NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

𝔱𝓗ⓔ β𝐋𝓪℃Ҝ Ã𝓓𝔞Mˢ

( بنت قلبي 𝓯𝓪𝓽𝓶𝓪 )
نسوانجى مثقف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
مترجم قصص مصورة
مشرف سابق
ناشر صور
كاتب جولدستار
إنضم
23 يونيو 2023
المشاركات
19,589
مستوى التفاعل
33,143
الإقامة
مِےـمِےـلكےـة نٌےـسًےـوِٱنٌےـجَےـيّےـ
الموقع الالكتروني
نسوانجي.net
نقاط
42,192
الجنس
ذكر
الدولة
🍪♚ ℕѕ山𝐀ℕG𝔦 тʰⓇO𝐍𝑒 👣♔
توجه جنسي
أنجذب للإناث

رواية زوجتي من الجن ... إبداع متناهي في التعبير والكلمات .. للكاتب الكبير فوزي عبده​


ذات مساء، بينما كنت أرنو إلى الفضاء، شدّني منظر نخلة تعانق السماء
بأبهة وكبرياء، فأخذت أتأملها مطلقاًلخيالي العنان كي يحل على شريط
طويل سريع يطبع أمام عينيّالحلم باإلفراج المرتقب ولقاء األصدقاء
واألهل.
مر الشريط كومضات سريعة، وفجأةًتجسدت إلى جانب النخلة فتاة حسناء
ترتدي رداء أخضر ربيعياً، ازد من جمالها شالل شعرها األسود المتموج
الذي تدلى مسترسالًحتى تجاوز خاصرتها... وحين أمعنت النظر في
وجهها رأيت لوحة غاية في الجمال.
سبحان من أبدعها وأبدع رسم عينيها... هزت النخلة بيديها وراحت تدور
حول جذعها برشاقة غ ازل. وفجأةًرفعت رأسها لتلتقي عيناي بعينيها
السوداوين الواسعتين، فانساب سح ر خفق له قلبي، ثم انفرجت شفتاها
راسمة ابتسامة مالئكية عذبة دخلت قلبي فملكته وتغلغلت في ثنايا ر وحي
تاركة فيها أثر ما يفعل الخمر بمحتسيه. وفي لمح البصر وقبل أن يرتد
طرفي استدارت نحو النخلة واختفت.
بقيت في مكاني أحدق إلى المكان نفسه، متسم اًر شارد الفكر مذهوالً، ثم
تحسست نفسي جيداً؛ فقد خلت أنني كنت في حلم جميل.
يحتل مكانه حلم آخر، ومع هذا أحببت الجلوس في ذلك المكان مستمتعاًحاولت أن أقنع نفسي بأن ما رأيته ال يعدو كونه حلماًسيتالشى حينما
بالبحث عن فتاة حلمي علّها تظهر ثانية. وبين الحين واآلخر كنت أسرق
من االنتظار لحظات حنين إلى األهل واألصدقاء.

بقيت على هذه الحال خمسة أيام. و في اليوم السادس وبينما كانت الشمس
تميل إلى الغروب ظهرت بجانب النخلة. نعم، إنها هي، ذات الرداء
األخضر، جلست هذه المرة في حضن األرض، وكأنها زهرة إلهية في معبد
الجمال، تسارعت دقات قلبي حين رمتني بنظرتها الساحرة واالبتسامة تر تسم
على محياها كأنشودة عشق انتظرها القلب المعذب طويالًليروي ظمأه،
لكنها سرعان ما اختفت ثانية، وكأنها تخشى عتمة الليل ووحشة السجن
وهول الزنازين والخيام. عدت إلى واقعي، سجن وسجان، إخوة وأصدقاء
ورفاق خلف القضبان، لكن السؤال بقي يلح عليّ:
 هل جننت حتى أعشق س ارباًصنعه خيالي؟!
استسلمت إلى العلم والمنطق، وأقنعت نفسي بأن ذات الرداء األخضر
ليست سوى وهم، و أن ما رأيته ال يمت إلى الحقيقة بصلة. ومع هذا، فقد
كان فكري وخيالي يسرح فيها حتى وجدت نفسي في نهاية المطاف أحلّق
في خيو ط من نو ر جمالها األخّاذ. آه، لقد أصبحت أسير فتاة حلمي. نعم،
لقد أحببتها حباًال يعرفه إال من لمست شغاف قلبه أشعة الحب وسحره
الذي ال ينضب.
حاولت مجدداًأن أمنع نفسي من التفكير بها فلم أجد إلى ذلك سبيالً؛ لذا
بت أتحايل على عقلي ألعيش معها حلمي الجميل، و أخشى أن يوقظني
طنين بعوضة فيقطع شريط أحالمي ويمنعني من استحضار جمال عينيها
وروعة ابتسامتها التي ارتسمت في مخيلتي

مع توالي األيام، أصبح أملي الوحيد أن تظهر من جديد. انقضى نصف
نفس األسير... أصبحت ح اًر، ما أجمل أن يكون اإلنسان ح اًر طليقاًعام من عمري و جاء معه موعد اإلفراج، يوم الحرية الذي تتعطش إليه
كفراشة!
فجأة عصف بقلبي هاجس سريع بعد أن راودني شعور مليء باألسى
والمرارة، شعرت معه وكأن زهور الربيع تتساقط، انقبضت نفسي... لقد
تذكرت الفتاة والنخلة، شعرت بمرارة من يفقد أعز شيء في حياته.
الجميع يحثني على الصعود إلى السيارة التي ستنطلق عائدةًإلى البلدة،
وعالمات التعجب ترتسم على وجوههم، وكأنما يتساءلون ما بال الرجل؟
أيتوق إلى العودة لألسر؟! بدأت أتمالك نفسي بعد أن أحسست بما يجو ل
في خواطرهم، فصعدت إلى السيارة جسداًدون روح. وبينما كنا في طريق
العودة وعجالت السيارة تلتهم الطريق كانت السعادة تغمر أمي،
والضحكات تغرق أختي سروة، أما أنا فال أدري أين أنا.
بدأت ألملم شتات أفكاري وأستجمع قواي وألح على نفسي حتى تكف عن
هذا الجنون، تصارعت األفكار والمشاعر واألحالم واألخيلة، وفي خضم
هذا الصراع المرير بدأت أشتم نفسي حتى تولد لدي شعور بأني أريد أن
أصرخ "كفى أحالماً". غمرني العرق جراء هذا الصراع ألصحو فجأةًعلى
صوت أمي المالئكي:
 لماذا أنت حزين يا حسن؟
ابتسمت بمرارة، إنها أمي الحنونة، نهر العطاء وبحر الحنان.

 لست حزيناًيا أمي، كل ما في األمر أنني متأثر قليالًلف ارق
أصدقائي في األسر.
منبع الطفولة والذكريات، هناك ازدحم البيت بالمهنئين بعودتي سالماًبدأت أتجاذب بعدها أطراف الحديث مع أمي وشقيقتي حتى وصلنا إلى
معافىً؛ األمر الذي جعلني أعود إلى طبيعتي.
مرت األيام وبدأت أتغلب على مشاعري حتى تمكنت من السيطرة على
نفسي مجدداً، بعد أن أقنعتها بأن ما عشته في األسر ال يعدو حلم يقظة
انتهى.

**********

ذات يوم دُعيت عائلتي إلى حضور حفل زفاف، فرأيت أن بقائي في البيت
بدأت خيوط الشمس تتسلل هاربة من النافذة تاركةًو ارءها ظالًلطيفاًوحيداًسيتيح لي أن أق أر كتاباًبهدوء. لم أشعر بمرور الوقت إال عندما
مشوباًبالبرودة، وا ذ بي أسمع همساًناعماًهادئاً. ال إ اردياً، التفت نحو
مصدره طارحاًالكتاب أرضاً، وقد اضطرب قلبي وارتعش جسدي:
 يا إلهي!
هالة ضوئية تشبهها تماماًتقف شاخصة أمامي، العينان السوداوان
الواسعتان واالبتسامة العذبة الناعمة، والشعر األسود الطويل. تسمّر ت في
مكاني، تسارعت أنفاسي:
 كيف حالك يا حسن؟ اعذرني ألن ظرو في لم تتح لي زيارتك
مبك اًر.
نعم، إنها هي، ارتعدت كل خلية في جسدي، وكأن صعقة ضربتني،
ابتسامتها الساحرة تخترق صدري لتستقر في أعماق نفسي متفاعلةًمع كل
خلجة من خلجات قلبي. ال أملك إال الصمت وأنا هائم في محراب جمالها،
كم هي جميلة! يا إلهي! مئات األسئلة تدافعت، هل عدت إلى الدوامة
نفسها؟ من هي؟ من تكون يا إلهي؟ أهي إنس أم جن؟... عيناي تحدقان
بها وال أريد أن تغيب عنهما لحظة؟ ما الذي جاء بها؟ ال أريد أن يرتد إلي
طرف في حضرتها، ال أريد أن أفارقها... خفت أن تختفي وتتركني
مجدداً... إن فعلت، ماذا سيحل بي؟ وما هي إال لحظات حتى قالت بنغمة
انسابت في أذني:

 الوقت تأخر وعلي المغادرة.
وقبل أن تصل آخر كلمة إلى مسامعي انشقت األرض وابتلعتها. سمعت
صرير الباب، فعرفت أن أمي وأختي قد عادتا، تجاهلتهما وأخذت أبحث
عن حلمي في أرجاء المنزل. قاطعتني أمي بسؤالها:
 عمّتبحث يا حسن؟
فأجبتها مازحاً:
 أبحث عن حلمي الجميل.
ضحكت سروة وهي تقول:
 سالمة عقلك يا حسن.
أعدّت أمي طعام العشاء وأصرت على أن أجلس إلى جانبها، وبدأت
تحدثني بإيجاز عن العرس والصبايا وأنا شارد الذهن. أنهت حديثها وعدت
لفتاة أحالمي التي أمست حقيقةً.
أعدت التفكير بها مرةًأخرى، أخذت أسترجع ما كنت أقوم به قبل أن
تظهر، أيعقل أني غفوت وحلمت بما رأيت، يستحيل أن أكون قد غفوت،
ال أريد أن أصغي إلى نداء العقل مرة أخرى. ال أريد تفسي اًر يسرق حلمي
الجميل. آه، كم هي طويلة هذه الليلة، صراع محتدم بين الفكر والعاطفة،
بين العلم والخ ارفة، بين الواقع والخيال، وأخي اًر انتصر العقل.
توالت األيام وتعاقبت الليالي، لينقضي شهر بأكمله. وذات ليلة، بينما كنت
جالساًفي حديقة المنزل شارد الذهن جاء صوتها من بعيد:
 مساء الخير يا حسن

رتعش قلبي، نظرت إلى مصدر الصوت، فإذ بابتسامة عذبة ال تنتهي...
سارت نحوي، اقتربت أكثر فأكثر حتى جلست إلى جانبي. لم أحرك ساكناً،
أتحدث، فلم أستطع، وكأن لساني فقد القدرة على الحركة، نظرت إليّراحت عيناي تتفحصانها، أقصد تتأمالن سحرها األخاذ. حاولت أن
وكأنها تود أن تعيد الطمأنينة إلى قلبي. لم أكن خائفاً، في الحقيقة كانت
السعادة هي من عقدت لساني. وأخي اًر تمكنت من أسألها:
 قولي لي.
فأجابت بهمس عذب ضمّكل األلحان واألنغام.
 أنا غادة، جئت لزيارتك، وال وقت لإلجابة عن أسئلتك.
وقبل أن أسالها إن كانت ستعود، ردت:
 سأعود قريباً!
اختفت فجأة وتركتني في حيرة من قدرتها على ق ارءة أفكاري وا جابتها عن
أسئلتي قبل أن أنطق بها، لكنها غادرتني هذه المرة وقد تركت على األقل
اسماًأناديها به.
قطعت الشك باليقين في أن ما يحدث لي حقيقة، ومع هذا اليقين ازداد
قلبي تعلقاًبها وازدادت روحي هياماًبجمالها. بدأت بعدها أنتظر الغد
المشرق المبشر بالسعادة والهناء، فيكفيني منه أنني سأرى غادة.
انقضت الليلة وتبعتها ليال كثيرة، أمضي مساءاتها في حديقة المنزل علّها
تجيء، وفي ليلة مقمرة، باغتني صوت أمي الحبيبة.

 أخبرني من تكون سعيدة الحظ التي سرقتك منا ألخطبها لك اليوم
قبل الغد.
ابتسمتُوابتسمتْوتركتني ألحالمي.
 تصبحين على خير يا أمي.
ما إن استدارت أمي عائدة إلى البيت وتوارت عن ناظري حتى هبت نسمة
صيفية ناعمة خفيفة تحمل معها صوتاًمالئكياًعذباً:
 من يشغل بالك يا حسن؟
التفتُّإلى مصدر الصوت وكاد قلبي يقفز من موضعه. إنها غادة تجلس
على حافة سور الحديقة تعانق ضوء القمر وتزيده جماالًو دالالً، اقتربت
بخفة ريشة ناعمة تحملها نسمة صيفية، دنت لتجلس على كرسي قديم من
القش، والنسيم يداعب شعرها الناعم، ثم قالت:
 ل م أنت مذهول؟ هل هذه هي المرة األولى التي تراني فيها؟ صحيح
أنني أستطيع قراءة ما يجول في خلدك إال أنني في شوق إلى
سماع صوتك، ال داعي للحيرة، تكلم، أعلم أنك تريد أن تسألني
من أنا!.
 نعم من أنت؟
وقبل أن أكمل جملتي، ضحكت ضحكة ساحرة جعلتني أعتقد أنني قلت
دعابة، وما إن شاركتها ضحكاتها، حتى قالت:
 أترى، األمر بسيط، أنا يا حسن من عالم غير عالمك.
 أهذا يعني أنك من الجن؟

ضحكت مجدداًضحكةًجعلت روحي تنتشي من عذوبتها ثم قالت:
 أنا لست من عالمك، فال أبي وال أمي من البشر، وألني ابنتهما
فهذا يعني أنني لست من البشر.
حرت من تهربها من اإلجابة، فسألتها وكان في سؤالي شيء من اإلصرار:
 أجيبي فقط، هل أنت جنية؟ وكيف تستطيعين قراءة أفكاري؟
 أنا لست إنسية يا حسن.
احترت من إجابتها، وغصت في بحر مليء باألسئلة... صمتتْ، وكان
في صمتها شيء مريب. ثم عادت لتقول:
 بكل سهولة يا حسن، أستطيع معرفة ما يجول في خاطرك دون
جهد أو عناء، ما دمت جزءاًمن أفكارك. إن رغبت، سأعلمك
كيف تقرأ أفكار غيرك.
عدت إلى السؤال نفسه ال شعورياً:
 من أن ت؟ ومن أين أتي ت؟ ومن تكونين؟
ردت بنغمة فيها شيء من السخرية:
 اسمي غادة، ولست من اإلنس وأنا من عالم آخر غير عالمك.
 إذاً، أنت من الجن؟
 لست من اإلنس، وأطلق علي ما شئت من مسميات.
ابتسمت ابتسامةًساحرةًأشعرتني بأنني *** صغير يشعر بالخجل حيال
أسئلته التي يعتقد أنها ال تخلو من الحماقة والسخف. إذاًهي جنية، ولكن
ما السبب الذي يكمن وراء عدم بوحها بجنسها و عالمها؟ رتبت أفكاري،

