NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول فانتازيا وخيال عربية فصحى إيكادولي (للكاتبة حنان لاشين) | السلسلة الأولى | خمسة وعشرون جزء 1/12/2023

ناقد بناء

مشرف قسم التعارف
طاقم الإدارة
مشرف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
إنضم
17 ديسمبر 2021
المشاركات
8,828
مستوى التفاعل
2,856
الإقامة
بلاد واسعة
نقاط
15,617
الجنس
ذكر
الدولة
كندا
توجه جنسي
أنجذب للإناث
مقدمة


"قد تكون الكلمات وكل الكتابات ميّتة، مكفّنة في أوراق دفاترنا البيضاء، معانيها مدفونة بين السطور،
, على الرفوف وفي أدراج المكاتب، لا تحيا إلا عندما تُقرأ فتجري الدماء في أوصالها بخيال القارئ، وعندما يصدّقها تضجّ بالحياة!", خارج القائمة
 
١
أبادول


مطر خفيف كالبكاء يرشق الرمال الناعمة بعذوبة، من بعيدٍ ثمّة نهر ريّان يتدفق ماؤه العذب بهدوء. ضوء الشمس الذهبي يميل بدلال فيداعب تلك الغدران الصغيرة التي تكونت هنا وهناك لتنعكس ألوان الطيف وتتعانق في الهواء. سعف النخيل يظلل الأفق من بعيد وكأنّه سحاب أخضر. صيحة غريبة صمّت أذنيه ثُمّ شعر فجأة بمخالب تقبض على كتفيه، فرفع بصره ورأى طائرًا عملاقًا يبسط جناحيه مظللًا فوق رأسه، تسارعت أنفاسه وهو يطير على ارتفاعٍ شاهق فوق وادٍ عميق يقطعه نهر ماؤه رقراق زمرّدي اللون!
, لاحت من بعيد أكواخٌ صغيرة لكنّها متقاربة مصفوفة بانتظام في مجاميع يفصل بينها ممرّات أرضها مغطاة بزهور صغيرة صفراء. تناهى إلى سمعه صوت أنثوي ناعم، كان يناديه ويكرر كلمة غريبة لم يدرك كنهها! استعذب الصوت للحظات لكنّ خفقات قلبه التي بدأت تؤلمه في صدره أنسته حلاوة الصوت، وفجأة! انفلت من بين مخالب الطائر ليهوي تجاه مصبّ ذاك النهر الفيّاض بسرعة شديدة، كان لون الماء يزداد قتامة كلّما اقترب منه، أراد أن يرفع عينيه ليرى هيئة الطائر الذي كان يحمله، لكن ظِلّ جناحيه الكبيرين المهيبين كان قد حجب عن عينيه كلّ شيء، فتح ذراعيه وباعد بين ساقيه فحلّق لفترة وجيزةٍ، للحظات شعر أنّه أخفّ من الريشة، وكأنّه يحلّق بروحه لا بجسده، على صفحة الماء لاح له رمز غريب الشكل، حدّق فيه وهو يقترب، ويقترب، ويقترب، وفجأة٢ نقطةالتقمه الظلام، وظل رنين حاد يتصاعد مخترقًا أذنيه.
, أيقظه رنين هاتفه النقّال، وكان قد وقّته على السادسة والنصف، مدّ ذراعه بصعوبة بعد أن قاوم ذاك الشعور بأنّه مشلول البدن ليوقف صوت الرنين المزعج. مسح جبينه الذي كانت تتلألأ عليه حبّات العرق وجلس على طرف الفراش يلتقط أنفاسه. نفس الكابوس الذي يتكرر، نفس المخالب، نفس الطائر الذي لا يدرك كنهه! ونفس النهر ذي الماء الأخضر الزمرّدي، وذاك الرمز الغريب. سار بخطوات بطيئة نحو المرآة وطالع وجهه وكأنّه يطالع شخصًا غريبًا عنه، عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك الالتحام، وأنف ذو انحناءة لطيفة يتوسّط وجهًا مستديرًا ظللته لحية خفيفة. أحيانًا يشعر أنّه غريب عن نفسه وخاصّة في تلك الحظات التي تعقب استيقاظه من ذاك الكابوس المتكرر. غادر غرفته ومرّ برواق البيت فلمح والديه فحيّاهما سريعًا وأسرع يصبّ الماء البارد على رأسه لعلّ الأفكار التي تنهش عقله تهدأ، ثمّ لحق بهما في المطبخ الذي كان يعبق برائحة القهوة، جلس وقد بدت على وجهه علامات الإرهاق، أزاح والده الجريدة التي كانت تحجب وجهه عنه وطالعه من فوق عويناته بتمعّن وقال بنَبرة هادئة:
, - هل رأيت نفس الكابوس؟
, - نعم.
, - هل سقطت في الماء؟
, - لا٣ نقطةكالعادة استيقظت قبل أن يلمس جسدي الماء.
, - هل رأيت رأس الطائر؟
, - لا٣ نقطةلا يا أبي.
, رفع الأب سبابته وحرك عويناته على أرنبة أنفه وعاد للقراءة، كانت تلك الأسئلة الثلاثة تتكرر في كلّ مرّة يستيقظ فيها "أنس" وعلى وجهه علامات الإرهاق، وكأنّ أباه يقرأ صفحة وجهه فيدرك أنّه رأى نفس الكابوس! شرد "أنس" للحظات قبل أن يقول بخفوت:
, - لكنني سمعت صوتًا لم أسمعه من قبل!
, انتفض والده وكأن هناك من وخزه بإبرة وألقى الصحيفة وسأله وقد اتسعت حدقتا عينيه:
, - صف لي الصوت وأخبرني ماذا قال لك.
, أغمض "أنس" عينيه ليجترّ ما رآه وأحسّ به، ثمّ قال بصوتٍ متهدّج:
, - كان صوتًا أنثويًّا رفيقًا وجميلا، لم أسمع مثله من قبل، غناء ربّما أو كأنّ هناك فتاة ما تهمس في أُذني.
, خلع الأب عويناته وعاد يحدّق في وجهه وسأله بتوتّر:
, - ماذا قالت لك؟
, - كانت تردد كلمة لم أفهمها ولم أدرك معناها، أظنّها بلغة غريبة ما !
, - ما هي الكلمة؟
, - لا أذكر.
, - حاول أن تركز أرجوك٣ نقطةكررها أمامي.
, التفت "أنس" متعجبًا من إلحاح والده عليه وهزّ كتفيه بلا اكتراث وهو يقول:
, - للأسف نسيتها.
, شحب وجه الأب وطالعه بنظرات مرتابة، التفت "أنس" لأمّه التي مسحت على ظهره بحنان لكي يطمئنّ، التقط يدها ووضعها على صدره، كان يشعر بانقباض لا يبارحه عادة إلّا بعد فترة طويلة في مثل هذا الموقف، يتلاشى ربّما بعد عدّة أيّام!.
, تناول قهوته على عجل ولم يكمل إفطاره، فقد دقّت الساعة معلنة أنّها السّابعة والنصف٢ نقطةولا بدّ أن يُسرع حتى لا يفوته موعد القطار. على مكتبه كانت تستقر حقيبة جلدية من النوع الفاخر اعتاد أن يحملها على ظهره عندما يسافر، شاحن الهاتف وجهاز الحاسوب النقّال، كانا أهمّ ما حرص "أنس" على وضعه في حقيبته.
, ثُمّ العديد من القمصان المكويّة أوّلها القميص السماوي اللون الذي يفضله، مع بنطال من الجينز، ومنامات صوفيّة تقيه البرد، والكثير من الجوارب كان كلّ هذا ما حرصت الأمّ على وضعه في حقيبة ابنها الأخرى منذ البارحة، فسيسافر لبيت جده في الفيّوم ليقضي معه أسبوعًا لطيفًا، فهو لم يروِّح عن نفسه منذ أنهى عامه الأخير حيث كان يدرس بكليّة الهندسة. لا بد من وقت مستقطع يبتعد فيه عن صخب الحياة فقد أرهق كثيرًا في الأيام الماضية، وما أجمل أن يكون هذا الوقت في بيت جده المحبب إليه. على عجلٍ ركض على الدرج خلف والده، ملوحًا لأمّه وشقيقته من نافذة السيّارة، اختفى طيف وجه أمّه الملائكي عندما دلفت سيّارة والده لشارع جانبي. راقب الأبخرة التي تتكاثف على زجاج النافذة إثر ملامسة أنفاسه الدافئة له، رفع إصبعه ورسم عليها ذاك الرمز الذي رآه على سطح الماء وهو نائم، قطع ذلك الشرود الذي غرق فيه صوت والده وهو يلقي على مسامعه نصائحه مثلما اعتاد في كلّ مرّة يسافرون فيها لقضاء الإجازة مع جدّه، يبدو أنّه لن يتوقف عن نصحه ومعاملته بتلك الطريقة، حتى بعد تخرّجه وربما عمله أو حتى لو تزوج وأنجب العديد من الأحفاد، كان هذا يضايق "أنس" لكنه لم يُظهر ضيقه أبدًا لأبيه وكان ينصت إليه بأدب بليغ، سيبقى في عينيه الابن الذي يحتاج النصيحة، قال الأب وهو يعدّل عويناته:
, - لا تترك جدّك وحده لفترة طويلة، فأنت هناك لكي تؤنسه، ليس من اللائق ألّا تنظر إليه وهو يحدّثك فهذا يزعجه كثيرًا، أنصت إلى نصائحه بلا جدال، استأذن منه قبل أن تستعير أيّ كتاب من مكتبته الخاصّة، كن ضيفًا خفيفًا ولا تُثقل عليه.
, كانت تلك المرّة الأولى التي يسافر فيها وحده، لم يُفاجأ بقرار أبيه وأُمّه فقد أخبراه أنّهما لن يتمكنا من السفر معه لأن شقيقته "حبيبة" مرتبطة بدروسها الخصوصية الخاصّة بالثانوية العامة، أصرّ "أنس" على السفر فقد كان مشتاقًا لرؤية جدّه، والذي كان يشجعه كثيرًا على القراءة فقد قضيا معًا ساعاتٍ طويلة في مكتبة جدّه الخاصّة، ذاك البناء البديع والمكوّن من غرفة واحدة واسعة ويتوسّط حديقة منزله حيث تحيط به أشجارُ الياسمين من كلّ جانب، وحيث الكثير من الكتب العتيقة التي قضى الجدّ عمرًا في جمعها وقراءتها والاعتناء بها وكأنّها أفراد أعزّاء من عائلته. لم يكن لدى "أنس" العديد من الأصدقاء ليخرج معهم، كان شابًّا تقليديًّا كما يقولون له، لا يدخن ولا يصاحب الفتيات، لم تمطر سحابات الحبّ على شرفات قلبه طوال سنوات الدراسة! رغم كثرة قراءاته عن الحب فهو لم يجرّبه حتى الآن، النفس تشتاق، والأحلام تمرّ على جبينه من آنٍ لآخر، لكنه لم يصطدم بتـــــلك
, التي تحسن التوقيع على شغاف قلبه حتى الآن.
, طريقته في تناول الأمور كانت تزعج زملاءه أحيانًا، فهو حاد في حكمه يستبعد من طريقه كلّ من يخطيء خطأ واحدًا ويبتعد عنه حتى وإن كانت فيه ميزات أخرى تشفع له! خطأ واحد من صديق كان يكفي لكي ينحيه جانبًا وكأنّما وُصِمَ به للأبد! كانوا جميعًا يطلبون ودّه ويتقربون إليه فهو شاب جذاب مثقف ذو خلق ورياضي، كما أنّه ذكي جدًا، لكنه كان مندفعًا أحيانًا يركض خلف حدسه، في الحقيقة٢ نقطة لم يفسح المجال إلا لصديقين فقط من جملة من التفوا حوله.
, وصلا سريعًا لمحطة القطار والتي كانت –كعادتها- مزدحمةً بالركاب، كان الأب يسرع في خطواته ليجاري خطوات "أنس" الواسعة، انتبه "أنس" فَرَقَّ لأبيه فهدّأ من سرعة خطواته قليلًا حتى لا يُرهقه. كان الجوّ باردًا جدًا. اقتربًا من أحد المقاعد وجلسا يراقبان الأبخرة الهاربة من أفواه روّاد المحطّة، كانت هناك مسحة من الضباب تشوب الأجواء. أما السماء فكانت ندف السحاب تنتشر فيها بشكل واسع، بدت وكأنها على وشك البكاء. التفت "أنس" لوالده وقال وهو يفرك كفَّيْه:
, - لقد وصلنا مبكرًا.
, سحب الأب نفسًا عميقًا وقال بنَبرة حازمة بعد أن رمق ساعة يده بسرعة:
, - هذا أفضل٤ نقطة أن تصل مبكرًا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات الأوان.
, - اشتقت لجدّي.
, - وهو أيضًا ينتظر وصولك بشغفٍ يا "أنس".
, - لا أدري لماذا يرفض الانتقال إلى الاسكندرية ليقيم معنا!
, - جدّك مرتبط ببيته وله فيه ذكريات طويلة.
, - وأسرار.
, رفع الأب حاجبيه الكثيفين وقال وهو يطالعه من فوق عويناته:
, - أيّ أسرار؟
, لاحت ابتسامة ساخرة على شفتي "أنس" عندما تذكّر تلك الغرفة القابعة في الطابق العلوي والتي لا يجرؤ أحد على اقتحامها وكيف كان يركض مع أبناء عمّه عندما كانوا يقتربون من بابها المهجور وهم صغارٌ ويلصقون آذانهم ببابها وينصتون فيسمعون أصواتًا تهمهم وهسهسات غريبة فيفزعون ويركضون هاربين. قال لأبيه بحماس:
, - غرفة الأشباح.
, انزعج الأب من ارتفاع صوت "أنس" وتلفّت يمينًا ويسارًا قبل أن يقول له لائمًا:
, - تعلم أنّها غرفة خالية، ولقد رأيتها بنفسك، فلا تزعج جدّك باقتحامها والسؤال عن سبب إغلاقها٢ نقطةأرجوك.
, - لا تقلق يا أبي، ما عدت أخافها، ولا يهمّني الأمر، فقط هو فضول! وددت لو أنني حاورت شبحًا أو رأيته، يشغلني أمر الجنّ وهيأتهم، كما أنني٥ نقطة
, قاطعه أبوه قائلًا:
, - بعض الفضول قد يفيد، وبعضه قد يؤذيك، فاحذر يا بنيّ.
, ران عليهما الصمت للحظات، فلم يكن ذاك فقط هو ما يشغل بال "أنس" فبيت جدّه ممتلئ بالأسرار، ولديه الكثير من الأسئلة عنه، وربّما حانت الفرصة لينفرد بجدّه ويسأله عن سرّ كلّ ركن فيه.
, علا صفير القطار وهو يشق الضباب معلنًا عن وصوله، همهم الأب في أذن "أنس" بالدعاء وهو يعانقه وصعد الأخير ليقف ويلوّح لأبيه وعلى وجهه ابتسامة حنون، انطلق القطار وجلس "أنس" يراقب الحقول الخضراء التي انبسطت أمام عينيه. لوحة ربّانية تموج بالكثير من المعاني التي لا يترجمها إلّا عاشق للطبيعة الخرساء!
, مزّق البرق صفحة السماء، أحبّ صوت قطرات المطر الذي استحال سماعه بعد لحظات وهي ترشق زجاج النافذة بجواره فشرد مسحورًا بالصور المتتابعة مصحوبة بتلك الألحان التي تعزفها قطرات المطر.
, التفت يراقب ركّاب القطار، ذاك رجل في العقد الرابع من عمره سريعًا ما أغمض عينيه ليسحب حبل النوم الذي قطعه منذ ساعة ويتعلق به مرّة أخرى لعلّه ينعم ببقيّة حلم. وتلك فتاة صغيرة تراقب مرور الأشجار أمام عينيها بسرعة خاطفة وكأنّها هي التي تركض وليس القطار، كانت تضحك ببراءة وتحرك وجهها يمينًا ويسارًا تزامنًا مع حركة الصور الخاطفة، أمّا أُمّها فكانت تطالع حقيبة يدٍ فاخرةٍ لامرأة أخرى تجلس قبالتها بإعجاب، والتي كانت تلقي على كتفيها معطفًا أنيقًا من القطيفة السوداء. من بعيد تناهى لسمعه حوار بين رجلين يبدو أن كلاهما يعمل في هيئة ما تختص بصناعة الأسمدة الزراعية، تحدّثا كثيرًا عن الفوسفات. أمّا ذاك الشاب الأنيق الذي كان يرتدي سترة جلدية سوداء فكان يصيح في هاتفه معاتبًا صديقه على إلغاء الموعد الذي كان بينهما ليلة أمس. في مقعد آخر كانت هناك فتاة ساكنة كالصنم، تطالع كتابًا وتقرأ سطوره بهدوء شديد وكأنّها حجر أصمّ، مرّ الوقت سريعًا وما زال "أنس" يحتفظ بهدوئه وحضوره اللطيف.
, في تلك اللحظة كان أبوه لا يزال يقف خارج محطة القطار محملقًا في زجاج نافذة سيارته التي كان "أنس" يجلس بجوارها منذ ربع ساعة بينما كان هو يقود السيّارة منشغلًا بالزحام على الطريق وهو يقله لمحطة القطار، لقد رأى الرمز الذي رسمه ابنه على الزجاج بإصبعه عندما تكاثف البخار، أخرج هاتفه الجوال وقام بالاتصال بالجد ليخبره، جاء صوته الهرِم على الطرف الآخر من الهاتف:
, - مرحبا يا "كمال".
, - أبي٤ نقطةلقد رآه يا أبي، لقد رأى"أنس" الرمز.
, - ماذا؟٢ علامة التعجب
, - رسمه منذ قليل على زجاج النافذة الذي تكاثف عليه البخار بإصبعه، وما زال مرسومًا أمامي.
, - امسحه بسرعة.
, فتح الأب باب سيّارته ثُمّ مسح الزجاج من الداخل بمنديل ورقي ثُمّ تلفّت حوله ليتأكّد أن ليس هناك من يراقبه، ثُمّ عاد يقول لأبيه:
, - محوته يا أبي.
, - يا إلهي٢ نقطةلا بدّ أنّ نستعد.
, - وماذا سنفعل؟ هل سنخبره أم سننتظر حتى يحين الوقت؟
, - يبدو أنّه قد حان الوقت بالفعل!
, - نعم٢ نقطة فالكابوس يتكرر، كما أنّه٣ نقطة
, - ماذا؟
, - سمع صوتًا أنثويًّا الليلة.
, - وماذا قال له؟
, - لا يذكر٣ نقطةأخبرني أنّه نسي ما همس به ذاك الصوت في أُذنه، أنا قلق عليه، لا أظنّه سيستوعب الأمر بسهولة!
, - لا تقلق عليه.
, - وكيف لا أقلق وقد مررتُ بما سيمرّ به من قبل!
, - لكنّك بخير يا ولدي٢ نقطةأليس كذلك؟
, - نعم أنا بخير لا تقلق يا أبي، وماذا عنك؟
, - لا تقلق٣ نقطةسأكون بخير ،"كمال" لا بدّ أن تأتي الآن في القطار التالي
, - حسنًا يا أبي سأفعل إن شاء ****
, انتهت المكالمة وقد بدأ القلق يستبدّ بـ"كمال"، هبّت ريح قويّة فأصابته قشعريرة فأسرع إلى داخل سيّارته، تقوقع أمام المقود وأطرق مفكرًا يجترّ ما مرّ به في الماضي، متفكرًا فيما سيمرّ به ابنه "أنس". كان يجلس صامتًا وعيناه تجوسان في حزن بين أمواج البشر، تذكر الخوف، الرهبة، أن يختاره أحد ما ويثق به وينتظر منه أن يقدم له الكثير! وتذكر الشعور المقيت بالوحدة هناك، انتبه للوقت فوثب خارجًا من سيّارته وأسرع يستقلّ القطار التالي ليلحق بابنه "أنس".
, ٣ علامة استفهام
, خفف القطار من سرعته وأطلق صفيرا اهتزّ له زجاج النوافذ، وثب الركاب من أماكنهم واحدًا تلو الآخر عندما لاحت لهم لافتة المحطّة، تزاحموا في الممر المؤدي لباب القطار فسقطت بعض الحقائب من أعلى الرفوف، ترجل "أنس" من القطار ثُمّ وقف يفتش بين وجوه المارّة عن وجه جدّه، أخيرا التقطته عيناه من وسط الحشود فقامته المديدة وعليها المعطف الأزرق الطويل، ولحيته الرمادية اللطيفة التي برزت من الوشاح الخوخي اللون الذي كان يلف به عنقه، عويناته المستديرة، ونظرته الواثقة من خلفها، وتلك الابتسامة الواسعة التي كانت تضيء وجهه، كل تلك اللفتات البسيطة التي يحبّها "أنس" ميّزت جدّه عمّن حوله فأسرع يحتويه في حضنه. طال العناق قبل أن يقول الجدّ وهو يمسح وجه حفيده بكفّه الدافئة:
, - ازددت طولًا يا أنس، وتباعد منكباك.
, - أرأيت، الآن أنا الذي يحتويك في حضنه يا جدّي وليس العكس.
, - أوحشتني يا "أنس".
, - وأنت يا جدي٢ نقطةأوحشتني كثيرًا.
, أسرعا بالخروج من الزحام واتجها معًا إلى بيت الجدّ حيث كانت هناك الكثير من الأحجيات التي لا يعرفها "أنس". من بعيد كان هناك من يراقبه ويرصد حركاته وهو يبتعد مع جدّه. كان يتفحّصه بإمعانٍ شديد.
, وقفت سيارة الأجرة أمام بوابة بيت الجدّ الحديدية، والتي كانت تتوسط السور الحجري الذي يحيط بالبيت، كان ارتفاع السور شاهقًا وقد تدلّت من فوقه أغصان الأشجار وكأنّها تراقب الطريق. بعض الفروع بدت مخيفةً وكأنّها تهدد من ينظر إليها. كان السائق يحدّق في التواءات حديد البوّابة باندهاش، رفع حاجبيه وهو يلتقط النقود من يد الجدّ الذي رمقه بصرامة وهو ينصت إليه وهو يقول:
, - بوابة رائعةٌ وبيت أنيق.
, انطلق السائق مبتعدًا ومتبوعًا بنظرة تبرّم من الجدّ، وكأنّ السائق قد طالع للتوّ إحدى نسائه المختبئة في خدرها! حمل "أنس" حقيبته الجلدية على ظهره، ورفع الأخرى بيده عن الأرض ثُمّ دلف مع جدّه من البوابة وسارا معًا فوق ممر ضيق مرصوف بالحجارة بين صفّين من الأشجار القصيرة على الجانبين. وقفا أخيرًا أمام باب البيت المصنوع من خشب الزّان العتيق، أخرج الجدّ مفتاح الباب من جيبه ليفتح الباب بينما كان "أنس" يتفحص النقوش الغريبة التي كانت تتوسط الباب والمطعّمة بقطع دقيقةٍ من النّحاس. انعكس الضوء عليها فتلاعب بريقها الذهبيّ بعيني "أنس" الذي قال باندهاش:
, - تلك النقوش بديعة حقًا، لا أدري لماذا لم أنتبه لها من قبل!
, رمقه الجدّ بطرف خفيّ ولم يعلّق، ثُمّ دفع بـاب البيت بحـــــــــرص فأصـــــــــــدر
, أزيزًا مزعجًا ليس غريبًا عن"أنس" بل ربما يشتاق إليه، أسرع "أنس" بخطى واثبة وألقى بحقيبته بجوار الحائط ووقف في وسط ردهة الاستقبال وفتح ذراعيه ودار حول نفسه وكأنّه يحتضن أجواء البيت ثُمّ قال بمرح:
, - كم أُحبّ هذا البيت ٤ نقطةأُحبّه كثيرًا.
, ابتسم الجدّ وقال بودّ:
, - هو بيتك يا حبيبي، وبيتكم جميعًا.
, فاجأهما صوت ارتطام قوي، سقط شيء ما على الأرض. أسرع الجد إلى غرفة المعيشة وتبعه "أنس"، كان هناك كتاب على الأرض وحوله تبعثر حطام جزء من تمثال رائع من خشب الأبنوس الأسود لشجرة عجيبة، انحنى الجدّ وأمسك بالجزء المحطم، كان فرعًا من فروع الشجرة، بدت على وجهه علامات القلق وجال بعينيه في الغرفة وكأنّه يبحث عن شيء ما، انحنى "أنس" والتقط الكتاب، تأمّل غلافه الجلدي الباهت بتعجب، كان لونه يشبه لون التراب المبتل بماء المطر، شابته لفحات من لون يشبه لون قشر البرتقال الجاف، أمّا الأوراق فقد بدت صفراء عتيقة.
, وقرأ عنوانه بصوت مسموع:
, - "أبادول"٣ نقطةماذا تعني تلك الكلمة يا جدي؟
, كاد "أنس" يفتح الكتاب ليقرأ اسم مؤلفه، لكـــــــنّ جـــــده خطفه مــــــــن بين
, يديه بطريقة لم يعهدها منه من قبل! وأعاده إلى الرف ثُمّ أسرع نحو النافذة غير مكترث برد فعل أنس وأزاح الستار ونظر إلى الحديقة نظرة فاحصة ثمّ التفت وعقد حاجبيه قائلًا:
, - "أبادول" كلمة نوبية، تعني الجدّ (أبا) بمعنى ( أبى) و( دوول) بمعنى (كبير).
, ابتسم "أنس" ومازح جدّه قائلًا:
, - حسنًا يا أبادول٣ نقطةمن كسر الشجرة، ولماذا ألقى الكتاب على الأرض؟
, - ربّما "صفية"
, - ولكن أين هي "صفية"!
, - أو زوجها٢ نقطةربما!
, - لا أرى العمّ "راغب" هنا كذلك! هل لديك قطّة يا جدّي؟
, رفع الجدّ حاجبيه وكأنّه وجد ضالته وقال:
, - ربما، أحيانًا تقفز القطط من نافذة الحديقة، سأُخبر "راغب" ليبحث عنها.
, - جدي٢ نقطةهل أنت بخير؟ يدك ترتجف!
, أدرك الجدّ أن "أنس" قد لاحظ ارتباكه فرسم سريعًا على وجهه ابتسامة واسعة وأمسك بذراع حفيده وسار معه وهو يقول:
, - لم أفطر حتى الآن، يبدو أن معدّل السّكر قد انخفض في دمي.
, ثُمّ قال وهو يحثّه على السير:
, - هيّا هيّا، بدّل ملابسك لنتناول الفطير الشهي معًا، فقد أعدته "صفيّة" خصيصًا لك، فهي تستعد منذ أيّام لوصولك.
, - اشتقت للحديث معها، ولقصصها عن جدّتي.
, - نعم، كانت جدّتك تُحبّها جدًا.
, سار "أنس" مع جدّه الذي كان حريصًا على إخفاء الكتاب عن عين حفيده
, قبل أن يخرج من غرفة المعيشة، في تلك اللحظات كانت تتعالى الهمسات في غرفة الأشباح بالطابق العلوي، هناك صوت أُنثوي رفيق يصدر من تلك الغرفة الغريبة و ينادي على "أنس"٣ نقطةبينما هو يمضغ قطعة من الفطير الساخن بجوار جدّه وينصت لحكايات "صفيّة" عن جدته التي توفيت قبل أن يولد.
, وقف "أنس" ليراقب اهتزاز الأغصان من نافذة المطبخ، لم يغادره مذ أنهى طعامه هو وجدّه، كان المطبخ دافئًا وكانت أحاديث "صفية" و زوجها- والّلذان يعملان في هذا البيت منذ عمر طويل- عن الماضي لطيفة وحميمية، وضع "أنس" كوب الشاي على طرف المائدة برفق وهمس لجده وهو يمدّ يده:
, - أعطني مفتاح المكتبة يا جدّي.
, التفت الجد متوترًا قال:
, - دعك من القراءة الآن واجلس معي فالإجازة طويلة.
, - إذن فلنذهب معًا.
, تردد الجدّ للحظات، وأطرق قليلًا ثُمّ أخرج المفتاح من جيبه وأعطاه لحفيده وقال له:
, - هذه المرّة لا بدّ أن تذهب وحدك.
, ابتسم "أنس" فقد تعجّب من كلام جدّه، فهو يعلم حرصه الشديد على كتبه ولم يتركه أبدًا يذهب إلى المكتبة وحده! أسرع بالتقاط المفتاح من يد جدّه وهرول إلى المكتبة، بينما وقف الثلاثة - الجد وصفية و زوجها راغب-يراقبونه من خلف زجاج نافذة المطبخ المطلة على الحديقة، لو التفت إليهم لأفزعته عيونهم الشاخصة تجاهه! لكنّه لم يلتفت.
, دلف "أنس" إلى الغرفة بعد أن فتح بابها بصعوبة، يبدو أن المفتاح القديم قد صدئ.
, كانت الغرفة باردة جدًا على عكس أجواء الحديقة التي دفّأتها أشعة الشمس، وكانت تعبق برائحة الورق العتيق الممتزج برائحة الرطوبة، التفت بعد أن قام بإضاءة المصابيح وراقب الرفوف بتمعّن. في كلّ مرّة يقرر أن يقرأ العديد من الكتب لكنّه في النهاية يستقر على كتاب واحد. ويرفض الجدّ أن يعيره أيًّا منها أبدًا، فتلك الكتب غالية عليه وكأنّها قطع من ماضيه وذكرياته تستقر على الرفوف. كان "أنس" يعود حزينًا ويظلّ على شوقه حتى يعود في إجازة أخرى ليقرأها.
, من عادته أن يقرأ اسم الكتاب أولًا، ثُمّ يطالع شكل الغلاف، ثُمّ يقرأ اسم المؤلف، وأخيرًا يطالع الفهرس بسرعة. لمح على أحد الرفوف العلوية مجموعة من الكتب تشبه ذاك الكتاب الذي رآه اليوم في غرفة المعيشة حيث كان ملقى على أرض الغرفة. نفس الغلاف الجلدي الباهت، نفس اللون القريب من لون التراب المبتلّ بماء المطر، وقد شابته لفحات من لون آخر يشبه لون قشر البرتقال الجاف، ونفس الأوراق الصفراء العتيقة. استدار ليحمل السلّم المسنود على الجدار وقرّبه من الرّف، ثمّ تسلقه بحذرٍ ليسحب كتابًا من تلك المجموعة، اهتز السلّم الخشبي فأسرع يهبط خوفًا من السقوط.
, تناهى إلى سمعه صوت غريب، وكأنّه صوت صرصور يعبث بالورق.
, تجاهل الصوت وكاد يسحب كتابًا من رفّ آخر ليفاجأ بالكتب العتيقة التي كانت تستقر على الرف العلوي تطير في الهواء. حلّقت فوقه وكأنّ هناك يدًا خفيّة تحرّكها، كانت صفحاتها تتقلّب بسرعة رهيبة، تصاعد صوت أنين وكأنّ هناك شخصًا يُعذَّب، تلاه صراخ رهيب أفزع "أنس"، حاول أن يهرب لكنّ ساقيه تسمرتا بأرض الغرفة، كان يحدّق في الكتب وهي تدور حوله في دوّامة، توقفت الكتب فجأة وظلّت معلّقة في الهواء للحظات ثم هوت على أرض الغرفة بانتظام في حلقة حوله ودوَّى صوتها بقوّة انخلع لها قلبه، تصاعد الغبار الذي كان متراكمًا على أرض الغرفة فشكّل هالة من الدخان الخفيف حوله، عادت صفحات الكتب تتقلّب بسرعة كطواحين الهواء، انتشرت رائحة غريبة تشبه رائحة الصدأ، ثمّ انغلقت الأغلفة فجأة إلّا كتابًا واحدًا ظلّ مفتوحًا أمام "أنس" الذي كان يشعر بنبضات قلبه في عنقه، كانت الأوردة نافرة توشك على الانفجار، شفتاه وعضلات وجهه ترتجف في فزع، وقد احتقن وجهه ، رفع يده التي كانت ترتجف ومسح وجهه، ثمّ بصعوبة حرّك قدميه تجاه الكتاب وانحنى ينظر إليه، كانت صورة وجهه تظهر تدريجيًا على الصفحة الأولى وكأنّ هناك شبحًا يرسمها بينما هو ينظر! ازدرد ريقه بصعوبة وحدّق مرّة أخرى فيها وكأنّه لا يصدق، ثم مدّ يده بوجلٍ وأغلق الكتاب ليقرأ عنوانه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح "إيكادولي"، قلب الكتاب باحثًا عن اسم الكاتب فلم يجده، لكنّه فزع عندما رأى العلامة التي رآها في الكابوس ليلة أمس على سطح ماء النهر الذي كاد يسقط فيه قبل أن يستيقظ، كانت العلامة مكتوبة باللون الأحمر الكرزي على الغلاف من الخلف، بيد أنّ كلّ صفحات الكتاب كانت خالية من الكلام! التقط "أنس" الكتاب وركض إلى داخل البيت., خارج القائمة
 
