NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول يقع في العشق ـ خمسة أجزاء 7/1/2023

Adam 1

محطم القلب 💔
نسوانجي متفاعل
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
نسوانجي قديم
إنضم
12 ديسمبر 2022
المشاركات
2,351
مستوى التفاعل
807
الإقامة
كوكب كريبتون
نقاط
472
الجنس
ذكر
الدولة
كوكب كريبتون
توجه جنسي
أنجذب للإناث
الفصل الأول

زفر قصي في إرتياح وتراجع في مقعده بعد أن انتهى أخيرًا من الأعمال التي تراكمت عليه، والتي كان من الضروري إنجازها فليس من شأن عملائه إنه رجل لا يستطيع أن يبتعد عن زوجته فيلقي بعمله في سبيل قضاء لحظات معها.
غادر مقعده مبتسمًا يرغب في الطيران إلى المنزل يتمنى ألا تكون قد نامت فقد أصر على مغادرتها للعمل مع موعد باقي الموظفين رغم رغبتها في البقاء معه لكنه رفض حتى ترتاح قليلا فقد كان يومًا شاقًا لكلاهما.
ركب سيارته مفكرًا بمكر إنه أكثر من راضٍ لإصرارها على الاستمرار في العمل كمساعدته الشخصية حتى بعد زواجهما برغم أن وجودها معه في المكتب يكون معطلا في بعض الأوقات إلا إنها حازمة وجادة عندما يأتي الأمر إلى العمل، ابتسم متذكرًا كلماتها ظهيرة اليوم في مكتبه "أنت مدير عابث فلتركز في عملك وإلا سوف نفلس"
اتسعت ابتسامته يتعجل الوصول للمنزل لرؤيتها فالتفكير بها جعل الشوق يملأ قلبه، وبالفعل ما أن أوقف سيارته أمام المدخل حتى شعر بالأمتنان لأن والدته تنام مبكرًا فلا تشهد إندفاعه فوق الدرج واتجاهه بلهفة إلى غرفة نومه لكنه توقف عندما سمع همسات أتت من خلف الباب المغلق.. شعورٌ بالقلق انتابه فمن سوف يهاتفها في هذا الوقت إن لم يكن الأمر ضروريًا.

ذلك القلق استحال أمرًا آخرعندما فتح باب الغرفة ليرى من خلال ضوء القمر المتسلل من النافذة المفتوحة رجل ينام فوق فراشه بينما زوجته الحبيبة تقف بجواره، ولم يكن هناك شك فيما قاطعه فنظرة واحدة إلى الفراش المبعثر جعلته غاضبًا.. بل أن
"الغضب" هو ألطف ما قد يعبر عن مشاعره في تلك اللحظة..لقد كان الجنون.
اندفع إلى داخل الغرفة ودفعها أرضًا بعيدًا عن طريقه بدون أن يبال بصوت تحطم الزجاجات من فوق طاولة الزينة التي اصطدمت بها.
هدفه كان الرجل يلكمه بشراسة فلم يكن يرى أمامه إلا حمرة الدماء...سوف يقتله ويقتلها ولن يبالي بالنتائج حتى أن الضوء الذي ملأ الغرفة فجأة لم يوقفه.
كاد أن يدفع والدته التي مسكته لكن سرعان ما استعاد الرؤية الواضحة، نظر إلى كفيه الملطخين بالدماء ثم نظر إلى الخائنة وروبها الأبيض الحريري الذي لطخته بضعة قطرات من الدماء نتيجة وقوعها أرضًا، تأمل ملامحها فكانت عيناها تنظران إليه بدون أي ندم أو ذنب.
اقترب منها فلم تحاول والدته أن تمنعه ولم تتحرك هي بل نظرت إليه في صمت، وكأنها تمثال.. لم يتحدث وكأن الخذلان الذي يشعر به في تلك اللحظة يفوق أي كلمات.

استغل الرجل فرصة انشغاله بزوجته وفر هاربًا إلى الخارج كما دخل بعد أن تبادل معها نظرات ذات معنى ثم اختفى وكأنه لم يكن، ولم تحاول الأم أن تمنعه أو حتى تحذر الأمن الغافل في الخارج فمازالت تحت تأثير ذهولها وصدمتها.
في تلك اللحظة شعر أن بإمكانه أن يقتلها وهو يبتسم ضاحكًا.. أهذا كابوس؟ لماذا؟!

لم يلاحظ أنه نطق بذلك السؤال بنبرة عالية حتى أجابته:-
-النساء يا عزيزي لديهن رغبات أيضًا.
أردفت بنبرة فجة:-
-وأنت لست بكافيًا.
ارتد وجهها نتيجة لتلك اللطمة القوية لكنها لم تصرخ بل نظرت إليه مجددًا بتعابير باردة برغم جرح شفتيها وإحمرار وجنتها.
لكنه لم يبادلها النظرات بل نظر إلى والدته وهتف بغضب مكتوم:-
-فلتبعديها من أمامي قبل أن أقتلها.
لم تحتاج سوسن أن يكرر كلامه فقد انتظرت ذلك اليوم كثيرًا، وها هي تنال ما أرادته فجذبتها من ذراعها تطردها من هذا المنزل، لتخرج "دارين" من القصر..
لقد دخلت هذا المكان طمعًا في تأسيس حياة سعيدة معه، وها هي تخرج الآن بدون أي شيء ولا حتى وجهة.
اقتربت منه سوسن تحاول أن تخفي راحتها، وقالت تخفف عنه:-
-لقد نجوت منها يا بني، لذلك لا تحزن أبدًا.
أضافت:-
-لقد عرفت حقيقة أصلها منذ أول يوم وطأت به قدمها هذا المنزل، الحقيرة إنها...
لم يستطع أن يسمع المزيد فأسرع إلى غرفته يعميه كلا من الغضب والكراهية، لأول مرة تسيطر عليه نزعة العنف منذ أن كان مراهقًا.. بدأ يكسر ويمزق كل ما يربط تلك الغرفة بها، كان يحارب بشراسة كأنه ينازع ليمحيها أيضًا من ذاكرته ومن قلبه، وبعد ساعة طويلة جلس أرضًا يلهث في تعب نظر إلى الغرفة التي أصبحت حطامًا بدون أن يشعر بالرضا أو الراحة.
استعاد هذا المشهد مجددًا وانعكس في عينيه مزيج من الألم والغضب.. سوف يحرص على أن تدفع الثمن غاليًا لقد منحها حبًا لم يكفيها والآن حان الوقت لتتذوق كراهيته.
***
كانت تسير بلا وجهة، سمحت لدموعها أن تنهمر وتغرق وجهها كأن حقيقة ما حدث لطمتها فجأة ممزقه ثباتها السابق.
يا للسخرية، فأمس كانت تحسد سعادتها وحياتها أما الآن فهي في الطرقات المظلمة وحيدة مفلسة، وقد كانت سوسن أكثر من سعيدة بتركها على هذه الحالة في الشارع.
ألتقطت هاتفها والذي حرصت على أن يكون معها قبل أن تلقيها سوسن في الخارج، ومن بين دموعها بدأت تبحث في قائمة معارفها عن صديقة واحدة تلجأ إليها، لكن هل امتلكت يومًا مثل تلك الصديقة؟
لقد اعتادت الوحدة طويلا متظاهرة بالقوة حتى تزوجته فتركت كل شيء حتى شقتها الصغيرة باعتها لتستطيع أن تشتري جهازًا من أموالها الخاصة برغم أنه لم يبخل عليها لكنها الإستقلالية اللعينة، وها هي تندم على ذلك الآن فعلى الأقل لكانت امتلكت شقة تلجأ إليها.
ازدحمت الأفكار والظنون في ذهنها، ضمت معطفها إلى جسدها، الذي ألقته سوسن في وجهها ربما شفقة عليها أو إمعانًا في إذلالها، وقد كان الشيء الوحيد الذي يقيها لسعات البرد القارصة التي تتسلل إليها عبر قميص نومها الحريري أسفله.
ارتجف ثغرها بينما تجلس على المقعد الخشبي في محطة القطار الفارغة، مزيج من الشفقة على الذات والأسى. واست نفسها فقد فعلت ما يجب عليها أن تفعله، وإذا عاد بها الزمن مجددًا لفعلته مرة أخرى.
لكنها لا تستطيع أن تنفض الحزن والألم عن جسدها الذي يتلوى في شوق إلى دفء أحضان زوجها وأمان غرفتهما.
اشتدت قبضتها على هاتفها وكأنها تتوسله أن يجد ملجأ، كانت الأرقام تمر أمام عينيها بدون أن تحمل أي مشاعر شخصية حتى وقفت أمام هذا الرقم الذي احتفظت به لفترة تخطت عقد من الزمن بدون أن تستعين به لكن ما البديل في تلك اللحظة؟!
ترددت قليلا لكن تلك النظرات التي شعرت بها تراقبها من طرفٍ بعيدٍ، وبجانب عينيها رأتهما شابين مشردين مؤكدا ليسا في وعيهما، دفعتها إلى أن تتصل ليأتيها صوته البارد لكن في طياته كانت دهشة وقلق:-
-دارين!
بللت شفتيها وهمست:-
-أخي..
أردفت تحاول أن تتحكم في نبرات صوتها:-
-أحتاج مساعدتك.
لم يطلب أي تفاصيل وكانت شاكره لذلك، واختصر قائلا:-
-ارسلي لي موقعك سأكون هناك.
ظلت دقائق في المحطة حذرة خائفة من هذا السكون، قبل الزواج لم يكن ليخيفها لكنها اعتادت نعيم حياتها الحالي حتى أصبح الماضي ووحدته مجرد ذكرى.
يبدو أن انتظارها الطويل قد شجع المشردين على أن يتحركا، حاولت أن تصمد لكن الخوف دفعها إلى أن تقف في تأهب تفكر في خطوتها التالية لكن لم يكن هناك أي حاجه لذلك فقد كان صرير السيارة خارج المحطة كافيًا ليوقفهما أما اندفاع الرجال في بدلاتهم السوداء فدفعهما إلى الهرب.
لم تجفل من منظر الرجال ونظرت إلى أوسطهم الذي كان يتقدمهم بينما الآخرين يحيطونه في حماية بينما أسلحتهم لا تفارق خصرهم.
تأملت ملامح وجهه التي بدت أصغر من أعوام عمره التي تناهز السابعة والثلاثون لكن مازالت كما عرفتها دائمًا في صغرهما، رفع كفه ليتوقف الرجلان عن اللحاق به وتقدم هو أمامها.
نظر إليها يتأملها مليًا في قلق، لامس بكفه الإصابة في شفتيها لتنكمش ملامحها ألمًا، لا تعرف ما الذي دمر سكونها، أهي ملامحه الشبيهة بملامح أمها أم تلك النظرة في عينيه؟! لكنها فقط أجهشت بالبكاء ليجذبها إلى أحضانه.
أحاطت خصره تبكي وقد عادت طفلة صغيرة تطلب حماية أخيها الأكبر، لامس رأسها بلطف يناقض ضخامة كفه الذي لا يعرف إلا العنف وحمل السلاح.
لم يسأل ولم يستفسر فقط أحاط خصرها يقودها إلى سيارته حيث فتح أحد الرجال الباب الخلفي لهما ثم انطلقت السيارة تشق الطرقات المظلمة تلحقها سيارتين آخرتين لكنها لم تشعر بذلك وقد ظلت تحتمي به من ذلك الكابوس الطويل الذي مرت به وهو تفهم ذلك فاكتفى بالصمت وإحاطة كتفها في حماية.
***
ارتدت روبها واستلقت فوق الفراش تنتظر عودة قصي لكن سرعان ما خدعها النوم وأصبحت تحت سيطرته.
ثقل فوق فمها ووكز بارد جعلها تفتح عينيها اتسعت حدقتاها، تململت في عنف تحاول أن تتخلص من قبضته لتصرخ ما أن ألتقت عيناها بهذا الرجل الذي كان يكمم فمها بينما يضع فوهة مسدسه الباردة بجوار خصرها.
قال:-
-انهضي ببطء، لا تحاولي أن تفعلي أي شيء، وإلا سوف تزين رصاصتي جسدكِ.
لم يبعد كفه عن فمها لتنهض بخطوات متعثرة وأعين مذعورة تنظر إلى فوهة مسدسه
همس:-
-سوف أنزع يدي لكن إذا صرختِ سوف أقتلك وأقتله أيضًا.
كانت خائفة ترتجف لم تكن أول مرة ترى سلاحًا لكنها الأولى التي يكون موجهًا تجاهها.
أبعد كفه عن فمها ثم رفع هاتفه أمام وجهها، لم تفهم في بادئ الأمر إلا أنه أشار بسلاحه أن تنظر إلى شاشته.
ارتجف كفها بينما تشاهد "قصي" على الشاشة يغادر سيارته متجهًا إلى داخل الشركة، لقد كان هذا الصباح وقد تعرفت على بدلته التي جهزتها له بنفسها، بينما هي تسبقه إلى داخل الشركة لكن لم يكن هذا ما أخافها بل تغير المشهد إلى السطح المقابل ورجل ملثم يحمل سلاحًا ويوجهه إليه. لم تكن بحاجة إلى أي ذكاء لتفهم التهديد لكنه تحدث:-
-الآن سوف تفعلين ما أقوله وإلا سوف يكون موته قريبًا.
طفرت الدموع من عينيها بينما تنظر إليه في ذعر أضاف:-
-والآن سوف تخبرين زوجكِ إنكِ على علاقة بآخر.
أضاف بسخرية:-
-بالطبع ليس هناك دليل أكثر من وجودي هنا.
تكلمت أخيرًا:-
-لماذا تفعل هذا؟
-لا يهم، ولا تقاطعيني مجددًا.
أردف:-
-سوف تجعليه يثق إنكِ خائنة بأي طريقة ممكنة، وما أن يطردك من هنا، وهذا ما سوف يحدث بالطبع، سوف تغادرين بدون أي رجعة ولا تحاولي أن تخبريه أي شيء، فإن قتله سوف يكون أسهل ما أفعله.
لم يكن هناك مجالا للتفكير فحياته مقابل موتها فاختارت بدون أي تردد وحسمت أمرها.
***
ألتقطت كوب الكاكاو الساخن ترتشف منه بعد أن انتهت من سرد ما حدث سابقًا.
قال إياس في محاولة لتجميع ما عرفه:-
-ذلك الرجل صعد إلى غرفتكِ، وهددكِ بقتل زوجكِ ما لم تفعلي ما يقوله.
أومأت في صمت لينطلق لسانه بسبابٍ جعل وجنتيها تتورد ورمقته بنظرة موبخة لم يملك إلا أن يبتسم على أثرها فائلا:-
-لم تتغيري يا صغيرة.
تنهدت دارين قائلة:-
-لقد كبرت منذ ذلك الحين.
صمت برهة متذكرًا انقطاع الأواصر بينهما فقد عاد بعد وفاة والديه ليكون بجوارها، وقد كانت في العشرين من عمرها وقتها لكنها رفضته كما فعل والده من قبل بسبب مهنته فاختارت البعد، وهكذا تركها كما تشاء يطمئن على أخبارها من بعيد يراقبها بأسى تعمل بجد لتعيل ذاتها وهي في هذا السن الصغير بينما تتباع دراستها.
نظر إليها فجأة ثم سألها بغضب:-
-هل هذا الوغد هو من فعل هذا بكِ؟
لمست شفتيها وهزت رأسها في أسى ثم قالت تخفف من غضبه:-
-إنه محقٌ فيما فعله، لقد جرحته بكلماتي.
أدرك إنها تتحدث عن زوجها، وبرغم غضبه من أن يمس أحدهم أخته بسوءٍ حتى ولو كان زوجها لكنه أيضًا لا يلومه فلو كان مكانه لقتلها بدون أن يرف له جفن.
تسائل مجددًا بتفكير:-
-هل هناك أعداء في حياتكِ يا صغيرة، أشخاص يتمنون السوء لكِ؟
هزت رأسها بدون تفكير قائلة:-
-لم أقترب من شخصٍ لدرجة الحب أو الكراهية.
صمت برهة ثم قال فجأة بنبرة جافة يستخدمها مع رجاله إلى ذلك الرجل الذي كان يقف بجوار الباب وكأنه جزء منه:-
-ارسل لي عزام.
أومأ الرجل وبعد دقائق دخل عزام، وبرغم قصر قامته إلا إن خشونة ملامحه والدهاء الذي يطل من عينيه جعلاه مخيفًا في عين دارين، كان فضوله شديدًا تجاه أخت سيده التي ظهرت فجأة إلا إنه لم ينظر إليها ووجه إهتمامه إلى إياس:-
قال إياس:-
-أوصفي ذلك الرجل، أي شيء تستطيعين تذكره.
قالت بينما تحاول وصفه جاهدة:-
-طويل القامة، شعر أسود خشن، وأعين...
قاطعها بنفاذ صبر ساخر:-
-لن أبحث له عن عروسة يا صغيرة، نريد علامات مميزة، ليس لون شعره وتلك التفاهات..
رمقته بغضب ثم قالت:-
-كان هناك ندبة في كفه، وكأنه جرح سكين، وعندما ألتفت لاحظت أثر حرق بجوار عنقه لكنه أثر طفيف كما أن قصي قد ضربه فلابد أن هناك علامة إصابات على وجهه.
قال لعزام:-
-أفعل المستحيل لإيجاد هذا الوغد، وابلغ جميع الرجال، أوقفوا كل شيء تفعلونه الآن واحضروه لي.
أردف:-
-ركز على كل شخص في نطاق "قصي القاضي"، أرسلت لك عنوان شركته ومنزله.
أضاف:-
-غالبًا سوف يكون شخصًا قريبًا منه.
كانت مهمة مستحيلة بتلك المواصفات لكنه كان يدرك أن عزام بإمكانه أن يجعل المستحيل ممكنًا، وما أن غادر حتى ألتفت إياس إلى دارين قائلا:-
-لا تقلقي سوف نجده ونعرف من ورائه.
نظرت إليه في أمتنان، فبرغم كل الأختلافات التي بينهما، والفراق الطويل الذي تسبب به والدها رحمه ****؛ فبعد أن عرف بطبيعة عمله وصفقاته المشبوهة حتى طرده ومنعه منعًا باتًا من لقاء أي فردٍ من العائلة خاصة هي، وبعد وفاة والديها لم تستطع أن تتقبل حياته خاصة وقد أوضح رفضه لتغييرها لكنه مازال أخاها.. تاجر سلاح أم غيره.
تسائلت فجأه وقد لاحظت الأمر:-
-كيف عرفت اسم زوجي؟
قال مبتسمًا:-
-ليس معني إننا اختلفنا أنني لا أعرف أخبارك يا صغيرة.
رغم كل شيء إنها تحبه حقًا فهو أخ جيد لكنها تلك البؤرة السوداء في حياته هي ما تلطخ كل شيء فتجبرها على البقاء بعيدة عنه.



الفصل الثاني

-لقد أرسلت إليه الخادم ليبلغه بقدومك.
أومأت سيلين بينما تتظاهر بالحزن وتبدي تعاطفها قائلة:-
-لقد حزنت كثيرًا لما حدث، فقصي لا يستحق هذا أبدًا.
أومأت سوسن في موافقة، وقالت بنفور:-
-لقد كنت رافضه لتلك العلاقة منذ البداية؛ فتلك المرأه لم تكن مناسبة أبدًا.
أومأت سيلين بدون تردد، وسألت في إهتمام:-
-كيف حاله الآن؟
ظهر الحزن على ملامح سوسن قائلة:-
-إنه كالأسد الجريح في غرفته القديمة.
أردفت برجاء:-
-تحدثي معه يا سيلين لعله يستمع إليكِ.
ربتت على كتفها قائلة:-
- لا تقلقي، لن أتركه أبدًا.
برقت عيناها فقد كان ذلك أكثر ما هي صادقة بشأنه، فلن تترك قصي أبدًا.. ليس بعد ما فعلته لتجعل الطريق خاليًا أمامها.
انتزعها ظهوره من أفكارها لتتأمله في إعجابٍ واضحٍ، وبرغم شحوب ملامحه إلا أن وسامته كانت تعوض ذلك خاصة في تلك البدلة السوداء التي أبرزت طول قامته وسحر عيونه السوداء التي توازي سواد شعره الذي كان مصففًا في رسمية أضافت عليه هالة من الجدية.
لم يبدي أي رد فعل عند رؤيتها لكنها لم تبالي بل اندفعت إليه تقول بحزن أجادت اصطناعه:-
-كيف حالك يا قصي؟
أردفت:-
-لقد حزنت كثيرًاعندما عرفت عما حدث من طنط أثناء مهاتفتي لها.
أومأ في عدم اكتراث، فوالدته أحبت دائمًا الثرثرة مع سيلين لذلك فلم يتعجب معرفتها بالأمر. نظر إلى والدته وقال بنبرة باردة لم يستخدمها معها قط:-
-سوف اذهب للشركة.
حاولت أن تمنعه لكنه لم يترك لها مجالا للتحدث، وألتفت مغادرًا لتهتف سيلين:-
- سوف آتي معك للتحدث مع أبي في الشركة.
ابتسمت سوسن براحة بينما تراقبها تلحق به، فتلك الفتاة معجبة بابنها منذ زمن ولم يُخفى ذلك عن عينيها..