استعدت ذاكرتي، وغادة ال تزال تنظر إليّ. قلت في نفسي هي اآلن تعر ف
بماذا أفكر، يا إلهي، كم أبدو سخيفاًوضعيفاًأمامها، فقالت:
 أنت ال تبدو سخيفاًيا حسن.
ضحكتُ، وقلت لها:
امتزج كالمي بشيء من الضحك، فكلما جئت بسؤال أتتني اإلجابة حاملةً أرجو أن تراعي الوضع الذي أنا عليه اآلن.
المزيد من الحيرة. ثن قلت لها:
 ساعديني على فهم ما يجري، حتى أتخلص من حيرتي.
ابتسمت وقالت:
 هل أنا في حلم جميل سأصحو منه بعد أن تغادري؟ أم بي مسٌّ تفضل ماذا تريد أن تفهم؟
من الجنون؟ هل أنت جنية؟ ماذا كنت تفعلين في سجن عسقالن؟
كيف يكون ذلك؟ كيف تظهرين فجأة ثم تختفين؟
 إذا كنت تريد أن أجيبك، ابدأ بسؤال واحد، وبعد أن أجيبك اطرح
السؤال التالي.
 إذاً، فلنبدأ، هل أنا أحلم؟
 أنت ال تحلم، وا ن أردت التأكد فقف على قدميك.
امتثلت لها وأنا أضحك من نفسي، طلبتْأن أجلس فجلست، ثم وقفت،
ثم جلست... ولو شاهدني أحد على هذه الحالة لظن أنني أصبت بنوبة
جنون، سألتها:

غادة، من أنت؟ ومن أين جئت، ومتى...؟
ضحكت، وبعد صمت قالت:
 اتفقنا على أن تسأل سؤاالًواحداًوتنتظر اإلجابة وبعدها تسأل
السؤال التالي.
أضفى هدوؤها على اللقاء جماالًوسح اًر فسألتها:
 هل أنت من رأيتها في السجن؟
 نعم، ألني أردت أن تراني، ولي هناك حكاية غريبة عشتها منذ
الطفولة، وموجزها أن لتلك النخلة مكانة في قلبي، لذا لم تنقطع
زيارتي لها منذ كنت طفلة. كنت آتيها بين الحين واآلخر دون أن
أعير أي اهتمام لما يحيط بها، حتى جاء ذلك اليوم الذي شاهدتني
فيه، في تلك اللحظة نسيت نفسي وبعفوية اتصلت بأفكارك، ورأيت
الفرصة مؤاتية فظهرت لك لتراني. آلمني أني لم أكن في نظرك
أكثر من حلم. بعد خروجك من السجن تتبعت أثرك، وحينما
سنحت الفرصة تسللت وزرتك في بيتك، ولكن لم يكن لدي وقت.
تنهدت منهيةًحديثها. وبدل أن يتضح األمر اتسعت فجوة الحيرة، وتدفقت
األسئلة. وليت لساني انعقد ولم أنبس ببنت شفة، فقد قلت دون تفكير:
 أفهم من كالمك أن حبي للنخلة هو الحافز الذي دفع ك إلى الظهور
أمامي، أليس غريباًأن أكون الوحيد الذي لفت انتباهك من بين
آالف األسرى القابعين في ذلك السجن؟ لقد كانوا يطوفون حول
النخلة كل يوم، ال بد أن هناك من أحبها أكثر مني، ليس هذا

فقط، فمن بينهم العشرات الذين يؤمنون بوجود العفاريت والخرافات
وقصصها التي ال تنتهي. لماذا لم تظهري ألي منهم واخترت
الظهور لي أنا الذي ال يؤمن بالجن؟
انقلب كيانها وتالشت االبتسامة التي لم تفارقها، وبدت عليها عالمات
الحزن واأللم، ترقرقت الدموع في مقلتيها، و بحزن مزّق شغاف قلبي قالت:
 ليس ألحد القدرة على رؤيتي إال إذا أردت.
ثم طأطأت رأسها لكيال أرى الدموع في عينيها، و هي تقول:
 إياك أن تفكر في أن ظهوري فيه متعة لي، األمر أصعب مما
تتصور، فمن يظهر منا ألي إنسي يعرّض نفسه لمخالفة عقائدية
في عالمنا، يترتب عليها عقاب عسير لن يتصوره عقلك.
أشاحت وجهها بخفة ماج معها شعرها الناعم لينسدل من جديد على ظهرها
وكتفيها. أدركت أنها بهذه الحركة تمسح دمعة من عينيها سقطت على
خدها على الرغم مما أظهرته أمامي من جلد، انتصبت وكأنها تريد الثأر
لكبريائها:
 إياك أن تعتقد بأن االتصال باإلنس أمر سهل، تأكد يا فيلسوف
زمانك، أنك أكثر من غيرك إيماناًبوجود عالم آخر أو ما تسميه
الخرافة، وتجهد فكرك في خلق المبررات والتفسيرات. ال أنكر أنني
ارتكبت حماقة وسخافة سأدفع ثمنها غالياً، ويبدو أنني قد بدأت
دفع ثمنها اآلن.
 غادة، أنا آسف، لم أقصد اإلساءة.

ترقرقت الدموع في مقلتيها مرة أخرى، وقالت بصوت متهدج:
 أنا التي يتوجب عليها االعتذار.
 غادة، أرجوك أن تسامحيني، لم أقصد.
نظرت إليّوا ذ بدمعة ثمينة كأنها لؤلؤة تنساب على خدها... واختفت.
 غادة، غادة، غادة.
ناديت كمن يستحضر األموات من القبور دون مجيب... اختفت وانفطر
مع اختفائها قلبي، فقد كانت دمعتها األخيرة أشبه بخنجر غمد في أحشائي.
ذهبت تاركة ضميري يجثم على صدري.
يا إلهي، ما أسخفني! وما أحمقني! أيعقل أن يكون لي قلب ومشاعر
وأحاسيس؟ كيف طاوعني قلبي أن أسيء إليها وأجرحها. أنا ال أستحق
منها نظرة واحدة، فما بالك بدموع عينيها الجميلتين.
بكيت، وكانت هذه المرة األولى التي أبكي فيها منذ زمن طويل، ذرفت
دموعاًمن أعماق قلبي... أعترف بأن قوتي انهارت وفلسفتي تبخرت
وعنادي تحطم، فقدت توازني و سقطت على األرض وغرقت في فراغ ال
متناه، أين أنا؟
فتحت عينيّبتثاقل فلم أر شيئاً، أغمضتهما وفتحتهما مرة أخرى، وا ذ
بالغشاوة تنقشع ألجد نفسي في غرفة بيضاء وحولي أطياف ترتدي لون
الغرفة، وكل شبح يتمتم مع اآلخر، أغمضت عينيّألطرد هذا الكابوس...
ولكني بقيت أشعر بهم، وأخي اًر استسلمت لهواجسي حتى كاد أرسي ينفجر،
هل أنا في عالم الجن؟ هل من يحيطون بي هم شرموخ، ونجوف، وزليخة،

وشعشوع؟ بماذا يتهامسون؟ هل يقولون إن هذا اإلنسي جرح كبرياء ابنتنا؟
ماذا سيفعلون بي؟ هل سيعلقونني من شعري؟ ربما سيضعونني في قدر
كبير أو يمسخونني على هيئة قرد أو كلب أو حمار أو دجاجة! أنام
وأستيقظ والكوابيس تالحقني دون أن أقوى على الحر كة.
وأخي اًر، فتحت عيني ألتفحص الغرفة، فر أيت أمي نائمةًعلى الكرسي إلى
جانبي. عاودني السؤال: أين أنا؟ ماذا يحدث؟ أتذكر الحديقة وغادة
والدموع. تذكرت، لقد كنت في الحديقة مع غادة، حدثتها وحدثتني،
أغضبتها وحزنت لذهابها. نعم، لقد تركتني ولكن أين أنا؟ تزاحمت األفكار
في مخيلتي، ووسط الزحام ظهر وجه حبي الجميل، عيناها ال تخلو ان من
بريق الحزن والشفقة، دنت حتى جلست إلى حافة السرير، حاولت النهوض
فلم أستطع الحراك، شل جسدي باستثناء عقلي الذي يفكر فيها وعيناي
اللتان تتأمالن جمالها. ترفع يديها نحوي، تميل بجسدها المتناسق و صدرها
المكتنز لينسدل شعرها األسود كالشالل على صدرها ليالمس صدري
ويفصل بيننا، تبعده برقة ودالل، يزداد ميلها نحوي وكأن بها شوقاًولهفة
الحتضاني، تسارعت دقات قلبي... حاولت تحريك يدي فلم أفلح. اندفع
شوق دفين لضمها بعنف ولكنني ال أقوى على فعل ذلك، المست براحتيها
الناعمتين جبيني ورأسي، ارتعش جسدي وسرت في عروقي رعشة لحقها
تيار غريب جميل تمنيت أن يدوم طوال العمر، دنت بشفتيها مني وكأنها
تريد تقبيلي، حاولت عدة مرات أن أرفع رأسي عن الوسادة أللثم شفتيها
الورديتين، نفد صبري وأنا أحاول تقبيلها، وخالل انتظاري أن تقبلني

داعبتْشعري بأناملها و مسحت براحتيها حبات العرق التي تصببت من
جبيني ونظرت في عينيّحتى فقدت قدرتي على التركيز ثم طلبت أن أردد
خلفها عدة كلمات من بينها اسمها.
عجزت عن الكالم ولكنها ألحّت. حاولت ثم حاولت إلى أن نجحت:
"حبيبتي، أنت غادة، غادة...". رددت اسمها عدة مرات فشعرت بالطاقة
تتدفق في جسدي. طلبت أن أنهض بهدوء ثم أغسل وجهي وأعود إلى
السرير. ففعلت. ثم قالت إنها ستغادر لتعود الحقاً.
بعد دقائق، أيقنت بأنني في غرفة بأحد المشافي، فقررت أال أجهد نفسي
في التفكير والتحليل لتفسير ما يجري. هأنا أنتظر ألعرف.
تقدم أحد األطباء مني ووجّه إليّالعديد من األسئلة. ومن خالل أسئلته
أدركت أنني كنت في غيبوبة في المشفى منذ أسابيع. ففقدت هدوئي ولم
أعد قاد اًر على ضبط انفعاالتي.
ومع هذا فقد كان كل ما يشغل بال الطبيب كيف استطاع جسدي أن يعود
إلى الحركة بعد أسابيع من السكون، أما أنا فلم يستوعب عقلي ما يقوله
الطبيب، كيف حدث هذا دون أن أحس بأي شيء؟ شعور عميق يلفه
الصمت، عاصفة من الحيرة أخذت تطيحني.
عدت إلى البيت و بقيت أياماًمحاطاًباألقارب واألصدقاء واألسئلة، و أنا ال
أملك اإلجابة عن أي سؤال، لكن أكثر ما كان يؤلمني هو ما سببته ألهلي
من عذاب، شعرت بأنني سبب شقاء هذه العائلة، وأنني عبء عليها. ليتني
لم أفق من الغيبوبة أو مت. ماذا فعلت ليحدث لي كل هذا؟ أتذكر غادة

ويعتريني شعور بالغضب نحوها. فمنذ عرفتها والمصائب تحل عليّو احدة
تلو األخرى، فهي سبب قلقي وعذابي، ولكني أحبها بجنون، ولكن لماذا
تخلت عني وأنا في أمس الحـاجة إليها؟ لماذا لم تأت لتساعدني وهي تملك
القــدرة على ذلك، لمـاذا يا غادة؟ وسط دوامة التفكير والهم والغم، ظهرت
غادة وجلست إلى حافة السرير، وما إن رأيتها حتى امتزجت مشاعر
السعادة بالغضب، فقالت:
 ما بك يا حسن؟ لم أعتد رؤيتك هكذا.
 ال شيء يا غادة.
قرأت أفكاري، فتالشت ابتسامتها، ولم تتكلم، فلم أتمالك نفسي فعبرت عن
غضبي، وقلت لها:
 أنت قادرة على قراءة أفكاري، وبالتالي تعلمين مدى عشقي لك!
لماذا فعلت بي كل هذا وأنا الذي أحببتك، بل عبدتك، أيحصل لي
كل هذا ألنني تهورت وسألتك بضع أسئلة غبية سخيفة؟
نظرت إليّبعمق دون أن تجيب، كان صمتها يستفزني أكثر فأكثر، فقلت
لها:
 هل تشعرين بالسعادة اآلن؟ هل نلتُعقابي المناسب؟
استفزها ما قلت فخرجت عن صمتها:
 أي أحمق أنت، ما ذنبي فيما حدث لك؟ لماذا تصر على إيالمي
دائماً؟ هل عليّأن أندم لعودتي لمساعدتك، حقاًأنتم البشر من
أضعف المخلوقات ولكم طريقتكم الغريبة في تفسير األمور، يا

لبراعتكم في إلقاء اللوم على اآلخرين. يبدو أنه حان الوقت لتواجه
نفسك الضعيفة، والحقيقة التي لن تسرك.
بحركة سريعة ومفاجئة اقتربت ووضعت يديها على رأسي وضغطت
بإبهاميها على جبهتي، فشعرت بأن حر الدنيا بدأ يخرج من رأسي،
وبصوت هادئ متقطع قالت:
 انظر في عينيّ، اتركني آخذك إلى البداية، انظر في عينيّفقط.
فقدت قدرتي على التركيز ولم أعد أشعر بأي شيء، ثم رأيت حديقة منزلنا،
رأيت شخصاًملقىًعلى األرض، إنه أنا، نعم أنا، أريت نفسي ثم أمي
تقترب محاولة إيقاظي... تصرخ حسن، حسن. تلحق بها سروة. يحملني
الجيران! أُنقل في سيارة إلى المشفى، أطباء، ممرضات، أجهزة، فحوص...
أرى كل شيء بوضوح، منذ لحظة وجودي في الحديقة وحتى صحو ي من
الغيبوبة، كيف كنت أرى نفسي ومن حولي ال أعلم؟ واألهم أنني كنت في
أعماقي أرفض أن أستيقظ، وكأني أريد أن أبقى في غيبوبة إلى األبد.
 هل علمت اآلن ماذا حدث لك؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ لم أتخل
عنك على الرغم من سخافتك، ولكنني مهما بلغت من القدرة على
التغلغل في أعماقك فلن أستطيع أن أدفعك إلى القيام بشيء ال
ترغب فيه.
غرقت في الحيرة، كيف فعلت ذلك؟ ما هي القوة التي تملكها لتعيدني إلى
الماضي ألحياه لحظةًبلحظة، لقد سمعت كل كلمة قيلت وتذكرت
التفاصيل الدقيقة التي ال تستطيع ذاكرتي أن تحفظها؛ فسألتها.

كيف فعلت هذا؟ هل عشقي لك هو ما أدخلني في هذه الحالة؟
 ال داعي إلرهاق تفكيرك، كفاك ما عرفت اليوم.
 غادة، أستحلفك بحبي لك وأنت أعلم مني به، أن تجيبي عن
سؤالي.
 لو كنت أشك في حبك ما عدت أبداً. عشقك لي لم يكن سبب
غيبوبتك، هناك أسباب أخرى ال تريد أنت اإلقرار بها. سأجيبك
عن السؤال األهم، هناك طريقتان للعودة إلى الماضي، كل إنسان
سليم العقل يستطيع العودة إلى الماضي متى شاء، األصوات التي
سمعها والصور التي رآها يستطيع العودة إليها كلها. لكنكم حتى
اآلن لم تستطيعوا اكتشاف الطريق الصحيحة إلى ذلك، ربما يكون
ذلك أفضل لكم؛ ألن المئات منكم استطاعوا العودة إلى الماضي
فعلقوا في اللحظة التي احتاجوا إليها.
سألتها:
 كيف شاهدت الماضي وعيناي مغلقتان؟
 الطيف.
 إذا كانت لدى اإلنسان القدرة على العودة إلى الماضي فهل لديه
القدرة على الذهاب إلى المستقبل؟
ضحكت وأشارت بيدها ساخرة:
 حان موعد نومك يا حبيبي، وسنكمل حديثنا الحقاً.