٢
غرفة الأشباح


كان الجد في غرفة المعيشة عندما اقتحم "أنس" الباب وركض نحوه، ثمّ جلس بجواره وبين يديه الكتاب، أنفاسه المتسارعة والتي كان يلتقطها من فمه تسببت في جفاف حلقه ولسانه، صاح بفزع :
, - الجن٢ نقطةتلك الغرفة مسكونة لا ريب٣ نقطة الأرواح٣ نقطة الأشباح.
, - اهدأ يا "أنس".
, - الكتب تطير٣ نقطة و٢ نقطة و٢ نقطة الأوراق تتحرك بسرعة٢ نقطة هناك صوت يصدر من بين الكتب.
, حدجه الجدّ بنظرة ثاقبة وقال بجديّة:
, - هل رأيت الرمز؟
, انقطعت أنفاس "أنس" فجأة، لم يتوقع هذا السؤال! ازدرد ريقه وقال بخفوت:
, - أيّ رمز!
, أمسك الجدّ بعلبة السكر التي أحضرتها "صفية" قبل دخول "أنس" بلحظات مع كوب آخر من الشاي الساخن وسكبها على سطح الطاولة ثم حرك إصبعه ورسم الرمز الذي رآه "أنس" في الكابوس وعلى ظهر الكتاب، كان الرمز يشبه حرف "تي" باللغة الإنجليزية ٢ نقطة
, ـــــــــــــ
, T
, وفوقه خط أفقي يوازي قمّة الحرف، حملق في وجه جدّه ثمّ سأله:
, - أخبرني يا جدّي أرجوك، ماذا يعني هذا الرمز؟
, - الرقم ثلاثة باللغة النوبية ٢ نقطة تويكو toycko ٢ نقطة لقد اختارك الكتاب يا "أنس".
, - ماذا؟
, وقف الجدّ واتجه إلى رفوف خشبية معلّقة على جدار الغرفة وسحب الكتاب الذي كان بالغرفة عندما وصلا من محطّة القطار، ووجده كلاهما ملقى على الأرض، أمسكه الجدّ أمام صدره وقال بجديّة:
, - لقد اختارني من قبل كتاب "أبادول" ومعناها الجدّ كما أخبرتك، وكان رمزي الرقم واحد ويرا wera ٢ نقطة أما والدك فاختاره كتاب "أمباب تود" ومعناه ابن أبيه وكان رمزه الرقم اثنان٢ نقطة أويووو oywwo ٢ نقطة كلا الكتابين يحكي قصة، صراع بين الخير والشر، النهار والليل، الأبيض والأسود، وكان لا بدّ من التدخل!
, - لا أُصدّق، هذا هراء، الكتاب جماد! لا بدّ أن هناك أرواح تعبث به أو جنّ يسكنه!
, أمسك الجدّ بذراع حفيده وسحبه، سارا معًا تجاه غرفة "أنس"، قال وهو يسير بخطوات سريعة:
, - تلك الكتب حيّة يا ولدي، إنّها تتنفس، تعيش، وتشعر بنا.
, هزّ "أنس" رأسه باستنكار وقال:
, - مستحيل!
, - ما حدث معك حدث مع أبيك ومعي أيضًا.
, - ماذا تعني؟
, - لا أدري عن أي شيء سيحكي كتابك، فالكلمات لن تظهر إلّا لك.
, - لا أفهم.
, فتح الجدّ باب غرفة "أنس" وأمسك حقيبة حفيده الجلدية وأخرج منها الحاسوب النقّال ثم قلبها على الفراش ليفرغ كلّ ما بها، ثُم قال وهو يتجاهل نظرات "أنس" الذي بدا عليه الضيق لأشيائه المبعثرة:
, - بعد أن تبدأ رحلتك ستظهر الكلمات على السطور، صفحة بعد صفحة.
, - لماذا أفرغت حقيبتي بتلك الطريقة يا جدّي!
, - لن تحتاج لتلك الأشياء، سأزوّدك ببعض الأشياء الأهمّ، لا بد أن تستعد، ولتحمد **** أن هناك من يدلك فقد كنت أمضي في رحلتي قبلك لأوّل مرّة وحيدًا بلا دليل٢ نقطةهيا تعال معي.
, - إلى أين؟
, - غرفتي٣ نقطةهيّا بسرعة الوقت ضيّق.
, - ما زلت لا أفهم.
, دلف الجد لغرفته وفتح خزانته وأخرج صندوقًا خشبيًا بديع الشكل عليه نقوش أزهار عجيبة وبارزة مطعّمة باللون الذهبي، له قفل نحاسي لامع وبراق ثُمّ قال:
, - يبدأ الأمر عندما يختارك الكتاب، لتدافع عنه، ربّما عن تاريخ، وربّما عن قيمة عظمى، سطرها أحد أُمراء النوبة المعروفين قديمًا وهو الأمير "أواوا" على أوراق البردي من خلال قصص ألّفها بنفسه، كان شابًا نبيلًا، وأميرًا طيّب الخلق أحبّه الشعب، لكنّ الملك لم يُحبه.
, أخرج الجدّ قلادة عجيبة ألبسها لأنس فور أن سحبها من الصندوق، و زجاجة صغيرة زرقاء تحتوي على سائل أسودٌ لزج محفوظة في علبة مبطنة بالقطيفة الحمراء، وقال بجدية:
, - ستحتاجه، لم يتبق لديّ إلّا القليل فحافظ عليه.
, - ما هذا؟
, لم يُجبه الجدّ لكنّه سحب خنجرًا عجيبًا له مقبض ذهبي نقوشه بديعة الشّكل، ودسّهما في الحقيبة الجلدية الخاصة بأنس، قال "أنس" بتوتّر:
, - خنجرّ ولم سأحتاج خنجرًا!
, - ليس مجرّد خنجر عادي يا "أنس"٤ نقطة ستقطع به مسافات طويلة
, - كيف!٢ نقطة وإلى أين سأذهب٢ علامة التعجب
, - سأخبرك بالتفصيل بعد أن أمدّك بما أملكه وربّما سيفيدك.
, خرج "الجدّ" من الغرفة وهو يشير له ليتبعه.
, سأله "أنس" بتعجّب وهو يتحسس القلادة ويتأمّل النقوش التي عليها:
, - هل كان ذاك الملك يكره ابنه "أواوا"؟
, - بل عمّه٣ نقطة الملك "كاشتا" الذي لم يُنجب أبدًا، وكان قلبه ممتلئًا بالحقد تجاه أخيه الملك "ألارا"، كان يغار منه فقتله ليفوز بالعرش.
, - والأمير؟ ماذا حدث له؟
, أسرع الجدّ إلى صالة الاستقبال حيث كانت تتدلى من السقف ثريا بديعة ووقف يتفحّصها بتمعّن وكأنّه يبحث عن شيء ما، وقال على مهل وعيناه معلقتين بالثريا التي تتدلّى من السقف:
, - ألقى حرّاس الملك القبض على الأمير النبيل"أواوا"، وحُبس في سرداب تحت الأرض مع زوجته وأبنائه، كانوا يطعمونهم كالكللابب، يلقون إليهم بالطعام من فتحة ضيّقة، حتى الأطفال لم يرحموهم من هذا القهر، حتى رقّ إلى حالهم أحد الجنود فكان يحمل إليهم المزيد من الطعام في الخفاء، وطلب منه الأمير"أواوا" بعضًا من الأوراق ليبدأ بالكتابة والتدوين، وعكف على كتابتها لتكون مرجعًا لأبنائه ، ليتعلموا منها٢ نقطة نفدت الأوراق فانتقل ينحت على الجدران، لم يتمكن من التوقف عن التدوين، كان يكتب طوال الوقت، ثمّ امتلأت الجدران فجلس يحكي بقيّتها لزوجته، وظلّ يكررها عليها حتى لا تنساها٣ نقطة ولكن٣ نقطة
, - ما الذي حدث؟
, كان الجدّ متوترًا ومرتبكًا بينما "أنس" يتبعه كظله وهو يتحرّك بالبيت. ما يسمعه كان أكبر مما يستوعبه عقله، لكنّه كان ينصت لجدّه بتركيز شديد:
, - مرض الأمير "أواوا" مرضًا شديدًا، ظنّت زوجته أنّه سيموت، أوصاها وصيته الأخيرة ثُمّ اختفى فجأة، فقد فوجىء الحرّاس بزوجته وأبنائه وحدهم داخل السرداب! كما اختفى معه الحارس الذي كان يساعده، استيقظت زوجته ولم تجده! في هذا الوقت لم يكن ابنه قد أتمّ العاشرة من عمره بعد، فخرجت زوجة الأمير ومعها ابنها وابنتها ، وحملت معها كتابات زوجها، وخلّفت وراءها ما على الجدران رغمًا عنها، لو ملكت أن تنزع الجدران لفعلت، اكتفت بما تحمله من أوراق وما تحفظه من حكايا، هربت بابنها وابنتها واختفت لفترة طويلة، ولم تعد إلّا بعد أن علمت بوفاة الملك الظالم، خلال فترة اختفائها كانت تقرأ ما دوّنه زوجها على ابنها الأكبر كلّ يوم، وكانت شقيقته ما زالت صغيرة جدًا على استيعاب مثل تلك الأمور.
, توقف الجدّ عن سرد الحكاية على "أنس" ثُمّ مدّ يده إلى قطع الكريستال البديعة التي كانت تتدلى من الثريا وبدأ يجذبها، أشار لأنس وقال وكأنّه يستعجله:
, - اقترب فأنت أكثر مني طولًا، اخلع القطع الزرقاء التي تبرق فقط، ستحتاجها هناك، لقد أخفيتها هنا منذ سنوات.
, رفع "أنس" عينيه تجاه الثريا وأخذ يحملق في قطع الكريستال، كانت جميعها متشابهة، لامعة وتبرق! لا اختلاف بينها، لكنّه بعد لحظات بدأ يميّز التي تبرق بشكل غريب عن غيرها، كانت تومض وميضًا خفيفًا وكأنها تضاء من الداخل، بدأ يخلعها واحدة تلو الأخرى، كان يشعر بحرارة في كفّه كلّما التقط واحدة منها، أعطاها لجدّه الذي وضعها في كيس جلدي حتى ملأه ودسّها في حقيبة أنس. سأله أنس وما زال القلق يستبد به:
, - وماذا حدث لهم؟
, - عندما كبر الابن واشتد عوده وخرج للحياة، صدم بالواقع، وبحث حوله
, عمّا قرأه في كتابات والده فلم يجد شيئًا من تلك المبادئ! فغضب غضبة شديدة، وتعملق الشرّ في نفسه إثر الظلم الذي وقع على والده وعليهم، ورأى من منظوره الضيق أن تلك المبادئ لا تصلح للحياة، وأن التمسّك بها ضعف، وأنّ من أراد الحياة لا بدّ أن يكون حرًّا لا يخضع لحدود ولا تحكمه قيم، وأن هذا هو الأبقى والأصلح للحياة الأهنأ والأرغد، عاث في الأرض فسادًا، وأقبل على كتابات أبيه ليحرقها لكنّه تراجع عندما غضب الكثيرون منه وبدأوا يدونونها بأنفسهم في أماكن متفرقة ليحفظوها مرّة أخرى، فقد انتشرت بشكل كبير واشتهر أبوه بها، بعد فترة تخللتها الكثير من الأحداث استعان بكهلٍ لئيمٍ بارعٍ في الكتابة، فساعده في تغيير محتوى الكتابات والقصص التي كتبها والده الأمير "أواوا" قبل وفاته وكأنّه ينتقم منها، كره ما فيها وألقى عليها اللوم وكأنها السبب، زُيّفت العبارات وحتى القصص قلبت نهاياتها وأصبح البقاء للأكثر سوداوية وخبثًا.
, مرت الأيام والشهور وكبرت شقيقته وقرأت ما بالكتب، وآل أمر حكم البلاد إليهما، فتنازعا أمر الحكم فيما بينهما، وأصبح الابن الأكبر يحارب شقيقته الصغرى التي ظلّت على نقائها وفطرتها ولم تنس أبدًا ما روته أمّها عن أبيها من فضائل، وأنكرت ما فعله، انقلب عليها ثُمّ حبسها في نفس المكان الذي حُبس فيه من قبل٢ نقطة و٤ نقطة
, قاطعه " أنس" قائلًا:
, - ولكن تلك الكتب رغم اصفرار أوراقها ولونها المختنق هي حديثة عهد بالطباعة مقارنة لما تحكيه لي، ليست تلك أوراق برديّ!
, تعصّب الجدّ وقال بحدّة:
, - لا تقاطعني فالوقت يمر، دعني أُكمل لك الحكاية حتى لا يداهموننا فجأة وأنت غير مستعد.
, - من هم؟
, أغمض الجدّ عينيه وتجاهل السؤال الأخير وبدا وكأنّه يصر على إكمال ما يسرده على حفيده أولًا حتى لا ينسى شيئًا وقال:
, - عثر علماء الآثار على اسم الأمير "أواوا" المختفي منحوتًا على أجزاء من تمثال فخاري مهشم لأسير مقيد. يبدو أن عمه "كاشتا" قد طلب صنعه عندما فشل في العثور عليه، وهشموه عن قصد. كانوا يعتقدون أنه في حالة صنع مجسد للعدو، وكتابة اسمه عليه، ومن ثم تهشيمه، فإن ذلك سيلحق به الأذى أو يقتله عن طريق السحر. فقد رغبوا في إيذائه - عن طريق السحر- طالما أنهم كانوا عاجزين عن إلحاق الأذى به، هكذا كان اعتقادهم. كما عثر علماء الآثار أثناء الحفر على الأوراق المزيفة بجوار التمثال، وكانت مهترئة تفوح منها رائحة الصدأ، ولم يتمكن أحد من قراءة ما فيها نظرًا لحالتها السيئة، كانت تتمزق وتتفتت بين أصابعهم، بقيت صفحات قليلة منها وتم إهمالها ورأى الباحثون أنّها ليست ذات قيمة، تركوها مهملة حتى يقرروا هل سيعرضونها في متحف على حالتها أم ماذا، سرقها أحدهم وجمعها بحرصٍ شديد في أغلفة مخصصة، وعاد إلى الفيّوم، وحملها لبيته ظانًا أنها من الممكن أن تباع ويحصل على ثروة إن أفلح في تهريبها وبيعها، وبات ليلته يُفكّر في الرموز القليلة التي بقيت على الأجزاء السليمة منها، في اليوم التالي استيقظ على صوت عجيب وكأنّ أحدهم يعبث في الأوراق، وفوجىء بها وقد تجددت، والكلمات والرموز وقد اتضحت، فعكف يترجمها للغة العربية واحدة تلو الأخرى، رتب أموره وقام بدفع رشوة إلى العمال الذين يقومون بالحفر في المكان الأثري الذي كانوا يبحثون فيه، وزعم أنه قد عثر على كتابات جديدة في بقعة آخرى، أحدث اكتشافه هذا - كما زعم - ضجّة كبيرة فقد كانت تضمّ بعضًا من الحكم والقصص النوبية القديمة، وتم طباعتها بإشراف هذا الباحث بعد ذلك. ومرت سنون ابتلعت فيها صفحات الكتب التي طُبعت كلّ الكلمات، تشربت الأحبار المطبوعة، رفضت الكتب أن تعكس الأكاذيب التي تسبب ابن الأمير أواوا في نشرها حين طمس حِكم ومبادئ وقصص أبيه، وحان وقت استعادة الحقيقة ولك دور في هذا!
, - وكيف عرفت كلّ هذا؟
, - لأنني ذهبت إلى هناك بنفسي.
, - إلى أين؟
, - مملكة غريبة.
, - أيّ مملكة!
, - "مملكة البلاغة".
, - أنت تمزح معي يا جدّي٣ نقطةأليس كذلك!
, زفر الجدّ بحنقٍ ثُمّ قال وهو يثقبه بنظراته:
, - "أنس"، الأمر أكبر مما تظنه، هي بالفعل مملكة غريبة.
, هرول "أنس خلف جدّه وسأله:
, - أريد أن أفهم، ما تفعله يا جدّي غريب ويوترني، هل سأسافر الآن؟
, - نعم
, - إلى أين٣ نقطةالنوبة؟
, - لا٢ نقطةلا٣ نقطة تلك ليست بلاد النوبة! كما أخبرتك سترحل إلى "مملكة البلاغة".
, ضحك "أنس" بتهكم، كان متوترًا وكاد يفقد عقله، سأل جدّه بعصبية لم يفلح في إخفائها:
, - أيّ مملكة تلك!
, - أرض غريبة، المناخ فيها دائمًا يشبه ذاك الذي نراه في نهار الشتاء، الشمس باهتة، لن تكون واثقًا أنّها أشرقت، وفي ذات الوقت لا تستطيع أن تنفي أنّها هناك! ستشعر دائمًا بالبرودة، الطيور هناك يغطيها ريشٌ غريب الشكل واللون، ستجدها أكبر حجمًا مما هي عليه هنا، الماء أخضر اللون، الضباب يلف كلّ شيء، الأشخاص غريبوا الأطوار والهيئة والملابس، وكأنّ كلّ مجموعة منهم أتوا من حقبة زمنية مختلفة، وبيئة مختلفة، وكأنّ هناك من جمعهم فجأة من أزمنتهم أو استدعاهم لمهمة ما، كما ستنتقل أنت إلى هناك.
, ثمّ التفت جدّه إليه وطالعه بنظرة جادة وقال:
, - لقد تم استدعاؤك اليوم.
, - ومن قال أنني سأذهب!
, - بل ستذهب إن شاء ****.
, قالها الجدّ بنَبرة واثقة وهو يركز في عيني "أنس" الذي رفع كتفيه باستنكار وقال:
, - لن أذهب
, - بل ستذهب!
, - أخبرني بربّك ما الدليل على وجود تلك المملكة؟ لا بدّ من دليل مادي قوي قبل أن أصدق كلامًا كهذًا، ما عدت ذاك الغلام الذي يحب القصص الخيالية يا جدّي٢ نقطةأرجوك توقف عن معاملتي بتلك الطريقة أنت وأبي٣ نقطةلقد كبرت.
, - لأننا نخشى عليك، لن تفهمنا الآن يا "أنس"، ربّما عندما تعود من رحلتك ستجد لنا العذر.
, عاد الجدّ إلى غرفة المعيشة باحثًا عن الكتاب الذي اختار حفيده والذي كان عنوانه كلمة لم يسمع بها "أنس" من قبل٣ نقطة "إيكادولي" وقام بوضعه في الحقيبة، ثُمّ التقط هاتفه الجوّال، والتفت لحفيده قائلًا:
, - هل تثق بي؟
, - طبعّا.
, - أتظنني أكذب عليك؟
, - ربما أنت تمزح معي يا جدّي!
, - أخبرني يا بنيّ كيف ظهرت فجأة شجرة الأبانوس تلك في بيتي وتيبست كالصنم بعد عودتي منذ سنوات؟
, ثُمّ رفع رأسه ناظرًا لسقف الغرفة المزيّن بالنقوش وأردف قائلًا:
, - وكيف ظهرت النقوش الغريبة المطعّمة بالنحاس الموجودة على أسقف البيت كلّه هنا فجأة بعد عودة أبيك من رحلته هناك؟
, - وبم تفسّر هذا يا جدّي؟
, - إنّها هدايا "الحراس" لنا على ما قدّمناه.
, - أي حراس؟
, - حرّاس المكتبة
, - أيّ مكتبة؟
, رفع الجدّ الهاتف على أُذنه بعد أن قام بالاتصال بابنه "كمال" وقال بصوت حاد:
, - لا تتأخر يا "كمال"٣ نقطةلقد اختاره الكتاب، لا بدّ أنّهم على وصول!
, - ٥ نقطة
, - حسنًا نحن في انتظارك يا ولدي.
, تسارعت دقّات قلب "أنس"، كان يشعر بها في أعلى عنقه، وصوتها المتسارع كان يطغى على مسامعه، يبدو أن أباه في الطريق بالفعل، قال بصوت متحشرج:
, - هل حقًا زار أبي أيضًا تلك المملكة!
, - نعم.
, - كيف سافر؟٢ نقطةأو انتقل كما تقول؟ وأنت أيضًا؟
, - صقر كبير.
, - ماذا؟
, تذكر "أنس" الطائر الذي يراه في الكابوس، ومخالبه الكبيرة وهي تقبض على كتفيه، فسرت قشعريرة في جسده كلّه كالنار، قال وقد زاغت نظراته:
, - يحملكم من أكتافكم ويلقي بكم هناك٢ نقطة أليس كذلك؟
, - ليس هذا ما يحدث بالضبط فالأمر صعب التفسير ولكن٢ نقطة بلى سيحملك الصقر إلى هناك.
, - وأين هذا الصقر؟
, - يظهر في الغرفة الموجودة بالطابق العلوي.
, - غرفة الأشباح!
, رفع الجدّ يده وهزّ سبابته بعصبية وقال:
, - أما زلت مصرًا على تسميتها بهذا الاسم؟ لا توجد أشباح.
, - بل توجد وها أنت تحكي عنها.
, - هي حقائق٣ نقطة ستصدّقها عندما تراها بنفسك.
, - ولماذا لا يظهر هذا الصقر في الحديقة أو المكتبة!
, رمقه الجدّ بنظرة توحي بأنّه سيخبره بأمر مهم وقال:
, - السبب هو البعد الجغرافي يا ولدي٣ نقطة فوق تلك البقعة تحديدًا وفوق أرض غرفة الأشباح - كما تسميها أنت - عكف عالم الآثار الذي أخبرتك عنه والذي كان يعيش هنا على ترجمة الرموز والحروف وإعادة كتابة تلك القصص باللغة العربية واحدة تلو الأخرى، مشوهة كما زيفوها قديمًا، فغضبت الكلمات، واستيقظت الحروف، وكأنّ الروح قد دبّت فيها، واجتمعت الكتب وقررت أن تختار من يدافع عن القيم والمعاني السامية. فأرسلت الصقور في كلّ مكان لتبحث عن المحاربين، الذين يؤمنون بالمبادئ السامية، ليدافعوا عنها ويستردوا الحقيقة.
, - إذن هناك صلة بين الحكام هناك والكتب؟
, - بل بين حروف الكتابة وحرّاس المكتبة٣ نقطة ستعرف عندما تصل إلى هناك.
, - ولكن ما الذي يجبرني على تصديق هذا الكلام؟ ولماذا سأسلّم نفسي لصقر! كل هذا يدفعني إلى الجنون يا جدّي.
, - لا بدّ أن ترحل.
, - لماذا؟
, - لأن امتناعك عن إجابة نداء الكتب سيعرضك للخطر هنا، فهناك من يترصدونك، كما أنّك ستلتقي بأعداء هناك ولديهم عيون.
, - ماذا تعني بالعيون؟
, - الرمز كما يظهر لك يظهر لأحد أعدائك، سيتربصون بك ويرسلون لك صيّادًا تلو الآخر، ليأسرك أو يقتلك قبل أن تصل إلى الحقيقة هناك. كما أن هذا سيؤدي إلى محو القيمة السامية التي في كتاب "إيكادولي" إلى الأبد ٢ نقطة ستقرأ الأجيال القادمة ما سيكتب وسيصدقونه.
, صمت الجدّ هنيهة ثُمّ سأله:
, - والآن، ما هي الكلمة التي ترددت في النداء؟
, - أيّ نداء!
, - ذاك الصوت الذي سمعته يناديك في الحلم.
, - وكيف عرفت أنني سمعت نداءً في الحلم؟
, - أخبرني أبوك، فقد هاتفني فور خروجه من محطة القطار، رأى ما رسمته على الزجاج٣ نقطةالرمز!
, فغر "أنس" فاه ولم ينبس ببنت شفة، الآن فقط انتبه، لقد كانت الكلمة التي تتردد هي "إيكادولي ٣ نقطة إيكادولي"، كانت الفتاة التي تقولها تطيل الحرف الأخير وكأنّها تصيح به، صوت عذب جميل تشوبه مسحة ألم وأنين كنوح الحمام. ارتفع زامور سيّارة أجرة، لقد وصل للتو، ترك "كمال" باب السيّارة مفتوحًا وركض نحو البيت بعد نقّد السائق الأجرة، اقترب "كمال" وطالع ولده بإشفاقٍ ثُم مدّ يده وأظهر سلسلة كان يرتديها في عنقه يتدلّى منها مفتاح قديم نحاسي اللون وأمسك بيد "أنس" ووضع المفتاح فيها وأطبقها على المفتاح بحنان ثُمّ ضغط بقوّة وكأنّه يؤكد على أهميته، سأله "أنس" وما زال القلق قابعًا في عينيه:
, - ما هذا المفتاح؟
, - ستحتاجه، علّقه مع القلادة، منذ أن بدأ الكابوس يتكرر عليك يوميًا وأنا أحمله لكي أعطيه لك في الوقت المناسب.
, نظر "أنس" لوجه أبيه القلق وهو يربت على كتفه بحنان، ثُمّ قال:
, - لا أودّ أن أرحل يا أبي٣ نقطةلماذا أنا؟
, مسح الأب بحنان على خدّ ابنه وقال بإشفاق:
, - أين الفضول؟ وأين حسّ المغامرة؟ ألم تخبرني أنك مللت من حياتك الرتيبة وأنّك تشتاق لتغيير ما في حياتك، ظننتك تودّ أن تلتقي بشبح! أليس كذلك؟
, - وهل تلك أشباح؟
, - لا يا بنيّ٣ نقطة الأمر مختلف!
, - إذن لكلّ منا كتاب خاصّ يختاره. كتاب جدي معناه الجد الأكبر، وكتابك يا أبي معناه ابن أبيه و عنوان كتابي "إيكادولي" وهي تعني الحفيد إذن؟
, - لا٢ علامة التعجب
, - إذن ماذا تعني يا أبي؟
, - أحبك
, - وأنا أيضا يا أبي أحبك٣ نقطة فأخبرني الآن أرجوك ما معنى تلك الكلمة.
, التفت الجدّ إليهما وهما يتعانقان وقال بنَبرة ساخرة:
, - أيها الساذج!٣ نقطة "إيكادولي" تعني "أحبّك".
, في تلك اللحظة هبّت ريح قويّة اهتزّت لها جدران البيت، سقطت أوراق أشجار الحديقة بكثافةٍ وكأنّ فصل الخريف حلّ فجأة، طارت الأوراق ثُمّ رشقت النوافذ فصدر صوت مخيف مزعج، أظلمت السماء، وامتلأت بالغربان السود، تدافعت الطيور نحو النوافذ كأنّها تحاول اختراقها، صاح الجدّ موجهًا
, كلامه لحفيده والذي كان فاغرًا فاه وقد اتسعت عيناه:
, - "أنس" أسرع إلى الغرفة، فهي آمن مكان لك الآن.
, صاح "كمال" وهو يدفع ابنه أمامه على الدرج:
, - لن ترحل تلك الطيور إلّا بعد أن يحلّق فوق البيت.
, قال "أنس" وهو يصعد الدرج بخطوات متردده:
, - من؟
, - الرمادي"
, - وما هو "الرمادي"؟
, - الصقر الذي سيحملك إلى هناك.
, - أهذا هو اسمه؟
, - نعم٣ نقطة
, - أنا خائف يا أبي.
, عانق "كمال" ابنه، وضمّه إلى صدره بقوة، ثُمّ قبّل رأسه وقال بحنان:
, - "أنس" كن صادقًا وثابتًا مهما كان الثّمن، ولا تخف من "الرماديّ" فلن يؤذيك.
, كاد "أنس" يقول شيئًا لوالده وهو يساعده في رفع الحقيبة على ظهره، لولا صوت تحطم الزجاج الذي دوى في بهو البيت، لقد استطاعت الغربان أن تحطّم النوافذ، كانت تتجه مباشرة نحو الطابق العلوي، نحـــــــــو "أنـــــــــــــــــــــس"، إنها
, تريده٣ نقطة تستهدفه٣ نقطة تطير تجاهه.
, أدرك "كمال" أنّها تقترب فدفع "أنس" إلى داخل الغرفة فأسقطه على الأرض وصاح بصوت يمزقه القلق:
, - أستودعك **** يا ولدي٣ نقطة في حفظ الله٢ نقطة
, وأغلق الباب بسرعة، ثُمّ بعد لحظات عمّ سكون مهيب على المكان٣ نقطة اختفت كلّ الأصوات عدا صوت خفق جناحيه في الهواء، لقد بدأ الرماديّ يحلّق فوق البيت فأضاءت السماء فجأة!, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٣
الرمادي


كان "أنس" مستلقيًا على أرض الغرفة عندما انفتحت النافذة فجأة، أضاءت السماء بنور قوي ناصع، حملق في تلك البقعة السوداء التي تظهر وسط الضوء أمامه، كانت البقعة تكبر وتزداد اتساعًا، وتزيد، وتزيد، ظهر طائرٌ يبسط جناحيه على الجانبين ويخفق بهما، رأى ظلّه يتعملق أمامه حتى اندفع فجأة من النافذة ثُمّ ظلّ يحلّق في سقف الغرفة المرتفع في دائرة فوق رأس "أنس" الذي زحف بصعوبة تجاه باب الغرفة يحاول فتحه لكنّه فشل. كان الصقر ذا ظهر أزرق ضارب إلى الرمادي الأردوازي، والجسد أسود يخرج منه جناحان مبرقشان، وذيل طويل ضيّق مستدير عند نهايته، ذو طرف أسود وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسه على الجانبين لون أزرق بديع، ويمتد على الوجنتين كخطّ كما الشارب يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين. بدا الصقر متينًا مهيب الطلعة.
, هبط الصقر فجأة وانزوى في ركن الغرف وطأطأ رأسه ثُمّ ضمّ جناحيه وألصقهما بجسده، حدّق في "أنس" بعينيه المخيفتين، ثُمّ غطّس رأسه في جسده. مرّت لحظات طويلة على "أنس" استيقظت فيها كلّ حواسه، كان يرهف السمع بشدّة لعله يسمع أيّ صوت يؤنسه، بالتحديد كان يتمنى أن يناديه أبوه أو جدّه من خلف الباب، حاول أن يفتحه مرّة أخرى لكنّه فشل، كان صلبًا كالصخر الأصمّ وكأنه جزء من الجدار. سار ببطء محاولًا الاقتراب من النّافذة، غمغم الصقر وكأنّه يحاول أن يمنعه من الاقتراب منها فتسمّرت ساقا أنس والتصقتا بالأرض، ثُمّ رمى الصقر بطرفٍ خفي وهمس محدّثًا نفسه:
, - ظننتك أكبر حجمًا أيها " ا٢ نقطةل٢ نقطةر٢ نقطةم٢ نقطةا٢ نقطةد٢ نقطةي" كصقور الأساطير العملاقة.
, حرّك قدمه ببطء شديد ليخطو خطوة أخرى فتحرّك الصقر موازيًا لخطواته فتوقف "أنس" مرّة أخرى وقال بسخرية:
, - تترصّدني إذًا أيّها الصغير!
, - لست صغيرًا يا صديقي٤ نقطة أنا شيخ كبير!
, شعر "أنس"وكأن ألف إبرة رشقت جسده، تكورت جذوع الشعر على جلده فاستحال جلد إوزة، الصقر يتكلّم! ابتلع ريقه بصعوبة وكأن كتلة من الأشواك تحتل حلقه، بسمل وحوقل وبدأ يقرأ آية الكرسي لعلّه يختفي من أمامه، أغمض عينيه لعلّه يستيقظ من ذاك الكابوس٢ نقطةلكنّه لم يكن حلمًا أبدًا! لم يتمكن من تحريك جسده مرّة أخرى، باغته الصقر وهبّ فجأة محلّقا بضربة جناح واحدة ووقف على كتفه الأيسر، ثُمّ همس في أُذنه:
, - لا تخف منّي يا "أنس".
, كانت قطرات العرق تنسال على ظهر "أنس" متتابعة، وكاد يفقد الوعي، لكنّه تماسك. كان يخشّب رقبته محدّقًا بطرف عينيه بتربص نحو موضع الصقر وراءه، وكأنّه يخشى انقضاضه عليه فجأة، ظنّ أنّه سينقره في رقبته أو أُذنه لكنّ الصقر كان هادئًا جدًا وساكنًا. مرت دقيقة وهما على ذاك الحال وكأنهما تمثالان من الشمع. أخيرًا نطق الصقر مرّة أخرى وقال بلطف:
, - هل هدأت الآن؟ لا أُحبّ أن نبدأ رحلتنا وأنت ترتجف هكذا.
, حرّك "أنس" عينيه تجاه كتفه وأدار رأسه ببطء وكذلك فعل الصقر فتقاربت عيناهما تمامًا وحدّق كلّ منهما في الآخر للحظات، ازدرد "أنس" ريقه بصعوبة وقال بصوت مرتعش:
, - لا أُصدّق أنّك ستحملني؟
, زفر الصقر فلامست أنفاسه بشرة "أنس" فانتصبت شعيرات ذقنه الخفيفة، ثُمّ قال له وهو يتسلّق رأسه:
, - لا تسير الأمور بتلك الطريقة يا صديقي، سأحملك حتما ولكن بطريقتي الخاصة.
, استوى الصقر على رأس "أنس" الذي رفع مقلتيه لأعلى بينما بسط الصقر جناحيه في الهواء، ثُمّ احتضن وجه أنس بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطى وجهه كلّه بريش جناحيه ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهته وعينيه وأذنيه وخديه، لم يترك إلا أنفه وفمه ليتمكن من التنفس والكلام. شعر "أنس" بجسده يخدّر، وسرى في نفسه شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسده وكأنّه ريشة في جناح الصّقر! حاول فتح عينيه٢ نقطةكان يظنّ أن ريش جناح الصقر ما زال يغطيهما، لكنّه فوجئ بنفسه يطير وقد غمر الضباب كلّ شيء حوله، لفحته الرياح الباردة، وشعر برذاذ خفيف يبلل جبينه وكفيه، رائحة المطر الخفيف داعبت أنفه، عطس فجأة فإذا بصوت الصقر يصدر من أعلاه:
, - يرحمك **** يا صديقي.
, رفع رأسه ففوجئ بالصقر وقد ازداد حجمه أضعاف حجمه الحقيقي الذي رآه منذ قليل في الغرفة، كانت مخالبه تقبض على كتفي "أنس" حيث يحلّق به فوق "مملكة البلاغة"، ردّ بعد أن اضطرب قليلًا وتأرجح بجسده من المفاجأة قائلًا:
, - ي****!٣ نقطة يا له من شعور غريب!
, - لا تخف من السقوط
, - لا أصدق!
, - بل صدّق واستعد لما هو أكثر مفاجأة لك
, - هل وصلنا؟
, - اقتربنا، حاول أن تستمتع بالطيران.
, بدأ الشعور بالخوف يغادر صــــــدر "أنس" وحـــــــلّ مكانـــــه تدريجيًا الشعـــــــــور
, بالفضول وبدأ حسّ المغامرة يدغدغ نفسه، كانت حياته راكدة لفترة طويلة، وها هي الأمور تتغير فجأة! سأل "الرمادي" مستأنسًا بحواره معه:
, - هل تعرف جدّي؟
, - بالتأكيد.
, - أخبرني أبي أنّك صديق.
, - أتمنى أن أحوز لديك نفس المكانة التي حزتها عند أبيك.
, - كيف تتحدّث كالبشر؟
, - لا تسأل.
, - لا بدّ أن أسأل!
, - إذن ستقضي وقتك كلّه في الأسئلة، والوقت يمرّ، حاول أن تتقبل بعض الأشياء كما هي، لا تسأل إلّا عمّا يفيدك، أمّا ما لا يعنيك ولا يفيدك فلا تضيع وقتك بالركض خلفه.
, قال "أنس" متلعثمًا:
, - إنّه٣ نقطة فضول أنيس.
, قال الصقر وهو يخفف من سرعة طيرانه استعدادًا للهبوط:
, - بعض الفضول قد يفيد، وبعضه قد يؤذيك، فاحذر يا صديقي.
, سرت طمأنينة في نفس "أنس"عندما تذكّر والده وهو ينصحه بنفس النصيحة، بنفس الكلمات عندما كان يجلس بجواره في محطة القطار بالإسكندرية، لكن تلك الطمأنينة تلاشت سريعًا عندما بدأ "الرماديّ" يقترب به من مصبّ النهر الأخضر. تسارعت دقّات قلبه أكثر فأكثر، كاد يقفز من بين ضلوعه، كان البرد يزداد كلما اقتربا من سطح الماء، بينما كان لون الماء الأخضر الزمرّدي يزداد بهاء ووضوحًا.
, هبّت رياح خفيفة فمسحت وجه الماء مخلفة وراءها تموجات متوازية بديعة، من بعيد وعلى شاطئ النهر كانت أوراق الأشجار المتساقطة تدور مع الرياح، وكأنّ هناك أياد خفيّة تتلاعب بها، كادت ساقا "أنس" تلمس الماء، لكنّ "الرماديّ" وبعد أن حلّق به برشاقة فوق سطح الماء تركه على ضفّة النهر وارتفع محلّقا لدورة كاملة قبل أن يعود ليقف أمامه من جديد ويحني رأسه وكأنّه يحييه، من جديد ضمّ جناحيه وألصقهما بجسده فبدا وكأنّه أمير يتلحّف برداء أنيق. كان "أنس" ما زال يتطوّح، للحظات قليلة كان قد فَقد اتزانه، لكنّه تمالك نفسه وقال بعفوية:
, - أنت سريعٌ جدًا.
, ران عليهما صمت خفيف قبل أن يحرّك الصقر جناحيه ويقول:
, - والآن اسمح لي أن أنصرف، انتهت مهمتي.
, - ولكن! ماذا سأفعل أنا!
, - سيستقبلك "المغاتير" ويصحبونك للقاء "الحوراء".
, - ومن هم "المغاتير"؟
, - قوم صالحون يخفون وجوههم فلا تهبهم.
, - ولم يخفون وجوههم!
, - لا ينتظرون الشكر، ولا يبتغون الأجر، استغنوا عن الناس فأغناهم **** عن الناس وصار الجميع يحتاجون إليهم، ودائمًا هم في الطليعة. انتظرهم هنا على أطراف الغابة خارج حدودها ولا تتحرك من مكانك فهم لن يدخلوها أبدًا.
, رفع "أنس" حاجبيه وكاد يسأله لماذا لولا أنّ "الرمادي" باغته قائلًا:
, - سأمرّ عليك في وقت لاحق.
, ثُمّ بسط جناحيه وارتقى يحلّق في الفضــــاء مبتعدًا عـــــــــن "أنس" ومتجهًــــــــا
, صوب جبل مهيب أحاطت قمّته هالة حمراء قاتمة، برزت من وسطها تلك القمّة بشموخ وقد كساها الجليد الأبيض، شعر "أنس" بقشعريرة تجتاح جسده عندما رأى الجليد، كان الجوّ باردًا جدًا. صاح وهو يركض موازيًا لطيران الصقر على الأرض:
, - أرجوك لا تتركني الآن، أُريد أن أسألك عن أشياء كثيرة.
, أجابه "الرمادي" وهو يبتعد:
, - ستجيبك عنها جلالة الملكة.
, توقف "أنس" عن الركض حيث انتهى الطريق ووقف على حافة وادٍ كبير، أوشك أن يسقط فيه لولا أنّه انتبه ثُمّ أرخى ذراعيه بيأسٍ وهو يراقب "الرمادي" وقال:
, - وداعًا.
, عاد "الرمادي" للتحليق فوقه وقال بنَبرة حميمية:
, - لا تقل وداعًا يا صديقي، بل قل إلى اللقاء.
, - حسنًا٢ نقطةإلى اللقاء.
, اختفى "الرمادي" مخلفًا وراءه "أنس" وهو يتلفّت حوله يتأمّل الأشجار التي بدت وكأنّها تطالعه بفضول، سار بضع خطوات نحو ممر ضيّق بينها، أجفل عندما تناهى إلى سمعه حفيف الأشجار وشقشقة العصافير،
, تحسس القلادة التي ألبسها له جدّه وطالع النقوش التي عليها مرّة أخرى، طال سيره فأحسّ بالإرهاق، تفحص ساعة يده فإذا بعقاربها لا تتحرك! لقد توقفت عند الواحدة ظهرًا، نفس التوقيت الذي غادر فيه بيت جده!
, تذكّر شعوره وهو يحلّق في الهواء، مزيج من الخوف والحماس بدأ يعتمل في صدره، استعاد رباطة جأشه على نحوٍ سريع! ما عاد فزعًا كما كان لحظة ظهور الصقر لأوّل مرّة، بل خفّ ذاك الشعور، وما عاد خائفًا كما كان والكتب تدور حوله في غرفة المكتبة، لكنه بالطبع قلق. استغرقته المشاهد وهو يجترّ ما مرّ به خلال الساعات الماضية في شرود بينما ينتظر ظهور "المغاتير"( ).
, ٣ علامة استفهام
,
, لمح "أنس" طيفًا يمرّ قريبًا منه قد افترش ظلّه على الأرض وقبل أن يلتفت نحوه فوجئ بخبطة على كتفه فالتفت متأهّبًا وأمسك بذراع هذا الذي باغته فجأة من الخلف وسحبه ثم انقلب به على الأرض واضعًا ركبته فوق صدره وقابضًا بأصابعه العشرة على رقبته، ابتسم الشاب بسخرية وقد فتح كفّيه مظهرًا استسلامه الكامل لـ"أنس" وقال بصعوبة من أثر قوة قبضة "أنس" على أنفاسه:
, - مهلًا يا رجل، وددت فقط أن أُرحّب بك.
, خفف "أنس" من قبضته وتركه وتراجع إلى الخلف، تحسس الشاب رقبته وقال بنظرة ماكرة:
, - يبدو أنّك تمارس الرياضة، أليس كذلك؟
, - من أنت؟ وماذا تريد؟
, - أين تعلّمت تلك المهارات؟ هيّا أخبرني؟
, حدّجه "أنس" بنظراته، بدا وجه الشاب يحمل مسحة من الوسامة بشعره البنيّ، وبشرته الباهتة وفكّه العريض، وتلك النظرة الساخرة التي تُطلّ من عينيه الضيقتين، لكن تلك الملامح جعلت "أنس" يرتاب منه. كان يظنّ أنه سيلتقي بأناس سمر البشرة وبملامح نوبية، كتلك التي قرأ عنها ورآها من قبل. سأله متجاهلًا سؤاله الأخير قائلًا:
, - ما اسمك؟
, - أنا "شهاب" وأنت؟
, - "أنس".
, بدأ "شهاب" يدور حول "أنس" ويتأمّله بتمعّن ناقلًا عينيه من أخمص قدميه وحتى قمّة رأسه، ثُمّ قال باستخفاف:
, - تبدو غريبًا عن المكان، ألك صديق هنا؟
, أجابه "أنس" بتحفّز:
, - الرّمادي.
, - ذاك الكهل الأحمق.
, شعر "أنس" بالإهانة وكأنّ السبّة وجهت له، فأخفى غضبه وسأله:
, - وهل تعرفه؟
, - أنا أعرف الجميع هنا٣ نقطةحتى ذاك الكهل البغيض.
, بدأ كلاهما يدور حول الآخر، سأله "أنس" بترقّب:
, - هل٣ نقطةأنت مثلي!
, خرجت من "شهاب" قهقهات عالية، استغرقته للحظاتٍ قبل أن يقترب منه حدّ ملامسته وقد شَخَصَ فيه بسحنة متوّعدة:
, - لستُ مثلك!
, ثُمّ تغيرت ملامحه الضاحكة فجأة وصارت صارمة، وقال وهو يتراجع إلى الخلف:
, - أنا لست مثل أحد٣ نقطةأنا مختلف! أنا مميّز.
, التفت "أنس" تجـــاه الطريق الممتـــــد أمامــــــــه بين الأشجــــــار ورمــــــــاه بنظــــــــــــرة
, خاطفةٍ ثُمّ قال بهدوء محاكيا طريقة "شهاب" في الكلام:
, - كيف تعالج الأمور هنا؟
, - أيّ أمور؟
, طاف "أنس" بنظراته في كلّ اتجاه ثُمّ قال:
, - كلّ شيء٣ نقطةأود أن أعرف ما دوري.
, - ليس لديك دور هنا، أنت مجرد شاهد.
, - على ماذا؟
, - على ما ستراه هنا من أحداث.
, - لا أظنّ.
, - ومن أنت حتى تظن أو حتى تفكّر!
, تجاهل "أنس" نَبرة الاستخفاف التي شابت الكلمات، وتخطاها قائلًا:
, - لكلّ منا دور في حياته وحياة الآخرين، كل كلمة ننطق بها وكل فعل نفعله.
, - لكن الأمور هنا ستسير رغم أنفك على طريقة لن تحددها أنت.
, - صحيح، وهكذا الحياة كلّها، لكن لا تخبرني أننا هنا لنراقب في صمت كالجمادات.
, ران عليهما الصمت للحظة، بدا فيها "شهاب" وكأنّه يجترّ بعض الذكريات قبل أن يقول بنَبرة تشوبها المرارة:
, - أتدري، ربما أنت على صواب٢ نقطة كلمة (مسئول) قد تقلب حياة شاب، كلمة (خبيثة) قد تفرق بين اثنين، وإشاحة بنظرة قد تعني (أكرهك).
, رمقه "أنس" وقرأ على وجهه الآلم فتحرك تجاهه وقال:
, - والتفاتة قد تعني الحب، مجرّد الحضور في موقف ما قد يعني الكثير لآخرين دون أن ندرك هذا، لكنهم يدركون، حتى الصمت أحيانا إن كان في موضعه الصحيح فله دور.
, - حتى إساءتنا للآخرين؟
, - نعم٢ نقطة حتى إساءتنا للآخرين وإساءتهم لنا، أنت مثلًا قد تعزم على إزاحة جبل لكي تثبت لمن آذاك وأساء إليك أنه على خطأ، نحن نتعلم في مدرسة الحياة وما زال أمامنا الكثير من الدروس.
, ابتسم "شهاب" وقال وهو يهزّ رأسه إعجابًا:
, - تبدو حكيما يا فتى، بدأت أحبك.
, ثُمّ عاد يتفحّص وجه "أنس" قبل أن يقول وهو يحكّ أنفه:
, - كم عمرك؟
, - ثلاثة وعشرون عامًا، وأنت؟
, - خمسة وثلاثون عامًا.
, ثم سكت هنيهة وقال لـ"أنس":
, - هل٢ نقطةتحبّ أن تأتي معي؟
, - إلى أين؟
, - حيث أقيم.
, - لكنني لا بدّ أن ألتقي الملكة أوّلًا.
, - الحوراء؟
, - نعم هي "الحوراء"
, ما كادا ينهيان الكلام حتى تناهى إلى سمعهما صوت حوافر الخيـــــــول وهي
, تضرب الأرض ، أفزع صهيلها "شهاب" الذي تلفت في اضطراب ثُمّ شهق وقد كست وجهه علامات الرهبة وركض سريعًا وشق الطريق بين الأشجار وكأنّ الموت يطارده! تبعه "أنس" وهو يتساءل عن سبب فزعه، أصابته عدوى الفزع لمجرد رؤية نظرات "شهاب" الشاخصة ثم شهقته التي جعلت "أنس" يرتبك بشدّة، كان "أنس" يركض وعينه على رأس شهاب.
, في تلك اللحظة، ارتفع صهيل الخيول ثُمّ علت أصوات حوافرها وأصدرت شرارة وهي تقدح الأرض التي انتقلت إليها للتو بعد أن غادرت البستان المجاور للغابة، كانت تلك الأرض تبدو كشريط عريض يفصل بين البستان والغابة التي ركض فيها "أنس" خلف "شهاب"، لم تتحرك الخيول خطوة واحدة، وقفت صفًا واحدًا على ذاك الشريط الحجري الفاصل بين الجهتين، وهي تنظر تجاه "أنس"، صاح "الزاجل الأزرق" بصوته الجهوري:
, - يا إلهي٢ نقطة تأخرنا!
, ثمّ قال بتوجس:
, - بدأت رحلته دون أن يسمع منّا٢ علامة التعجب
, ٣ علامة استفهام
,
, مالت الشمس فانزاح ال**** عن وجهها بحياءٍ فأضاءت شرفات القصر، جلست"الحوراء" في ديوانها بوقار، حيث كانت ترتدي برنسًا مرصعًا بالجواهر تتدلّى منه سلسلة ذهبية مطعّمة بالأحجار الكريمة، ثيابها البيضاء الواسعة تشعر من يراها بمهابةٍ وسكينةٍ كانت تلف رأسها بوشاح أبيض وقد انسدل من فوق رأسها شالٌ طويلٌ غطى كتفيها وقد لفّته باحتشام على صدرها. عجوز كانت ٢ نقطة لكنّها جميلة!
, استأذن أحد رجال الديوان وقال بعد أن حيّاها بإجلال:
, - مولاتي شغب بعضُ الجند في المنطقة الشرقية٣ نقطة ماذا سنفعل؟
, أشارت "الحوراء" للكاتب الذي كان جالسًا بالقرب منها وعلى يمينـــــه الـــــــــدواة
, والقلم وأمامه الأوراق متأهّبًا ليكتب ما ستقوله وقالت:
, - لا يُلبُّوا على الشغب، ولا يُحوَجون فيما بعد إلى الطلب.
, هزّ رجال الديوان رءوسهم وهمهموا موافقين، مرّت لحظات ناقشوا فيها كيف يكفون حاجة الجُند حتى يتفرغوا لما هو أهم، وهو حماية "مملكة البلاغة" من الأعداء، ثمّ قال أحدهم:
, - إن أهل المنطقة الشمالية رفعوا مظلمة يشكون فيها عاملًا هناك.
, أشارت "الحوراء" مرّة أخرى للكاتب ليدوّن خلفها وقال:
, - أرسل لهم٣ نقطة"عيني تراكم، وقلبي يرعاكم"
, وأمرت "الحوراء" بإرسال من يتحقق من الأمر ويعود إليها، ثم التفتت إلى أحد رجال القضاء الذي قال وهو يرنو لرجل يقف بعيدًا يراهم ولا يكاد يسمعهم:
, - مولاتي لقد قمت باستدعاء والي المنطقة الغربية كما أمرتِ وهو يستأذن بالدخول.
, - أذنت "الحوراء" له بالدخول وبعد أن ألقى عليها السلام
, قالت بحزم:
, - أخربت البلاد، وأهلكت العباد؟
, فقال الوالي مرتبكًا:
, - يا مولاتي، ما تحبِّين أن يفعل **** بكِ إذا وقفتِ بين يديه، وقد قرعتك ذنوبك؟
, فقالت "الحوراء:
, - العفو والصفح.
, قال الوالي بلهجة يشوبها الإحساس بالذنب:
, - فافعلي بغيرك ما تختارين أن يُفعل بك.
, صمتت "الحوراء" لوهلة ثمّ قالت:
, - قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطف خير من والٍ مستأنف.
, أسرع الوالي بالانصراف وشيّعه رجال الديوان بأعينهم ثم قال أحدهم فور أن انصرف:
, - حقًا يا مولاتي إنّك من أفضل حكّام المملكة حلمًا.
, قالت"الحوراء":
, - وأنا و**** أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه.
, فرغ الرجال من باقي مراسيمهم، وانتهى وقت الديوان وعادت "الحوراء" لقصرها واتجهت إلى صالة واسعة حيث كان الجميع يستعدّون للاحتفال بمناسبة هامّة( ).
, ٣ علامة استفهام
,
, شد "الزاجل الأزرق" سرج فرسه الذي صهل بعنفوانٍ قبل أن يقفز صاحبه به في الهواء قفزة رشيقة عابرًا نهرًا رفيعًا يفصل المكان الذي كانوا فيه عن وادٍ فسيح بين جبلين يحتضن قصرًا مهيب الطلعة، كان القصر بارزًا وكأنه نُحت داخل بلورة عملاقة، كلّ جزء منه كان رائعًا في حدّ ذاته، تحفة فنية لا تشبه ما يجاورها، شرفاته كانت وكأنّها محار مفتوح تطل منه لؤلؤات بديعة، بواباته عليها نقوش والتواءات تشبه فروع الأشجار، وكأنّ الأزهار المنحوته تضجّ بالحياة من روعتها. وقف "المغاتير" أخيرًا وكانت قوائم خيولهم مصطفّة على التوازي بشكل أنيق أمام البوابات، رفع "الزاجل الأزرق" يده ولوّح لحراس القصر ففتحت البوابات، فدلف ومعه رفاقه للقاء الملكة.
, بخطوات منتظمة سار "المغاتير" في زمرةٍ مهيبة تجاه جناح الملكة، توقفوا جميعًا فجأة عندما بدأت الأرض ترتفع قليلًا في مستواها عما خلفهم، تقدّم "الزاجل الأزرق" حيث استقبله خدام القصر بوجوه باسمة، وكأنّهم كانوا يترقبون وصوله!
, كان الصمت يخيّم على المكان، أشعة الشمس الحانية كانت تتسلل من النوافذ لتلقي على الأرض أمامه انعكاسات ذهبية خلابة، كانت تتراقص أمام خطواته وكأنّها ترحّب به، بدت النقوش والزخارف بديعة على الحوائط وهي تحتضن وتتكاتف، وارتصّت أوعية من الفخار على الرفوف تطالع أهل القصر من أعلى بشموخ. دلف حيث كانت الملكة تجلس بوقار وعلى الجانبين عدد كبير من الرجال يجلسون على الأرض في صفّين منتظمين وأمام كلّ منهم طاولة صغيرة عليها كتاب والكلّ مشغولٌ بالتدوين، كان للملكة وجه به بقايا جمال متعب، بدت عجوزًا تخطّت السبعين لكنّها كانت جميلة الروح، تلك التجاعيد التي حول عينيها من الطرفين بدت وكأنّها تحتضن نظراتها بحنان، كان بؤبؤاها شديدي السواد يسبحان في بياض عينيها الشاهق بحياء، سقط حاجباها لكنّ جبينها كان شامخًا بعزّة، هشّت فور أن رأت "الزاجل الأزرق"، أشارت له ليجلس مكانه ففعل بهدوء، كانت تقف أمامها فتاة احتشمت برداء أرجواني اللون فضفاض واسع، له قلنسوة مذهّبة الأطراف بشكلٍ بديع، أكمام ردائها الواسعة كانت تصطف على حروفها فصوص من الياقوت الأحمر دقيقة جدًا كانت الفتاة تقرأ بتأثّرٍ من كتابٍ بين يديها وبصوت تشوبه بقايا بكاء:
, "نكس الفارس سيفه وأجهش بالبكاء، كان قلبه يخفق بحرارة طغت على حرارة النار التي أحرقت قدميه، كان الحزن مذاقه اليوم مختلفًا، ليس قصيدة حزينة تنزف في أذنيه، وليس خبرًا مفزعًا يستقبله بالنحيب، الحزن مرّ لأنّ صديقه الذي كان يثق به قد خان العهد. عاد الفارس إلى الديار بعد أن طاب جرحه ليبحث عنها، وأخيرًا وقف أمامها يرجو المغفرة، ما عادت الحياة تطيب بعيدًا عنها. وكانت "هيلا" تتوسّد الصبر حتى يعود. لم تذق عيناها الجميلتان طعم النوم والراحة حيث ضاق بها المكان خلال غيابه، زُفّت إليه على عجلٍ في ليلة ملأت فيها كفّه بالدموع وتفجّر في صدريهما ينبوع الحب، وأخيرًا رقص جريد النخل، وتعانقت حبّات المطر، وبات الصدق يجول في الأنحاء، في الديار، على التلال، شامخًا فوق الجبال، كما يجول الهواء في صدور الأنقياء الأصفياء"
, أغلقت الفتاة الكتاب بين يديها، وفي نفس اللحظة أغلق كلّ الرّجال الكتب أمامهم في آن واحد وكأنهم قد اتفقوا على التوقيت، وتقدّمت الفتاة بخطوات ثابتة نحو "الحوراء" تسلّمه لها، وضج المكان بأصواتهم وكأنّهم يحتفلون بحدث عظيم. كانوا يحتفلون بـ "هيلا" وهو اسم لأميرة نبيلة وهو أيضًا عنوان قصة يحكي عنها هذا الكتاب.
, في تلك اللحظة استدارت الفتاة التي كانت تقف أمام "الحوراء" وتقرأ، ورفعت الكتاب الذي كان مكتوبًا عليه بخط واضح "هيلا"، فهلل الجميع، كانت الفتاة مشرقة ولها وجه طفولي بريء، لون عينيها كان يتأرجح بين اللون الرمادي والأزرق الشاحب، كانت تطالعهم وعلى وجهها ابتسامة فخر، فور أن رأت "الزاجل الأزرق" الذي لا تعرف من ملامحه سوى عينيه الواسعتين فهو يتلثم دائمًا كعادة المغاتير، شخصت بعينيها تجاهه وانتفضت فجأة وتغيّرت ملامحها، فهي تريد الرحيل فورًا والعودة إلى بيتها وعالمها فقد أدت مهمتها على أكمل وجه، وتخشى أن يتحقق ما أخبرها به الحكيم "سامي كول"٢ علامة التعجب
, ٣ علامة استفهام
,
, تقدّم "الزاجل الأزرق" ووجه تحيّته للملكة وقال بعد أن لاحظت علامات التوتر التي تطلّ من عينيه:
, - مولاتي، لقد وصل المحارب، وصل "أنس".
, - وأين هو؟
, - للأسف ركض في الغابة ولم نتمكن من الحديث معه.
, - يا للمصيبة! كيف حدث هذا! أين الرمادي؟ وأين كنتم أنتم؟
, - تأخرنا للحظات فقط٣ نقطة مجرد لحظات.
, رفعت صوتها وقالت وهي توقع كلّ كلمة بنَبرة صوتها المميزة:
, - أن تصل مبكرًا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات الأوان.
, - أعلم مولاتي، وأعتذر٢ نقطة لن تتكرر.
, - والآن كيف سنتواصل معه؟
, من بعيد، ومن خلف الستار، كانت "مَرام" تراقب الحوار وقد كتمت أنفاسها عندما سمعت اسم "أنس"، ذاك الشاب الذي يتحدثون عنه تعرفه، فقد أخبرها "سامي كول"، ذاك العجوز ذو اللحية أنّها ستلتقي بهذا الشاب، وربما تضطر للبقاء، وهي تود الرجوع إلى أهلها في الحال.
, ركضت خارجة من القصر في فزع والتف حولها العديد من الفتيات والجواري، اتجهت إلى الوادي القريب من القصر تنتظر أنثى الصقر التي ستحملها لتعود إلى بيتها، كانت ترتجف، غابت فرحتها فجأة، أرادت أن تتخذ القرار، تريد العودة لكنّ ضميرها يؤنبها هل تخبر "الحوراء" بما قاله لها "سامي كول" أم لا؟ كانت خائفة.
, اقتربت "الحوراء" في موكبها وحولها الحرّاس، من خلفها كان يسير "الزاجل الأزرق" وهو يقلّب ما حدث في رأسه، ماذا لو وصل "أنس" إلى الجنوب؟
, في تلك اللحظة قالت "الحوراء" موجهة كلامها لـ "مَرام" التي بدت على ملامحها علامات الارتباك:
, - شكرًا لك يا "مَرام"، حان وقت الرحيل.
, ودَّعوها ووقف الجميع رافعين رءوسهم ينتظرون "قطرة الدمع" لتحملها وتعيدها إلى موطنها، لكنّ "قطرة الدمع" ابتعدت فجأة عندما صاح منادٍ قائلًا:
, - مولاي الحكيم "سامي كول"
, التفت الجميع نحو باب القصر، واقتربوا حيث كان يقف الكهل فكلهم يعظمونه ويقدرونه لأنه ذو شأن عظيم في المملكة، كان يشير وهو مغمض العينين! رفع ذراعه تجاه أنثى الصقر التي كانت تحلّق في السماء والتي يطلقون عليها "قطرة الدمع" لتبتعد٣ نقطة كان الجميع يتساءلون:
, (لماذا جاء ذاك الحكيم الذي لا يغادر بيته إلّا للضرورة في هذا الوقت من النهار؟)
, رفعت "مَرام" رأسها تجاه "قطرة الدمع" التي كانت تحلق فوق رءوسهم في السماء، تابعتها بنظراتها وهي تبتعد بدون أن تحملها معها كما كانت ترجو، ثُمّ ترجرجت الدموع في مقلتيها، بدت حائرة ويائسة وقالت بخفوت وهي تسير بجوار الملكة:
, - لماذا يبعد الحكيم "سامي كول" "قطرة الدمع"! ألن تحملني لدياري؟ ألن أرحل الآن؟
, - يبدو أنّ هناك خبرًا جديدًا، انظري لوجه أبي!
, تمتمت "مَرام" قائلة وهي ترنو إليه:
, - بالفعل٣ نقطةهناك شيء ما!
, - ما هو يا عزيزتي؟
, زفرت بوهن وقالت:
, - ذاك الشاب الذي كنتم تتحدثون عنه منذ قليل٢ نقطة
, - ما به؟
, - رأيت اسمه في منتصف كتاب "هيلا"، ظهر لي بشكلٍ واضح، وأخبرني العظيم "سامي كول" أن أبلغه إن ظهر مرّة أخرى على صفحات كتابي، وأنه من الأفضل أن أبقى لو وصل قبل رحيلي.
, - وهل ظهر اسمه مرّة أخرى؟
, - نعم٢ نقطة أكثر من مرّة، وكأنّ الكتاب يريد أن يخبرني عنه شيئًا ما.
, - وهل قٌمتِ بإخبارِ أبي؟
, - بصراحة٣ نقطة لا!
, التفتت "الحوراء" ورمقت "الزاجل الأزرق" بنظرة ذات معنى، همهم "الزاجل الأزرق" وغضن حاجبيه قبل أن يقول وهو يقترب منها:
, - هل كان هناك رمز؟
, قالت "مَرام" متلعثمة:
, - لا أذكر٢ نقطةفكما تعلمون كنت مشوشة في الفترة الأخيرة حتى أن إكمال مهمتي كان صعبًا جدًا.
, دلف الجميع إلى القصر يتقدمهم رجلٌ قويّ البنية بارز العضلات، يرتدي سروالًا فضفاضًا وقميصًا أبيض ودَرّاعةً من الكتّان، وعلى رأسه قلنسوة بيضاء، ثمّ صاح بصوت جهوري ليعلم كلّ من بالقصر:
, - مولاي الحكيم "سامي كول".
, ارتبك كل من بالقصر، وأسرعت الحوراء نحو الديوان تعدّل من مكان جلوس أبيها، ثُمّ أمسكت بزجاجة مرصعة بالأحجار الكريمة ونثرت بعض قطرات العطر منها على الكرسي بجوارها وكأنّها تهيؤه لاستقباله.
, جلس "سامي كول" تجلله الهيبة وابتسامته العذبة تضوي على ثغره، كانت لديه لحية بيضاء طويلة ناعمة، بدا عجوزًا جدًا كشجرة بلوط قديمة، انحنت قامته ووهن عظمه ولكنّه بدا صلبًا متماسكًا، وأنيقًا أيضًا!
, كان يرتدي قَبَاءً بنفسجية اللون مفتوحة عند الرقبة، أكمامها محلّاة بخيوط ذهبيّة، تغطّي رأسه قلنسوة زاهية اللون ومطرزة، وعلى كتفيه وضع طيلسانًا أخضرَ.
, حيّاهم بحبور وشرد بفكره قليلًا، كانت له عينان شفافتان كالبلور! بدت على وجهه علامات القلق فأسرعت ابنته بسؤاله وكانت ذكية اللبِ حاذقة الفهم تقرأ حال أبيها على وجهه فقالت:
, - هل أنت بخير يا أبي؟
, قال بألم وهو يمسح وجهه بكفيه :
, - مات صديقي الحبيب.
, - رحمه **** يا أبي، لا تحزن.
, قالت "الحوراء" الجملة الأخيرة وهي تمسح على كتفه مخففة عنه ما ألم به من حزن على فراق صديقه العزيز والحبيب.
, دمعت عيناه وجلس شاخصًا بعينيه حزينًا وجلست "الحوراء" تواسيه ثُمّ قالت بعد أن هدأت نفسه:
, - أنهت "مَرام" مهمتها، لكنّها رأت اسم "أنس" يتكرر في كتابها، وتقول أنّك أخبرتها أن من الضروري أن تخبرك إن تكرر ظهوره.
, - وهل تكرر؟
, - نعم
, - وهل وصل "أنس"؟
, - نعم وصل.
, - وأين هو؟
, - للأسف، بدأت رحلته قبل أن يلتقي بنا وتوغل في الغابة وحده.
, التفت العجوز فجأة تجاه "مَرام"، ثُمّ قال لها وهو يحرّك سبابته في الهواء محذّرًا:
, - لا ترحلي، وأسرعي خلفه فأنت تستطيعين دخول الغابة أما نحن فلا٣ نقطة هيا.
, اقترب"الزاجل الأزرق" من الشيخ وسأله بإجلال:
, - هلّا أخبرتنا أيّها الحكيم عن سبب ظهور اسم "أنس" في كتاب "هيلا" الخاص بـ"مَرام"؟
, - كان لا بدّ من هذا، وربّما ستظهر صورتها في كتابه!
, - لماذا؟
, سحب "سامي كول" نفسًا عميقًا ثُم صمت حتى أنّهم ظنوا أنّه لن يتكلّم، ثمّ قال أخيرًا:
, - ستخبرنا "مَرام" بنفسها يومًا ما.
, كانت "الحوراء" تدرك شعور "مَرام"وشوقها للعودة لبيتها، سألت والدها وهي ترنو إليها بحنان:
, - هل عليها البقاء وقد أدّت مهمتها؟ أظنها اشتاقت لأمها.
, رفع الحكيم حاجبيه وقال:
, - على الأقل تحاول اللحاق به وتعيده، لن يستغرق الأمر منها وقتًا طويلًا، ربّما ساعة أو ساعتين!
, نهض "سامي كول" فجأة، قرر العودة لداره، يأبى البقاء في القصر، ويرفض الإقامة مع ابنته، حتى والمطر يهطل بغزارة صمم على الرحيل!
, - لكنّك لم تخبرنا بأيّ شيء جديد! ما سبب ظهور اسمه في كتابي؟ ألست حكيم المملكة يا سيدي؟
, قالتها "مَرام" بضيق، ودت لو وضّح العجوز شيئًا ما، فهي تود العودة إلى بيتها في الحال.
, التفت الكهل بعينيه البلوريتين ثم قال موجها كلامه لـ"مَرام":
, - سيكون طوق نجاة لكِ، وستكونين طوق نجاة له يومًا ما.
, ثُمّ سألها:
, - هل تدركين معنى كلامي يا "مَرام"؟
, ابتلعت "مَرام" ريقها بصعوبة، ثُمّ قالت بصوت مهتزّ:
, - في الحقيقة٣ نقطةلا!
, لاح على شفتيه شبح ابتسامة، استدار وتركها وعلامات الخوف تتمشّى في وجهها.
, التفتت "الحوراء" تجاه "مَرام" التي كانت تطالعها باهتمام شديد ممزوج بالتوتر، كانت تعصر كفيها وتتنفّس بصعوبة، رمقتها الملكة بنظرة تشي بالكثير وقالت لها:
, - "مَرام" أعلم أن مهمتك قد انتهت، لكننا في الحقيقة نحتاج لوجودك معنا في المملكة لفترة وجيزة لمساعدتنا في هذا الأمر، فأنتِ تعلمين أننا لا نستطيع دخول الغابة، أمّا أنت فتستطيعين لأنّك محاربة.
, زفرت "مَرام" بيأسٍ وقالت وهي تهزّ رأسها:
, - وهل لي أن أقرر أو أختار؟ قد كان اليوم احتفالًا بانتهاء مهمتي وكنت على قيد أنملة من عودتي لداري!
, رمشت الملكة بعينيها وقالت:
, - للأسف٣ نقطةلن نستطيع السماح لك بالرحيل الآن.
, مرّت "مَرام" بلحظة عصيبة قبل أن تقول:
, - لكن لي طلب واحد.
, - وما هو؟
, - عند انتهاء الأمر ربّما أطلب منك شيئًا ما، وأريد منك أن تعديني بأن تحققيه لي.
, - وما هو؟
, - ليس الآن٣ نقطة
, - أعدك يا ابنتي طالما الأمر في استطاعتي.
, - حسنًا، والآن٣ نقطةما المطلوب مني؟
, اقترب منها "الزاجل الأزرق" وقال بنَبرة جادة:
, - الأمر هام، وصل "أنس" وها هي رحلته على أرض مملكتنا قد بدأت دون أن يلتقي بنا، أخشى أن تختلط عليه الأمور ولا يميز بين النقيضين، وقد تخدعه المظاهر ويثق بأحدهم فيقع أسيره ويختل ميزان الحكم لديه فيسلب منه حق استرداد كتابه، ودورك أن تتبعيه في الغابة، وكما تعلمين لأنّك محاربة فأنتِ في أمان فيها أمّا نحن فلا، وعندما تلتقين به عودي معه إلى هنا بسرعة.
, - حسنًا٣ نقطةولكن!
, - ولكن ماذا؟
, - كيف سأعرفه؟ هلا وصفته لي.
, - الحقيقة أنني٤ نقطةلا أعرف شكله٣ نقطةلقد رأيته من الخلف فقط، كل ما لاحظته أنّه طويل القامة وقوي البنية، ذراعاه مفتولا العضلات، كما أن لديه شعرًا فحميًّا قصيرًا، ويحمل على ظهره حقيبة جلدية، ويرتدي سروالًا سماوي اللون، لكنني لم أشاهد وجهه.
, زفرت "الحوراء" بحنق وقالت:
, - لحظة واحدة كانت فارقة.
, نكّس "الزاجل الأزرق" رأسه وقال بخجل:
, - أعتذر مرّة أخرى يا مولاتي.
, أمسكت "الحوراء" بذراع "مَرام" وقالت:
, - هيا يا "مَرام" إلى الغابة، لن نضيع الوقت.
, في الحال، هرول "الزاجل الأزرق" تجاه فرسه وامتطاه بقفزة واحدة، صهل الفرس بقوّةٍ فأجابته الخيول بصهيل جماعي وكأنهم يستجيبون لأمره، انطلق المغاتير يصحبون "مَرام" نحو الغابة، حيث ستدخلها وحدها باحثة عن "أنس"., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٤
ناردين