لقد داوت بنفسها جروح كفه من تحطيم الغرفة ولكم الرجل قبلها لكن جروح قلبه ليس لها تأثيرعليها لكن من ممكن أن باستطاعة سيلين أن تخفف عنه، وربما سوف تعوضه عن تلك الملعونة.
مجرد التفكير في أن سيلين الرازي سوف تكون زوجة لابنها يملأ قلبها حبورًا؛ فهي ابنة شريك زوجها المرحوم كما أن والدها له شركته الخاصة أيضًا لذا فهي أكثر من مناسبة ككنة لها، عليها فقط أن تستغل كل فرصة لتدعوها حتى تقربها من ابنها وربما في القريب العاجل سوف يشهد هذا المنزل زفافًا سعيدًا.
مطت شفتيها بعدم رضا بينما تمر على الغرفة المغلقة منذ هذا اليوم، من أسبوع، والتي يتجنب دخولها كأنها مصدر للطاعون وقد أغلقها محتفظًا بمفتاحها بعيدًا عن الأعين..ربما بفضل سيلين سوف تفتحها قريبًا وتلقي بفضلات تلك الملعونة الخائنة خارج هذا المنزل لتلحق بصاحبتها.
***
ألتقط هاتفه بعدما أصدر طنينًا بقدوم رسالة ثم دفعه تجاهها لتنظر إلى الصور الملتقطة..
كم اشتاقت إليه، وكم يتألم قلبها على رؤية شحوب ملامحه لكن ذلك الشوق تحول إلى غضب وغيرة شديدة عندما لاحظت تلك العلقة التي تلتصق به في كل الصور.
انتبهت إلى سؤال إياس:-
-هل تعرفينها؟
أومأت قائلة:-
-إنها "سيلين الرازي"، ابنة شريك قصي في الشركة، كانت مسافرة وعادت منذ فترة قصيرة.. قد رأيتها مرة أو مرتين في الشركة لكن ليس لها أي علاقة بأعمال والدها.
أردفت بحنق:-
-لا أفهم سبب ذهابها إلى الشركة والمنزل أيضًا.
تسائلت مجددًا في إهتمام:-
-هل تعتقد أن الأمر له علاقة بها؟
هز إياس كتفه قائلا:-
-مازلنا نبحث..
استطرد بتفكير:-
-لكن من الغريب تلك الأحداث عقب عودتها من السفر..
خيم الصمت وكلاهما مشغول بأفكاره ثم قالت دارين بنبرة مفعمه بالقلق:-
-لن يصيبه مكروه أليس كذلك؟
ربت على كفها الموضوع فوق الطاولة قائلا:-
-لقد وضعت رجالا لمتابعة حركاته وحمايته، فلا تقلقي.
أومأت براحة ثم أعادت عيناها إلى الصور، إذا كانت تلك العلقة لها علاقة بالموضوع فسوف تمزقها أربًا.
لم تلاحظ الابتسامة التي اعتلت ثغر إياس بينما يحتسي فنجان قهوته، فالجنون والتملك جينات فى العائلة حتى وإن اختلفت حياتهما فأخته تبدو كنسخة ألطف قليلا منه لكن بنفس الجينات المقاتلة.
توقفت عن النظر إلى تلك الصورة عندما دخل عزام الغرفة مسرعًا، يهمس بجوار أذن إياس بكلمات لم تسمعها لكنها كانت كافية لتدفع إياس إلى النهوض سريعًا قائلا:-
-إذا احتجتي إلى أي شيء اخبري الرجال في الخارج يا صغيرة.
-إلى أين أنت ذاهب؟
قال مبتسمًا:-
-لدي عمل هام.
-أي عمل؟
زفر ثم وضع يده خلف ظهره أسفل معطف بدلته مخرجًا سلاحه وقال بسخرية:-
-أنا لست موظفًا حكوميًا كما ترين يا صغيرة.
أومأت في إمتعاض، ودفعت إليه هاتفه لتلتوي شفتيه في سخرية ويخرج من الغرفة تاركًا إياها تعود إلى شرنقة ذكرياتها وأحزانها.
تريد أن تراه مجددًا، هي لم تفعل أي شيء غير حمايته فلماذا هذا العقاب الذي تحصل عليه الآن؟! حتى وإن لم تستطع أن تخبره بالحقيقة والتهديدات التي تلقيتها فلماذا لا تستطيع أن تبقى بجواره؟ أليس هذا عملها كمساعدة شخصية؟!
كلا، لن تترك عملها والأهم إنها لن تترك زوجها إلى تلك العلقة التي تستغل غيابها لتلتصق به.. عديمة الحياء الوقحة!
صرت على اسنانها في غيظ بينما تستعيد الصور حيث تلتصق بزوجها في كل فرصة تسنح لها بل تجاوز الأمر حدود الشركة فتذهب بشكل يومي إلى المنزل أيضًا.
بالطبع لابد أن سوسن هانم رحبت بذلك كثيرًا فسوف تحب أن تجعل قطعة السردين العفنة تلك كنة لها.
زفرت في ضيق فلم يُخفى عليها أبدًا بغض حماتها لها لكن لم يعنيها ذلك كثيرًا ففي الصباح كانت تذهب إلى العمل وتعود بصحبة زوجها لذلك لم تختلط بها.. فقط بعض المواقف القليلة التي تستغلها سوسن لتوضح مشاعرها كالإشارة أثناء مساعدتها في تحضير الأفطار يوم الأجازه أن تلك وظيفة الخدم وتلميح خبيث إلى مكانتها الإجتماعية.
كان هذا لا يؤثر على دارين كثيرًا فقد كان قصي أكثر من قادرٍ على حمايتها من هجمات أمه ومنحها الإحترام الذي تستحقه وهذا ما كان يهمها بعد كل شيء.
تمتمت بحدة:-
-لن امنحك ذلك يا حماتي العزيزة، وتلك السردينه النتنه سوف تعود إلى مكانها في مكب النفايات عند عودتي إلى منزلي.
تنهدت في رضا عن قرارها، وانتظرت في ملل عودة إياس لتخبره ذلك بدون أن تعرف مدى انشغاله فعلى عمق أمتار طويلة أسفل المبنى، في القبو، كان يجلس إياس على مقعد خشبي ينفث دخان سيجارته في هدوء مبالغ به ثم انحنى بجذعه إلى الأمام ينظر إلى وجه الرجل الملطخ بالدماء أمامه متسائلا:-
-والآن يا رمزي، ألن تخبرني ما أريد معرفته؟
أجاب بصوت مرتجف النبرات:-
-أنا لا أعرف شيئًا يا باشا، أقسم على هذا.
هز رأسه في رفض وقال باستهجان:-
-لقد بحثنا جيدًا خلف سيدتك، وإلا ما كنت أصبحت ضيفنا يا عزيزي رمزي بالتالي فتلك ليست الإجابة التي أريدها.
أشار برأسه إلى أحد الرجال ليلكمه مرة أخرى ليقول رمزي في هلع:-
-أنا لا أعرف أي شيء لكن...
اعتدل إياس مرددًا:-
-لكن ...
قال بصوت خائف متلعثم:-
- لقد ذهبنا إلى مكان نائي لأول مرة لكنها أخبرتني أن أبقى في السيارة، وتابعت السير وحيدة، وعندما عادت أخبرتني ألا أذكر الأمر لأي شخص.
أومأ مبتسمًا:-
-جيد جدًا يا رمزي، احسنت.
نهض بكسل ثم اتجه إلى الدرج قائلا:-
-فلتعيدوه إلى مكانه لكن تأكدوا ألا يتحدث.
***
كانت تنتظر إياس عاصفة من القرارات المجنون من أخته والتي لم تنتظر إبدائه لأي رد فعل على كلماتها فقد تحولت ملامحها إلى الغضب عندما لاحظت قطرة الدم التي تناثرت سابقًا على طرف قميصه كادت أن توبخه لكن ما أن لاحظ نظراتها حتى عاجلها بقوله:-
-ليس هناك وقت لطريقتك يا صغيرة فدعيني استخدم أساليبي.
في تلك اللحظة تذكرت سبب خلافهما طيلة تلك الأعوام..
غير الموضوع قائلا:-
-هل سوف تفعلين حقًا ذلك؟
أومأت في تصميم ليقول ببرود:-
-إذا كان أنا لكنت قتلتك في اللحظة التي تظهرين بها أمامي.
نظرت إليه بصدمة ليهز كتفه قائلا:-
-الخيانة لا جزاء لها إلا القتل، هذا قانوني.
هتفت في إعتراض:-
-لكنني لم أخونه.
قال باستهجان:-
-هو لا يعرف هذا.
زفرت في ضيق ثم قالت:-
-أنا أرغب في البقاء بقربه، إنها المرة الأولى منذ أعوام التي أبقى بعيدة عنه سواء وأنا مساعدته فقط أو بعد زواجنا.
أشارت إلى هاتفها تتابع:-
-استطيع فقط رؤيته من الصور.
أضافت:-
-كما إنك تحميه لذلك يمكنني البقاء بجواره فقط، لن أفعل أي شيء آخر.
نظر إلى عينيها مستوعبًا لأول مرة التغير الذي أصابها..إنها تحب ذلك الرجل حقًا، لم يستطع منعها فأومأ قائلا:-
-لكن رجل من رجالي سوف يراقبك.
كادت أن تعترض لكن الإصرار في عينيه جعلها تدرك أن شرطه لن يتغير فوافقت.
***
كانت خطواتها واثقة هادئة بينما تقطع ممرات الشركة إلى مكتبها بينما بداخلها كانت ترغب في العدو تجاهه تخبره بحقيقة الأمر لكن يجب أن تصبر وتنتظر إشارة أخيها حتى لا تعرضه للخطر.
جلست خلف مكتبها الذي اشتاقت إليه خلال هذه الأيام التي لم تتجاوز الأسبوعين، وبدأت تنظم الملفات التي تكدست خلال تلك الفترة من الغياب بينما نظراتها لا تتوقف عن النظر في ترقب إلى الباب تنتظر ظهوره فقد هاتفت زميلة لها تتأكد من وجوده اليوم ولم تخلو المكالمة من اسئلة ومحاولات التطفل فاكتفت بالقول إنها اضطرت للسفر وتريد أن تصنع له مفاجأه لكنها لم تستطع أن تجد كذبة لتفسير غيابه عن العمل أو حالته الغريبة عند عودته أمس فغيرت الموضوع وانهت المكالمة تتمنى أن تكون اقتنعت بالجواب وحمدًا لله إن اصابة شفتيها قد شفيت تمامًا حتى لا تجذب النميمة في الشركة.
انتفضت واقفه عندما دخل من الباب، بدت هيئتها الخارجية هادئة لكن دقات قلبها كانت ترقص طربًا لوجوده، اشتاقت إليه كثيرًا.

تأملت في ألم السواد حول عينيه لو بإمكانها أن تلقي بنفسها بين ذراعيه فتضمه إليها وتقبل وجهه حتى لا يترك الألم أي أثر عليه، وكأنه لم يكن، لكنها ظلت واقفه في مكانها تتأمل ذهوله الذي سرعان ما تحول إلى إحتقار.
تقدم منها هاتفًا في هياج شديد:-
-ما الذي تفعلينه هنا؟
كادت أن تغلبها عواطفها لكن ملاحظتها للعلقة من خلفه جعلتها تسترد أنفاسها، وتقول ببرود:-
-أعمل.
نظر إليها بعدم تصديق وغضب بالغ لكن لمسة على ذراعه أثابته إلى رشده، قالت سيلين:-
-لا تنفعل يا عزيزي، فلا نريد أن يعرف الجميع في الشركة أسرار حياتك.
عزيزي!
تلك العلقة القذرة تستفزها، رمقتها بغل تتمنى لو تعرف مقدار التحكم في الذات التي تستهلكه حتى لا تهجم عليها فتمزق خصلات شعرها وتجعلها كدجاجة اُنتزع ريشها.
قالت دارين ببرود لا يمس بصلة إلى الثورة بداخلها:-
-العمل لا صلة له بالعلاقات الشخصية، وأنا بارعة في عملي.
ابتسم قصي بسخرية وقال بلهجة مهينة:-
-أنتِ بارعة في الكثير من الأشياء.
لم يزد عن تلك الكلمات واتجه إلى مكتبه بصحبة العلقة تاركًا إياها تأن في وجع من تلك الكلمات لا لفحواها لكن لألمه المستتر خلفها.
برقت عيناها في تصميم أيًا كان المتسبب في أن تكون في هذا الوضع سوف تمزقه أربًا وتجعله يدفع الثمن غاليًا.
***
بعد دقائق نهضت تحمل التقارير التي تحتاج إلى مراجعته وتوقيعه، وبأقصى ما تمتلكه من مهارة مهنية دخلت المكتب.

حاولت أن تسيطر على ملامحها التي تحمل من الغيرة والبغض الكثير وهي ترى العلقة تقوم بدورها الطبيعي في الإلتصاق بزوجها العزيز، والذي لم يبدو عليه أي ضيق من ذلك القرب أوهكذا ظنت.
-الملفات التي تحتاج إلى المراجعة والتوقيع يا قصي.
انساب اسمه بعفوية بالغة من بين شفتيها لكن كان تأثيره عنيفًا فقد انتفض من مكانه وقال بحزم:-
-من سمح لكِ أن تنطقي اسمي؟
كان السؤال مثيرًا للسخرية في أجواءٍ أخرى لكنه لم يبالي وأضاف:-
-فلتلتزمي بالحدود بيننا.
أومأت في هدوء مصطنع برغم رغبتها البالغة في أن تلعن تلك الحدود وتجذب ربطة عنقه تقبل وجهه الوسيم لكنها اكتفت بأن غادرت بدون أن تنسى أن تلقي نظرة إحتقار على العلقة.
لم تكد تجلس خلف مكتبها حتى رن الجرس يستدعيها فنهضت سريعًا، واتجهت إلى المكتب.
كان قصي غاضبًا منفعلا وصرخ باهتياج شديد:-
-ما تلك التراهات، وهذا الإهمال!
رددت بعدم فهم:-
-إهمال؟!
حرك يده التي تحمل التقارير التي سلمتها له سابقًا هاتفًا:-
-سوف تُعاد تلك التقارير مجددًا.
بدلا من الكلمات خرجت شهقة من فمها عندما اصطدم الورق بوجهها بعدما دفعه في انفعال بالغ.. تساقطت الأوراق أرضًا بينما هي فقد سيطر عليها غضبٌ لم يسبق أن أصابها من قبل.
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت:-
-هل في تلك الثوان تفحصت تلك الأوراق كلها لتحكم أنه يجب أن يُعاد؟!
تدخلت العلقة بصوت لزج، مثلها:-
-لا يجب أن تتحدث المساعدة مع رئيسها بتلك الطريقة.
تنفست دارين بعمق تمنع نفسها من الهجوم عليها، وثبتت أمامه تبادله نظراته لكنه قال بهدوء:-
-إذا كنتِ معترضة، غادري، لا أحد يمنعكِ.
أردف بابتسامة غرضها أن يؤلمها منتهزًا فرصة وجودها ليحصل على انتقامه فقد جائت بقدمها إليه:-
-لا أحد يريدكِ على أي حال.
تحقق غرضه لكنها حاولت أن تتظاهر بعدم التأثر وانحنت في هدوء تلتقط الأوراق قائلة:-
-سوف اراجعها، وأسلمها مجددًا.
لم يرد ولم تنتظر خلاف ذلك..غادرت المكتب تطفر الدموع من عينيها لكنها كانت تعذره فهذا أقل ما يمكن لرجل أن يفعله في موضعه لكنها لا تستطيع أن تتوقف عن الشعور بالألم المضاعف: ألم من ذلك القرب والذي جعلها تشعر ببعد لم يسبق أن شهدته، وألم لانكسار قلبه الثمين.
الصبر، فقط الصبر، وسوف يكون كل شيء على خير ما يرام..



الفصل الثالث

صباح معتاد يرتفع فيه صياح قصي في انفعال شديد وغضب بينما تغادر دارين الغرفة صافعه الباب خلفها، فقد مر أسبوعان على تلك الانفعالات والكراهية التي يصبها فوق رأسها صبًا.
زفرت بينما تلقي بنفسها على المقعد ثم ألتقطت هاتفها، وما أن رد الطرف الآخر حتى عاجلته في انفعال:-
-أخي، متى سوف ينتهي هذا؟
تنهدت ثم قالت:-
-حسنًا.. حسنًا.
أنهت المكالمة وتابعت عملها حتى لا يصب غضبه عليها مجددًا فهي لا تضمن تحكمها في نفسها وألا تواجهه.
لم تشعر بالوقت إلا عندما هاجمها هذا الألم المفاجئ في معدتها، اعتدلت وتقطب جبينها في ألمٍ واضحٍ.. نهضت إلى الحمام، وبعد دقائق خرجت..
لا يمكن لليوم أن يكون أفضل!
جلست على مقعدها ببطء، وتثاقلت أنفاسها في ألم مع كل حركة تفعلها، أخرجت من حقيبتها حبة دواء لكن قبل أن تحصل على فرصة بلعها رن الجرس لتكتم شتيمة كادت أن تفلت من بين شفتيها لو سمعتها أمها لماتت في وقتها على تربيتها التي ضاعت هباءًا. ابتلعت الحبة سريعًا، وتنفست بعمق تحاول أن تخفف من ألمها بدون جدوى.

وقفت أمامه تسمع محاضرة أخرى اليوم عن إهمالها، ورغبته في أن تستقيل.. إلخ
في لحظة ما فقدت الشعور بالواقع كان الألم صعبًا يفوق تحملها ترنحت على أثره.. كان مستمرًا في محاضرته حتى رآها تترنح أمامه وبتلقائية ترك مقعده مندفعًا تجاهها يلتقطها.
هتف بلهفة وقلق:-
-هل أنتِ بخير؟
حاولت دارين أن تستجمع شتاتها وقالت بألم:-
-أنا بخير.
ساعدها على الجلوس، وألتقط سماعة الهاتف يطلب مشروبًا دافئًا من الكافتيريا..
قال بنبرة آمرة:-
-اشربي ثم خذي باقي اليوم أجازة.
كادت أن تعترض لكنه منعها قائلا بنبرة أكثر لينًا:-
-لا تعاندي فأنتِ تعرفين أن تلك الفترة من كل شهر تكون صعبة عليكِ.
صمتت ونظرت إليه في اشتياق فقد إعتادت تدليله لها في ذلك اليوم من بعد زواجهما..حضنه الدافئ ولمساته الحانية فوق خصلات شعرها حتى تنام.
انتزعها من الغرق في موجات الحنين والذكريات صوت الباب..
بدأت تشرب ببطء شديد تريد أن تستمع بجواره الهادىء هذا إلى أقصى حدٍ ممكن، تؤمن إنه كذلك أيضًا فقد بدى أكثر هدوئًا بينما يبادلها النظرات، وكأن الزمن توقف وأي شيء غير تلك اللحظة لم يعد له وجود بل حتى الغد قد انمحى واندثر.. إنه الآن وفقط.
***
لم تعتقد أبدًا إن ذلك الحنان جزءٌ منه عندما رأته أول مرة بل كل ما فكرت به حينئذ إنه ابن أبيه المدلل والذي تولى المسئولية بعد وفاته، وكانت تتعامل على هذا المبدأ برغم إنها أحبت العمل مع والده لكنها لم تعجب بالابن الذي ترك مسئولية العمل على عاتق والده فآمنت إنه مدللٌ.
ابتسمت لذكرى إحدى مواجهاتهما..
قد حدث خطأ في الأوراق وتبدلت، وعاتبها على ذلك لكنها أصرت على موقفها وإنها لم تفعل ذلك.
الموقف مازال في ذاكرتها حيًا حتى إنها تراه أمامها..
قال قصي باستهجان:-
-هل هناك مساعدة لي غيرك هنا؟
حدقته بنظرات غاضبة وقالت بتصميم:-
-أنا لم أبدل الملفات.
زفر في ملل من ذلك الجدال العقيم وأشار بكفه قائلا:-
-حسنًا، يكفي هذا.. أعيدي ترتيبهم.
ألتقطت الملفات بينما تتمتم بغيظ:-
-هذا ما يحدث عندما يتولى ابن أبيه العمل.
لم تلاحظ أن صوتها كان واضحًا أو الفضل لسمعه الحاد فتجمدت مكانها عندما هتف قصي:-
-ما الذي نطقتي به الآن؟
بللت شفتيها وشحب وجهها فبرغم كل شيء كانت بحاجة إلى هذه الوظيفة، وإن تركتها فلن تفعل قبل، على الأقل، حصولها على راتب الشهر كاملا لسداد إيجار المنزل.
نطقت بتردد:-
-لم أقل شيئًا.
كان غاضبًا، وقد أدركت ذلك من ملامحه التي أظلمت وقسوة عينيه..
نطق من بين أسنانه:-
-أنتِ لا تعرفين أي شيء عني، فمن الأفضل ألا تتحدثي فيما لا تعرفينه.
أضاف ببرود:-
-إطلاق الأحكام عادة سيئة.
أومأت في خزي فقد كان محقًا فهي لم تكن يومًا تحكم على الآخرين بتلك الطريقة لكن هناك شيء حوله يجعلها تغضب كثيرًا في كل مرة تراه.
استطرد قصي:-
-أما بالنسبة لما قلتيه فلدي شركتي الخاصة في لندن حيث كنت أدرس.
أضاف بسخرية:-
-يمكنكِ أن تسألي بشأن هذا.
تلعثمت:-
-أنا...
قاطعها:-
-أعيدي ترتيب الملفات سريعًا.
لم تجد مفرًا من المغادرة لكنها شعرت بالخجل من نفسها لمثل هذا التصرف، وصدقها دفعها إلى أن تطرق باب مكتبه مجددًا بعد دقائق لتعتذر.
ما أن دخلت حتى نظر إليها ببرود جعلها تدرك أنه مازال غاضبًا وليس معنى هذا إنه في الأوقات العادية يتأملها بنظرات وَلَهَ لكن أي شيء أفضل من ذلك البرود الثليجي.
اخفضت عيناها وتمتمت بخجل:-
-أنا أعتذر عما قلته، لم يكن من حقي قول هذا.
امتد صمته فرفعت عيناها لتصيبها صدمة، لكنها صدمة حلوة هذه المرة، من تلك النظرة في عينيه.. ذلك البريق الدافئ.
لم تلاحظ ابتسامتها البلهاء التي اعتلت شفتيها بينما تبحر ذاكرتها في أحداث الماضي إلا عندما نظر إليها إياس في تساؤل ساخر؛ فهي على تلك الحالة من الشرود منذ أن عادت مبكرًا من العمل إلى شقته، لتهز رأسها وتابعت ارتشاف مشروبها ثم قالت بصوت ناعم حزين:-
-لقد اشتقت إليه وكأنها أعوام لا أيام.
لم يكن يفهم تلك المشاعر أو لم تكن لها وجود في عالمه لكن أغضبه أن تتألم أخته بتلك الطريقة، وسوف يجد من تسبب لها في ذلك ويعيد سعادتها إليها مجددًا.
***
تغير شيء في علاقتهما بعد رؤيتها لتلك النظرة لتجد نفسها أكثر إرتباكًا في حضرته، وقد كرهت ذلك كثيرًا فحاولت أن تتمسك بقناع من البرود لكنها لم تعمل حسابًا أن يواجهها بمشاعره بذلك الوضوح والصراحة.
دخلت الغرفة بدون تعابير واضحة على وجهها، وضعت الأوراق فوق مكتبه في صمت ثم غادرت كما اعتادت في الأيام الماضية لكن تلك المرة لم يتركها تغادرفاوقفها قائلا:-
-انتظري، أريد أن أتحدث معكِ.
ألتفتت بدون أن تبدي أي تعابير..
أردف:-
-اجلسي.
أضاف بسخرية:-
-أنا لا أعض.
لم تستسيغ سخريته وجلست لكن ارتبكت عندما ترك مكانه خلف مكتبه ليجلس في المقعد المواجه لها بدون أن يبعد عيناه عن وجهها مما ضاعف من ارتباكها.
سأل:-
-ألن تتحدثي؟
أجابت دارين بتلعثم:-
-أتحدث عن ماذا؟!
انحنى بجذعه ليتأمل وجهها قائلا:-
-لماذا تتصرفين ببرود معي في الآونة الأخيرة؟
ارتبكت من ذلك القرب الغير مرغوب فيه، ونهضت سريعا قائلة بارتباك:-
-هذا هو أسلوبي..
أضافت بينما تتجه إلى الباب:-
-لدي عمل الآن.
أدركت أن طول قامته لم يكن للمظهر فقط، فقد أصبح بجوارها في خطوتين يمنع بكفه الباب من أن يُفتح.
أجفلت في إرتباك، وتراجعت إلى الخلف بينما وقف هو موليًا ظهره إلى الباب يسد عليها أي ثغرة للهرب منه.
شعرت بأنها محاصرة أمام نظراته فاتخذت من الهجوم وسيلة للدفاع فعقدت ساعديها أمام صدرها قائلة:-
-لدي عمل الآن، وإلا سوف تتأخر مواعيدك.
ابتسم قائلا:-
-أنا لا أمانع التأخير يا عزيزتي...
أجفلت عيناها في إرتباك بسبب لفظ التودد، وضاقت من نظراته التي تحاول أن تسبر أغوارها منتظرًا أن يسمع إجابة محددة.
هتفت في ضيق:-
-ما الذي تريده مني الآن؟
وقف شامخًا بجسده واقترب منها قائلا:-
-الزواج مثلا؟
جحظت عيناها في ذهول لتتسع ابتسامته مستمتعًا برد فعلها ثم أردف:-
-اجلسي يا عزيزتي، لنتحدث.
شعرت بالخوف فهو يطلب أن يستولي على حياتها، وهي من عاشت وحيدة فترة من الوقت فقالت في ذعر:-
-أنا أرغب في الخروج من هنا.
لم يحاول أن يمنعها وقبل أن تخطو خارج الغرفة قالت:-
-أنا لا أحب تلك الألعاب، لذلك توقف.
لم يرد وتركها تعود إلى مكتبها بأرجل مرتجفة..
ابتسمت بمرح بينما تتذكر شعورها في ذلك الوقت، فقد كرهته أكثر للتأثير الذي يتركه عليها، واعتقدت بعدها أنه سوف يترك الأمر لكنها كانت بلهاء ففي الأيام التالية كان يشدد الحصار عليها بباقات من الزهور كل صباحٍ فوق مكتبها، وكلمات تودد يلقيها بين الحين والآخر ونظراته التي تلاحقها فضاقت ذرعًا من كل هذا، واندفعت بباقة الزهور التي حصلت عليها هذا اليوم تلقيها فوق مكتبه هاتفه في هياجٍ شديدٍ:-
-لقد اكتفيت من كل تلك الدراما التي تفعلها.
قال بهدوء:-
-أنتِ من تفتعلين الدراما الآن يا عزيزتي.
-توقف عن مناداتي هكذا، أنا لست عزيزتك.
أضافت بهياجٍ شديدٍ:-
-أنا لست أي شيء لك.
ابتسم قائلا:-
-لكنكِ هكذا فعلا.
كانت غاضبة للغاية حتى أن الدموع بدأت تطفر من عينيها غضبًا وألمًا، قالت:-
-أنا لن أكون أي شيء لك، هل من الصعب أن تدعني وشأني؟! أنا لست للعب، ولن أتحمل مثل تلك الألعاب لأنك تشعر بالملل ولم تجد غيري أمامك لتعبث معها.
ترك مكانه يتأمل دموعها التي طعنته في قلبه وقال بجدية بالغة:-
-أنا لا أعبث، أريدكِ حقًا زوجة لي.
كلماته التالية جعلت الهواء ينسحب من رئتيها فقد أردف بنبرة عادية وكأنه يخبرها عن حال الطقس:-
-أنا أحبك..
كانت فاغرة الفاه متجمدة في مكانها مما جعله يبتسم بلطف قائلا:-
-أنا حقًا أحبك، لقد عملنا معًا لمدة عام تخللته المشاحنات، وذلك كافي لأن أعرفك وأكثر من كافي لأقع في حبك.
بللت شفتيها وتلعثمت:-
-أنا..أنا...
قاطعها:-
-أعرف إنكِ ربما لا تبادليني مشاعري.
تابع بمكر:-
-لكني واثق إنكِ على الأقل لا تجديني منفرًا.
كان واثقًا من جاذبيته، وكانت لتكون كاذبة إذا أنكرت ذلك؛ فالرجل يكفي أن يمر بجوارها خاصة مع لطفه الذي أصبح يوجهه إليها مؤخرًا لتتسارع دقات قلبها في رقصة دبكة شعبية.
-سوف تحبيني غدًا أو بعد فترة، أنا لا أهتم بالمدة.. سوف انتظر لكن أريد كلمة تربطكِ بي.
ظلت صامته لا تملك جوابًا، وقد تملكتها الصدمة.
قال قصي بتفهم:-
-أعرف أن عائلتك قد توفيت لكني أرغب في أن أكون عائلتك، ومعًا نكون عائلة خاصة بنا، ومع أطفالنا.
*****!
هذا الرجل لا يسير بل يركض تجاهها فقد اعتبر موافقتها موجودة، ويستعد للحصول على *****، وبعد قليل سوف يبدأ في تسميتهم أيضًا.
كانت خائفة قلقة أن تمنح الإذن لشخص أن يكون له سلطة على حياتها بعد أن اعتادت أن تبقى وحيدة، كان الأمر مخيفًا للغاية، وكان يدرك ذلك فقال بثقة:-
-لن تندمي يا دارين إذا وافقتي.
تنهدت بحنان بينما الذكريات الحلوة تمر أمام عينيها، لقد كان محقًا فلم تندم أبدًا، فبعد أن أخذت أجازة أسبوع تفكر في الأمر حتى عادت ليستقلبها بلهفة جعلت رفضه مستحيلا، وما تلى ذلك كان خيالا.. التعرف على أمه التي استطاعت أن تشم رفضها عن بعد لكنه لم يبالي وأصبح يحتضنها كالدجاجة التي تعتني بصغارها.
لقد أيقنت حبها له في شهر العسل، ولم يكن السبب هواء باريس التي جعلها تقضي فيها أجمل أيام حياتها، لكنها فقط نظرت إليه وأدركت وقتها أنه لم يكن الشعور بالأمان الذي دفعها للزواج منه.. لقد كان الحب.
ضمت نفسها تتذكر تلك الليلة عندما اعترفت بحبها له، لقد قالتها ببساطة بينما يجلسون في غرفة الفندق يشاهدون فيلمًا.. فقط نظرت إليه وقالتها ليتأملها ببلاهة جعلتها تبتسم ثم غمرها حبًا، ومنذ ذلك اليوم لم تكن حياتها إلا حلمًا رائعًا معه.
تأملت خاتم زواجها في شوقٍ تتمنى العودة مجددًا إلى حلمها الجميل.

