الآن ملحاً عليّ أن يرى النور ثانية، لذا فلا بأس من أن اقصَّ عليك ما جرى.
,
, - صدقني ياعم محروس أنا لا أريد مطلقاً أن أثقل عليك .. لقد كنت فقط أداعبك قليلاً .. لايهم كثيراً أن تقص عليّ أي شيء .. مايهمني هو ألا أوقظ في نفسك ما قد يؤلمك أو يضايقك.
,
, قلتها صادقاً مشفقاً ، شاعراً بالأسف الحقيقي نحوه .. لكنه قال مصرّاً :
,
, -كلا يادكتور .. أنت دوماً على الرحب والسعة .. ولكن هل لديك الوقت الكافي كي أقص عليك ماحدث، أم أن وقتك محدود؟..إن حديثنا سيطول.
,
, نظرت إلى ساعتي .. كانت مازالت الحادية عشر صباحاً ، ولم يكن هناك أي موعد لي قبل الرابعة عصراً ، فقلت له مطمئناً :
,
, - لاتقلق بشأني أيها العجوز .. فمازال أمامي مُتسع من الوقت لأسمعك .. يمكنك أن تحكي كما تشاء.
,
, وتنهد بإرتياح ونهض متجهاً إلى -سبرتاية- عتيقة قابعة على طاولة خشبية بجوار أحد جدران حجرته ،وهو يقول:
,
, -حسناً ليكن ذلك ..لكن دعني أولاً أعد بعض الشاي الثقيل من أجلنا.
,
, أخذ يعد الشاي بشرود كأنما يرتب ذكرياته ويصنفها في عقله ،ورحت أراقبه بلهفة، وأنا أنتظر ما سيلقيه على أذناي ..كنت متحمساً بشدة كي أسمع، يومها حكى لي الأحداث التى مر بها منذ أعوام بعيدة .. وكالعادة كنت مبهوراً كثيراً بما حكى .. بالطبع كانت الأحداث مرعبة ومخيفة وعسيرة التصديق .. إلا إنني لم أستطع أن أكذبه .. وقلت لنفسي حينها "مالذي يدفع رجل مثل هذا، وقد بلغ من الكبر عِتيا ، أن يختلق مثل هذه الأحداث؟.. لاشيء بالتأكيد..إن ماقصه علي لابد أنه قد حدث بالفعل، أو على الأقل هو يؤمن أنه قد حدث، لكنه لايكذب."
,
, بالطبع كنت محظوظاً ؛ فقد استطعت بعدها الحصول على الكثير من تفاصيل القصة من أهم أبطالها الذين عايشوها ..
,
, الدكتور محمد شاهين.. كان له دور رئيسي بالقصة ،وحكى لي فيما بعد ما يتذكره عن تلك القصة..
,
, واكتملت حينها خيوط القصة بأكملها في رأسي.. وكان عليّ أن أحكيها لكم ..
,
, وها أنا أفعل..