هنيئًا لهؤلاء الذين ينسون سريعًا، الذين لا تنطبع على نفوسهم بصمات الآخرين، ما زالت "ناردين" تشقى بقلب لين كالصلصال؛ كلّما لامسته روح أحدهم في موضع غاصت فيه احترق من حرارة تعلّقها بتلك الروح وجفّ ليحفظ تلك الذكريات، أصبح فؤادها كالقالب، ذكرى ذكرى منقوشة فيه، ندبة ندبة تتحسسها فتوجعها، نقوش تحكيهم، هؤلاء الذين عبروا من بين ضلوعها، ولن تفنى أبدًا تلك العلامات إلا بموتها، ليتها تنام طويلًا وتنسى كلّ شيء في الصباح.
, نشأت "ناردين" في أسرة صغيرة من الفلاحين البسطاء، كانوا يعيشون في السهل الكبير الذي يتوسط قرى مملكة الجنوب التي تناثرت حولها تلك القرى وكأنّها حفنة من النجوم حول القمر، كانت القرى صغيرة وسكانها متشابهون لكنّهم متفرقون، لو استطاعوا ملء الفراغات بين القرى ببناء عدّة بيوت لاتصلت وأصبحت كيانًا واحدًا عظيمًا، أو حتى يحولونها إلى ممرات ويرصفون أرضها بالحجارة ويتنقلون بين القرى بالعربات، لكن لكل قرية معتقداتها ولسكانها طباعهم الخاصة، يقولون إنّ البعض حاول أن ينتقل من قرية لأخرى لكنّه لم يتمكن، أخبرها أبوها بأن هناك من لفظ أنفاسه الأخيرة على حدود قريته! وكأنّ روحه تأبى الخروج من الحدود، تستطيع أن تخرج وتعود للتجارة أو غيرها، أمّا أن تعقد العزم على هجران أرض القرية وتبيع دارك ثُمّ تحمل متاعك للرحيل فأنت هالك لا محالة، وكأنّها لعنة أصابت سكان المملكة جميعًا.
, كانت صغيرة عندما استمعت لأنين الأشجار لأوّل مرّة في حياتها، في الخامسة ربما أو السادسة من عمرها، كان هذا عندما صحبها أبوها للغابة ليجمع بعض أوراق النباتات العطرية التي يستخدمها في صناعة الأدوية والوصفات التي يبيعها في دكان العطارة الخاصّ به، أحبت "ناردين" جمع أوراق الريحان فقد كانت رائحته تعلق بملابسها وكفيها الصغيرين، كما كانت تفضل جمع إكليل الجبل نظرًا لأهميته الشديدة بالنسبة لأبيها، فقد أخبرها أنّ أوراقه تنشّط القلب، وشرابه الساخن يزيل الصداع ويعالج غازات البطن، كما أن زيته يفيد الأطراف المرهقة لو دلّكت به، أحبت رائحته التي تشبه رائحة الصنوبر، كانت أمّها تغلّف اللحم به أحيانًا قبل أن تقوم بشيّه، كان يضفي نكهة لطيفة للحم وكانت هي تحبّه كثيرًا، حتى أنّها دهنت بشرتها بزيته٢ نقطةكم كانت أمّها جميلة! لا تدري لماذا لا تشبهها. كانت تجمع الأوراق لأبيها وتحتفظ بالأغصان فقد أوصتها أمها أن تجمع بعضها لتحرقها في أركان البيت فلها رائحة عطرية جميلة، وبينما كنت تضع الأغصان في جراب من القماش كانت تلفه فوق خصرها سمعت هذا الأنين، انتفضت حينها وصرخت، ألقت الأغصان ووقفت تحملق فيها وهي تئن، استمر أنينها فأدركت أن الصوت صادر منها بالتأكيد، حملتها مرّة أخرى ومسحت عليها بحنانٍ كطفل رضيع فسكنت، وكأن بينهما وشيجة ما تربطهما! تفهم همهماتها وتفهمها.
, دستها في جرابها وسارت بين أشجار الغابة فإذا بفروع الأشجار تنحني وتقترب منها، تلامس بشرتها بلطف وكأنّها تحييها ثم تعود لهيأتها، وعندما يقترب أبوها أو أحد رفاقه تسكن وكأنّ شيئًا لم يكن. أخبرت أباها لكنّه لم يصدقها، وأخبرت أمها فوصفتها بالمجنونة، تكرر الأمر وكانت تخبرهم فيسخرون منها فتوقفت عن إخبارهم بما تراه وتسمعه وتشعر به، وأصبحت تعشق السير في الغابة وحدها، حتى أنها أحضرت نبتة صغيرة من تلك الغابة ووضعتها في أصيص بدارها وصارت تحدثها كثيرًا وتخبرها بأسرارها، مرّت السنون ومات أبوها فجأة وبعده مرضت أمّها مرضًا شديدًا ثُمّ لحقت به، وتزوجت "ناردين" من شاب كان يعمل مع أبيها في دكان عطارته، أخبرته بأمر النباتات التي تحدثها فغضب وظنها مريضة وتهلوس بسبب الحمل، فبدأ يسقيها منقوع الزعتر والزنجبيل وداواها بخلطة مميزة قام بصنعها خصيصًا لها لكي تبرأ من الهلوسة فتوقفت عن الحديث معه عن أمر النباتات فعاد لحنانه وحبّه لها ونسي الأمر، أنجبت بعدها ولدها الوحيد وقتل زوجها في شجار عنيف وكانت لا تزال ترضع وليدها، انفطر فؤادها ولم تفلح في مداواة جرح قلبها بالعطارة، لكنّها داوته بالحبّ والرضا، حب ابنها وقرّة عينها وشبيه أبيه فصبرت عليه طويلا طويلا.
, مرت السنون ووهن العظم منها واشتعل رأسها شيبًا، وانحنى ظهرها وكبر ولدها وصار هو عكازها الذي تتوكأ عليه. ما زالت تذكر كلّ شيء، نظراتها إليها عندما أيقظتها صباح ذاك اليوم، نَبرة صوتها وهي تخبرها ببهجة مزيفة أن تستعد لأنهم سيخرجون لنزهة في البساتين المحيطة بالقرية كعادتهم معًا ويأكلون الحلوى التي تتقن صنعها بعد أن يتناولوا لحم الخراف المشوي المتبّل بإكليل الجبل كما تحبه، ضحكاتها المصطنعة وهي تضع سلّة التفاح في العربة الخشبية، حتى الحصانين المبرقشين كانا يحرّكان رأسيهما ويتلفتان إليها وهما على الطريق وكأنّها اتفقت معهما على الخطة، أخبرتها أن ولدها ينتظرها على أطراف البستان فصدقتها، وكيف تكذب زوجة ولدها عليها؟! وظلّت طوال الطريق تطالع مجاميع الأشجار الباسقة من نافذة العربة بتعجب، أي بستان ذاك الذي ارتفعت أشجاره والتفّت بتلك الطريقة!
, لم يلحق بهم ولدها ولا أحفادها، لم يكن إلّا هي وزوجة ابنها تلك وسائق العربة السكير الذي كانت تفوح منه رائحة الخمر والقذارة، لا بدّ أنه قبض الثمن غاليًا، كان قرص الشمس يتوسّط السماء عندما وصلوا إلى ذاك الكوخ، كانت تسير ببطء وتتأبط ذراع زوجة ابنها بعدما ترجلا من العربة بينما كانت تهمس الأخيرة في أذنها بصوت يشبه الفحيح:
, - أسرعي فأنا على عجل أيتها العجوز الشمطاء!
, تخشّب لسانها في فمها فقد كانت تلك المرّة الأولى التي تخاطبها فيها بتلك الطريقة، حتى أنّها كانت تدللها وتناديها بأحبّ الأسماء أمام ولدها الحبيب٢ علامة التعجب
, جلست على باب الكوخ تلتقط أنفاسها، أدبرت زوجة ابنها وهي تهرول تجاه العربة بعد أن ألقت السلّة أمامها وألقى السائق بجوارها خرقة من القماش جمعوا فيها ثيابها على عجل عندما كانوا بالبيت ولم تنتبه لهم، تركوها ورحلوا وبدأت تصرخ حتى احترق حلقها، سقطت الشمس والتقمها الأفق وبدأت ترتجف، أوت إلى الكوخ وهي خائفة، فانحنت الأشجار واحتضنت جدران كوخها وأظلتها بظلالها الوارفة والتفت الوشائج حوله من كل جانب، هدأت بعد أن أرهقها البكاء، وربط **** على قلبها بعد أن استعصمت به وصبرت.
, ومرّت الأيام تتوالى عليها، صباحٌ يشرقُ على ليلٍ بهيم، وليلٌ يمهّد لإشراق عظيم.
, ومنذ تلك الليلة وهي هناك، يمرّ الناس بعضهم يراها وبعضهم وكأنّه لا يراها، ما عادت تخاف، لكنّه الشوق! اشتاقت لرائحة ولدها، رائحة عنقه، رائحة عرقه، اشتاقت لأحفادها.
, حاولت أن تعود وسارت طويلًا بين أشجار الغابة، حاولت أن تتذكر الطريق، مرّ وقت طويل منذ صغرها، كانت تنجح في الوصول لأطراف الغابة، ولكن في كلّ مرّة تصل فيها إلى الخط الحجري الفاصل بين أرض الغابة والأرض خارجها كانت وشائج الأشجار تتمدد وتطول وتلتف حول جسدها وتتلقفها قبل أن تخطو بقدمها خارج حدود الغابة، وكانت تحملها بلطف وتعيدها مرّة أخرى لذاك الكوخ، ترفض رحيلها! تعبت من تكرار المحاولة وما عادت تقوى على المسير.
, هطلت أشجار الياسمين بزهراتها على رأسها وكأنّها تهاتفها ألّا تحزني، حتى العصافير كانت تحلّق أمامها على مقربة وكأنّها تؤنسها برفيف أجنحتها حتى تعود. كانت تفرك يديها بأوراق الريحان من آن لآخر وتشمها فتتعطّر روحها، حمدًا لله على تلك الروائح الزكية التي تخفف عنها٢ نقطة
, " حسنًا حسنًا٣ نقطةلن أرحل يا أحبائي لكنني ما زلت أشتاق، وما أقوى هذا الشوق، أشتاق لرائحة ولدي الأزكى من رائحة الريحان"
, همست بصوتها الحنون ووقفت تتأمل، مضى نصف اليوم حيث كنت تقف قريبًا من الكوخ تراقب انعكاس صورة وجهها على صفحة جدول الماء القريب، أصبحت صلعاء! صلعاء منذ فترة طويلة، رأسها لا يحمل شعرة واحدة، حتى حاجبيها تلاشيا، تساقطت رموشها! ظنّت أنها تخيف الناس بهيأتها تلك، كانت لا تعلم أنها جميلة حتى وإن أرهقتها السنون، عادت تهمس محدّثة نفسها:
, "حمدًا لله أنني هنا فالأشجار ترعاني وتحبني وهذا يكفيني، أسمع أنينها وتسمع أنيني، أربت على جذوعها وتملّس أوراقها على وجهي".
, هزّت رأسها وكأنّها شخص آخر ينصت إليها ويوافقها على كلامها، قد يبدو
, حديث النفس بصوت مسموع نوعًا من الجنون، لكنّ "ناردين" كانت تتسلى بهذا من آن لآخر، تحدّث نفسها وتحدّث الأشجار، وتنصت إلى الرياح وما تحمله من حكايا٣ نقطة وربما تهمس لها ببعضها٢ علامة التعجب
, اهتزّ سطح الماء فجأة فقد مرّ بجواره ذاك الشاب المشاغب الذي يدعى "شهاب" كان يركض كعادته بسرعة كالبرق، حيرها ذاك الفتى بحواراته من آن لآخر معها، يبدو معجبًا بنفسه للغاية، أحيانًا تراه مجنونًا وأحيانًا مشاكسًا وكثيرًا ما يبدو مغرورًا بنفسه. لم تنتبه لمن كان يلحق به إلّا بعد أن صدمها دون قصد منه فسقطتْ على الأرض وندّت منها صرخة مكتومة اهتزّت لها وشائج الأشجار وكادت تفتك به لولا أنّه توقف وانحنى يحملها وينفض الغبار عن ثوبها البالي وقال بحنان كانت تشتاق إليه:
, - هل أنتِ بخير يا أمي؟
, - أمي٢ علامة التعجب
, خرجت الكلمة من فمه فوقعت من فؤادها موقعًا بليغًا، لم تسمعها منذ سنوات، اشتاقت لكونها أم، اشتاقت للهفة الأبناء عليها، اشتاقت لتلك اللذة التي كانت تقع في نفسها كلّما ناداها ولدها بها. رفعت رأسها تجاه وجهه وتفحّصته بتمعّن، كان من ذاك النوع الذي يأسرك فلا أنت تملك أن تصرف نظرك عنه ولا تملك أن تطيل النظر إليه، ليس شديد الوسامة لكنّه ساحر وجذّاب، قالت وهي تحاول استعادة اتزانها إثر السقوط بينما تتكئ على الغصن الغليظ الذي صار يلازمها:
, - بخير يا ولدي.
, - آسف، كنت أحاول اللحاق بـ٤ نقطة
, - "شهاب"٢ نقطة اسمه "شهاب" ولن تستطيع يا ولدي اللحاق به فهو سريع جدًا.
, - أتعرفينه يا أمي؟ أخبريني أين يسكن؟
, كانت تستعذب منه كلمة "أمي"، أجابته وهي تتفحص ثيابه وتستغربها:
, - يمرّ عليّ من آن لآخر، لكنني لا أعرف أين يسكن ذاك المغرور.
, - أستأذنك فربما لو أسرعت الآن سأستطيع اللحاق به.
, كاد ينصرف لكنّه استدار عندما قالت له:
, - سيعود إليك حتمًا فأنت محارب.
, غضن حاجبيه وقال بتعجب:
, - هل قلتِ عني٣ نقطةمُحارب!
, - نعم
, - ولكنني لست محاربًا!
, - بل أنت محارب بالفعل.
, - ولم تقولين هذا؟
, - ملابسك وحقيبتك وحذاؤك، هكذا تكون هيأتكم عندما تصلون إلى هنا، مرّ بعضكم عليّ من قبل، أنت محارب يا فتى.
, - لا أدري من أخبركِ بهذا، لكنني٢ نقطة لست إلّا مجرّد شابٍ عادي، ربّما أجيد بعض الفنون القتالية كالكاراتية، لكنني لست محاربًا!
, ابتسمت له وسارت ببطء نحو درج حجري صغير غطاه العشب من الجانبين كان يفصل بين الأرض المجاورة لجدول الماء التي كانوا يقفون عليها والتلّة البسيطة التي يعلوها الكوخ الذي تسكن فيه وجلست عليه ثُمّ قالت له:
, - متواضعٌ أنت يا فتى.
, ثُمّ أومأت بيدها وأردفت:
, - على العموم، ستكتشف نفسك هنا، على هذه الأرض ستعرف ما لا تعرفه عنها، ليس شرطًا أن تحارب بسيف أو سلاح، بعض المحاربين قوّتهم في ثباتهم على الحقّ وليس في أجسادهم القويّة.
, - ماذا تعنين؟
, - قوّة الروح، العزيمة يا بني، أرأيت كيف يقوى الكهل على صيام الهواجر ولا يقوى الشاب الفتي أحيانًا! هكذا تكون قوّة بعض المحاربين، قوة الإيمان، قوّة النفس يا بنيّ.
, ثُمّ رمته بنظرة سريعة وتفحّصته من قمّة رأسه لأخمص قدميه ثم غاصت في عينيه وقالت له:
, - لكنني أظنّك تملك القوّتين، قوّة الجسد، وقوّة الثبات على الحق إن شاء ****.
, أغمضت عينيها للحظة لتقتنص فكرة ثُمّ أردفت قائلةً:
, - انتبه لكتابك، ستظهر أوّل سطوره عندما تلتقي بأبطال قصّتك.
, - وما أدراك بأمر الكتاب؟
, - هكذا أخبروني هؤلاء الذين مروا من هنا.
, وأشارت لصدرها وتحسست ضلوعها بكفها الضعيف وكأنها تمسح أوجاعًا التصقت به.
, اقترب الشاب منها وأنزل حقيبته عن ظهره وأخرج الكتاب وفتحه باحثًا عن أي جملة ربّما تكون قد ظهرت على صفحاته الخالية، أغلقه ورفعه على صدره أمام عينيها فقرأت العجوز عنوان كتابه بصوت مسموع:
, - إيكادولي٢ نقطة٢ علامة التعجب انتبه إذن وحافظ عليه وفور أن تلتقي بهما عليك أن تراقبهما، فهما في حاجة لمساعدتك.
, - هما٢ علامة التعجب٣ نقطةومن هما؟
, - لا بدّ أنهما اثنان ولا ريب، فقصّتك تحمل عنوانًا لعبارة لا تقال إلّا بين اثنين، "إيكادولي"، وهي تعني أنا أحبك باللغة النوبية.
, - قصة حبٍ إذن!
, - بالتأكيد.
, - وماذا بعد؟
, - ستراقبهما.
, - لماذا؟
, - لأنّهما سيحتاجانك، ادعمهما حتى لا يقعا في الخطأ، فكل قصة وكل كتاب تعتبر دعامة للخير أو الشر هنا، ونجاحك نجاح لها يا٤ نقطة أخبرني ما اسمك؟
, - "أنس"
, - يا له من اسم جميل، وأنا "ناردين"
, - وما معناه!
, - هو اسم نبات طيب الرائحة، بديع الشكل، لا ينبت هنا بل ينبت في أرض بعيدة، هكذا أخبرني أبي فقد كان عطارًا بارعًا وكان يسافر كثيرًا.
, ابتسم بلطف ثمّ قال بعد أن تصفح كتابه مرّة أخرى:
, - عفوا٣ نقطةهل سأقوم بكتابة شيء ما على تلك الصفحات؟ في الحقيقة أنا لا أُجيد كتابة القصص والروايات!
, وضعت يدها على فمها لتخفيه فما عادت تملك أسنانًا تزين ابتسامتها، ثمّ قامت فقام "أنس" احترامًا وإجلالًا لها، وسار بجوارها فقالت له:
, - لن تكتب أنت، لكنّ ما تراه بعينك وتعيشه سيظهر على السطور، فالكتاب لن يُطلق سراح كلماته لتستقرّ على السطور إلّا عندما يشعر أنّك تثق به، ثق في كتابك يا "أنس"، "إيكادولي" يثق بك وقد اختارك لأنّه يحتاجك، الكتاب يعاني صراعًا شديدًا فأعنه على ما يلاقيه من صعاب، لا تظهره لأحد، ولا تخبر أي شخص باسم الكتاب، كن حاذقًا واعلم أنّك ستعتمد على حصافتك وقوّة شخصيتك أحيانًا، ولو ادلهمّت الأمور ابحث عمّن يعينك.
, - ومن أين عرفتِ كلّ هذا؟
, - مرت سنون يا ولدي تعلّمت فيها الكثير والتقيت فيها بالعديد من البشـــــــــــر،
, لابدّ أن يمرّ المحاربون من هنا.
, وأشارت لضلوعها مرّة أخرى٤ نقطة
, هزّ "أنس" رأسه ومسح جبهته وضغط بكفّيه على عينيه، وقال:
, - ما زلت لا أستوعب الأمر، الأحداث تتسارع وتتوالى عليّ بسرعة، ترى هل من الممكن أن تدليني على قصر الملكة "الحوراء"؟
, - ليتني أستطيع الخروج من الغابة!
, - ولم لا؟
, جاست بعينيها في المكان وقالت:
, - الحقيقة أنا لا أعرف أين قصرها، ولم أرها من قبل.
, - هل يمرّ المغاتير من هنا؟
, صمتت برهة ثمّ ركزت عينيها في عينيه وقالت:
, - أولم تلتقِ بأي شخص غير "شهاب" قبل أن تلتقي بي يا بنيّ؟
, - لا٣ نقطةكنتِ أنت أوّل من رأيته بعد "شهاب"
, ثُمّ سألها بقلق:
, - بعد استعادة الكلمات في هذا الكتاب، هل سأعود؟
, - بالتأكيد.
, شعرت بانقباضة في صدرها، خافت عليه وكأنه قطعة منها فقالت تحذره:
, - احذر "المجاهيم".
, - ومن هم "المجاهيم"؟
, قالت بعد أن أمسكت بذراعه:
, - قوم وجوههم كالحة، يسلبون الناس أنفسهم وأنفاسهم.
, رفع "أنس" حقيبته على ظهره مرّة أخرى، ونظر إلى السماء ثُمّ قال:
, - ذاك الصقر "الرمادي"٢ نقطة أين هو الآن؟
, كادت تجيبه لكنها اكتفت بتأمل ملامحه، عيناه مألوفتان! وكأنها تعرف تلك المقلتين البندقيتين ورأتهما من قبل!. كان حديثها معه قد أضاء الكثير من الدهاليز المظلمة، سار شاردًا بجوارها نحو كوخها، قررت أن تمده بملابس أخرى غير تلك التي كان يرتديها حتى يتسنّى له التجوال في المملكة وكأنّه واحدٌ من أهلها.
, ترك "أنس" حذاءه الغريب كما وصفته "ناردين" وارتدى حذاءً رآه هو غريبًا! لكنّه مجبر على ارتدائه، وبَدَّلَ بنطاله السماوي وارتدى سروالًا وقميصًا من الكتّان الأزرق،كانت الملابس تناسبه تمامًا وكأنها قد خيطت خصيصًا له، لم يجد أزرارًا لقميصه فلفّ خصره بحزام عريض من القماش وأخرج خنجره ذا المقبض الذهبي ودسّه في حزام بنطاله من جهة الظهر وأسدل عليه القميص حتى لا يلاحظه أحد، لم تشعر "ناردين" بالخوف منه عندما لاحظت الخنجر ومقبضه المذهّب! أعطته حقيبة من القماش كانت تعلّقها بكتفها وهي تجمع أوراق الأشجار والنباتات العطرية ليحمل فيها متاعه، ومنحته حفنة من الريحان وبعضًا من إكليل الجبل، كان ممتنًا وكأنها أعطته كنزًا، ودت لو بقي "أنس" قليلًا لكنه كان متعجلًا. صاحت وهي تراقبه وهو ينساب بين أشجار الغابة:
, - تجول في القرية وتأمّل كل ركن من المملكة، وافتح كتابك من آن لآخر، إن ظهرت أوّل الكلمات فاعلم أنّك التقيت بأبطال القصة، فالأحداث تتم هنا بمشيئة ****، وما زلنا لا نعرف النهاية!
, استدار وأومأ برأسه وحيّاها بابتسامة عذبة ثم لوح لها مودعًا، رفعت العجوز يدها وأغمضت عينيها وتنفّست بعمق ثُمّ طرقت الأرض بالغصن الذي تتكئ عليه فانتفضت الأشجار، وارتجّ السهل وما حوله، وصدر من الأرض دوي مكتوم أفزع الطيور فحلّقت بعيدًا عن الأشجار.
, سار "أنس" على نحو بطيء وسط الغابة، فهو لم يعتد انتعال حذاء مصنوع بتلك الطريقة من قبل، كان يشعر أنّ للأشجار عيونًا، وكأنّها تراقبه! كان يراقب السماء من آن لآخر يخشى أن يهبط عليه الليل وهو وحيد في تلك الغابة، قرر أن يحاول الركض لعلّه يصل سريعًا إلى أطراف الغابة، بدأ يركض وبينما تنطوي الأرض تحت قدميه شعر وكأنّها تحوّلت إلى بساط وبدأت تدور وتتكور تحت ساقيه ثُمّ انشقت فجأة فتعثّر وسقط على ركبتيه ليظهر أمامه زمرة من الرجال طوال القامة لا ملامح لهم! كان يتقدمهم واحدٌ منهم وعليه برنس أسود تتدلى منه ثلاث جماجم صغيرة، تراجع "أنس" بينما كان ذاك الشبح يتقدم تجاهه، نعم٢ نقطة كان يشبه الأشباح، هذا ما وقع في نفس "أنس" وهو يحملق في تلك الظلمة التي تحتلّ وجهه، وكأنّ الظلام ارتدى برنسًا ووقف أمامه!
, رفع الشبح يده إلى السماء فشعر "أنس" وكأنّ صدره يصعّد في السماء، خرجت أنفاسه واصطبغ وجهه بالزرقة وما عاد قادرًا على سحب شهيق يتشبث به في الحياة، ارتفع جسده في الهواء وانثنى وكأنّ هناك من يحمله، كاد الشبح يقتله بعد أن أداره في الهواء وجعل وجهه مقابلًا للأرض لولا القلادة التي تدلّت من عنق "أنس" فجعلته يخفض يده فجأة ويسقط "أنس" على الأرض وهو يسعل ويشهق شهقات متتابعة، دار ذاك الكائن حول "أنس" وانتظر حتى هدأ سعاله ثمّ خرج منه صوت غليظ رنان وكأنّه خرج من مقبرة وسأله:
, - أنت محارب؟
, ردّ "أنس" بصعوبة وقال:
, - نعم٣ نقطة أنا محارب.
, - من أين لك بتلك القلادة؟
, - أعطاها لي جدّي
, قال الشبح بصوت فيه إجلال:
, - "أبادول"؟
, عندما سمع البقية زعيمهم ينطق باسم "أبادول" وضعوا جميعًا أيديهم على صدورهم وأحنوا رءوسهم وهم واقفون احترامًا له! يبدو أنّهم جميعًا يعرفونه، لاحظ "أنس" ما حدث فتحامل وتجلّد وقام يستند على جذع الشجرة التي كانت بجواره، وسأله وهو يتحسس القلادة على صدره:
, - أوتعرف جدي؟
, - كلّنا نعرفه، وله فضل كبير على استرداد مكانتنا بين باقي الشعوب.
, ثُمّ أشار إليه بإصبع وسأله:
, - ما اسمك؟
, - "أنس".
, - ما اسم "كتابك"؟
, تذكّر "أنس" وصية العجوز "ناردين" له ألا يخبر أحدًا باسم كتابه، فرد محاولًا أن يتجاوز السؤال:
, - لماذا لا أرى ملامحكم؟
, - ليس الآن، ستراها يومًا كما رآها جدّك "أبادول".
, عندما كرر الزعيم اسم "أبادول" كرر كل من معه ما فعلوه أوّل مرّة بإجلال وتقدير، وفعل هو كما فعلوا وضمّ يده إلى صدره وأحناها في هيبة وكأن الجدّ يقف أمامه، قال بعد أن رفع رأسه تجاه "أنس" الذي كان يحملق في تلك الظلمة التي تتحدث إليه ولا يعرف كنهها:
, - امض يا "أنس" فأنت في أمان حتى تخرج من الغابة، واحتفظ بالقلادة، وكلّما مررت من هنا أظهرها وأنت تسير حتى يعرفك "المجاهيم"( ).
, همس "أنس" برهبةٍ وقد كانت دقّات قلبه تتواثب في أسفل عنقه:
, - المجاهيم! ومن أنتم أيها المجاهيم؟
, التفت إليه زعيمهم وقال قبل أن تبتلعه الأرض:
, - اسأل جدّك فهو من أطلق علينا ذاك اللقب بعد أن ألبسناه تلك القلادة.
, اختفى "المجاهيم" تمامًا، وعادت الأرض تتكوّر تحت قدمي "أنس" فانطلق يكمل ركضه حتى حدود الغابة آملًا أن يخرج منها قبل حلول الظلام ويصل إلى القرية التي أخبرته العجوز "ناردين" عنها، فهو لا يعرف تحديدًا كم تبلغ المسافة., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٥
كلودة


خرج "أنس" من الغابة يبحث عن "شهاب"، من بعيد بدأت تطلّ أمام عينيه القرية التي حدّثته عنها العجوز "ناردين"، دلف القرية يفتّش بين الوجوه عن وجه "شهاب"، مرّ بحانوت بدا وكأنّه لبيع الأغراض القديمة، بعض الأوعية النحاسية، وأخرى فخارية، والكثير من الملابس، لكنّ ما جذب انتباهه ركن تكدّست فيه الكتب العتيقة فوق بعضها البعض بإهمال، الكثير من الكتب كانت بلا أغلفة، مهترئة الأوراق وملتفة الأطراف، ولكنّ القليل منها كان بحالة جيّدة. أوراق صفراء وأغلفة باهتة من الجلد المدبوغ والكثير من العناوين الغريبة. كان هناك شاب نحيل جدًا، أقنى الأنف، له حاجبان مقوسان كأنهما هلالين، تبدو عليه أمارات الذكاء، نابه العينين، يجمع خصلات شعره الفحمي خلف رأسه برباط بلون أحمر فاقع، كانت أصابعه مصبوغة بنفس اللون فخمّن "أنس" أنّه ربّما يعمل في صباغة الأقمشة، وقف الشاب ينظم الكتب ويرتبها ويتفحصها بعناية ثُمّ يرفعها وينفخ عنها الغبار ويمسحها بطرف كمّه بحرص شديد، كان صاحب الحانوت يقف ببطنٍ عملاقٍ رجراجٍ ويطالعه بازدراء حيث قال:
, - لولا أنّك تنظّم الكتب وترتبها في كلّ مرّة تزورني ما تركتك تدلف للحانوت بحذائك المهترئ أيها البائس.
, التفت إليه الشاب وقال في حرج:
, - اهدأ يا رجل، أتيتك هذه المرة ببعض المال، سأشتري كتابًا
, - يا للهول! ومن أين لك المال أيها الحثالة؟
, - من كدّي ومن عرق جبيني!
, تركه صاحب الحانوت بعد أن تسببت كلماته في التفات جميع من بالحانوت لحذاء الشاب المهترئ، بعضهم قام بالهمز واللمز وتعالت بعض الهمهمات من هنا وهناك، لماذا يهتم هذا البائس بالكتب!
, حرّك صاحب الحانوت يديه بلا مبالاة وعاد ليجلس على الباب يحكّ رأسه وقد تدلى أمامه بطنه الكبير، واختنقت أنفاسه بسبب سمنته المفرطة فتصاعد من صدره أزيز مزعج كلّما تنحنح أو بذل مجهودًا بسيطًا، وبدأ يراقب النساء في السوق وهن يقلّبن أكوام الملابس المتكدّسة والتي تبعثرت هنا وهناك.
, اقترب "أنس" من الشاب وحيّاه بصوت خفيض، فردّ الشاب تحيته باقتضاب بعد أن استقرت عيناه على وجه "أنس" للحظات وكأنّه يحاول التعرّف إليه، عاد الشاب يقلب الكتب وينفض عنها الغبار ويمسحها بطرف كمه، التقط "أنس" كتابًا له غلافه جوزي اللون مشبوح بلفحات خضراء وقال وهو يتصفحه:
, - لا يدرك هذا الرجل قيمة تلك الكتب٢ نقطةأليس كذلك؟.
, مرّ الشاب على وجهه بسرعة بعينيه الكليلتين ثم عاد لصنيعه بالكتب ولم ينبس ببنت شفة، قرأ "أنس" عنوان الكتاب الذي بين يديه بصوت مسموع قائلًا:
, - الإكثير
, - نعم٢ نقطةالإكثير!
, - أعتقد أنني أعرف معناها، ربّما قرأت عنها من قبل!
, رفع الشاب حاجبية وقال باهتمام:
, - تعني الذهب الخالص، وهو كتاب رائع.
, - يبدو أنّك تحبّ القراءة.
, لاحت على وجهه ابتسامة وقال وقد ضوى بريق في عينيه:
, - أنا أتنفس الكتب!
, - اسمي "أنس"
, حرّك الشاب رأسه تجاه "أنس" الذي مدّ يده إليه ليصافحه وطالعه بانتباه وقد اتسعت حدقتاه، سريعًا ما كست وجهه علامات البشر، مدّ يده المحمرّة من أثر الصباغة وصافحه بودّ، شعر بانتعاش لمجرّد اهتمام أحد ما به، تهلل وجهه وابتسم فكشفت ابتسامته اللثام عن أسنان ناصعة البياض وروح عذبة، يبدو أنّه يعاني من تجاهل الجميع له، قال بصوت مرتجف:
, - وأنا " كلودة" أنت غريب عن المملكة، أليس كذلك؟
, - بلى
, - لهذا إذا تعاملني بودّ!
, - وما العيب في ذلك؟
, - لو عرفت قصّتي ما صافحتني كما صافحتني منذ قليل
, - ولم لا!
, هز الشاب رأسه وابتسم ساخرًا ثمّ التقط كتابًا ومد يده في جيب بنطاله وأخرج حفنة من النقود ودسّها في كفّ صاحب الحانوت وخرج مسرعًا، شيّعه صاحب الحانوت السمين بصوته الأجشّ بالمزيد من السخرية من حذائه ويديه الحمراوين، وبالمزيد من الألفاظ البذيئة.
, تبعه "أنس" وصاح مناديًا عليه:
, - "كلودة" انتظر
, التفت "كلودة" إليه وقال متعجبًا:
, - ماذا تريد أيّها الغريب!
, - هوّن عليك يا فتى، كنت أبحث عن صحبة، فأنا أشعر بالغربة هنا.
, - أين أهلك؟
, - أنا وحدي هنا، أحاول الوصول إلى صديق التقيت به أمس، فهلا ساعدتني في البحث عنه؟
, استدار "كلودة" وسار عدّة خطوات بتؤدة وقد أحنى رأسه وكأنّه يفكّر، ثُمّ التفت لأنس وأشار إليه فلحق به وسارا معًا لفترة وجيزة قبل أن ينحني بهما الطريق إلى ساحة واسعة، يتوسّطها مجموعة من التجار وقفوا يعرضون بضاعتهم استعراضًا أمام الجميع، بسط أحدهم ثوبًا من القطيفة الحمراء على ذراعه وكتفه ووقف ينادي واحتشدت حوله النساء كلّ منهن تتحسس طرف الرداء بكفّها وتحملق فيه ثمّ تسأل عن الثمن، لم يملّ من تكرار الرد، بدت النساء مسحورات كلّ منهن تشتهي أن يكون الرداء لها وزاغت أعينهن وهن يتخيلن أنفسهن أميرات يرتدينه. وجلس آخر على الأرض وقد صفّ أمامه أباريق من الزجاج الملون بديعة الشكل انعكست عليها أشعة الشمس الحانية فزادتها تألقًا وجمالًا، أما الثالث فكان يبيع العطور في زجاجات صغيرة مزيّنة بالنقوش، بدا وكأنّ هذا السوق للأثرياء فقط. أشار "كلودة" إلى الجهة الأخرى من الميدان الفسيح لينتقلا إليها وقال لأنس:
, - ما اسم صديقك؟
, - في الحقيقة٢ نقطة كنت أتبع شابًا يدعى"شهاب"
, - "شهاب"!٢ نقطة إذن أنت محارب.
, - يبدو أن الأمر مألوف لديكم.
, - بالتأكيد.
, - إذن، هلّا ساعدتني، أودّ أن أصل إلى قصر الملكة "الحوراء"
, - لا أعرف الطريق إليه!
, - هل سمعت عن "المغاتير"؟
, - سمعت لكنني لم ألتقِ بهم من قبل!
, - لكنّك تعرف "شهابًا" أليس كذلك؟
, - ومن منا لا يعرفه!
, سارا معًا كتفًا بكتف، ثُمّ قال "كلودة" بعد فترة وجيزة:
, - سنمرّ أولًا على الطبيب، سأشتري دواءً فأنا مريض.
, - شفاك ****.
, حرّك "كلودة" رأسه ممتنًا واخترقا معا ذاك الحشد الكبير وبخطى سريعة وصلا إلى عدّة بيوت متلاصقة ذات أسقف منخفضة، طرق "كلودة" باب بيت منهم ففتح له رجل أربعيني تكسو وجهه ابتسامة واسعة سريعًا ما رحب بهما ودعاهما للدخول، على أريكة من الخشب جلسا يراقبان حركته البطيئة بردائه الطويل والواسع الأكمام وقد انتشرت حوله على الطاولات والرفوف زجاجات الدواء، قال الطبيب بصوت متحشرج بسبب صمته الطويل قبل أن يدخلا إلى بيته المتواضع:
, - أعددت لك الدواء منذ أسبوع لكنّك تأخرت.
, - عفوًا سيّدي لم أتمكن من الحضور لسبب خاصّ.
, - أخبرتك أكثر من مرّة أنك تحتاجه لتتحسن حالتك المزاجية والذهنية، أما زلت مشتتًا وترى تلك الكوابيس؟
, - نعم٢ نقطةأراها كلّ ليلة٢ نقطة ولكن٢ نقطة سيدي، ألن أشفى من مرضي هذا؟ هل سأظل هكذا؟
, - للأسف يا "كلودة" لم أسمع عن حالة مماثلة عادت لما كانت عليه، كلّ من أعرفهم يستمرون على هذا الحال حتى٣ نقطة
, وقف "كلودة" واثبًا وكأن هناك من وخزه بإبرة بعد أن نقّد الطبيب قيمة الدواء وخرج من باب البيت كطلقة المدفع، تبعه "أنس" بخطوات واثبة، بدا جليًّا أن "كلودة" حزين وغاضب، وكان هذا ما وقع في نفسه منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها، روح متعبة لشاب بسيط تفتش بين الكتب عمّا يسلي الفكر ويجبر خاطر النفس المكسورة كحال الكثيرين، يهرب بالقراءة من واقع مؤلم فيعيش بين الكتب ويتنفس الكلمات، تردد "أنس" بين أن يتركه لحاله ويعود فهو في حالة لا تسمح له بمجاراته في أحاديثه الودية، وبين أن يتحمّله قليلًا ويسير معه على الأقل حتى بيته ليعرفه، لكنه قرر أخيرًا أن يفارقه وسيسأل غيره، التفت عائدًا من حيث أتى، فإذا بـ"كلودة" ينادي عليه ثُمّ يقول:
, - عفوًا سامحني، سأسير معك لأخرجك من القرية.
, - لماذا؟
, - ألم تسأل عن "شهاب"؟ هو يقيم بالغابة، لا بدّ أن تعود، ظننتك لا تعرف الطريق إلى الحدود المقابلة للغابة، هيّا وسأسير معك.
, سار "كلودة" مهمومًا بجوار "أنس"، كان "كلودة" يحب ابنة عمّه "أشريا" حبًا جمّا، لكنّه لم يملك سمات الشخصية التي تتمناها وتحلم بها، كان يعشق اسمها، وملامحها، ودارها، والدار التي بجوار دارها، والطريق إليها، والجدران التي تستند عليها، والهواء الذي تتنفّسه، طلبها للزواج مرارًا وتكرارًا وكانت تأبى، لم ييأس وكان يعود فيطلبها مرّة أخرى من أبيها، ومرّت الأيام تشدّ بعضها بعضًا ومات أبوها وما زال قلبه على العهد.
, كان عندما يستبد به ألم جرح قلبه يخرج للبساتين القريبة من بيته والممتلئة بأشجار البلوط العملاقة، فيجمع أوراق النباتات العطرية ويردد الأذكار وأحيانًا يدندن بالأشعار، ويتصبّر بخلوته مع الطبيعة الخلاقة، تغيّرت أخيرًا وصارت تضع له الشروط واحدًا تلو الآخر، لو بنيت بيتًا كهذا ربّما أوافق، لو توقفت عن فعل كذا ربّما أوافق، لو ٢ نقطةلو٢ نقطة
, وكانت تمتنع عن الكلام معه وتكلّف أمّها بالرد عليه. كان ذاك الهوان الذي يصيبه بسبب حبّه لها يظهره ضعيف الشخصية أمامها، وكانت هي تطمح إلى الزواج بشاب قوي الشكيمة تعتمد عليه. لم يكن هناك من يوجهه أو ينصحه ليتجمّل ويتصنع ويتخلّى عن تلك العفوية التي يعاملها وأمها بها فقد أساءت فهمه، فهو وحيد بلا أب أو أم، وليس له شقيق يشد عضده، بينما يسيران ويتبادلان أطراف الحديث سأله "كلودة" بفضول:
, - هل عرفت الحب يومًا؟
, - لا٣ نقطةلم يطرق الحبّ قلبي بعد، لم ألتق بمن تخطف روحي حتى الآن.
, رد "كلودة" بتأثّر:
, - أمّا أنا فلقيتها٢ نقطة وليتها ما خطفت روحي!
, وصلًا أخيرًا إلى الحدود، حيث كان هناك فاصل حجري يحيط بالغابة، تخطّاه "أنس" والتفت تجاه "كلودة" متسائلًا عن سبب وقوفه واجمًا كما كان يفعل:
, - ما بك يا "كلودة؟
, - لم أدخل الغابة من قبل! يقولون أن من يدخلها يختفي للأبد ولا يعود.
, استدار "أنس" وطالع مجاميع الأشجار أمامه وقال:
, - أوتظن هذا فعلًا؟
, بقي السؤال معلّقًا في الهواء حتى التفت إليه "أنس" ومدّ يده ليصافحه، فمال "كلودة" وكأنّه يخشى أن يتعثّر فتمسّ قدمه الخط الفاصل، اهتزّت الأرض فجأة وتأرجح كلاهما فوجد "أنس" نفسه يجذب ذراع "كلودة" دون قصد منه فدخل الأخير الغابة، ابتسم "أنس" بتوتّر وقال له:
, - أرأيت، ها أنت هنا ولم يحدث لك شيء!.
, شعر "كلودة" برهبة تجتاح جسده، كان يترقب أن يحدث شيء ما! لكنّ الأمر بدا آمنًا كما يبدو٢ علامة التعجب سار مع "أنس" وانطلق معه يتوغلان في الغابة، وعيناه تطفحان فضولًا. مرّا بجدول ماء فانحنى "كلودة" وغسل كفّه ثُمّ شرب منه٣ نقطة
, "سبحانك سبحانك، ما أعذب الماء. ماذا لو لم يكن هناك ماء! كيف كنا سنرتوي، كيف كنا سنبلل ألسنتنا لنسبحك! حمدا لك يا ودود."
, هكذا همس "كلودة" وهو يسير، كاد يسأل "أنس" كيف أتى إلى هنا ليسمع منه بالتفصيل، لولا الضربة التي باغتته فجأة وهو يمشي معه والتي
, صاح على إثرها متضرعًا إلى **** وهو يتوجع:
, "سبحانك سبحانك، اكفنا شرهم واجعل كيدهم في نحرهم"
, بينما كان "أنس" يصارع رجلا ضخم الجثّة له وجه قبيح، لاحقه الآخر بعصاة غليظة وصوت أجش ووجه مقبّح، استسلم "كلودة" حتى يتوقف عن ضربه لكنّه لم يتوقف، ضربة على كتفه، والأخرى على ذراعه، والكثير على ظهره حتى شعر أن جسده تخدّر من الألم، قيّده ذاك الفحل المقبّح بالحبال بسرعة، ما زال "أنس" يصارع القبيح، كان يوجه ضرباته لأماكن متفرقة مواجهًا القبيح بجسارة وكأنّه لا يخافه، لم تند منه صرخة ألم، لكنه كان يصيح بقوّة، تارة بيديه وتارة بقدميه، ود "كلودة" لو كان مثله، وصلت حفنة من "البغضاء" وأمسكوا بـ "أنس"، فالكثرة تغلب الشجاعة، ضربوا "كلودة" على رأسه بشدّة ففقد وعيه، قيدوهما بعد أن سلبوهما متاعهما، كان كل منهما يملك كتابًا، "أنس" بكتابه "إيكادولي" في حقيبته، و"كلودة" بكتابه الذي اشتراه من الحانوت قبل أن يدخلا الغابة، بصق القبيح على وجه "أنس" وكاد يقتله لولا المقبّح الذي صاح وهو يمسك بكتاب "أنس" بعد أن أخرجه من الحقيبة القماشية التي أعطتها له السيّدة "ناردين":
, - انظروا، كتاب غريب وخالٍ من الكلام!
, تمشت علامات الرهبة على وجوههم الكالحة، التفوا حول المقبّح وتصفحوا الكتاب وقرأوا عنوانه، عادوا ينظرون لـ"أنس" بارتياب وقال أحدهم هامسًا حتى لا يسمعه "أنس":
, - يبدو أنّه محارب جديد، فلنأخذه لقصر الملك "كِمشاق"
, رد آخر:
, - نطلب المال أولّا قبل تسليم المحارب والكتاب.
, قال القبيح:
, - فلنقتله، ما حاجتنا إليه!
, رد المقبّح وهو يحك شعر رأسه:
, - ربما كان له ثمن فنحن لا نعلم كيف تسير الأمور، سمعت أنهم يعلقونه من قدميه ويثقبون قلبه وعندما تسيل الدماء يجمعونها في قوارير ويكتب الكاهن القصة في الكتاب وتنتهي أحداثها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
, كان "أنس" يراقبهم ويبحث بين أياديهم عن كتاب "كلودة"، أين اختفى٢ علامة التعجب
, اقترب أحدهم من "أنس" برأسه ونظر في عينه وقال بتوعّد رافعًا صوته الأجش:
, - سنقتلك أيها المحارب.
, رائحة أنفاسه الكريهة التي فاحت من بين أسنانه النخرة والمسوسة كادت تخنق "أنس" لولا نسمة هواء باردة مرّت فحملتها بعيدًا عن أنفه، قال بصوت حاول أن تكون نبرته قويّة:
, - وما أدراكما أنّني المحارب!
, همهم البغضاء وقال أحدهم:
, - هل رأيتم الرمز؟
, - وما ذاك الرمز؟
, - سمعتهم يقولون أن للمحاربين رموزًا! فلنبحث عن الرمز!
, أطبق "أنس" فمه وجلس يراقبهم وهم يفتشون حقيبته وملابسه، زمجر القبيح غضبًا وأمسك بالخنجر ذى المقبض المذهّب و كان قد أخرجه من ثيابه وكاد يذبح به رقبته، حملق في وجهه بسحنة متوعدة ثُمّ عاد خطوة للخلف، ران عليهم صمت مهيب وتنقلوا بأعينهم بين الشابين، خلصوا نجيًا وابتعدوا وبدأوا يتحدثون همسًا حتى لا يسمعهم، كان "كلودة" لا يزال فاقدًا لوعيه، عادوا واقتربوا منّهما ثُمّ لطمه ذو الأنفاس الكريهة على وجهه وقال بعد أن جذبه من شعر رأسه:
, - سنقتلكما معًا بعد أن نقبض الثّمن.
, رحل بعضهم وبقي ثلاثة يحرسونهما، ومرّت لحظات ثقيلة، لم يسمع "أنس" حديثهم عن الملك "كِمشاق"، لم يدرك أنه يسير تجاهه دون أن يشعر., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٦
نبرة