هلا بالعوده





الفصل الرابع

-لقد وجدناه.
ما أن نطق عزام بتلك الكلمات حتى اعتدل إياس واقفًا وأشار له أن يتابع:-
-المكان الذي أخبرنا به رمزي السائق هو مقر لثلاثة عصابات في تلك المنطقة، لقد بحثنا حتى وصلنا للعصابة المنشودة، أحد أفرادها به العلامة التي ذكرتها السيدة.
اتسعت ابتسامته متمتمًا:-
-جيد جدًا.
سأل:-
-أين هو الآن؟
-في المخزن.
نزع معطفه في استرخاء ووضعه فوق المقعد ثم شمر عن ساعديه متجهًا إلى المخزن.. كان الرجل والتي بدت على ملامحه آثار الضرب المبرح ينتفض في خوفٍ وزاد فزعه عندما رأى إياس يقف أمامه شامخًا بجسده.
ابتسم إياس مزهوًا، وقال:-
-يبدو أنه ليس هناك حاجه للتعارف.
بلل شفتيه في خوف بينما يراقب كل حركة يأتي بها إياس في توتر فلم يكن يغيب عن أحد هويته، فهو من أخطر الرجال في عالمهم المظلم بل هو الرئيس يفعل كل شيء إلا المخدرات وتجارة البشر لكنه لن يتردد أيضًا أن يمثل بجسده إذا لم يجيبه عما يريد.
بلل شفتيه ثم همس بتساؤل:-
-لماذا أنا هنا يا ريس؟
ابتسم إياس ببرود وقال:-
-سيلين الرازي، هل تعرفها؟
عقد حاجبيه ثم سرعان ما سره سهولة السؤال، وقال:-
-إنهاعميلة جديدة لدينا.
أردف:-
-لقد دفعت أموالا طائلة مؤخرًا فقط لتهديد امرأه لتبتعد عن زوجها.
أضاف بسرور:-
-عمل سهل، ومال كثير.
كانت نظرات إياس تشتد قسوة بينما يتابع الرجل الكلام، وما أن انتهى حتى قال:-
-إذًا، قد فعلت هذا؟!
أومأ الرجل بينما يراقب بحذر تعبيرات وجهه ثم تسائل:-
-هل الأمر يخصك يا رَيس؟
مد إياس كفه خلف ظهره ونزع سلاحه يتظاهر بتفحصه وتنظيفه قائلا بعدم مبالاه:-
-المرأه التي فرقتها عن زوجها تهمني.
رفع عينيه إليه بينما يستطرد:-
-ولك أن تتخيل ما الذي يجب أن أفعله بشخص أحزن من يهمني.
ارتجف جسده في خوف، وسرعان ما أطلق صرخة ألم عندما انطلقت رصاصة من سلاح إياس لتصيب ساقه.
-الآن، هل أنت مستعد لبيع عميلتك؟
برغم الألم الذي يمنعه من التفكير السليم إلا أنه تردد فهذا سوف يضر بأعماله ويبعد العملاء عنه لكن ما أن صوب إياس المسدس تجاهه مجددًا حتى أومأ سريعًا قائلا:-
-سوف أفعلها.
ابتسم ببرود:-
-رائع.
أردف:-
-الأهم الآن، كيف سوف تفعل هذا؟!
عض على شفتيه في ألم وتصبب عرقًا بينما يتلعثم:-
-لقد سجلت كل شيء خوفًا من حدوث أمرٍ خاطئ.
لم يكن ليكون أكثر سعادة فاتسعت ابتسامته، وأشار إلى عزام قائلا:-
-تابع الأمر، واحرص على أن ينتهي اليوم.
أومأ عزام في طاعة ليترك إياس الأمر له؛ فقد كان عزام ذراعه الأيمن منذ زمن، قليل الكلام..كثير العمل.. مطيع، وهذا هو المطلوب في عملهم.
وضع سلاحه مكانه في الحزام حول خصره، وألتقط هاتفه يخبر دارين بالخبر الجيد متأكدًا أنها قد ترغب في أن تشهد القبض على سيلين فالتهديد بالقتل لا يمر بسهولة هذه الأيام.
***
صرخت سيلين في هلع:-
-أبي، هل سوف تتركهم يأخذونني؟
أردفت في انهيار:-
-أنا لم أفعل أي شيء.
توقف الزمن فجأة أو هكذا خيل لها حتى أن دقات الكعب العال الرتيبة كانت مسموعة لها وكأنها ضوضاء عالية، اشتعلت عيناها في غضب وامتقع وجهها عندما ظهرت أمامها عند باب الغرفة في بدلة حمراء وكأنها وشاح تلوح به أمامها فتثير غضبها أكثر.

انتفضت تهجم عليها وتلك العينين الباسمتين الساخرتين تشعلان نيرانها، وتحفزانها لارتكاب أبشع الجرائم ، صرخت في جنون:-
-لماذا لا تنتهين؟ أنتِ لا تستحقينه إنه لي، ملكي... أنتِ أيتها الحقيرة لا تستحقينه، لم تستحقينه أبدًا.
لم تنتبه لنداء والدها المكتوم باسمها، وتابعت تصرخ:-
-إنه لي ملكي، أنا من استحق الحصول عليه لا أنتِ.
كتفها الضابطان جيدًا أمام انهيارها ومحاولاتها للتملص منهما، وراقبا السيدة تبتعد عن الطريق بخطوات بطيئة ونظراتها لا تحيد عن سيلين، وما أن أصبحوا بجوارها حتى قالت دارين بهدوء يناقض التحذير في عينيها:-
-لقد كان دائمًا لي، هذا القلب لم تلمسه أمرأة غيري، ولن تفعل أبدًا.. فكري في ذلك جيدًا في الطريق، اجعلي تلك الكلمات تثير جنونكِ، فلتفقدي عقلك بينما تتخيلين حياتنا معًا..
أضافت تصطنع الخجل:-
-وربما مع طفلين أيضًا.
صرخت سيلين بجنون وحاولت الهجوم عليها لكن الضابطان احكما مسكها بينما ينظران إلى دارين في لوم لكنها لم تبالِ، وظلت محتفظه بابتسامتها بينما تراقبها تغادر معهما مجرورة ذليله كما خرجت هي من منزل زوجها.

ما أن اختفت من أمامها يلحقها والدها الملكوم في ابنته حتى اختفت ابتسامتها، وقد أدركت أن أمامها مهمة أصعب لكن سارة في نفس الوقت لذلك غادرت المكان واتجهت إلى شركته.
***
لم يبد عليه أي تأثر حتى إنها شكت في أنه سمعها حتى قال بسخرية:-
-إذًا لقد فعلتي كل هذا من أجلي، وبسبب تهديد؟
وقفت تواجهه وقالت بكبرياء وصدق:-
-لا، لم يكن لأجلك.
راقبت الحيرة في عينيه قبل أن تختفي خلف جدار البرود الذي يدعيه فأضافت بصدق:-
-لقد كان من أجلي.
تابعت:-
-لقد أردت حمايتك ولم تكن لتتركني بدون أن أتسبب في ألمك، وما كان بوسعي تركك لحماية حياتك إلا إذا تركتني أولا.. خفت أن أضعف فوجعتك حتى لا ترغب في وجودي فبذلك استطيع الأبتعاد عنك.
كانت قبضتها مشدودة تحت تأثير اسئلته البارده وقد لاحظ ذلك لكن لم يبالي فهو لن يُخدع مجددًا، هو ليس بأحمق.

قال ببرود:-
-أنتِ كاذبة.
ضمت قبضتها هذه المرة غضبًا، وتطاير الشرر من عينيها، رددت:-
-كاذبة؟!
أومأ بابتسامة ساخرة، إنها تحاول خداعه حتى النهاية لكنه لم يعد الغر الذي يقع تحت تأثير حيلها.
قالت بغضب:-
-لا أهتم برأيك.
بظاهر كفها كفكفت دموعها التي انهمرت في غفلة منها، وأضافت في اندفاع:-
-لم أقل غير الحقيقة، تصديقك أو عدمه لن يغير من الحقيقة شيئًا.
اتجهت إلى باب الغرفة لكن قبل أن تحرك المقبض، نظرت إليه وقالت بنبرة عادية تلقائية:-
-أنا أحبك، لقد أحببتك دائمًا وسأظل أحبك مهما حدث لن يتغير شيء.. في الغد أو بعد عام أو بعد عقد..مشاعري ثابتة وصادقة.
غادرت الغرفة تاركه إياه تتسارع أنفاسه ويضم قبضته في عنف، لن يُخدع مجددًا.. لن تخدعه ألاعيبها، ولن يقع تحت تأثير سحرها.. إنها تحاول أن تخدعه لكنه لن يفعل..
إنها تلاعبه بورقة الحب!
هز رأسه في رفض، مستحيل إنها أحبته فمن مثلها لا يعرفون الحب، إنها كاذبة.

أخرج محفظته وتلك الصورة التي لم تفارق مكانها منذ زواجهما، وتأمل وجهها المخادع وعيناها الكاذبتان.. بالطبع لم تحبه أبدًا بل ربما افتقدت عيشة الثراء الذي عاصرتها معه.
ألقى الصورة أرضًا في غضب، المخادعة، واتجه ليغادر لكنه توقف قليلا ثم عاد وألتقطها برفق وأعادها إلى مكانها في محفظته مرددًا بصوت خافت:-
-إنها مخادعة كاذبة، ولن أقع في شركها مجددًا.
***
عاد إلى المنزل بعد أن تجول بالسيارة لفترة طويلة منذ الصباح، ولم يذهب إلى العمل؛ فالأفكار لم تتركه أبدًا منذ البارحة.

لن يسمح لها أن تخدعه مجددًا فلقد استسلم بالفعل لحقيقة أن رجل مثله قد خُدع في الحب مجددًا، وها هي أكدت ظنونه بعدم قدومها إلى العمل اليوم كما عرف بالإتصال بأحد موظفيه ليتولى العمل مكانه، لابد من أنها أدركت البارحة من رد فعله عدم جدوى الاستمرار في خداعه.
أوقف سيارته أمام المنزل وكل ما يرغب به هو الذهاب الى غرفته، والبقاء وحيدًا لكن كل هذا تبدد فما أن دخل حتى اسرعت أمه إليه تهمس:-
-أحمد الرازي هنا، ويرغب في رؤيتك.
رفع حاجبه تعجبًا لتلك الزيارة الغير متوقعة، أردفت سوسن:-
-لا يبدو بحالة جيدة.
لم تكن والدته تكذب، فقد كان بحالة أكثر من سيئة، وكأن العمر تقدم به منذ آخر مرة رآه البارحة صباحًا أثناء مغادرته المكتب، كان شاحبًا بينما انحنى منكبيه في ضعفٍ، قال:-
-هل يمكن أن نتحدث في مكتبك؟
أومأ قصي والحيرة في نظراته.. في غرفة المكتب تبدد ثبات أحمد الرازي، وذعر قصي عندما بدأت دموعه تنهمر برغم محاولاته للتماسك، وقال:-
-لقد جئت لأعتذر إليك على ما ارتكبته ابنتي في حقك.
لم تختفي الحيرة من نظراته، وردد:-
-ابنتك؟!
استطرد بدون أن يلاحظ أن قصي ليس لديه أدنى فكرة عما يتحدث عنه:-
-لقد دللتها كثيرًا بعد وفاة والدتها، ولم أتوقع أبدًا أن ترتكب مثل تلك الفعله.
رفع أعين دامعة مليئه بالخزي قائلا:-
-لقد استغللت علاقاتي وأموالي لأخرجها، وسوف أحرص على أن تبقى بعيدة عنكما، وسوف أعاقبها.
أضاف:-
-لن أطلب أبدًا أن تسامحها بل سوف أرضى بعقابها في السفر إلى أمها دائمًا، وعقابي معها سيكون بفراقها.
انعقد حاجباه وقال في حيرة حقيقية:-
-أنا حقًا لا أعرف عما تتكلم.
جاء دور أحمد الرازي ليتعجب، وسأل:-
-ألم تخبرك زوجتك؟!
-زوجتي؟!
تضاعف خزيه، وقد طفق يقص ما حدث، وما ارتكبته ابنته في حق الزوجين، وبعدما انتهى لم يستطع أن يواجه قصي، اكتفى بأن أشاح بوجهه وتمتم في ضعفٍ:-
-أنا آسف حقًا.
غادر المكتب، ولم يجد أي كلمات أخرى يستطيع أن يعبر بها عن مدى أسفه..
ضوضاء عالية، هذا ما يمكن أن يصف به أفكاره، لم يستوعب ما سمعه وبتلقائية ألتقط هاتفه يتصل بها، يريد أن يعرف هل أخبرته الحقيقة حقًا؟! وهي لم تخونه، أكانت صادقة في قولها بأنها فعلتها من أجله لأنه تم تهديدها بقتله؟!
كان انتظار صوتها على الهاتف طويلا للغاية حتى كاد ييأس من ردها، فربما ترفض التحدث معه بعد أن صدها بتلك الطريقة لكن الصوت الذي أجاب لم يكن يخصها بل صوت رجولي يقول ببرود:-
-دارين مشغولة، سوف تتحدث معك لاحقًا.
كاد أن يتكلم لكن سماعه لصوتها يأتي هاتفه بحنق:-
-إياس! لماذا تستخدم هاتفي؟
-لقد قضيتي عمرًا تستحمين، وتلك الطريقة الملائمة لأجعلكِ تخرجين.. فهذا منزلي كما تعرفين.
لم ينتظر لسماع المزيد، وانهى المكالمة.. كانت قبضته تضغط بقوة على الهاتف، والغضب على ملامحه تجاه نفسه الحمقاء وتجاه تلك الخائنة.. ربما ارتكبت سيلين خطأ لكن يبدو أن دارين لم تكن بحاجة إلى أي تشجيع لتخونه مع آخر.
نهض من خلف مكتبه يعض على شفتيه في غيظ، لن يسمح لها أن تخدعه أبدًا، لقد انتهى الأمر، وإذا امتلكت من الوقاحة ما يجعلها تظهر أمامه مجددًا سوف يحرص على أن يجعلها تعرف هذا.
***
في الماضي كانت لتلعن المرأة التي تتخلى عن كبريائها مجددًا لتقف أمام شركة الرجل الذي أوضح أنه لا يرغب في رؤيتها لكنها تغيرت وتؤمن أن معرفته بخبر القبض على سيلين سوف يدفعه إلى تصديقها خاصة إنها لم تخبره عن السبب وراء تهديد القتل خوفًا ألا يصدقها؛ فأحمد الرازي شريكه منذ وقتٍ طويلٍ وكان صديقًا لوالده من قبل فأرادت أن يعرف الحقيقة منه أولا، وبعدما أخبرها إياس أن رجله أبلغه بزيارة أحمد الرازي لقصي أمس حتى استعدت لتذهب إليه واثقة أنه سوف يصدقها، ومن ثم سوف تعود معه إلى المنزل وإلى أحضانه.
بتلك الحماسة دخلت الشركة واتجهت مباشرة إلى مكتبه، نظرت بعدم رضا إلى مكتبها المليء بالملفات وسرعان ما تجاهلت الأمر واقتحمت المكتب ترغب في مفاجأته، فهي تدرك أنه لابد بعد معرفته بالحقيقة مازال يفكر في طريقة مناسبة لإرجاعها.
كم هي زوجة رائعة، وقد أزالت ذلك الحمل من عليه، وعادت إلى أحضانه سريعًا!
في السابق كانت لتبغض مثل هذا التصرف لكنه غير كثيرًا من الأشياء في حياتها بكونه شخص يستحق الثقة، يقف بجوارها ويساندها.
اتسعت ابتسامتها عندما رأت الدهشة على ملامحه لرؤيته لكن سرعان ما تحولت الابتسامة إلى إحباط ومن ثم إرتباك عندما لم تجد الاغتباط الذي توقعته منه بل كان أقرب للإحتقار.
ربما يُخيل لها أو إنها تخادع نفسها بكل إدراك لكنها استمرت قائلة:-
-لقد عدت..
ابتسم بدون أي مشاعر قائلا:-
-أجل، لقد فعلتي.
أضاف:-
-كنت سوف أهاتفكِ.
هتفت بلهفة:-
-حقًا؟
استطردت بمرح:-
-لقد كنت أعرف هذا.
تابعت:-
-فعندما هاتفتني أمس حاولت أن أعاود الإتصال لكنك لم ترد لذلك جئت..
توقفت عن المتابعة وتجمدت في مكانها، آصابها صمم؟!

بادرت بالكلام لكنه قاطعها مرددًا:-
-سوف أطلقكِ.
بللت شفتيها بينما تنظر إليه ببلاهة، وهمست:-
-ما الذي تقوله؟!
استرخى في مقعده قائلا:-
-كما سمعتي، لقد انتهى الأمر.
أردف:-
-ويمكنكِ الآن أن تعيشي حياتكِ، وتتخذي عشيقًا أو أكثر كما...
لم يتابع، وقد تردد في الغرفة صدى لطمتها له..

صر قصي على أسنانه قائلا:-
-من حسن حظكِ إنكِ امرأةٌ.
رمقته في خذلانٍ وقالت:-
-أنا لا أفهم، ما الذي حدث؟ ألم تعرف حقيقة ما حدث بعد؟!

أضافت بحيرة:-
-لقد تم القبض على...
قاطعها بحدة:-
-أنا لا أهتم..
أضاف بعدم مبالاه بينما يتظاهر بالعمل:-
-يمكنكِ المغادرة، فأنا مشغول.
ظلت لحظات تنظر إليه بدون أن تراه حقًا، وقد أصبح العالم في عينيها ضبابيًا، ألتفتت تجر أذيال خيبتها، تطفر الدموع من عينيها.. لقد انتهى الأمر، استخرطت في البكاء بينما تعبر الطريق ثم ظلام تام..