غابت كلمح البصر ومع غيابها توشح األفق بخيوط الشفق معلناًبزوغ
الصباح. ألقيت نفسي على الفراش ألغط في نوم هانئ، لم أصح منه إال
في ساعات الظهيرة، بعد إلحاح أمي علي أن أستيقظ ألتناول اإلفطار
والدواء و أستعيد نشاطي وأجلس مع قريباتها اللواتي قدمن لزيارتنا لتقديم
التهاني لخروجي من المشفى.
غسلت وجهي واستبدلت مالبسي وخرجت. بدأ الحديث بالسؤال عن
صحتي، وانتهى بآخر أخبار فالنة وعالنة. خالة أمي )أم محمد( التي لم
ومع أن حديثها لم يكن يخلو من السذاجة، فإني كنت أكثر منها سخفاًأرها سوى مرتين في حياتي، بدأت تروي لنا بعض القصص عن الجن،
حينما سألتها عن عالقة الجن بالبشر. وحين انتهى اللقاء على خير،
استفردت أمي بي لتسألني عن سر هذا االهتمام بقصص الجن؟ فقلت لها
إني كنت أحاول مجاملة خالتي. ولكن هيهات لجهاز الرصد المسمى )األم(
أن يمر على هذه الهفوة مرور الكرام.
انقضت الساعات وتجاوز الوقت منتصف الليل، حينها راودني إحساس
جميل بأن حبيبتي تناديني، فركضت مسرعاًإلى غرفتي ألختصر تلك
المسافة القصيرة وكلي أمل أني سألقاها...
غمرتني السعادة حينما رأيتها تقف متكئة إلى حافة النافذة تراقب النجوم،
شعرها األسود وثوبها األبيض ونور القمر اجتمعت معاًفي لوحة يعجز
كبار الفنانين عن رسمها، تسمرت في مكاني ألعيش اللحظة، تمنيت لو

ضممتها إلى صدري لتسمع دقات قلبي... لكنني لم أجرؤ، ودون أن تلتفت
إليّقالت:
 أغلق الباب وتعا ل إلى جانبي يا حسن.
اقتربتُمنها وأنا أردد قو ل الشاعر دون وعي "جاءت معذبتي من غيهب
الغسق*** كأنها الكوكب الدري في األفق" امتدت أصابعي لتغوص بين
أمواج شعرها الناعم، فتسارعت دقات قلبي، كم أتوق إلى ضمها. لم أجرؤ،
استدارت نحوي وعيناها تحثاني على أن أتج أر. ابتعدتْعدة خطوات
وقالت:
 تبدو أفضل حاالًاليوم يا حسن؟
 ما دمتُأراك يا غادة، فسأكون بخير.
 ولكنك قبل أيام لم تكن كذلك؟
 دعيني من األمس والماضي، ولنحيا الحاضر والمستقبل!...
 المستقبل يتحول إلى ما ض كل لحظة، وال مستقبل دون أن يحدد
الماضي معالمه، وهروبك من الماضي لن يأخذك إلى المستقبل.
 دعيني أمنح عقلي هذه الليلة إجازةًحتى ال يفكر في غيرك.
 ستفكر في غادة المستقبل أم غادة الماضي.
 أنت الحب والنور واألمل والمستقبل والحياة، أنت كل شيء يا
حبيبتي.
 بعد مغادرتي سأتحول إلى ماض فهل ستفكر في الماضي.
 أنت الحاضر والمستقبل لن يسبقك الزمن أبد

وا ذا لم أكن فيه يا حسن؟
 غادة، أرجوك دعينا من هذا النقاش الذي يغص البال.
 أرأيت كيف تهرب من المستقبل؟ إذا كنت تهرب من الماضي ألنه
ال يحوي ما تريد، وتهرب من المستقبل، فإلى أين ستهرب يا
حسن؟
 السعادة يا حبيبتي، لحظات نقتنصها من الحياة وتتالشى فور
التفكير بأنها ستتالشى.
 حسن، أنا خائفة عليك من الغد، فال أدري إن كنت سأكون فيه أم
ال، وال أريد أن أكون سبباًفي إيذائك.
 غــــادة، ماذا يجول في خــــاطرك وا لى أي شيء تمهـدين؟
 أنا ال أمهد إلى أي شيء، ولكن كلما فكرت بك أشعر بأن من
األفضل أن تنتهي عالقتنا عند هذا الحد.
 أحبك يا غادة، أعشقك، وال أريد أن أحيا من دونك.
 أنا أيضاًأحبك يا حسن.
 يا إلهي، ما أجمل كلمة "أحبك" حين تنطقينها، أعيديها مرةًأخرى
ولتنتهي حياتي.
ألححت عليها، فضحكت و هي تقول:
 لكنني ال أريد أن تنتهي حياتك يا حسن، نعم أنا أحبك، ولكن هذا
لن يغير من الواقع شيئاً، هذا الحب لن يجلب لنا سوى العذاب
واأللم، ولن يجمع بين عالمين يستحيل لقاؤ هما.

لمعت فكرة فنطقها لساني فو اًر:
 غادة، حبيبتي، لماذا ال نتزوج؟
أخذت تضحك حتى خشيت أن يغمى عليها من شدة الضحك، ومع هذا
تمنيت أن تستمر ضحكاتها إلى األبد، ثم قالت:
 هل تعي ما تطلبه يا حسن؟
 نعم، لماذا ال نتزوج يا غادة؟
صمتت وأخذت ترمقني بنظرات امتزج فيها التحدي والسخرية بالفضول
واالستكشاف ثم قالت:
 أنت مجنون يا حسن.
 مجنون في حبك يا غادة.
شردت بخيالها وأطلقت العنان ألناملها تداعب ثنايا ثوبها الحريري تارة،
وتعبث بخصالت شعرها المنثور على ثوبها تارة أخرى. وبصوت هادئ
جديّقالت:
 هذه الفكرة تتجاوز حدود الجنون!
 أهالًبالجنون ما دمت أنت فيه يا غادة.
 كيف ستتزوجني؟
 أتزوجك مثل الناس كلهم.
 ولكني لست من الناس!
 أتزوجك على طريقة الجن.
 ولكنك لست من عالمي.


لماذا تعقدين األمور يا غادة؟
 أنت من يعقد األمور بجنونك، أنا قد أوافق على أن أواصل التسلل
إلى عالمك ولن أعارض إن تطورت األمور أكثر، ولكن بعيداًعن
جنون االرتباط الذي يخالف المنطق.
 غادة، ولكني أريدك أن تبقي معي دائماً.
 أو تظن أنك إن تزوجتني فإني سأبقى معك دائماً؟
 ولم ال يا غادة؟
 حسن، أنا لست إنسية لتمتلكها.
 أنا أحبك، وزواجي منك ال يعني أن أمتلكك.
 إذاً، ماذا يعني ذلك يا حسن؟
 بصراحة، يا حبيبتي، ال أجد الكلمات المناسبة ألعبر بها عن
مشاعري، وافقي على الزواج مني وسأمنحك كل لحظة من حياتي.
 كيف سيتم الزواج؟
هنا تاهت الكلمات مني، فأنا أعرف أن الزواج عندنا نحن البشر عقد
وشهود وحفل... وم ارسم ال تختلف كثي اًر بين ديانة وديانة وأخرى، أما عند
الجن فكيف لي أن أعرف!
استغرقت غادة في التفكير قليالً، وقالت واالبتسامة تزين شفتيها:
 أتعلم يا حسن، إن أفكارك المجنونة تشدني.
فرحت كثي اًر وشعرت بأن موافقة مبدئية برزت من بين ثنايا كالمها.
 إذاً، أنت موافقة؟


رمقتني بنظرة حادة تزامنت مع ابتسامة ساحرة ال تخلو من بعض الخبث،
وبصوت ممزوج بالسعادة والتحدي قالت:
 مغامرة فيها تحد وجنون، ربما أفكر يوماًأن أخوضها ألغيظ
أهلي.
 أرجوك الفظي هذه األحرف )م و ا ف ق ة(، دعيها تمر من
بين شفتيك.
 أنا )م و ا ف ق ة( على هذه المغامرة، وأشك في أن نهايتها
ستكون سعيدة.
وما إن تحررت األحرف من بين شفتيها وارتد صداها حتى اقتربت منها
وأمسكت يديها، وقلت:
 حبيبتي، هل أنت حقاًموافقة؟
 نعم، أنا موافقة ولن أفوت فرصة ألثير جنون أختي وأمي.
 هل أنت جادة؟
 جادة، واآلن ماذا سنفعل يا حسن؟
صمتت وراحت ترمقني بنظرات خبيثة واالبتسامة ال تفارق شفتيها مستمتعة
بالحيرة التي غمرتني، ماذا عساي أن أفعل اآلن؟ ما أملكه من أفكار
مقرون بعالم البشر. لم أتمالك نفسي من الضحك حينما تخيلت أني أطلب
من والدتي أن تذهب إلى أهل غادة من الجن لطلب يدها... تخيلت حماتي
الجنية، ويا سالم حينما تغضب مني، ماذا ستفعل؟ أفكار مجنونة اجتاح

خيالي وأضحكتني وما زالت غادة تنظر إلي بدالل وعيناها ال تخلوان من
لفتات األطفال البريئة و الخبيثة، وبصوت ناعم ورقيق:
 آه يا حسن.
أخذت تضحك بسعادة، ال تخلو من السخرية متعمدة إحراجي ومنتظرة أن
أعلن استسالمي، ثم قالت:
 بصراحة، طريقة الزواج في عالمكم جميلة ولن أمانع في تجربتها.
 غادة، أرجوك، دون مزاح.
ضحكت ثم قالت:
 طبعاًال يمكن أن أتزوجك على الطريقة المتبعة في عالمك. سنتبع
جيداًأن ارتباطنا معاًفيه تحد لنظام عالمي وسيكون معقداًطريقة عالمي باستثناء التفاصيل التي يستحيل تنفيذها، ولتعلم
بمختلف تفاصيله.
قلت لها وقد فاض صبري:
 يا غادة، أنا أدرك كل شيء، و على استعداد لكل شيء.
لم يعجبها ما قلت، فردت:
 ال تتسرع قبل أن تفهم أنك إن ارتبط بي لن تتمكن يوماًمن إقامة
عالقة مع أي إنسية، وكذلك ستكون ملكي مثلما سأكون ملكك،
والخيانة ال تغتفر، وسنتشارك كل شيء باستثناء األمور التي ال
نتحكم بها وتفوق قدرتنا كإنجاب األطفال مثالً، وهذا لن يحدث
يوماًبسبب اختالف عالمينا وتكويننا وال تحكمه إ اردتك أو إ اردتي

تغادر بعد أن نصحتني أن أعود عن فكرتي المجنونة أو أفكر بها جيداًلم تمل من شرح القوانين والقيود التي تصاحب االرتباط، وقررت فجأة أن
قبل أن أتخذ القرار. تركتني في صراع، وحبي لها أقوى من أي منطق،
أشرقت الشمس وغربت، وبزغ القمر وأفل، دون أن أتراجع عن قراري حتى
برهة. انتظرتها أياماًحتى أطلت وأضاءت قلبي بنورها.
 غادة حبيبتي، سأتزوجك. ولو كان الثمن حياتي، فال شيء أثمن
من ابتسامتك.
أخذت تتأملني ثم قالت:
 أنت تقودني بحبك إلى أمر سيكون فيه هالكي، ومع هذا فلست
أخشى إال من لحظة تشعر فيها بالندم على ارتباطك بي.
 غادة، يا روح الروح، لن أندم يوماًألني اخترت الحياة. أنت
الحياة، وا ن أظلمت الدنيا فابتسامتك ستنير حياتي، سأنزع قلبي
وأزرعك مكانه ومع كل دقة سأعلم أني حي ألنك نبضي، قيديني
بقيود العالم وارتبطي بي في هذه اللحظة.
ابتسمت ثم قالت:
 على طريقة عالمك أم عالمي؟
 كما تشائين يا حياتي.
 ليكن يا حسن، فأنا لست أقل جنوناًمنك.
اقتربت مني بخطوات واثقة، شبكت أصابع يدها اليسرى بأصابعي ثم قالت:

سأعلن عن رغبتي في االرتباط األبدي بك وكذلك ستفعل أنت، اآلن شد
على أصابعي بقوة وكرر خلفي:
 تتشابك أصابعنا وتكتمل حواسنا ليتأكد ما نراه ونسمعه، وبإرادتنا
الحرة نعلن رغبتنا في االرتباط األبدي.
كررت خلفها ما قالت عدة مرات ومع كل مرة كانت تطلب مني أال أسمح
لها بسحب يدها حتى ندرك أن ما نفعله تدركه حواسنا كلها.
انتهينا من طقوسها الغريبة، خيّم جو من الصمت وأنا أترقب الخطوة التالية
بفضول شديد. برقة نسمة هواء ورشاقة قطة تراجعت إلى الخلف خمس
خطوات وألقت جسدها الذي فاضت األنوثة منه على سريري فانزاح شعرها
األسود ليظهر ما أخفى من جسدها وثوبها األبيض المتموج فوق أر دافها.
حينها أخذت عيناي تلتهمان بشراهة ذلك الجسد الصارخ باألنوثة، اقتربت
منها وأحطتها بذ ارعيّوغمرت وجهي في شعرها وأخذت شفتاي تشقان
طريقهما للوصول إلى شفتيها. تعترض أناملها الحريرية شفتي وعيناها
تطلبان أن أتمهل، تزيح أناملها لتناديني عيناها، أقترب فتعيد الكرة، مثيرة
جنوني قبل أن تحسم موقفها بطبع قبلة على سبابتها وا لصاقها بشفتي وهي
تقول:
 أنا في شوق إليك، ولكن علينا أن ننتظر إلى ما بعد االرتباط.
 لم هذا التأجيل يا غادة؟
 هذا ليس تأجيالًيا حسن، ولكن هكذا تجري األمور في عالمنا.
 وما فعلناه اليوم يا غادة ماذا تسمينه؟

 لم نقم بشيء ملزم يا حسن، ما فعلناه هو اإلعالن عن نيتنا
االرتباط على طريقة عالمي، سنأخذ من الوقت ما نشاء للتفكير
باالستمرار فيه أو االنسحاب قبل الوصول إلى عهد االرتباط
األبدي.
قلت لها وقد بدا عليّالضجر من هذه الطريقة المعقدة:
 لماذا هذا التعقيد وهذه الشكليات السخيفة يا غادة، خاصة أننا
اتخذنا ق اررنا ولن نت ارجع عنه أبداً، دعينا من الشكليات ولنتمم
زواجنا.
 تمردت على القوانين كلها في عالمنا، ولست نادمةً... ولكن عهد
االرتباط حلم أي فتاة في عالمي ولن أستخف به. إن فعلت
فسأشعر بأني مجرد طفلة صغيرة تبحث عن كل ما هو مثير
وجديد، سواء كان ذلك الشيء عندك أو عند غيرك. أرجوك، أنا
لست كذلك فال تكرهني على شيء أكرهه.
شعرت بأنني سمحت ألنانيتي أن تمس مشاعرها فاعتذرت منها.
 ال عليك يا حسن، فلننس الموضوع ولنفكر بغ د خال من الهموم
واألحزان.
تسامرنا وضحكنا، شعرت بسعادة أعجز عن وصفها حتى نطق ت الكلمات
التي تسرق مني الحياة كل مرة.
 سأغادر اآلن وأعود قريباً.