أسدل الليل عباءته السوداء على المملكة فغرقت في ظلام حالك. كان القمر يتحرّك ببطء كالشبح في السماء، وكانت الغربان تقف على شرفات القصر المكون من عدة طوابق، بدا البناء ضخمًا مهيبًا يشبه الجبل، أعلاه ضيّق، وأمّا الطابق السفلي فكان عريضًا وواسعًا جدًا. وثبت الأميرة "نَبرة" من فراشها ودفعت النافذة بعنف ثُمّ طالعت السماء بنظرةٍ خاطفةٍ، كانت تتمتع بخفّة العصفور، وكبرياء الطاووس، لعينيها الكحيلتين بريق عجيب يشبه بريق عيني القطط في الظلام! من يراها بجملة النظر من بعيد يصور له وكأنّ عينيها جوهرتان! كانت "نَبرة" تدرك أنها جميلة، لكنّها كانت دائمًا كالقدر الذي يغلي فيه الماء بجنون. التفتت صارخة في وجه خادمتها بحنق شديد لكي تجهّز لها ملابسها وتعينها في زينتها. قالت بتسلّط:
, - هيا، أمامك عملٌ طويل، أُريد أن أخطف الأنظار الليلة.
, غمزت الوصيفة بمكرٍ واقتربت منها ثُمّ قالت:
, - أنتِ لا تحتاجين لزينة يا مولاتي.
, ألبستها الوصيفة رداءً أحمر اللون يُظهر أكثر مما يستر، فتحت "نَبرة" صندوق زينتها وتخيّرت ما يناسبها من جواهر، ودهنت شفتيها بصبغ أحمر قانٍ يناسب بشرتها السمراء، ثمّ استرخت في مقعدها وأسلمت رأسها للوصيفة التي بدأت تمشّط شعرها بحرصٍ شديد، بعد لحظات كانت تهبط على الدرج وكأنّها القمر ينحدر على سحب السماء.
, بخطى سريعة كانت تدق الأرض وكأنّها على وشك دخول حرب مع شخص ما، اتجهت إلى غرفة أخيها الذي كان متكئًا على أريكة وثيرة وبجواره صديقه "حليم" الذي كان يرفل في ثياب فخمة تليق بمنصبه، والذي مرّت عيناها عليه وكأنّه كتاب ممل لا تودّ قراءته، هي لا تحبّه، لم يفلح في الدق على أوتار قلبها رغم عشقه الشديد لها، أمّا هو فأقبل عليها بنظراته وكأنّه يودّ التهامها بعينيه، وجّهت نظراتها نحو أخيها قائلة:
, - رأيت الرمز مرة أخرى، هناك محارب على أرض المملكة.
, - أين هو بالتحديد.
, - لا أعرف المكان للأسف.
, ابتسم "حليم" وقال بلطف وهو يطلب ودّها:
, - سأرسل رجالنا ليبحثوا عنه فلا تجهدي عقلك الجميل بالبحث عن مكانه، أرى أنّه من المتوقع أن يكون في مملكة الشمال الآن.
, على عكس مراده٢ نقطة استفزتها كلماته فكزّت على أسنانها واستدارت مقتربة من المدفأة ورفعت كفيها نحوها تستمدّ منها الدفء ثُم قالت بتنمّر:
, - أرى٢ نقطةأرى٢ نقطة٢ علامة التعجب ومن أنت حتى ترى!، ما شأنك أنت؟ أنت مجرّد ضيف ثقيل!
, اهتزّ القدح الذي كان بين يدي "حليم"، سقط الشراب على ملابسه فوثب من مكانه ثُمّ وضعه على المائدة والتفت غاضبًا نحو أخيها "كِمشاق" الذي رمقه بنظرة واثقة وقال له:
, - دعك منها يا "حليم"، إنّها مجنونة.
, كانت "نَبرة" دائمًا غاضبة، لديها لسان كحية قرمزية داعرة تنفث سمومها في وجوه الناس، أدارت رأسها بعصبية ورمقته بمكر ثُمّ قالت:
, - أُشبهك كثيرًا يا أخي.
, رفع كفّه مشيرًا للوصيفات ليخرجن من الغرفة، واقترب منها وسألها بغلظة:
, - أين أختك "أُونتي"؟
, قالت بسماجة:
, - الحمقاء، نامت مبكرًا كعادتها.
, اقترب "حليم" وقال:
, - لا أدري لماذا تختلف "أُونتي" عنكما!
, ثم أضاف:
, - حتى أنها لا تعرف أي شيء عن الأخطار التي تتهددنا!، تتبسّط مع الجميع وكأنّها ليست أميرة! ربّما لقلّة نضجها وعمرها فهي تصغرك بسنوات يا "نَبرة"
, ثُمّ ارتبك "حليم" فقد شعر أنه بآخر كلماته قد استفزّ الأميرة "نَبرة" التي هزّت كتفيها وقالت:
, - لأنّها حمقاء٣ نقطة مثلك.
, أصبح جو الغرفة متوترًا، وأراد "كِمشاق" أن يلطف من الأجواء فقال بهدوء:
, - فلنهدأ قليلًا يا رفاق، ليس هذا وقت المشاكسة.
, كان "حليم" في الثامنة والعشرين من عُمره، كانت صداقته للملك سببًا في تغيير مسار حياته، فهو فارس مقدام شجاع وشاب ذكي وحاذق، ولمّا رأى الملك منه هذا كشف الأوراق أمامه وعقد معه صفقة، فطرح "حليم" فيها شروطًا لم يتحصّل عليها كاملة بعد مقابل ولائه الكامل له، لم تكن "نَبرة" من ضمن الصفقة! لكنّها صارت هدفه الذي يسعى وراءه فهو يتمنّى رضاها، يحبّها بشغف وجنون، يرغب بها، وهي تتمنع وترفض. وكان "كِمشاق" يعلم عشقه الشديد لها ويستغلّ هذا لمصلحته، فصار "حليم" عونًا له على الحكم وعلى اصطياد المحاربين ومحاولة السيطرة عليهم لخدمة أفكاره السوداء، كان "كِمشاق" يعربد بلا حساب، أطلق العنان لشهواته، خمرٌ ونساءٌ ولهو، غارق في الشهوات حتى أذنيه، أمّا "حليم" فحبس نفسه عليها، ولم تنجح أنثى في اختراق شغاف قلبه، وبقيت "نَبرة" الفاكهة المحرمة التي لا يجرؤ على مساسها حتى الآن.
, جلست "نَبرة" أمام أخيها "كِمشاق" ووضعت ساقًا على ساقٍ وقالت بمرارة:
, - لا بدّ أن نقضي على هذا المحارب بسرعة.
, اقترب منها "كِمشاق" وقال بتوتّر:
, - هل رأيتِ وجهه؟
, - لا٣ نقطةليس يعد.
, - هل فقدتِ مهاراتك؟
, قالت بعصبية:
, - لا٣ نقطةاختفت فقط بومتي العزيزة؟ لم أرها الليلة! كلّما حاولت أن أرى شيئًا لا أرى إلا الظلام!
, كانت "نَبرة" تفخر دومًا بتلك الموهبة التي حباها **** بها، لكنّها لم تشكر **** عليها أبدًا! من آن لآخر كانت ترى بعينيها كلّ ليلة ما تراه تلك البومة البيضاء التي يعرف الجميع ارتباطها بها منذ الصغر، كانوا يخشون منها لأنّها ستنقل الخبر للأميرة "نَبرة"، كما أنّها كانت شاهدًا على الكثير من الأشياء التي قلبت الموازين وهزّت البعض حيث أصبح أمرهم مفضوحًا لديها، في الحقيقة موهبتها تلك جعلت حربتها قوية، فلا يجرؤ أحد أن يقف أمامها في المملكة كلها.
, صفّقت "نَبرة" فأسرعت جارية بملء كأسها بالخمر وجلست تتجرّعه و"حليم" يراقبها.
, ٣ علامة استفهام
,
, غربت الشمس وكان "كلودة" قد بدأ يستعيد وعيه بصعوبة، فتح عينيه على طقطقات النار التي أشعلها اللصوص في المكان الذي قاموا بالتخييم فيه، وكان "أنس"و "كلودة" بلا قميصيهما فقد خلعهما اللصوص عنّهما وبحثوا في أجسادهما عن علامة ما تدل على كون من يحملها محاربًا، الأغبياء لا يعرفون عن رمز المحارب الذي يظهر في الرؤى لبعضهم، ظنوا عندما أخبرهم "أنس" أن الرمز يظهر كعلامة على الجسد. اعتدل "كلودة" في جلسته، كان مصابًا بصداع قوي:
, "سبحانك سبحانك، نجنا من مكر الماكرين."
, قالها وهو يئن من الألم، مرّ الوقت ثقيلًا، لم يغمض لهما جفن، أما الثلاثة فكان شخيرهم يزعج كلّ شيء حتى الطيور في أعشاشها، إلّا تلك البومة البيضاء التي اقتربت منهما قبل طلوع الفجر بساعة، كانت تقف بكبرياء على غصن شجرة البلوط الكبيرة التي كانا يستندان عليها، جميلة وأنيقة كملكة تقف وتتلحف بردائها المتألّق، وقف "أنس" واقترب منها ويداه ما زالتا معقودتين خلف ظهره، قفز بساقيه المقيدتين واقترب منها وطالعها بعينيه عن قرب ثُمّ قال بحنان:
, - كم أنتِ جميلة، أنت فاتنة! ترى هل تتحدثين؟ هيّا أسمعيني صوتك، تحدثت إلى الصقور من قبل، لا بدّ أنّك تتحدثين كالرمادي.
, عاد يتأملها عن قرب وكانت تطالعه بفضول بعينيها الواسعتين، ابتسم عندما حملق قليلًا في عينيها وقال بعذوبة:
, - أنت جميلة، ما أروعك! ما أبدع لونك! تبارك ****!
, صاح "كلودة" من خلفه وكانت يداه تؤلمانه بشدّة:
, "سبحانك سبحانك! يا خالق الجمال سبحانك!"
, استيقظ أحد الرجال وصرخ في "أنس" بصوته الأجش فطارت البومة وحلّقت فوقهما وبسطت جناحيها الأبيضين وظل "أنس" يتابعها حتى اختفت بعيدًا وعاد يجلس بجوار"كلودة":
, "سبحانك سبحانك، الكون كلّه يسبحك، أفلا نسبحك!"
, همس بها كلودة وهو يئن من الألم وبدأ يسبّح لعلّ **** يجعل لهما مخرجا.
, في مكان آخر وتحت سقف بديع وعلى فراش فاخر، كانت "نَبرة" تستعد للنوم بعد أن سهرت لساعات طويلة مع رفيقاتها وجواريها عندما شخصت فجأة بعينيها! لقد راودتها رؤى بعيني بومتها البيضاء، لقد نظرت للتوّ في عيني شابٍ مليح الوجه، له عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك الالتحام، ووجه وضّاء مستدير تظلله لحية خفيفة يتحدّث هامسًا بصوت بديع، حرّكت بومتها مقلتيها وتأملته بتمعّن، كانت "نَبرة" تحملق وكأنّها أمامه، وكان يتحدّث بعفوية إلى البومة وكأنّها تفهمه.
, حلّقت البومة وأدرات رأسها فرأت "نَبرة" القيد حول ساقي "أنس"، تأكدت الآن أنّه المحارب، فقد قال في كلامه أنّه تحدّث لصقر! خيل إليها للحظات أنه يغازلها هي وليس بومتها البيضاء، سقطت جذوة الفتنة فوق قلبها ولن تنطفىء أبدًا، الآن تعرف وجهه، ولكن٢ نقطة هل سترغب في قتله الآن وقد٣ نقطة أعجبها!, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٧
مرام


هدأ الهواء وجمع ضحاياه من الأغصان المتناثرة في أكوام تحت الأشجار، انتزعت "مَرام" نفسها من أفكارها وبدأت تسير في الغابة، لا بدّ أن تسرع حتى تتمكن من الوصول لـ"أنس" قبل أن يحلّ الظلام، وتعود به إلى قصر "الحوراء"، كانت رائحة زهور الياسمين تفوح باردة وتفرش مخمل عبيرها لأقدام "مَرام" وهي تسير بلطف فوق الحشائش، لم تكن تلك المرّة الأولى التي تسير فيها بتلك الغابة، باتت تعرف الطريق إلى بيت "ناردين" فقد التقت بها من قبل، لكنّها بالطبع لم تُحط بكلّ أسرار الغابة. حذروها دومًا من اللصوص في الجهة الغربية من النهر، لكنها لم تسلكها يومًا ولم تعبر النهر، كانت تعقد ذراعيها أمام صدرها وتضع كفها الأيمن تحت إبطها الأيسر والعكس بالعكس، فالبرد شديد وحاد هذا اليوم، وصلت سريعًا لذاك الكوخ الذي تسكنه "ناردين" منذ سنوات، كم تشفق على تلك العجوز فهي تذكرها بجدّتها، كان الكوخ هادئًا هدوء المقابر عندما وقفت أمامه وأخرجت يدها من تحت إبطها لتخفق الباب خفقًا ضعيفًا، فتحت "ناردين" باب الكوخ ونظرت محدّقة في عينيها بذهول قبل أن تقول:
, - "مَرام"٢ علامة التعجب أما زلت هنا؟!
, - كيف حالك يا جدّة
, - تعالي يا حبيبتي فالرياح باردة.
, دلفت "مَرام" وهي ترتجف، دثّرتها العجوز بثوب مرقّع من الصوف كانت تتخذه شالًا تدفئ به كتفيها. كان من المناسب لـ"مَرام" الآن أن تجد شخصًا متعاطفًا تبثّه أساها، وكانت تعلم أن العجوز ستحنّ عليها كعادتها وستسمع لها وتحتويها كما فعلت من قبل، قالت بعد أن رشفت من القدح الذي سكبت لها العجوز فيه بعضًا من الحساء الساخن:
, - أحتاجه بشدّه فالبرد ينخر عظامي.
, وضعت العجوز يدها على كتف "مَرام" وسألتها بصوت خفيض:
, - لماذا لم تعودي للديار يا "مَرام"؟ من الخطر أن تبقي هنا، فقد انتهت مهمّتك وصرت الآن أكثر ضعفًا عمّا قبل، ستكونين صيدًا سهلًا يا ابنتي!
, - ليس بيدي٣ نقطةإنّها مهمّة أخرى كلفتني بها "الحوراء".
, - مهمّة أخرى!٣ نقطة وما هي؟
, - شاب جديد وصل اليوم ودلف إلى الغابة قبل أن يلتقي بالمغاتير وكما تعلمين لا يستطيع أحد من أهل مملكة الشمال الدخول إلى هنا، طلبت مني الملكة اللحاق به لأنبهه.
, - أتقصدين "أنس"؟
, - بلى ٣ نقطة هل مرّ بك اليوم؟
, - رحل منذ ساعة، لقد كان مشغولًا بأمر "شهاب"، كان يركض خلفه.
, - لماذا لم تنبهيه أنه لا بدّ أن يلتقي بالملكة والمغاتير أولًا؟
, أشاحت العجوز بنظرها بعيدًا عن وجه "مَرام" وتنهّدت بعمق ثُمّ أغمضت عينيها وقالت بهدوء شديد:
, - لقد ركض خلف حدسه، هو ليس من ذاك النوع الذي ينتظر أن يملي عليه أحدهم ما يفعله، لن يستطيع التراجع وليس له أن يخطو خطوة واحدة إلى الخلف!
, ثُمّ صمتت قليلًا وكأنّها تقتنص فكرة وأضافت:
, - لا تقلقي فقد أخبرته بالقليل عمّا سيفعله، وسيكفيه ليؤدي مهمته.
, زفرت "مَرام" بأسى وقالت:
, - وددت أن أعود للديار، أخشى مما أخبرني به الحكيم "سامي كول"
, - وبماذا أخبرك الحكيم؟
, - سأحكي لك كلّ شيء٣ نقطة
, بدأت "مَرام" تصف للعجوز "ناردين" كيف كان يتكرر ظهور اسم "أنس" في كتاب "هيلا" من آن لآخر، طقطقت النار تحت القدر وتصاعد الدخان من تلك الفتحة التي تعلوه فانبثقت من سقف الكوخ سحب الدخّان مشكلة جبلًا مقلوبًا من تموجات في السماء، مالت الأشجار تنصت للحكاية، وكأنّها تهتم لأمر "مَرام" وذاك المحارب الذي بدأ رحلته منقادًا وراء حدسه ومتبعًا لشخص لا يعرفه، مرّ الوقت سريعًا وكان لا بدّ من المضي في الطريق حتى لا يداهمها الليل وهي وحيدة في الغابة، ودّعت العجوز في تلك اللحظة التي اقتربت منها "قطرة الدمع" وبدأت تحلّق قريبًا منها لتؤنسها، كانت تلك هي أنثى الصقر التي حملتها إلى ذاك العالم الغريب هنا.
, قاومت "مَرام" شعورها بالحنين لبيتها واحتياجها الشديد لأمّها وانطلقت تتحسس جذوع الأشجار وهي تسير وكأنّها تسلّم عليها واحدة تلو الأخرى، عبرت جسرًا صغيرًا وهي شاردة ولم تنتبه لدخولها للجهة الغربية من الغابة، لمّا أدركت عادت سريعًا لتعدّل مسارها، تناهى إلى سمعها صوت صهيل فاستدارت تجاه الصوت، على حين غفلة منها وثب رجل ضخم الجثّة له وجه مثقوب بعينين ضيقتين تحتهما أنف عريض مفلطح وفم متكوّر كفوّهة بركان ينفث غضبًا، كمم فمها بكفه الغليظ وأحاط جذعها بذراعه الأيسر وحملها وهي تقاوم وتصارع، انقضّت" قطرة الدمع" على الرجل وبدأت تنبش رأسه بمخلبيها بينما تفلتت "مَرام" من بين ذراعيه وهربت، انزلقت وهي تركض فأسرها رجل آخر وعاملها بصلف وقسوة، لطمها أولًا ثمّ ضربها على رأسها ففقدت الوعي، كان مقيتا له سحنة شخص خارج من قبره للتو، عاد الرجل الضخم ورأسه تقطر دما وركلها بقدمه في غيظ ثُمّ حملها على حصانه وانطلق الاثنان خارجين من الغابة ومتجهين نحو القرية، لقد وقعت "مَرام" في أسر تاجر للرقيق، عادت "قطرة الدمع" لتخبر الملكة بما حدث، وبقيت "مَرام" ملقاة على أرض في غرفة مكتظة بالفتيات. أفاقت بصعوبة وأمسكت برأسها، همهمت ببضع كلمات غير مفهومة وسرحت نظراتها للحظات وهي تحسّ بانقباض لا تدري مصدره، وأخيرًا استوعبت ما حدث لها فندّت منها صرخة قصيرة جعلت كل من بالغرفة ينظر إليها.
, ٣ علامة استفهام
,
, الكثير من القدور الكبيرة الممتلئة بالماء الساخن، بعض المناشف ملقاة هنا وهناك، المكان يعبق برائحة عطور مختلطة، وامرأة شقراء تجلس في ركن تزين وجه فتاة بالأصباغ. هنا يعدّون الفتيات قبل أن يعرضوهن في السوق للبيع، أحيانًا في بعض القرى ينتهي الأمر بموت من يسرقونهم من العبيد على حدود قريتهم وبالتحديد عند الحاجز الحجري المحيط بها، وهم لا يعرفون السبب! هذا ما يتناقلونه من قديم الزمان، ولهذا كان اللصوص يسرقون الفتيات من الغابة والبساتين حول القرى، لأنهن خرجن بأنفسهن وتخطين ذاك الحاجز الحجري بأمان للتسكع أو للقاء حبيب ربّما وسيعدن في وقت لاحق، وكانت "مَرام" صيدًا سهلًا في الغابة.
, بوجه ممتلئ مستدير، وبعينين مكحولتين بإتقان، وشفتين أغرقهما الصبغ الأحمر وكأنّها التهمت فريستها للتو وقفت امرأة ممتلئة القوام تتأرجح في مشيتها أمام "مَرام" تتفحصها وكأنّها تتفحص طيرًا قبل أن تشتريه من السوق، لكزتها بقسوة ثُمّ جذبتها من ذراعها وقالت بغيظ:
, - هيّا أيتها الحمقاء اخلعي ملابسك.
, حدّقت "مَرام" فيها بعدم استيعاب وقالت بخوف:
, - لن أخلع ملابسي٣ نقطة اتركيني.
, جذبتها المرأة من شعر رأسها وقالت وهي تزمجر:
, - كفي عن الكلام واخلعي ملابسك لتستحمي وإلّا مزقتها أمام الجميع، يبدو أنّك من قرية "الرباب" فأنت تشبهينهم.
, صاحت إحداهن بصوت رقيع:
, - لا شكّ أنّك كنت تلتقين بعشيقك في الغابة، أيتها الخبيثة!
, تلفتت "مَرام" حولها وهي تضع كفيها فوق بعضهما على صدرها، كانت ترتجف، في حركة عصبية سريعة أمسكت مَرام بإبريق نحاسي قريب منها وسكبت الماء على رأسها وبدأت تستحم بملابسها، رفعت المرأة حاجبيها وقالت في تهكم تشوبه مرارة وهي تكزّ على أسنانها:
, - يبدو أنّك حمقاء٣ نقطة حمقاء
, مطّت المرأة كلماتها وهي تسبّها ورفعت صوتها بينما استمرت "مَرام" في سكب الماء على رأسها بيد مرتعشة، كانت في هلع وخوف من أن يلقوا بها في أحضان رجل حقير يفترسها، أطرقت للحظة تفكّر أين المغاتير وأين الصقور وأين هؤلاء الذين كانوا حولها خلال الأيام الماضية، وكيف لا يعرفها أحد هنا، كادت تصرخ وتقول أنا محاربة، لكنّ٣ نقطةأي محاربة هي الآن٢ علامة التعجب
, علت ضحكات البعض وهم يراقبون "مَرام" وهي تتحمم بملابسها، ألقت بالإبريق عليهن، وبدأت تصرخ عليهن، تشابكت مع بعضهن بالأيدي تارة، وبساقيها كانت تركلهن تارة، لكنها كانت تنال منهن ما لا تطيقه، بعض الصفعات والركلات والقرصات، عضّتها إحداهن في ذراعها، وضربتها أخرى على ظهرها بقسوة بالغة، جذبوا غطاء رأسها فانساب شعرها على كتفيها، وقفت المرأة أمامها تغلي كالقدر، كادت تلطمها لولا تلك المرأة طويلة القامة بملابسها السافرة وشعرها الأحمر التي اقتربت منهن وهزّت رأسها بثقة وهي تطالع عيني المرأة البدينة وقالت بصوت شابته رنّة دلال مصطنعة:
, - اتركيها لي، لن تفلح تلك الطريقة معها فلديها بعض الكبرياء، سأجهزها بنفسي.
, استدارت المرأة وغادرت المكان في تبرّم بعد أن نالت "مَرام" حظّها من نظراتها البغيضة، وقالت ولسانها يقطر حقدًا:
, - فلتكسري ذاك الكبرياء.
, وتركتها بين يدي تلك المرأة التي أحاطتها بمنشفة كبيرة وهمست في أذنها بحنان:
, - تعالي يا صغيرتي، تعالي معي.
, ٣ علامة استفهام
, كانت الغرفة تسبح في هدوء غريب، الكثير من الملابس المزركشة معلّقة هنا وهناك وكأنّه معرض كبير، بخطوات واثقة تحرّكت المرأة بقامتها الطويلة وسحبت رداء شفافًا واقتربت من "مَرام" وقالت بصوت متهدّج:
, - خذي هذا الثوب وارتديه سيزيد جمالك، فلونه يناسب لون بشرتك.
, رفعت "مَرام" عينيها في انزعاج وقالت:
, - لن أرتدي هذا الثوب المهين، سأظل بملابسي.
, ضحكت المرأة بخلاعة وقالت لها وهي تربت على طرف الفراش:
, - اجلسي يا فتاتي واخبريني بقصّتك، من أين أنتِ؟
, جلست مَرام بتحفّظ على طرف الفراش وقالت بثقة:
, - أنا محاربة!
, ران عليهما الصمت لوهلة قبل أن تنخرط المرأة في موجه ضحك هستيري بطريقة مبتذلة، ظلّت "مَرام" على حالها تقبض على طرف المنشفة فوق ملابسها المبتلّة وتراقبها في توتر، بعد حين خرجت المرأة وعادت بكوبين من الفخّار تتصاعد منهما الأبخرة، مدّت أحدهما لـ"مَرام" وقالت بصوت أكثر هدوءًا مما كانت تتحدث به سابقًا وبدت جادة ومنضبطة وهي تقول:
, - كلهن حمقاوات، لا يعلمن قدرك، تناولي هذا يا حبيبتي سيدفئك، وسأحضر لك الملابس التي تليق بك، يبدو أنّك فتاة نبيلة.
, كانت "مَرام" ترتجف لا تدري خوفًا أم بردًا، أمسكت بالكوب واحتضنته بكفّيها وأغمضت عينيها لتسمح بالأبخرة المتصاعدة منه بالمرور على صفحة وجهها البريء، رشفت ببطء وقد بدأ الدفء يدبّ في أوصالها، شعرت بحرقة خفيفة في معدتها وشيئًا فشيئًا بدأت الأصوات تختلط عليها، ضحكات متواصلة وأيدي تتلقفها، تلك المرأة الطويلة تمسك بذقنها وتنظر إلى وجهها، بدت ملامحها غريبة وهي تتحدث بلؤم وترفع حاجبها الأيسر وتسألها إن كانت تحبّ أن تصبغ لها شعرها هي الأخرى باللون الأحمر، أرادت "مَرام" أن تردّ لكنّ صوتها كان محبوسًا بطريقة ما!
, رائحة غريبة لا تدري أهي لعطر أم نوع من البخور بدأت تتسرب إلى خيشومها، طعم غريب لشيء لزج على شفتيها، دهان من مسحوق ناعم على كفيها، حليّ تصدر صوتًا تلفها إحداهن حول عنقها، كان الشراب يحتوي على مسحوق نوع من المخدر جعلها في حالة من عدم الاتزان مما سمح للنساء بتهيئتها بما رغبوا في إظهارها به، تستحق بعض النفقة والزينة فحسن عرضها سيجعلها تُباع بسعر عالٍ وسيعود عليهم هذا بالكثير. وأخيرًا نقلوها في عربة مع باقي الفتيات وهي تترنح، استقرت أخيرًا وسط السوق بجوار الأخريات على أبسطة مزركشة وتحتهن الوسائد الحريرية، وحولهن الحراس يصدون عنهن الأعين الحقيرة والأنفس الجائعة، إن أردتها فادفع الثمن أولًا! وقف زعيم تلك العصابة ينادي لبيعهن، بدأت تستعيد وعيها تدريجيًا، وتحسست جسدها المتكشف وأرادت أن تصرخ، أن تبكي لكنّ أثر المخدر ما زال يسري في دمها٣ نقطة, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٨
أشريا


هس٢ نقطة هسس٢ نقطة همست بها فتاة صبيحة الوجه من خلف الأشجار، كان "كلودة" يغفو فتسقط رأسه تارة يمينًا، وتارة يسارًا، ما زال القيد يؤلمه. لم ينتبه إليها إلا عندما تحرّكت وسارت على أطراف أصابعها وتقوقعت خلف ظهره ثم بدأت تلكزه بيدها حتى ينتبه لوجودها، قال متفاجئًا:
, - "أشريا"٢ علامة التعجب ما الذي أتى بك إلى هنا! هل أنتِ مجنونة؟ كيف تدخلين الغابة٢ علامة التعجب
, كانت الفتاة ذات نظرة متقدة كلّها ذكاء، همست قائلة:
, - تأخّرت يا "كلودة" ، كان من المفترض أن تكون بالبيت منذ ساعات.
, - كيف وصلتِ إلى هنا؟
, - أتيت وحدي، كُنت أتبعك أمس وأنت في حانوت الكتب، ورأيتك مع ذاك الشّاب وأنتما تدخلان الغابة، فجلست مع النساء في قافلة تجار خرجت من قريتنا حتى أطمئن أنّك عدت، تابعوا سيرهم فسرت معهم حتى حدود الغابة، ودلفت أفتش عنكما، أنتما بالكاد على أطرافها، عثرت عليكما سريعًا ورأيت القيد على يديك وكنت قد أتيت بذلك المسحوق لأحمي نفسي إن هاجمتني تلك الذئاب فألقيه على أعينها.
, رفعته ليشمّه فغضن حاجبيه وهمس ينهرها قائلًا:
, - ابعديه عن يديك، إنّه حارق يا "أشريا"، قد يؤذيك يا مجنونة!
, لم يلُمها على إلصاق المسحوق الحارق بأنفه، فهو يخشى عليها أكثر ممــــا
, يخشى على نفسه، سكنت الفتاة للحظات خلف ظهر "كلودة" ورمقت "أنس" بعينيها النابهتين، وعندما تأكّدت أن الحراس غارقين في النوم فتحت كيسًا من الجلد كانت تضع المسحوق فيها، كان المسحوق لنوع من الأحجار التي يجمعها "كلودة" من الكهوف التي تملأ الجبال، ويسحقها ويضعها في قارورة كبيرة ويغلقها بإحكام، طالما حذرها منها، أخبرها ألا تقرب منه الماء لأنه يفور وربما يأكل بشرتها لو لامسته بأصابعها، نثرت الفتاة بعض المسحوق على الحبال التي قيّدوا "كلودة بها، ثم أخرجت قربة ماء صغيرة كانت تحملها، سحبت بعض الماء بفمها وعادت فلفظته ببطء من بين شفتيها فوق المسحوق المنثور على الحبال، تراجعت قليلًا وجلست بوجه ما زال رغم أنوثتها الظاهرة يحتفظ باستدارة الطفولة وتعبيراتها البريئة تراقب ذاك الفوران الذي يحدث ثمّ تفتت الحبال وذابت أمام عينيها، سحب "كلودة" يديه سريعًا ووقف يتفحصهما، ظنّ أن الفتاة ستؤذيه بقلّة خبرتها، لكنها كانت ذكية وأجادت تقليد ما رأته يومًا يفعله، فهي تراقبه دومًا وتتعلم منه، همس وهو يحدّق في وجهها:
, - حمدا لله أنّك جئت يا "أشريا".
, ثم همس مسبّحًا:
, - سبحانك سبحانك يا من تدبر الأمر من السماء إلى الأرض!
, أسرع "كلودة" يفك قيد قدميه، وساعد "أنس" على فك قيده، هرول الثلاثة مبتعدين بعد أن سحب "أنس" حقيبته وما فيها عدا الكتاب الذي سرقوه ولم يكن موجودًا، كانت القلادة لا تزال حول عنقه، وكان قد وضع المفتاح مع قطع الكريستال في الكيس الجلدي الصغير، فتحه ليتأكّد من وجودها فلا ريب أن اللصوص طمعوا فيها وأغراهم بريقها لكنّه فوجيء بتحولها إلى قطع من الفحم الأسود!
, ساروا لمسافة غير بعيدة عندما تذكّر "أنس" خنجره المذهّب، كيف سيكمل رحلته بدونه وقد أوصاه جدّه أن ينتبه لكل شيء أمدّه به لأنّه سيحتاجه، للحظة تردد لكنّه قرر في النهاية أن يعود لإحضاره رغم اعتراض "كلودة" و "أشريا"، على مقربة من المكان بحيث يتسنى لهم الهرب سريعًا في أي لحظة وقفا يراقبانه خلف الأشجار، كان "أنس" يسير بحذر شديد وهو يكتم أنفاسه، نجح في سحب الخنجر من حزام أحدهم وتحرّك ببطء حتى لا يوقظه، لكنه تعثّر بساق الآخر وسقط فوقه، صرخ الأخير فزعًا وكاد يمسك بـ "أنس" الذي وثب واقفًا وباغته بضربة على صدره ثُمّ لف جذعه بذراعيه وقلبه على الأرض فصرخ فاستيقظ البقيّة فزعين وأمسك اثنان منهم بـ"أنس"، لكن "كلودة" قفز بخفّة من بين الأشجار ونثر باقي المسحوق الذي أحضرته "أشريا" على عين أحدهما فذاب في ماء عينيه وبدأ يحرقه فترك ذراع "أنس" وبدأ يصرخ ألمًا ويقفز هنا وهناك وهو يفركها بيديه، وركل "أنس" الآخر في ساقه بكلّ ما أوتي من قوّة وانطلق الثلاثة هاربين يتبعهم اللصوص.
, ركضوا بين الأشجار ثُمّ عبروا فوق جسر صغير حيث كان ماء النهر الأخضر يجري تحتهم، فور أن عبروه للجهة المقابلة وقفت "أشريا" وندّت منها صرخة مكتومة! كانت هناك طفلة رضيعة ملفوفة بخرقة ومعلقة في غصن شجرة أمام أعينهم، تركل بقدميها الدقيقتين في الهواء، وتحرّك كفيها كما الفراشة فتهزّ الغصن.
, صاح "أنس":
, - معقول! أي أم تلك التي تفعل هذا!
, غرقت "أشريا" في موجة بكاء عنيف واستمرت تبكي بنشيج مسموع بينما كان "أنس" يحلّ عقدة الخرقة ويساعده "كلودة" الذي التقط الرضيعة بعينين تهميان بالدموع وقال بصوت مزّقه الحزن:
, - وأيّ أب!
, كانت رائحة العسل تفوح منها، على نحوٍ سريعٍ تلفتوا يمينًا ويسارًا باحثين عن أي أثر لمخلوق حولهم، ولمّا لم يعثروا على أحد! انطلقوا راكضين بأقصى سرعة وكانت "أشريا" تحمل الصغيرة في حضنها، كادوا يخرجون لولا أنّ قبيلة "المجاهيم" ظهروا مرّة أخرى، كان"أنس" يراهم يتواثبون من تحت الأرض ويصطفّون بجنب بعضهم البعض حتى أحاطوهم من كلّ جانب، بدا وكأن "كلودة" و"أشريا" لا يرونهم! خرج "كلودة" أولًا فقد كان أسرعهم ركضًا، وفجأة اقترب أحد "المجاهيم" من "أشريا" ووقف أمامها ثُمّ قبض على عنقها بيديه فخرّت على ركبتيها وبدأ وجهها يزرق وهي تمسك رقبتها وتحاول الصراخ لكنّها لا تجدّ صوتًا ولا نفسًا يعينها، كادت تسقط على وجهها فوق الصغيرة، لولا "أنس" الذي خلع قلادته ووضعها حول عنقها هي والصغيرة حيث أحاطهما بحبلها المجدول ودفعهما بقوّة خارج حدود الغابة حيث كانت "أشريا" تقف بأقدامها فوق الحاجز الحجري فسقطت على الأرض وبدأت تسعل وشهقت بينما قفز "أنس" سريعًا وتخطى الحاجز الحجري ووقف يلتقط أنفاسه وقلبه يكاد يثب من بين أضلعه وظلّ يحدّق في وجه أحد "المجاهيم" والذي كان يقف داخل حدود الغابة مشيرًا إليه بتوعّد فقد خدعهم وأخرج "أشريا" والصغيرة من الغابة بذكاء.
, بدأت الصغيرة في البكاء فهزّتها "أشريا" بحنان وأخذت تحضنها وتغطيها بخمارها، استعاد "أنس" القلادة منها وارتداها وهو يتلفّت ويراقب "المجاهيم" وهم يصطفّون على أطراف الغابة من الداخل. اتجه الثلاثة إلى القرية ركضًا حيث التقوا بقافلة تجارية كبيرة، تعرف أحد التجار على "كلودة" فحيّاه وأعاره قميصًا يرتديه، فطلب "كلودة" على استحياء قميصًا آخرًا لـ"أنس"، وساروا في حمايتهم حتى دلفوا القرية بأمان، وجلسوا ليلتقطوا أنفاسهم.
, ران عليهم صمت خفيف قطعه ظهور وجه قبيح لرجل أشعث امتلأ وجهه بندبات جروح عميقة وله نظرة تخلع القلب، فور أن لمحه "كلودة" وثب في مكانه وركض مع "أشريا" وهي تحتضن الصغيرة، وخلفهما "أنس" تجاه سوق القرية، كان أحد اللصوص الذي ظلّ يطاردهم حتى أحاطتهم أمواج البشر المزدحمين حول البائعين، غابوا عن عينيه فتراجع وهو يسبّ ويلعن.
, وصلوا أخيرًا إلى دار أمّ "أشريا"، فتحت "أشريا" الباب بهدوء، كانت الصغيرة قد سكنت في حضنها، واستسلمت للنوم بينما كانت"أشريا" تشمّها وتلثمها على جبينها فاستيقظت الصغيرة وبدأت تصرخ، قالت في نفسها طالما تفوح منها رائحة العسل فهي تحبّه، أحضرت أشريا" العسل وغمست إصبعها فيه، وأطعمتها بعضًا منه فشبعت وهدأت وابتسمت، ثُمّ هرولت بها نحو أمها العجوز وفتحت باب غرفتها فأجفلت! كانت العجوز تبكي بنشيج مسموع وعيناها محتقنتان من كثرة البكاء، وضعت "أشريا" الصغيرة في حجرها بهدوء، وقصّت عليها ما حدث، صرخت العجوز في وجهها بفزع شديدٍ وطلبت من "كلودة" أن يخرج بالصغيرة من الدار٢ علامة التعجب
, وقفت "أشريا" تتعجب من ردّ فعل أمّها التي عادت للبكاء الذي أدمى عينيها فصارت لا ترى وجه ابنتها "أشريا" وهي تقف أمامها.
, خرج" كلودة" مهمومًا وسار في الطرقات يحملها، ربطها حول صدره وكــــــانت
, كلّما التقت عيناه بعينيها الصغيرتين تهشّ له وتبتسم، وقف وسط السوق وصاح:
, - عثرت على تلك الصغيرة بالغابة، وأنا سأربيها وأحتاج العون.
, نال من الهمز واللمز ما لم ينله من قبل، واتهموه بالسوء، لكن **** ألقى الرحمة في قلوب البعض.
, احتضنها "كلودة" وكَوّر جذعه عليها ليحميها من الحجارة التي قذفه بها البعض، كان "أنس" يدفعهم ويصيح عليهم متعجبًا من فعلهم هذا!
, بكي "كلودة" وانهار وكأنه قد فقد كلّ أهله فجأة، ثُم رفع نظره إلى السماء وقال:
, - سبحانك سبحانك، يا رحيم يا ودود.
, ثُمّ أكمل بصوت تخنقه العبرات:
, - وما ذنب الصغيرة٣ نقطة وما ذنب الصغيرة!
, خرجت امرأة ثلاثينية من بيتها وعليها ثياب ملطخة بالطحين الأبيض، وخلفها تهرول طفلتان صغيرتان، سارت بخطوات ثابتة وهي توزع نظرات تحمل الكثير من التحدي لمن تجمهروا حول "كلودة"، ثُمّ نظرت للرضيعة وحملتها منه وبدأت الدموع تجري على خديها٢ نقطة
, - سأرضعها٢ نقطة لا تخف عليها.
, قالتها بصوت واثق وهي تحتضنها، كانت تلك زوجة الخباز، وكان رجلًا بسيطًا قد أحسن إليه "كلودة" من قبل، وكانت تحفظ وزوجها له الجميل، أخبرته أن يتركها في دارهم طوال النهار، ويعود ليأخذها لتبيت معه ليلًا.
, - سبحانك سبحانك، تسخر من خلقك من تشاء لمن تشاء!
, قالها وهو يتركها بين يديها، كانت نَبرة صوت "كلودة" تقطر حنانا وحبًا وحزنًا في نفس الوقت، تجوّل "أنس" في ملامحه التي تطفح بالحزن وقال وهو يمسح على رأس الصغيرة بينما زوجة الخباز تحملها:
, - جميل ما صنعتِ، أحسن **** إليكِ كما أحسنتِ إليها.
, رفع "كلودة" صوته وسط السوق وقال وما زالت الدموع تسيل من عينيه:
, - سبحانك سبحانك، لولا العبرات النقيّة والأنّات الخفيّة لهلكت الأنفاس.
, انصرفا وتركا الصغيرة مع زوجة الخباز، بدا "كلودة" حزينًا منكسرًا!
, كان "أنس" يتساءل عن حال ذاك الشاب! وهل هو ناسك عابد؟ أم مريض؟ أم عاشق ولهان يحبّ ابنة عمّه بشغف!
, سار خلفه لمسافة طويلة صامتًا حتى وصلا إلى بيته، قال "أنس" وهو يمسح على جبهته:
, - ليتني واجهت ذاك اللص الذي تبعنا للقرية بدلًا من الهرب منه، لا بدّ أن أستردّ كتابي؟
, التفت إليه "كلودة" وهو يفتح باب داره البسيطة:
, - ربّما من الأفضل أن تنتظر حتى تسأل شهاب.
, - لا٣ نقطة سأستعيده بنفسي.
, قالها بعد أن زمّ شفتيه، ودّ أن يلقّن القبيح والمقبّح درسًا فهو لم يعتد على ترك حقّه طالما هو قادر على استرداده، كان عصي عليه أن يشرح هذا لـ"كلودة"، لن يهدأ له بال حتى يسترد الكتاب بنفسه. حلّ الليل سريعًا، وكانا قد أرهقا من السير، دلفا معًا لبيت "كلودة" بعد أن مرّت من فوقهما تلك البومة العجيبة التي تمنح أميرتها رؤى ليلية تكشف عن المحاربين، فرأتهما الأميرة "نَبرة" بعيني بومتها، هي تعلم الآن أن "أنس" بصحبة شاب ما، لكنّها ما زالت لا تعرف مكانه، ولم تر بعد وجه هذا الشّاب الذي يستضيفه! ألقى "أنس" رأسه على وسادة محشوّة بريش الطيور، واستسلم للنوم، كان متعبًا ومرهقًا إلى حدٍ كبير.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٩
أونتي