الفصل الخمس والأخير

كانت ترغب كثيرًا في النوم لكن ذلك الألم الذي يضايقها بين الحين والآخر دفعها إلى فتح عينيها ببطء شديد، كانت قمة رأسه أول ما وقعت عيناها عليه، ركزت قليلا وبدأت تشعر بثقل جسدها وبكفها تحت قبضته بينما رأسه يستند على حافة الفراش بجوارها.
ما الذي تفعله هنا؟!
حاولت أن تستجمع أفكارها فآخر ما تتذكره هو خروجها من الشركة...
الشركة!
استعادت كلماته مجددًا لتتحرك سريعًا ترغب في الإبتعاد عنه، وجذبت يدها بعيدًا عن لمسته لكنها لم تحسب حسابًا لذلك الألم الذي أصاب جميع أنحاء جسدها.. أنّت في ألم لينتفض مستيقظًا.
تبدد كل غضبها وسخطها عندما نظرت إلى وجهه، وبدون وعي هتفت:-
-ما الذي حدث لك؟
كان في حالة يُرثى لها، شعره أشعث، ثيابه مجعدة وعليها قطرات من الدماء الجافة أدركت إنها سببها.
شهقت في دهشة عندما جذبها إلى أحضانه، حاولت أن تعترض لكنه لم يسمح لها وبدأ يلثم بفمه كل مكان في وجهها متمتًا:-
-إنكِ بخير.
-يا هذا، امسك نفسك قليلا، فقد استعادت وعيها الآن فقط.
انتفض من مكانه يحاول أن يتماسك لتتأثر من رؤية الدموع السجينة في عينيه، نظرت بعدم فهم إلى أخيها ثم عادت بنظراتها إلى قصي، ما الذي حدث وكيف توصل هذان إلى معرفة بعضهما البعض؟!
قال قصي سريعًا:-
-سوف أحضر الطبيب.
راقبته يغادر، ونظرت إلى إياس الذي ابتسم مربتًا على كفها قائلا:-
-مرحبًا بعودتكِ يا صغيرة.
تمتمت:-
-ما الذي حدث، وكيف عرفك؟
-إجابة السؤال الأول، لقد تعرضتِ إلى حادثٍ، وأحضركِ هو إلى هنا ثم أجاب على هاتفك عندما اتصلت، أما بالنسبة لتعارفنا السلس...
اتسعت ابتسامته مضيفًا:-
-لقد تحدثنا بلطفٍ.
لم يكذب حقًا فاللكمة التي وجهها له تعد مداعبة بالنسبة لأسلوبه المعتاد..تذكر عندما هرع إلى المشفى بعد أن أخبره بالحادث، وكان أول ما فعله أن لكمه ثم اشفق على انهياره خاصة بعدما ردد أنه لا يبالي إن كانت لآخر يكفي أن تعيش.
اشفق عليه كفاية ليخبره الحقيقة مجددًا، ويؤكد أنها لا تعرف غيره، ولن تعرف، فأخته امرأةٌ لرجل واحد.
سألت بصوت ضعيف:-
-هل يعرف إنك أخي؟
أومأ ثم أردف:-
-لقد أخبرته إني سافرت طويلا بسبب مشاكل عائلية، ولم أعود، وإنكِ لم تخبريه عني بسبب غضبكِ مني لاختلافات قديمة بيننا.
أومأت في إرتياح، وبرغم محاولاتها أن تظل مستيقظة إلا أنها نامت، ولم تشعر بقدوم الطبيب وطمأنته لهما أوالقبل التي كان يطبعها قصي على كفها ووجهها بين الحين والآخر، ولم تشهد نظرة الحب التي كان يتأملها بها أو ضحكته الرائعة عندما هتف إياس في إحتقار:-
-فلتذهب لتستحم وتبدل ثيابك فحتى القطة سوف تشمئز من النظر إلى وجهك، وهو بهذا الشكل.
***
كانت تتحاشى رؤيته بعد استيقاظها، ومازالت تشعر بالغضب تجاهه لأنه لم يثق بكلماتها وانتظر أن يخبره إياس ليصدقها.
كان هذا غير عادلٍ خاصة إنها من قادته إلى عدم الثقة بها بتلك المسرحية التي فعلتها لكنها تمنح العذر لنفسها؛ فهي أنقذت حياته.
لقد كانت دائمًا صادقة مع نفسها لكن في تلك اللحظة لم تبالي بكم بدت مدلله بينما تتجنبه، وإذا حدثها تجاهلته واكتفت بالتحدث مع إياس، وفي المساء كانت تتظاهر بكرهها لبقائه معها، وسرًا تتأمل ملامحه أثناء نومه.
بعد أسبوع من التظاهر والإفتعال لم تلاحظ إشارته إلى إياس أن يخرج، كادت أن تتوسل ألا يتركها معه فبرغم كل شيء إنها لا تشعر بالثقة من وجودها وحيدة معه أثناء النهار.
عقدت ساعديها أمام صدرها، وأشاحت بوجهها عنه..
ابتسم على حركتها الطفولية، وجلس على حافة الفراش، وبرغم شعورها به إلا أنها لم تلتفت وانكمشت على نفسها أكثر حتى لا يلامسها.
انتظرت أن يتحدث لكن انطلقت منها شهقة دهشة عندما أمسك كتفها يجبرها أن تواجهه، وبدون أي كلمة أخذ قصاصه من شفتيها، حاولت أن تقاوم لكنها اشتاقت إليه ولم تشعر إلا بيديها تحتضنه في شوقٍ.
ابتعد عنها بعدها لتخفض عينيها في خجلٍ لتتسع ابتسامته ويلامس وجنتيها هامسًا:-
-لقد اشتقت إليكِ كثيرًا.
نظرت إليه وأجابت بتلقائية:-
-وأنا أيضًا اشتقت إليك كثيرًا.
سرعان ما انتبهت إلى اندفاعها فأضافت بضيق ولوم:-
-هل انتظرت حتى يخبرك إياس الحقيقة لتصدقني؟
تنهد ثم ألتقط كفها بين راحتيه وقال:-
-كما احتفظتي بسر وجود أخٍ لكي، أنا أيضًا لم أخبرك شيئًا بخصوص الماضي.
اعتدلت في انتباه فقص:-
-لقد خطبت فتاة قبلكِ، لم أحبها حقًا لكني أردت أن ينجح الأمر بيننا؛ لقد رغبت في تكوين أسرة.
اسودت ملامحه بيما يردف:-
-لقد خانتني، وكانت وقحة كفاية لتقولها أمام عيني.. أني لم أكن كافيًا لها.
شهقت وقد أدركت كم بدى تمثيلها تلك الليلة إعادة تجسيد للماضي، شددت من قبضتها على كفه، وهمست:-
-أنا آسفة حقًا.
أردفت مبرره:-
-لقد اضطررت لفعل هذا.
أومأ في تفهم، وقال مبتسمًا:-
-لا بأس، لقد فهمت كل شيء الآن.
استطرد:-
-أنا أعتذر حقًا من أجل جرحكِ ذلك اليوم لكن..
تردد قليلا ثم قال:-
-عندما أجاب إياس على هاتفكِ أصابتني الظنون وأثارت شجوني.
برقت عيناها في فهمٍ، لهذا تصرف هكذا، لم تعتقد قط إنه قد يشك في أن إياس يعني لها شيئًا.. لقد كانت حماقة منها ألا تفكر في هذا.
هز رأسه قبل أن تتحدث وقال:-
-دعينا ننسى كل شيء الآن.
سألته بقلق بينما تبرق عيناها في ترقب:-
-هل تثق بي الآن؟
لثم كفها وقال مبتسمًا:-
-دائمًا.
لم تملك أن تمنع الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها ثم اندفعت بجزئها العلوي تحتضنه بقوة كادت أن تلقيه أرضًا من فوق الفراش لكنه تماسك واحتضنها في لهفة.
بقيا على تلك الحالة مدة من الوقت فقدا حسابها ثم همست بدون أن تترك أحضانه:-
-لقد اشتقت لهذا كثيرًا.
ابتعدت لتكون في مواجهته وانهمرت دموعها بينما تقول:-
-لقد شعرت بغربة شديدة وأنا بعيدة عنك، أنت هو منزلي بدونك أشعر بالوحدة والضياع.
أحاط وجنتيها بكفيه واقترب بوجهه منها...
انتفض كلاهما عندما ارتفع صوت متبرمًا من خلفهما:-
-اللعنه على هذا، أليس لديكما منزل؟!
ابتعدت عنه في خجل وتوردت وجنتيها تحت تأثير نظرات أخيها المستهجنه بينما قصي فقد ابتسم بمرح وقال بوقاحة:-
-زوجتي..
-زوجتك في المنزل.
ثم أضاف بنفاذ صبر:-
-فلتأخذها إلى منزلكما قبل أن نُطرد من المشفى بسببك.
ضحك وأحاط كتفها في حبٍ لتبتسم بخجل، وترمق إياس في توبيخ ابتسم على أثره في سخرية.
***
-هل أنت مستعدة للمغادرة؟
تنفست في إرتياح وقالت:-
-أخيرًا، البقاء هنا أرهق أعصابي.
قال إياس مبتسمًا:-
-يجب أن أغادر، هل سوف تكونين بخير؟
نظرت إليه بأسف لمغادرته قائلة بإمتنان:-
-شكرًا من أجل كل شيء.
ربت على كتفها، وقال مبتسمًا:-
-مازلتِ أختي حتى إذا اختلفنا.
أومأت ثم احتضنته بقوة لتتأثر ملامحه ويضمها برفق ثم ابتعد مبتسمًا ولامس وجنتها بأنامله وقال:-
-كوني بخير يا صغيرة.
أومأت ولم تستطع منع الدموع في عينيها بينما تراقبه يغادر، لا تعرف موعد لقائها به مجددًا.
دخل قصي ليتسائل في قلق بعدما رأى دموعها:-
-ما الذي حدث؟
هزت رأسها ثم قالت بحزن:-
-لقد غادر إياس.
تسائل بحيرة:-
-إلى أين؟
أجابت بشرود:-
-لديه عمل.
أومأ في تفهم وضمها إليه في مواساة قائلا:-
-لا تحزني سوف يزورنا كثيرًا في منزلنا.
ثم تسائل:-
-ما عمل إياس؟
ماذا سيكون رد فعله إذا أخبرته أن إياس العزيز تاجر سلاح؟! بدى الأمر ساخرًا وربما مضحكًا في موقفٍ آخر لكنها بللت شفتيها وقالت كاذبة:-
-إنه يمتلك أعمالا خاصة.
حسنًا، لن تخبره اليوم.. ربما في وقتٍ ما، بعدما يتوقف إياس وينصت إليها ويطيعها مبتعدًا عن هذا الطريق حينها سوف تخبره، وعسى أن يكون ذلك قريبًا.
لم يهتم قصي بالأمر كثيرًا، وأبعدها يتأمل وجهها ثم قال مبتسمًا:-
-مستعدة للعودة إلى منزلنا؟
أومات بسعادة وقد شعرت أن بإمكانها التنفس براحة أخيرًا، لم تفكر في أي شيء إلا وجودها معه لكن ما أن لاح المنزل أمام عينيها وتوقفت السيارة أمام الباب حتى تذكرت كابوسها: "سوسن هانم"، والتي لابد إنها سوف تقيم الأرض ولا تقعدها على عودتها.
فغرت فاهها في ذهول عندما وجدتها تقترب بابتسامة مصطنعة فوق ثغرها قائلة:-
-الحمد لله على سلامتك يا دارين.
وكزها قصي وقد طال صمتها فأسرعت تجيب:-
-شكرًا يا خالة.
كانت تلك حركة خبيثة منها فهي تعرف كيف تكره أن تناديها خالة لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها عن مشاكستها، لاحظت محاولات قصي أن يمنع ضحكته بإخفائها خلف سعال ثم قال:-
-هل كل شيء جاهز؟
مطت سوسن شفتيها، وأومأت بينما تقول بضيقٍ واضحٍ:-
-لم يكن هذا ضروريًا يا قصي.
قبل جبينها قائلا:-
-إنه للأفضل.
نظرت دارين إليه في تساؤل ليتجاهل ذلك، ويجرها معه إلى الدور العلوي حيث جناحهما، وما أن أصبحت أمام الباب حتى فكرت في تلك الليلة.. الخوف والضياع الذي شعرت بهما، لاحظت شرود قصي أيضًا فابتسمت تشدد من قبضتها على كفه ليبادلها الابتسام ثم فتح الباب وأشار لها أن تدخل.
شهقت وقد تغيرت الغرفة تمامًا من أثاث وديكور، نظرت إليه في تساؤل ليقول:-
-التغيير جيد خاصة أننا لن نستخدمها كثيرًا.
أخرج مفتاح ووضعه في كفها ثم جذبها تجاه الشرفة، وأشار إلى البيت المقابل:-
-ما رأيك في منزلكِ؟
اتسعت حدقتيها وألتفتت إليه في عدم تصديق تردد:-
-منزلي!
أومأ قائلا:-
-لقد كنت أخطط لهذا منذ وقت، لن استطيع ترك أمي وحيدة، وفي نفس الوقت من حقكِ أن يكون لكِ منزل خاص.. مملكتك الخاصة.
اغرورقت عيناها بالدموع ثم أحاطت خصره بذراعها، واستكان رأسها فوق صدره، ولم تجد كلمات تعبر عن إمتنانها وسعادتها.
أغمضت عيناها، وتنفست بعمق تستنشق رائحته، وقد قتلها الشوق إليه..
فتحت عيناها عندما همس بمكر:-
-هناك غرف نحتاج إلى تجربتها في منزلنا الجديد.
ابتسمت وتظاهرت بالتفكير بينما تنظر الى المنزل الضخم قائلة:-
-هناك الكثير من العمل الشاق.
-أنتِ محقة، إنه عملٌ شاقٌ فعلا.
حملها بين ذراعيه قائلا:-
-ربما نبدأ بتلك الغرفة أولا قبل الذهاب للمنزل.
لم تعترض ولم ترغب في الإعتراض أبدًا، فقد اشتاقت إليه وإلى اتحادهما سويًا، أن يكون كلاهما معًا فقط بدون أي دخلاء بينهما..
انتظروا الخاتمه

الخاتمة

-إياس، توقف عن مضايقة القطة.
زفرت في ضيق بينما ترى طفلها ذو الخمسة أعوام يطارد القطة بينما يحمل مسدسه المائي.
هتفت مجددًا:-
-إياس حبيبي توقف عن تغريق القطة بالماء.
أي حماقة ارتكبتها لتسمي ابنها على اسم أخيها، هل فقدت عقلها؟!
نظرت إلى ابنها والذي مازال يطارد القطة في الحديقة، وتمتمت بغيظ:-
-سوف اقتلك يا إياس إذا أصبح ابني نسخة منك.
-ما ذنبي حينها يا صغيرة؟
ألتفتت سريعًا إلى إياس فلم تشعر باقترابه أثناء مراقبتها لإياس الصغير..
-خالو إياس!
هرع إياس الصغير إلى خاله الذي تلقاه، يحمله بين ذراعيه متسائلا:-
-كيف حالك يا بطل؟
أخرج مسدسه قائلا:-
-أنا أحمي الحديقة.
ضحك إياس بمرح وقبل جبينه قائلا:-
-أحسنت العمل، فالحديقة تحتاج إلى تأمين.
أنزله أرضًا ليتابع لعبه بينما نظر الى دارين التي ترمقه في غضب، فقال:-
-ما ذنبي الآن؟
مطت شفتيها في عدم رضا، وقبل أن تتكلم جاء قصي متسائلا:-
-ما الذي أزعج زوجتي؟
أجاب إياس بسخرية:-
-هل يجرؤ أحد على إزعاجها فذلك تخصصها؟
رمقته بتوبيخ، واتجهت إلى قصي الذي احتضنها بحنان، وقبل جبينها لتبتسم قائلة:-
-مرحبًا بعودتك.
أردفت تخاطب إياس:-
-سوف تأكل معنا، ولا نقاش في ذلك.
أومأ في انصياع مصطنع ثم ابتسم ساخرًا لهمس قصي:-
-مستبدة.
ابتعدت عن قصي ورمقت كلاهما في غضب ثم قالت بنبرة آمرة:-
-فلتعتنوا بإياس حتى أتأكد من تحضير الطعام.
بعد دقائق خرجت من المطبخ على صوت إياس يهلل لقدوم جدته، والتي ما أن رأته حتى أخذت تغرقه بقبلاتها وحبها.
ابتسمت دارين قائلة:-
-مرحبًا يا أمي.
قالت سوسن مبتسمة:-
-مرحبًا يا دارين.
لم تصبح العلاقة بينهما في قمة المثالية لكنها على الأقل جيدة خاصة بعد مولد إياس، وقد طارت سوسن به سعادة وفرحة، أول حفيد لها، وصبت حبها ومشاعرها كلها عليه.
اجتمع الجميع حول مائدة الغذاء، نظرت إلى سوسن المنشغله بإطعام إياس الصغير بينما أخيها فقد كان يأكل بينما يتحدث مع قصي في أمورٍ عامة..
مازال إياس متمسكًا بتجارة السلاح معللا أن من يتلوث في ذلك المستنقع لا يستطيع الخروج منه مجددًا لكنها تأمل أن يخرج منه يومًا ما خاصة إنه أصبح أكثر قربًا منها، ولم يعد باستطاعتها أن تبعده مثل السابق لكنها لن تتوقف أيضًا عن نصحه ليبتعد عن هذا الطريق.
عمل إياس هو السر الوحيد الذي تخفيه عن قصي لكن عذرها أنه ليس سرها ولا يمكن أن تبوح به لذلك حرصت على إخفائه جيدًا فلن تخاطر بأي شيء يفسد العلاقة بينها وبين قصي، وكذلك يفعل إياس حتى لا يؤذي زواج أخته.
تشعر أحيانًا بالذنب لأخفائها تلك الحقيقة عنه لكن سرعان ما تتراجع وتضاعف من جهودها لتغيير إياس لعله يتراجع عن ذلك الدرب حتى تشعر بالسلام في حياتها.
اعادت نظرها إلى إياس الصغير، المعجزة التي غيرت الجميع من حولها، فإياس أصبح قريبًا منها، كثير الورود عليها، وسوسن أصبحت ألطف..
همس قصي:-
-أين شردتي؟
هزت رأسها، وقالت مبتسمه:-
-كم هي عائلة جميلة تلك التي نمتلكها!
قال بنبرة ذات معنى:-
-لكن ينقصها فرد صغير آخر.
لم تخجل من أن تقول بصوت أجش:-
-لا استطيع أن أرفض.
اتسعت ابتسامته، وتابع تنازل الغذاء يستعجل وقت انفرادهما بينما هي فقد نظرت إلى إياس وسوسن تتأكد أنهما لم يلاحظا همسهما ثم تابعت الأكل بدون أن تدرك ابتسامة إياس الساخرة فمن الصعب ألا يلاحظ مغازلاتهما خاصة ودارين تتلفت كاللصوص لتتأكد أن أحدًا لم يسمع.. أخته البريئة الشفافه كالماء النقي في عينيه.
في وقت متأخر من الليل تحقق لقصي ما أراده وبعد بضعة أشهر حملت دارين في رحمها جزءًا منه وأخت لإياس، فها هي عائلتهما تكبر ببطء ومعها تتضاعف سعادتهما وامتنانهما على تلك النعمة التي وهبها **** لهما.

تمت
الـــــــــكوهـــــــــينور
 
  • عجبني
  • حبيته
التفاعلات: Fetomohamed، ابو زوبر جنانن و شاب نييك
الفصل الأول

زفر قصي في إرتياح وتراجع في مقعده بعد أن انتهى أخيرًا من الأعمال التي تراكمت عليه، والتي كان من الضروري إنجازها فليس من شأن عملائه إنه رجل لا يستطيع أن يبتعد عن زوجته فيلقي بعمله في سبيل قضاء لحظات معها.
غادر مقعده مبتسمًا يرغب في الطيران إلى المنزل يتمنى ألا تكون قد نامت فقد أصر على مغادرتها للعمل مع موعد باقي الموظفين رغم رغبتها في البقاء معه لكنه رفض حتى ترتاح قليلا فقد كان يومًا شاقًا لكلاهما.
ركب سيارته مفكرًا بمكر إنه أكثر من راضٍ لإصرارها على الاستمرار في العمل كمساعدته الشخصية حتى بعد زواجهما برغم أن وجودها معه في المكتب يكون معطلا في بعض الأوقات إلا إنها حازمة وجادة عندما يأتي الأمر إلى العمل، ابتسم متذكرًا كلماتها ظهيرة اليوم في مكتبه "أنت مدير عابث فلتركز في عملك وإلا سوف نفلس"
اتسعت ابتسامته يتعجل الوصول للمنزل لرؤيتها فالتفكير بها جعل الشوق يملأ قلبه، وبالفعل ما أن أوقف سيارته أمام المدخل حتى شعر بالأمتنان لأن والدته تنام مبكرًا فلا تشهد إندفاعه فوق الدرج واتجاهه بلهفة إلى غرفة نومه لكنه توقف عندما سمع همسات أتت من خلف الباب المغلق.. شعورٌ بالقلق انتابه فمن سوف يهاتفها في هذا الوقت إن لم يكن الأمر ضروريًا.

ذلك القلق استحال أمرًا آخرعندما فتح باب الغرفة ليرى من خلال ضوء القمر المتسلل من النافذة المفتوحة رجل ينام فوق فراشه بينما زوجته الحبيبة تقف بجواره، ولم يكن هناك شك فيما قاطعه فنظرة واحدة إلى الفراش المبعثر جعلته غاضبًا.. بل أن
"الغضب" هو ألطف ما قد يعبر عن مشاعره في تلك اللحظة..لقد كان الجنون.
اندفع إلى داخل الغرفة ودفعها أرضًا بعيدًا عن طريقه بدون أن يبال بصوت تحطم الزجاجات من فوق طاولة الزينة التي اصطدمت بها.
هدفه كان الرجل يلكمه بشراسة فلم يكن يرى أمامه إلا حمرة الدماء...سوف يقتله ويقتلها ولن يبالي بالنتائج حتى أن الضوء الذي ملأ الغرفة فجأة لم يوقفه.
كاد أن يدفع والدته التي مسكته لكن سرعان ما استعاد الرؤية الواضحة، نظر إلى كفيه الملطخين بالدماء ثم نظر إلى الخائنة وروبها الأبيض الحريري الذي لطخته بضعة قطرات من الدماء نتيجة وقوعها أرضًا، تأمل ملامحها فكانت عيناها تنظران إليه بدون أي ندم أو ذنب.
اقترب منها فلم تحاول والدته أن تمنعه ولم تتحرك هي بل نظرت إليه في صمت، وكأنها تمثال.. لم يتحدث وكأن الخذلان الذي يشعر به في تلك اللحظة يفوق أي كلمات.

استغل الرجل فرصة انشغاله بزوجته وفر هاربًا إلى الخارج كما دخل بعد أن تبادل معها نظرات ذات معنى ثم اختفى وكأنه لم يكن، ولم تحاول الأم أن تمنعه أو حتى تحذر الأمن الغافل في الخارج فمازالت تحت تأثير ذهولها وصدمتها.
في تلك اللحظة شعر أن بإمكانه أن يقتلها وهو يبتسم ضاحكًا.. أهذا كابوس؟ لماذا؟!