ختفت كالعادة، لم أعرف السر الكامن وراء اضطرارها للمغادرة. شغلت
نفسي بعد الساعات واأليام في انتظار عودتها، ومع انتهاء اليوم الرابع
اعتراني شعور غريب بالخوف من أن هناك من يراقبني، وبعد صراع مع
القلق غفوت فغزتني الكوابيس ألفيق مذعو اًر، فوجدت غادة تجلس إلى
جانبي وتداعب شعري وتهمس:
أمسكت يدها بقوة ألطرد الخوف الذي اعت ارني، أللمح في عينيها حزناً ال تخف يا حبيبي.
ممتزجاًبالقلق، ارتعبت أكثر.
 اجلس يا حسن، أريد أن أتحدث إليك.
جلست إلى جانبها وهي تنظر إليّنظرة حزينة ترافقها ابتسامة مصطنعة،
لتزيل آثار القلق الذي خيّم علي، ثم قالت بصوت هادئ:
 حسن، حبيبي، لقد علم الكاتو بأمرنا.
 الكاتو... وما هو الكاتو؟
 الكاتو ذراع السلطة التنفيذية في عالمنا.
 هل تقصدين أن الكاتو هم الجن.
 حبيبي، ال أريد أن أخوض في نقاش حول المسميات، هم حرس
عالمنا والمسؤولون عن تنفيذ القانون.
 كيف علم الكاتو بعالقتنا، وكيف علم ت أنهم علمو ا؟
 لقد زار الكاتو بيتنا، وأخبروا أمي بعالقتي معك، وطلبوا اإلذن
بالتحقيق معي، لقد أخبرتك سابقاًأن أمرنا سيكشف عاجالًا

آجالً، ال يمكن إخفاء شيء لفترة طويلة دون أن يكتشفه الكاتو.
لألسف، لقد وصلوا إليك وعلموا كل شيء عن عالقتنا منك أنت
يا حسن.
 مني، كيف؟ لم أحدّث أحداًعن عالقتنا، لم أر أو جلس أو أتحدث
مع جن أو كاتو أو غيرهم.
 لـلكاتو أساليبهم الخاصة باالتصال بالبشر، يكفي أن يقترب منك
أحدهم ويغذي خيالك بأي كلمة تدفعك إلى التفكير بي حتى يتمكنوا
من قراءة كل ما سيمر في تفكيرك في تلك اللحظة.
 لكن يا غادة، أنا فعالًلم أجلس أو أتحدث مع جن أو كاتو.
 أنا آسفة يا حسن، لم أتوقع أن يكتشفوا أمرنا بهذه السرعة، توجب
عليّأن أعلمك كيف تستطيع التمييز بين اإلنس و الكاتو.
حاولت أن أتذكر من جلست معهم، لكن دون جدوى، فقد جلست مع
الكثيرين... سألتها:
 بأي شكل يظهر الكاتو؟
 يظهرون بشكلهم الطبيعي سواء أكانوا رجاالًأم نساءً، و بإمكانهم
أن يرتدوا الصورة التي ترسمها لهم في خيالك.
ارتعبت من الفكرة، ولكني ضبطت أعصابي فسألتها:
 وماذا يستطيع الكاتو أن يفعلوا بي.
 إن تمكن منك الخوف فهم قادرون على فعل أي شيء.
ابتسمت لتعيد الثقة إليّثم قالت:



 لكن بسهولة يمكنك أن تواجههم، فهم يستمدون قوتهم من ضعفك
فقط، وأنا واثقة بأنك ستهزمهم شر هزيمة إن اقتربوا منك.
لم تشد كلماتها األخيرة وخاصة اقترابهم مني من عزيمتي بل أغرقتني في
الخوف، سألتها كمن يبحث عن طوق نجاة:
 هل تستطيعين عمل شيء للتخلص من هذه الورطة؟
 ظهوري السريع واختفائي وقراءة أفكارك ليست باألمر الخار ق، أنا
ال شيء أمام قوة الكاتو، ومن يخضع لقوانينهم يستحيل عليه
مواجهتهم، ولكن أنت شيء آخر، بإرشاد مني تستطيع أن تواجههم
بسهولة حتى أن األمر سيكون مسلياًلك.
تحاول طمأنتي وتزيدني خوفاً، فإن كانت تخشاهم فمن أنا ألواجه من
يظهر ويختفي متى شاء. يا إلهي، أي ورطة أنا فيها... رمقتني بنظرة
غاضبة ثم قالت:
 خوفك هذا سيقضي عليك وعليّقبل أن يحدث شيء بعد، لم
أتصور أنك سترتعب إلى هذا الحد، تمالك نفسك قليالًوسأعلمك
كيف تواجههم.
 كيف يا غادة، كيف؟
 انتصارك على خو فك، قد يكون الخطوة األولى نحو هزيمة الكاتو.
حاولت أن أتمالك أعصابي وأهدئ من روعي، تذكرت ما قاله المتنبي

غي ر أنّال فتى يُالقي ال م نا يا*** كا ل حا ت وال يُالقي ال ه وا نا
*** ل ع ددْ نا أ ضلّ نا الشّجْعانا ..

وا ذا لم يكُنْ م ن ال موْ ت بُدٌّ*** ف م ن ال عجْ ز أنْتكُو ن ج با نا
 ماذا علي أن أفعل؟ اعذريني، فأنا لم أتعلم في المدرسة كيف
أواجه الكاتو؟
 أو الًيجب أن تعلم أن الصورة التي رسمتها في خيالك أنت أو
البشر عن طبيعة عالمنا وقوته خاطئة. الكاتو ال يمتلكون قوة
مادية وال يستطيعون تعذيبك أو قتلك أو نقلك من مكان إلى آخر.
وعليه، فإن الخوف من عالمنا مبني على الصورة الغبية التي
رسمها خيالكم على مر السنين، نحن عاجزون عن بناء القصور
لكم وهدمها في دقائق، ولن يخرج أحدنا من مصباح يوماً، ولكن
ال بأس إن استمتعتم بأفكاركم الساذجة.
برزت عضالتي وعادت إليّالشجاعة، فقد وجدت أن خوفي ال مبرر له
من عدو ال يملك إال الوهم والخيال. حبيبتي قرأت أفكاري فعلقت ساخرة:
 جميل أنك استعدت شجاعتك بعد أن شعرت بضعف خصمك،
وأتمنى أن تحافظ على هذه الشجاعة، ولكن عليك أن تفهم أن
الكاتو ال يعتمدون في حر وبهم على المادة، حينما يخوضونها ضد
إنسي، وا نما يخوضونها عبر أفكاركم، والجنون أسلوبهم المفضل
مع البشر. صحيح أن الكاتو ال يستطيع أن يقتلك، ولكنه يستطيع
أن يحملك على قتل نفسك بإرادتك. وهم بارعون بشل تفكيرك
وا يهامك بأي فكرة، وا ن تمكنوا منك فستكون نهايتك وبعدها
نهايتي. أفهمت يا حبيبي؟

لم أفهم كل ما قالته غادة وقتها، ولكن كونت فكرة ال بأس بها عن أسلوب
الجن أو الكاتو في القضاء على البشر، فما دام الجن ال يستطيع فعالًكما
كنت أتخيل أن يحرقني أو يقتلني أو حتى أن يعلقني من شعري، فهو ال
يستحق أن أخافه أو حتى أن أفكر فيه. سرني أنهم أضعف مما كنت
أتصور، و سألتها:
 أنت يا غادة، ماذا سيفعلون بك بعد أن خرقت قوانينهم؟
 الكثير الكثير يا حسن، سأكتشف هذا الحقاً، فلكل مخالفة عقابها
الخاص، حالياًستسلب حريتي بالكامل وأشك في أن أختي
ستتدخل هذه المرة إلنقاذي، خاصة بعد أن تجاوزت الخطوط
الحمر بعالقتي بإنسي والتخطيط لالرتباط به.
فاجأتني بضحكة مجنونة مليئة بالتحدي والشجاعة ثم قالت:
 أنا يا حبيبي لم أترك قانوناًإال وخرقته، وليحدث ما يحدث، فلن
يهمني شيء، قلبي لم يصنع من منطقهم حتى يحب وفق أهوائهم.
 غادة، لماذا لم يعاقبوك حتى اآلن إن عرفوا عنك كل شيء؟
 لن تصدق.
 ما هو الشيء الذي لن أصدقه يا غادة؟
 أنا صغيرة، وال يجيز القانون عقابي حتى أبلغ السن القانونية،
سينتظرون ذلك بشوق.
 أنت صغيرة؟
 نعم، أنا صغيرة يا حسن.

 كم عمرك يا غادة؟
 مقارنة بأعماركم، أبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً.
 خمسة وعشرون عاماًوتقولين صغيرة!
 نعم، في عالمنا ما زلت في سن المراهقة.
 كم يجب أن يكون عمرك حتى يستطيع الجن عقابك يا غادة؟
 أبلغ السن القانونية فور زواجي أو حينما يصبح عمري ثالثون
عاماً.
 هل أفهم أن سلطة الجن ستنتظر خمس سنوات، إذا لم تتزوجيني
حتى يستطيعوا عقابك؟
 كال، لن ينتظروا خمس سنوات وال حتى سنة واحدة، الكاتو لديهم
مائة طريقة للتحايل على قوانين عالمنا، ولن يعجزوا عن إيجاد
طريقة إليقاعي في شركهم، ومهما عرفت عن طرقهم وأساليبهم
فلن أعرف إال القليل، وبزواجي منك يا حسن أكون قد بلغت السن
القانونية، وا ن استطاع الكاتو أن يفرق بيننا فهذا معناه نهايتي
ونهايتك.
 ال تخشي يا حبيبتي، فلن يفرق بيننا أحد، ثقي بأنني قادر على
خلق المثل الحقيقي لهزيمتهم، وال داعي للخوف منهم أو التفكير
بهم.
 تمهل يا حبيبي، ال تنجرف بثقتك حد الغرور. صحيح، أنني ال
أريد أن تخاف من الكاتو ولكني أيضاًال أريد أن تستهتر بقوتهم ...

غادة يا حياتي، لقد علمت عن الجن ما يكفيني ألتمكن من
مواجهتهم، ولن يخيفوني بعد اليوم.
 أتعتقد أنهم سيعجزون عن إخافتك؟
 نعم، لن يخيفوني.
لم يتالش صدى كلماتي حتى اهتزت األرض من تحتي وأخذ كل ما حولي
يتأرجح ويسقط على األرض، ففقدت توازني و تساءلت إن كان زلزال ضرب
البيت؟ أم أن بركاناًانفجر تحته؟ أخذت أركض نحو الباب ألنجو بحياتي
دون أن أجده، شل الخوف حركتي، ظننت أنني هالك ال محالة، لحظات
واختفى كل شيء وكأنه لم يكن. أخذت غادة تضحك، وتطمئنني، فسألتها:
 ماذا حدث؟
 هل خفت مما حدث؟
استفز تني سخريتها فرددت عليها غاضباً:
 كيف ال أخاف وأنا أرى البيت ينهدم فوق رأسي ورأس أهلي. هل
كان علي أن أرقص من الفرح؟
فقالت بسخرية:
 لم ال، دعني أ ر إن كنت تجيد الرقص.
يا إلهي، كم استفز تني ابنة الجن هذه، ضبطت أعصابي و سألتها:
 من فعل هذا يا غادة؟
ودون مباالة قالت:
 أنا يا حبيبي، أمازحك فقط.


يا إلهي، إن كان هذا م ازحاًفكيف يكون الجد؟
- غادة، حبيبتي، ألم تخبريني أن الجن يعجز عن إلحاق األذى
بالبشر ألنهم ال يملكون الخواص المادية لذلك؟
 أال تالحظ أنك تتصرف كاألطفال، انظر حولك، هل حدث شيء
ملموس يستدعي منك هذا الخوف الذي تملكّك وأفقدك القدرة على
التفكير، هل تهدم البيت فعالً؟ هل تحرك شيء من مكانه، أنا
فقط غذيت أوهامك وضخمتها، وعقلك تكفل بالباقي. ليكن هذا
درساًصغي اًر لك، إن استطعت أن تفهمه تكون قد تعلمت س اًر آخر
من أسرار الكاتو الذي لن يعجز أن يعزز أوهامك، ويجعلك تظن
أن العالم سينهار فوق رأسك. حبيبي هذه خدعة صغير ة فقط
تعلمتها من أختي وأنا صغيرة فال تستهتر بقدرة خصمك وال تستهن
به، فـالكاتو قادر على إغراقك بأنواع الوهم كافة ومعركتك معه
ستكون من أصعب المعارك. واآلن يا حبيبي، سأتركك وعليك أن
تتوقع كل شيء قبل حدوثه والسيطرة على مخاوفك وأال تسمح لها
أن تحتل حي اًز في عقلك حتى ال تغرق وتغرقني معك، سأعود
قريباًلنكمل عهد االرتباط إال إن كنت قد غيرت أريك، وحينها
سأتفهم ذلك، إلى اللقاء يا حبيبي.
اختفت غادة بعد أن لقنتني درساًلن أنساه طول عمري، فقد أدهشتني من
قدرة الجن على فهم عقولنا نحن البشر، وتساءلت ماذا كان سيحدث لو
أننا توقفنا عن اكتشاف القمر والنجوم وركزنا على فهم عقولنا أوالً؟ كم هي

عظيمة حبيبتي! أعشق هدوئها وجنونها وسخريتها ومنطقها. كيف ستكون
حياتي من دونها؟ مرت لحظات على رحيلها وأنا أكاد أجن اشتياقاًلها،
خيم عليّالخوف من أال تعود، فإن حدث ذلك فسأغرق في عتمة لن
تنيرها شموس الكون.
كم دقيقة سأعد في انتظار عودتها، أعلم أن الثواني ستتباطأ، وهذا ما
حدث فعالً، فقد مر أسبوع وأنا في انتظارها كألف شهر، يا لسعادتي
وفرحتي وشوقي على الرغم من قسوة االنتظار، هل هناك أقسى من أن
تحصي لحظات انتظار الحبيب وعودة الروح لتسكن الجسد، سمعت
طرقات خفيفة على باب غرفتي فعلمت أنها أمي تنبهني قبل االقتحام،
اقتربت وجلست بجانبي وقالت:
 أال تالحظ أنك قد بالغت باختالئك بنفسك وامتناعك عن تناول
الدواء، من هذه التي أشغلتك؟ حدثني عنها.
 ما الذي سيسرك ألحدثك عنه يا أمي؟
 صفها لي، ال بد أنها جميلة جداًلتتمكن من سرقة قلبك وعقلك يا
حسن؟
تساءلت إن كانت أمي هي األخرى قد تعلمت قراءة األفكار فمازحتها:
 إنها القمر يا أمي.
ابتسمت وعرضت على أن تحضر لي ما أشربه فعلمت أنني تورطت وأنها
لن تعتقني قبل أن أصفها لها وأحكي لها عن تاريخ عائلتها، سترهقني
بلعبة التخمين، فقررت أن أتراجع قبل أن أغرق وأغرقها في األكاذيب.