- ستون كشتالًا وإلّا فلتنصرف فليس لك بضاعة عندنا.
, وقف الشاب يتأمّل وجه "مَرام" والتي كانت تبدو ظاهرة عن الفتيات حولها ليس بسبب لون بشرتها المختلف، ولكن لأنّها كانت تبكي وتحاول جذب أي قطعة قماش لتغطي جسدها، حتى أنّها شقّت وسادة حريرية واستخدمت كسوتها كغطاء لكتفيها لكنّهم جذبوه منها ونهروها أكثر من مرّة.
, - سبعون كشتالًا.
, - بل خمسون كشتالا فقط.
, مرّ "أنس" من أمامها، كان هو و "كلودة" يهرولان خلف "أشريا" وجميعهم يتلفّت باحثًا عن اللصوص هنا وهناك، ظهر وجه قبيح لأحدهم من بين الزحام ورفع رأسه يفتش بين الوجوه عن "أنس" دون أن يراه الأخير، فعلم "أنس" للتو أنّه مطلوب في القصر بالفعل ، فقد أخبر الملك رجاله أن من يأتيه برأس "أنس" سينال جائزة قيّمة، دلف "أنس" و"كلودة" وسط الحشود التي كانت تلتف حول الفتيات يقلبن في وجوههن وأجسادهن بإهانة ليشتروهن، كانت "مَرام" تضرب كلّ يد تمتد إليها، رأت "أنس" وحول عنقه القلادة التي أعطاها له جدّه وكانت جدّتها قد أعطتها قلادة تشبهها فأدركت أنّه هو، التفتت حين ناداه شاب آخر لم ترَ وجهه جيّدًا وكان "كلودة" الذي صاح باسم "أنس"وسط السوق فتأكّدت أنّه هو، كان قد ابتعد فلم يسمع صوتها الضعيف، فانحنت وحملت حجرًا صغيرًا من على الأرض تحت قدميها وقذفته به، التفت ومرّ عليها دون أن يتوقف أمام وجهها، كان مشمئزًا من جمع الفتيات بملابسهن العارية، انحنت مرّة أخرى وحملت حجرًا أكبر حجمًا وقذفته فأصاب رأسه، التفت نحوها متألّمًا فالتقت عيناهما، وجد أمامه فتاة جميلة وفاتنة وترتدي ثوبًا سافرًا من الحرير فأجفل ثم صرف نظره عنها وابتعد، فقذفته بحجر آخر في رأسه فانحني وتناوله ونظر إليها بغضب وتصميم ورماها به فأصابها في عينها فصرخت ألما ثمّ حاولت أن تنادي عليه وقالت بصوت ابتعلته ضوضاء الحشد حولها:
, - اشترِني٢ نقطة أرجوك٢ نقطة ادفع ثمني٢ نقطة لا تتركني.
, لم يسمعها فحاولت أن تترك مكانها وتلحق به فصدها ذراع غليظ لأحد الحراس الذين كانوا يحيطون بهن، عادت لمكانها وكانت عينها تؤلمها بشدّة، اختفى "أنس" بين جموع البشر في السوق وعادت تقف كالقط الغاضب تغرز مخالبها في كلّ يدٍ تمتد لتمسك بها، كانت معركة شرسة تدور بينها وبين زبائن التاجر، حتى علا صوت الخيول، أفسح الناس فرجة بينهم فترجل أحدهم عن حصانه ومرّ بين الصفوف حتى وصل إلى التاجر الذي انحنى ليحييه بإجلال، وقف شاب قوي البنية له حضور قوي عليه ملابس تليق بالأمراء، مرّ على وجوه الفتيات بعينيه اليقظتين وتفحص نظراتهن بإمعان، اختار ثلاث فتيات بارعات الجمال وجريئات لا يستحين من عرض أنفسهن، وعلى عكس المتوقع دومًا حيث كان لا يختار المنكسرات مثلها ، جذبت "مَرام" انتباهه حيث كانت تمزق النمارق الحريرية التي كان من المفترض أن تجلس عليها وتستند كباقي الفتيات، لكنّها كانت تشقها وتغطي جسدها بقماشها ودموعها تسيل على وجنتيها، كانت ترتجف عندما اقترب منها ثُمّ أشار عليها وعلى الفتيات الثلاثة، ثُمّ ألقى بكيس ممتلئ بالنقود للتاجر الذي تغيرت ملامحه عندما أمسك المال وطرب لصوت خشخشته داخل الكيس، دفع الفتيات بقسوة خلف الشاب الذي التفت عندما صرخت "مَرام" عندما جذبوا الخرق الحريرية الممزقة التي كانت تغطي بها جسدها وخلع وشاحًا كان يرتديه فوق قميصه ولفها به فستر جسدها الضئيل كلّه فرفعته بحياء على رأسها، كان لديه بقايا خير وإن كانت قليلة، وأخيرًا وجدت من يسترها!
, سارت خلفه مع الفتيات حتى خرجوا من السوق، عاد لحصانه وأشار لأحد رجاله الذي حملهن في عربة مغطاة تجرّها الخيول إلى هناك٤ نقطة حيث قصر الملك "كِمشاق" والأميرة "نَبرة"، كان "حليم" يزور السوق من آن لآخر ليشتري الإماء من النساء ويهدي لـ "كِمشاق" أجملهن حتى يرضيه ويكسب ودّه، ويدفع بعضهن للخدمة في مطبخ القصر حيث ينعمن بخيرات الملك والملكة إشفاقًا عليهن، كان لديه مزيج من الخير والشر يموج في نفسه المضطربة بحبّ "نَبرة" الذي يطغى عليه ويفطر فؤاده، كان "حليم" يتفادى شراء الفتيات على شاكلة "مَرام"، لكنّها على ضعف بنيتها كانت جميلة الوجه، فحازت على انتباهه بما كانت تفعله فرق لحالها وتعجّب لأمرها.
, ٣ علامة استفهام
,
, - أريد أن أعمل بمطبخ القصر.
, قالتها "مَرام" بتصميم وهي تتوجع وتضع كفّها على عينها التي تورّمت بعد أن قذفها "أنس" بحجارة أصابتها فيها، كانت تقف أمام المسئولة عن شئون قصر الملك "كِمشاق" الذي يتوسّط أكبر قرى مملكة الجنوب، تلك القرية التي على أطرافها يعيش "كلودة" حيث يستضيف "أنس" الذي كان مصير كتابه مجهولًا حتى تلك اللحظة، صرخت المسئولة وعنّفت "مَرام" ونهرتها وأمرت بضمها لجواري الملك، سمعتها الأميرة "أُونتي" التي كانت تتسلل من جناح الخدم في ثياب جارية من جواريها لتلتقي بحبيبها في البستان، كانت تقف خلف عامود عريض يتوسّط الساحة وتخفي وجهها بطرف غطاء رأسها الحريري عندما تناهى إلى سمعها صوت بكاء "مَرام"، انصرفت المسئولة ومعها الجواري وتركن "مَرام" وحدها تبكي، كانت تسير تجاه بوابة القصر عندما جذبتها الأميرة "أُونتي" نحوها وسألتها هامسة ولم يظهر لـ"مَرام" منها سوى عينيها الكحيلتين وبشرتها السمراء:
, - ما اسمك؟
, - "مَرام"
, - لا تخافي يا "مَرام"، ستطلبك الأميرة "أُونتي" وتضمّك إلى جواريها، كفكفي دموعك ولا تحزني.
, ثُمّ انصرفت تلك الأميرة التي تختلف في طباعها عن شقيقتها "نَبرة" وشقيقها "كِمشاق" دون أن تكشف لـ "مَرام" عن شخصيتها، وهرولت على عجل وانسلت بين أشجار البستان المحيط بالقصر، كفكفت "مَرام" دموعها وتكوّرت وسكنت تنتظر وتترقب وتفكّر في حالها وما آلت إليه.
, ٣ علامة استفهام
,
, - مولاي الملك "كِمشاق"
, قالها أحد الحراس بإجلال وهو ينحني أمام الملك باسطًا ذراعه باستعراض، هزّ الملك رأسه وبعينيه استقّرت نظرة ساخرة ملؤها الكبر والاستعلاء فقد كان يتلذذ بمراقبة حاشيته وهم يعاملونه بتلك الطريقة، قال بصوت رخيم وهو يلتقم حبات العنب في فمه من يد جاريته الحسناء:
, - ما الجديد؟
, - وصل أحدهم يزعم أنّه حصل على كتاب لأحد المحاربين، ويقول أنهم أسروه في الغابة.
, اعتدل الملك في جلسته حيث استيقظت كل جوارحه، ورفع يده بإيماءة تعني أن أدخله في الحال، كان "كِمشاق" قد فاز بعدة جولات مع هؤلاء المحاربين، ما زال يعزز عرشه ومملكته بنشر بعض المعتقدات التي تخدم كيانه، كانت نصيحة الكهان له أن يقتنص كلّ فرصة ليمنع هؤلاء المحاربين من استرداد تلك الكتب التي يزعمون أنّها لهم، لا سبيل إلا مراقبة المحاربين، فهم وحدهم يمرون من مكان لآخر، أما أهل القصرين، قصر "الحوراء" وقصر "كِمشاق"٢ نقطةلا يجرؤ أيّ منهما على دخول الغابة ولم يصل أحدهم إلى المكتبة العظيمة التي تقع خلف الجبل، أمجاد عظيمة تُسطر هناك، تاريخ يضمّ أسماء من منحوا البشرية الكثير من التجارب والعلوم والفنون والقصص، من بلاد شتى ومن جنسيات مختلفة، أما "كِمشاق" ولأنّه من أصل نوبي عريق فكان يهتم لتلك الكتب التي تحكي قصص الأمير "أواوا"، وأخيرًا ستتلقى "الحوراء" ضربة تهزّ عرشها، يستطيع الآن أن يأمر أحد الكهان باستلام الكتاب لتملأ صفحاته بما يرضي نفسه ويرضيه ويعزز كيانه وسلطته ويخلّد اسمه، صرف الجواري وجلس يعدّل ثيابه الفاخرة، دلف كبير اللصوص ومعه رفاقه، كانت رائحة القذارة تفوح منهم، انحنوا في إذلال أمامه وقال كبيرهم:
, - مولاي الملك، جئناك بهديّة.
, - إن كانت كما تزعم فلك جائزة كبيرة
, ابتسم فأسقطت ابتسامته اللثام عن أسنان صفراء حفّتها القذارة من أعلاها وأسفلها وقال بصوت أجش متحشرج:
, - هذا كتاب لأحد المحاربين عثرنا عليه في الغابة وهو في طريقه إليكم.
, تناول "كِمشاق" الكتاب منه وقلّب صفحاته الخالية، راوده شعور بالاطمئنان عندما تأكّد أن الكتاب لم يطلق سراح كلمة واحدة، ما زال أمامه فرصة كبيرة، رفع رأسه ونظر لكبير اللصوص بازدراء وسأله:
, - وأين هو المحارب؟
, - ممم٢ نقطة سنحضره يا مولاي ولكن٢ نقطة
, - ولكن ماذا؟
, - نطمع في سخائك وكرمك، ولا أظنك ستبخل علينا، أليس كذلك؟
, قهقه الملك وانتفض وانتفش ورشقه بنظرة أوقعت الرعب في نفسه، ثُمّ قال:
, - أحضره أوّلًا ثم أرني وجهك هذا مرّة أخرى.
, ثُمّ أردف وهو يثقبه بنظرة أخرى وقعت حيث وقعت الأولى فتراجع كبير اللصوص مرتبكًا إثرها:
, - وسيبقى الكتاب هنا حتى تعودوا به.
, بخطى مترددة ونفس غاضبة، ودماء تغلي، ونظرات متقدة، انصرف اللصوص عائدين إلى حيث تركوا "أنس" و "كلودة" في صحبة ثلاثة منهم، لا بدّ أن يعودوا بهم للملك "كِمشاق"، والذي كان يتأمّل غلاف الكتاب ويقرأ عنوانه في فضول:
, - "إيكادولي"! لا بدّ أن يكون هذا الحب لي وحدي، فليحبني الجميع.
, ٣ علامة استفهام
,
, - تعالي، هيّا أيتها الكسولة.
, - ماذا تريدين؟
, - طلبتك الأميرة "أُونتي" لتكوني خادمتها الشخصية، أنت محظوظة يا فتاة! لولا عينك المتورّمة تلك لكنتِ الآن بين يدي الملك "كِمشاق"، لقد أنقذتك الأميرة.
, وقّعت كلماتها بضحكة خبيثة، كانت "مَرام" تضغط على ذراعها حيث قرصتها المسئولة وهي تجذبها من ذراعها، سارت وراءها بهدوء تجاه جناح الأميرة "أُونتي" وهي تحبس دموعها، أصابها الكثير من الضرب والقرص منذ خرجت من بيت العجوز "ناردين" في الغابة، لم تعتد على تلك العدوانية ولم تتعرض لها خلال رحلتها مع كتابها "هيلا"، كان الأمر هادئًا رغم مرور أبطال قصّتها ببعض المصاعب. منذ ظهور أنس هذا انقلبت الأمور كلها شقاء، أطرقت في حزن لكنها حين تذكرت أنّ ورم عينها أنقذها من أشنع البلاء اطمأنت وعلمت أن لطف **** الخفي لا تجزع معه القلوب. وصلت أخيرًا حيث كانت الأميرة تقف في شرفتها وتتأمل القمر في السماء، التفتت حين دخلا عليها وابتسمت بلطف، وفور أن انصرفت المسئولة أسرعت تجاه "مَرام" ووضعت يدها بحنان على كتفها وقالت:
, - هل أنت بخير؟
, - بخير يا مولاتي
, التفتت إليها "أُونتي" وقالت بإشفاق:
, - افتحي هذا الصندوق وتخيري ما ترينه مناسبًا لك من الملابس التي فيه.
, أسرعت "مَرام" التي كانت لا تزال تتلحف بوشاح "حليم" الذي لفها به عندما اشتراها في السوق، تعجّبت "مَرام" فالثياب في الصندوق لا تناسب الأميرة ولا تشبه الرداء الذي ترتديه، آثرت الصمت وسحبت رداءً طويل الأكمام وسروالا واسعًا وارتدتهما في الحال وخلعت الملابس الخليعة التي كانت عليها، تذكّرت نظرة "أنس" لها في السوق فأصابها الحزن، ذاك الشاب ظنها فتاة سيئة، أمسكت بطرف الوشاح الذي كان عليها وبدأت تمسح الأصباغ على وجهها فالتفتت الأميرة "أُونتي" وضحكت وهي تراقبها وقالت:
, - أليس هذا وشاح "حليم"؟
, - نعم هو، سترني به وأنا في السوق.
, لاحت على وجه الأميرة ابتسامة وهي تقول:
, - كم هو شهم! لا بد أنّه رقّ لحالك، عجيب أمر "حليم" هذا! يتقلّب بين حالتين وكأن النهار والليل يتعاقبان فيه!
, - ماذا تعنين؟
, - أحيانًا يكون طيبًا وحنونًا، وأحيانا يكون غليظًا فظًا٢ علامة التعجب، أتعلمين، لو رآك تمسحين الأصباغ به لعاقبك في الحال.
, تنهّدت "مَرام" وقالت:
, - ما أنا فيه هو عقاب بالفعل، ليتني لم أكن يومًا أنثى!
, - لم تقولين هذا؟
, - أجبروني على ما لا طاقة لي به، خلعوا حجابي، مزقوا حيائي، هتكوا ستري٣ نقطة ليتني كنت رجلًا.
, وانخرطت تبكي بنشيج مسموع فرقّت "أُونتي" لحالها وجلست بجوارها تهدئ من روعها، ثُمّ سألتها عن قصّتها فصمتت "مَرام" هنيهة وفكّرت هل من الصواب أن تعرف الأميرة بقصّتها أم لا، فضلت أن تكتم أمر كونها محاربة، واستأنفت البكاء وكأنّها لا تقدر على الكلام حتى ملّت الأميرة وعادت لشرفتها تتأمل القمر في السماء، كانت "أُونتي" ساهمة تفكّر في حبيبها، تطرق طويلًا وتغرق في أحلام يقظتها حتى أنّها لا تشعر بمن حولها، أدركت "مَرام" أن وراء تلك الأميرة سرًّا ما، قررت أن تتجلّد وتتصبّر لعلها تعينها على الهروب من ذاك القصر، كانت عينها تؤلمها بشدّة، بدأ جفنها يزرق وبرز قليلًا، تذكّرت كيف كان "أنس" ينظر إليها وهو يصوب الحجر تجاهها فاعتصر الحزن قلبها وغضبت منه، همست لنفسها وهي تعدّل وسادتها لتنام:
, أيظنني بغيًّا تناديه! يوما ما سأنتقم من هذا المحارب الأحمق٣ نقطة والمغرور!
, ٣ علامة استفهام
,
, - "مَرام"٣ نقطةاستيقظي.
, همست الأميرة "أُونتي" في أذنها فانتصبت جالسة وبدأت تفرك عينيها، اعتادت على الاستيقاظ في مكان يختلف عن بيتها الذي ولدت فيه، اشتاقت لغرفتها وأمها، كادت تنسى سريرها وأشياءها الخاصّة، التفتت فرأت الأميرة "أُونتي" وقد ارتدت ملابسًا بسيطة لا تليق بها كأميرة، سحبتها من يدها وهمست قبل أن يخرجا من جناح الأميرة الخاصّ بها:
, - "مَرام"٢ نقطةاخترتك لأني أدركت من اللحظة الأولى أنّك لست من ذاك النوع من الفتيات الذي يبحث عنه أخي "كِمشاق" وغيره، وأشعر أنّك لست من هذا المكان.
, ثُمّ صمتت برهة وعبرت على ملامح "مَرام" سريعًا، كانت طريقة "مَرام" في الكلام عندما رأتها أوّل مرّة، وهلعها عندما ذكرت المسئولة أمر الجواري وما يفعلنه لإرضاء الملك، ودموعها التي كانت تنساب على وجنتيها، توحي بأنّها على استعداد أن تفعل أي شيء مقابل أن ينقذها أحدهم من هذا المأزق، رمقتها بثقة وقالت:
, - بقاؤك هنا في جناحي مرهون بإخلاصك لي، فأنا أحتاج لمن تكتم سرّي وتعينني، فقد سلبوني أفضل الجواري عندي ومن كانت تكتم سرّي، وطالما أثبتِّ ولاءك لي يا "مَرام" سأحميك من كلّ رجال القصر.
, سألتها "مَرام" بتعجّب:
, - ولماذا سلبوكِ جاريتك المخلصة؟
, - سأخبرك لاحقًا، أمّا الآن فغطي وجهك وسيري خلفي.
, - إلى أين؟
, انطلقت "أُونتي" وخلفها "مَرام" تتساءل في نفسها كيف ستستطيع تلك التي سُلبت أقرب جواريها أن تحميها! بدأ القلق يستبد بها وأكملت سيرها والوساوس تنهشها. كانت السماء ما زالت شاحبة، لا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، انسابت بين أشجار البستان وخلفها "مَرام" التي لا تدري أين تذهب بها الأميرة، بعد حين من الوقت وحيث غمر النور المكان بالتدريج وقفتا تحت شجرة تنتظران، وسريعًا ما ظهر شاب طويل القامة وقويّ البنية، أسرعت تجاهه "أُونتي" ، كانت متلهفًة لرؤيته للغاية، بدأت تتحدّث معه وتتبعه هنا وهناك، بدا لـ"مَرام" أن الأميرة تحاول جاهدة أن تغريه وتراوده عن نفسه.
, فاستدارت "مَرام" بانزعاج وكانت في حالة يرثى لها، أيّ سرّ هذا وما تلك المصيبة التي أشركتها فيها تلك الأميرة، وقفت تعتصر يديها بقلق، جاست بعينيها في السماء تسأل **** ألا يؤاخذها بما يحدث خلف ظهرها.
, ٣ علامة استفهام
,
, استيقظ "أنس" وكبح تثاؤبا وهو يبحث عن "كلودة" في الغرفة، يبدو أنّه خرج من البيت! لم يدم انتظاره له فقد عاد سريعًا، كان في حالة من النشاط وكأنّه لم يكن بنفس الروح التي كانت تبكي بالسوق أمس وهي منكسرة! وكأنّه قد غسل وجهه من الحزن وعاد بسحنة جديدة!
, مرّت ساعة الإفطار سريعًا وغادرا البيت حيث انصرف "كلودة" إلى دكانه بينما فارقه "أنس"، فقد قرر العودة إلى الغابة ربّما يلتقي بالرمادي هناك ويسأله ما مصير كتابه! أو ربّما يعثر على "شهاب". كان "أنس" يسير وعيناه على قمّة الجبل يراقب الحلقة الحمراء التي تحيطه، كان الجو باردًا والرياح قويّة، من آن لآخر كان يقف ويتنصّت ويراقب الطريق بحذر، بدأ يقلّب كلّ ما مرّ به في رأسه، لا يدري بالتحديد كيف ستكون خطوته القادمة، فالعجوز "ناردين" أخبرته أن يحرص على كتابه ويراقبه من آن لآخر، ولكن أين الكتاب الآن٢ علامة التعجب
, سكنت الرياح، وغمرته موجة من الدفء وهو يسير، لـــــــم يتخيل يومًا أنـــــــه
, سيبتعد عن أسرته بتلك الطريقة، ولم يخطر بباله أنه سيكون يومًا وحيدًا في عالم لا يعرف عنه أي شيء.
, ظهر "شهاب" أمامه فجأة كما لو كان شبحًا، حيّاه بحبور ودعاه لبيته، لم يتوقف "أنس" عن الأسئلة منذ أن رأته عيناه، أخبره أن الكتاب قد سُرق منه، أخبره بأمر "كلودة" و "أشريا" والصغيرة، أنصت إليه "شهاب" ثُمّ طمأنه، وأخبره أن الكتاب سيجده كما وجده في المرّة الأولى، سارا معا على طريق معشوشبة طويلة، أطلّ بيت "شهاب" في نهايته فتهلل وجه "أنس"، فالبيت يبدو مختلفًا عن كل ما شاهده منذ وصوله، فهو أقرب لعالمه الذي نشأ فيه، وأبعد عن تلك الأعاجيب التي يراها ويعيشها الآن. بدا "شهاب" سعيدًا ومرحًا مع بناته الثلاثة، حتى زوجته بدت في حالة رائعة، وجه مشرقٌ عليه مسحة طيبةٍ وقسمات تنم عن نفسٍ مطمئنّة، كانت البنات ملتصقات بأبيهن، واحدة تحتضن ساقه اليسرى وكانت أقصرهن قامة، والأخرى تحتضن جذعه وكانت تبدو كأنها تكبر شقيقتها بعامين، والثالثة كانت تمسك بيده وتلك أكبرهن وأطولهن قامة، نفس الملامح، والشعر البنيّ الحريري المجدول في ضفيرتين، حتى ألوان ثيابهن كانت متطابقة، وكأنهن نسخة تكررت وولدت ثلاث مرّات في ثلاث أعوام متفرّقة، قال "شهاب" بترحاب شديد:
, - هيّا يا "أنس"، أعدّت زوجتي طعامًا شهيًا، انضم إلينا.
, فتح "شهاب" باب البيت واجتاز البهو ومن خلفه بناته يقفزن حوله ووراءهن "أنس"، كانت النوافذ كلّها مفتوحة، والغرفة تسبح في نور لطيف، وتفوح برائحة الطعام. اقتربت زوجة "شهاب" لتضيّف "أنس" وكانت قد أعدّت حساء الخضراوات اللذيذ والكثير من الفطائر الشهيّة، جلس "أنس" بين بنات "شهاب" الثلاثة وقد أصابته عدوى السعادة، كانت لديهن كفوف صغيرة وأنامل دقيقة، ووجوه جميلة. أصواتهن الرقيقة وضحكاتهن الجزلة جعلت الابتسامة لا تفارق وجهه، التفتت إليه أكبرهن وسألته:
, - ما اسمك؟
, - "أنس" وأنت؟
, - "جمانة"
, - اسمك جميل.
, ثُمّ التفتت لشقيقتيها وقالت بحماس شديد وهي تشير إليهما بسبابتها:
, - هذه أختي "جميلة" وتلك أختي "جويرية"، نحن الشقيقات الثلاثة "ج " هل أنت صديق لأبي؟
, ضحك "أنس" وقد أعجبته طريقتها في تقديم نفسها وشقيقتيها له وقال:
, - أظنّ ذلك.
, ابتسم "شهاب" وقال بودّ:
, - هو صديقي طبعًا يا "جمانة".
, جذبته ابنته الصغرى من قميصه وقالت بكسل:
, - أبي، لا تغب عن البيت كما فعلت هذه المرّة، طال غيابك كثيرًا٤ نقطة أنا أُحبّك يا أبي.
, ضمّ "شهاب" ابنته إليه وغمره شعور لا نهائي بالعرفان، طالعته بعذوبة، ثُمّ كبحت تثاؤبًا ووضعت رأسها على كتفه واستسلمت للنعاس.
, بدأ "أنس" يتناول طعامه والسؤال يدور في رأسه، لماذا كان "شهاب" غائبًا عن بيته في الفترة الماضية؟، توقّع "شهاب" ما يدور في رأسه فقال باهتمام:
, - خلال الفترة الماضية كُنت أراقب "محاربة" لحمايتها.
, - ولماذا كنت تحميها؟
, - لأن هناك كتابًا جديدًا كان يولد على يديها، خشيت أن تتعرض للخطر، كنت أتدخل بطريقتي الخاصّة٢ نقطة
, تبادل "شهاب" وزوجته النظرات عندما سألهما "أنس" بهدوء:
, - لماذا لا تشبهون أهل النوبة؟ أنت وزوجتك وبناتك تختلفون في الملامح ولون البشرة!
, لاح شبح ابتسامة على شفتي "شهاب" وهو يقول:
, - وماذا لاحظت أيضًا؟
, - الملابس٣ نقطة تختلفون عن بعضكم البعض، رغم أنّكم في مملكة واحدة ويبدو لي التناغم بينكم جليًا إلا أنّ هناك تباينًا من نوع ما، كلّ قرية تختلف عن الأخرى!
, تبادل "شهاب" وزوجته نظرات أخرى تشي بالكثير، ولم يعلّقا على ملاحظات "أنس" الذي أنهى تناول الحساء وشعر بالنعاس يداهمه، تخدّر جسده وكأنّه قد تناول للتو منوّمًا، طلب من "شهاب" أن يسمح له بالنوم لأنّه يشعر بالإرهاق الشديد فقاده فورًا إلى غرفة أخرى، فقيلولة بسيطة قد تفيده الآن.
, هزّ "أنس" رأسه ثُمّ استلقى على الفراش متعبًا وظلّ يحملق في سقف الغرفة ويده على الحقيبة بجواره، وكأنّه يخشى أن يفقدها، ومضت ساعات نام فيها نومًا عميقًا، ثُمّ استيقظ ليجد نفسه تحت ظلّ شجرة وضوء الشمس الضعيف يتلاعب أمامه، وثب مذعورًا، أين "شهاب" وزوجته وبناته! وأين البيت٢ علامة التعجب
, هزّ رأسه ووقف حائرًا، هل يكمل الطريق إلى الجبل أم يعود للقرية!
, كانت تلك اللحظات التي قضاها وحيدًا تحت الشّجرة من أصعب اللحظات التي قضاها منذ وصوله، كان يشعر أنّ رأسه يضجّ بالتساؤلات، وكان أكثر الأسئلة ترددًا في رأسه، كيف سيستردّ كتابه؟
, قرر أنس" أن يعود إلى القرية ومرّ على "كلودة" في دكانه والذي أخبره أن زوجة عمّه أرسلت إليهما ابنتها "أشريا" لتوصيهما أن يمرّا عليهم في الدار لتناول طعام الغداء., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٠
في بيت أشريا


خلف النافذة وحيث كان البيت يعبق برائحة الطعام الشهيّ كانت "أشريا" تراقب الطريق وتتساءل، لماذا تأخّر "كلودة"! كانت تنتظر وصوله بشغف هذه المرّة، أشفقت عليه عندما تذكّرت كيف كان مقيّدًا بلا قميص في هذا البرد، كانت تعلم أنّه يحبها، في كلّ مرة كان يطلبها للزواج كانت ترفضه، تتمنّع حتى يُصلح من حاله وتبقى على أمل أن يعود مرّة أخرى، حيرت أباها من قبل والآن ازدادت حيرة أمّها التي نادتها وهي تتأمّل تمايلها خلف النافذة يمينًا ويسارًا وتتأرجح وتشبّ على قدميها:
, - لماذا ترفضين الزواج منه وهذا حالك!
, - أمي٢ نقطة كفي أرجوكِ عن ترديد هذا السؤال٢ نقطة
, - ما بال هذا الشاب الذي أحضره معه؟
, - ما باله؟
, - هل سيقيم ببيت "كلودة"؟
, - يبدو هذا يا أمي.
, لمحتهما "أشريا" من بعيد يقتربان، وبينما كان "كلودة" يمسح على صدره وكأنّه يسكت قلبه الذي يكاد يقفز من بين ضلوعه، فهو سيكون بالقرب منها الآن، يتنفّس نفس الهواء الذي تتنفسه، همس وعلى وجهه أطلّت علامات القلق:
, - سبحانك سبحانك، يا عالم السرّ والنجوى!
, دلفا على استحياء وجلسا بعد التحيّة بجوار أم "أشريا" ، بينما كانت "أشريا" تجلس بجوارها منكفئة وكأنّها غير موجودة، حيث كان كلّ منهما يتوارى خجلًا من الآخر بينما كان "أنس" يتبادل الحوار مع أم "أشريا" التي سألته:
, - أنت محارب إذن يا "أنس"
, - يقولون هذا يا خالة، فما رأيك؟
, قالت بفمٍ ممتلئ بالطعام:
, - لو كنت محاربًا ما قيّدك اللصوص بالحبال!
, هزّ رأسه موافقًا وعلى وجهه ابتسامة وقال لها:
, - صدقتِ و****!
, قالت "أشريا" التي كانت تلوك الطعام ببطء:
, - أتساءل حتى متى سيظل المحاربون يفدون إلى قريتنا؟
, أجابتها أمّها وهي تنقّل نظراتها بين وجوههم:
, - لن ينقطع المحاربون عنّا طالما الدنيا تهمس بالحكايا في الغابات، وتصبّ الرياح همسها في آذان البشر، وطالما هناك حيوات تدوّن بين دفتي كتاب!
, التفتوا جميعًا إليها في سكون، كان لكلامها سحر غريب، انتهوا من تناول طعامهم واستأذن"كلودة" وخرج من البيت ومعه "أنس"، همس "كلودة" وهو يغلق الباب خلفه برفق وشرود:
, - سبحانك سبحانك، اجبر فؤادًا متعبًا ليس له إلا بابك.
, باغته "أنس" يسأله:
, - أخبرتني أنك تريد الزواج من "أشريا"، لماذا لم تتزوجها؟
, عقد "كلودة" يديه خلف ظهره وقال وهو يحدّق في الطريق أمامه:
, - كلّما طلبتها للزواج امتنعت، وكأنّ هناك ما يحجبها عني ويحجبني عنها.
, - ربّما لهوانك هذا عندما تراها!
, - أيّ هوان؟
, - أراك منكسرًا في حضورها، إن حدّثتك ترتج كالجرس، العرق يغطي جبهتك وتتعثّر في الكلمات.
, - أوحقًا هذا! أتعلم أنني لم أكن كذلك! كانوا يصفونني بالجريء و٣ نقطة
, - معقول!٢ نقطة أنت!
, أطرق "كلودة" وسار صامتًا لدقيقتين ثم قال:
, - أتدري يا "أنس"، وكأنك بقولك هذا رفعت ال**** عن الكثير من الكلام الذي كانت زوجة عمي تحدّثني به، الكثير من الهمزات واللمزات والإشارات، لم أفطن إليها إلّا الآن وكأن عقلي كان محجوبًا ب****!
, - غير من طريقتك إذن ٢ نقطة تجمّل يا فتى.
, - كيف؟
, - كفّ عن اللجلجة والتلعثم وأنت تتحدث إليها.
, - أنا أتلعثم٢ علامة التعجب
, - نعم أنت تتلعثم! تنفّس بعمق وادخل مرفوع الرأس ولا تحْنِها كما تفعل، افتح صدرك واجلس معتدلًا، قلل كلامك وتحدّث على مهل، ليس من الضروري أن تذهب كلّ يوم، وحتى إن أردت السؤال عنهم فخفف وانصرف وكن عزيزًا ولا تأكل إلّا لو دعوك للطعام بأنفسهم، ولا تحط من نفسك عندما تحكي عن مشاكلك في الدكان، والأفضل ألا تحكيها، ولا تذهب بملابس العمل، وتطيّب فالطيب رسول يقدم لك ويعطر حضورك.
, - ****! ****! أراك حكيمًا يا "أنس"، من أين لك بهذا؟!
, - من جدّي الحبيب، كم أشتاق إليه!
, ثُمّ التفت "أنس" وسأله:
, - والآن٢ نقطةماذا سأفعل يا "كلودة"؟ دبرني يا صديقي، كيف سأصل لكتابي؟
, رفع "كلودة" يده وأشار إليه ليستدير معه وقال بحماس:
, - سنرتاح الليلة ثُمّ نفكر غدًا.
, بخطى سريعة مضى كلاهما تجاه بيت "كلودة"، كانت المسافة كبيرة بين بيت "أشريا" وبيت "كلودة"، مرّا خلال الطريق على سهول واسعة تتدرج في الارتفاع وكأنها درج يرتقي نحو السماء، يعلوها من بعيد قصر الملك "كِمشاق" كان القصر يبدو كالجبل تحلّق فوق قمّته الغربان، بينما تحيطه البساتين الخضراء الزاهية من كل الجهات.
, "سبحانك سبحانك يا بديع الأكوان"
, همس بها "كلودة" وهو يتأمل السهول وألوانها الرائعة، تمشّى "أنس" بعينيه في السماء وسأله بفضول:
, - لماذا يبدو الطقس هنا دوما وكأنّها على وشك أن تمطر؟ وكأننا دومًا في نهار الشتاء، الشمس باهتة، لست واثقًا أنّها أشرقت، ولا تستطيع أن تنفي أنّها هناك!
, لم يجبه "كلودة"، فهو لا يعلم!
, من بعيد لاح بيت صغير يتوسّط أرضًا واسعة وكأن الناس قد هجروا تلك المنطقة النائية، دلفوا حيث بدأت الهررة الصغيرة تحلّق حولهما وكان "كلودة" يداعبهم بودّ صادق، انصرفت القطط وجلس "كلودة" مع "أنس"، وقال فور أن استقر على المقعد أمامه:
, - حرّاس المكتبة، ربّما يعلمون شيئًا عن كتابك.
, - سمعت عنهم من جدي، هل التقيت بهم من قبل يا "كلودة"؟
, - نحن لا نجرؤ على الاقتراب منهم، لكنّهم يرسلون إليّ من آن لآخر يطلبون الحبر بألوانه، وغدًا صباحًا سيمرّ عليّ رسولهم، فإن شئت أن تسأله عن الطريقة الصحيحة لاسترداد الكتاب فلك هذا.
, ٣ علامة استفهام
, وضعت "نَبرة" الكأس على الطاولة وتناولت من أخيها الملك "كِمشاق" كتاب "إيكادولي" ومرّت بأناملها على الكلمة حرفًا حرفًا، تنهّدت عندما تذكّرت صورة "أنس"، أزعجها صوت أخيها عندما قال موجهًا كلامه لـ "حليم" بلهجة لا تقبل النقاش:
, - فور أن يأتوني بالمحارب سنستدعي الكهنة وننهي الأمر في الحال.
, قالت بتلعثم جعلهما يلتفتان إليها فليس من عادتها التلعثم:
, - فلنسمع منه أوّلا، لا داعي لقتله بتلك الطريقة التي اعتاد الكهنة فعلها بالمحاربين.
, كانت "نَبرة" تتلذذ بمراقبتهم وهم يثقبون قلب المحارب ويكتبون بدمه المراق ما يوافق أفكارهم حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولأن "حليم" يعرف عنها هذا تعجّب في نفسه وسألها بفضول شديد :
, - ولماذا؟
, قالت وهي تعبث بخصلات شعرها الأبنوسي وتؤرجح ساقًا فوق الأخرى:
, - يبدو الشاب مسالمًا حتى الآن.
, - هل رأيتِه مرّة أخرى؟
, - نعم، هو الآن بصحبة شاب آخر من إحدى القرى حولنا، لكنني لا أعرف المكان، لم أر علامة مميزة تكشف لي عن موقع البيت٤ نقطة كما أن
, عنوان الكتاب مختلف، وأعجبني.
, ثُمّ قالت وهي تطالعه بعينيها الكحيلتين:
, - "إيكادولي"
, ارتبك"حليم"، ظلّ ينظر لها راجيًا لكنّها لم تعد النظر إليه، ظنّها لانت له، لكنّها نهضت فجأة وهي تحتضن الكتاب، وأخبرت شقيقها الملك أنّها ستحتفظ به في غرفتها حتى يأتيه اللصوص بالمحارب، كان هناك شموع تبعث الظلال على الجدران، مرّت "نَبرة" على عجل فتكسّرت الظلال للحظة وانكســـــــــــر معهــــــــــا
, قلب "حليم"، لكنّه استعاد سريعًا رباطة جأشه.
, ٣ علامة استفهام
,
, واصل الرمادي التحليق فوق قصر "الحوراء"، كان قلقًا على زوجته "قطرة الدمع"، منذ عودتها بعد أن انقضت على اللص وهو يحاول اختطاف "مَرام" في الغابة وهي في قصر الملكة "الحوراء" يطببون جرحها فقد طعنها اللص بخنجر وكاد يكسر جناحها، على الشرفة وقف "الزاجل الأزرق" يراقبها وهي تستعد للتحليق مع زوجها، رفرفت بجناحيها ثم انطلقت تتحامل على آلامها حتى تنضم لشريك حياتها الحبيب، كانت "الحوراء" ترقبهما من خلف كتف "الزاجل الأزرق" الذي التفت بعد أن ابتعدا وقال بإجلال:
, - مولاتي، ماذا سنفعل الآن؟ "مَرام" في خطر، ولا ندري أين "أنس" الآن، كيف سنساعدهما ونحن لا نستطيع دخول الغابة، كما أنّ الصقور لن تستطيع الوصول إلى قرى الجنوب إن كانا قد وصلا إليها.
, صمتت "الحوراء" هنيهة ثُمّ قالت:
, - لا بدّ أن تذهب ومعك "المغاتير" إلى المكتبة.
, - ماذا! وكيف هذا! ومن يجرؤ؟
, - لن تدخلوها ولكنّكم ستنتظرون هناك.
, - ننتظر ماذا؟
, - وصول "أنس"!
, - وما أدراك يا مولاتي أنه سيذهب إلى هناك؟
, - ربّما يذهب
, - هل سمعت بالخبر؟
, هزّت الملكة رأسها موافقة، فقد كان هذا سرّها الذي لا يعلمه إلا الحكيم
, "سامي كول" و "الزاجل الأزرق"، فالرياح تحمل أخبار المحاربين إلى الحوراء وتهمس بها في أذنيها طوال الوقت، كانت تسمع أصواتهم، تختلط أحيانًا بصوت امرأة عجوز تدعى "ناردين" لم تلتقِها أو ترها من قبل، لكنّها تسمعها وهي تهمس وسط الغابة، ودّت لو رأتها يوما ما، لكن دخولها الغابة مستحيل! ليت الرياح تنقل كلامها إليهم، وإلى المحاربين، لكنّها كانت تحمل إليها أصواتهم هم فقط دون أن تحمل صوتها هي إليهم، كانت "الحوراء" تعاني من ذاك الأمر فهي تعيش صراعات طوال الوقت، لكنّ الرياح تراها أهلا لحمل تلك الأمانة، غضّنت "الحوراء" حاجبيها وقالت بقلق:
, - توقفت الرياح عن حمل أخبار "مَرام" لي، أظنّها فقدت بعض امتيازاتها كمحاربة، لا أدري لماذا وكيف! ولكنها المرّة الأولى التي يظلّ فيها محارب هنا بعد انتهاء مهمته في استرداد كتابه وقد استعادت كتابها بالفعل، أو ربّما لأنهما محاربان على أرضنا في آن واحد!
, - إذن هي الآن أضعف؟
, - نعم، وأصبحت أخبارها بعيدة عني، لم يبق لها سوى أن تحملها "قطرة الدمع" إلى موطنها.
, - وهل فقدت جميع مميزاتها؟ كلّها٢ علامة التعجب
, - **** أعلم! ربّما هناك شيء ما ما زالت تحتفظ به!
, - يا إلهي! كيف سنساعدها؟
, - لا أدري، المهم الآن أن تنتظروا "أنس" خارج أسوار المكتبة، اسلكوا الطريق الطويل ودوروا حول الغابة من الجهة الشرقيّة، أعلم أنّها مشقّة عليكم، ولكن لا بدّ من الوصول إليه ليعلم أن "مَرام" دخلت الغابة من أجله فتعرضت للخطر، لا بدّ أن يساعدها بينما يسترد كتابه.
, - ماذا٢ علامة التعجب هل فقد الكتاب؟
, - نعم، سرقه اللصوص منه، وهو الآن مع شاب يدعى" كلودة"
, ٣ علامة استفهام
, كانت "مَرام" تقف خلف الأميرة "أُونتي" والتي جلست مسترخية وأغمضت عينيها وغرقت في أحلام يقظتها بينما كانت "مَرام" تمشّط لها شعرها بلطف وهدوء، ما زالت عينها تؤلمها، ربطتها بقماشة بعد أن دهنتها بدهان أمدّتها به طبيبة القصر، كان الضوء يؤذيها في عينها ففضلت أن تغطيها حتى تبرأ وتختفي الظلال الزرقاء التي أحاطت بها، ترددت قبل أن تسأل الأميرة :
, - لماذ لا تتزوجيه؟
, انتفضت الأميرة وفتحت عينيها ثمّ التفتت إليها وقالت بحزم:
, - اخفضي صوتك يا "مَرام"، سيقتلنا أخي لو علم بأمرنا، كما أنّه لن يوافق على زواجي منه.
, ثُمّ عادت لحالتها وسلّمتها رأسها بينما سلّمت ما بداخل رأسها لعالم الخيال وقالت بتهدّج:
, - المهم أنه يحبني وأنا أحبّه.
, - ولكن هذا لا يليق بأميرة، كما أنه٣ نقطة
, - كل شيء مباح بأمر الحب
, - حتى الخطيئة!
, تمعّضت "أُونتي" وقالت بضيق تنهرها:
, - لا شأن لك بهذا٢ نقطةلا تحشري أنفك فيما لا يعنيك!
, ران عليهما صمت ثقيل، كانت "أُونتي" تترقب ردّ فعل "مَرام" على زجرها لها، سريعًا ما رقّت لها فهي رغم أخطائها طيبة القلب تحن للبسطاء، وكانت تشفق على "مَرام"، قالت بعذوبة وكأنّها لم تنهرها منذ لحظات:
, - الحبّ ليس خطيئة، الحب شيء جميل عذب قويّ كالسحر يا "مَرام"
, - وهل هذا حبّ!
, استدارت "أُونتي" وأمسكت بذراع "مَرام" لتجلسها أمامها وسألتها باهتمام:
, - وماذا تعرفين عن الحب؟ هل أحببتِ من قبل؟
, - لا٢ نقطةلا
, - لا يعرف الحب إلّا من يعانيه، لا تتحدثي عن شيء لا تعرفي كنهه.
, أشاحت "مَرام" بنظراتها عن وجه "أُونتي" وقالت:
, - تلك شهوة! لو أحبّك حقًا ما استباحك إلا بالحلال!
, على نحو سريع انزوت نظرة ساخطة في عيني "أُونتي" وقالت بحزن:
, - من المستحيل أن يقبل أخي أن يزوجني له، فهو شابّ بسيط يكاد لا يملك قوت يومه.
, - وكيف التقيتما؟
, - كنت أهرب مع جاريتي وأرتدي ملابسها وأتنزّه في البساتين حول القصر، فأخي كان يمنعني من الخروج، ورأيته مرّات ومرّات، وكان لأعيننا حديث ولنظراتنا اشتباكات، أعجبتني ملامحه وفتن روحي، كان يخشى أن يحدّثني فذهبت إليه٣ نقطةوآه يا "مَرام" من حديثه، إنّه بليغ يجيد الكلام.
, - طالما يحدث بينكما ما يحدث فالأولى أن تتزوجيه!
, ردت "أُونتي" بمرارة:
, - مستحيل! هو يعلم أنني أميرة فقد أخبرته، والآن ليس أمامنا إلا هذا!
, ثم أردفت ساهمة وهي تقول:
, - أنا أعشقه، عينيه ونظراته إليّ، ونَبرة صوته وهو يخبرني أنه يحبّني، همساته لي بالأشعار٣ نقطة
, رفعت "مَرام" كفّها وغطّت أذنيها وقالت بصوت خفيض:
, - لا تُكملي أرجوكِ، ذاك ليس حبًا٣ نقطةما تصفيه مجرد شهوة٢ علامة التعجب ليس من الضروري أن تدنسا الحب بأفعالكما، من الممكن أن يحبّك دون أن يطفيء شمسك، دون أن يجرّك في الوحل.
, هزّت "أُونتي" كتفيها وقالت:
, - تلك فطرة خلقها **** فينا، لا تزعمي أنّك لا تشتهين الحب بتلك الطريقة، لن أصدقك أبدًا٢ نقطة كاذبة أنتِ لو قلت غير هذا٢ علامة التعجب
, ثم رشقتها بنظرة ماكرة وقالت:
, - أتعلمين، يومًا ما ستقعين في الحبّ، وستغرمين حدّ الصبابة، وسأسمع منك وقتها٢ نقطة اصبري يا فتاة حتى يصيب سهم الحبّ شغاف قلبك.
, ثُمّ رفعت "أُونتي" حاجبيها وهي تطالع عينيها، تنتظر أثر كلماتها عليها، صمتت "مَرام" هنيهة ثُمّ قالت:
, - الفضيلة تتطلب إرادة قويّة، فإن وقعت في الحب يومًا سأتحصن وأستعفف حتى يأذن ****، ولن أخطئ ولو كان السيف على رقبتي.
, أعرضت عنها "أُونتي" وهزّت كتفيها وهي تبتعد عنها، كانت "مَرام" مرتبكة، أخافتها الكلمات، داهمتها وساوس نفسها، أحقًا ستضعف لو وقعت في الحبّ يومًا ما؟ هل سيجرها الحب لما لا يرضي **** رغم أنفها؟
, تركتها "أُونتي" وألقت برأسها على وسادتها وظلّت تحملق في سقف الغرفة، وكأنّها في عالم آخر بعيدًا عن "مَرام" التي كان ألم عينها يزداد حتى أنها بدأت تشعر بصداع شديد.
, بعد نحو ساعة وبينما تفتّش "أُونتي" بين حليّها فوجئت باختفاء عقد ثمين وعزيز عليها، خرجت من غرفتها كقنبلة على وشك الانفجار، واتجهت نحو جناح أختها "نَبرة" في الجهة الأخرى من القصر٣ نقطة
, - أين عقد أمي؟
, صاحت "أُونتي" بغضبٍ وهي تدفع باب جناح شقيقتها "نَبرة" والتي كانت دومًا قاسية عليها، كلّما رأت المسكينة "أُونتي" تستمتع بشيء ما كانت تسلبها إيّاه، حتى الحلوى وهما صغيرتان كانت تجذبها من كفها الصغير، عندما ماتت أمهما ظنّ الجميع أنّ "نَبرة" ستحنو على شقيقتها التي تصغرها، لكنّها باتت تتحكم فيها وكأّنها دمية صغيرة ورثتها، ظلّت "أُونتي" خاضعة لها حتى بدأت تكبر، وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها تمرّدت عليها وانفصلت عنها وأصبح شجارهما مستمرًا لولا تدخل شقيقهما "كِمشاق" الذي فصل بينهما في جناحين مستقلّين حتى يهدأ القصر، تركت "أُونتي" كلّ شيء لأختها، كانت لا تظهر في تلك الحفلات الصاخبة، تقوقعت على نفسها وملأت الفراغات بعلاقاتها مع البسطاء، كانت لها جارية تحبّها وتطمئن إليها، سلبتها "نَبرة" تلك الجارية منذ أيام، وها هي قد أرسلتها اليوم لتحضر لها عقد أمهما من خزانة "أُونتي"، كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي تعتز به"أُونتي" فقد ألبستها أمها ذلك العقد وطلبت منها أن تحتفظ به لتتذكرها، قالت "نَبرة" ساخرة منها:
, - يقولون أن لديك جارية جديدة حمقاء تربط عينها بخرقة بالية، أصحيح ذلك الخبر؟ أريد أن أراها!
, - أين عقد أمي؟
, ردّت "نَبرة" وهي تتحسس العقد على رقبتها:
, - ها هو٣ نقطة عقدك يا "أُونتي"
, استشاطت "أُونتي" غضبًا وهرولت تجاهها وحاولت أن تنتزعه منها، لكن "نَبرة" غرزت أظافرها في ذراعها وأبعدتها بعنف قائلة لها:
, - العقد لا يليق بك، اتركيه.
, التفتت "أُونتي" تجاه جاريتها التي طالما وثقت فيها وأحبّتها، ورمتها بنظرة تقطر لومًا وعتابًا، وخرجت من الغرفة والدموع تترجّح في مقلتيها.
, بعد ساعات من تلك العاصفة بينهما وحيث كانت "أُونتي" غارقة في أحلام يقظتها أمام شرفتها كعادتها، دلفت الجارية على عجل وهمست معتذرة إلى أميرتها، كان الندم باديًا عليها وهي تعتذر منها، احتضنتها طويلًا وكانت "مَرام" تراقبهما في صمت. وقفت "أُونتي" وهي تسترجع ما فعلته به أختها "نَبرة"، خرجت غاضبة لتسترد العقد من جناح أختها، دلفت فإذا الغرفة خالية فقد ذهب الجميع إلى ساحة القصر حيث كان الضجيج مرتفعًا فهناك حفلٌ كبير سيمتد حتى تظهر الخيوط الأولى لأشعة شمس الصباح، فتشت عن العقد فلم تجده فأدركت أن أختها ما زالت ترتديه. كادت تنصرف لولا أن عينيها علقتا بغلاف كتاب يستقر على أحد رفوف خزانة أختها، مدّت يدها وأمسكته وتسارعت دقّات قلبها عندما قرأت عنوانه، "إيكادولي"٣ نقطةأحبّك، تصفّحته فوجدت صفحاته خالية، تعجّبت لخلوه من الكلام، لكنّها ظنته شيئًا خاصًا بأختها، وطالما أخفته في خزاتها فهو عزيز عليها، وتلك فرصة لكي تقهرها، أعجبها أن يكون هدية منها لحبيبها، هو بارع في الكتابة ويستطيع أن يكتب قصّة حبهما هنا، أخفته تحت ثيابها وعادت لغرفتها وشرعت تصنع منه شيئًا مميزًا وخاصًّا، قصّت أطراف ضفيرتها ووضعتها في داخله ثُمّ أغلقته ووضعته تحت وسادتها، ثُمّ ذهبت لتهمس في أذن "مَرام" التي كانت متكورة على الأرض في ركن الغرفة ووجهها مواجه للحائط حيث كانت تنام بجوار فراش الأميرة وتحت قدميها تمامًا كالليلة الماضية، أخبرتها "أُونتي" أن تستعد فهي ستوقظها بعد طلوع الفجر لتصحبها للمرّة الثانية للقاء حبيبها، ثم سلّمت رأسها للوسادة حيث بدأ التحديق مرّة أخرى في سقف الغرفة، وغرقت سريعًا في أحلام يقظتها، بينما كانت "مَرام" تبكي وتخفي عبراتها وتدفنها في وسادتها، لولا عبرات خفيّة لانقطعت الأنفاس.
, في مكان آخر وفي طرقات القرية، كان "أنس" يسير بجوار "كلودة" حيث مرّا أمام بيت "أشريا"، هدّأ "كلودة" من خطواته، والتفت تجاه"أنس"، كاد يخبره أنّهما سيمرّان على بيت عمّه ليطمئنّ على "أشريا"، ودّ أن يكون ولو للحظة بالقرب من ابنة عمّه الغالية والتي ملكت فؤاده، لم يكن جائعًا كما تظن زوجة عمّه أحيانًا! تذكّر ما أخبره به "أنس" من نصائح جدّه لكي يكون مرغوبًا من الناس، قرر أن يخفف من زياراته، وأن يكون عزيزًا، أسرع بخطواته ورفع رأسه وفتح صدره، ابتسم "أنس" وهو يتابع مشيته، همس "كلودة" بعد أن ابتعدا عن البيت وقد عاد يسير متكورًا على نفسه بانكسارٍ:
, - سبحانك سبحانك، يا من وسع ملكه ارحم من ضاق صدره!
, كانت "أشريا" تقف خلف النافذة حيث كانت تراقب الطريق وتشبّ على قدميها لتتابعهما، تأرجحت بقامتها القصيرة على نحو خفيف، لم يمرّ "كلودة" كعادته! ما الذي تغيّر فغيّره عليها!, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١١
هدية الحبيب