لم يلاحظ أنه نطق بذلك السؤال بنبرة عالية حتى أجابته:-
-النساء يا عزيزي لديهن رغبات أيضًا.
أردفت بنبرة فجة:-
-وأنت لست بكافيًا.
ارتد وجهها نتيجة لتلك اللطمة القوية لكنها لم تصرخ بل نظرت إليه مجددًا بتعابير باردة برغم جرح شفتيها وإحمرار وجنتها.
لكنه لم يبادلها النظرات بل نظر إلى والدته وهتف بغضب مكتوم:-
-فلتبعديها من أمامي قبل أن أقتلها.
لم تحتاج سوسن أن يكرر كلامه فقد انتظرت ذلك اليوم كثيرًا، وها هي تنال ما أرادته فجذبتها من ذراعها تطردها من هذا المنزل، لتخرج "دارين" من القصر..
لقد دخلت هذا المكان طمعًا في تأسيس حياة سعيدة معه، وها هي تخرج الآن بدون أي شيء ولا حتى وجهة.
اقتربت منه سوسن تحاول أن تخفي راحتها، وقالت تخفف عنه:-
-لقد نجوت منها يا بني، لذلك لا تحزن أبدًا.
أضافت:-
-لقد عرفت حقيقة أصلها منذ أول يوم وطأت به قدمها هذا المنزل، الحقيرة إنها...
لم يستطع أن يسمع المزيد فأسرع إلى غرفته يعميه كلا من الغضب والكراهية، لأول مرة تسيطر عليه نزعة العنف منذ أن كان مراهقًا.. بدأ يكسر ويمزق كل ما يربط تلك الغرفة بها، كان يحارب بشراسة كأنه ينازع ليمحيها أيضًا من ذاكرته ومن قلبه، وبعد ساعة طويلة جلس أرضًا يلهث في تعب نظر إلى الغرفة التي أصبحت حطامًا بدون أن يشعر بالرضا أو الراحة.
استعاد هذا المشهد مجددًا وانعكس في عينيه مزيج من الألم والغضب.. سوف يحرص على أن تدفع الثمن غاليًا لقد منحها حبًا لم يكفيها والآن حان الوقت لتتذوق كراهيته.
***
كانت تسير بلا وجهة، سمحت لدموعها أن تنهمر وتغرق وجهها كأن حقيقة ما حدث لطمتها فجأة ممزقه ثباتها السابق.
يا للسخرية، فأمس كانت تحسد سعادتها وحياتها أما الآن فهي في الطرقات المظلمة وحيدة مفلسة، وقد كانت سوسن أكثر من سعيدة بتركها على هذه الحالة في الشارع.
ألتقطت هاتفها والذي حرصت على أن يكون معها قبل أن تلقيها سوسن في الخارج، ومن بين دموعها بدأت تبحث في قائمة معارفها عن صديقة واحدة تلجأ إليها، لكن هل امتلكت يومًا مثل تلك الصديقة؟
لقد اعتادت الوحدة طويلا متظاهرة بالقوة حتى تزوجته فتركت كل شيء حتى شقتها الصغيرة باعتها لتستطيع أن تشتري جهازًا من أموالها الخاصة برغم أنه لم يبخل عليها لكنها الإستقلالية اللعينة، وها هي تندم على ذلك الآن فعلى الأقل لكانت امتلكت شقة تلجأ إليها.
ازدحمت الأفكار والظنون في ذهنها، ضمت معطفها إلى جسدها، الذي ألقته سوسن في وجهها ربما شفقة عليها أو إمعانًا في إذلالها، وقد كان الشيء الوحيد الذي يقيها لسعات البرد القارصة التي تتسلل إليها عبر قميص نومها الحريري أسفله.
ارتجف ثغرها بينما تجلس على المقعد الخشبي في محطة القطار الفارغة، مزيج من الشفقة على الذات والأسى. واست نفسها فقد فعلت ما يجب عليها أن تفعله، وإذا عاد بها الزمن مجددًا لفعلته مرة أخرى.
لكنها لا تستطيع أن تنفض الحزن والألم عن جسدها الذي يتلوى في شوق إلى دفء أحضان زوجها وأمان غرفتهما.
اشتدت قبضتها على هاتفها وكأنها تتوسله أن يجد ملجأ، كانت الأرقام تمر أمام عينيها بدون أن تحمل أي مشاعر شخصية حتى وقفت أمام هذا الرقم الذي احتفظت به لفترة تخطت عقد من الزمن بدون أن تستعين به لكن ما البديل في تلك اللحظة؟!
ترددت قليلا لكن تلك النظرات التي شعرت بها تراقبها من طرفٍ بعيدٍ، وبجانب عينيها رأتهما شابين مشردين مؤكدا ليسا في وعيهما، دفعتها إلى أن تتصل ليأتيها صوته البارد لكن في طياته كانت دهشة وقلق:-
-دارين!
بللت شفتيها وهمست:-
-أخي..
أردفت تحاول أن تتحكم في نبرات صوتها:-
-أحتاج مساعدتك.
لم يطلب أي تفاصيل وكانت شاكره لذلك، واختصر قائلا:-
-ارسلي لي موقعك سأكون هناك.
ظلت دقائق في المحطة حذرة خائفة من هذا السكون، قبل الزواج لم يكن ليخيفها لكنها اعتادت نعيم حياتها الحالي حتى أصبح الماضي ووحدته مجرد ذكرى.
يبدو أن انتظارها الطويل قد شجع المشردين على أن يتحركا، حاولت أن تصمد لكن الخوف دفعها إلى أن تقف في تأهب تفكر في خطوتها التالية لكن لم يكن هناك أي حاجه لذلك فقد كان صرير السيارة خارج المحطة كافيًا ليوقفهما أما اندفاع الرجال في بدلاتهم السوداء فدفعهما إلى الهرب.
لم تجفل من منظر الرجال ونظرت إلى أوسطهم الذي كان يتقدمهم بينما الآخرين يحيطونه في حماية بينما أسلحتهم لا تفارق خصرهم.
تأملت ملامح وجهه التي بدت أصغر من أعوام عمره التي تناهز السابعة والثلاثون لكن مازالت كما عرفتها دائمًا في صغرهما، رفع كفه ليتوقف الرجلان عن اللحاق به وتقدم هو أمامها.
نظر إليها يتأملها مليًا في قلق، لامس بكفه الإصابة في شفتيها لتنكمش ملامحها ألمًا، لا تعرف ما الذي دمر سكونها، أهي ملامحه الشبيهة بملامح أمها أم تلك النظرة في عينيه؟! لكنها فقط أجهشت بالبكاء ليجذبها إلى أحضانه.
أحاطت خصره تبكي وقد عادت طفلة صغيرة تطلب حماية أخيها الأكبر، لامس رأسها بلطف يناقض ضخامة كفه الذي لا يعرف إلا العنف وحمل السلاح.
لم يسأل ولم يستفسر فقط أحاط خصرها يقودها إلى سيارته حيث فتح أحد الرجال الباب الخلفي لهما ثم انطلقت السيارة تشق الطرقات المظلمة تلحقها سيارتين آخرتين لكنها لم تشعر بذلك وقد ظلت تحتمي به من ذلك الكابوس الطويل الذي مرت به وهو تفهم ذلك فاكتفى بالصمت وإحاطة كتفها في حماية.
***
ارتدت روبها واستلقت فوق الفراش تنتظر عودة قصي لكن سرعان ما خدعها النوم وأصبحت تحت سيطرته.
ثقل فوق فمها ووكز بارد جعلها تفتح عينيها اتسعت حدقتاها، تململت في عنف تحاول أن تتخلص من قبضته لتصرخ ما أن ألتقت عيناها بهذا الرجل الذي كان يكمم فمها بينما يضع فوهة مسدسه الباردة بجوار خصرها.
قال:-
-انهضي ببطء، لا تحاولي أن تفعلي أي شيء، وإلا سوف تزين رصاصتي جسدكِ.
لم يبعد كفه عن فمها لتنهض بخطوات متعثرة وأعين مذعورة تنظر إلى فوهة مسدسه
همس:-
-سوف أنزع يدي لكن إذا صرختِ سوف أقتلك وأقتله أيضًا.
كانت خائفة ترتجف لم تكن أول مرة ترى سلاحًا لكنها الأولى التي يكون موجهًا تجاهها.
أبعد كفه عن فمها ثم رفع هاتفه أمام وجهها، لم تفهم في بادئ الأمر إلا أنه أشار بسلاحه أن تنظر إلى شاشته.
ارتجف كفها بينما تشاهد "قصي" على الشاشة يغادر سيارته متجهًا إلى داخل الشركة، لقد كان هذا الصباح وقد تعرفت على بدلته التي جهزتها له بنفسها، بينما هي تسبقه إلى داخل الشركة لكن لم يكن هذا ما أخافها بل تغير المشهد إلى السطح المقابل ورجل ملثم يحمل سلاحًا ويوجهه إليه. لم تكن بحاجة إلى أي ذكاء لتفهم التهديد لكنه تحدث:-
-الآن سوف تفعلين ما أقوله وإلا سوف يكون موته قريبًا.
طفرت الدموع من عينيها بينما تنظر إليه في ذعر أضاف:-
-والآن سوف تخبرين زوجكِ إنكِ على علاقة بآخر.
أضاف بسخرية:-
-بالطبع ليس هناك دليل أكثر من وجودي هنا.
تكلمت أخيرًا:-
-لماذا تفعل هذا؟
-لا يهم، ولا تقاطعيني مجددًا.
أردف:-
-سوف تجعليه يثق إنكِ خائنة بأي طريقة ممكنة، وما أن يطردك من هنا، وهذا ما سوف يحدث بالطبع، سوف تغادرين بدون أي رجعة ولا تحاولي أن تخبريه أي شيء، فإن قتله سوف يكون أسهل ما أفعله.
لم يكن هناك مجالا للتفكير فحياته مقابل موتها فاختارت بدون أي تردد وحسمت أمرها.
***
ألتقطت كوب الكاكاو الساخن ترتشف منه بعد أن انتهت من سرد ما حدث سابقًا.
قال إياس في محاولة لتجميع ما عرفه:-
-ذلك الرجل صعد إلى غرفتكِ، وهددكِ بقتل زوجكِ ما لم تفعلي ما يقوله.
أومأت في صمت لينطلق لسانه بسبابٍ جعل وجنتيها تتورد ورمقته بنظرة موبخة لم يملك إلا أن يبتسم على أثرها فائلا:-
-لم تتغيري يا صغيرة.
تنهدت دارين قائلة:-
-لقد كبرت منذ ذلك الحين.
صمت برهة متذكرًا انقطاع الأواصر بينهما فقد عاد بعد وفاة والديه ليكون بجوارها، وقد كانت في العشرين من عمرها وقتها لكنها رفضته كما فعل والده من قبل بسبب مهنته فاختارت البعد، وهكذا تركها كما تشاء يطمئن على أخبارها من بعيد يراقبها بأسى تعمل بجد لتعيل ذاتها وهي في هذا السن الصغير بينما تتباع دراستها.
نظر إليها فجأة ثم سألها بغضب:-
-هل هذا الوغد هو من فعل هذا بكِ؟
لمست شفتيها وهزت رأسها في أسى ثم قالت تخفف من غضبه:-
-إنه محقٌ فيما فعله، لقد جرحته بكلماتي.
أدرك إنها تتحدث عن زوجها، وبرغم غضبه من أن يمس أحدهم أخته بسوءٍ حتى ولو كان زوجها لكنه أيضًا لا يلومه فلو كان مكانه لقتلها بدون أن يرف له جفن.
تسائل مجددًا بتفكير:-
-هل هناك أعداء في حياتكِ يا صغيرة، أشخاص يتمنون السوء لكِ؟
هزت رأسها بدون تفكير قائلة:-
-لم أقترب من شخصٍ لدرجة الحب أو الكراهية.
صمت برهة ثم قال فجأة بنبرة جافة يستخدمها مع رجاله إلى ذلك الرجل الذي كان يقف بجوار الباب وكأنه جزء منه:-
-ارسل لي عزام.
أومأ الرجل وبعد دقائق دخل عزام، وبرغم قصر قامته إلا إن خشونة ملامحه والدهاء الذي يطل من عينيه جعلاه مخيفًا في عين دارين، كان فضوله شديدًا تجاه أخت سيده التي ظهرت فجأة إلا إنه لم ينظر إليها ووجه إهتمامه إلى إياس:-
قال إياس:-
-أوصفي ذلك الرجل، أي شيء تستطيعين تذكره.
قالت بينما تحاول وصفه جاهدة:-
-طويل القامة، شعر أسود خشن، وأعين...
قاطعها بنفاذ صبر ساخر:-
-لن أبحث له عن عروسة يا صغيرة، نريد علامات مميزة، ليس لون شعره وتلك التفاهات..
رمقته بغضب ثم قالت:-
-كان هناك ندبة في كفه، وكأنه جرح سكين، وعندما ألتفت لاحظت أثر حرق بجوار عنقه لكنه أثر طفيف كما أن قصي قد ضربه فلابد أن هناك علامة إصابات على وجهه.
قال لعزام:-
-أفعل المستحيل لإيجاد هذا الوغد، وابلغ جميع الرجال، أوقفوا كل شيء تفعلونه الآن واحضروه لي.
أردف:-
-ركز على كل شخص في نطاق "قصي القاضي"، أرسلت لك عنوان شركته ومنزله.
أضاف:-
-غالبًا سوف يكون شخصًا قريبًا منه.
كانت مهمة مستحيلة بتلك المواصفات لكنه كان يدرك أن عزام بإمكانه أن يجعل المستحيل ممكنًا، وما أن غادر حتى ألتفت إياس إلى دارين قائلا:-
-لا تقلقي سوف نجده ونعرف من ورائه.
نظرت إليه في أمتنان، فبرغم كل الأختلافات التي بينهما، والفراق الطويل الذي تسبب به والدها رحمه ****؛ فبعد أن عرف بطبيعة عمله وصفقاته المشبوهة حتى طرده ومنعه منعًا باتًا من لقاء أي فردٍ من العائلة خاصة هي، وبعد وفاة والديها لم تستطع أن تتقبل حياته خاصة وقد أوضح رفضه لتغييرها لكنه مازال أخاها.. تاجر سلاح أم غيره.
تسائلت فجأه وقد لاحظت الأمر:-
-كيف عرفت اسم زوجي؟
قال مبتسمًا:-
-ليس معني إننا اختلفنا أنني لا أعرف أخبارك يا صغيرة.
رغم كل شيء إنها تحبه حقًا فهو أخ جيد لكنها تلك البؤرة السوداء في حياته هي ما تلطخ كل شيء فتجبرها على البقاء بعيدة عنه.
احسنت
تحياتي
 
  • حبيته
التفاعلات: الكوهينور
  • عجبني
التفاعلات: محترف اربعيني (ابوالخير)
تم أضافة الجزء الرابع
 
  • عجبني
التفاعلات: الكوهينور
  • عجبني
التفاعلات: BٍِASM17 اسطورة القصص
تم أضافة الجزء الخامس والأخير مع تمنيات هيئة المشرفين والنقاد بمزيد من الأبداع
 
  • حبيته
التفاعلات: الكوهينور
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
الفصل الأول

زفر قصي في إرتياح وتراجع في مقعده بعد أن انتهى أخيرًا من الأعمال التي تراكمت عليه، والتي كان من الضروري إنجازها فليس من شأن عملائه إنه رجل لا يستطيع أن يبتعد عن زوجته فيلقي بعمله في سبيل قضاء لحظات معها.
غادر مقعده مبتسمًا يرغب في الطيران إلى المنزل يتمنى ألا تكون قد نامت فقد أصر على مغادرتها للعمل مع موعد باقي الموظفين رغم رغبتها في البقاء معه لكنه رفض حتى ترتاح قليلا فقد كان يومًا شاقًا لكلاهما.
ركب سيارته مفكرًا بمكر إنه أكثر من راضٍ لإصرارها على الاستمرار في العمل كمساعدته الشخصية حتى بعد زواجهما برغم أن وجودها معه في المكتب يكون معطلا في بعض الأوقات إلا إنها حازمة وجادة عندما يأتي الأمر إلى العمل، ابتسم متذكرًا كلماتها ظهيرة اليوم في مكتبه "أنت مدير عابث فلتركز في عملك وإلا سوف نفلس"
اتسعت ابتسامته يتعجل الوصول للمنزل لرؤيتها فالتفكير بها جعل الشوق يملأ قلبه، وبالفعل ما أن أوقف سيارته أمام المدخل حتى شعر بالأمتنان لأن والدته تنام مبكرًا فلا تشهد إندفاعه فوق الدرج واتجاهه بلهفة إلى غرفة نومه لكنه توقف عندما سمع همسات أتت من خلف الباب المغلق.. شعورٌ بالقلق انتابه فمن سوف يهاتفها في هذا الوقت إن لم يكن الأمر ضروريًا.

ذلك القلق استحال أمرًا آخرعندما فتح باب الغرفة ليرى من خلال ضوء القمر المتسلل من النافذة المفتوحة رجل ينام فوق فراشه بينما زوجته الحبيبة تقف بجواره، ولم يكن هناك شك فيما قاطعه فنظرة واحدة إلى الفراش المبعثر جعلته غاضبًا.. بل أن
"الغضب" هو ألطف ما قد يعبر عن مشاعره في تلك اللحظة..لقد كان الجنون.
اندفع إلى داخل الغرفة ودفعها أرضًا بعيدًا عن طريقه بدون أن يبال بصوت تحطم الزجاجات من فوق طاولة الزينة التي اصطدمت بها.
هدفه كان الرجل يلكمه بشراسة فلم يكن يرى أمامه إلا حمرة الدماء...سوف يقتله ويقتلها ولن يبالي بالنتائج حتى أن الضوء الذي ملأ الغرفة فجأة لم يوقفه.
كاد أن يدفع والدته التي مسكته لكن سرعان ما استعاد الرؤية الواضحة، نظر إلى كفيه الملطخين بالدماء ثم نظر إلى الخائنة وروبها الأبيض الحريري الذي لطخته بضعة قطرات من الدماء نتيجة وقوعها أرضًا، تأمل ملامحها فكانت عيناها تنظران إليه بدون أي ندم أو ذنب.
اقترب منها فلم تحاول والدته أن تمنعه ولم تتحرك هي بل نظرت إليه في صمت، وكأنها تمثال.. لم يتحدث وكأن الخذلان الذي يشعر به في تلك اللحظة يفوق أي كلمات.

استغل الرجل فرصة انشغاله بزوجته وفر هاربًا إلى الخارج كما دخل بعد أن تبادل معها نظرات ذات معنى ثم اختفى وكأنه لم يكن، ولم تحاول الأم أن تمنعه أو حتى تحذر الأمن الغافل في الخارج فمازالت تحت تأثير ذهولها وصدمتها.
في تلك اللحظة شعر أن بإمكانه أن يقتلها وهو يبتسم ضاحكًا.. أهذا كابوس؟ لماذا؟!

لم يلاحظ أنه نطق بذلك السؤال بنبرة عالية حتى أجابته:-
-النساء يا عزيزي لديهن رغبات أيضًا.
أردفت بنبرة فجة:-
-وأنت لست بكافيًا.
ارتد وجهها نتيجة لتلك اللطمة القوية لكنها لم تصرخ بل نظرت إليه مجددًا بتعابير باردة برغم جرح شفتيها وإحمرار وجنتها.
لكنه لم يبادلها النظرات بل نظر إلى والدته وهتف بغضب مكتوم:-
-فلتبعديها من أمامي قبل أن أقتلها.
لم تحتاج سوسن أن يكرر كلامه فقد انتظرت ذلك اليوم كثيرًا، وها هي تنال ما أرادته فجذبتها من ذراعها تطردها من هذا المنزل، لتخرج "دارين" من القصر..
لقد دخلت هذا المكان طمعًا في تأسيس حياة سعيدة معه، وها هي تخرج الآن بدون أي شيء ولا حتى وجهة.
اقتربت منه سوسن تحاول أن تخفي راحتها، وقالت تخفف عنه:-
-لقد نجوت منها يا بني، لذلك لا تحزن أبدًا.
أضافت:-
-لقد عرفت حقيقة أصلها منذ أول يوم وطأت به قدمها هذا المنزل، الحقيرة إنها...
لم يستطع أن يسمع المزيد فأسرع إلى غرفته يعميه كلا من الغضب والكراهية، لأول مرة تسيطر عليه نزعة العنف منذ أن كان مراهقًا.. بدأ يكسر ويمزق كل ما يربط تلك الغرفة بها، كان يحارب بشراسة كأنه ينازع ليمحيها أيضًا من ذاكرته ومن قلبه، وبعد ساعة طويلة جلس أرضًا يلهث في تعب نظر إلى الغرفة التي أصبحت حطامًا بدون أن يشعر بالرضا أو الراحة.
استعاد هذا المشهد مجددًا وانعكس في عينيه مزيج من الألم والغضب.. سوف يحرص على أن تدفع الثمن غاليًا لقد منحها حبًا لم يكفيها والآن حان الوقت لتتذوق كراهيته.
***
كانت تسير بلا وجهة، سمحت لدموعها أن تنهمر وتغرق وجهها كأن حقيقة ما حدث لطمتها فجأة ممزقه ثباتها السابق.
يا للسخرية، فأمس كانت تحسد سعادتها وحياتها أما الآن فهي في الطرقات المظلمة وحيدة مفلسة، وقد كانت سوسن أكثر من سعيدة بتركها على هذه الحالة في الشارع.
ألتقطت هاتفها والذي حرصت على أن يكون معها قبل أن تلقيها سوسن في الخارج، ومن بين دموعها بدأت تبحث في قائمة معارفها عن صديقة واحدة تلجأ إليها، لكن هل امتلكت يومًا مثل تلك الصديقة؟
لقد اعتادت الوحدة طويلا متظاهرة بالقوة حتى تزوجته فتركت كل شيء حتى شقتها الصغيرة باعتها لتستطيع أن تشتري جهازًا من أموالها الخاصة برغم أنه لم يبخل عليها لكنها الإستقلالية اللعينة، وها هي تندم على ذلك الآن فعلى الأقل لكانت امتلكت شقة تلجأ إليها.
ازدحمت الأفكار والظنون في ذهنها، ضمت معطفها إلى جسدها، الذي ألقته سوسن في وجهها ربما شفقة عليها أو إمعانًا في إذلالها، وقد كان الشيء الوحيد الذي يقيها لسعات البرد القارصة التي تتسلل إليها عبر قميص نومها الحريري أسفله.
ارتجف ثغرها بينما تجلس على المقعد الخشبي في محطة القطار الفارغة، مزيج من الشفقة على الذات والأسى. واست نفسها فقد فعلت ما يجب عليها أن تفعله، وإذا عاد بها الزمن مجددًا لفعلته مرة أخرى.
لكنها لا تستطيع أن تنفض الحزن والألم عن جسدها الذي يتلوى في شوق إلى دفء أحضان زوجها وأمان غرفتهما.
اشتدت قبضتها على هاتفها وكأنها تتوسله أن يجد ملجأ، كانت الأرقام تمر أمام عينيها بدون أن تحمل أي مشاعر شخصية حتى وقفت أمام هذا الرقم الذي احتفظت به لفترة تخطت عقد من الزمن بدون أن تستعين به لكن ما البديل في تلك اللحظة؟!
ترددت قليلا لكن تلك النظرات التي شعرت بها تراقبها من طرفٍ بعيدٍ، وبجانب عينيها رأتهما شابين مشردين مؤكدا ليسا في وعيهما، دفعتها إلى أن تتصل ليأتيها صوته البارد لكن في طياته كانت دهشة وقلق:-
-دارين!
بللت شفتيها وهمست:-
-أخي..
أردفت تحاول أن تتحكم في نبرات صوتها:-
-أحتاج مساعدتك.
لم يطلب أي تفاصيل وكانت شاكره لذلك، واختصر قائلا:-
-ارسلي لي موقعك سأكون هناك.
ظلت دقائق في المحطة حذرة خائفة من هذا السكون، قبل الزواج لم يكن ليخيفها لكنها اعتادت نعيم حياتها الحالي حتى أصبح الماضي ووحدته مجرد ذكرى.
يبدو أن انتظارها الطويل قد شجع المشردين على أن يتحركا، حاولت أن تصمد لكن الخوف دفعها إلى أن تقف في تأهب تفكر في خطوتها التالية لكن لم يكن هناك أي حاجه لذلك فقد كان صرير السيارة خارج المحطة كافيًا ليوقفهما أما اندفاع الرجال في بدلاتهم السوداء فدفعهما إلى الهرب.
لم تجفل من منظر الرجال ونظرت إلى أوسطهم الذي كان يتقدمهم بينما الآخرين يحيطونه في حماية بينما أسلحتهم لا تفارق خصرهم.
تأملت ملامح وجهه التي بدت أصغر من أعوام عمره التي تناهز السابعة والثلاثون لكن مازالت كما عرفتها دائمًا في صغرهما، رفع كفه ليتوقف الرجلان عن اللحاق به وتقدم هو أمامها.
نظر إليها يتأملها مليًا في قلق، لامس بكفه الإصابة في شفتيها لتنكمش ملامحها ألمًا، لا تعرف ما الذي دمر سكونها، أهي ملامحه الشبيهة بملامح أمها أم تلك النظرة في عينيه؟! لكنها فقط أجهشت بالبكاء ليجذبها إلى أحضانه.
أحاطت خصره تبكي وقد عادت طفلة صغيرة تطلب حماية أخيها الأكبر، لامس رأسها بلطف يناقض ضخامة كفه الذي لا يعرف إلا العنف وحمل السلاح.
لم يسأل ولم يستفسر فقط أحاط خصرها يقودها إلى سيارته حيث فتح أحد الرجال الباب الخلفي لهما ثم انطلقت السيارة تشق الطرقات المظلمة تلحقها سيارتين آخرتين لكنها لم تشعر بذلك وقد ظلت تحتمي به من ذلك الكابوس الطويل الذي مرت به وهو تفهم ذلك فاكتفى بالصمت وإحاطة كتفها في حماية.
***
ارتدت روبها واستلقت فوق الفراش تنتظر عودة قصي لكن سرعان ما خدعها النوم وأصبحت تحت سيطرته.
ثقل فوق فمها ووكز بارد جعلها تفتح عينيها اتسعت حدقتاها، تململت في عنف تحاول أن تتخلص من قبضته لتصرخ ما أن ألتقت عيناها بهذا الرجل الذي كان يكمم فمها بينما يضع فوهة مسدسه الباردة بجوار خصرها.
قال:-
-انهضي ببطء، لا تحاولي أن تفعلي أي شيء، وإلا سوف تزين رصاصتي جسدكِ.
لم يبعد كفه عن فمها لتنهض بخطوات متعثرة وأعين مذعورة تنظر إلى فوهة مسدسه
همس:-
-سوف أنزع يدي لكن إذا صرختِ سوف أقتلك وأقتله أيضًا.
كانت خائفة ترتجف لم تكن أول مرة ترى سلاحًا لكنها الأولى التي يكون موجهًا تجاهها.
أبعد كفه عن فمها ثم رفع هاتفه أمام وجهها، لم تفهم في بادئ الأمر إلا أنه أشار بسلاحه أن تنظر إلى شاشته.
ارتجف كفها بينما تشاهد "قصي" على الشاشة يغادر سيارته متجهًا إلى داخل الشركة، لقد كان هذا الصباح وقد تعرفت على بدلته التي جهزتها له بنفسها، بينما هي تسبقه إلى داخل الشركة لكن لم يكن هذا ما أخافها بل تغير المشهد إلى السطح المقابل ورجل ملثم يحمل سلاحًا ويوجهه إليه. لم تكن بحاجة إلى أي ذكاء لتفهم التهديد لكنه تحدث:-
-الآن سوف تفعلين ما أقوله وإلا سوف يكون موته قريبًا.
طفرت الدموع من عينيها بينما تنظر إليه في ذعر أضاف:-
-والآن سوف تخبرين زوجكِ إنكِ على علاقة بآخر.
أضاف بسخرية:-
-بالطبع ليس هناك دليل أكثر من وجودي هنا.
تكلمت أخيرًا:-
-لماذا تفعل هذا؟
-لا يهم، ولا تقاطعيني مجددًا.
أردف:-
-سوف تجعليه يثق إنكِ خائنة بأي طريقة ممكنة، وما أن يطردك من هنا، وهذا ما سوف يحدث بالطبع، سوف تغادرين بدون أي رجعة ولا تحاولي أن تخبريه أي شيء، فإن قتله سوف يكون أسهل ما أفعله.
لم يكن هناك مجالا للتفكير فحياته مقابل موتها فاختارت بدون أي تردد وحسمت أمرها.
***
ألتقطت كوب الكاكاو الساخن ترتشف منه بعد أن انتهت من سرد ما حدث سابقًا.
قال إياس في محاولة لتجميع ما عرفه:-
-ذلك الرجل صعد إلى غرفتكِ، وهددكِ بقتل زوجكِ ما لم تفعلي ما يقوله.
أومأت في صمت لينطلق لسانه بسبابٍ جعل وجنتيها تتورد ورمقته بنظرة موبخة لم يملك إلا أن يبتسم على أثرها فائلا:-
-لم تتغيري يا صغيرة.
تنهدت دارين قائلة:-
-لقد كبرت منذ ذلك الحين.
صمت برهة متذكرًا انقطاع الأواصر بينهما فقد عاد بعد وفاة والديه ليكون بجوارها، وقد كانت في العشرين من عمرها وقتها لكنها رفضته كما فعل والده من قبل بسبب مهنته فاختارت البعد، وهكذا تركها كما تشاء يطمئن على أخبارها من بعيد يراقبها بأسى تعمل بجد لتعيل ذاتها وهي في هذا السن الصغير بينما تتباع دراستها.
نظر إليها فجأة ثم سألها بغضب:-
-هل هذا الوغد هو من فعل هذا بكِ؟
لمست شفتيها وهزت رأسها في أسى ثم قالت تخفف من غضبه:-
-إنه محقٌ فيما فعله، لقد جرحته بكلماتي.
أدرك إنها تتحدث عن زوجها، وبرغم غضبه من أن يمس أحدهم أخته بسوءٍ حتى ولو كان زوجها لكنه أيضًا لا يلومه فلو كان مكانه لقتلها بدون أن يرف له جفن.
تسائل مجددًا بتفكير:-
-هل هناك أعداء في حياتكِ يا صغيرة، أشخاص يتمنون السوء لكِ؟
هزت رأسها بدون تفكير قائلة:-
-لم أقترب من شخصٍ لدرجة الحب أو الكراهية.
صمت برهة ثم قال فجأة بنبرة جافة يستخدمها مع رجاله إلى ذلك الرجل الذي كان يقف بجوار الباب وكأنه جزء منه:-
-ارسل لي عزام.
أومأ الرجل وبعد دقائق دخل عزام، وبرغم قصر قامته إلا إن خشونة ملامحه والدهاء الذي يطل من عينيه جعلاه مخيفًا في عين دارين، كان فضوله شديدًا تجاه أخت سيده التي ظهرت فجأة إلا إنه لم ينظر إليها ووجه إهتمامه إلى إياس:-
قال إياس:-
-أوصفي ذلك الرجل، أي شيء تستطيعين تذكره.
قالت بينما تحاول وصفه جاهدة:-
-طويل القامة، شعر أسود خشن، وأعين...
قاطعها بنفاذ صبر ساخر:-
-لن أبحث له عن عروسة يا صغيرة، نريد علامات مميزة، ليس لون شعره وتلك التفاهات..
رمقته بغضب ثم قالت:-
-كان هناك ندبة في كفه، وكأنه جرح سكين، وعندما ألتفت لاحظت أثر حرق بجوار عنقه لكنه أثر طفيف كما أن قصي قد ضربه فلابد أن هناك علامة إصابات على وجهه.
قال لعزام:-
-أفعل المستحيل لإيجاد هذا الوغد، وابلغ جميع الرجال، أوقفوا كل شيء تفعلونه الآن واحضروه لي.
أردف:-
-ركز على كل شخص في نطاق "قصي القاضي"، أرسلت لك عنوان شركته ومنزله.
أضاف:-
-غالبًا سوف يكون شخصًا قريبًا منه.
كانت مهمة مستحيلة بتلك المواصفات لكنه كان يدرك أن عزام بإمكانه أن يجعل المستحيل ممكنًا، وما أن غادر حتى ألتفت إياس إلى دارين قائلا:-
-لا تقلقي سوف نجده ونعرف من ورائه.
نظرت إليه في أمتنان، فبرغم كل الأختلافات التي بينهما، والفراق الطويل الذي تسبب به والدها رحمه ****؛ فبعد أن عرف بطبيعة عمله وصفقاته المشبوهة حتى طرده ومنعه منعًا باتًا من لقاء أي فردٍ من العائلة خاصة هي، وبعد وفاة والديها لم تستطع أن تتقبل حياته خاصة وقد أوضح رفضه لتغييرها لكنه مازال أخاها.. تاجر سلاح أم غيره.
تسائلت فجأه وقد لاحظت الأمر:-
-كيف عرفت اسم زوجي؟
قال مبتسمًا:-
-ليس معني إننا اختلفنا أنني لا أعرف أخبارك يا صغيرة.
رغم كل شيء إنها تحبه حقًا فهو أخ جيد لكنها تلك البؤرة السوداء في حياته هي ما تلطخ كل شيء فتجبرها على البقاء بعيدة عنه.