لحظات وعادت تحمل كأس عصير، كان واضحاًأنها أعدته مسبقاً،
ناولتني إياه قائلة اشرب بالهناء والشفاء يا حبيبي، قربته من شفتي، وقلت:
 السم من يديك يا ست الحبايب سيكون فيه الشفاء.
لم أقصد بما قلت إال مجاملتها، ولكنها فاجأتني حين سحبت الكأس من
يدي وألقت به أرضاً، وأخذت تبكي، فسألتها:
 ماذا أصابك يا أمي، هل أنت مريضة؟
 أنا خائفة عليك يا حسن.
سألتها عن سر خوفها فصعقني ردها:
 من الجنية التي ال تفارقك يا حسن؟
أذهلني سؤالها، وكانت المفاجأة حين أخبرتني أنها تعرفت إلى ام أرة مؤخ اًر،
وأن لها ابناًبعمري سكنته جنية وأصابته بالجنون حتى وجدت الطريق
لعالجه، حينها أدركت أمي أن هناك تشابهاًبين حالتي وحالة ابنها، فلما
علمت تلك المر أة بما أصابني تطوعت أن تحضر العالج الشافي لتسقيني
منه، لكن قلب األم دفعها في اللحظة األخيرة لمنعي من شربه.
لم أرغب في أن أطيل الحديث حتى ال أثير قلقها، ربما كانت هذه المرأة
من الكاتو، وربما هي مجرد جاهلة أخرى. تساءلت ماذا كان سيحدث لي
لو أني شربت العصير.
عدت من جديد ألعد الدقائق مرةًأخرى في انتظار الحبيبة، لم أنتظر
طويالًهذه المرة حتى أطلت واستحوذت عليّ، فال شيء بوجودها يشغلني،
لم أسألها عما حدث قبل دقائق مع أمي ولكنها بادرت:

لقد كنت موجودةًوتفاجأت أيضاً، ال أستطيع الجزم مثلك إن كان
هذا من فعل الكاتو أم مصادفة فقط، ولكن ال غرابة أن يستخدم
الكاتو البشر للنيل منك فهذه مسألة متوقعة، وطرقهم كثيرة
للسيطرة على البشر، أنا سعيدة ألن ما حدث لم يترك تأثي اًر كبي اًر
كما كان يحدث في السابق، وهذا مؤشر على استيعابك لكل جديد
قد يفاجئك به الكاتو في المستقبل.
 نظرت إليّونظرت إليها، وفي اللــحظة نفسها نطقنا بالكـلمات
نفسها:
 لن نجعلهم يفسدون علينا هذا اليوم...
ضحكنا حتى ننسى مخاوفنا ثم قالت:
 حبيبي، بعد ساعات سنكون قد اقتربنا من تحقيق أجمل فكرة
مجنونة في عالمينا، سننطق معاًعهد االرتباط وننثر حروفه
على الحد الذي يلتقي فيه اليوم بالغد ويالمس فيه الماضي
الحاضر، وبعدها سآخذك إلى حديقتي السرية التي اعتدت
الهرب إليها في طفولتي ولم أبح بسرها أليّكان، أنت فقط
من ستشاركني إياها، واآلن أسرع لتصل إلى المكان الذي
منه فقط بإمكاني أن أصحبك معي.
أطلعتني على الموقع الذي سأالقيها عنده، و المدة التي سأقضيها بصحبتها.
اختفت وانشغلت بالبحث عن طريقة أبرر فيها غيابي ألهلي، حتى ال أثير
قلقهم. ادعيت أني سأ ارفق أصدقائي في رحلة لعدة أيام، لم يخف عليّ أن



سروة لم تصدق ما قلت، وحمدت اهلل أن أمي قد ذهبت للنوم، وا الّلكنت
في ورطة، انطلقت في طريقي، ولم يكن الوصول إلى نقطة اللقاء باألمر
الهيّن. حين وصلت كان المكان موحشاً، وما كنت آلتي إليه في مثل هذه
الساعة من الليل ألي سبب كان. أطلقت لخيالي العنان، وبدأت روحي
بالهيام، شعرت باقت اربها حتى أني أريتها في خيالي ترتدي ثوباًلونه مزيج
من األحمر والزهري واألصفر واألرجواني، أو أنه لون آخر لم أعهده من
قبل، ثم ظهرت وامتزج الخيال بالواقع.
اقتربت وأمسكت يدي، ثم أخذنا نسير ونحن نراقب النجوم، حتى وصلنا
إلى كهف كأنه ظهر فجأة من العدم، وقبل أن أسألها ضحكت، وقالت:
 ال تتفاجأ فهذا النوع من الكهوف ال يراه البشر بسهولة، حتى أنا
ما كنت ألراه، ولكنني تسللت إلى مكتبة أختي ووجدت الخرائط
السرية، وا ن شعرت بالنعاس فبإمكانك أن تنام فيه بأمان. ضحكتُالتي تقود إليه، وعبره فقط بإمكاني أن أصحبك إلى حديقتي
وقلت:
 بوجودك لن يزورني النعاس أبداً.
أشارت إلى القمر ثم سألتني:
 هل هناك ما هو أجمل منه ليكون شاهداًعلى ارتباطنا.
 وجه حبيبتي أجمل.
 انظر إلى النجوم واختر من بينها نجمة.
 وهل سنصعد إليها يا حبيبتي؟


ضحكت وضربتني بكفها مداعبة ثم قالت:
 هيا، اختر نجمة لتكون رم اًز لحبنا وارتباطنا، وأطلق عليها االسم
الذي تحب.
بحثت بين النجوم واخترت واحدة قد أتمكن من تمييز ها بسهولة، فأشرت
إليها وقلت:
 سأسميها غادة.
وبعد أن ضحكت قالت:
 عليك أن تختار للنجمة اسماًغير اسمينا.
اخترت اسماًآخر فلم يرضها، أخذت أفكر، ثم اقترحت عليها أن نطلق
على نجمتنا اسم مرح، فضحكت بسعادة، وقالت:
 لقد اخترت أحب األسماء إلى قلبي. آه، لو تعرف صاحبة االسم
ما أنا فاعلة اآلن.
 ومن تكون؟ وماذا ستفعل؟
 هي أختي الكبرى، لن تؤذيني ولكنها ستجرني من شعري فقط،
أما أنت فستطعمك لسمك البحر، واآلن تذكر موقع نجمتنا
لتساعدك مستقبالًعلى االتصال بي.
خلعت من يدها اليسرى سوا اًر من قماش غاية في البساطة نقشت عليه
عدة أحرف وأرقام غريبة، وقدمتها لي وطلبت أن أضعها حول يدي اليسرى،
ثم وضعت سوا اًر مشابهاًحول يدها اليمنى. ثم سرنا نحو الكهف دون أن
تنشغل عيني عنها، اقتربت وتركت خطوة واحدة تفصل بيننا. طلبت أن

نظر في عينيها السوداوين اللتين لم أر أجمل منهما، ولم أرهما بمثل هذا
الجمال من قبل. دار بيننا حوار صامت فقدت على أثره الشعور بجسدي
وكل ما حولي، وخاطبتني بعينيها:
 لقد حان موعد لقاء اليوم بالغد، سننتظر لحظة ونتلو معاًعهد
االرتباط الذي سيحولنا إلى واحد، واألحرف التي سننسج بها عهدنا
هذا إن لم تنبع من أعماقك ممزوجة بالحب النقي فلن يكون لها
معنى، واآلن حانت اللحظة، لنطلق العنان ألرواحنا لتنطق:
 أنا غادة بنت نازك، بنت الجن.
 أنا حسن بن صفية، ابن اإلنس.
 بشهادة القمر أقسم.
 بشهادة القمر أقسم.
 بروحي وخيالي وجسدي.
 بروحي وخيالي وجسدي،
 مدركةًمُجلّةًمعاني االرتباط.
 مدركاًمُجالًمعاني االرتباط.
 أعاهد حسن ابن اإلنس.
 أعاهد غادة بنت الجن.
 أن أكون له روح جسده.
 أن أكون لها روح جسدها.
 ولهيب ناره

 ولهيب نارها.
 البداية والنهاية.
 البداية والنهاية.
 أضيء له الحياة إذا اقترب ليلها، وأظله إذا سطعت شمسها.
 أضيء لها الحياة إذا اقترب ليلها، وأظلها إذا سطعت شمسها.
 أزيل الغم و أجلب السرور وأكون له ثمر الروح، وأحبه حباًال
يزول، حب األرض للمطر، والعتمة للقمر.
 أزيل الغم و أجلب السرور وأكون لها ثمر الروح، وأحبها حباًال
يزول، حب األرض للمطر، والعتمة للقمر.
 أهبه جسدي وروحي متى شاء، كيف شاء إلى أبد اآلبدين.
 أهبها جسدي وروحي متى شاءت، كيف شاءت إلى أبد اآلبدين.
 أضع يدي اليسرى.
 أضع يدي اليمنى.
 بيدك اليمنى، وهذا عهدي لن أنقضه.
 بيدك اليسرى، وهذا عهدي لن أنقضه.
 أنا زائلة والعهد باق.
 أنا زائل و العهد باق.
وبعينيها السوداوين الممتلئتين بالسعادة خاطبتني:
 أنا لك حبيبي، مثلما أنت لي، اترك روحك تعانق روحي وتعال
لنتذوق معاًطعم قبلتنا األولى.


ضممتها إلى صدري وكانت القبلة، ومعها فقدت األرض جاذبيتها وحلقت
روحي وطافت، وليت الزمن تجمد ألعيش تلك القبلة إلى األبد. أفقت من
ثمالتي ألجد نفسي في مكان لم أر له مثيالً حتى في الخيال وزادته ر وعة
تانك الشفتان اللتان لم أرتو منهما، وقبل أن أسال، أجابت:
 نحن يا حبيبي، في روضتنا الجميلة.
 سبحان اهلل! ما أجمل هذا المكان!
سبحان من سواه، جميل في صنعه بديع في خلقه، أخذت أتفحص المكان
مفتوناًبأشجاره الخض ارء الباسقة وجذوعه الضخمة العتيقة الموغلة في
التي تشابكت تاركة فتحات تطل منها النجوم وكأنها تسكن قممها، لم أصحُعمق الزمن. كل ما أراه يسحر العقل، الماء و الورد و الشجر، واألغصان
من دهشتي إال على صوت حبيبتي:
 تعال يا حبيبي، ألريك ما لم تره في حياتك كلها.
تشابكت يدانا ثم سرنا، ومع كل خطوة كنت أشاهد ما يذهل العقل، لم
أتخيل أن هناك شيئاًيمكن أن يشغلني عن حبيبتي حتى غمرتني روعة
المكان. توقفت غادة وطلبت أن أغمض عينيّوأهيئ نفسي لمفاجأة،
أمسكتني من يدي بعد أن أغمضت عينيّوسارت بي إلى أن توقفت،
المست شفتاها شفتي قبل أن تطلب أن أفتح عيني.
 يا إلهي، أيعقل أن تكون هذه الجنة التي وعد اهلل بها عباده
الصالحين؟

أقف أمام ما يشبه بحيرة صغيرة يتصاعد وسطها بين الفينة واألخرى بخار
كثيف ينتشر عالياًليتحول إلى سحاب يغطي أج ازءًمنها ثم سرعان ما
يتبدد، وتتكر ر العملية كل عدة دقائق، وعلى أطرافها تفجرت سبعة ينابيع
ترتفع مياهها أمتا اًر وعند تالقيها يرتفع الماء ثم يهبط بهدوء إلى مركز
البحيرة.
لم أقاوم فكرة أن ألقي نفسي في البحيرة ألتوحد مع هذه اللوحة الساحرة.
فشدتني غادة إلى الخلف، قائلة:
 ماذا تفعل يا مجنون؟ ستحرق نفسك إن اقتربت من المكان الخطأ.
الفضول كان أقوى من التحذير، فمددت يدي إلى الماء ألختبر صحة ما
قالت، وما إن لمسته حتى صرخت من شدة األلم، هل هذا ماء جهنم؟
رمتني غادة بنظرة شامتة، لكنها سرعان ما أشفقت عليّوأخذتني إلى جانب
آخر من البحيرة، وطلبت أن أغرق يدي في مائها، فلم أجرؤ خشية أن
أكتوي بنارها مرة ثانية، أخذت تهز رأسها ساخرة، وقالت:
 أيها الشكاك، أال يدفعك فضولك لتكتشف صحة قولي، انظر إلى
يدك وقرر بسرعة قبل أن يفوت أوان شفائها.
ضرب العناد أطنابه وبقيت متردداًخائفاًال أجرؤ على مد يدي، فقالت
غادة:
 ال تخف، الماء هنا بارد، فأسرع قبل أن يفوت أوان شفاء حروقك.
شل األلم تفكيري و بقيت مكاني فاقتربت وضمتني إلى صدرها وطو قتني
بذراعيها وقربت شفتيها من أذني وهمست "أيها الحبيب الشكاك"، ودفعت

جسدها إلى البحيرة وسحبتني معها ألغوص في البحيرة معها، كان الماء
بارداًمنعشاً، طلبت أن أسبح وأتبعها باتجاه أحد الينابيع، وحين اقتربت
أمسكت يدي ووضعتها حيث يصب الينبوع ماءه، فإذ به كالثلج، تجمد الدم
في عروقي. يا إلهي، ما أشد برودة هذا الينبوع. أخذت تمسح يدي براحتها،
وفجأة شعرت باآلالم تنسل من يدي، خرجنا من الماء وقد اختفى األلم،
أوضحت لي أن ثالثة من الينابيع يتدفق منها ماء بركاني، وأربعة يتدفق
منها ماء بارد، وحينما تلتقي في البحيرة تتوازن حرارة الماء، وحذرتني من
االقتراب منها مباشرة. فسألت باستغراب:
 هل نحن على األرض أم على كوكب آخر؟
 نحن على األرض يا حبيبي.
 أقصد، هل نحن في عالمك أنت؟
 عالمي يا حبيبي على األرض أيضاًوليس على كوكب آخر، لو
سألت أين نحن، ألجبتك نحن في حدود الظالل، حيث يلتقي
عالمانا، هذا المكان ليس بالسر العظيم فأي كائن من عالمينا
يمكنه الوصول إليه إن وجد الطريق. وقبل أن تسأل لماذا ال
تعرفون بوجوده؟ سأخبرك أن األرض أكبر وأوسع مما تعتقدون،
وهناك الكثير الذي ينتظر اكتشافه، وعالمكم الثاني، أقرب إلى هذا
المكان منا.
 هل هناك عالم ثالث.
 كيف تعتقد أننا نلتقي معاً إن لم...

 أكملي، لماذا توقفت؟
 "إن لم" قصة طويلة، يكفيني ما أعرفه عن عالم زوجي البدائي
الذي يأبى أن يتطور إال نحو األسوأ، وعلى الرغم من هذا فال بد
أن أحبه ما دمت قد تزوجت أحد أغبيائه.
 ألن تكفِّي عن إهانة عالمي؟
 وهل قول الحقيقة يعد إهانةًيا حبيبي؟
غرفتُماءًورشقتها به فانحنت بدالل، اقتربت لتقبلني، إال أنها باغتتني
بدفعة ألقت بي إلى البحيرة، فطلبت مساعدتها ألخرج، أمسكت يدي ولكنها
سحبتني ألغرق في البحيرة، سبحت كحورية وخرجت من طرف البحيرة
اآلخر ملقية نفسها على العشب، تجمد الزمن وأنا أتأمل ذلك الجسد
الممشوق الملفوف بثوب أبيض مبتل التصق به وكأنه ال يريد فراقه،
اقتربت منها واستلقيت بجانبها أتوق إلى جسدها وأخشى أن أبعد عينيّواألزهار تحيط به كأنه جزء من لوحة رسمها ألف فنان عظيم حتى اكتملت.
عنها.
أشارت إلى نخلة صغيرة بين أشجار باسقة تبدو كطفلة مدللة بين عائلتها،
وأخذت تروي لي حكاية اكتشافها هذا المكان مصادفةًحين هربت من
بيتها أول مرة وهي في العاشرة من عمرها. فسألتها لماذا هربت من البيت،
فأجابت:
 لم أهرب بما للكلمة من معنى، ولكني أردت أن أزو ر إحدى
الحكايات التي كنت أسمع الكبار يروونها في عالمي، المهم أنني

زرعت هذه النخلة، واعتقدت بأنها بحاجة إلى رعايتي فمكثت قربها
عدة أيام أترقب نموها، مر الوقت دون أن أشعر به، وحين قررت
العودة ضللت الطريق، وجدت نفسي أسير في عالم غريب، أرى
فيه الجميع دون أن يراني أحد، فأخذت أبكي، لم أكن أعرف في
ذلك الوقت أنني في عالم البشر وأنهم ببساطة ال يتعمدون
تجاهلي، أخذت أراقبهم، وا ن أعجبني أحدهم سرت خلفه إلى بيته،
وحينما أدركت أن ال أحد يستطيع رؤيتي وجدت األمر مسلياً.
كنت في أغلب األوقات أضحك كالبلهاء وأنام وأصحو في بيوت
البشر، لكن حظي السيئ أقصد الجميل جداً، قادني إلى تلك النخلة
المحاطة باألسوار وسط ذلك البيت الكئيب الذي ال يسكنه سوى
الرجال، جلست قرب النخلة وغفوت، وحينما صحوت لم أعرف
كيف أخرج من ذلك المكان الكئيب، أخذت أقضي وقتي بين اللعب
حول النخلة والبكاء اشتياقاًلعائلتي... حتى اقترب شخص غريب
الهيئة وجلس بجواري. وقال لي: "ال تخافي يا بنيتي لن يؤذيك
أحد". ثم سألني عما أفعله هنا؟ فأخذت أبكي ثم حكيت قصتي،
فطمأنني، ودلني على طريق العودة إلى عالمي. سرت باالتجاه
الذي وصفه، ولكن الفضول شدني ألقضي المزيد من الوقت بين
البشر وذلك ما لم يتحقق، بعد أن قبضوا علي وأعادو ني إلى
عائلتي، وحين أخذوا يؤنبونني على ما فعلت، اختلقت حكاية بلهاء
واحتفظت بسر هذا المكان دون أن أخبر أحداًعنه، وحينما تناسو