بزغ الفجر كقبلة في ثغر الصباح الباسم فكشف اللثام عن سحب بيضاء مرتصّة كعقد من اللؤلؤ يزيّن السماء، كانت "مَرام" تهرول خلف الأميرة "أُونتي" تتسللان خارج القصر، وكانت "أُونتي" تحتضن كتاب "إيكادولي" والذي قررت أن تهديه لحبيبها بعد أن لفّته بثوب من حرير يخصّها كانت قد عطّرته بعطرها المفضّل، انسابت الفتاتان بين الأشجار ووقفتا في البستان تنتظران ظهور حبيب الأميرة، باغتتها "مَرام" سائلة إياها بعد أن كبحت تثاؤبًا وعدّلت ربطة عينها التي ما زالت تؤلمها:
, - ما هذا؟
, - هديّة لحبيبي.
, - لماذا تلتقيان مبكرًا في ذاك الوقت؟
, - لا أستطيع أن أقابله تحت ستار الليل، البومة البيضاء تحلّق طوال الليل في البستان.
, - أتخافين البوم؟
, - بل أخاف أختي "نَبرة"!
, - ماذا تعنين؟
, - أختي "نَبرة" منذ ولادتها مسحورة!
, - كيف؟
, - لديها بومة ترى بعينيها رؤى متفرّقة في ظلام الليل، كلّما تجوّلت البومة تحت جنح الليل ونظرت هنا وهناك ترى أختي ما تراه، يقولون إنّها موهبة وهبت إياها، لكنني أراها لا تستحق موهبة، فلديها قلب أسود ٤ نقطة أظنّها مسحورة!
, همهمت "مَرام" بضيق:
, - تخافين أن تراكِ بومة أختك ولا تخافين ****!
, تجاهلتها "أُونتي"، وكأنّها لم تسمعها، كانت الكلمات لا تقع في مرماها، لم تتأثر ولم يرفّ لها جفن، ورغم هذا٢ نقطة كانت العلاقة بينهما تتنامى كصديقتين لا كأميرة وجاريتها، فالفارق بينهما عام واحد، كما أن "أُونتي" كانت تحتاج لصديقة.
, من بعيد تحرّكت أغصان الأشجار وأطلّ الشاب من بينها وهو يتلفّت يمنة ويسرة، هرولت "أُونتي" تجاهه وعانقته فاستدارت "مَرام" على الفور قبل أن يُخْدش حياؤها وجلست تراقب الطريق، كانت تفكّر في طريقة تهرب بها من ذاك القصر، وتلك الصحبة التي أُجبرت عليها وهي تكرهها، مرّ الوقت ثقيلًا عليها، انتهى اللقاء وحمل الحبيب العاشق هديّته وانصرف وهو يحتضن الثوب الحريري ويشمّ العطر الذي أغرقته الأميرة به، اختفى ومعه الكتاب، وعادت الفتاتان إلى القصر.
, ٣ علامة استفهام
,
, على باب الدار وهو ينتعل حذاءه وقف "كلودة" وقد بدا الإرهاق على محيّاه وسأل "أنس":
, - أتراها غضبت لأنني لم أمر عليها أمس.
, - ولماذا ستغضب "أشريا" منك يا "كلودة"، هل كنت على موعد معها أو وعدتها بذلك؟
, - لا، لكنني أخشى أن تكون قد غضبت.
, - لا تقلق، لو سألتك لماذا لم تمرّ علينا أخبرها أنّك لم ترغب في إزعاجها.
, هزّ "كلودة" رأسه موافقًا ثُمّ قال بخفوت:
, - لم أذق طعم النوم، كنت أفكّر في كلامك، لقد عشت أيامًا ثقالًا ولقد رأتني "أشريا" في حال لا تسرّ.
, - كيف هذا؟
, - عندما مات أبي، كنت فقيرًا مشقوق الثياب، حافي الأقدام أبلى أديم الأرض كعوبي وأصابعي، لم أنتبه لمظهري هذا، ولم أحاول تعديله، لأنني لم أظن يومًا أنّ الفقر معرّة لصقت بي، كنت أراني أرفل بالنعم، وكنت أتردد عليهم في تلك الحالة، أتعلل بأي شيء لأراها، أجلس حتى يملّوا مني فأنصرف، أتراها كرهتني لهذا؟
, - لا تغتل نفسك بتلك الطريقة! إن خاطبت نفسك بضعف فستبقى ضعيفًا، وإن خاطبتها بقوّة فستكون قويًا، الناس لها الحاضر، وهم يرونك كما تعامل نفسك، أنت الآن عطّار ماهر ولك دكّان خاصّ بك، اهتم بنفسك وثق في ذاتك.
, - حسنًا سأفعل يا "أنس"
, ثمّ سكت هنيهة وأضاف:
, - أتدري يا "أنس"، أنا لا أستحقها، "أشريا" نقيّة٣ نقطةأما أنا٣ نقطة
, - توقف عن ازدراء نفسك
, - أنت لا تعرفني يا "أنس"٣ نقطةأنا لا شيء لولا ستر ربي
, - كلنا كذلك
, مرّ الوقت وانشغل كلاهما عن الآخر، كان "أنس" قد بدأ يألف المكان ويتعرّف على تلك التفاصيل الصغيرة في القرية، غادر بيت "كلودة" وسار قليلًا يتأمّل السوق وكلّ ما فيه، مرّ على حانوت الكتب في الطريق، ثُمّ عاد إلى بيت "كلودة" حيث استقبلته الهررة وهي تتمسّح بقدميه، كان قدرٌ كبير يغلي بينما
, كان كلودة" يضع فيه شيئًا ما، عندما اقترب "أنس" وحيّاه قال متعجبًا:
, - ديدان٢ علامة التعجب أتطبخ الديدان؟
, قهقه "كلودة" وقال وهو يقلّب الديدان التي أضافها إلى القدر وهو يغلي:
, - هكذا أعد اللون الأحمر، أستخدمه في الصباغة، ويطلبه التجار مني، كما أنني أصنع الحبر الأحمر وأركزه بنفس الطريقة.
, قل "أنس" باشمئزاز:
, - من الدود٢ علامة التعجب
, - نعم، فتلك الديدان تفرز عصارات خاصّة، أجمعها من فوق أشجار العفص والبلّوط، أضيف عليها لحاء شجرة البلّوط نفسه مع بعض الأملاح الحامضة.
, شعر "أنس" برعشة تجتاح جسده، كان مشمئزًا للغاية وهو يراقب الديدان المجففة وهي تغلي، كان كلّما غلى السائل في القدر ازداد اللون الأحمر قتامة، لاحظ"كلودة" انزعاجه فابتسم قائلًا:
, - لا تحزن هكذا يا صديقي، أحيانا أستخدم الرمان.
, سارا معًا تجاه قدر آخر، كانت رائحة الكركم تفوح منه، تعرّف "أنس" على رائحته في الحال، قال وهو يحاول تقليب منقوع زهور الكركم في القدر:
, - اللون الأصفر الذهبي، ما أروعه.
, بدأ "أنس" يتلفّت يمنة ويسرة ويراقب القدور وهي تغلي، والأوعية وما تحويها من مساحيق الألوان الزاهية، والزجاجات الممتلئة بالأصباغ والأحبار السائلة هنا وهناك، مرّ بعينيه حيث كان مسحوق حجر اللازورد الأزرق يملأ وعاء، بينما امتلأ آخر بمسحوق أسود، وبجوارهما الأصفر والأحمر، وجد نفسه يتحدّث بطريقة "كلودة" التي كان يتحدّث بها عندمـــــــا التقـــــى بــــــــه
, أوّل مرّة فقال بصوت مسموع:
, - سبحانك سبحانك ما أجمل الألوان!
, التفت يراقب الأفق ثُمّ سأل "كلودة" باهتمام:
, - متى سيأتي ذاك المسئول الذي أخبرتني أنّه سيشتري منك الأحبار؟
, - ربّما اليوم وربّما غدًا، إن لم يأت اليوم فلك أن تبيت معي.
, ثمّ سأله "أنس" عن الكتاب الذي اشتراه أمس من الحانوت حيث التقى به هناك، تهلل وجه "كلودة"، فهو عاشق للكتب، أشار إليه ليتبعه وسارا نحو غرفته، أخرج له صندوقًا ممتلئًا بالكتب، جلس يحدّثه عن كلّ كتاب، كان الشاب يقرأ في مجالات مختلفة، بدا واسع الاطلاع ومثقفًا وأديبًا، حتى أنّه ألقى على سمع "أنس" البعض من أشعاره، قلّب "أنس" في الكتب وكان متعجبًا من روعة الخطوط فيها، أن يكون الكتاب مخطوطًا بيد كاتب يختلف عن أن يكون مجرّد صورة مطبوعة بآلة! مرّ الوقت وهما يتحدثان عن ذاك الكتاب، وذاك، وذاك، أعجب "أنس" بشخصية "كلودة"، فهو شاب ذكي واسع الاطلاع، يصبر على الحياة، جاد ومجتهد يعتمد على نفسه. لكنّه قليل الأصدقاء، خيّم الظلام عليهما ولم يظهر ذاك الرجل الذي زعم "كلودة" أنّه سيشتري الأحبار لكتّاب المكتبة العظيمة.
, تركه "كلودة" ليحضر شيئًا ما، فخرج "أنس" من الغرفة إلى الساحة الواسعة أمام البيت وجلس يتأمل حفنة من النجوم كانت تزيّن السماء، بينما عاد "كلودة" إلى غرفته مرّة أخرى ومدّ يده تحت الوسادة، وأخرج الهدية التي أهدتها له "أُونتي" بحرص، أخرج الكتاب وقد كان قد بدأ يَكتب فيه بنفسه شيئًا ما، أضاف سطرًا وكتبه بخط جلي واضح وبإتقان شديد، ثم أعاد كتاب "إيكادولي" الذي أهدته له "أُونتي" حيث كان يخفيه، بعد أن لفّه بثوبها مرّة أخرى!
, كيف يتأرجح القلب بين فتاتين؟ وكيف تشتاق روح واحدة إليهما في آن واحد! وكيف يكثر "كلودة" من التسبيح أمام النّاس ويقع في تلك الذلّة بين أشجار البستان حيث يلتقي بالأميرة؟ لو انكشف المستور وعلم "أنس" بذلك السرّ لانصرف عنه وهجره في الحال!
, من بعيد وبينما كان "أنس" يراقب السماء لاح شبح يقترب، كانت الجميلة "أشريا"، تهرول على الطريق ويهرول أمامها قلبها، تتلحف بثوبها الفضفاض وتمشي على استحياء، فقد لاحظت أنّ "كلودة" لم يمر على دارهم وقت الغذاء وهذا ليس من عادته! حملت الطعام له لأول مرّة، في كلمات مقتضبة ومعدودة سلّمت من بعيد وأعطته الطعام وعادت تجرّ خلفها قلبها وهو يتلفّت، كانت تتعذّب في صمت.
, أقبل المساء، وبات الشابان على العشب النديّ حيث كانت الليلة دافئة، وبعد أن تناولا الطعام الشهي كانا يعقدان كفوفهما خلف رأسيهما ويتأملان صفحة السماء وكلّ منهما يسبَح في عالمه الخاص.
, ٣ علامة استفهام
,
, أخيرًا انتهت الوصيفات من إزالة الحنّاء عن أقدام "نَبرة"، كانت مستلقية باسترخاء تستمتع بتدليك طبيبة القصر لجبينها بدهان زيتي منعش وقويّ الرائحة، فقد أصابها صداع شديد بعد ذاك الحفل الذي امتد حتى أطلّ الصباح وانصرف الجميع منه يترنحون، كانت قد نسيت أمر كتاب "إيكادولي" الذي لم تكتشف اختفاءه بعد، فقد كانت تئن من ألم رأسها طوال اليوم، وبعد مرور يوم كامل على اختفائه، صرخت "نَبرة" فاهتزّت نوافذ القصر وارتبك الجميع٣ نقطة
, - أين الكتاب؟
, سألتهم بغضب شديد كالمجنونة، وبدأ الجميع يفتش بارتباك، أدركت "أُونتي" أنّها سرقت من أختها شيئًا ذا قيمة كبيرة بالنسبة إليها فشعرت بنشوة الانتصار، لكنّ جاريتها القديمة والمخلصة إليها التي سلبتها إياها "نَبرة" جعلتها ترتجف وهي تهرول إليها وتسألها بهلع إن كانت قد أخذت هذا الكتاب أم لا.
, ولمّا أنكرت "أُونتي" ركضت الجارية نحو الحراس تخبرهم أن يفتشوا كلّ غرف القصر، فارتبكت "أُونتي" أكثر وأدركت أن الأمر أكبر مما تتخيل، وقفت تقرض أظافرها وتفكّر سريعًا ودقّات قلبها تتوالى كطبول الحرب، عادت "أُونتي" لغرفتها بعد أن اهتدت لفكرة وأمسكت بذراع "مَرام" التي لم تكن على علم بمحتوى الهدية، لكن قد خمّنت من هيئتها أنّها كتاب لكنها لم تتخيل أنه كتاب المحارب الجديد "أنس" والذي كانت تتبعه، وقالت لها بصوت مرتعش:
, - "مَرام" اخرجي الآن من القصر واذهبي إلى البستان الذي أصحبك إليه، وحذّري "كلودة"، أخبريه أن يتخلّص من الهدية في الحال، ولا تعودي فأنت حرّة.
, ارتبكت "مَرام" وطالعتها بذهول وقالت:
, - أحقًا أنا حرّة٢ علامة التعجب
, - نعم، أخرجي فورًا وهو سيدلك على الطريق إلى القرى القريبة، اهربي يا "مَرام".
, - ولكن لماذا فجأة! وما تلك الضجّة بالقصر؟ ومن التي تصرخ؟
, - إنّها أختي "نَبرة"، أرجوكِ يا "مَرام" اخرجي حالًا واهربي.
, ثُمّ التفتت "أُونتي" وأخرجت كيسًا ممتلئًا بالنقود وأعطته لها وقالت بجديّة:
, - حذّري "كلودة" أخبريه ألّا يأتي إلا بعد أسبوع من اليوم.
, - وكيف سأعرف الطريق لبيته؟
, - أخبرني أكثر من مرّة أنني لو سرت في خطّ مستقيم تجاه الشرق وهبطت مع السهول تدريجيا دون أن أحيد عن استقامة خطاي، سأجد بيته وحيدًا وسط ساحة واسعة، لكنني لم أذهب يومًا إليه، كان هو من يأتيني فقد التقيت به بين أشجار البلوط المنتشرة على مقربة منّا.
, ثُمّ عانقتها بقوّة وأدارتها بعنف من كتفيها وسارت خلفها تدفعها في ظهرها لتتحرّك وقالت:
, - لو رأتك "نَبرة" ستأخذك مني، وربّما تبيتين الليلة حيث لا ترغبين، وفي حضن من تكرهين، وعلى حال لا ترضينها.
, أدركت "مَرام" أنّها في خطر وركضت وهي تخفي وجهها كحمامة ضالّة تاهت بين الأشجار، وانطلقت تجاه ذاك المكان حيث كانت "أُونتي" تلتقي بحبيبها "كلودة" لتحذّره ليتخلص من الهديّة، وتسير معه هاربة من القصر ومن فيه. بينما كانت "أُونتي" ترتب الكلمات في رأسها استعدادًا للمواجهة مع أختها "نَبرة".
, ٣ علامة استفهام
,
, كان "أنس" يراقب "كلودة" وهو يذيب مسحوق حجر اللازورد ليعد اللون الأزرق ثم يذيبه في سائل ما ليعدّ الحبر ويصبّه في زجاجات رفيعة، قال وما زالت عيناه مثبتتين على يدي صديقه:
, - لم يأت من يشتري الحبر يا "كلودة".
, - وأظنّه لن يأتي اليوم، فهو لا يظهر إلا في وقت مبكّر جدًا، انتظر غدًا.
, ثمّ أردف "كلودة":
, - لا بدّ أن أذهب إلى الدكّان، هيّا تعال معي.
, كان جليّا على "كلودة" أنّه بدأ يتعلّق بـ"أنس"، فهو يأنس به ويميل إليه، أمّا "أنس" فقد كان شاردًا يفكّر، وبعد لحظات كان قد اتخذ قرارًا حيث قال:
, - سأذهب إلى المكتبة.
, - ماذا٢ علامة التعجب
, - أنت هالك لا محالة، هذا خطر عظيم.
, - لماذا؟
, - لم نسمع أن أحدهم قد ذهب إلى هناك ثُمّ عاد.
, - سأعود إن شاء ****.
, وثب "أنس" وبعد أن ودعه غير مبالٍ بتحذيراته انطلق يسير تجاه المكتبة العظمى، باحثًا عن أي علامة تدلّه على سبيل لاسترداد كتابه وإكمال مهمته ليعود لبيته وأسرته، لم يكن على علم أن كتابه ملفوف بعناية بثوب من حرير تفوح منه رائحة العطر تحت وسادة "كلودة"، وفور أن انسل بقامته بين الأشجار، وبينما يستعد "كلودة" للرحيل، ظهرت "مَرام" وهي تركض تجاه بيته تعثّرت فتدحرجت على تلّة يغطيها العشب الأخضر حتى استقر جسدها أسفلها، قامت تعرج في مشيتها، وكانت ما زالت تربط عينها، مرّ يومان منذ جرحها "أنس" وما زالت تؤلمها، فقد تسبب الدهان الذي طببتها به طبيبة القصر في التهابها ولم تتحسّن حالتها.
, وصلت أخيرًا ووقفت أمام "كلودة" الذي عرفها من ملابسها ومن رباط عينها فقد كان يراها بصحبة الأميرة "أُونتي"، قال مرتابًا في أمرها:
, - أنت "مَرام"؟
, - أوتعرف اسمي؟
, - نعم٢ نقطة أخبرتني "أُونتي"، ما الذي أتى بك إلى هنا؟
, - الأميرة "أُونتي" طلبت منّي أن أحذرك.
, - مم؟
, - لا بدّ أن تتخلص من هديتها لك في الحال.
, - لماذا؟
, - لا أعرف، كما أنها تطلب منك ألّا تذهب للقائها مرّة أخرى.
, - عودي فأخبريها ألا تقلق، فقد انتهى أمر الهدية، وأخبريها أيضًا أنني لا أريد٤ نقطة
, - لن أعود!
, - كيف؟
, - لقد منحتني الأميرة حريتي، وأخبرتني أنّك ستدلني على القرية، أرجوك ساعدني ، لو رآني الحراس سيعيدونني إلى هناك.
, جلست "مَرام" أمام الدار ترتجف، عاد "كلودة" إلى غرفته وسحب الهدية وهي ملفوفة بالثوب الحريري وقام بدفن الكتاب تحت شجرة خلف بيته في صندوق مع العديد من الكتب القيمة التي كان يحتفظ بها، وغطاه بالتراب ثُمّ بأغصان الأشجار، وعاد فألقى بالثوب في النار التي كان يستخدمها بعد أن بلله بزيت ما فالتهمه اللهب في الحال، كان يمسك في يده تلك الضفيرة التي قصّتها "أُونتي" من شعرها ووضعتها له بين دفّتي الكتاب، ألقاها في النار ووقف يراقبها وهي تحترق، في تلك اللحظة كانت رائحة الحريق أحبّ إليه من عطرها!
, قرر أن يصحب "مَرام" للقرية ويتركها سريعًا، فلو التقت بـ"أشريا" وأخبرتها بأمر الأميرة "أُونتي" ستفسد عليه حياته، سار "كلودة" غاضبًا، ماذا سيقول لـ"أشريا" لو رأته عائدًا ومعه فتاة! لا بدّ أنها ستغضب.
, كانت "مَرام" تسير خلفه في صمت وقد تعرّفت الآن عليه، فملامحه لم تكن ظاهرة لها عندما كانت تقف بعيدًا عنه وعن "أُونتي"، الآن اتضحت لها عندما اقتربت منه، إنّه ذاك الشاب الذي رأته في السوق يركض مع فتاة وينادي على "أنس"، لم يترك لها الفرصة لتتحدث إليه، كان يسير غاضبًا بسرعة بينما كانت هي منهكة من طول ركضها بين السهول هاربة من القصر، طالت المسافة بينهما وكانت تسير خلفه وتراه من بعيد وهو يلتفت من آن لآخر ليتأكّد أنها تتبعه، كانت تناديه وهو يتجاهلها، أرادت أن تسأله عن "أنس"، وأراد هو أن يتخلص من صحبتها سريعًا حتى لا ينكشف أمره., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٢
الخنجر


كان الجو يزداد برودة كلّما تقدّم "أنس" في طريقه إلى المكتبة، حيث أخبره "كلودة" أنّها تقع خارج حدود القرية في منطقة نائية وحدها، تفصلها عن القرى عدّة بساتين، فضّل أن يركض بين كلّ بستان وآخر مستمتعًا بمرور الهواء البارد على وجهه، مجرّد شعوره بالبرد أو الألم يجعله على يقين أنّه ما زال على قيد الحياة!
, كانت تنتابه اللهفة إلى مغازلة الخطر، بدأ حسّ المغامرة يموج في صدره. قرر أن يتوّغل ويغامر بشكل أكبر، لا بد أن يحتك بالناس بشكل أعمق وربّما يستفزّهم قليلًا، كانت تلك إحدى طرقه التي قرر أن يسلكها لكي يحسّ معها بأنّه على قيد الحياة وأن ذاك ليس حلمًا يعيش في أوهامه. كان شوقه لبيته وأبيه وأمه، وأخته، وجدّه قد بلغ أقصاه. ساعده سيره على صفاء ذهنه، وما أحوجه الآن لصفاء الذهن. مرّ وقت طويل وهو يتمشّى في عدّة بساتين، ولم تظهر المكتبة بعد!
, كاد ييأس ويعود من حيث جاء، لكنّه قرر أن يجلس قليلًا ويفكّر بهدوء. أخرج ما بحقيبته من تمر أمدّه به "كلودة" قبل أن يترك بيته، وبدأ يأكل التمر وكان يحتفظ بالنويّات في كفّه، برز أمامه من حقيبته الخنجر الذي أعطاه له جدّه، أمسكه وتفحّصه بإمعان، ثم وثب واقفًا يحركه ويولجه في طبقات الهواء هنا وهناك وكأنه يقاتل شيئًا ما، لا بأس ببعض اللعب أحيانًا، ظلّ يحركه يمينًا ويسارًا وفي خطين متقاطعين، ثم قال بصوت مسموع وهو يحرّكه وهو يتذكّر مواجهته للصوص وللمجاهيم:
, - ليتني أعود إلى الغابة الآن بخنجري هذا!
, وفجأة انبثق أمامه من حيث كان خنجره يمرّ في الهواء راسما خطين متقاطعين شيء يشبه الانفجار الصغير، ثُمّ ظهرت فجوة تدور فيها ألوان ممزوجة تموج في بعضها البعض، انثنت والتوت حروفها كما تلتوي أحرف الأوراق وصدر دوي غريب، وتبعه صوت رياح ساحبة، وكأنّ تلك الفجوة بئرٌ معلّقة في الهواء، كان "أنس" متخشبًا في مكانه يحبس أنفاسه عندما حدث هذا أمامه، تذكّر ما قاله جدّه عن الخنجر، وأنّه سيقطع به مسافات طويلة! انحنى والتقط النويّات التي كان قد جمعها بعد أن تناول التمر وألقاها واحدة تلو الأخرى داخل الفجوة وكانت تلتقمها بسرعة خاطفة، حمل حقيبته وتراجع للخلف فسارت الفجوة معه واقتربت منه، شعر بها تسحبه إلى داخلها، وابتلعته في لحظة فاختفى.
, ٣ علامة استفهام
,
, سقط "أنس" على الأرض حيث التقى بالمجاهيم من قبل، تذكّر ما قاله قبل أن تظهر الفجوة، أدرك أن الخنجر يفتح له فجوات لينتقل من مكان إلى مكان آخر، الآن عاد إلى الغابة، وثب قائمًا وركض بأقصى سرعة تجاه أشجار الياسمين التي مرّ بها بعد أن غادر بيت العجوز "ناردين"، وجدها أمامه فأسرع تجاهها وخرّ على ركبتيه أمامها يلتقط أنفاسه، بينما صاحت في وجهه:
, - "أنس"! ما الذي جاء بك إلى هنا؟
, - فقدت كتابي.
, اقتربت منه وأمسكته من ذراعه، فقام معها وسارا نحو كوخها، وجلسا حيث كانت تجلس مع "مَرام" من قبل، وبدأ يحكي لها ما مرّ به بعد أن تركها، عندما التقى بالمجاهيم ثُمّ "كلودة" الذي عاد به للغابة، ثُم اللصوص ثُمّ "أشريا" والطفلة الصغيرة، بشكل فجائي صفّقت العجوز عندما سمعت منه أنّه أخرج أشريا والطفلة من الغابة، بدا جليًّا أنها سعيدة جدًا لنجاتهما، بعد أن أخبرها أنّه كان في طريقه للمكتبة قالت بحزم:
, - طالما فقدت كتابك، ولم تلتقِ بـ"مَرام"، فالأفضل أن تستخدم خنجرك وتنتقل إلى قصر "الحوراء"، لابدّ أن تلتقي بها.
, أسرع "أنس" يسألها بفضول:
, - ومن هي "مَرام"؟
, - محاربة كادت ترحل بعد انتهاء مهمتها لكنها دخلت الغابة خصيصًا من أجلك لتحذّرك، فقد بدأتَ رحلتك قبل أن تلتقي بـ"الحوراء" و "المغاتير".
, - وأين ذهبت "مَرام" الآن؟
, - لا أدري٣ نقطة المهم، لا بدّ أن تذهب إلى قصر "الحوراء"، هيّا، قم يا فتى، الوقت يمرّ.
, قامت تدفعه أمامها وتتعجله، ووقفت تراقبه وهو يحرّك خنجره في الهواء ويقول كما قال من قبل:
, - "قصر "الحوراء"
, تحرّك الهواء أمامه، وكأن هناك بقعة شفافة تشبه الماء تغلي وتبقبق ثم انفرجت كاشفة عن فجوة عملاقة دلفها "أنس" هذه المرّة بنفسه دون أن يتراجع، كان أكثر ثقةً من ذي قبل، وكان وصوله لقصر الحوراء أسرع.
, ٣ علامة استفهام
,
, بثيابها المحتشمة، وحيث تجللها المهابة والسكينة، وعلى كتفيها ينسدل الوشاح الأبيض كانت "الحوراء" في ديوانها تجلس بوقار، وتنتظر ظهور "أنس"، فقد حملت لها الرياح صوته وكانت تعلم أنه على وشك الوصول، انشق الهواء وأطلّت الفجوة وخرج "أنس" منها وكأنّه ولد من رحمها للتو، التفت ورأي الملكة أمامه، شعر بسكينة عندما رآها، وقف بثباتٍ وجال بعينيه في المكان يتأمّل سقف الغرفة الواسعة. قالت "الحوراء" بصوت حنون صاحبته ارتعاشة مميزة:
, - حمدًا لله على سلامتك يا "أنس"، كان من المفترض أن نلتقي بك أولًا٢ نقطة لكنها أقدار الله٣ نقطة أخبرني كيف هو جدّك؟
, - بخير يا سيّدتي.
, تمعّنت في عينيه ثُمّ قالت:
, - لا بدّ أنّك قلق يا بنيّ؟
, - لا تلوميني٣ نقطةأشعر وكأنني في حلم! لا أصدق ما يحدث!
, ابتسمت بعذوبة ثُمّ قالت بهدوء:
, - بعضُ الحقائق من فرط صدقها تبدو كحلم جميل، وبعضها من فرط قسوتها تبدو ككابوسٍ مزعج.
, أردف "أنس" مكملًا كلامها:
, - وأحيانًا نحن نخلق الوهم في عقولنا ونعيشه، لا بد أن ما أعيشه الآن وهم وخيال في عقلي.
, - الوهم يختلف عن الحقائق، كل ما حولك هنا ليس وهمًا يا بنيّ!
, - ربّما أنا أحلم، أين نحن الآن٢ علامة التعجب وما الذي يحدث؟ ما فائدة قصص قديمة كتبها أحد ما! لماذا ننبش الماضي بلا هدف.
, رفعت حاجبيها وقالت:
, - قد نفتش عن الماضي لبشاعة حاضرنا٢ نقطة وما أبشع ما نعيشه الآن!
, أومأ برأسه بأدبٍ موافقا لكلامها، ثُمّ سألها:
, - أُريد أن أعرف ما دوري هنا بالتحديد؟ ومتى سأعود؟ فمنذ وصولي وأنا ألتقي بأشخاص ولا جديد حتى الآن!
, قالت بعد صمتٍ قصير:
, - في الحقيقة؛ أنت من عائلةٍ أصيلةٍ أبًا عن جد، حتى الإناث في عائلتك سيكون لهنّ شأنٌ عظيم إن شاء ****، شقيقتك "حبيبة" مثلًا! مميزة جدًا.
, تعجّب "أنس" من ذكرها لشقيقته، كاد يسألها كيف هي مميزة! لولا أنّها أردفت قائلةً:
, - لست وحدك هنا، غيرك الكثيرون، الصقور تنقلكم إلى هنا كلّ عامٍ، هناك من ينجح، وهناك من يفشل، وهناك من يتحالف مع٣ نقطة"كِمشاق".
, - الملك؟
, انتفضت بغضب وقالت بحدّة:
, - ملك على نفسه، "كِمشاق" ملك مملكة الجنوب فقط.
, ثم سريعًا ما تمالكت نفسها وأردفت بهدوء:
, - هنا يا بنيّ ستجد جانبًا مظلمًا في مملكة الجنوب، وجانبنا الذي نرجو أن يكون هو المضيء في الشمال حيث نقف جميعًا الآن، وجانبًا غامضًا ما زلنا نكتشف أسراره خلف أستار الغابة هنا وهناك، وجانبًا لم تطأه قدم قط وذاك ربما ستكتشفه بنفسك. "كِمشاق" ومن حوله يحاولون السيطرة على المملكة كلها. ما زالوا يحاولون إغواء كل محارب يأتي، يطاردونه، يقطعون عليه الطريق، يُفشلون خططه لإظهار الحق ويدلسون لخدمة أفكارهم السوداء.
, - ولكن! ليس كل من بمملكة الجنوب سيئين، هناك الخير يكمن هنا وهناك، أهل القرية طيبون، وربما هنا بالمملكة بعض الشرّ أيضًا، لكنّكم لا تعلمون عنه.
, - حسنًا، طالما أنّك تدرك هذا جيدًا فأنت تعرف دورك، أنت ستخبرنا أين الخير وتدلنا عليه.
, - وهل سأستطيع؟
, - نعم، أنت الوحيد القادر على هذا بإذن ****.
, - لماذا؟٣ نقطة ألا تقدرون أنتم؟
, - ليتنا نستطيع! حاولنا من قبل ولم نتمكن، جربنا ولم ننجح.
, هزّ "أنس" رأسه بحيرة وقال:
, - لماذا المملكة هنا مختلفة! وأين موقعنا الآن.
, - ستتعب يا "أنس"
, - من ماذا؟
, - من تكرار هذا السؤال، فأنا أيضًا حيرتني تلك القصص التي كان جدّك يخبرني عنها عن عالمكم، وددت أن أكون هناك، أن أرى ما يصفه عن عالمكم، بيوتكم، هواتفكم، الطائرات، السيارات، لكنني ٢ نقطة
, - لكنكِ ماذا؟
, أشاحت بنظراتها بعيدًا ثمّ أردفت قائلةً:
, - أتعلم يا "أنس"؛ حاولنا كثيرًا إرسال بعض المغاتير لعالمكم، حملتهم الصقور لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل، إنهم يرفضون أن نتولى نحن المهمة.
, - ومن هم؟
, - الكتب.
, - أنت أيضًا تزعمين مثل جدّي أن تلك الأوراق تدّب فيها الحياة!
, هزّت رأسها موافقة فقال بانفعال:
, - ما زلت لا أصدق أن الكتب حيّة ولها إرادة!
, - ألم تطر الكتب في الهواء وتلف حولك؟!
, - وكيف عرفتِ؟
, - هكذا تتعرف الكتب على المحاربين، هكذا اختارت جدّك من سنين طويلة، وهكذا التقيت به لأوّل مرّة هنا.
, هزّ "أنس" رأسه بحيرة وقال:
, - لماذا أنا؟!
, - لأنّ الكتب أدركت وهي تدور حولك أنّك تؤمن بشيء ما يتحدّث عنه كتاب إيكادولي.
, - ربما٣ نقطة
, قاطعته "الحوراء" وأردفت قائلة:
, - اختارك الكتاب لأنّ صفحاته أحسّت بقلبك، شمّت الرائحة في دمائك، هي تعرفك لأنّك صدّقت في نفسك شيئًا احتضنته تلك الصفحات بين سطورها وأدركتْ أنت قيمة ذاك الشيء ومعناه.
, - وما هو هذا الشيء؟
, - أنت هنا لهذا السبب يا "أنس"، مهمّتك أن تكتشف القيمة التي يتحدث عنها الكتاب وتدلّنا عليها لنعلمها لأنفسنا وأبنائنا ونتمسّك بها، الأمر ليس ظاهرًا جليًا بالنسبة لنا للأسف.
, تذكّر "أنس" كيف كانت الكتب تدور حوله في غرفة المكتبة، وكيف كانت صفحاتها تقلب بسرعة شديدة، وكيف كان شعوره عندما رأى صورته تُرسم في أوّل صفحة. قال وهو يرجو إجابة تريحه:
, - فقدت كتابي، سرقه اللصوص، فهل من طريقة لاسترده؟
, على حين غفلة منهما دلف الحكيم "سامي كول" إلى ديوان ابنته، حيّته بإجلال ثُمّ التفتت تجاه "أنس" وتأمّلته بإمعان، وكان "أنس" شابًا وسيمًا مليحًا فاتنًا تقرّ بالنظر إليه العيون، قالت بعد أن استقرت عيناها على القلادة التي كان يرتديها:
, - ها هو "أنس" يا أبي، نفس العينين، نفس النظرة الواثقة، يشبه أباه وجدّه كثيرًا.
, قال سامي كول بعد أن أغمض عينيه:
, - هذا الشبل من ذاك الأسد!
, تنحنح"أنس" في ارتباك وقال بتحفّز:
, - التماثل في الشكل لا يعنى التشابه في المستقبل والنهايات٢ نقطة أخشى أنكم تظنون بي ما لست أنا بأهلٍ له، لم أكن يومًا محاربًا.
, أدرك "سامي كول" أن "أنس" غير مرحّب بما يعيشه الآن، وأنّه قلق مما يتعرّض له، قال وهو يهزّ رأسه موافقًا:
, - صدقت، وربما أنت مختلف عنهما!
, ثُم أردف باهتمام:
, - كنت تسأل عن طريقة تسترد بها كتابك، أليس كذلك؟
, - بلى
, - ربّما يساعدك حراس المكتبة العظمى، عليك أن تنتقل إلى هناك، وطالما عرفت كيف تصل إلينا، لا تتردد في القدوم هنا في أي وقت، أو عندما تتعرض للخطر.
, اقتربت "الحوراء" وأضافت على كلام أبيها قائلة:
, - ولا تنس أن تبحث عن "مَرام"، فقد خرجت في إثرك، وقد تعرّضت للخطر حيث اختطفها اللصوص في الغابة، عليك إنقاذها يا "أنس"
, - ماذا! ولكن كيف وأنا لا أعرفها! ولا أعرف شكلها!
, - وهي لم تكن تعلم كيف هي ملامحك عندما دخلت لتبحث عنك، وكان من المفترض أن ترحل وتعود لديارها.
, - وما الذي أجبرها على الدخول!
, - كان اسمك يظهر لها في كتابها من آن لآخر، فحذّرها أبي من أن ترحل طالما أنّك وصلت لأرض المملكة قبل رحيلها.
, - ومن أي شيء حذّرها؟
, كان "سامي كول" ينصت إليهما بهدوء، وكان دوره أن يوضّح الأمر لأنس، لكنه بدلا من هذا أخرج من أكمامه الواسعة ورقة ملفوفة ومدّها نحو "أنس"، فتح "أنس" الورقة وكانت خريطة فبدأ يتفحّصها بتمعّن في ما رسم فيها وهو حائر، اقتربت الملكة وأشارت له على الخطوط فيها وتتبعت خطًا أحمر وقالت:
, - كان من المفترض أن تبدأ رحلتك من هنا، القصر أولًا لنشرف بلقائك وتأخذ هذه الخريطة، ثُم تسير في الغابة من هنا.
, وتتبعت خطًا أخضر موازيًا للنهر الأخضر، وقالت وهي تنقر على الجهة الأخرى:
, - هنا اللصوص والمجاهيم، ويبدو أنك مررت من تلك الجهة الخاطئة.
, رفع "أنس" حاجبيه وقال:
, - يبدو أنني أجبرت نفسي على الانخراط في اللعبة بطريقة خاطئة.
, غضنت "الحوراء" جبينها وقالت وهي توقّع كلماتها:
, - هي ليست لعبة!
, ثُمّ أضافت:
, - كان الأصح أن تسير من الجهة الشرقية حتى تصل إلى القرية، حيث تظهر أوّل جملة في كتابك وسط السوق، عندما تلتقي بأبطال القصة التي يحكي عنها "إيكادولي"، ولكنك أضعت الكتاب، ونحن الآن لا نعرف من هم أبطال القصّة تحديدًا لأننا لا نعرف متى ستظهر أول كلماته، ولهذا عندما تستردّ الكتاب عد وابدأ رحلتك من البداية واستخدم الخريطة حتى تبدأ الكلمات تُنقش في الكتاب، وأما إن عثرت عليه وقد ظهرت بالفعل الكلمات ٣ نقطة
, - ماذا؟
, - ستكون مهمتك أصعب لأنك بالفعل قد التقيت بأكثر من شخصية قبل أن نراك هنا.
, - أظن أنّ مهمتي صعبة بالفعل منذ بدايتها.
, لاحظ "أنس" وجود أرقام مختلفة وعشوائية مكتوبة بلا ترتيب على عدّة أماكن في الخريطة، سأل "الحوراء" وهو يشير إليها:
, - ولكن ما هذه الأرقام المدوّنة هنا وهناك ؟
, غضنت حاجبيها وقالت:
, - هي شفرة خاصّة بين الكتاب والمحارب المسئول عنه، لن يفهمها غيره لا أنا ولا أبي ولا حتى حرّاس المكتبة٣ نقطة أتظن أنّك تدرك معناها؟
, قال وهو ينقل عينيه بينها:
, - الشيء الذي ليس له معنى الآن قد يكون له معنى لاحقًا!
, صمتت "الحوراء" هنيهة وقالت:
, - والآن، هيّا إلى المكتبة، فأنت تحتاج الوقت.
,
, حمل "أنس" خنجره وعاد يحركه في الهواء في خطوط متقاطعة، انبثقت الفجوة من جديد، وألقى بنفسه فيها بعد أن أخفى الخريطة في حقيبته., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٣
كومبو