الفصل الثاني

-لقد أرسلت إليه الخادم ليبلغه بقدومك.
أومأت سيلين بينما تتظاهر بالحزن وتبدي تعاطفها قائلة:-
-لقد حزنت كثيرًا لما حدث، فقصي لا يستحق هذا أبدًا.
أومأت سوسن في موافقة، وقالت بنفور:-
-لقد كنت رافضه لتلك العلاقة منذ البداية؛ فتلك المرأه لم تكن مناسبة أبدًا.
أومأت سيلين بدون تردد، وسألت في إهتمام:-
-كيف حاله الآن؟
ظهر الحزن على ملامح سوسن قائلة:-
-إنه كالأسد الجريح في غرفته القديمة.
أردفت برجاء:-
-تحدثي معه يا سيلين لعله يستمع إليكِ.
ربتت على كتفها قائلة:-
- لا تقلقي، لن أتركه أبدًا.
برقت عيناها فقد كان ذلك أكثر ما هي صادقة بشأنه، فلن تترك قصي أبدًا.. ليس بعد ما فعلته لتجعل الطريق خاليًا أمامها.
انتزعها ظهوره من أفكارها لتتأمله في إعجابٍ واضحٍ، وبرغم شحوب ملامحه إلا أن وسامته كانت تعوض ذلك خاصة في تلك البدلة السوداء التي أبرزت طول قامته وسحر عيونه السوداء التي توازي سواد شعره الذي كان مصففًا في رسمية أضافت عليه هالة من الجدية.
لم يبدي أي رد فعل عند رؤيتها لكنها لم تبالي بل اندفعت إليه تقول بحزن أجادت اصطناعه:-
-كيف حالك يا قصي؟
أردفت:-
-لقد حزنت كثيرًاعندما عرفت عما حدث من طنط أثناء مهاتفتي لها.
أومأ في عدم اكتراث، فوالدته أحبت دائمًا الثرثرة مع سيلين لذلك فلم يتعجب معرفتها بالأمر. نظر إلى والدته وقال بنبرة باردة لم يستخدمها معها قط:-
-سوف اذهب للشركة.
حاولت أن تمنعه لكنه لم يترك لها مجالا للتحدث، وألتفت مغادرًا لتهتف سيلين:-
- سوف آتي معك للتحدث مع أبي في الشركة.
ابتسمت سوسن براحة بينما تراقبها تلحق به، فتلك الفتاة معجبة بابنها منذ زمن ولم يُخفى ذلك عن عينيها..

لقد داوت بنفسها جروح كفه من تحطيم الغرفة ولكم الرجل قبلها لكن جروح قلبه ليس لها تأثيرعليها لكن من ممكن أن باستطاعة سيلين أن تخفف عنه، وربما سوف تعوضه عن تلك الملعونة.
مجرد التفكير في أن سيلين الرازي سوف تكون زوجة لابنها يملأ قلبها حبورًا؛ فهي ابنة شريك زوجها المرحوم كما أن والدها له شركته الخاصة أيضًا لذا فهي أكثر من مناسبة ككنة لها، عليها فقط أن تستغل كل فرصة لتدعوها حتى تقربها من ابنها وربما في القريب العاجل سوف يشهد هذا المنزل زفافًا سعيدًا.
مطت شفتيها بعدم رضا بينما تمر على الغرفة المغلقة منذ هذا اليوم، من أسبوع، والتي يتجنب دخولها كأنها مصدر للطاعون وقد أغلقها محتفظًا بمفتاحها بعيدًا عن الأعين..ربما بفضل سيلين سوف تفتحها قريبًا وتلقي بفضلات تلك الملعونة الخائنة خارج هذا المنزل لتلحق بصاحبتها.
***
ألتقط هاتفه بعدما أصدر طنينًا بقدوم رسالة ثم دفعه تجاهها لتنظر إلى الصور الملتقطة..
كم اشتاقت إليه، وكم يتألم قلبها على رؤية شحوب ملامحه لكن ذلك الشوق تحول إلى غضب وغيرة شديدة عندما لاحظت تلك العلقة التي تلتصق به في كل الصور.
انتبهت إلى سؤال إياس:-
-هل تعرفينها؟
أومأت قائلة:-
-إنها "سيلين الرازي"، ابنة شريك قصي في الشركة، كانت مسافرة وعادت منذ فترة قصيرة.. قد رأيتها مرة أو مرتين في الشركة لكن ليس لها أي علاقة بأعمال والدها.
أردفت بحنق:-
-لا أفهم سبب ذهابها إلى الشركة والمنزل أيضًا.
تسائلت مجددًا في إهتمام:-
-هل تعتقد أن الأمر له علاقة بها؟
هز إياس كتفه قائلا:-
-مازلنا نبحث..
استطرد بتفكير:-
-لكن من الغريب تلك الأحداث عقب عودتها من السفر..
خيم الصمت وكلاهما مشغول بأفكاره ثم قالت دارين بنبرة مفعمه بالقلق:-
-لن يصيبه مكروه أليس كذلك؟
ربت على كفها الموضوع فوق الطاولة قائلا:-
-لقد وضعت رجالا لمتابعة حركاته وحمايته، فلا تقلقي.
أومأت براحة ثم أعادت عيناها إلى الصور، إذا كانت تلك العلقة لها علاقة بالموضوع فسوف تمزقها أربًا.
لم تلاحظ الابتسامة التي اعتلت ثغر إياس بينما يحتسي فنجان قهوته، فالجنون والتملك جينات فى العائلة حتى وإن اختلفت حياتهما فأخته تبدو كنسخة ألطف قليلا منه لكن بنفس الجينات المقاتلة.
توقفت عن النظر إلى تلك الصورة عندما دخل عزام الغرفة مسرعًا، يهمس بجوار أذن إياس بكلمات لم تسمعها لكنها كانت كافية لتدفع إياس إلى النهوض سريعًا قائلا:-
-إذا احتجتي إلى أي شيء اخبري الرجال في الخارج يا صغيرة.
-إلى أين أنت ذاهب؟
قال مبتسمًا:-
-لدي عمل هام.
-أي عمل؟
زفر ثم وضع يده خلف ظهره أسفل معطف بدلته مخرجًا سلاحه وقال بسخرية:-
-أنا لست موظفًا حكوميًا كما ترين يا صغيرة.
أومأت في إمتعاض، ودفعت إليه هاتفه لتلتوي شفتيه في سخرية ويخرج من الغرفة تاركًا إياها تعود إلى شرنقة ذكرياتها وأحزانها.
تريد أن تراه مجددًا، هي لم تفعل أي شيء غير حمايته فلماذا هذا العقاب الذي تحصل عليه الآن؟! حتى وإن لم تستطع أن تخبره بالحقيقة والتهديدات التي تلقيتها فلماذا لا تستطيع أن تبقى بجواره؟ أليس هذا عملها كمساعدة شخصية؟!
كلا، لن تترك عملها والأهم إنها لن تترك زوجها إلى تلك العلقة التي تستغل غيابها لتلتصق به.. عديمة الحياء الوقحة!
صرت على اسنانها في غيظ بينما تستعيد الصور حيث تلتصق بزوجها في كل فرصة تسنح لها بل تجاوز الأمر حدود الشركة فتذهب بشكل يومي إلى المنزل أيضًا.
بالطبع لابد أن سوسن هانم رحبت بذلك كثيرًا فسوف تحب أن تجعل قطعة السردين العفنة تلك كنة لها.
زفرت في ضيق فلم يُخفى عليها أبدًا بغض حماتها لها لكن لم يعنيها ذلك كثيرًا ففي الصباح كانت تذهب إلى العمل وتعود بصحبة زوجها لذلك لم تختلط بها.. فقط بعض المواقف القليلة التي تستغلها سوسن لتوضح مشاعرها كالإشارة أثناء مساعدتها في تحضير الأفطار يوم الأجازه أن تلك وظيفة الخدم وتلميح خبيث إلى مكانتها الإجتماعية.
كان هذا لا يؤثر على دارين كثيرًا فقد كان قصي أكثر من قادرٍ على حمايتها من هجمات أمه ومنحها الإحترام الذي تستحقه وهذا ما كان يهمها بعد كل شيء.
تمتمت بحدة:-
-لن امنحك ذلك يا حماتي العزيزة، وتلك السردينه النتنه سوف تعود إلى مكانها في مكب النفايات عند عودتي إلى منزلي.
تنهدت في رضا عن قرارها، وانتظرت في ملل عودة إياس لتخبره ذلك بدون أن تعرف مدى انشغاله فعلى عمق أمتار طويلة أسفل المبنى، في القبو، كان يجلس إياس على مقعد خشبي ينفث دخان سيجارته في هدوء مبالغ به ثم انحنى بجذعه إلى الأمام ينظر إلى وجه الرجل الملطخ بالدماء أمامه متسائلا:-
-والآن يا رمزي، ألن تخبرني ما أريد معرفته؟
أجاب بصوت مرتجف النبرات:-
-أنا لا أعرف شيئًا يا باشا، أقسم على هذا.
هز رأسه في رفض وقال باستهجان:-
-لقد بحثنا جيدًا خلف سيدتك، وإلا ما كنت أصبحت ضيفنا يا عزيزي رمزي بالتالي فتلك ليست الإجابة التي أريدها.
أشار برأسه إلى أحد الرجال ليلكمه مرة أخرى ليقول رمزي في هلع:-
-أنا لا أعرف أي شيء لكن...
اعتدل إياس مرددًا:-
-لكن ...
قال بصوت خائف متلعثم:-
- لقد ذهبنا إلى مكان نائي لأول مرة لكنها أخبرتني أن أبقى في السيارة، وتابعت السير وحيدة، وعندما عادت أخبرتني ألا أذكر الأمر لأي شخص.
أومأ مبتسمًا:-
-جيد جدًا يا رمزي، احسنت.
نهض بكسل ثم اتجه إلى الدرج قائلا:-
-فلتعيدوه إلى مكانه لكن تأكدوا ألا يتحدث.
***
كانت تنتظر إياس عاصفة من القرارات المجنون من أخته والتي لم تنتظر إبدائه لأي رد فعل على كلماتها فقد تحولت ملامحها إلى الغضب عندما لاحظت قطرة الدم التي تناثرت سابقًا على طرف قميصه كادت أن توبخه لكن ما أن لاحظ نظراتها حتى عاجلها بقوله:-
-ليس هناك وقت لطريقتك يا صغيرة فدعيني استخدم أساليبي.
في تلك اللحظة تذكرت سبب خلافهما طيلة تلك الأعوام..
غير الموضوع قائلا:-
-هل سوف تفعلين حقًا ذلك؟
أومأت في تصميم ليقول ببرود:-
-إذا كان أنا لكنت قتلتك في اللحظة التي تظهرين بها أمامي.
نظرت إليه بصدمة ليهز كتفه قائلا:-
-الخيانة لا جزاء لها إلا القتل، هذا قانوني.
هتفت في إعتراض:-
-لكنني لم أخونه.
قال باستهجان:-
-هو لا يعرف هذا.
زفرت في ضيق ثم قالت:-
-أنا أرغب في البقاء بقربه، إنها المرة الأولى منذ أعوام التي أبقى بعيدة عنه سواء وأنا مساعدته فقط أو بعد زواجنا.
أشارت إلى هاتفها تتابع:-
-استطيع فقط رؤيته من الصور.
أضافت:-
-كما إنك تحميه لذلك يمكنني البقاء بجواره فقط، لن أفعل أي شيء آخر.
نظر إلى عينيها مستوعبًا لأول مرة التغير الذي أصابها..إنها تحب ذلك الرجل حقًا، لم يستطع منعها فأومأ قائلا:-
-لكن رجل من رجالي سوف يراقبك.
كادت أن تعترض لكن الإصرار في عينيه جعلها تدرك أن شرطه لن يتغير فوافقت.
***
كانت خطواتها واثقة هادئة بينما تقطع ممرات الشركة إلى مكتبها بينما بداخلها كانت ترغب في العدو تجاهه تخبره بحقيقة الأمر لكن يجب أن تصبر وتنتظر إشارة أخيها حتى لا تعرضه للخطر.
جلست خلف مكتبها الذي اشتاقت إليه خلال هذه الأيام التي لم تتجاوز الأسبوعين، وبدأت تنظم الملفات التي تكدست خلال تلك الفترة من الغياب بينما نظراتها لا تتوقف عن النظر في ترقب إلى الباب تنتظر ظهوره فقد هاتفت زميلة لها تتأكد من وجوده اليوم ولم تخلو المكالمة من اسئلة ومحاولات التطفل فاكتفت بالقول إنها اضطرت للسفر وتريد أن تصنع له مفاجأه لكنها لم تستطع أن تجد كذبة لتفسير غيابه عن العمل أو حالته الغريبة عند عودته أمس فغيرت الموضوع وانهت المكالمة تتمنى أن تكون اقتنعت بالجواب وحمدًا لله إن اصابة شفتيها قد شفيت تمامًا حتى لا تجذب النميمة في الشركة.
انتفضت واقفه عندما دخل من الباب، بدت هيئتها الخارجية هادئة لكن دقات قلبها كانت ترقص طربًا لوجوده، اشتاقت إليه كثيرًا.

تأملت في ألم السواد حول عينيه لو بإمكانها أن تلقي بنفسها بين ذراعيه فتضمه إليها وتقبل وجهه حتى لا يترك الألم أي أثر عليه، وكأنه لم يكن، لكنها ظلت واقفه في مكانها تتأمل ذهوله الذي سرعان ما تحول إلى إحتقار.
تقدم منها هاتفًا في هياج شديد:-
-ما الذي تفعلينه هنا؟
كادت أن تغلبها عواطفها لكن ملاحظتها للعلقة من خلفه جعلتها تسترد أنفاسها، وتقول ببرود:-
-أعمل.
نظر إليها بعدم تصديق وغضب بالغ لكن لمسة على ذراعه أثابته إلى رشده، قالت سيلين:-
-لا تنفعل يا عزيزي، فلا نريد أن يعرف الجميع في الشركة أسرار حياتك.
عزيزي!
تلك العلقة القذرة تستفزها، رمقتها بغل تتمنى لو تعرف مقدار التحكم في الذات التي تستهلكه حتى لا تهجم عليها فتمزق خصلات شعرها وتجعلها كدجاجة اُنتزع ريشها.
قالت دارين ببرود لا يمس بصلة إلى الثورة بداخلها:-
-العمل لا صلة له بالعلاقات الشخصية، وأنا بارعة في عملي.
ابتسم قصي بسخرية وقال بلهجة مهينة:-
-أنتِ بارعة في الكثير من الأشياء.
لم يزد عن تلك الكلمات واتجه إلى مكتبه بصحبة العلقة تاركًا إياها تأن في وجع من تلك الكلمات لا لفحواها لكن لألمه المستتر خلفها.
برقت عيناها في تصميم أيًا كان المتسبب في أن تكون في هذا الوضع سوف تمزقه أربًا وتجعله يدفع الثمن غاليًا.
***
بعد دقائق نهضت تحمل التقارير التي تحتاج إلى مراجعته وتوقيعه، وبأقصى ما تمتلكه من مهارة مهنية دخلت المكتب.

حاولت أن تسيطر على ملامحها التي تحمل من الغيرة والبغض الكثير وهي ترى العلقة تقوم بدورها الطبيعي في الإلتصاق بزوجها العزيز، والذي لم يبدو عليه أي ضيق من ذلك القرب أوهكذا ظنت.
-الملفات التي تحتاج إلى المراجعة والتوقيع يا قصي.
انساب اسمه بعفوية بالغة من بين شفتيها لكن كان تأثيره عنيفًا فقد انتفض من مكانه وقال بحزم:-
-من سمح لكِ أن تنطقي اسمي؟
كان السؤال مثيرًا للسخرية في أجواءٍ أخرى لكنه لم يبالي وأضاف:-
-فلتلتزمي بالحدود بيننا.
أومأت في هدوء مصطنع برغم رغبتها البالغة في أن تلعن تلك الحدود وتجذب ربطة عنقه تقبل وجهه الوسيم لكنها اكتفت بأن غادرت بدون أن تنسى أن تلقي نظرة إحتقار على العلقة.
لم تكد تجلس خلف مكتبها حتى رن الجرس يستدعيها فنهضت سريعًا، واتجهت إلى المكتب.
كان قصي غاضبًا منفعلا وصرخ باهتياج شديد:-
-ما تلك التراهات، وهذا الإهمال!
رددت بعدم فهم:-
-إهمال؟!
حرك يده التي تحمل التقارير التي سلمتها له سابقًا هاتفًا:-
-سوف تُعاد تلك التقارير مجددًا.
بدلا من الكلمات خرجت شهقة من فمها عندما اصطدم الورق بوجهها بعدما دفعه في انفعال بالغ.. تساقطت الأوراق أرضًا بينما هي فقد سيطر عليها غضبٌ لم يسبق أن أصابها من قبل.
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت:-
-هل في تلك الثوان تفحصت تلك الأوراق كلها لتحكم أنه يجب أن يُعاد؟!
تدخلت العلقة بصوت لزج، مثلها:-
-لا يجب أن تتحدث المساعدة مع رئيسها بتلك الطريقة.
تنفست دارين بعمق تمنع نفسها من الهجوم عليها، وثبتت أمامه تبادله نظراته لكنه قال بهدوء:-
-إذا كنتِ معترضة، غادري، لا أحد يمنعكِ.
أردف بابتسامة غرضها أن يؤلمها منتهزًا فرصة وجودها ليحصل على انتقامه فقد جائت بقدمها إليه:-
-لا أحد يريدكِ على أي حال.
تحقق غرضه لكنها حاولت أن تتظاهر بعدم التأثر وانحنت في هدوء تلتقط الأوراق قائلة:-
-سوف اراجعها، وأسلمها مجددًا.
لم يرد ولم تنتظر خلاف ذلك..غادرت المكتب تطفر الدموع من عينيها لكنها كانت تعذره فهذا أقل ما يمكن لرجل أن يفعله في موضعه لكنها لا تستطيع أن تتوقف عن الشعور بالألم المضاعف: ألم من ذلك القرب والذي جعلها تشعر ببعد لم يسبق أن شهدته، وألم لانكسار قلبه الثمين.
الصبر، فقط الصبر، وسوف يكون كل شيء على خير ما يرام..



الفصل الثالث

صباح معتاد يرتفع فيه صياح قصي في انفعال شديد وغضب بينما تغادر دارين الغرفة صافعه الباب خلفها، فقد مر أسبوعان على تلك الانفعالات والكراهية التي يصبها فوق رأسها صبًا.
زفرت بينما تلقي بنفسها على المقعد ثم ألتقطت هاتفها، وما أن رد الطرف الآخر حتى عاجلته في انفعال:-
-أخي، متى سوف ينتهي هذا؟
تنهدت ثم قالت:-
-حسنًا.. حسنًا.
أنهت المكالمة وتابعت عملها حتى لا يصب غضبه عليها مجددًا فهي لا تضمن تحكمها في نفسها وألا تواجهه.
لم تشعر بالوقت إلا عندما هاجمها هذا الألم المفاجئ في معدتها، اعتدلت وتقطب جبينها في ألمٍ واضحٍ.. نهضت إلى الحمام، وبعد دقائق خرجت..
لا يمكن لليوم أن يكون أفضل!
جلست على مقعدها ببطء، وتثاقلت أنفاسها في ألم مع كل حركة تفعلها، أخرجت من حقيبتها حبة دواء لكن قبل أن تحصل على فرصة بلعها رن الجرس لتكتم شتيمة كادت أن تفلت من بين شفتيها لو سمعتها أمها لماتت في وقتها على تربيتها التي ضاعت هباءًا. ابتلعت الحبة سريعًا، وتنفست بعمق تحاول أن تخفف من ألمها بدون جدوى.