هربي األول، صرت أغتنم كل فرصة أللعب هنا وأسبح ثم أعود
قبل أن تتفطن عائلتي إلى غيابي، كبرت في هذه الحديقة ولم
أفوت أي فرصة للتجسس على أفراد عائلتي، تعلمت الكثير عن
عالم البشر، وأنه يمنع على الصغار أن يعرفوا شيئاًعن عالمكم،
إال أنني اكتشفت الطريق التي توصل إليه دون المرور بعالم
األرواح والمتاهات الكثيرة، ومن يومها لم أتوقف عن زيارته، ولم
أعلم أن القدر كان قد أعدني للقائك والتمرد على قوانين عالمنا،
وأن أحبك وأرتبط بك وأصحبك إلى هذا المكان الذي لم أبح بسره
ألحد.
أنهت حديثها، ثم سألتني:
 هل أنت جائع؟
 أنا أتضور جوعاًلجسدك.
 سأطعمك ما هو أشهى.
سرنا معاًعلى أط ارف البحيرة الصغيرة، فأخذت تقطف من ثمار الجنة
وتقدمها لي، وقد ارتسمت على محياها ابتسامة ماكرة.
 هل تريد المزيد؟
 لقد نلت كفايتي.
 لم تأكل بعد.
أخذت تقطف ألذ الثمار وتطعمني إياها من بين شفتيها، حينما أتذوق
شفتيها تبتعد بسرعة، ثم تكرر العملية وتسألني:


 هل اكتفيت؟
 ال، ما زلت أتضور جوعاً.
لم تتوقف عن مالعبتي وا ثارة جنوني، وكلما اقتربت أكثر تبتعد، وبعينيها
تقول "اصبر قليالً". مرت ساعات طويلة ونحن نضحك ونلعب ونتنقل من
شجرة إلى أخرى، ومن ينبوع إلى آخر، حتى أعلنت استسالمي، فاستلقيت
على العشب واستلقت بجانبي ومالت بجسدها المكتنز على جسدي تاركة
نهديها يستقران على صدري، قربت شفتيها من شفتي... وقبل أن تلتقي
الشفاه عادت بشفتيها إلى الخلف، تاركة شعرها الحريري يدغدغ و جهي،
وبحركات مثيرة قربت شفتيها ثم أبعدتهما.
أمسكت بين أصابعها ثمرة توت حمراء ناضجة، قربتها من شفتيها، رشفت
عصارتها لتسقيني من فمها نبيذاًمعتقاً، تعيد الكرة مرة أخرى، فقدت صوابي
فألقيت القبض على شفتيها ورشفت رحيقها، والحقت ما سال من عصير
على عنقها، طاردت ما هرب مني وشق طريقه إلى نهديها ليستقر على
بطنها الرخامي، أرتشف كل قطرة، وأعود بشفتي باحثاًعن كل أثر مر
بين نهديها وشفتيها الملتهبتين بنار الشوق، بقيت أروّضها وأبحث في
جسدها عن سر الكون وجنون الطبيعة.
نادتني آهات شفتيها، فلبيت النداء واعداًنهديها الثائرين أن أعود بعد
لحظات فقد كان ال بد من أن أمر على عنقها التي حاولت أن تلهيني
عن لقاء شفتيها، فو عدتها بالعودة، وحين بدأت شفتاي تلثمان أطراف شفتيها
طار صوابهما فأخذتا ترويان ظمأي بشهدهما، ويداي تعبثان بحرية في

جسدها الذي أخذ يتلو ى بين ذ ارعيّكسمكة خرجت من الماء، تبعدني عنها
ثم تشدني إليها، فقد بدأ جسدها يتمرد ويتحدى صبري ويدعوني إلى الكف
عن المقدمات لكن شوقي الحبيس منذ سنوات دفعني إلى أطيل الضم
والعناق، تاركاًتواقيع الحب والشوق على عنقها وصدرها إلى أن خطت
أفقت على زقزقة العصافير وكأنها تعزف لحن الخلود، مددت يدي باحثاًبأظفارها نهاية اللقاء.
عن حبيبتي، فلم أجدها، نظرت حولي فرأيتها تخرج من الماء كحورية
تركت لشعرها الطويل المبتل مهمة إخفاء مفاتن جسدها العاري، اقتربت
مني وقبلتني، ثم قالت "هذا يومك األول يا حبيبي، فهل أنت سعيد؟".
ضممتها بقوة وأخذت أقبلها باحثاًعن كلمات كل حرف فيها بحجم نجمة
ألصف لها سعادتي، أرخيت ذ ارعيّألحررها من عناق ال أريد أن ينتهي.
استلقت بجانبي، وأخذنا نتأمل معا سحر الطبيعة على أنغام العصافير
وخرير الماء. عدنا للهو والضحك واكتشاف ما يحيط بجنتنا الصغيرة.
مر اليوم األول والثاني كلمح البصر، في اليوم الثالث ابتعدنا عن البحيرة
الكتشاف كل جديد. انشغلت حبيبتي بمطاردة أرنب أبيض إلى أن أمسكت
به، فركضت إليّمسرعةًوالسعادة تسبقها، قدمت األرنب؛ فتهيأت لوجبة
لذيذة من الشواء، وحين قرأت غادة أفكاري احمرّت وجنتاها وتفجر الغضب
من عينيها، كانت هذه المرة األولى التي أرى فيهما مثل هذا الغضب، ثم
سألتني:
 ماذا تنوي أن تفعل باألرنب؟

أيقنت أنني ارتكبت خطأً ما. فقلت:
 ال شيء.
ضمت األرنب إلى صدرها وصرخت في وجهي:
 أنت متوحش وكاذب كبقية البشر، ألم تكتف بكل الثمار؟ ألم تكتف
بهذا الطعام. لماذا تريد أن تنهي حياة هذا األرنب المسكين؟

تفاجأت من ردة فعلها، فصمت، ترك ت األرنب ليذهب في حال سبيله
واقتربتْمني، وألقت رأسها على صدري وطوقتني بذراعيها وقالت:
 حبيبي، أرجو أال تكون سبباًفي إنهاء حياة كائن، أرجوك.
وعلى الرغم من أنني اعتقدت بأنها بالغت كثي اًر في ردة فعلها، فقد كنت
حريصاًعلى أال أسمح لهذا األرنب أن يفسد سعادتنا، وبهدوء حاولت أن
أوضح لها أن اإلنسان يأكل األرانب والطيور واألبقار والجمال... ولم أكن
أتوقع أن يفجر تبريري غضبها مرةًأخرى، فقد بدأت تشتم البشر بمختلف
أنواع الشتائم دون أن تنسى أن تصفهم بأقذع الصفات.
 أال يكفيكم أيها البشر ما تنُبت األرض، لماذا تفترسون الكائنات
األخرى، بعد أن تنقرض ماذا ستفعلون؟ هل ستأكلون بعضكم
البعض؟ أي وحوش أنتم؟
راودني شعور سيئ تجاه هذه المخلوقة الصغيرة. تساءلت لماذا تحمل في
داخلها كل هذا الحقد على البشر؟ لماذا أحبتني وأنا منهم؟ التقت عيوننا
فأشاحت وجهها، ثم أحنت أرسها خجالً، وكأنها شعرت بحجم اإلهانات
التي وجهتها لي، وفجأة أخذت تبكي وهي تقول:


 أنا آسفة، آسفة، آسفة.
حضنتها ألخفف عنها محاوالًأن أتناسى كلماتها الجارحة وما تركته من
أثر في نفسي ثم سألتها:
 لماذا تكرهون البشر وتحتقرونهم إلى هذه الدرجة؟
حاولت أن تتهرب من اإلجابة، ومع إصراري، أجابت:
 نحن ال نكره البشر، وا نما نكره أسلوب حياتهم، ال تلمني على
ذلك، أرجوك، أنتم اعتدتم قتل كل ما هو جميل ولن تتوقفوا حتى
تقتلوا روح هذه األرض.
اقتربت وقبلتني، ورجتني أن أسامحها على نوبة غضبها. دون أن تدري
أن قلبي بات أسير حبها وأال خيار أمامه إال أن يرضخ لهذا المالك!
أمسكت يدها وأخذنا نتمشى بين األشجار، أحضنها، أقبلها، أداعبها.
تمازحني وتلقي نحوي الثمار، تهرب فأالحقها وأمسكها، نضحك ونلهو،
والوقت يسير بسرعة، الساعة تصبح دقيقة، و الدقيقة ثانية. ونسير والسعادة
تغمرنا...
أثناء تنقلنا، لفت انتباهي قط أسود يرمقني بنظرات أثارت فضولي
وأضحكتني في الوقت نفسه، أمسكت غادة وهي منشغلة بشم رائحة وردة
أللفت انتباهها إلى القط ونظراته السخيفة فالتفتت واالبتسامة تعلو شفتيها،
وما إن رأت القط األسود حتى انقلب حالها، ودب فيها الذعر، أمسكت
ذراعي وأخذت تركض وتسحبني هي ترتجف كطفلة صغيرة فاجأها مسخ،
فجاريتها وأخذت أركض معها، حتى استنفدت طاقتي، فصرخت فيها:

 كفى يا غادة، كفى، أخبريني مما نهرب؟
نظرت خلفي ف أريت القط يسير خلفنا. ثم أريت قطاًآخر وآخر وآخر،
األعداد تتزايد واللون األسود يجمعها. هنا دب الرعب في قلبي فلم أنتظر
إجابتها و شددتها وأخذت أركض، وكلما نظرت إلى الخلف رأيت أعداد
القطط تتزايد حتى غلب اللون األسود على األرض واألشجار، آالف بل
عشرات اآلالف من القطط السود تحيط بنا من كل جانب.
اكتسى كل شيء باللون األسود، وصلنا إلى بحيرتنا فسحبتني غادة من
يدي وحثتني على الغوص، إال أنني ترددت خشية الغرق، لكن خوفي
دفعني إلى الغوص معها. غصت معها وبعد دقيقة شعرت باالختناق،
اقتربتْوقبلتني لتمدني بالهواء، ثم أخذت تسحبني من نفق إلى آخر في
عمق البحيرة. كانت تعرف طريقها جيداً، بقينا على هذه الحال وقتاًيصعب
تقديره، إلى أن أخذنا نصعد من جديد عبر فجوة ضيقة، وما إن خرجت
حتى أدركت أننا داخل كهف، فاستلقيت على أرضه، فألقت رأسها على
صدري، أخذتُأداعب شعرها، وأنا أسألها:
 ماذا حدث يا غادة؟
 إنهم الكاتو يا حسن، لقد اكتشفوا مكاننا، و جاؤوا للقبض علينا.
القطط السود ما هي إال عيون تساعدهم في كل شيء، أين ما
وجدت دلت على وجودهم.
 لماذا غصنا في البحيرة؟

غوصنا في البحيرة أبعدنا كثي اًر عن طريق العودة، وأدخلنا إلى
موقع يتداخل فيه عالم البشر مع عالم الجن، الرقعة التي كنا فيها
تقع بين عالمينا وقد تمكن الكاتو من الوصول إلينا عبر اقتفاء
أثري.
 ماذا سنفعل؟
 علينا العودة سريعاًإلى الكهف الذي تركتك فيه.
 وكيف تركتني فيه؟
 ال يهم ما قلته، المهم أن نصل إلى الكهف بسرعة وا ال سيحدث
ما ال تحمد عقباه، يجب أن نجد طريقنا إلى الكهف ألعيدك إلى
عالم البشر، فهناك سيصعب على الكاتو النيل منك، أما في هذا
المكان المتداخل فسيسهل عليهم السيطرة عليك ليكون مصيرك
مثل مصير آالف األرواح التي ضلت طريقها في عالمي.
 وما مصيرك أنت يا حبيبتي بعد عودتي؟
 لقد اخترت مصيري بنفسي ولست نادمة، ال تخف، فقد فشلوا
بإيجادي وأنا صغيرة، سأستمتع بالهرب قدر ما أستطيع، وحينما
يقبضون عليّسأكون فخورة ألني لم أخضع ألحد.
 غادة، حبيبتي، ال حياة لي من دونك، لقد قضيت حياتي هار باًمن
الالشيء، واليوم وجدت ما يستحق الهرب من أجله، دعينا نستمتع
بالهرب معاً.

 ال تتعجل يا حبيبي، فـالكاتو سيطاردك إلى األبد، وهدفي أن
أصعّب عليهم األمور، في عالمك لن تخضع لقوانينهم، ربما سنجد
طريقة لخالصك منهم، وجودك معي سيضاعف فرص القبض
علينا.
ابتسمت غادة ابتسامةًحزينة وقالت:
 إن تمكنوا منك فلن يبقى ما أهرب من أجله. هيا، لنتحرك بسرعة
فأمامنا مسافات طويلة لنقطعها ألعيدك إلى عالمك قبل أن تقتفي
القطط السود أثرك.
أخذنا نشق طريقنا في باطن األرض، مررنا عبر كهوف معتمة وكهوف
وجد النور طريقه إليها، مررنا بأرض منبسطة تتجاوز مساحتها عشرات
األميال نمت في بعضها األشجار والورود ونباتات لم أر مثيالًلها، مع
أن النور بالكاد يصل إليها. في طريقنا عبرنا نه اًر تحيطه األشجار، لم
يكن بضخامة األنهار التي نعرفها. لم أتفاجأ حينما وصلنا إلى أرض
قاحلة، سرنا فيها ساعات، ومع كل خطوة أقطعها كانت درجات الحرارة
ترتفع حتى ما عدت قاد اًر على االحتمال، طلبت منها أن تبحث عن طرق
بديلة، ولكنها طلبت أن أحتمل مشيرة إلى أن جسدي سيعتاد هذه الحرارة،
ومؤكدة ً أنه لم يبق الكثير حتى نصل إلى جيوب الهواء البارد، أخبرتني
أن اختيارنا أي طريق أخرى سيتسبب في إهدار وقت ال نملكه، جاريتها،
و بعد أقل من ساعة هب هواء بارد من بين شقوق الصخور، ثم أخذنا
نسير على رمل يغري بأن يسير المرء عليه حافي القدمين، استلقيت على

بساط من الرمال الناعمة الدافئة، ومن فوقي تيار هوائي منعش جعلني
أغط في نوم عميق، ألجد غادة توقظني وتطعمني ثما اًر لم أذق أشهى
منها في حياتي، ضح كت ثم سألتني:
 هل تريد أن تضيف سبباًآخر ليطاردك الكاتو من أجله.
ضحكت بدوري وقلت لها:
 وهل سيكون هناك فارق إن ازداد عدد القطط قطاًإضافياً.
 إذاً، تعال ألعرفك على المدمر، الذي كان أحد أهم أسباب عداء
سلطة عالمي للبشر... هيا، حاول أن تحتمل الحرارة بضع دقائق،
أمسك بثوبي ألننا سنمر من طرق ضيقة معتمة.
عدنا إلى الخلف مئات األمتار، ثم دخلنا كهفاًواسعاًومنه إلى كهف
أضيق، تسلقنا عدداًمن الصخور، عبرنا أنفاقاًصاعدة بالكاد تسمح
لجسدي أن يمر عبرها، وفعالًبدأت أشعر بأن جلدي قد جف، وعظمي
قد ذاب من شدة الحرارة، حتى تجاوزنا ذلك الممر اللعين، وصلنا إلى
األعلى، وعندها شعرت بأن الحياة دبت فيّمن جديد، فقد انخفضت
درجات الح اررة قليالً، كنا نقف فوق منحدر صخري، وخلفي واد سحيق،
عن يمناي جدار من الصخور وعن يسراي السحر بعينه، نور متوهج،
احتجت دقائق حتى تمكنت عيناي من التأقلم مع شدة السطوع. رأيت قناة
ضخمة على امتداد البصر يجري فيها صُهار أصفر لزج، دققت النظر
فأدركت أنه يتحرك ببطء... ابتسمت بسخرية:

 أنت تفكر أن تهبط إليه وتغرف منه القليل، أليس كذلك، لألسف
هذا مستحيل في وضعك الحالي، كما أنك لن تحتمل شدة الحرارة،
وا ال لكنت تركتك تفعلها، وأرحت الكاتو من مطاردتك.
وأشارت نحو القناة قائلة:
 هذا هو ساحر عقول البشر تسمّونه الذهب، أما نحن فنسميه
المدمر، هذه القناة التي تراها تجري فيها صهارة الذهب، هي واحدة
من عدة قنوات تشق طريقها في جوف األرض، كلما التقت قناة
بأخرى تصطدمان وينتج عن ذلك انفجار هائل، ويوماًما سيجد
الذهب طريقه إلى األعلى، حينها سترتفع حرارة األرض وبرودتها
في الوقت نفسه، وعلماء عالمنا يتنبؤون بأنه في المائة عام المقبلة
ستتالقى القنوات، وا ذا بلغ عددها الثالثين، فسيتدمر عالمنا
وعالمكم!
 من أين لك بهذه المعلومات كلها.
 عليك أن تتعرف إلى أفراد عائلتي لتعرف كيف قضيت طفولتي
وسط أحاديثهم المملة.
ال يشغل بالي دمار العالم بعد مائة عام، كما لم تسحرني حمم بركانية
لونها ذهبي، لكن ما رأيته وما قد أراه شدني أكثر... وعبر النفق انزلقنا
إلى األسفل لنعود أدراجنا و ننطلق من جديد في رحلة العودة.
لفتت انتباهي صخرة متحركة توازي بحجمها بيتاًارتفاعه ثالثة أمتار،
تسلقتها غادة دون أي صعوبة، ومدت إليّيدها فجاريتها وتسلقت الصخرة،

وفجأةًأطل من كهف بالصخرة رأس غريب الشكل، تملكني الرعب، لكن
غادة أخذت تضحك، بعد لحظات أدركت أنني تسلقت ظهر سلحفاء
عمالقة، وفجأة أشارت غادة إلي أن اصمت، ثم وقالت:
 هل تسمع؟
أصغيت بانتباه، فخُيل إليّأني سأسمع حيواناًما ينادي علي باسمي،
وغادة كعادتها لم تعجز عن قراءة أفكاري، فابتسمت و هي تقول:
 حبيبي، الحيوانات ال تتكلم، اطمئن فلن تصادف هنا حما اًر أو
خنزي اًر يناديك باسمك، ويسألك عن حالك وصحتك، لكنك قد ترى
بعض الحيوانات التي لم تر مثلها من قبل، كل ما ستقوم به هو
افت ارسك لترى إن كان طعم لحمك لذيذاًأم ال.
ضحكت غادة، وابتسمت وأنا أتلفت حولي، فال ينقصني أن أتحول إلى
وليمة لحيوان أجهل كيف يكون شكله، وحالياًيكفيني الجن الذي يطاردني
والقط األسود الذي يالحقني.
واصلنا السير ساعات طويلة، وأثناء سيرنا توقفت غادة فجأة، وابتسمت،
ثم قالت ساخرة:
 أتحب أن ترى أحد الحيوانات التي يسعدها أن تأكلك لو كنت في
وضع آخر؟
 ولم ال، فأنا يسعدني أن أتشرف بمعرفتها، ولكن ماذا تقصدين
بوضع آخر؟
 ال تهتم بكل ما أقوله، تعال ورائي ..

سلكت طريقاًجانبية، سرنا فيها قليالًثم وقفت وقالت:
 انظر إلى األسفل.
نظرت، لكنني لم أستطع أن أرى شيئاً، كنت أسمع أصواتاًرهيبة. دبت
القشعريرة في جسدي، أمس كتْيدي وسارتْبحذر أكثر من خمسين مت اًر،
حينها بدأتُأرى بوضوح حيواناًيشبه الحرذون، دون مجال للمقارنة في
الحجم طبعاً، و ال أبالغ إن قلت إن حجمه يعادل بناية مؤلفة من خمسة
طوابق. وأنني لن أكون سوى مجرد لقمة صغيرة بالنسبة له.
قالت غادة:
 هذا أضخم الحيوانات في باطن األرض، ونحن نطلق عليه اسم
ربدا، هذا الحيوان غبي جداًإلى الدرجة التي تجعله يلتهم أبناءه
ظناًمنه أنها حيوانات أخرى، وأحياناًيطعم أبناءه لحيوانات أخرى
ظناًمنه أنها صغارها، ومن شدة غبائه ينقض على ذيله و بعد أن
يغرس فيه أنيابه يصرخ من شدة األلم. في عالمي حينما يكرر
أحدنا الخطأ نفسه يهزأ منه اآلخرون ويطلقون عليه اسم ر بدا حتى
أصبحت "تعلم يا ربدا" من العبارات الشائعة في عالمنا.
شدني حديث غادة عن ربدا، وتساءلت هل سيكون اسمي مستقبالً؟
بعد ساعة من المسير غادرتنا المتعة وأخذنا نشق طريقنا إلى األعلى
بصعوبة، انتابني اإلرهاق مجدداً، ونفد صبري، خاصة أننا كلما قطعنا
مسافة نحو األعلى اشتد الظالم أكثر، وكنت أعتقد بأننا كلما واصلنا
الصعود ازدادت اإلضاءة.

كدت أعلن استسالمي، فشدت غادة من عزيمتي وطمأنتني إلى أننا اقتربنا
من الوصول، تركتني أرتاح قليالً، ثم عدنا لمواصلة السير حتى وصلنا
إلى شق صخري معتم يتجاوز ارتفاعه مائة متر يستحيل تسلقه، وهنا
شعرت بأننا وصلنا إلى طريق مسدودة وأننا سنضطر إلى العودة للبحث
عن طريق بديلة، هذا الشعور كان كافياًإلحباطي.
اكتشفت أن تسلق ذلك الشق أسهل مما توقعت، ومنه وصلنا إلى كهف
عميق، سر نا فيه مئات األمتار ثم أخذ الكهف يضيق تدريجياً، عندها
طلبت أن أغلق عينيّ، ففعلت وسرت خلفها، طلبت أن أجلس بجانبها و أن
أحضنها ففعلتُ، أخذت تداعب شعري حتى غلبني النعاس وغفوت، و حين
أفقت شعرت بإرهاق شديد بحيث لم أكن قاد اًر على الحركة. هدّأت من
روعي وأوضحت أن ما أصابني سببه اإلرهاق، ساعدتني على الوقوف ثم
طلبت أن أغلق عينيّمرةًأخرى، ثم أن أفتحهما تدريجياًحتى ال تؤذيهما
أشعة الشمس.
أريت السماء والشمس مجدداًفشعرت بالطمأنينة، نظرت إلى غادة ففوجئت
بالحزن يخيّم عليها، اقتربت منها وضممتها إلى صدري، وأنا ألوم نفسي
على شعوري بالراحة النتهاء رحلة العودة، فمع انتهائها أدركت أن حبيبتي
فقدت االستقرار واألمان وحكمت على نفسها أن تبقى مطاردة وحيدة حزينة،
أما أشد ما آلمني فهو عجزي عن مساعدتها. وبكلمات هادئة وحزينة قالت:
 ال عليك يا حسن، سأتدبر أمري، أرجوك أن تهتم بنفسك جيداً..

كانت الشمس في كبد السماء، حثتني على المغادرة على عجل، وهي ال
تزال تشد على يدي وكأنها ال تريد أن تتركني. حضنتها بقوة وأنا أشعر أن
روحي ستفارقني إن أفلتها، بقيت على هذه الحال ساعات حتى حسمت
غادة الموقف وقالت بنبرة حزينة:
أمسكت يدها بقوة دون أن أستطيع نطق كلمة واحدة، سحبتْيدها وأشاحتْ اذهب، أرجوك، سأجد طريقي لزيارتك قريباً، اذهب، هيا.
وجهها وبكت فحرقت دموعها قلبي، قبل أن تختفي.
هأنا أتركها وأتساءل إن كانت سأ ارها مرةًأخرى. هل ستعود إلى االختباء
وحيدةًفي تلك الكهوف الباردة؟ أي حماقة ارتكبت هذه المخلوقة الرقيقة
حتى ترتبط بي وأي ثمن ستدفعه الحقاً. مرت ساعات على فراق حبيبتي،
ومع مرورها وصلت إلى البيت، استقبلتني سروة مصدومةًدون أن تنطق
بحرف، جلست على األريكة ألرتاح قليالًفغطت في نوم عميق. وحين
أفقت وجدت أن أختي أعدت مالبس نظيفة وطلبت أن أستحم على الفو ر
ألتخلص من الروائح الكريهة والقاذورات التي علقت بي، لم أكن بحاجة
إلى شيء أكثر من ذلك، حين نظرت إلى المرآة في الحمام التقيت بنفسي
بعد طول غياب، كنت شاحباًوالشيب قد غ از أرسي، سألت عن أمي فعلمت
أنها ستعود قريباً، لم تتوقف أختي عن مراقبتي وتأملي بغرابة وما إن أنهيت
طعامي حتى سألتني بحنان:
 لماذا توقفت عن تناول دوائك؟ وماذا حدث لك؟ أين اختفيت طوال
هذا األسبوع؟

 لقد أخبرتك سابقاًأنني ذاهب في رحلة وسأغيب يومين.
 اليومان صا ار أسبوعاًيا حسن!
بدأت أستعيد ما حدث معي منذ لحظة خروجي مع غادة، ومع هذا لم أكن
متفاجئاًأن أكون قد قضيت معها أسبوعاًأو عاماً، فهذا ال يقارن بما أريت
وسمعت في عالم غادة:
 هل صبغت شعرك أم أن لديك تفسي اًر آخر؟
أخذت أضحك وأضحك ورغبتي في البكاء تزداد.
 هل أنت مصرةًعلى معرفة ما حدث لي؟
 نعم، أنا مصرة أن أعرف المأزق الذي أوقعت نفسك فيه؟
كم كنت بحاجة إلى أن أجد من يسمعني حتى لو ظن أنني مجنون.
 لقد تزوجت جنية اسمها غادة وقضينا شهر العسل على أطراف
عالمها!
لم تظهر عليها أي ردة فعل، على العكس شعرت أنها تصغي باهتمام،
ثم ساورني الشك في أنها تتعامل معي كحالة مرضية لتطبق ما تعلمته في
الجامعة، وبهدوء قالت:
 حدثني عن زوجتك الجنية يا حسن.
 أتسخرين مني؟
 كال يا حسن، أنا أختك، ما كنت ألسخر منك يوماً، أرجوك، قص
علي قصتك.

شجعني دفء صوتها، فرويت لها قصة عشقي وزواجي والمصير المجهول
الذي ننتظره. اغرورقت عيناها بالدموع، ثم أخذت تسألني عن غادة، فلم
أستطع أن أمنع نفسي من البكاء حينما تخيلتها تجلس وحيدة في أحد
الكهوف المعتمة.
تشاركنا وأختي الدموع. ال أعرف إن كانت قد تأثرت بقصتي أم أنها تبكي
ألنني جننت، ومع هذا فقد شعرت بالراحة بعد أن نفست عما بداخلي.
دفعني اشتياقي إلى أمي أن أسأل عن سر تأخرها، فأخبرتني أن أمنا متعبة
قليالًوترقد في المشفى.
 لماذا لم تخبريني منذ لحظة وصولي؟
 ال تقلق، إنها بخير، سنذهب معاًلزيارتها، ولكن أرجوك احلق
ذقنك، ودعني أساعدك في إخفاء الشيب، حتى ال تتفاجأ برؤيتك
على هذه الحال!
لم أكن قاد اًر على إهدار الوقت، أريد أن أطمئن إلى ست الحبايب، ومع
هذا لم تتنازل سروة فكان لها ما أرادت، توجهنا إلى مشفى قريب بسيارة
أحد أقاربي، الذي أمطرني بعشرات األسئلة حول غيابي، وأخذ في لومي
وتحميلي المسؤولية عما حدث ألمي.
وصلنا المشفى، ركضت باتجاه الغرفة التي ترقد فيها أمي، قبلتها وأمسكت
يدها، فتحت عينيها، وفجأة أخذت تصرخ وتطالبني باالبتعاد عنها، وهنا
أبعدتني سروة عنها، وأخبرتني أنه فقدت القدرة على السير وتعاني منذ فتر ة
من هلوسات إال أن الطبيب أكد أن الفحوص لم تظهر أي سبب لعلتها،

وأن بإمكانها العودة إلى البيت في أي وقت تشاء، لكن المشكلة أنها ترفض
العودة إلى البيت.
تمكنت بعد جهد من التواصل معها، وعلمت أن أحد الشيوخ أخبرها أن
الجان خطفني وأن كل من يحاول أن يعيدني سيصاب بالشلل، وأمي
المسكينة تصدق أي شيء يصدر من صاحب لحية طويلة.
أثارت جنوني بهلوساتها، فتارة تحضنني وتبكي، و تارة تحمد اهلل على
عودتي سالماً، وتارة تطلب مني أن أبتعد ألنني لست من البشر. سألتني
سروة:
 أال تستطيع غادة أن تساعد أمي؟
 مسكينة غادة، فمصيبتها أكبر من مصائبنا، ولكن حينما أراها
سـأسألها.
لم أكترث إن كانت سروة جادة أم تسخر مني، في المساء خرجت إلى
الحديقة لعلي أستطيع االتصال بغادة بالطريقة التي علمتني إياها، وبعد
عدة محاوالت حضرت واقتربت مني قائلة:
 أنا آسفة لما أصاب أمك!
هل بإمكانك أن تفعلي شيئاًلها:
 تعال معي حتى أرى ماذا يمكن أن أفعل!
دخلنا غرفتها، اقتربت من أمي وطلبت أن أو قظها وأن أتحدث معها،
ففعلت. وأثناء حديثي مع أمي، وضعت يدها بلطف على جبين أمي، ال
أدري إن كانت أمي قد شعرت بها أم ال. سألت غادة:

 ما أصاب أمك من صنع البشر، فقد زرعوا في أرسها أفكار غبيةً ماذا فعل الجن بأمي؟
تمثّلها عقلها فأصيبت بالهذيان والهالوس؛ األمر الذي تسبب في
إصابتها بشلل وهمي، ليتني كنت أملك الخبرة لمساعدتها، لكنني
سأحاول أن أتسلل إلى عالمي لعلي أجد طريقة ما لعالجها.
 كيف ستتسللين إلى عالمك و الكاتو يتربص بك؟
 نعم إنها مخاطرة ولكن ما رأيك أن أعلمك طريقة أتواصل عبرها
معك بحيث يمكنك أن تراقبني أثناء تسللي، ولكن يجب أن تكون
منتبهاً، فبهذه الطريقة أترك مصيري بين يديك.
شرحت لي بالتفصيل الممل طريقة مراقبتها وعلى الرغم من خو في عليها
فلم يكن أمامي خيار آخر. اختفت غادة بعد أن اتفقنا على الوقت المحدد
للتواصل. أيقظت سروة من نومها وأخبرتها:
 زار تني غادة، وأكدت أن ال عالقة للجن بما أصاب أمي.
 إذاً، لماذا ال تساعدها وتشفيها؟ أليست جنية؟
 الجن يختلفون من حيث المعرفة مثلنا نحن البشر، وكون غادة
جنية فهذا ال يعني أنها ملمة بالطب والعالج كأطباء الجن أو
أطباء البشر، كما أنها ما ازلت صغيرةًأما معرفتها فقد اكتسبتها
بالتنصت على أفراد عائلتها.