خرج "أنس" من الفجوة والخنجر لا يزال في يده، فوجد نفسه أمام بناء عظيم مهيب تحوطه الأشجار من كلّ الجهات، وحول تلك الأشجار وعلى امتداد البصر كانت الصحراء تبسط رمالها الذهبية إلى ما لا نهاية. تقدّم خطوة واحدة وكان واثقًا من خطاه يظن أن أبواب المكتبة ستفتّح له وسيكون الأمر سهلًا كما دلف إلى الغابة من قبل، وإلى قصر "الحوراء" منذ دقائق ماضية، لكن الأمر لم يكن كما يخاله، فقد اشتدّت الرياح فجأة وكأنّها تمنعه، وبدأت الرمال تتحرك وتبتلع جسده وكأنّها تعوقه لكي لا يتقدّم، حتى اختفى نصفه الأسفل تحتها، رفع ذراعه وحرّك الخنجر في الهواء وصرخ قائلًا:
, - بيت "كلودة"
, انبثقت الفجوة والرياح تخفق بأطرافها المنثنية أمامه، ودوي الرياح يصدر صفيرًا مزعجًا، لم يتمكن "أنس" من القفز في داخلها فساقيه تحت الرمال، فاقتربت الفجوة منه وارتفعت كسحابة فوق رأسه وسحبته إلى داخلها بقوة فانتقل إلى بيت "كلودة" وكانت الرمال تتساقط من ملابسه على الأرض! جلس وقتًا طويلًا يستجمع قواه، فقد هزّه الأمر وشعر أنه هالك لا محالة، أراد أن يقوم ليبحث عن شربة ماء فقد جف حلقه وفتح باب البيت حيث كان هناك شاب طويل يقف متحفزًا وفي يده عصاة غليظة، فور أن رأى "أنس" ضربه على رأسه ففقد "أنس" وعيه في الحال.
,
, ٣ علامة استفهام
, أفاق "أنس" فوجد نفسه ممددًا على الأرض، مقيّد الساقين واليدين مرّة أخرى! وقف أمامه الشاب واضعا راحتي كفيه على خصره، كانت له عينان نابهتان وشعر مجعد، خصلاته داكنة، كان بريق نظراته يشي بذكاء متقد ومتحفز، بدا بهيئته وإيماءاته ونظراته وكأنّ الحياة عركته سلفًا، قال ساخرًا:
, - كيف تجرؤ على اقتحام بيت "كلودة" في غيابه؟
, - "كلودة" صديقي٣ نقطة سَلْه بنفسك!
, - سننتظر إذن حتى يعود.
, - ولم لانذهب إليه في دكان عطارته؟
, - أوتعرف مكان الدكان؟
, - أجل أعرفه.
, - كاذب لأنني أعمل هناك فأنا شريكه، ولو كنت صديقه لرأيتك معه، أنت لص.
, - أخبرني ب**** عليك وأيّ شيء سأسرقه من بيت "كلودة"!
, تفرّس الشاب في ملامحه وصمت هنيهة يفكر بتدبّر ثُمّ قال له:
, - ما اسمك؟ ومن أي البلاد أنت؟
, - "أنس"، وأنا٣ نقطة محارب!
, انتبه الشاب وتحرّك في الغرفة بانفعال، اقترب من النافذة ومرّ على السماء بعينيه النابهتين، ثمّ عاد ينظر لأنس وقال له:
, - إن كنت محاربًا، فأين كتابك؟
, - سرقه اللصوص عندما كنت مع "كلودة" في الغابة
, - ألم أخبرك بأنّك كاذب! من المستحيل أن يدخل "كلودة" للغابة!
, - بل حدث عندما أنقذتنا ابنة عمّه "أشريا" وفكت قيودنا.
, - كاذب، كاذب، كاذب٢ نقطة من يدخل الغابة لا يعود، ولقد التقيت بـ"كلودة" منذ قليل وهو في طريقه للدكان.
, - ولماذا لم تذهب معه؟
, - لا تتذاكَ عليّ، أتيت لأجلب بعضًا من الأصباغ التي أعدّها لأنّه لا يستطيع العودة بتلك الفتاة التي كانت تتبعه إلى البيت هنا، فهناك من يهددها، وأظنه أنت!
, - أقسم لك أنه صديقي وأننا دخلنا الغابة و"أشريا" هي التي أنقذتنا عندما فكت قيد "كلودة" بذاك المسحوق الذي أذاب الحبال.
, قالها "أنس" بضيق وهو يتأفف، فقد طفح الكيل، كلّما شعر أنّه يتقدم خطوة للأمام يتعثر في شيء ما، حكّ الشاب ذقنه نصف النامية وقال وهو يتفحّص ملامح "أنس" بتمعّن:
, - حسنًا، سأفك قيد قدميك وستسير معي لدكان "كلودة" ولنرَ ما سيقوله، وإن كنت كاذبًا فستنال مني ما لم تنله في حياتك.
, سحب الشاب خنجر "أنس" والذي كان قد استولى عليه وقطع الحبال التي كان يربط بها ساقي أنس، ودسّه في حزام بنطاله، وسحب "أنس" وسار معه نحو دكان "كلودة"
, سار الشاب يدفع أمامه "أنس" بقسوة، اصطك الرعد فانهمر المطر مدرارا، بروق متوالية انقدحت في السماء، كانت القرية في هذا الوقت ترزح تحت موجة صقيع شديدة، جعلت الأمطار كلّ شىء موحلًا رطبًا، سريعًا ما وصلا إلى الدكان حيث حملق "كلودة" في وجهيهما والماء قد أغرقهما بالكامل وقال:
, - "كُومبو"٢ علامة التعجب
, - "كلودة" هذا الشاب يزعم أنّه صديقك.
, أسرع "كلودة" يفك قيد "أنس" ورشق "كُومبو" بنظرة تقطر عتابًا ولومًا وقال له:
, - إنه صديقي "أنس"
, من خلف "كلودة" أطلت "مَرام" برأسها وقالت بغضب:
, - وأخيرًا ظهرت!
, مرّ على وجهها بعينيه البندقيتين بينما كان يتحسس معصميه متألّمًا من أثر القيد، تعرّف عليها في الحال، طالعها باستغراب وقال بضيق:
, - أنتِ؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟
, دفعه "كُومبو" في كتفه وقال بصوت حاد:
, - لماذا تتحدث إليها باشمئزاز هكذا!
, - رأيتها في السوق وعليها ثياب خليعة!
, استشاطت "مَرام" غضبًا وندّت منها صرخة مكتومة وأشارت لعينها وقالت بصوت لم تفلح في ضبط نبرته:
, - خطفني تجّار العبيد، وسقوني شيئًا ما وألبسوني تلك الثياب رغم أنفي، وكنت أناديك لتحررني منهم، لكنّك بدلًا من هذا قذفتني في عيني وهربت!
, ثُمّ خلعت الرباط عن عينها فإذا بها متورمة وحولها هالة زرقاء، أضافت وما زالت تنتفض غضبًا:
, - اسمي "مَرام"، أرسلتني الملكة "الحوراء" من أجل٣ نقطة
, تذكّر "أنس" ما أخبرته به "الحوراء"، فقاطعها وقد أشفق عليها عندما رأى ما حدث لعينها وقال معتذرًا:
, - آسف٣ نقطةظننتك من الـ٤ نقطة!
, اصطبغ وجهها بلون كرزي، شعرت بإهانة شديدة، وكأن "أنس" قد مرر السكين على الجرح مرّة أخرى، فقد كان خلعهم لحجابها وكشفهم لجسدها أثقل ما حدث لها منذ وصلت لتلك المملكة العجيبة، وكانت قد تعبت مما لاقته خلال الليالي الماضية، قالت وهي تكزّ على أسنانها:
, - عد إلى قصر "الحوراء"، لا بدّ أن تلتقي بالملكة في الحال.
, - وكيف سأعود وليس معي كتابي.
, - كيف!
, - سُرق مني في الغابة وأنا أبحث عنه.
, - فلنعد للقصر على أيّ حال، لا بدّ أن تُعيدني سريعًا.
, - لن أرحل بدون كتابي!
, رفعت سبابتها نحوه وقالت بتحفّز:
, - وأنا أريد أن أعود لدياري، ولن أسير في الغابة وحدي مرّة أخرى، أنت السبب في كلّ ما حدث لي، وعودتي إلى القصر هي مسئوليتك!
, ولم يكن من السهل عليه أن يثق بها من أول لقاء، فلم يخبرها عن أمر الخنجر وانتقاله عبر الفجوات، وبينما يتحدثان اعترضهما "كُومبو" ووقف بينهما بقامته الطويلة وقال:
, - أي ملكة تتحدثان عنها؟ أريد أن أعرف قصتكما من البداية.
, قال "كلودة" وهو يناول "مَرام" كوبًا من الماء بعد أن لاحظ توترها وجفاف شفتيها وهي تتحدث إلى "أنس" بغضب:
, - استريحي واهدئي، يبدو أنّك مررت بالكثير.
, ثُمّ قال لـ "كُومبو":
, - كم أنت فضولي يا "كُومبو"!
, سألته "مَرام" وهي تعيد ربط عينها في ارتباك:
, - لماذا اسمك "كُومبو"٣ نقطة أليست تلك الكلمة تعنى السمين٢ علامة التعجب
, قهقه ثم أجابها:
, - عندما ولدت كنت سمينًا، فاختار لي أبي ذاك الاسم، وبقيت سمينًا طوال حياتي، وها قد فقدت سمنتي منذ عامين وما زال ذاك الاسم عالقًا بي.
, دلف الجميع إلى الدكان، وباختصار قصّ "أنس" على "كُومبو" ما أراد أن يكشفه له، وأخفى عنه ما أراد أن يخفيه، واستعاد خنجره، وبقي "كلودة" قلقًا وخائفًا من أن ينكشف أمر علاقته بالأميرة، كان يفكّر في طريقة يتخلص بها من "مَرام" بسرعة.
, وكانت "مَرام" تتمنى أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد نفسها في بيتها، متى ستعود!
, ٣ علامة استفهام
,
, في الطريق وحيث اتفقوا على أن تبيت "مَرام" ليلتها في بيت "أشريا" بينما يذهبون لبيت "كلودة"، كانت "مَرام" تسير خلفهم وهي غاضبة، تريد أن ترحل الآن، رفعت رأسها تبحث عن "قطرة الدمع" هنا وهناك، لم تعد تظهر لها في نفس اللحظة التي تفكر بها في الحال، كما كان يحدث، تلك كانت ميزة تبعث في نفسها الاطمئنان، لكن يبدو أنّها فقدت تلك الميزة! تمهّل"كلودة" في سيره قليلًا واقترب منها وأعطاها زجاجتين صغيرتين وقال:
, - خذي، ضعي قطرة من هذا السائل في عينك قبل النوم، ثُمّ ضعي هذا الدهان على الجفن وما حوله، سيخفف من تورّم عينك إن شاء ****.
, انكمشت "مَرام" وهي تقول:
, - لا٣ نقطة لقد قمت بدهنها من قبل في القصر بذاك الدواء الذي أعطته لي الطبيبة هناك، فانتفخت عيني وأصبحت الدموع تسيل منها على الدوام.
, - لا تخافي، جربيه.
, بعد تردد أخذتهما ثُمّ قالت له:
, - حسنًا، شكرًا لك.
, - أرجو منك ألا تخبري أي أحد بما بيني وبين الأميرة "أُونتي"، حتى زوجة عمي وابنتها "أشريا" التي ستبيتين في بيتهما الليلة.
, - اطمئن، سأستركما، رغم أنكما لا تستحقان!
, - أهكذا تردين الجميل لأميرتك التي أطلقت سراحك؟
, - قلت سأستركما! ولكنني أكره فعلكما!
, التفتت مبتعدة عنه، كانت تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها وتلفظها في بيتها في الحال، وصلا سريعًا إلى بيت "أشريا"، التي انزعجت في البداية عندما رأت "مَرام"، ثُمّ سريعًا ما انفرجت أساريرها عندما علمت أنّها محاربة، على نحوٍ سريع تآلفتا، وباتتا ليلتهما تتحدثان عن الأميرة "هيلا"، كانت "أشريا" قد سمعت عنها، لكنها لم تكن تعلم قصتها بالتفصيل، خفف هذا عن "مَرام" التي كانت تغلي، كم هو مهين أن يظن بها أحدهم أنها فتاة لعوب، وكم هو قاهر ما مرّت به من ذل وهوان، وكم تؤلمها عينها الآن., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٤

في بيت كلودة


مرّت الليلة هادئة حيث استسلمت "مَرام" للنوم العميق حتى الظهيرة، بينما كان "أنس" في صحبة "كلودة" و "كُومبو" في دكانهما منذ الصباح الباكر، كان قد اتخذ قرارًا قبل أن يغمض عينيه الليلة الماضية، وهو أنّه سينقل "مَرام" إلى قصر "الحوراء" قبل أن يعود للمكتبة العظمى، لقد لاقت الكثير بسببه، وكان يشعر بالذنب والمسئولية تجاهها، كما أنه كان يشعر بالضيق كلّما تذكر اللحظة التي قذفها فيها بالحجارة في عينها، أساء بها الظن وظنّها فتاة لعوبًا وكانت المسكينة تستغيث به لينقذها، كان يسترجع ما روته له عن ذاك الشاب الذي غطاها بوشاحه وحملها إلى القصر، وكيف نجاها **** مما كانت تخشاه بأن اختارتها أميرة هناك لتكون وصيفة لها، جلس ينتظر انتهاء "كلودة" من عمله ليذهبا معًا لبيت "أشريا".
, مرّ معظم النهار ولم يبق إلا القليل منه. على الباب، وبينما يتعالى صوت زوجة عمّه وهي تقترب لتفتحه، كان "كلودة" يقف ومعه "أنس" ينتظران، أطلّت برأسها من فرجة الباب، أخبرتهما أن "أشريا" حملت إليهم الطعام إلى بيته مع "مَرام"، فقد ظنت أنه لن يأتي كالمرة السابقة، انصرف مع "أنس" متوجهًا لبيته، راوده شعور بالارتياح، فما دامت تحمل له الطعام فهي لا تعرف شيئًا، كانت "مَرام" صادقة، ستسترهما وإن لم يعجبها فعلهما.
, كان بيت "كلودة" رغم بساطته يوحي بالدفء، غرفتان فسيحتان يفصل بينهما جدار حجري لا يصل إلى السقف، لا أثاث يذكر سوى فراش من الليف مغطى بقماش من الكتان المصبوغ، الكثير من الحقائب القماشية المعلّقة على الجدران، يبدو أنها تحتوي على الملابس وأشياء أخرى، في أركان البيت تناثرت عدة وسائد محشوّة بريش الطيور صنعتها "أشريا" كمـا قال لهــم وهو يتنقـــــــــــــــل
, بسرعة بين الغرفتين.
, جلسوا في شُرفة واسعةٍ تطل على فناء الدار، بينما انصرف "كلودة" ليحضر بعض الحطب ليشعل النار ويسخّن القدر الممتلئ بالطعام فقد برد سريعًا حتى أن الدهن بدأ يكوّن طبقةً جامدة على سطحه، وضعت "أشريا" أمامهما وعاء خزفيًا مكسور الحافّة به بعض حبّات الفاكهة الشهية حتى تقوم بتسخين الطعام، لم تمدّ "مَرام" يدها، وكذلك لم يفعل "أنس"، فقد فقد َكلاهما شهيّته، كان الشعور بالغربة يقبع على صدره، أمّا هي فكانت خائفة.كانت "أشريا" تنقل عينيها بينهما وأطرقت تفكّر طويلًا.
, مدّ "أنس" يده في جيب سرواله وأخرج ساعته، لو انتبه إليها اللصوص في الغابة في أول يوم وصل فيه لسرقوها منه، عاد يحاول إصلاحها، ما زالت عقاربها مكانها متوقفة وكأنّه خارج الزمان والمكان، نادى "كلودة" على "أشريا" لتساعده والتي كانت تراقبهما بفضول شديد. كانت "مَرام" مرتبكة، بدأت تفرك يديها بتوتّر، لاحظ "أنس" الكثير من علامات الجروح على ظهر كفيها، ووجنتيها، وكأنّها خرجت من معركة مع قطٍ شرس، بدأ "أنس" يتفحّص ساعة يده بإمعان، ضحك بسخرية فظنّت "مَرام" أنّه يسخر منها ويسترجع في ذاكرته ما حدث في السوق يوم قذفها بالحجارة فأصاب عينها، باغتته سائلة بضيق:
, - ما يضحكك!
, قال ساخرًا:
, - لن تعود الساعة للعمل، يبدو أننا نعيش بين ثانيتين، الوقتٌ هنا ضائع.
, قالت بحدّة:
, - لا أظنّ وقتنا هنا ضائعًا أبدًا، بل كلّ حياتنا السابقة هى التي كانت ضائعة.
, التفت إليها فتلاقت عيناهما، انزوت نظرتها بحياءٍ بعيدًا عن وجهه، مرّت دقيقة من الصمت اللطيف قبل أن يسألها "أنس" بصوتٍ خافت:
, - ماذا تقصدين بأنّ كلّ حياتنا الماضية كانت ضائعة؟
, - عندما يصل المحاربون يكونون بلا هدف، ولعلك كُنت بلا هدف قبل مجيئك إلى هنا.
, - وما أدراكِ؟
, - مجرّد ظن!
, شعر "أنس" أنها تتحدث إليه بتحفّز، ربّما لما فعله عندما رآها أوّل مرّة، وما ظنّه بها، رنا إليها سريعًا فرأى عينها المتورّمة فأشفق عليها وسألها:
, - كيف هي عينك الآن؟
, تحسستها بأناملها بحرص وقالت دون أن تنظر إليه:
, - هي أفضل.
, - أعتذر مرّة أخرى٢ نقطة سامحيني.
, - لا عليك.
, طارت فيها نظرة من نظراته فلاحظ جمالها على استحياء وسألها:
, - كنت تقولين إن المحاربين يكونون بلا هدف عندما يصلون، ثُمّ يتغير حالهم٢ نقطةفما هدفك أنتِ الآن؟ أخبريني؟
, غاصت في نفسها مفكّرة وقالت:
, - أن أعيش حياتي كلّها في الضوء، لا أودّ أن أختبئ وإن أخطأت، وإن فشلت، وإن كان بي خطب ما! ثُمّ أموت على ما أؤمن به.
, - ومن منا لا يطلب هذا!
, ثمّ سألها بفضول:
, - كم عمرك؟
, - ثمانية عشر عامًا.
, - ماذا تدرسين؟
, - الآداب
, - وأنت؟ كم عمرك؟ وهل تدرس شيئًا ما؟
, لاح شبح ابتسامة على وجهه وقال بسخرية:
, - سأُتم الثالثة والعشرين قريبًا، كما أنني درست بالفعل شيئًا ما.
, التفتت إليه تنتظر أن يكمل كلامه فأردف مجيبًا:
, - درست الهندسة.
, كانت "مَرام" تستغرب تغيرًا بدأ يحدث في مشاعرها، فرغم غضبها الشديد منه، ورغبتها في ضربه على عينه حتى يتألّم كما فعل بها، فقد بدأت تشعر بانجذاب نحوه! يبدو لطيفًا عندما يعتذر لها!
, أطرق "أنس" للحظات ثُمّ عاد يسألها:
, - كيف بدأ الأمر معك؟
, ارتبكت "مَرام" وشعرت بالدماء تصعد لوجنتيها، وكأنه قرأ أفكارها ويسألها كيف بدأ أمر إعجابها به٢ علامة التعجب تمتمت تستوضح السؤال، قال موضحًا:
, - أقصد مجيئك إلى هنا٣ نقطة كتابك؟ صقر حملك مثلا٢ علامة التعجب
, حاولت "مَرام" أن تبدو متماسكة فمدّت يدها وأمسكت بحبّة تفاح وجلست تحملق فيها وهي تروي ما حدث لها:
, - جدّتي مغرمة بالكتب، تعشق القراءة، لديها مكتبة عظيمة، الكثير من المجلدات القديمة، منها البعض يحوي قصصًا نوبية قديمة.
, - هل تلك الكتب تخصّ أيضًا الأمير "أواوا" ؟
, - لا، إنّها تخصّ "دهل كول".
, - ومن هو "دهل كول" هذا؟ أميرٌ نوبيٌ أيضًا٢ علامة التعجب
, - لا٤ نقطة تلك الكلمة لقب نوبي وتعني٣ نقطةالمجنون!
, - وهل يكتب المجنون الكتب٢ علامة التعجب
, - في الحقيقة هو لم يكن يومًا مجنونًا، لكنّ من حوله لقبوه بهذا الاسم فقد كان صادقًا ذاك الحد الذي يجعلك تظنّه مجنونًا.
, هزّ "أنس" كتفيه مستغربًا وقال:
, - الأسماء كلّها غريبة! "أبادول"، "سامي كول"، "دهل كول"، "إيكادولي".
, التفتت "مَرام" تجاهه وكأنّ الكلمة الأخيرة قد استفزت حواسها وقالت:
, - كلّها ألقاب نوبية ما عدا "إيكادولي" ليست لقبًا بل هي كلمة تعني٣ نقطة
, قاطعها "أنس" بتلقائيةٍ وهو ينظر إليها قائلًا:
, - أُحبّك!
, أطرق كلاهما بخجلٍ، واصطبغ وجه "مَرام" بحمرة خفيفة، ألقت بالتفاحة التي لم تمسّها في الطبق الخزفي وكادت تنصرف لولا سؤاله لها بعد أن استدارت:
, - لماذا لم ترحلي طالما تم استرداد كتابك كما تقولين؟ كان الخيار لك!
, التفتت تجاهه في حرجٍ وقالت:
, - كنت مضطرّة، لا أحد يستطيع دخول الغابة إلّا المحاربين.
, - لماذا؟
, صفق صوت الرعد الذي ارتج له بدنها الهزيل، فقد بدأ المطر يهطل بغزارةٍ فأسرع كلاهما إلى الداخل حيث جلسا بهدوء في بيت "كلودة" الذي كان يعد الطعام مع "أشريا" ، جلس كلّ منهما في غرفة، كان "أنس" يفكّر في حال "مَرام"، كيف كانت تتحدّث بتلك الرّقة! إنّها تشبه قطعة البسكويت الناعمة، لو أغرقها المطر ستذوب!
, تمدد "أنس" على الفراش وعقد كفيه خلف رأسه وحملق في سقف الدار وهو يجترّ ما مرّ به منذ وصوله لبيت جدّه، فهذا ليس وقت الفتيات، طالما أزعجته الفتيات، همس لنفسه:
, - ليس هذا وقت الفتيات! ليس وقتك يا "مَرام".
, ناداهما "كلودة" فخرج كل منهما من غرفته لتناول الطعام، تنحنح "أنس" ثُمّ قال لها بصوت جاهد ليخرجه منضبطًا:
, - "مَرام"، لا بدّ أن أعيدك إلى القصر، حان وقت عودتك لأهلك، لا بدّ أن أطمئن عليك قبل أن أعود لأبحث عن كتابي.
, - أرجو ذلك وبسرعة
, - لكننا سننتظر حتى يتوقف المطر، والأفضل أن نؤجل رحيلنا للغد حتى ندخل الغابة في أوّل النهار
, هزّت رأسها موافقة، ويبدو أن هذا قد أراح نفسه بطريقة ما، التفت يطالع السماء وقد راق له أنها ستبقى ليلة أخرى. كان هناك شيء ما يتلجلج في صدره، إحساس لم يعهده من قبل، وخزة في قلبه موجعة على نحو ما لكنّها لطيفة، وكأن شرارة تتذبذب بين ضلوعه، وقف بجوار "مَرام" بعد تناول الطعام أمام باب الدار تحت مظلة بدت كقبّة تحمي مدخل الدار كان "كلودة" قد صنعها من جريد النخل، كان كلاهما يراقب المطر في صمت، هدأت ثورة غضبها أخيرًا، ستعود إلى البيت، كانا ساكنين وكأنهما حرفان متجاوران على سطر في رواية، حاء وباء٣ نقطة و ربما سيكون بينهما الكثير٤ نقطة, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٥
النهر الاخضر


فجرٌ ورديٌ شاحبٌ يبزغ على القرية مبشّرًا بنهارٍ مشرق، فتح "أنس" عينيه عندما تناهى لسمعه صوت ديكٍ يؤذّن، اعتدل في فراشه ولثوانٍ راح يتساءل عن المكان الذي يوجد فيه وعمّا حدث له، عاد وعيه إليه ببطء، نهض بوثبة واحدة واقترب من النافذة، توضأ من كوب الماء الفخاري الذي كان على الطاولة بجواره وصلّى الفجر، كان يحتاج لتلك السكينة، تلك السجدة التي تحتويه فتعيد إليه صوابه.
, بعد لحظات سمع طرقات خفيفة على النافذة من الخارج، أسرع يقترب منها فإذا به "كلودة" الذي أشار إليه بهدوء ليتبعه، كانت "مَرام" قد خرجت الليلة الماضية بعد انتهاء المطر مع "أشريا" لتبيت معها ببيتها، حمل "أنس" حقيبته وتبع "كلودة"، خرجًا معًا حيث كان "كُومبو" ينتظرهما، حوارات لطيفة تبادلوها معًا عرف منها بعض المعلومات عن الحياة في أرجاء القرية. أفطر سريعًا وتناول قدحًا من مشروب ساخن لطيف مع "كُومبو" الذي أسرع نحو دكان العطارة، بينما انسل "كلودة" وصعد السهول ليجمع عشبًا ما! هكذا أخبرهما قبل أن ينصرف. جلس "أنس" أمام الدار والأفكار تتناطح في رأسه، كان قد أخبرهما أنه سيعود مرّة أخرى لتلك الغابة، لا بدّ من استرداد كتابه، ما زال يخفي اسمه عن الجميع كما نصحته العجوز "ناردين".
, كان البيت على أطراف القرية، مشّط "أنس" المكان بعينيه وجلس يتساءل في نفسه، لا يرى أيّ مظهر من مظاهر التقدّم هناك، لا أجهزة، لا سيارات، لا تلفاز! الصقور تنتقل إلى مدينته وعالمه الذي يعيش فيه، وها هو هنا، فهل انتقل أحد من أهل المملكة أيضًا إلى نفس المكان؟
, وأين تقع تلك المملكة؟
, لعله حلمّ، رفرف هذا الاحتمال في أعماقه لكنّه لم يرح نفسه، بل زاد من توتّره.
, وصل إلى مكان حيث تأكد ألا أحد يراه وأخرج خنجره وحركه في الهواء وقال وعلى وجهه استقرت نظرة تصميم:
, - الغابة
, انبثقت الفجوة تتلاعب في الهواء بألوانها المائجة في بعضها فوثب فيها وانتقل للغابة في الحال، اقترب من شاطئ النهر الذي ينحدر مصبه جوار الجبال البعيدة خارج الغابة ثم يقتحمها ويشقها حتى نهايتها، وبدأ يسير موازيًا له، كان لون الماء الأخضر يسرق نظراته، راقب انعكاس صورته في الماء، كانت الملابس الجديدة رغم غرابتها تليق به، عدّل من قميصه بينما كان يسير، فور أن خطت قدماه أرض الغابة والتي كان النهر يشقّها من بدايتها لنهايتها تغير انعكاس صورته في الماء فجأة! تسمّرت قدماه بالأرض! انقطعت أنفاسه عندما رأى انعكاس صورته في الماء، كانت الصورة لصقر أبيض! كان الصقر يسير موازيًا لخطوات "أنس"، تراجع "أنس" للخلف فتراجع الصقر معه، عادت صورته العادية عندما لامست قدماه الأرض خارج الغابة! وكان هناك تحت قدميه خط واضح يميز أرض الغابة عن الأرض خارجها.
, عاد وخطا للأمام فظهرت صورة الصقر مرّة أخرى، وكأنّه يتقدّم موازيا له! رفع ذراعه اليمني فرفع الصّقر الجناح المقابل لها، لوّح بذراعه اليسرى فرفرف الصقر بجناحه المقابل، تراجع للخلف حتى اختفت الصورة، ثُمّ عاد وتقدّم للأمام فظهر الانعكاس مرّة أخرى، قرّب رأسه فبدأ انعكاس صورة وجه الصقر يزيد كلّما اقترب "أنس" بوجهه من صفحة الماء٣ نقطة همس لنفسه بفزع:
, - أنا صقر!٣ نقطة صقرٌ أبيض!
, ثُمّ تمتم محدّثًا نفسه:
, - لا يُعقل أن يكون الصقر محبوسًا تحت الماء!
, مدّ يده في الماء وغمسها فيه وحرّكها، كان الماء باردًا وخفيفًا، تــــــــــــــــــــلاعبـــت
, صورة الصقر على صفحة الماء واهتزت لكنّها لم تتغيّر، انحنى وهو يحدّق في عيني ذاك الصقر الأبيض الذي يطالعه ورفع كفّه الممتلئة بالماء وشرب منه، كان مذاق الماء شديد العذوبة، ما زالت صورة الصقر الأبيض تنعكس على الماء، يشرب كما يشرب، يتحرك كما يتحرّك.
, تلفّت حوله وبحث عن غصن شجرة، عثر على غصنٍ طويلٍ فأمسكه وعاد لشاطئ النهر، كانت المياه تتدفّق نحو الشمال، غرسه في الماء ليقيس عمقه فابتلع النهر الغصن وسحبه بقوة من يده، تعجّب وعاد باحثًا عن غصنٍ آخر وتكرر الأمر، في المرّة الثالثة وبينما يضع الغصن بحرص في مكان آخر جذبه شيء ما بقوّة شديدةٍ فسقط في النهر، سحبته تيارات الماء بقوةٍ إلى أسفل وكان يقاوم بينما تشكّلت حوله دوامة جعلته يغوص في الأعماق، كأن هناك ضوءًا ينير قاع النهر، ابقى عينيه مفتوحتين كعادته عند السباحة، ولأنّه اعتاد على كتم أنفاسه لدقائق طويلة لم يشعر بضيق في التنفس، تلفّت حوله باحثًا عمّا جذبه فلم يظهر له شيء، بدأ يحرّك جسمه نحو الضوء، شيئًا فشيئًا بدأ يقترب من مصدره، كانت هناك فتحة دائرية تحفّها الطحالب الخضراء من كلّ جانب، أدخل رأسه فيها فأذهله المنظر الرائع فدخل في الحال وبدأ يسبح للأعلى فالأعلى حتى رفع رأسه فإذا هو في مغارة غطت جدرانها الطحالب الخضراء المضيئة، صعد على الأحجار واقترب يتحسسها بيده، أراد أن يقتطع جزءًا منها فمدّ يده واستلّ الخنجر الذي كان يخفيه في حزام بنطاله، بدأ يقطع الطحالب فإذا بها تسقط بين يديه تباعًا وكأنّها متصلة برباط واحد! ليظهر خلفها كتابات غريبة على الجدران، بدأ يزيل بقاياها واحدة تلو الأخرى وانهمك في الأمر حتى خلا الجدار من الطحالب، تراجع للخلف فإذا هي عبارات مكتوبة بلغة غريبة، كان بينها رموز مرسومة لم يدرك كنهها، تمنى لو أنّه يستطيع قراءتها، لكنّه لم يتمكّن.
, على يمينه كان هناك ممرّ طويل، استند إلى الجدار ورفع رأسه ونظر بتأنٍ وكأنّه يدرس طوبوغرافية المكان، تناهى إلى سمعه أصوات عجيبة، وكأنّها أحاديث مبهمة يتردد صداها في جوف الممر! سار فيه لمسافةٍ قصيرةٍ وكانت الطحالب الخضراء على الجدران تنير الطريق، توقف حيث بدأت العتمة تغشى الممر، وإذا بضوءٍ يشع من حقيبته، أخرج الكيس الجلدي الذي وضعه الجدّ من حقيبته، إنّها قطع الكريستال! والتي كانت قد تحولت لقطع من الفحم عندما داهمه اللصوص في الغابة، وها هي قد عادت لحالتها الأولى تبرق من جديد!
, أمسك واحدة منها فازداد توهجها وأنارت الممر، سار حتى بدأ وهجها يخفت بالتدريج فاستبدلها بأخرى، شعر أن ذاك الممر لا نهاية له، كانت هناك فتحة علوية يتسلل منها ضوء الشمس، على الجدار كانت هناك بروزات حجرية على مسافات منتظمة وكأنّها دَرج يُستخدم للصعود تجاه تلك الفتحة، تسلّقها في الحال واقترب من الفتحة، كان غطاء الفتحة مصنوع من خشب غليظ وقويّ، صنع بإتقان بحيث يعلو فوق سطح الأرض بمساحة ضئيلة جدًا لا تظهره بينما على جانبيه كانت هناك فتحة مستطيلة ورفيعة تتيح للناظر مراقبة الطريق ورؤية من يقف فوق رأسه بوضوح، رأى "أنس" فتاة جميلة تجلس وتغنّي بصوت خفيض، تتلفّت يمينًا ويسارًا وكأنّها تنتظر وصول شخصٍ ما! وثبت من مكانها فجأة فظنّ "أنس" أنّها انتبهت لوجوده تحت قدميها، لكنّ الشاب الذي اقترب من مكانها كان هو سبب وثوبها فرحًا بقدومه، قالت وعيناها تقطران حبًا وشغفًا:
, - كنت أعلم أنّك لن تصبر وستأتي في نفس الموعد؟ هل تخلصت من الهدية؟ وهل أنت بخير؟
, أومأ برأسه ففهمت أنه قد تخلّص منها، ثُمّ تراجع وجلس يلهثُ كفرسٍ جريح وقال:
, - أنا بخير، وددت فقط أن أخبرك بشيء هام.
, ابتسمت برّقة وقالت بصوت متهدّج:
, - خشيت ألّا أراك مرّة أخرى.
, سار مبتعدًا وقال بصوت يشوبه القلق:
, - قد لا ترينني مرّة أخرى بالفعل.
, أغلقت فمه بيديها على الفور، ثم قالت :
, - لا تقل هذا٤ نقطة أرجوك.
, عانقته بينما كان يقاومها ويبعد يديها عنه وفجأة! قطع حوارهما نداءٌ من فتاة أخرى تغطي وجهها بطرف خمارها وتصيح في فزع:
, - مولاتي٢ نقطة مولاتي.
, أسرع الشاب بالهروب وبقيت الفتاة مكانها تتلفّت في خوف، نظر "أنس" تجاه الشاب قبل أن ينصرف وتمعّن في وجهه، إنّه٤ نقطة"كلودة"٢ علامة التعجب والذي كان قد بدأ يظن أنه ملاك يسير على الأرض!
, كان "أنس" يشعر وكأن هناك من سكب معينًا من الماء الساخن فوق رأسه، كانت دماؤه تفور وتغلي، أراد أن يصرخ ويقفز فوق الأرض فيحطم رأس "كلودة"، اقتربت جارية من تلك الفتاة وأخبرتها أن تسرع إلى القصر، فالأميرة "نَبرة" تطلبها في الحال!. بعد انصرافهما حاول أنس أن يزيل الغطاء ليصعد من الفتحة لكنّه لم يتمكن من رفعه، عاد لسيره داخل هذا الممر العجيب.
, وجد "أنس" فتحة ضيقة يبدو أن هناك من سدّها بالحجارة، بدأ يزيلها واحدة تلو الآخرى بحرص شديد، عندما أزاح بعضها وأصبح من السهل أن يدخل رأسه ليرى ما وراءها ألقى واحدة من قطع الكريستال فسقطت على الأرض وتوهّجت بقوة فأضاءت المكان، تملكته الدهشة عندما وجد غرفة مستديرة تبدو كأنها نُحتت في جوف صخرة عملاقة، أزال باقي الأحجار الصغيرة ودلف الغرفة وقد تملكته الرهبة، وجد تابوتًا في صدر تلك الغرفة، وآخر عن يمينه، كان غطاء كل منهما يبدو كتحفة فنية رائعة، حيث وزعت النقوش العجيبة عليهما بشكل هندسي بديع وطعّمت بألوان زاهية، شذرات ذهبية كثيرة كانت منتشرة على الأرض هنا وهناك، وكأنّ هناك من حطّم شيئًا ما! فتح "أنس" التابوت يتوقع أن يجد مومياء، فأجفل عندمــــــــــــا رأى هيكــــــــــلًا
, عظميًا على صدره قلادة تشبه التي يرتديها! والتي جعلت "المجاهيم" يتركونه يمرّ بسلام، على وجه الهيكل العظمي كانت هناك بقايا قناع ذهبي محطّم، أدرك أنّ هناك من حاول نزع القناع أو ربّما نزعه وأعاده إلى مكانه فتسبب في تلك الفوضى، فضّل ألا يلمسه واتجه إلى التابوت الآخر، وكان أصغر حجمًا وكأنّ صاحبه أقصر طولًا، فوجد هيكلًا عظميًا آخرًا بلا قناع وبلا قلادة! تلفّت يمينًا ويسارًا فلم يجد ما يلفت نظره، كانت الغرفة خالية وباردة ومهيبة، تشبه القبر! أغلق التابوت الثاني، وعاد للأوّل فأغلقه، وقبل أن يخرج من الغرفة انطفأ بريق قطعة الكريستال فجأة، وشعر "أنس" وكأنّه يسقط في بئر سحيق، ابتلعه الظلام، ودارت رأسه فغاب عن الوعي لفترة لا يعلم قدرها! فتح عينيه فوجد نفسه في نفس الغرفة وقد غمرها النور، وأمامه يجلس رجل مهيب الطلعة له سحنة مريحة ونظرة هادئة وابتسامة وديعة، وعلى يساره يجلس رجلٌ قصيرٌ لم يرفع عينيه عمّا أمامه، فقد كان مشغولًا بالكتابة على أوراق البردي باهتمام شديد، اعتدل "أنس" وحاول أن يتحدّث لكن صوته لم يخرج من حلقه، رفع يده يتحسس عنقه ثُمّ فمه فلاحظه الرجل وقال شيئًا ما بلُغة لم يفهمها "أنس"، كان يرفع كفّه وهو يحدّثه، بدت تعبيرات وجهه مسالمة ومطمئنة، لكن "أنس" لم يفهم شيئًا من كلامه، اعتدل الرجل في جلسته وأقام ظهره، ثُمّ نصب عنقه وأغمض عينيه ووضع كلتا يديه على ساقيه، ثم ركز في عيني "أنس" وقال الكثير من الجمل، واحدة تلو الأخرى، كرّرها أحيانًا ثلاثًا، وبعضها كان يقولها وهو يشرحها بيديه، جملة منها قالها وهو يُمسك بالقلادة على صدره، وأخيرًا قال تلك الكمة التي قلبت حياة "أنس" رأسًا على عقب٣ نقطة "إيكادولي"٣ نقطة"إيكادولي"
, كررها كثيرًا ثُمّ اختفى كلّ شيء، وأفاق "أنس" من تلك الإغماءة التي أصابته، فوجد التابوتين على حالهما، فخرج من الغرفة وقد حفظ الكلمات، كان يكرر ما قاله الرجل بالتفصيل! وكأنّه طبع الكلمات بتلك اللغة الغريبة على ذاكرته ولقّنها له! شعر بإرهاق ذهني كبير، فأخرج خنجره وحرّكه في طبقات الهواء، قرر أن يعود من حيث أتى وبطريقة سريعة فسلك فجوة فتحها بخنجره كما فعل من قبل وانتقل إلى سطح ماء النهر، جلس منهك القوى، كان الماء لا يزال يقطر من جسده، سار لمسافة قصيرة مخلفًا وراءه غدرانًا صغيرة من الماء على الأرض، وصل أخيرًا إلى جذع شجرة مقطوعة فجلس عليه يلتقط أنفاسه.
, لا بدّ أن يعود لـ"كلودة" ويسأله عن تلك الفتاة! ولماذا يفعل هذا! كانت تلك الصورة المثالية التي رسمها لـ"كلودة" في ذهنه قد بدأت تتحطّم، ظنّه شابًا رائعًا في كلّ شيء، ولكن يبدو أنّه خبيث يظهر غير ما يبطن ويخدع الناس.
, انتشل نفسه من هذه الأفكار،وبدأ يفكّر في العبارات التي حفظها ويكررها
, وهو لا يفهم كنهها، والكتابات الأخرى التي رآها على الجدران في المغارة، خلع قميصه ليعصره فأزال القلادة عن عنقه دون قصد منه فلمح طيفًا فأسرع يرتديها مرّة أخرى، كان زعيم "المجاهيم" الذي انشقت عنه الأرض و اقترب منه قائلًا:
, - انتبه لقلادتك لتحمي نفسك، ما زال أحد رجالنا غاضبًا منك لأنّك أخرجت الفتاة والرضيعة من الغابة وألبستهما القلادة، وحافظ عليها إكرامًا لجدّك "أبادول"
, ردد زعيم "المجاهيم" لقب الجدّ بإجلال وهو يضع يده على صدره، استدار لينصرف٣ نقطة فأسرع "أنس" ينادي عليه ويستمهله، سأله عن تلك الغرفة التي عثر عليها أسفل النهر، والقلادة التي رآها على صدر الهيكل العظمي داخل التابوت، وذاك الرجل الذي رآه فيما يشبه الغفوة السريعة، قال زعيم "المجاهيم" بعد أن أنهى "أنس" كلامه:
, - إنه تابوت الأمير "أواوا"، كان هنا منذ وقت طويل جدًا، هاربًا من عمّه ومعه خادمه المخلص "سربل"، دلفا إليه من خلال فتحة في أرض حديقة قصر عمّه، ما زالت الفتحة موجودة، وما زال القصر قائمًا حتى الآن، وما زال الظلم يسكنه، تتجدد جدرانه ويتجدد معها الحاكم الظالم في مملكة الجنوب، كنت أجلس دون أن يراني الأمير "أواوا" وأستمع إلى ما يمليه على خادمه من حكم وقصص، ورأيته يكتب على جدران ذاك الممر تحت النهر عبارات كثيرة.
, قاطعه "أنس" متعجبًا:
, - وهل كنت تفهم لغته؟
, - بالتأكيد! وقد أظهرت نفسي له ولخادمه، وتحدّثت معه، كان هذا قبل أن نسكن الأرض هنا، نشأت بيننا صداقة وأخبرته عن قصّة قومي وكان ينصت لي، عدت في مرّة من المرّات ووجدته مقتولًا هو وخادمة، فأحضرت تابوتًا له وآخر لخادمه، ودفنتهما كما كان يفعل قومهما، وألبسته قلادة تخصّني إكرامًا له.
, - حسنًا، سأخبرك ببعض العبارات التي سمعتها من شخص ما أظنه الأمير "أواوا"، رأيته فيما يشبه الرؤى عندما فقدت الوعي داخل تلك الغرفة أسفل النهر.
, وبدأ "أنس" يُكرر ما سمعه بتلك اللغة التي لا يعرفها! وكان زعيم "المجاهيم" ينصت إليه باهتمام ويترجم له، أخبره أنّ تلك هي لغة الأمير "أواوا"، اللغة النوبية الأصيلة، كان الأمير يطلب منه أن ينتبه لما هو قادم، فهناك من يطلبه ويطارده، وأن عليه ألا يقع في الفخّ. وطلب منه أن يهتم بالأرقام، ويسأل عنها ويتتبعها، فهي المفتاح لكي يصل إلى الحقيقة.
, لم يتمكّن "أنس" من تذكّر آخر كلمات الأمير "أواوا"، كرر الأمير عشر مرّات كلمة "إيكادولي" وتبعها بعبارات كثيرة وكأنّه يشرح شيئًا ما! لكنّ "أنس" لم يتمكن من إعادة إلقائها على مسامع زعيم "المجاهيم" ، انتهى اللقاء واختفى الزعيم بعد أن جدد تنبيهه لـ"أنس" بألا يخلع القلادة وهو يسير في الغابة، وعاد "أنس" لسيره بجوار النهر، ما عادت صورة الصقر الأبيض المنعكسة على صفحة الماء تشغله، ألفها كما ألف كلّ شيء غريب حوله، وكأنّه يعيش على أرض تلك المملكة منذ أمد بعيد.
, على غير العادة هبّت رياح دافئة فبدأت ملابسه تجفّ، وكأنّ الهواء يربّت على كتفيه ليشجعه على البقاء، والصمود.
, وفجأة٦ نقطة, خارج القائمة
 