وقفت أمامه تسمع محاضرة أخرى اليوم عن إهمالها، ورغبته في أن تستقيل.. إلخ
في لحظة ما فقدت الشعور بالواقع كان الألم صعبًا يفوق تحملها ترنحت على أثره.. كان مستمرًا في محاضرته حتى رآها تترنح أمامه وبتلقائية ترك مقعده مندفعًا تجاهها يلتقطها.
هتف بلهفة وقلق:-
-هل أنتِ بخير؟
حاولت دارين أن تستجمع شتاتها وقالت بألم:-
-أنا بخير.
ساعدها على الجلوس، وألتقط سماعة الهاتف يطلب مشروبًا دافئًا من الكافتيريا..
قال بنبرة آمرة:-
-اشربي ثم خذي باقي اليوم أجازة.
كادت أن تعترض لكنه منعها قائلا بنبرة أكثر لينًا:-
-لا تعاندي فأنتِ تعرفين أن تلك الفترة من كل شهر تكون صعبة عليكِ.
صمتت ونظرت إليه في اشتياق فقد إعتادت تدليله لها في ذلك اليوم من بعد زواجهما..حضنه الدافئ ولمساته الحانية فوق خصلات شعرها حتى تنام.
انتزعها من الغرق في موجات الحنين والذكريات صوت الباب..
بدأت تشرب ببطء شديد تريد أن تستمع بجواره الهادىء هذا إلى أقصى حدٍ ممكن، تؤمن إنه كذلك أيضًا فقد بدى أكثر هدوئًا بينما يبادلها النظرات، وكأن الزمن توقف وأي شيء غير تلك اللحظة لم يعد له وجود بل حتى الغد قد انمحى واندثر.. إنه الآن وفقط.
***
لم تعتقد أبدًا إن ذلك الحنان جزءٌ منه عندما رأته أول مرة بل كل ما فكرت به حينئذ إنه ابن أبيه المدلل والذي تولى المسئولية بعد وفاته، وكانت تتعامل على هذا المبدأ برغم إنها أحبت العمل مع والده لكنها لم تعجب بالابن الذي ترك مسئولية العمل على عاتق والده فآمنت إنه مدللٌ.
ابتسمت لذكرى إحدى مواجهاتهما..
قد حدث خطأ في الأوراق وتبدلت، وعاتبها على ذلك لكنها أصرت على موقفها وإنها لم تفعل ذلك.
الموقف مازال في ذاكرتها حيًا حتى إنها تراه أمامها..
قال قصي باستهجان:-
-هل هناك مساعدة لي غيرك هنا؟
حدقته بنظرات غاضبة وقالت بتصميم:-
-أنا لم أبدل الملفات.
زفر في ملل من ذلك الجدال العقيم وأشار بكفه قائلا:-
-حسنًا، يكفي هذا.. أعيدي ترتيبهم.
ألتقطت الملفات بينما تتمتم بغيظ:-
-هذا ما يحدث عندما يتولى ابن أبيه العمل.
لم تلاحظ أن صوتها كان واضحًا أو الفضل لسمعه الحاد فتجمدت مكانها عندما هتف قصي:-
-ما الذي نطقتي به الآن؟
بللت شفتيها وشحب وجهها فبرغم كل شيء كانت بحاجة إلى هذه الوظيفة، وإن تركتها فلن تفعل قبل، على الأقل، حصولها على راتب الشهر كاملا لسداد إيجار المنزل.
نطقت بتردد:-
-لم أقل شيئًا.
كان غاضبًا، وقد أدركت ذلك من ملامحه التي أظلمت وقسوة عينيه..
نطق من بين أسنانه:-
-أنتِ لا تعرفين أي شيء عني، فمن الأفضل ألا تتحدثي فيما لا تعرفينه.
أضاف ببرود:-
-إطلاق الأحكام عادة سيئة.
أومأت في خزي فقد كان محقًا فهي لم تكن يومًا تحكم على الآخرين بتلك الطريقة لكن هناك شيء حوله يجعلها تغضب كثيرًا في كل مرة تراه.
استطرد قصي:-
-أما بالنسبة لما قلتيه فلدي شركتي الخاصة في لندن حيث كنت أدرس.
أضاف بسخرية:-
-يمكنكِ أن تسألي بشأن هذا.
تلعثمت:-
-أنا...
قاطعها:-
-أعيدي ترتيب الملفات سريعًا.
لم تجد مفرًا من المغادرة لكنها شعرت بالخجل من نفسها لمثل هذا التصرف، وصدقها دفعها إلى أن تطرق باب مكتبه مجددًا بعد دقائق لتعتذر.
ما أن دخلت حتى نظر إليها ببرود جعلها تدرك أنه مازال غاضبًا وليس معنى هذا إنه في الأوقات العادية يتأملها بنظرات وَلَهَ لكن أي شيء أفضل من ذلك البرود الثليجي.
اخفضت عيناها وتمتمت بخجل:-
-أنا أعتذر عما قلته، لم يكن من حقي قول هذا.
امتد صمته فرفعت عيناها لتصيبها صدمة، لكنها صدمة حلوة هذه المرة، من تلك النظرة في عينيه.. ذلك البريق الدافئ.
لم تلاحظ ابتسامتها البلهاء التي اعتلت شفتيها بينما تبحر ذاكرتها في أحداث الماضي إلا عندما نظر إليها إياس في تساؤل ساخر؛ فهي على تلك الحالة من الشرود منذ أن عادت مبكرًا من العمل إلى شقته، لتهز رأسها وتابعت ارتشاف مشروبها ثم قالت بصوت ناعم حزين:-
-لقد اشتقت إليه وكأنها أعوام لا أيام.
لم يكن يفهم تلك المشاعر أو لم تكن لها وجود في عالمه لكن أغضبه أن تتألم أخته بتلك الطريقة، وسوف يجد من تسبب لها في ذلك ويعيد سعادتها إليها مجددًا.
***
تغير شيء في علاقتهما بعد رؤيتها لتلك النظرة لتجد نفسها أكثر إرتباكًا في حضرته، وقد كرهت ذلك كثيرًا فحاولت أن تتمسك بقناع من البرود لكنها لم تعمل حسابًا أن يواجهها بمشاعره بذلك الوضوح والصراحة.
دخلت الغرفة بدون تعابير واضحة على وجهها، وضعت الأوراق فوق مكتبه في صمت ثم غادرت كما اعتادت في الأيام الماضية لكن تلك المرة لم يتركها تغادرفاوقفها قائلا:-
-انتظري، أريد أن أتحدث معكِ.
ألتفتت بدون أن تبدي أي تعابير..
أردف:-
-اجلسي.
أضاف بسخرية:-
-أنا لا أعض.
لم تستسيغ سخريته وجلست لكن ارتبكت عندما ترك مكانه خلف مكتبه ليجلس في المقعد المواجه لها بدون أن يبعد عيناه عن وجهها مما ضاعف من ارتباكها.
سأل:-
-ألن تتحدثي؟
أجابت دارين بتلعثم:-
-أتحدث عن ماذا؟!
انحنى بجذعه ليتأمل وجهها قائلا:-
-لماذا تتصرفين ببرود معي في الآونة الأخيرة؟
ارتبكت من ذلك القرب الغير مرغوب فيه، ونهضت سريعا قائلة بارتباك:-
-هذا هو أسلوبي..
أضافت بينما تتجه إلى الباب:-
-لدي عمل الآن.
أدركت أن طول قامته لم يكن للمظهر فقط، فقد أصبح بجوارها في خطوتين يمنع بكفه الباب من أن يُفتح.
أجفلت في إرتباك، وتراجعت إلى الخلف بينما وقف هو موليًا ظهره إلى الباب يسد عليها أي ثغرة للهرب منه.
شعرت بأنها محاصرة أمام نظراته فاتخذت من الهجوم وسيلة للدفاع فعقدت ساعديها أمام صدرها قائلة:-
-لدي عمل الآن، وإلا سوف تتأخر مواعيدك.
ابتسم قائلا:-
-أنا لا أمانع التأخير يا عزيزتي...
أجفلت عيناها في إرتباك بسبب لفظ التودد، وضاقت من نظراته التي تحاول أن تسبر أغوارها منتظرًا أن يسمع إجابة محددة.
هتفت في ضيق:-
-ما الذي تريده مني الآن؟
وقف شامخًا بجسده واقترب منها قائلا:-
-الزواج مثلا؟
جحظت عيناها في ذهول لتتسع ابتسامته مستمتعًا برد فعلها ثم أردف:-
-اجلسي يا عزيزتي، لنتحدث.
شعرت بالخوف فهو يطلب أن يستولي على حياتها، وهي من عاشت وحيدة فترة من الوقت فقالت في ذعر:-
-أنا أرغب في الخروج من هنا.
لم يحاول أن يمنعها وقبل أن تخطو خارج الغرفة قالت:-
-أنا لا أحب تلك الألعاب، لذلك توقف.
لم يرد وتركها تعود إلى مكتبها بأرجل مرتجفة..
ابتسمت بمرح بينما تتذكر شعورها في ذلك الوقت، فقد كرهته أكثر للتأثير الذي يتركه عليها، واعتقدت بعدها أنه سوف يترك الأمر لكنها كانت بلهاء ففي الأيام التالية كان يشدد الحصار عليها بباقات من الزهور كل صباحٍ فوق مكتبها، وكلمات تودد يلقيها بين الحين والآخر ونظراته التي تلاحقها فضاقت ذرعًا من كل هذا، واندفعت بباقة الزهور التي حصلت عليها هذا اليوم تلقيها فوق مكتبه هاتفه في هياجٍ شديدٍ:-
-لقد اكتفيت من كل تلك الدراما التي تفعلها.
قال بهدوء:-
-أنتِ من تفتعلين الدراما الآن يا عزيزتي.
-توقف عن مناداتي هكذا، أنا لست عزيزتك.
أضافت بهياجٍ شديدٍ:-
-أنا لست أي شيء لك.
ابتسم قائلا:-
-لكنكِ هكذا فعلا.
كانت غاضبة للغاية حتى أن الدموع بدأت تطفر من عينيها غضبًا وألمًا، قالت:-
-أنا لن أكون أي شيء لك، هل من الصعب أن تدعني وشأني؟! أنا لست للعب، ولن أتحمل مثل تلك الألعاب لأنك تشعر بالملل ولم تجد غيري أمامك لتعبث معها.
ترك مكانه يتأمل دموعها التي طعنته في قلبه وقال بجدية بالغة:-
-أنا لا أعبث، أريدكِ حقًا زوجة لي.
كلماته التالية جعلت الهواء ينسحب من رئتيها فقد أردف بنبرة عادية وكأنه يخبرها عن حال الطقس:-
-أنا أحبك..
كانت فاغرة الفاه متجمدة في مكانها مما جعله يبتسم بلطف قائلا:-
-أنا حقًا أحبك، لقد عملنا معًا لمدة عام تخللته المشاحنات، وذلك كافي لأن أعرفك وأكثر من كافي لأقع في حبك.
بللت شفتيها وتلعثمت:-
-أنا..أنا...
قاطعها:-
-أعرف إنكِ ربما لا تبادليني مشاعري.
تابع بمكر:-
-لكني واثق إنكِ على الأقل لا تجديني منفرًا.
كان واثقًا من جاذبيته، وكانت لتكون كاذبة إذا أنكرت ذلك؛ فالرجل يكفي أن يمر بجوارها خاصة مع لطفه الذي أصبح يوجهه إليها مؤخرًا لتتسارع دقات قلبها في رقصة دبكة شعبية.
-سوف تحبيني غدًا أو بعد فترة، أنا لا أهتم بالمدة.. سوف انتظر لكن أريد كلمة تربطكِ بي.
ظلت صامته لا تملك جوابًا، وقد تملكتها الصدمة.
قال قصي بتفهم:-
-أعرف أن عائلتك قد توفيت لكني أرغب في أن أكون عائلتك، ومعًا نكون عائلة خاصة بنا، ومع أطفالنا.
*****!
هذا الرجل لا يسير بل يركض تجاهها فقد اعتبر موافقتها موجودة، ويستعد للحصول على *****، وبعد قليل سوف يبدأ في تسميتهم أيضًا.
كانت خائفة قلقة أن تمنح الإذن لشخص أن يكون له سلطة على حياتها بعد أن اعتادت أن تبقى وحيدة، كان الأمر مخيفًا للغاية، وكان يدرك ذلك فقال بثقة:-
-لن تندمي يا دارين إذا وافقتي.
تنهدت بحنان بينما الذكريات الحلوة تمر أمام عينيها، لقد كان محقًا فلم تندم أبدًا، فبعد أن أخذت أجازة أسبوع تفكر في الأمر حتى عادت ليستقلبها بلهفة جعلت رفضه مستحيلا، وما تلى ذلك كان خيالا.. التعرف على أمه التي استطاعت أن تشم رفضها عن بعد لكنه لم يبالي وأصبح يحتضنها كالدجاجة التي تعتني بصغارها.
لقد أيقنت حبها له في شهر العسل، ولم يكن السبب هواء باريس التي جعلها تقضي فيها أجمل أيام حياتها، لكنها فقط نظرت إليه وأدركت وقتها أنه لم يكن الشعور بالأمان الذي دفعها للزواج منه.. لقد كان الحب.
ضمت نفسها تتذكر تلك الليلة عندما اعترفت بحبها له، لقد قالتها ببساطة بينما يجلسون في غرفة الفندق يشاهدون فيلمًا.. فقط نظرت إليه وقالتها ليتأملها ببلاهة جعلتها تبتسم ثم غمرها حبًا، ومنذ ذلك اليوم لم تكن حياتها إلا حلمًا رائعًا معه.
تأملت خاتم زواجها في شوقٍ تتمنى العودة مجددًا إلى حلمها الجميل.

هلا بالعوده





الفصل الرابع

-لقد وجدناه.
ما أن نطق عزام بتلك الكلمات حتى اعتدل إياس واقفًا وأشار له أن يتابع:-
-المكان الذي أخبرنا به رمزي السائق هو مقر لثلاثة عصابات في تلك المنطقة، لقد بحثنا حتى وصلنا للعصابة المنشودة، أحد أفرادها به العلامة التي ذكرتها السيدة.
اتسعت ابتسامته متمتمًا:-
-جيد جدًا.
سأل:-
-أين هو الآن؟
-في المخزن.
نزع معطفه في استرخاء ووضعه فوق المقعد ثم شمر عن ساعديه متجهًا إلى المخزن.. كان الرجل والتي بدت على ملامحه آثار الضرب المبرح ينتفض في خوفٍ وزاد فزعه عندما رأى إياس يقف أمامه شامخًا بجسده.
ابتسم إياس مزهوًا، وقال:-
-يبدو أنه ليس هناك حاجه للتعارف.
بلل شفتيه في خوف بينما يراقب كل حركة يأتي بها إياس في توتر فلم يكن يغيب عن أحد هويته، فهو من أخطر الرجال في عالمهم المظلم بل هو الرئيس يفعل كل شيء إلا المخدرات وتجارة البشر لكنه لن يتردد أيضًا أن يمثل بجسده إذا لم يجيبه عما يريد.
بلل شفتيه ثم همس بتساؤل:-
-لماذا أنا هنا يا ريس؟
ابتسم إياس ببرود وقال:-
-سيلين الرازي، هل تعرفها؟
عقد حاجبيه ثم سرعان ما سره سهولة السؤال، وقال:-
-إنهاعميلة جديدة لدينا.
أردف:-
-لقد دفعت أموالا طائلة مؤخرًا فقط لتهديد امرأه لتبتعد عن زوجها.
أضاف بسرور:-
-عمل سهل، ومال كثير.
كانت نظرات إياس تشتد قسوة بينما يتابع الرجل الكلام، وما أن انتهى حتى قال:-
-إذًا، قد فعلت هذا؟!
أومأ الرجل بينما يراقب بحذر تعبيرات وجهه ثم تسائل:-
-هل الأمر يخصك يا رَيس؟
مد إياس كفه خلف ظهره ونزع سلاحه يتظاهر بتفحصه وتنظيفه قائلا بعدم مبالاه:-
-المرأه التي فرقتها عن زوجها تهمني.
رفع عينيه إليه بينما يستطرد:-
-ولك أن تتخيل ما الذي يجب أن أفعله بشخص أحزن من يهمني.
ارتجف جسده في خوف، وسرعان ما أطلق صرخة ألم عندما انطلقت رصاصة من سلاح إياس لتصيب ساقه.
-الآن، هل أنت مستعد لبيع عميلتك؟
برغم الألم الذي يمنعه من التفكير السليم إلا أنه تردد فهذا سوف يضر بأعماله ويبعد العملاء عنه لكن ما أن صوب إياس المسدس تجاهه مجددًا حتى أومأ سريعًا قائلا:-
-سوف أفعلها.
ابتسم ببرود:-
-رائع.
أردف:-
-الأهم الآن، كيف سوف تفعل هذا؟!
عض على شفتيه في ألم وتصبب عرقًا بينما يتلعثم:-
-لقد سجلت كل شيء خوفًا من حدوث أمرٍ خاطئ.
لم يكن ليكون أكثر سعادة فاتسعت ابتسامته، وأشار إلى عزام قائلا:-
-تابع الأمر، واحرص على أن ينتهي اليوم.
أومأ عزام في طاعة ليترك إياس الأمر له؛ فقد كان عزام ذراعه الأيمن منذ زمن، قليل الكلام..كثير العمل.. مطيع، وهذا هو المطلوب في عملهم.
وضع سلاحه مكانه في الحزام حول خصره، وألتقط هاتفه يخبر دارين بالخبر الجيد متأكدًا أنها قد ترغب في أن تشهد القبض على سيلين فالتهديد بالقتل لا يمر بسهولة هذه الأيام.
***
صرخت سيلين في هلع:-
-أبي، هل سوف تتركهم يأخذونني؟
أردفت في انهيار:-
-أنا لم أفعل أي شيء.
توقف الزمن فجأة أو هكذا خيل لها حتى أن دقات الكعب العال الرتيبة كانت مسموعة لها وكأنها ضوضاء عالية، اشتعلت عيناها في غضب وامتقع وجهها عندما ظهرت أمامها عند باب الغرفة في بدلة حمراء وكأنها وشاح تلوح به أمامها فتثير غضبها أكثر.

انتفضت تهجم عليها وتلك العينين الباسمتين الساخرتين تشعلان نيرانها، وتحفزانها لارتكاب أبشع الجرائم ، صرخت في جنون:-
-لماذا لا تنتهين؟ أنتِ لا تستحقينه إنه لي، ملكي... أنتِ أيتها الحقيرة لا تستحقينه، لم تستحقينه أبدًا.
لم تنتبه لنداء والدها المكتوم باسمها، وتابعت تصرخ:-
-إنه لي ملكي، أنا من استحق الحصول عليه لا أنتِ.
كتفها الضابطان جيدًا أمام انهيارها ومحاولاتها للتملص منهما، وراقبا السيدة تبتعد عن الطريق بخطوات بطيئة ونظراتها لا تحيد عن سيلين، وما أن أصبحوا بجوارها حتى قالت دارين بهدوء يناقض التحذير في عينيها:-
-لقد كان دائمًا لي، هذا القلب لم تلمسه أمرأة غيري، ولن تفعل أبدًا.. فكري في ذلك جيدًا في الطريق، اجعلي تلك الكلمات تثير جنونكِ، فلتفقدي عقلك بينما تتخيلين حياتنا معًا..
أضافت تصطنع الخجل:-
-وربما مع طفلين أيضًا.
صرخت سيلين بجنون وحاولت الهجوم عليها لكن الضابطان احكما مسكها بينما ينظران إلى دارين في لوم لكنها لم تبالِ، وظلت محتفظه بابتسامتها بينما تراقبها تغادر معهما مجرورة ذليله كما خرجت هي من منزل زوجها.

ما أن اختفت من أمامها يلحقها والدها الملكوم في ابنته حتى اختفت ابتسامتها، وقد أدركت أن أمامها مهمة أصعب لكن سارة في نفس الوقت لذلك غادرت المكان واتجهت إلى شركته.
***
لم يبد عليه أي تأثر حتى إنها شكت في أنه سمعها حتى قال بسخرية:-
-إذًا لقد فعلتي كل هذا من أجلي، وبسبب تهديد؟
وقفت تواجهه وقالت بكبرياء وصدق:-
-لا، لم يكن لأجلك.
راقبت الحيرة في عينيه قبل أن تختفي خلف جدار البرود الذي يدعيه فأضافت بصدق:-
-لقد كان من أجلي.
تابعت:-
-لقد أردت حمايتك ولم تكن لتتركني بدون أن أتسبب في ألمك، وما كان بوسعي تركك لحماية حياتك إلا إذا تركتني أولا.. خفت أن أضعف فوجعتك حتى لا ترغب في وجودي فبذلك استطيع الأبتعاد عنك.
كانت قبضتها مشدودة تحت تأثير اسئلته البارده وقد لاحظ ذلك لكن لم يبالي فهو لن يُخدع مجددًا، هو ليس بأحمق.

قال ببرود:-
-أنتِ كاذبة.
ضمت قبضتها هذه المرة غضبًا، وتطاير الشرر من عينيها، رددت:-
-كاذبة؟!
أومأ بابتسامة ساخرة، إنها تحاول خداعه حتى النهاية لكنه لم يعد الغر الذي يقع تحت تأثير حيلها.
قالت بغضب:-
-لا أهتم برأيك.
بظاهر كفها كفكفت دموعها التي انهمرت في غفلة منها، وأضافت في اندفاع:-
-لم أقل غير الحقيقة، تصديقك أو عدمه لن يغير من الحقيقة شيئًا.
اتجهت إلى باب الغرفة لكن قبل أن تحرك المقبض، نظرت إليه وقالت بنبرة عادية تلقائية:-
-أنا أحبك، لقد أحببتك دائمًا وسأظل أحبك مهما حدث لن يتغير شيء.. في الغد أو بعد عام أو بعد عقد..مشاعري ثابتة وصادقة.
غادرت الغرفة تاركه إياه تتسارع أنفاسه ويضم قبضته في عنف، لن يُخدع مجددًا.. لن تخدعه ألاعيبها، ولن يقع تحت تأثير سحرها.. إنها تحاول أن تخدعه لكنه لن يفعل..
إنها تلاعبه بورقة الحب!
هز رأسه في رفض، مستحيل إنها أحبته فمن مثلها لا يعرفون الحب، إنها كاذبة.

أخرج محفظته وتلك الصورة التي لم تفارق مكانها منذ زواجهما، وتأمل وجهها المخادع وعيناها الكاذبتان.. بالطبع لم تحبه أبدًا بل ربما افتقدت عيشة الثراء الذي عاصرتها معه.
ألقى الصورة أرضًا في غضب، المخادعة، واتجه ليغادر لكنه توقف قليلا ثم عاد وألتقطها برفق وأعادها إلى مكانها في محفظته مرددًا بصوت خافت:-
-إنها مخادعة كاذبة، ولن أقع في شركها مجددًا.
***
عاد إلى المنزل بعد أن تجول بالسيارة لفترة طويلة منذ الصباح، ولم يذهب إلى العمل؛ فالأفكار لم تتركه أبدًا منذ البارحة.