 لم أفهم شيئاً، وال أريد أن أفهم، ما يهمني أن تساعد أمي، وعندها
سأترك لك الجن وسأكتفي بغرائب البشر، إال إذا كان لغادة أخ
وسيم، ففي هذه الحالة سأتزوجه ونكوّن عائلة جميلة!
ضحكنا، وذهبت ألخذ قسط من النوم في انتظار موعد تواصلي مع غادة،
كنت أعلم أن هذا لن يكون سهالً، ألنني سأحتاج إلى الكثير من التركيز
واإل اردة واإليمان بما سأقوم به. ساعات من النوم كانت كافيةًألن أستعيد
طاقتي، وساعة من التدرب قبل الموعد جعلتني واثقاًمن نفسي.
حان الوقت، أغلقت باب غرفتي وعزلت نفسي عن كل صوت قد يسبب
تشتيت تركيزي، تمددت على األرض وبدأت أسترخي وأطرد مختلف
األفكار من رأسي، ثم أخذت بالتفكير في غادة.
أغمضت عينيّوتركت روحي تطوف بحثاًعنها، لم يكن األمر في بدايته
سهالً، ربما ألنني لم أكن مؤمناًبما فيه الكفاية بنجاحي، لكن استرجاعي
لكل ذكرى جميلة مع غادة ساعدني على التركيز أكثر، عندها شعرت بأني
أحدق في عينيها وأطوف حولها.

بطريقة غريبة ومضحكة في الوقت نفسه، اعتقدت بأن لهذا الماء خاصيةًأحسست بقربها ثم بدأت أ ارها تدريجياً، كانت تجلس وسط نافورة ماء
تمنع رصدها، درت حولها دون أن تراني، وفجأة التفتت إليّوغمزتني
وأشارت أن أتبعها ففعلت، اقتربنا من قلعة تشبه قالع البشر إال أن حجار تها
يغلب عليها اللون األخضر، وفيها الكثير من األبواب، كلها مشرعة على
مصراعيها، تسللت غادة وأنا خلفها حتى وصلنا إلى أقرب باب فمرت منه
بسهولة، تبعتها ولكنتي شعرت بأن هناك زجاجاًليناًيمنعني من المرور،
فخرجتْعلى الفور، تبعتها وعلمت أنها تبحث عن الباب الذي قد أتمكن
من المرور عبره.
ومن باب إلى آخر فشلت كل محاوالتنا، عندها أشارت أن أتبعها إلى نافورة
الماء، وهناك عادت لتجلس قربها مرةًأخرى، وكأنها تسعى إلى مسح
أثرها، بعد دقائق طلبت عبر اإلشارة أن أحدق في عينيها ففعلت فأخذت
أسمع صوت أفكارها:
 ابق قرب النافورة وراقبني من بعيد، وحذرني إن شعرت بأي أمر
مريب.
 لم أفهم قصدك، كيف أميز األمر الغريب وكل ما أ اره حالياًيثير
ريبتي.
 اعتمد على حواسك، اآلن راقبني، في أي لحظة تشعر بأنك قد
تفقد السيطرة على نفسك ألي سبب كان فما عليك إال أن تالمس
ماء النافورة وستستيقظ على الفور.

اقتربتْمن القلعة وولجت أحد أبوابها بسهولة ثم مرت عبر عدة سراديب
وصعدت الكثير من األدراج إلى أن وصلت إلى صالة مليئة بالكتب،
أخذت تجول بينها وكلما أمسكت كتاباًتحول إلى لوح يشع نو اًر، ومن كتاب
إلى آخر أخذت تتنقل بسرعة فائقة، وعلى الرغم من سرعتها الرهيبة، فقد
كنت قاد اًر على مجا ارتها، لم تتوقف عن الحركة، كانت تت ارجع فور اقت اربها
من بعض الكتب حتى أنني كنت أشعر بفزعها، وحين توقفت عن الحركة
و أخذت تتلفت حولها حائر ة، أيقنت أنها لم تنجح في العثور على مبتغانا.
مر زمن قبل أن تخرج من حيرتها وتنطلق باتجاه مجموعة من الكتب
وأخذت تغير أماكنها، كررت العملية عشرات المرات، لم أجد ما تفعله
منطقياًإال إن كان هدفها إحداث فوضى في المكان، فجأةً، انتقلت بسرعة
البرق من الكتب التي أثارت فيها الفزع سابقاًوأخذت تمسك الواحد منها
تلو اآلخر ملقية على كل منها نظرة خاطفة، قبل أن تعيده إلى غير مكانه،
تكررت العملية عدة مرات قبل أن تسرع باتجاه األدراج التي أوصلتها إلى
مجموعة كتب أخرى، كل الكتب متشابهة ويستحيل التمييز بينها.
شعرت بالملل نظرت إلى يميني فلم أرى سوى الفراغ، أيقنت بعد برهة أن
كل شيء يتحول إلى فراغ في اللحظة التي أبعد عيني عنها، وفجأة رأيت
خيطاًمن نور يتحرك كاألفعى وينتقل من مكان إلى آخر حتى وصل غادة
وأخذ يلتف حولها، شعرت باالختناق فصرخت بأعلى صوتي، وفجأةًبدأت
أسقط في هوة عميقة مظلمة، أخذت أصرخ دون صوت وأنا أهوي، يكاد
قلبي يتوقف وأنا أترقب اللحظة التي سأرتطم فيها بقعر هذه الهوة، لم أعد

قاد اًر على التنفس، كل ما أشعر به سقوط سريع وفزع شديد من صدمة
االرتطام.
شعرت بيد تمسكني وترفعني ببطء شديد، بصعوبة بالغة فتحت عينيّألجد
غادة تجلس قربي وتمسح جبيني بكفها الناعم، وتحثني بهمس أن أتنفس
ببطء، احتجت عدة دقائق حتى تأقلمت مع نور غرفتي، كنت أتصبب
عرقاًوغادة تمسح جبيني، وتهمس بكلمات تصف لي فيها حديقة منزلنا
وكأنها تسعى إلى أن تعيد إلي توازني، وهنا تساءلت هل يعقل أنني غفوت،
وهل كل ما حدث ليس سوى كابوس. فأجابت دون أن أسألها:
 ما حدث يشبه الحلم، ولكنه واقع.
 ما رأيك أن نكرر التجربة مرة أخرى؟
 لن أسمح لك أن تكررها بالطريقة نفسها، لقد كانت هذه المر ة
األولى واألخيرة.
 لقد كانت مغامرة رائعة، لن أتردد في تكرار هذه التجربة ولن أنسى
هذه الدقائق ما حييت على الرغم من ذلك السقوط اللعين، أي نوع
من األحالم هذا يا غادة؟
كنت سأخسرك إلى األبد، أنا المذنبة، كان عليّأن أدرك سلفاً لم تكن مغامرة رائعة، لقد كانت مخاطرة غبية قمنا بها عن جهل،
أنك قد تفقد السيطرة ولن تتذكر كيف تستيقظ، الدقائق في تلك
الهوة تساوي ساعات، لو لم أنجح في إيقاظك لبقيت هناك إلى
الأبد.

 غادة، أنا كنت أراك بوضوح، وكأني كنت معك لحظة بلحظة،
كيف حدث ذلك؟
 هذا ليس باألمر الصعب يا حسن، إن تم بالطريقة الصحيحة.
 إنها أروع تجربة خضتها في حياتي فعالً، ولن أتوانى عن تك اررها
ألف مرة على الرغم من أنني ال أجد تفسير لهذه الدقائق وال لخيط
النور وكل ما رأيته.
 الزمن خارج الجسد ال يقاس بالدقائق أو الساعات، أنتم البشر لن
تكتشفوا سر قوتكم أبداً، التجربة التي خضتها بسيطة جداً، ومع
هذا فهي معقدة إلى الدرجة التي يصعب شرحها. لم يكن هدفي
منها إال أن تحذرني من الكاتو دون أن يلحق بك أي ضرر،
فالطريقة التي رافقتني فيها تسمح لك برؤيتهم دون أن يتمكنوا من
رؤيتك، ومع هذا فلم أكن أتوقع أن أنجو منهم، اكتشافك مصيدة
الكاتو المعدّة الصطياد المتسللين إلى أهم مواقعهم أشبه
بالمستحيل، لقد أعطاني أمالًبقدرتي على مواجهتهم مستقبالً،
واآلن أخبرني ما الذي رأيته بالضبط؟
 رأيت خيط نور لطيفاًيحيط بك كاألفعى، ويكاد يطبق عليك، لم
أجد تفسي اًر لشعوري باالختناق والص ارخ على الرغم من أن ما أريته
سر ناظري، وكان بإمكاني أن أنظر إليه شهو اًر دون أن أشعر
بالملل....

 إن سقطت أسطورة مصيدة الكاتو فلن يصعب علينا هزيمتهم،
سأدخل إلى عالمي وأخرج متى أشاء دون أن أبالي بهم، سألقنهم
درساًلن ينسوه أبداً، سأثير جنون والدتي وسأدفع أختي لتطاردني
ليل نهار حتى تقر أنني هزمتها... يا للروعة، وأخي اًر بإمكاني أن
أتفوق عليها في شيء، لن أتردد في قراءة تلك الكتب اللعينة التي
أحتاج ألف عام حتى يسمح لي باالقتراب منها، وبعد ذلك سأقتحم
قالعهم واحدة واحدة، سأثبت لهم أنني لست الصغيرة المدللة التي
تحميها والدتها وتختبئ في ظل أختها، سأجعل أبي فخو اًر بي.

كانت مبتهجة، لم تتوقف عن الثرثرة، لم أفهم السر وراء هذا االنقالب
السريع في مز اجها.
 هل بإمكانك أن تبسّطي لي األمر؟
 حبيبي، سأعلمك كل شيء، ومعاًسنثير جنونهم، الكاتو ليسوا
أسطوريين، إنهم مجرد أفراد أوهمونا أنهم قادرون على كل شيء.
هذه الصغير ة ستثير جنوني قبل أن تثير جنون الكاتو، وحالياًال يشغل
بالي إال عالج أمي.
 هل وجدت عالجاًألمي في مكتبة الجن؟
 لقد بحثت في عش ارت الكتب دون أن أجد شيئاًقد يساعد، ولكنني
اطلعت على عدة طرق سريعة تمكننا من السيطرة على أذهان
البشر، وباإلمكان تجربتها على أمك.
 هل سنجري التجارب على أمي؟

 ال تخف يا حبيبي، ال شيء مما سأقوم به قد يسبب األذى ألمك،
عالج أمك لن يكون باألدوية وا نما بمسح األفكار الغبية المزروعة
في رأسها، ولن يتم ذلك إال بالتواصل مع عقلها الباطن أو أن
نتركها على حالها حتى تستطيع العودة إلى الواقع، ولكن هذا قــد
يحتاج وقتاًطويالً، فال أحـد يستطيع أن يحـكم.
 غادة، كيف سنفعل هذا؟
 لن يكون األمر سهالًفي وضع أمك الحالي، لهذا سنعمل على
اختيار الفرصة المناسبة للتواصل معها ومسح جزء من ذاكر تها،
واآلن علي أن أتركك، فبقائي في مكان واحد مدة طويلة يساعد
الكاتو على تتبع أثري، ونحن بحاجة إلى الوقت لنستعد لمواجهتهم.
 متى ستعودين؟
 سأعود في الوقت المناسب.
لم تمر ساعة حتى فاجأتني بعودتها، طلبت أن أصحبها إلى أمي وأن
أوقظها. أخذت أحدث أمي، وأعيد على مسامعها كل كلمة تلقنني إياها
غادة، أخذت أصف لها غادة ألدفعها إلى رسم صورة لها في خيالها حتى
تتمكن من التواصل معها، ويبدو أنني نجحت في ذلك. اقتربت غادة بلطف
من أمي، أمسكت يديها وبدأت تتحدث معها بهدوء، ثم صمتت دقيقة،
عادت لتهمس في أذنها وتالمس جبينها، طلبت منها أن تغلق عينيها وأن
تعود إلى النوم. وقبل أن تغادر حذرتني من أن هناك فترة زمنية ما عاد ،،،،

لها وجود في ذاكرة أمي ويجب أن نتعامل معها بحذر ونخلق لها المبررات
حتى ال يسبب ذلك لها صدمة.
اختفت غادة، فذهبت إلى سروة وشرحت لها ما حدث، وعلى الرغم من
شكها في النتيجة فقد جارتني على أمل أن ما أقوله صحيح. اتفقنا على
خطة لمواجهة الموقف وبدأنا ترتيب البيت كما كان قبل مرضها، انتظرنا
حتى استيقظت أمي وسارت على قدميها وكأنها لم تكن تستطيع الوقوف
قبل لحظات، بمجرد أن رأتني حتى قالت:
 ألم تذهب في رحلة مع أصدقائك؟
 لقد غيرت رأيي ولن أذهب.
تحايلنا عليها وأوضحنا لها على مدار أسبوع أنها كانت في غيبوبة أليام
حتى عادت األمور إلى طبيعتها. أما سروة فصارحتني أنها في البداية لم
تصدق الكثير مما رويته عن الجن، ولكنها كانت مضطرة إلى مجار اتي
خشية علي.
لم تنقطع غادة عني، وما كنت ألنسى ما بذلته من جهد لمساعدة أمي.
مرت أسابيع، والساعات القليلة التي كنت أقضيها بصحبة حبيبتي تساوي
عندي العالم كله، وما عاد الكاتو يشغل بالي. علمتني غادة الكثير عن
طرق الجن في قراءة أفكار البشر وصنع الوهم، أما أنا فعلمتها الكثير مما
تجهله عن البشر، ومعاًخضنا مغامرات صغيرة ألجزاء من الدقيقة، كانت
خاللها تتسلل إلى عالمها برفقتي دون أن ينتقل جسدي خارج الغرفة،
ولكنها لم تكن تسمح أن تكرر ما حدث في التجربة األولى حتى وصلت ....

إلى قناعة أني قادر على السيطرة على نفسي. ألححت عليها أن تريني
البيت الذي ترعرعت فيه، فوعدتني أنها ستفعل ذلك يوماًما، مرت األيام
وجاء من يفسد علي حياتي ويسرق أحالمي.

التكملة في جزء قادم بإذنه ....

********
 
  • عجبني
التفاعلات: Mego 7، pop44 و غريب عن العالم
اللي عاوز التكملة يقول ...
 
مرحبا بكم عزيزي الكاتب عزيزتي الكاتبة طالما قصتك في هذا القسم فيعني أنها متسلسلة فعليه حينما تريد تضيف جزء جديد عليك باتباع الخطوات التالية وهي اولا تضع الجزء الجديد في مربع الكتابة بالاسفل ثانيا تدخل على هذا الرابط
وتطلب دمج الجزء الجديد من قصتك وتكتب اسم قصتك وتكتب رقم المشاركة التي فيها الجزء أو تنسخ رابط قصتك
وسيستجيب لك أحد مشرفي القصص
لو كان متاح مباشرة
 
  • حبيته
التفاعلات: 𝔱𝓗ⓔ β𝐋𝓪℃Ҝ Ã𝓓𝔞Mˢ
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
ياريت التكمله
 
  • حبيته
التفاعلات: 𝔱𝓗ⓔ β𝐋𝓪℃Ҝ Ã𝓓𝔞Mˢ
  • عجبني
التفاعلات: ناقد بناء
مرحبا بكم عزيزي الكاتب عزيزتي الكاتبة طالما قصتك في هذا القسم فيعني أنها متسلسلة فعليه حينما تريد تضيف جزء جديد عليك باتباع الخطوات التالية وهي اولا تضع الجزء الجديد في مربع الكتابة بالاسفل ثانيا تدخل على هذا الرابط
وتطلب دمج الجزء الجديد من قصتك وتكتب اسم قصتك وتكتب رقم المشاركة التي فيها الجزء أو تنسخ رابط قصتك
وسيستجيب لك أحد مشرفي القصص
لو كان متاح مباشرة
شكرا ع مجهودك أخي 🧡
 
  • عجبني
التفاعلات: ناقد بناء
هو في تكمله للقصة ولا خلصت كدا
 
  • عجبني
التفاعلات: ناقد بناء

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%