لن يسمح لها أن تخدعه مجددًا فلقد استسلم بالفعل لحقيقة أن رجل مثله قد خُدع في الحب مجددًا، وها هي أكدت ظنونه بعدم قدومها إلى العمل اليوم كما عرف بالإتصال بأحد موظفيه ليتولى العمل مكانه، لابد من أنها أدركت البارحة من رد فعله عدم جدوى الاستمرار في خداعه.
أوقف سيارته أمام المنزل وكل ما يرغب به هو الذهاب الى غرفته، والبقاء وحيدًا لكن كل هذا تبدد فما أن دخل حتى اسرعت أمه إليه تهمس:-
-أحمد الرازي هنا، ويرغب في رؤيتك.
رفع حاجبه تعجبًا لتلك الزيارة الغير متوقعة، أردفت سوسن:-
-لا يبدو بحالة جيدة.
لم تكن والدته تكذب، فقد كان بحالة أكثر من سيئة، وكأن العمر تقدم به منذ آخر مرة رآه البارحة صباحًا أثناء مغادرته المكتب، كان شاحبًا بينما انحنى منكبيه في ضعفٍ، قال:-
-هل يمكن أن نتحدث في مكتبك؟
أومأ قصي والحيرة في نظراته.. في غرفة المكتب تبدد ثبات أحمد الرازي، وذعر قصي عندما بدأت دموعه تنهمر برغم محاولاته للتماسك، وقال:-
-لقد جئت لأعتذر إليك على ما ارتكبته ابنتي في حقك.
لم تختفي الحيرة من نظراته، وردد:-
-ابنتك؟!
استطرد بدون أن يلاحظ أن قصي ليس لديه أدنى فكرة عما يتحدث عنه:-
-لقد دللتها كثيرًا بعد وفاة والدتها، ولم أتوقع أبدًا أن ترتكب مثل تلك الفعله.
رفع أعين دامعة مليئه بالخزي قائلا:-
-لقد استغللت علاقاتي وأموالي لأخرجها، وسوف أحرص على أن تبقى بعيدة عنكما، وسوف أعاقبها.
أضاف:-
-لن أطلب أبدًا أن تسامحها بل سوف أرضى بعقابها في السفر إلى أمها دائمًا، وعقابي معها سيكون بفراقها.
انعقد حاجباه وقال في حيرة حقيقية:-
-أنا حقًا لا أعرف عما تتكلم.
جاء دور أحمد الرازي ليتعجب، وسأل:-
-ألم تخبرك زوجتك؟!
-زوجتي؟!
تضاعف خزيه، وقد طفق يقص ما حدث، وما ارتكبته ابنته في حق الزوجين، وبعدما انتهى لم يستطع أن يواجه قصي، اكتفى بأن أشاح بوجهه وتمتم في ضعفٍ:-
-أنا آسف حقًا.
غادر المكتب، ولم يجد أي كلمات أخرى يستطيع أن يعبر بها عن مدى أسفه..
ضوضاء عالية، هذا ما يمكن أن يصف به أفكاره، لم يستوعب ما سمعه وبتلقائية ألتقط هاتفه يتصل بها، يريد أن يعرف هل أخبرته الحقيقة حقًا؟! وهي لم تخونه، أكانت صادقة في قولها بأنها فعلتها من أجله لأنه تم تهديدها بقتله؟!
كان انتظار صوتها على الهاتف طويلا للغاية حتى كاد ييأس من ردها، فربما ترفض التحدث معه بعد أن صدها بتلك الطريقة لكن الصوت الذي أجاب لم يكن يخصها بل صوت رجولي يقول ببرود:-
-دارين مشغولة، سوف تتحدث معك لاحقًا.
كاد أن يتكلم لكن سماعه لصوتها يأتي هاتفه بحنق:-
-إياس! لماذا تستخدم هاتفي؟
-لقد قضيتي عمرًا تستحمين، وتلك الطريقة الملائمة لأجعلكِ تخرجين.. فهذا منزلي كما تعرفين.
لم ينتظر لسماع المزيد، وانهى المكالمة.. كانت قبضته تضغط بقوة على الهاتف، والغضب على ملامحه تجاه نفسه الحمقاء وتجاه تلك الخائنة.. ربما ارتكبت سيلين خطأ لكن يبدو أن دارين لم تكن بحاجة إلى أي تشجيع لتخونه مع آخر.
نهض من خلف مكتبه يعض على شفتيه في غيظ، لن يسمح لها أن تخدعه أبدًا، لقد انتهى الأمر، وإذا امتلكت من الوقاحة ما يجعلها تظهر أمامه مجددًا سوف يحرص على أن يجعلها تعرف هذا.
***
في الماضي كانت لتلعن المرأة التي تتخلى عن كبريائها مجددًا لتقف أمام شركة الرجل الذي أوضح أنه لا يرغب في رؤيتها لكنها تغيرت وتؤمن أن معرفته بخبر القبض على سيلين سوف يدفعه إلى تصديقها خاصة إنها لم تخبره عن السبب وراء تهديد القتل خوفًا ألا يصدقها؛ فأحمد الرازي شريكه منذ وقتٍ طويلٍ وكان صديقًا لوالده من قبل فأرادت أن يعرف الحقيقة منه أولا، وبعدما أخبرها إياس أن رجله أبلغه بزيارة أحمد الرازي لقصي أمس حتى استعدت لتذهب إليه واثقة أنه سوف يصدقها، ومن ثم سوف تعود معه إلى المنزل وإلى أحضانه.
بتلك الحماسة دخلت الشركة واتجهت مباشرة إلى مكتبه، نظرت بعدم رضا إلى مكتبها المليء بالملفات وسرعان ما تجاهلت الأمر واقتحمت المكتب ترغب في مفاجأته، فهي تدرك أنه لابد بعد معرفته بالحقيقة مازال يفكر في طريقة مناسبة لإرجاعها.
كم هي زوجة رائعة، وقد أزالت ذلك الحمل من عليه، وعادت إلى أحضانه سريعًا!
في السابق كانت لتبغض مثل هذا التصرف لكنه غير كثيرًا من الأشياء في حياتها بكونه شخص يستحق الثقة، يقف بجوارها ويساندها.
اتسعت ابتسامتها عندما رأت الدهشة على ملامحه لرؤيته لكن سرعان ما تحولت الابتسامة إلى إحباط ومن ثم إرتباك عندما لم تجد الاغتباط الذي توقعته منه بل كان أقرب للإحتقار.
ربما يُخيل لها أو إنها تخادع نفسها بكل إدراك لكنها استمرت قائلة:-
-لقد عدت..
ابتسم بدون أي مشاعر قائلا:-
-أجل، لقد فعلتي.
أضاف:-
-كنت سوف أهاتفكِ.
هتفت بلهفة:-
-حقًا؟
استطردت بمرح:-
-لقد كنت أعرف هذا.
تابعت:-
-فعندما هاتفتني أمس حاولت أن أعاود الإتصال لكنك لم ترد لذلك جئت..
توقفت عن المتابعة وتجمدت في مكانها، آصابها صمم؟!

بادرت بالكلام لكنه قاطعها مرددًا:-
-سوف أطلقكِ.
بللت شفتيها بينما تنظر إليه ببلاهة، وهمست:-
-ما الذي تقوله؟!
استرخى في مقعده قائلا:-
-كما سمعتي، لقد انتهى الأمر.
أردف:-
-ويمكنكِ الآن أن تعيشي حياتكِ، وتتخذي عشيقًا أو أكثر كما...
لم يتابع، وقد تردد في الغرفة صدى لطمتها له..

صر قصي على أسنانه قائلا:-
-من حسن حظكِ إنكِ امرأةٌ.
رمقته في خذلانٍ وقالت:-
-أنا لا أفهم، ما الذي حدث؟ ألم تعرف حقيقة ما حدث بعد؟!

أضافت بحيرة:-
-لقد تم القبض على...
قاطعها بحدة:-
-أنا لا أهتم..
أضاف بعدم مبالاه بينما يتظاهر بالعمل:-
-يمكنكِ المغادرة، فأنا مشغول.
ظلت لحظات تنظر إليه بدون أن تراه حقًا، وقد أصبح العالم في عينيها ضبابيًا، ألتفتت تجر أذيال خيبتها، تطفر الدموع من عينيها.. لقد انتهى الأمر، استخرطت في البكاء بينما تعبر الطريق ثم ظلام تام..


الفصل الخمس والأخير

كانت ترغب كثيرًا في النوم لكن ذلك الألم الذي يضايقها بين الحين والآخر دفعها إلى فتح عينيها ببطء شديد، كانت قمة رأسه أول ما وقعت عيناها عليه، ركزت قليلا وبدأت تشعر بثقل جسدها وبكفها تحت قبضته بينما رأسه يستند على حافة الفراش بجوارها.
ما الذي تفعله هنا؟!
حاولت أن تستجمع أفكارها فآخر ما تتذكره هو خروجها من الشركة...
الشركة!
استعادت كلماته مجددًا لتتحرك سريعًا ترغب في الإبتعاد عنه، وجذبت يدها بعيدًا عن لمسته لكنها لم تحسب حسابًا لذلك الألم الذي أصاب جميع أنحاء جسدها.. أنّت في ألم لينتفض مستيقظًا.
تبدد كل غضبها وسخطها عندما نظرت إلى وجهه، وبدون وعي هتفت:-
-ما الذي حدث لك؟
كان في حالة يُرثى لها، شعره أشعث، ثيابه مجعدة وعليها قطرات من الدماء الجافة أدركت إنها سببها.
شهقت في دهشة عندما جذبها إلى أحضانه، حاولت أن تعترض لكنه لم يسمح لها وبدأ يلثم بفمه كل مكان في وجهها متمتًا:-
-إنكِ بخير.
-يا هذا، امسك نفسك قليلا، فقد استعادت وعيها الآن فقط.
انتفض من مكانه يحاول أن يتماسك لتتأثر من رؤية الدموع السجينة في عينيه، نظرت بعدم فهم إلى أخيها ثم عادت بنظراتها إلى قصي، ما الذي حدث وكيف توصل هذان إلى معرفة بعضهما البعض؟!
قال قصي سريعًا:-
-سوف أحضر الطبيب.
راقبته يغادر، ونظرت إلى إياس الذي ابتسم مربتًا على كفها قائلا:-
-مرحبًا بعودتكِ يا صغيرة.
تمتمت:-
-ما الذي حدث، وكيف عرفك؟
-إجابة السؤال الأول، لقد تعرضتِ إلى حادثٍ، وأحضركِ هو إلى هنا ثم أجاب على هاتفك عندما اتصلت، أما بالنسبة لتعارفنا السلس...
اتسعت ابتسامته مضيفًا:-
-لقد تحدثنا بلطفٍ.
لم يكذب حقًا فاللكمة التي وجهها له تعد مداعبة بالنسبة لأسلوبه المعتاد..تذكر عندما هرع إلى المشفى بعد أن أخبره بالحادث، وكان أول ما فعله أن لكمه ثم اشفق على انهياره خاصة بعدما ردد أنه لا يبالي إن كانت لآخر يكفي أن تعيش.
اشفق عليه كفاية ليخبره الحقيقة مجددًا، ويؤكد أنها لا تعرف غيره، ولن تعرف، فأخته امرأةٌ لرجل واحد.
سألت بصوت ضعيف:-
-هل يعرف إنك أخي؟
أومأ ثم أردف:-
-لقد أخبرته إني سافرت طويلا بسبب مشاكل عائلية، ولم أعود، وإنكِ لم تخبريه عني بسبب غضبكِ مني لاختلافات قديمة بيننا.
أومأت في إرتياح، وبرغم محاولاتها أن تظل مستيقظة إلا أنها نامت، ولم تشعر بقدوم الطبيب وطمأنته لهما أوالقبل التي كان يطبعها قصي على كفها ووجهها بين الحين والآخر، ولم تشهد نظرة الحب التي كان يتأملها بها أو ضحكته الرائعة عندما هتف إياس في إحتقار:-
-فلتذهب لتستحم وتبدل ثيابك فحتى القطة سوف تشمئز من النظر إلى وجهك، وهو بهذا الشكل.
***
كانت تتحاشى رؤيته بعد استيقاظها، ومازالت تشعر بالغضب تجاهه لأنه لم يثق بكلماتها وانتظر أن يخبره إياس ليصدقها.
كان هذا غير عادلٍ خاصة إنها من قادته إلى عدم الثقة بها بتلك المسرحية التي فعلتها لكنها تمنح العذر لنفسها؛ فهي أنقذت حياته.
لقد كانت دائمًا صادقة مع نفسها لكن في تلك اللحظة لم تبالي بكم بدت مدلله بينما تتجنبه، وإذا حدثها تجاهلته واكتفت بالتحدث مع إياس، وفي المساء كانت تتظاهر بكرهها لبقائه معها، وسرًا تتأمل ملامحه أثناء نومه.
بعد أسبوع من التظاهر والإفتعال لم تلاحظ إشارته إلى إياس أن يخرج، كادت أن تتوسل ألا يتركها معه فبرغم كل شيء إنها لا تشعر بالثقة من وجودها وحيدة معه أثناء النهار.
عقدت ساعديها أمام صدرها، وأشاحت بوجهها عنه..
ابتسم على حركتها الطفولية، وجلس على حافة الفراش، وبرغم شعورها به إلا أنها لم تلتفت وانكمشت على نفسها أكثر حتى لا يلامسها.
انتظرت أن يتحدث لكن انطلقت منها شهقة دهشة عندما أمسك كتفها يجبرها أن تواجهه، وبدون أي كلمة أخذ قصاصه من شفتيها، حاولت أن تقاوم لكنها اشتاقت إليه ولم تشعر إلا بيديها تحتضنه في شوقٍ.
ابتعد عنها بعدها لتخفض عينيها في خجلٍ لتتسع ابتسامته ويلامس وجنتيها هامسًا:-
-لقد اشتقت إليكِ كثيرًا.
نظرت إليه وأجابت بتلقائية:-
-وأنا أيضًا اشتقت إليك كثيرًا.
سرعان ما انتبهت إلى اندفاعها فأضافت بضيق ولوم:-
-هل انتظرت حتى يخبرك إياس الحقيقة لتصدقني؟
تنهد ثم ألتقط كفها بين راحتيه وقال:-
-كما احتفظتي بسر وجود أخٍ لكي، أنا أيضًا لم أخبرك شيئًا بخصوص الماضي.
اعتدلت في انتباه فقص:-
-لقد خطبت فتاة قبلكِ، لم أحبها حقًا لكني أردت أن ينجح الأمر بيننا؛ لقد رغبت في تكوين أسرة.
اسودت ملامحه بيما يردف:-
-لقد خانتني، وكانت وقحة كفاية لتقولها أمام عيني.. أني لم أكن كافيًا لها.
شهقت وقد أدركت كم بدى تمثيلها تلك الليلة إعادة تجسيد للماضي، شددت من قبضتها على كفه، وهمست:-
-أنا آسفة حقًا.
أردفت مبرره:-
-لقد اضطررت لفعل هذا.
أومأ في تفهم، وقال مبتسمًا:-
-لا بأس، لقد فهمت كل شيء الآن.
استطرد:-
-أنا أعتذر حقًا من أجل جرحكِ ذلك اليوم لكن..
تردد قليلا ثم قال:-
-عندما أجاب إياس على هاتفكِ أصابتني الظنون وأثارت شجوني.
برقت عيناها في فهمٍ، لهذا تصرف هكذا، لم تعتقد قط إنه قد يشك في أن إياس يعني لها شيئًا.. لقد كانت حماقة منها ألا تفكر في هذا.
هز رأسه قبل أن تتحدث وقال:-
-دعينا ننسى كل شيء الآن.
سألته بقلق بينما تبرق عيناها في ترقب:-
-هل تثق بي الآن؟
لثم كفها وقال مبتسمًا:-
-دائمًا.
لم تملك أن تمنع الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها ثم اندفعت بجزئها العلوي تحتضنه بقوة كادت أن تلقيه أرضًا من فوق الفراش لكنه تماسك واحتضنها في لهفة.
بقيا على تلك الحالة مدة من الوقت فقدا حسابها ثم همست بدون أن تترك أحضانه:-
-لقد اشتقت لهذا كثيرًا.
ابتعدت لتكون في مواجهته وانهمرت دموعها بينما تقول:-
-لقد شعرت بغربة شديدة وأنا بعيدة عنك، أنت هو منزلي بدونك أشعر بالوحدة والضياع.
أحاط وجنتيها بكفيه واقترب بوجهه منها...
انتفض كلاهما عندما ارتفع صوت متبرمًا من خلفهما:-
-اللعنه على هذا، أليس لديكما منزل؟!
ابتعدت عنه في خجل وتوردت وجنتيها تحت تأثير نظرات أخيها المستهجنه بينما قصي فقد ابتسم بمرح وقال بوقاحة:-
-زوجتي..
-زوجتك في المنزل.
ثم أضاف بنفاذ صبر:-
-فلتأخذها إلى منزلكما قبل أن نُطرد من المشفى بسببك.
ضحك وأحاط كتفها في حبٍ لتبتسم بخجل، وترمق إياس في توبيخ ابتسم على أثره في سخرية.
***
-هل أنت مستعدة للمغادرة؟
تنفست في إرتياح وقالت:-
-أخيرًا، البقاء هنا أرهق أعصابي.
قال إياس مبتسمًا:-
-يجب أن أغادر، هل سوف تكونين بخير؟
نظرت إليه بأسف لمغادرته قائلة بإمتنان:-
-شكرًا من أجل كل شيء.
ربت على كتفها، وقال مبتسمًا:-
-مازلتِ أختي حتى إذا اختلفنا.
أومأت ثم احتضنته بقوة لتتأثر ملامحه ويضمها برفق ثم ابتعد مبتسمًا ولامس وجنتها بأنامله وقال:-
-كوني بخير يا صغيرة.
أومأت ولم تستطع منع الدموع في عينيها بينما تراقبه يغادر، لا تعرف موعد لقائها به مجددًا.
دخل قصي ليتسائل في قلق بعدما رأى دموعها:-
-ما الذي حدث؟
هزت رأسها ثم قالت بحزن:-
-لقد غادر إياس.
تسائل بحيرة:-
-إلى أين؟
أجابت بشرود:-
-لديه عمل.
أومأ في تفهم وضمها إليه في مواساة قائلا:-
-لا تحزني سوف يزورنا كثيرًا في منزلنا.
ثم تسائل:-
-ما عمل إياس؟
ماذا سيكون رد فعله إذا أخبرته أن إياس العزيز تاجر سلاح؟! بدى الأمر ساخرًا وربما مضحكًا في موقفٍ آخر لكنها بللت شفتيها وقالت كاذبة:-
-إنه يمتلك أعمالا خاصة.
حسنًا، لن تخبره اليوم.. ربما في وقتٍ ما، بعدما يتوقف إياس وينصت إليها ويطيعها مبتعدًا عن هذا الطريق حينها سوف تخبره، وعسى أن يكون ذلك قريبًا.
لم يهتم قصي بالأمر كثيرًا، وأبعدها يتأمل وجهها ثم قال مبتسمًا:-
-مستعدة للعودة إلى منزلنا؟
أومات بسعادة وقد شعرت أن بإمكانها التنفس براحة أخيرًا، لم تفكر في أي شيء إلا وجودها معه لكن ما أن لاح المنزل أمام عينيها وتوقفت السيارة أمام الباب حتى تذكرت كابوسها: "سوسن هانم"، والتي لابد إنها سوف تقيم الأرض ولا تقعدها على عودتها.
فغرت فاهها في ذهول عندما وجدتها تقترب بابتسامة مصطنعة فوق ثغرها قائلة:-
-الحمد لله على سلامتك يا دارين.
وكزها قصي وقد طال صمتها فأسرعت تجيب:-
-شكرًا يا خالة.
كانت تلك حركة خبيثة منها فهي تعرف كيف تكره أن تناديها خالة لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها عن مشاكستها، لاحظت محاولات قصي أن يمنع ضحكته بإخفائها خلف سعال ثم قال:-
-هل كل شيء جاهز؟
مطت سوسن شفتيها، وأومأت بينما تقول بضيقٍ واضحٍ:-
-لم يكن هذا ضروريًا يا قصي.
قبل جبينها قائلا:-
-إنه للأفضل.
نظرت دارين إليه في تساؤل ليتجاهل ذلك، ويجرها معه إلى الدور العلوي حيث جناحهما، وما أن أصبحت أمام الباب حتى فكرت في تلك الليلة.. الخوف والضياع الذي شعرت بهما، لاحظت شرود قصي أيضًا فابتسمت تشدد من قبضتها على كفه ليبادلها الابتسام ثم فتح الباب وأشار لها أن تدخل.
شهقت وقد تغيرت الغرفة تمامًا من أثاث وديكور، نظرت إليه في تساؤل ليقول:-
-التغيير جيد خاصة أننا لن نستخدمها كثيرًا.
أخرج مفتاح ووضعه في كفها ثم جذبها تجاه الشرفة، وأشار إلى البيت المقابل:-
-ما رأيك في منزلكِ؟
اتسعت حدقتيها وألتفتت إليه في عدم تصديق تردد:-
-منزلي!
أومأ قائلا:-
-لقد كنت أخطط لهذا منذ وقت، لن استطيع ترك أمي وحيدة، وفي نفس الوقت من حقكِ أن يكون لكِ منزل خاص.. مملكتك الخاصة.
اغرورقت عيناها بالدموع ثم أحاطت خصره بذراعها، واستكان رأسها فوق صدره، ولم تجد كلمات تعبر عن إمتنانها وسعادتها.
أغمضت عيناها، وتنفست بعمق تستنشق رائحته، وقد قتلها الشوق إليه..
فتحت عيناها عندما همس بمكر:-
-هناك غرف نحتاج إلى تجربتها في منزلنا الجديد.
ابتسمت وتظاهرت بالتفكير بينما تنظر الى المنزل الضخم قائلة:-
-هناك الكثير من العمل الشاق.
-أنتِ محقة، إنه عملٌ شاقٌ فعلا.
حملها بين ذراعيه قائلا:-
-ربما نبدأ بتلك الغرفة أولا قبل الذهاب للمنزل.
لم تعترض ولم ترغب في الإعتراض أبدًا، فقد اشتاقت إليه وإلى اتحادهما سويًا، أن يكون كلاهما معًا فقط بدون أي دخلاء بينهما..
انتظروا الخاتمه

الخاتمة

-إياس، توقف عن مضايقة القطة.
زفرت في ضيق بينما ترى طفلها ذو الخمسة أعوام يطارد القطة بينما يحمل مسدسه المائي.
هتفت مجددًا:-
-إياس حبيبي توقف عن تغريق القطة بالماء.
أي حماقة ارتكبتها لتسمي ابنها على اسم أخيها، هل فقدت عقلها؟!
نظرت إلى ابنها والذي مازال يطارد القطة في الحديقة، وتمتمت بغيظ:-
-سوف اقتلك يا إياس إذا أصبح ابني نسخة منك.
-ما ذنبي حينها يا صغيرة؟
ألتفتت سريعًا إلى إياس فلم تشعر باقترابه أثناء مراقبتها لإياس الصغير..
-خالو إياس!
هرع إياس الصغير إلى خاله الذي تلقاه، يحمله بين ذراعيه متسائلا:-
-كيف حالك يا بطل؟
أخرج مسدسه قائلا:-
-أنا أحمي الحديقة.
ضحك إياس بمرح وقبل جبينه قائلا:-
-أحسنت العمل، فالحديقة تحتاج إلى تأمين.
أنزله أرضًا ليتابع لعبه بينما نظر الى دارين التي ترمقه في غضب، فقال:-
-ما ذنبي الآن؟
مطت شفتيها في عدم رضا، وقبل أن تتكلم جاء قصي متسائلا:-
-ما الذي أزعج زوجتي؟
أجاب إياس بسخرية:-
-هل يجرؤ أحد على إزعاجها فذلك تخصصها؟
رمقته بتوبيخ، واتجهت إلى قصي الذي احتضنها بحنان، وقبل جبينها لتبتسم قائلة:-
-مرحبًا بعودتك.
أردفت تخاطب إياس:-
-سوف تأكل معنا، ولا نقاش في ذلك.
أومأ في انصياع مصطنع ثم ابتسم ساخرًا لهمس قصي:-
-مستبدة.
ابتعدت عن قصي ورمقت كلاهما في غضب ثم قالت بنبرة آمرة:-
-فلتعتنوا بإياس حتى أتأكد من تحضير الطعام.
بعد دقائق خرجت من المطبخ على صوت إياس يهلل لقدوم جدته، والتي ما أن رأته حتى أخذت تغرقه بقبلاتها وحبها.
ابتسمت دارين قائلة:-
-مرحبًا يا أمي.
قالت سوسن مبتسمة:-
-مرحبًا يا دارين.
لم تصبح العلاقة بينهما في قمة المثالية لكنها على الأقل جيدة خاصة بعد مولد إياس، وقد طارت سوسن به سعادة وفرحة، أول حفيد لها، وصبت حبها ومشاعرها كلها عليه.
اجتمع الجميع حول مائدة الغذاء، نظرت إلى سوسن المنشغله بإطعام إياس الصغير بينما أخيها فقد كان يأكل بينما يتحدث مع قصي في أمورٍ عامة..
مازال إياس متمسكًا بتجارة السلاح معللا أن من يتلوث في ذلك المستنقع لا يستطيع الخروج منه مجددًا لكنها تأمل أن يخرج منه يومًا ما خاصة إنه أصبح أكثر قربًا منها، ولم يعد باستطاعتها أن تبعده مثل السابق لكنها لن تتوقف أيضًا عن نصحه ليبتعد عن هذا الطريق.
عمل إياس هو السر الوحيد الذي تخفيه عن قصي لكن عذرها أنه ليس سرها ولا يمكن أن تبوح به لذلك حرصت على إخفائه جيدًا فلن تخاطر بأي شيء يفسد العلاقة بينها وبين قصي، وكذلك يفعل إياس حتى لا يؤذي زواج أخته.
تشعر أحيانًا بالذنب لأخفائها تلك الحقيقة عنه لكن سرعان ما تتراجع وتضاعف من جهودها لتغيير إياس لعله يتراجع عن ذلك الدرب حتى تشعر بالسلام في حياتها.
اعادت نظرها إلى إياس الصغير، المعجزة التي غيرت الجميع من حولها، فإياس أصبح قريبًا منها، كثير الورود عليها، وسوسن أصبحت ألطف..
همس قصي:-
-أين شردتي؟
هزت رأسها، وقالت مبتسمه:-
-كم هي عائلة جميلة تلك التي نمتلكها!
قال بنبرة ذات معنى:-
-لكن ينقصها فرد صغير آخر.
لم تخجل من أن تقول بصوت أجش:-
-لا استطيع أن أرفض.
اتسعت ابتسامته، وتابع تنازل الغذاء يستعجل وقت انفرادهما بينما هي فقد نظرت إلى إياس وسوسن تتأكد أنهما لم يلاحظا همسهما ثم تابعت الأكل بدون أن تدرك ابتسامة إياس الساخرة فمن الصعب ألا يلاحظ مغازلاتهما خاصة ودارين تتلفت كاللصوص لتتأكد أن أحدًا لم يسمع.. أخته البريئة الشفافه كالماء النقي في عينيه.
في وقت متأخر من الليل تحقق لقصي ما أراده وبعد بضعة أشهر حملت دارين في رحمها جزءًا منه وأخت لإياس، فها هي عائلتهما تكبر ببطء ومعها تتضاعف سعادتهما وامتنانهما على تلك النعمة التي وهبها **** لهما.

تمت
الـــــــــكوهـــــــــينور
رائعة
 
  • عجبني
التفاعلات: Adam 1

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%