١٦
الغابة


مرّ من أمامه سهم كاد يخترق صدغه، تخشّبت أطرافه، بينما خرجت منها صرخة عالية! وقفت أمامه مرتبكة وهي تضع يدها على فمها، هرولت نحوه وقالت بصوت يحمل قدرًا من الانفعال والدهشة:
, - آسفه، لم أنتبه لمرورك.
, - "مَرام"! ماذا تفعلين هنا؟
, - أتدرّب على الرمي بالقوس.
, رفعت قوسها واستدارت وأشارت بيدها لما تحمله على ظهرها، فرأى كنانة السهام وقد علّقتها على ظهرها.
, اقترب "أنس" منها ولاحظ ملابسها المتسخة وكأنّها قد تدحرجت للتوّ في الوحل! كسرت طرفها وكأنّما أشفقت أن ينظرإليها وهي بتلك الهيئة المزرية، فسكتت ولم تنبس ببنت شفة، كانت لديها نظرة شفافة كالبلور، تبدو تلك الفتاة على فطرتها نقية، حاول أن يتحدّث ليزيل عنها الحرج فثقل عليه ذلك، من دون أن يعرفها من قبل٢ نقطة بدأ يحسّ أنّ لديهما شيئًا ما يربطهما، وكأنّهما يقتسمان الوجع نفسه، أطرق مفكّرًا ثُم قال:
, - من أين أتيتِ بهذا القوس؟
, مدّته نحوه بلطف فأمسكه وبدأ يتفحّصه أمامها وهي تقول:
, - من شاب يمتهن صناعة الأقواس والسهام وأشياء أخرى، دكانه يقع قريبًا من بيت ٢ علامة اقتباسأشريا".
, رمقها سريعًا فلاحظ آثار الوحل على وجنتها، لاحت ابتسامة على شفتيه، يبدو أنّها لا تعلم أنّ وجهها ملطخ بتلك الطريقة، أخفى ابتسامته وسألها متصنّعًا الاهتمام وهو يعيده إليها:
, - ومن علّمك الرمي بالسّهام؟
, - "الصهباء".
, - ومن هي "الصهباء"؟
, - امرأة جلدة وقويّة البنية، التقيت بها بعد أن وصلت إلى المملكة، تدرّب معظم فتيات مملكة الشمال على الرماية.
, سألها باهتمام:
, - كم ثمن القوس؟
, - يختلف حسب حجمه.
, - ما اسم العملة التي يستخدمونها هنا؟
, أخرجت من جيبها كيسًا من الجلد يحتوي على بعض العملات الفضية، والذي كانت قد أعطته لها "أُونتي" قبل أن تعتقها وأعطته له وهي تقول بلطف:
, - لو التقيتَ بالمغاتير أوّلًا لأمَدّكَ "الزاجل الأزرق" بالمال، فالحوراء لا تترك محاربًا يمضي دون مال أبدًا.
, - أعطاني "كلودة" بعض المال بالفعل، وددت فقط أن أتأكد من اسمها، فقد اختلط عليّ الاسم، احتفظي بالمال، فأنا لا أحتاجه الآن، شكرًا لك يا "مَرام".
, "مَرام"! لقد نطق باسمها!٢ نقطة وقعت تلك الكلمة منه موقعا بليغًا في نفسها، فلم تذكر أنّها سرّت بكلمة قيلت لها من كلمات الإطراء سرورها بنطقه لحروف اسمها٢ نقطة"مَرام"! وكأنّها لم تعرف اسمها من قبل.
, أخرجت عملة من الكيس وقالت:
, - كِشتان.
, ثُمّ رفعت العملة أمام عينيها وقالت وهي تُحملق في الصورة المنقوشة عليها:
, - وتلك صورة أوّل محارب على أرض المملكة.
, انحنى "أنس" وحدّق في الصورة، كان كلاهما يركزّ على العملة، لولا أنّها حركت يدها فجأة فغرس شعاع عينيه دون قصد في عينيها فتلاقت نظراتهما مجددًا كيوم أمس على غير موعد، عيناه الواثقتان وفوقهما حاجباه اللذان لو زحفا قليلًا لاقترنا أصاباها بالارتباك، كانت تلك المرّة كافية لكي يلاحظ فيها لون عينيها الرائعتين، كما لاحظ أن تورم عينها المصابة قد خفّ وتغير لون الهالة الزرقاء حولها للون آخر، أشاح بنظره عنها، مرّت بذاكرته صورتها وهي بزينتها في السوق عندما رآها أوّل مرة، تعجب كيف كان متضررًا عندما رآها أوّل مرّة، وكيف الآن يجد في نفسه استحسانًا لها وهو يسترجع صورتها في مخيلته! استبعد الخواطر التي هجمت على رأسه متكالبة تزيّنها له! فالتفت وكأنّه ينفض رأسه، بات يشعر بالخطر لمجرّد قربها منه، هو غريب عنها فكيف يسير هكذا معها! لا بدّ أن يحفظها من نفسه.
, غمره شعورٌ غريبٌ فيه رهبةٌ وفيه ضيقٌ وفيه شىءٌ من الفرح! رمقها بطرف خفيّ ثُمّ قال:
, - هل واجهتِ متاعب في معاملاتك مع الناس هنا؟
, - بالتأكيد
, - هل لديهم بعض المعتقدات الغريبة؟
, - مثل؟
, - أي شيء! الناس يختلفون، مثلا قرأت أنه من الخطأ في إحدى البلاد أن تهدي زهورًا لشخص بعدد زوجي لأنهم يعتبرونه فألًا سيئًا ومزعجًا لأنها لا تهدى بعدد زوجي إلا في الجنازات فقط.
, - لكننا لسنا في تلك البلاد ولا في أي بلد تعرفها أنت من قبل.
, - نعم، ليتنا كنّا هناك٣ نقطة أو في أي مكان أستطيع فيه أن أخاطب أمي بالهاتف، فقد اشتقت إليها.
, - أتكره المملكة هنا؟
, - لا أدري، أشعر بمزيج من المشاعر، لكنني لا ريب أشتاق لأهلي.
, - ربما لو انتقل أهلنا معنا لكانت أفضل من عالمنا
, - نعم٣ نقطة ربما
, - أتدري يا "أنس"، بعض من التقيت بهم هنا يقولون إن قصص الحياة لا بد ألّا تدوّن، يريدون أن تكون الحياة على هوى من يعيشها، لحظة بلحظة، استمتع بحياتك فقط ولا تهتم بالماضي ولا تفكّر في المستقبل واغنم من الحاضر لذّاته فليس من طبع الليالي الأمان.
, سارت "مَرام" تجاه سهمها والذي استقر في جذع شجرة قريبة منهما لتقوم بنزعه مرّة أخرى، انزلقت قدمها وكادت تسقط في الوحل مرّة أخرى، أسرع "أنس" وحاول أن يمسك يدها قبل أن تسقط، اضطربت وأبعدت يدها عن يده وكأنّ نارًا ستلسعها فتراجعت إلى الوراء وعيناها الزائغتان لا تفارق وجهه. مرّت لحظات قبل أن تستعيد توازنها، قال وهو يجول بنظراته في المكان متفحّصًا أرضه:
, - لماذا تتمرنين في تلك المنطقة، وما حاجتك لهذا التمرين أصلا؟ الأرض زلقة! كانت تُمطر طوال الليل!
, تلوّن وجهها حياء منه، فقد جاءت تبحث عنه بعد أن أخبرها "كُومبو" عندما ذهبت تبحث عنه في دكان العطارة أنه سيقصد الغابة، فاشترت قوسًا وسهامًا وهرولت به نحو الغابة، كانت تخشى أن يرحل لمكان ما ولا تعثر عليه مرّة أخرى، وهي تودّ العودة لديارها سريعًا، قالت بانفعال:
, - كيف أتيت للغابة دون أن تمرّ عليّ لتصحبني؟ ألم نتفق على أن تعيدني اليوم إلى القصر؟
, - كنت سأمرّ عليك، أتيت على عجلٍ لأمر ما، وكنت سأعود
, ثُمّ قال وعلى وجهه تلوح ابتسامة:
, - تذكرينني بأختي "حبيبة"، تشبهك كثيرًا، نفس العصبية ونفس الطريقة في الهروب من السؤال
, - أيّ سؤال٢ علامة التعجب
, - ما حاجتك لهذا التمرين! ولم تلك المنطقة بالذات! أنت ضعيفة البنية ولا تحتاجين إلى قوس وسهم، حتى أنني حائر كيف أمضيت رحلتك مع كتابك هنا!
, قالت على استحياء:
, - لا أستطيع التوغل في الغابة وحدي أكثر من ذلك، هنا تحلّق الصقور فوق الأشجار وأستأنس بوجودهم، أمّا داخل الغابة فكلّما توغّلت قلّ الأصدقاء، أخشى أن يعود تجّار العبيد مرّة أخرى.
, - تجّار العبيد واللصوص يمرّون في الجهة الغربية من النهر، لا تخافي فنحن في الجهة الشرقية.
, ثُمّ تنهّد وسألها وكأنّه يسأل طفلة صغيرة:
, - لا بدّ أنّك تشتاقين لبيتك يا "مَرام"؟
, ترقرقت دمعة في عينيها وقالت بتأثّر:
, - نعم ٣ نقطةأوحشتني أُمّي كثيرًا.
, - ووالدك؟ وأشقاؤك؟
, - والدي توفاه **** وأنا صغيرة، وليس لدي أشقاء.
, - آسف.
, - لا عليك.
, أخرج خنجره وقال لها بجدية:
, - اسمعي، ذاك الخنجر أستطيع أن أنتقل به من مكان لآخر، انتقلت به لقصر "الحوراء"، كما انتقلت اليوم إلى الغابة بسرعة، سأفتح فجوة في الهواء الآن وأنقلك إلى القصر.
, كانت "مَرام" تحدّق في وجهه باستغراب، حرّك خنجره في الهواء وقال "قصر الحوراء" فانبثقت الفجوة المتلونة أمامهما، كانت الألوان تموج في بعضها البعض، وقفت "مَرام" مرتبكة أمامها، سألها "أنس":
, - سأدخل قبلك
, - لا تتركني وحدي هنا!
, - ادخلي إذن قبلي.
, - لا٣ نقطةلا
, - لا بدّ أن يدخل أحدنا قبل الآخر، هيّا يا "مَرام"
, - لا أستطيع دخول هذا الشيء! ربّما هو شيء خاص بك، وأنا أخاف!
, - هيّا يا "مَرام" سيختصر هذا الكثير من الوقت، بدلًا من أن نسير تلك المسافة الكبيرة
, - الأفضل أن نسير٢ نقطةلن أدخل هذا الشيء٢ نقطةمستحيل!
, قالت جملتها الأخيرة صارخة، كانت تبدو مرتبكة وخائفة للغاية، اختفت الفجوة فجأة وكأنّها كانت تنصت لحديثهما!، ران عليهما صمتٌ ثقيل ،كلاهما يتحرج من تواجده مع الآخر، لكنّهما يأنسان ببعضهما، أراد "أنس" أن يُخفف عنها، طلب أن يجرّب القوس، تناوله منها وقال مازحًا:
, - قوسك خفيف جدًا، يبدو كاللعبة!
, مدّت يدها إلى كنانة السهام وسحبت سهمًا وناولته له قائلة:
, - جرّب بنفسك.
, - أراك تقفين قريبًا من مرماكِ، الشجرة تبعد عنك عشر خطواتٍ تقريبًا.
, - لا أحسن الرمي إن ابتعدت أكثر من تلك المسافة.
, رفع "أنس" أحد السهام أمام عينيه وقال:
, - اخبريني يا "مَرام" ما معنى تلك الأسماء؟٢ نقطة"كلودة"، "أُونتي"، "أشريا"، "نَبرة"!
, ارتبكت "مَرام" عند سماع الاسم الأخير وسألته بارتياب:
, - "نَبرة"! أين سمعت هذا الاسم؟
, هزّ "أنس" كتفيه، فضّل ألا يخبرها عن النهر وما حدث فيه وقال مدعيًا اللا مبالاة:
, - سمعت أحدهم يذكر الاسم أمامي.
, دارت بعينيها في المكان وقالت وما زالت علامات القلق مرسومة على وجهها:
, - "كلودة" أي المولود بعد الشهر السابع وهو من أسماء الذكور الشائعة هنا، و"أُونتي" تعني القمر ليلة البدر، "أشريا" تعني الفتاة السمحة والحلوة، أمّا "نَبرة" فتعني٣ نقطة المرأة الجميلة، وكلّها أسماء نوبية قديمة.
, حرّك"أنس" كتفيه وقال:
, - الأشخاص هنا غرباء!، أشعر أنهم من بلاد مختلفة، يختلفون في الملامح والملابس! حتى البيوت تختلف!
, - كل قرية هنا تختلف تمامًا عن الأخرى.
, - وكذلك الأشخاص٣ نقطة أليس كذلك يا "مرام"؟
, رفعت "مرام" حاجبيها وقالت:
, - ربما اختلطت الأنساب، ومرّت سنون طويلة، ورحلوا من مكان لمكان٢ نقطة نحن نعيش الآن في مكان عجيب، هناك العديد من القرى حولنا، الغابة تعتبر شيئًا منفصلًا يهابون الاقتراب منها، لكن ما يحيرني هو تلك القرى.
, - ما بها!
, قالت "مَرام":
, - كل قرية تختلف عن الأخرى، لو دخلتها وتعاملت من سكانها ستشعر وكأنّك قد انفصلت عن القرى الأخرى وما فيها، حاول وجرّب بنفسك.
, - هل جرّبت أنتِ من قبل؟
, - بالتأكيد.
, - وماذا رأيتِ؟
, - لا أدري كيف أصف لكَ٣ نقطةلكنّها تجربة تستحق، وتبقى مملكة الشمال حيث قصر "الحوراء" أحبهم إلى قلبي.
, - ولماذا؟
, - لأنني هناك٢ نقطة أشعر بالأمان يا "أنس".
, - بالمناسبة، هل تعلمين يا "مَرام" أين نحن الآن؟، أين موقع تلك المملكة على الخريطة؟
, - لا٣ نقطة لا أعرف يا "أنس"٣ نقطة أشعر أحيانا أننا بين السطور، نُرفع ونُجرّ ونُكسر من أجل المعاني.
, ابتسم بسخرية ثُمّ قال:
, - إذن نحن في مملكةٍ لا محلّ لها من الإعراب.
, وضع "أنس" السهم في كبد القوس ورفع ذراعه بثباتٍ،باعد بين ساقيه
, وأغلق إحدى عينيه وركّز الأخرى على الهدف، جذب السهم بقوّة ثم كتم أنفاسه وتركه فجأة ليستقر في وسط بقعة سوداء كانت على جذع شجرة بلوط اتخذتها "مَرام" مرمى لسهامها، ابتسمت عندما رأت السهم وقد رشق فيها وقالت بإعجاب:
, - يبدو أنّك ماهرٌ جدًا يا "أنس".
, - المسافة قصيرة، لا بدّ أن أتدرّب على الرمي من مسافات أطول، ولكنني لا أظنّ أنني سأحتاج للقوس والسهام هنا! أليس كذلك؟
, - ربما تحتاجها، حاول أن تتعلم كلّ شىء في تلك المملكة.
, ثم تفحصت ملابسه بنظرة سريعة، كانت أطراف سرواله ما زالت مبتلّة، سألته بفضول:
, - هل سقطت في الماء؟
, - نعم.
, - أين؟
, - النهر الأخضر.
, - ماذا قلت؟
, - النهر الأخضر٣ نقطة ذاك النهر الذي يقطع الغابة، تعرفينه بالتأكيد!
, - اتبعني أرجوك.
, سارت "مَرام" بخطوات سريعة نحو النهر، بدت متحفزّة وزاولتها حالة نشاط فجائي، تخطّت الأشجار الكثيفة التي تفصل المكان الذي كانا يقفان فيه عن شاطئ النهر ووقفت على حافّته دون أن تلتفت لـ"أنس" الذي تبعها حتى وقف بجانبها ونظر كلاهما لانعكاس صورته في الماء، قالت بصوت خافت:
, - أرأيت!
, حملق في صفحة ماء النهر وقال بهدوء:
, - نعم رأيت، صقور بيضاء.
, - هكذا تظهر صورنا في الماء، صقور بيضاء، نحن المحاربون فقط من تظهر صورهم على سطح ماء هذا النهر بتلك الطريقة.
, - لماذا يا "مَرام"؟
, - لا أدري! أخبرتني "الحوراء" أيضًا أننا نستطيع التحليق والطيران داخل نطاق الغابة وحول الجبل الأحمر، وإن حاولنا وتدربنا سنتقن الأمر، لكنني لم أجرؤ يومًا على تلك الفعلة، حاولت القفز مرّة على درج القصر وحلّقت للحظات فراودني شعور بالخوف الرهيب، حاول أن تجرّب يا "أنس"
, - لا أظنني سأفعلها! ولن أجربها!
, - حاول أن تجرّب كل ميزة تعرفها عن نفسك كمحارب، فلقد فقدتُ الكثير من مميزاتي التي اكتشفت بعضها ولا أدري السبب!
, عاد "أنس" يحملق في صورة الصقر المنعكسة على سطح ماء النهر وسألها:
, - وماذا عن "الحوراء" و "الزاجل الأزرق" هل تظهر صورهما أيضًا هكذا؟
, - أتمزح! "الحوراء" وعشيرتها٢ علامة التعجب لا يجرؤ أحد منهم على دخول الغابة يا "أنس".
, - لماذا؟
, - يفقدون أبصارهم، لا يرون إلّا الظلام، وربّما يفقدون حياتهم، تلك الغابة قد تبتلع كل أهل المملكة في لحظة .
, - ولم أنتِ هنا إذن! ألا تخافين؟
, - كنت أخاف، وأرتجف، لم أجرؤ على دخول الغابة إلّا بعد أن شجعتني "قطرة الدمع".
, - ومن هي؟
, - أنثى الصقر التي أحضرتني إلى هنا، ألم ترها؟ إنّها زوجة "الرمادي".
, أشارت "مَرام" إلى وادٍ على أطراف الغابة بالقرب من الجبل الأحمر جهة الشرق، أخبرته أنّ "الرمادي" و "قطرة الدمع" يعيشان هناك في كوّة بالجبل، كانت المسافة طويلة، ترددا قليلًا قبل أن يقررا السير إلى هناك، فقد رفضت "مَرام" استخدام الخنجر للانتقال إلى هناك، ما زالت تخاف، كانت تأمل أن تحملها "قطرة الدمع" وتعيدها في الحال إلى ديارها. بعد نحو ساعة من السير وصلا إلى هناك. حلّق "الرمادي" فوقهما وشاركته "قطرة الدمع" واقترب كلاهما من "مَرام" و "أنس" ووقفا أمامهما يؤديان التحيّة، قال "الرمادي":
, - مرحبا "أنس" ، أتيت في الوقت المناسب، حمدًا لله أنّك عثرت على "مَرام".
, - مرحبا يا صديقي.
, قالت "مَرام" بتلهّف:
, - "قطرة الدمع" كيف أنتِ؟ وكيف هو جرحك؟
, أجابتها "قطرة الدمع" وهي تحرّك جناحها:
, - بخير كما ترين
, - هل ستعيدينني الآن إلى بيتي؟
, نكّست "قطرة الدمع" رأسها وقالت:
, - ليس قبل أن يصدر "سامي كول" الأمر المباشر لي يا "مَرام"، تعلمين أن الأمر ليس بيدي.
, - إذن احمليني إلى القصر
, - لن أستطيع
, - حتى القصر!٣ نقطة لماذا!
, - هذا أمر من الحكيم "سامي كول"، لن أحملك إلّا بتوجيه مباشر منه
, بدا الإحباط الشديد على "مَرام"، ولاحظ "أنس" ما أصابها، كان يرزح تحت موجة عنيفة من الشعور بالذنب تجاهها، أراد "الرمادي" أن يخفف عنهما فقال موجها كلامه لـ"أنس":
, - شاركانا احتفالنا بالزواج.
, لم يترك له "الرمادي" فرصة سؤاله! بل حلّق في الحال، التفت "أنس" نحو "مَرام" وسألها بتعجّب:
, - ألم تخبريني أن "قطرة الدمع" زوجته؟
, - بلى أخبرتك، وهي كذلك بالفعل، ولكننا نشهد احتفالا بطريقة ما، يعود الزوجان إلى نفس الموقع الذي عششا فيه كل عام، حيث يؤديان عرضا لمراسم الزواج ليُجددا الروابط فيما بينهما، وعندما يتودد الذكر إلى أنثاه يقوم بتقديم طريدة لها، ويتضمن هذا العرض عددا من الحركات البهلوانية واللولبية في الجو، بالإضافة لغطسات جويّة حادة، وكي تستطيع الأنثى أن تتلقى الطريدة فإنها تطير بطريقة عكسية وتلتقطها بمخالبها من قوائم الذكر.
, وقف "أنس" يراقب الحركات البهلوانية التي يقوم بها "الرمادي" حتى ينال رضاء زوجته، وتابعها وهي تشاركه التحليق برشاقة، علت وجهه ابتسامة واسعة، سأل "مَرام" عن سبب تسميتها بـ "قطرة الدمع" فقالت له:
, - لأنها من أسرع الطيور على أرض المملكة ، تبدو في هيئتها كقطرة دمع وهي تهبط على فريستها، تطير لعلوّ شاهق ومن ثم تقوم بغطسة جويّة حادّة وسريعة لتضرب بعدها أحد جناحي طريدتها كي لا تؤذي نفسها عند الاصطدام.
, مرّ الوقت وهما يتجوّلان في الغابة، بدأت بطن "أنس" تقرقر من الجوع وكذلك كانت "مَرام"، مالت الشمس للغروب واكتست الدنيا حلّة ذهبية بديعة. ودّعا "الرمادي" و"قطرة الدمع" وبدأت رحلة عودتهما، سألته "مَرام" باهتمام:
, - ما خطوتنا التالية؟ هل سنكمل الطريق إلى القصر الحوراء؟
, - نستطيع أن ننتقل إلى هناك في لحظة! فلنستخدم الخنجر وننتقل من خلال فجوة
, - لا٣ نقطةلا
, - سأعيدك سريعًا يا "مَرام" لا تخافي
, - ماذا لو خرجت منها إلى عالم ثالث لا أعرف كنهه ولم أجدك هناك! يكفي ما مررت به٢ نقطة يكفي، سنسير على الأقدام
, بدا عليه الضيق، فهي تصعّب الأمور:
, - حسنًا، فلنعد لأننا أقرب الآن إلى القرية منها للقصر، ونعود غدًا ومعنا بعض الطعام، وربّما نستعين بحصانين، أودّ أن أعيدك سريعًا حتى أعود للبحث عن الكتاب، لا بدّ أن أحصل عليه بأسرع وقت، حاولت الوصول إلى المكتبة العظمي كما أخبرتك، لكنني لم أصل إليها، ولست على يقين من وقوعه في يد الملك "كِمشاق"، ربّما ما زال مع اللصوص، ألم تسمعي عن ذاك الأمر وأنتِ هناك؟
, - إن أردت أن تسأل فاسأل "كلودة"، فله أصدقاء هناك بالقصر.
, - ماذا٢ علامة التعجب "كلودة"٢ علامة التعجب
, أدرك "أنس" أن المكان الذي رأى فيه كلودة مع فتاة من خلال تلك الفتحة في الممر قرب النهر الأخضر تقع في بلاط القصر وما حوله، كان يحدّق في الفراغ بينما أكملت "مَرام" قائلة:
, - اطلب منه أن يسأل أصدقاءه هناك عن الكتاب، بالمناسبة، لاحظت أنك تتجنب الحديث عن اسم الكتاب أمامه، وكأنّك تخشى أن يعرف عنوانه.
, - بالفعل هذا ما أفعله، حذّرتني السيدة "ناردين" من أن أخبر أحدًا بعنوان الكتاب، إلا من أثق به.
, ثُمّ أومأ إليها فشابت نفسها السعادة أنه يثق بها، وقد أخبرها باسم كتابه في بيت "كلودة" من قبل، أردف قائلًا بتأثّر:
, - هل أخبرتك "أشريا" عن الرضيعة التي عثرنا عليها في الغابة؟
, - لا
, - هلا سألتها عنها وعن حالها، وكيف ترعاها زوجة الخباز؟ يبدو أنها و أمها يتوليان رعايتها، فلم أر "كلودة" يحضرها إلى البيت، وكنت قد سمعته يخبر زوجة الخباز التي ترضعها أنّه سيعود كل ليلة ليحضرها لتبيت معه، لكنّه لم يفعل!
, - يا مسكينة!٣ نقطة حسنًا سأفعل، لكنني لم ألاحظ وجود رضيعة بالبيت!
, - سمعت أنّ "أشريا" ترفض الزواج من "كلودة" وهذا يُحزنه.
, رفعت "مَرام" حاجبيها في استغراب وقالت:
, - كيف هذا! لقد طلبها أمس للزواج بالفعل ووافقت، وقريبًا ستُزفّ إليه!
, استشاط "أنس" غضبًا، يبدو أن "كلودة" يتلاعب بتلك الفتاة الرقيقة، يخدعها ويطلبها للزواج ويتصنع الهوان والضعف ويخونها مع غيرها! وفوق هذا يظهر التنسّك ويكثر التسبيح وهو٤ نقطة٢ علامة التعجب
, أكملا سيرهما صامتين، سيسأله بالفعل عن الكتاب، وإن كان قد وصل للقصر أم لا، وسيسأله عن أشياء أخرى.
, عادت "مَرام" لدار "أشريا" وسألتها فور أن وصلت عن الطفلة الرضيعة كما أوصاها "أنس"، لكنّها أخبرتها أنها لا تعرف عنها شيئًا!، وأنكرت أمرها تمامًا!
, ظلّت "مَرام" تثرثر معها وكأنّها طفلة صغيرة وقد رجعت للتو من يومها الأوّل في المدرسة، كانت "أشريا" تراقبها وتُنصت لحديثها بفضولٍ، أدركت أنّ "مَرام" تُضمر الحبّ والإعجاب لـ "أنس"، عرفت ذلك من نظرات عينيها المنكسرة، وفلتات حديثها ونشاطها عند كلامهما عنه.
, عندما أرخى الليل عباءته المرصعة بالنجوم على سماء القرية كانت "مَرام" تجلس ساهمة في غرفة "أشريا" تلوم نفسها على تلك المشاعر التي بدأت تحاك في نفسها تجاه "أنس"، كيف تعجب به! وذاك يتعارض مع وعدها لأمّها أن تحافظ على قلبها، أدركت اليوم فقط أن لا سلطان لها على قلبها، لكنها بلا شكّ تملك أفعالها الظاهرة. عندما تسير معه غدًا ستحاول أن تصلح ما بنفسها من أمره، وذاك ما عجزت عن إصلاحه طوال اليوم وهي معه، ربما٢ نقطةلن تتكلم معه طوال الطريق! ولن تنظر إلى وجهه! أو ربما تطلب منه أن يستخدم الخنجر وتنتقل فورًا إلى القصر ثمّ إلى بيتها، لكنها تخاف هذه الفجوات التي تحرّك في الهواء! كانت تشعر أنّ قلبها يقفز من بين ضلوعها عندما تفكّر في "أنس"، جلست تتآكل في صمت.
, ٣ علامة استفهام
,
, - لماذا لم تمرّ علي في الدكان؟
, سأله "كلودة" عندما رآه يجلس أمام البيت وعلى وجهه تتمشى علامــــــــــــــات
, الضيق والغضب، لم يجبه "أنس" فظنّ "كلودة" أنه متعب أو محبط لأنه لم يعثر على كتابه بعد، قال يخفف عنه:
, - لا تحزن يا صديقي.
, رشقه "أنس" بنظرة جعلته يرتبك، تراجع خطوة وسأله باستنكار:
, - ما بك؟ ولماذا تنظر إليّ هكذا!
, - ما ذنب "أشريا"؟ أتخدعها وتزعم أنّك تريد الزواج منها وأنت تعشق غيرها؟
, - إذن أخبرتك "مَرام"! كنت أعلم أنّها لن تسترنا.
, - تستركما٣ علامة التعجب
, - أخطأت عندما طلبت الستر من بشر! والآن أنا أطلبه من ****.
, - عجبًا للناس يطلبون الستر وهم عاكفون على المعصية! أنت تخشى الناس ولا تخشى ****!
, - و**** أخشاه٢ نقطة و**** أخشاه٣ نقطة لكنني ضعفت! والآن تبت.
, - كاذب٢ علامة التعجب لم تخبرني "مَرام" أي شيء، رأيتك بعيني وأنت معها اليوم، رأيت بنفسي ولم يخبرني أحد، أين ذكرك وتسبيحك؟ ظننتك ناسكًا عابدًا!
, - ما رأيته اليوم كان آخر لقاء لنا!
, - أنت كذّاب! كنت تراودها عن نفسها وتراودك عن نفسك
, - "أنس"٢ نقطةأرجوك! أنت لا تفهم شيئًا، إن كنت هناك حقًا ورأيت، ألم تلحظ أنّها هي التي كانت تلقي بنفسها عليّ اليوم وكنت أدفعها! لقد أخبرتها أنّها لن تراني مرّة أخرى.
, ثم أردف وقد تظللت عيناه بالدموع:
, - "أنس"٣ نقطة رفقًا بي، رفقا بمن وقع في المعصية ثُمّ عاد، أنا الآن أعرف قيمة التوبة أكثر منك، لأنني وقعت في المعصية بعد أن استقام حالي ثُمّ ندمت وعدت، فتلك السقطة جعلتني على يقين أن الطريق الحق هو طريق التوبة.
, ثُمّ أجهش بالبكاء، فلزم "أنس" الصمت، ثُم قال بعد أن هدأ بكاء "كلودة":
, - الفضيلة التي فيك لا بدّ أن تنضح على أفعالك، يراها الناس كما يرون ظاهر ثوبك، كنت تظهر الصلاح وأنت تخفي المعصية.
, - لأنني غفلت، طلبت الستر فيها ونسيت أن أطلب من **** الستر عنها٢ نقطة أن تُحجب عني المعصية وأن يحول **** بيني وبينها، و**** لقد تبت وندمت، ساعدني أرجوك.
, وعاد لبكائه، وجلس "أنس" بجواره صامتًا ساكنًا وكأنّ على رأسه الطير، أطلّ "كُومبو" من خلف الباب على استحياء، كان يتنصّت على حديثهما منذ البداية، سار وهو منكّس الرأس تجاه صديق طفولته "كلودة" وجلس بعد أن أحاط كتفه بذراعه، ثم رفع عيناه تجاه "أنس" وقال بخفوت:
, - لقد تاب٢ نقطة أنا أعرفه جيّدًا وأعرف القصّة منذ بدايتها٢ نقطة رفقًا به و لا تعن الشيطان عليه!
, تفحّص "أنس" وجه "كلوده"، كان وجهه المتعب مصفرًا وحول عينيه محفور بهالتين من السواد، بدا جليًّا أنّه يعاني، بعد ردح من الزمن قال بهدوء:
, - لو علمت "أشريا" ستُهدر كرامتك على الأرض وتتمزّق هيبتك.
, انسحقت روح "كلودة" وقال بخفوت:
, - لن يخذلني ربي٣ نقطة حاشاه أن يرد قلبًا باليقين ناجاه.
, كانت ليلة عصيبة على "كلودة"، انصرف "كُومبو" وهو يطارد بومة بيضاء كانت تطوف بالبيت وتحلق فوق شجرة قريبة، قذفها بالحجارة فابتعدت في الحال، ظلّ "كلودة" يبكي طوال الليل حتى أن "أنس" أشفق عليه ورقّ لحاله.
, ٣ علامة استفهام
,
, كانت "مَرام" تمشّط شعرها بينما كانت "أشريا" تستعدّ للنوم، التفتت "مَرام" إليها وسألتها بفضول:
, - لماذا ترفضين الزواج من "كلودة"؟
, شردت "أشريا" قليلًا ثُمّ اقتربت من "مَرام" وجلست بجوارها ثُمّ تأبّطت ذراعها بلطف وهمست:
, - أنا أُحبّه لكنني أخاف!
, - من ماذا؟
, - كما ترين، لست ببارعة الجمال كما أنني لا أُحسن ما تفعله الفتيات في أنفسهن، حتى أنني لا أجيد الحديث مثلهن، لا أظنني سأعجبه، أخشى ألا أُرضيه إن تزوجته، فربّما يراني كالطعام الخالي من الملح والتوابل.
, صمتت "مَرام"، كانت صورة "أُونتي" وهي تتحدث عن "كلودة" لا تفارق ذهنها، ودّت لو لم تعرف عن علاقتهما شيئًا، فها هي الآن تجلس بجوار فتاة تُحبّه لكنها لا تعرف أنه خائن، فاجأتها "أشريا" وهي تهمس:
, - ربّما يكون قد وقع في حبّ فتاة بالفعل، سمعت الفتيات يهمسن بهذا.
, - معقول!
, تظاهرت "مَرام" بالتعجب، فأردفت "أشريا":
, - ما يحيرني هو تكرار طلبه للزواج منّي، لا أدري لماذا لا يتزوجها!
, أطبقت "مَرام" شفتيها، واستمرت "أشريا"في بوحها لها:
, - يظن بعض الشباب أن كل الفتيات مباحات، يستطيع أن ينظر، ويتأمّل، ويتفحّص، ويمزح مع تلك، ويحب تلك، ويحلم بتلك، وعندما يريد الزواج يبحث عن فتاة بعيدة المنال!
, زفرت "مَرام" بحنق وقالت:
, - عندك حقّ.
, قامت "أشريا" وبدأت تروح وتجيء في الغرفة وقالت:
, - لكن سلوكه قد تغير منذ فترة، أتعلمين تلك النظرة التي تقرئين فيها انكسار من أمامك، ذاك الشحوب الذي يكسو وجه من يتوقفون عن فعل الخطأ فيبدون وكأنهم يتعافون من مرض، الضعف الذي يصابون به، الهوان الحلو بعد التوبة، ذاك الضوء الشاحب الذي يحلّ شيئًا فشيئًا في وجه من يعود للصواب٣ نقطةلقد تغير "كلودة" صار لا يرفع حتى عينيه في وجوه النساء وهو يسير.
, - أتراقبينه؟
, على استحياء أجابتها:
, - من بعيد، أمي تسأل عنه أم "كُومبو"، فأمي سرّي وستري وهي تعرف خبيئتي، أما أنا فأدعُو له٢ نقطةوأراقبه من بعيد.
, ثُمّ تنهّدت وقالت بصوت تشوبه رنّة ألم:
, - ترى هل من الممكن أن تقرّ عينه بي يا "مَرام"إن تزوجته؟ هل سأعجبه؟ هل سيكون مخلصًا لي؟
, بقي السؤال معلّقًا في الهواء، فـ"مَرام" تخشى أن تخبرها بما تعرفه، قالت "أشريا" بثقة وكأنّها تجيب نفسها بنفسها:
, - ولم لا! أوليست التوبة تجبّ ما قبلها! سيشفى و**** قلبه، أليس كذلك يا "مَرام"؟ سيرضيه **** بي، وسيستجيب لدعائي٣ نقطة أليس كذلك؟
, أجابتها "مَرام" وهي تراقب تعابير وجهها البريء الصادق قائلة:
, - نعم حبيبتي٤ نقطة سيستجيب.
, بعد قليل نامت "أشريا"، أمّا "مَرام" فلم يغمض لها جفن حتى طلع الفجر، ظلّت الأفكار تدور في رأسها، صار معرفة بداية تلك الأفكار مستحيل، استسلمت أخيرًا للنوم فمهما فكّرت وحللت وخططت فهي لن تخبىء النجوم ولن تطفىء وجه القمر.
, ٣ علامة استفهام
,
, يومان والحراس يدورون في القصر كالنحل، يفتشون كلّ الغرف، وكانت البداية من غرفة "أُونتي" التي قلبتها الجواري رأسًا على عقب، فقد أشرفت "نَبرة" بنفسها على تفتيشها بينما كانت "أُونتي" وقتها في حديقة القصر، خرجت "نَبرة" من غرفتها كالإعصار تزوم وتزمجر، فهي لم تعثر على الكتاب، استبعدت أن تكون قد وصلت إليه فاتجهت وأخيها إلى تفتيش غرف الوزراء وكبار الحراس ظانين أن أحدًا منهم قد طمح وطمع للاستيلاء على الكتاب.
, في اليوم الأول وعقب مغادرة "مَرام" للقصر، أغلقت "أُونتي" غرفتها عليها في سكون رهيب، أعادت كلّ شيء لمكانه بنفسها ولأوّل مرّة في حياتها، لم تطلب عونًا من أحد حتى لا ينتبه أحدهم لغياب "مَرام"، لم يدخل عليها إلا جاريتها القديمة التي لاحظت غياب "مَرام"، أخبرتها "أُونتي" بالحقيقة، ونفحتها كيسًا ثقيلًا ممتلئًا بالمال لقاء صمتها وإخفائها للأمر.
, أرضى ذلك غرور الجارية وانصرفت على وعد بأنها سترسل إليها جارية جديدة أمينة تحفظ السر مثلها، هرولت خارجة من غرفتها فالأميرة "نَبرة" غاضبة والأولوية لإرضائها.
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٧
رائحة الحب


تحت شجرة البلوط، وحيث كانت تتلهف "مَرام" للعودة إلى منزلها، وقفت تنصت إلى "أنس" وهو يقول:
, - حسنًا يا "مَرام" سألقي بنفسي داخل الفجوة الآن وأعود من خلالها، راقبيني.
, دلف "أنس" والذي قضى وقتًا طويلًا يحاول فيه إقناع "مَرام" بأن انتقالهما من خلال الفجوة سيكون أسرع لها وأيسر له حتى يستطيع إكمال رحلته، استلّ الخنجر وأولجه في طبقات الهواء وحرّكه كما يفعل وذكر اسم قصر الحوراء، دلف إلى الفجوة فابتلعته واختفى من أمام "مَرام"! وقفت وحيدة تحت شجرة البلوط التي كانا يقفان تحت ظلالها، شعرت بوحشة رهيبة وخوف شديد، سكن كل شيءحولها فجأة، اختفى الشخص الوحيد الذي اطمأنت لأنه من عالمها، ظنّت أنّه سيوصلها إلى القصر ثُمّ تحملها "قطرة الدمع" إلى بيتها! كان يكفيها ما مرّت به، فهل هناك مزيد من المفاجآت في انتظارها! تذكّرت تجار العبيد، والسوق ونظرات الرجال لجسدها، وضرب الجواري لها في القصر، وتلك اللحظة التي قذفها فيها "أنس" بالحجارة في عينها، تحسستها بأنامل مرتعشة حيث كانت تؤلمها، تلفتت حولها ونادت بهمس على "أنس" ولما لم يأتها الرد انحنت وسحبت غصن شجرة غليظ وتأهّبت للدفاع عن نفسها، لقد رحل إذن وتركها وحدها، قررت أن تعود من حيث أتيا إلى بيت "أشريا"، لعلها تساعدها، اعتصر قلبها الذي أصبحت دقّاته كطبول الحرب وكادت تركض لولا أن الفجوة انبثقت من اللا شيء أمامها فأجفلت وأطلّ "أنس" منها مرّة أخرى، وقف يبتسم وحرّك كتفيه موحيًا إليها أنّ الأمر بسيط، وقال بهدوء:
, - أرأيت! ها أنا قد عدت سريعًا
, بوجه شاحب وشفتين هربت منهما الدماء ويدين تقبضان على غصن الشجرة وترفعه متأهّبة في الهواء وكأنّه سيف تقاتل به كانت "مَرام" مجمّدة كتمثال من الشمع، فوجيء بها تنهال على كتفه ضربًا بغصن الشجرة وهي تصيح بهستيرية:
, - لا٢ نقطةلا٣ نقطةلا
, كانت في حالة هياج وغضب شديد، أمسك "أنس" الغصن وجذبه منها بعنف فجرح يدها، فقدت تماسكها وتهانفت وتكورت على الأرض وغطّت وجهها بكفّيها وانفجرت باكية تنشج في حرارةٍ فوقف أمامها حائرًا، كان لا يحسن التعامل مع الفتيات! سألها متعجبًا:
, - لماذا تبكين؟
, قالت بصوت يخنقه البكاء:
, - كنت خائفة.
, تذكّر كيف كان يفعل والده مع أخته "حبيبة" عندما كانت تجهش بالبكاء فجأة، كان يتوقف عن الكلام معها ويربّت على كتفها بحنان ويحتضنها في صمت، وكانت تهدأ وينتهي كلّ شيء، لكنه ليس والدها! ولا يستطيع فعل أيّ من هذا، فماذا يفعل! سالت الدماء من كفّها فتلطّخ وجهها بمزيج من الدموع والدماء، كانت ترتجف، بدت له ضعيفة كالقشّة، لا بدّ أن يعيدها إلى القصر الآن، فهو لن يتحمل تقلّبات شخصيتها تلك، وليس الوقت مناسبًا لمرافقة الفتيات! ولعلّ "سامي كول" يأمر بإعادتها لبيتها في الحال، فليتخلّص من تلك الورطة، قطع "أنس" جزء يسيرًا من طرف قميصه وبلله بماء النهر حيث كانا يسيران بموازاته ومدّه إليها بلطف قائلًا:
, - امسحي وجهك فقد تلطخ بالدماء، ودعيني أربط لك جرح يدك.
, سحبت منه القماشة بعصبية ومسحت وجهها ثُمّ كفّها المجروح، كانت هناك شذرات من الغصن قد علقت بجرحها، بدأت تسحبها بحرص وعلامات الألم تلوح على صفحة وجهها ثُمّ قالت بصوت ممزق حزين:
, - كرهت تلك المملكة وتلك الغابة وهذا العالم.
, وعادت للبكاء، سألها وقد رقّ لحالها:
, - حسنًا يا "مَرام"، إن كنت ترفضين استخدام الفجوات وتخافينها سأسير معك، لا تخافي ولا تحزني، هيّا فنحن في أوّل النهار، وخذي هذا لتضمّدي جرح يدك.
, وقام باقتطاع جزء آخر من قميصه، وساعدها لتضمّد جرحها بحرصٍ شديد، وسارا معًا، كانت تلك المرّة الأولى التي يقترب فيها ذاك الحدّ من فتاة، وكان يراها فتاة لطيفة رغم بعض العصبية والكثير من البكاء، وربّما لأنه آلمها وجرحها مرّتين فهي تعامله أحيانا بعنف، لكنّه لم يقصد أبدًا أن يؤلمها، أراد أن يخبرها بهذا!
, رنا إليها فبدت له كندفة هشّة من غزل البنات لو أمطرت السماء عليها لذابت من فرط رقّتها، تتبعه كقطّة صغيرة تطلب الأمان، كانت خطوة منه تعادل خطوات منها، فهدّأ من سيره حتى لا يرهقها، راوده شعور جميل أنّه مسئول عنها، وراق له بشكل ما أنّها تخاف عندما يختفي، أو عندما تفصل بينهما أثناء سيرهما شجرة ضخمة، كانت تهرول وتبحث عنه خلفها تخشى أن يختفي مرّة أخرى. أصابه الضيق لأنه كان سببًا في بكائها، مزيج من المشاعر كان يختلج في صدره.
, توقف عن السير والتفت إليها وأخبرها أنهما سيجلسان للراحة قليلًا، جلست فورًا في صمت وكأنّها كانت تنتظر تلك اللحظة لكنها كانت تخجل أن تطلبها منه، فقد أرهقها السير، أخرجت من حقيبتها تفاحتين كانت "أشريا" قد أعطتهما لها ومدّت يدها إليه بإحداهما، تناولها منها وجلس يلقيها في الهواء ويتلقفها بيده ويراقب وجهها بطرف خفي، ثُمّ سألها بفضول:
, - كيف قضيت الفترة الماضية وحدك؟ حدثيني يا "مَرام" عن رحلتك وكتابك، هل كنتِ دائمًا خائفةً وتبكين هكذا؟
, أطرقت قليلًا وكأنّ ملاحظته جعلتها تتأمل حالها وما آلت إليه، قالت وهي تحملق في الأرض أمامها:
, - لم أكن بتلك الهشاشة، كان لدي شعور بأنني قويّة، لم أكن أشعر بالخوف كما أشعر به الآن، وكان للقائي بالمغاتير فور وصولي أثر كبير في نفسي، كانت "الحوراء" معهم، احتضنتني فور أن تركتني "قطرة الدمع" فشعرت وكأنّ شيئًا ما أحاطني فغمرني الشعور بالأمان، في الحقيقة راودني شعور جديد٣ نقطة ربّما روح المقاتِلة التي وصلت للتوّ لأرض المغامرات! شعور يشبه ما قرأت عنه دومًا في الروايات، سلّمتني "الحوراء" خريطة وبدأت رحلتي، سريعًا ما ظهرت كلمات كتابي عندما التقيت بالأميرة "هيلا"، كانت فتاة رقيقة وواثقة بنفسها تكبرني بخمس سنوات، لازمتها طوال الوقت، فقد استضافتني في قصرها وعاملتني كشقيقة لها، "هيلا" تعيش في منطقة تقع خلف مملكة الشمال، لم يكن لديّ خنجر مثلك، لكنني كنت أستطيع سماع أفكار الناس.
, - ماذا! تقرئين الأفكار!
, - لا٣ نقطة أسمع صوتها كما أسمع صوتك الآن، تلك كانت من مميزاتي ويبدو أنني فقدتها منذ انتهاء مهمتي، كنت أنصت إلى صوت أفكار من أمامي، فكنت أعرف الصادقين والكاذبين، وكان ذاك مرهقًا جدًا، كنت أعاني صراعًا نفسيًا عندما أرى على وجوه الناس وألسنتهم عكس ما يفكرون به، وفي النهاية وبعد أن انتهت مهمتي تأمّلت فأدركت أن **** ستر خواطرنا رحمة بنا، ولو بحنا لمن حولنا بكلّ ما نفكّر به كما هو ما طاب لنا العيش معًا، الحمد لله أنني فقدت تلك الميزة و أنا الآن لا أسمع إلا نفسي.
, ارتاح "أنس" حين تأكد أنها فقدت تلك الميزة٢ نقطة لا يدرِ لِمَ! وهرب من إجابة نفسه٢ نقطةأشار إليها لتقوم ليكملا حديثهما وهما يسيران لعلهما يقطعان الغابة قبل حلول الظلام، كانت تسير خلفه، وكلّما حاول أن يقدّمها أمامه ليطمئن عليها تتأخر خلفه لبطء خطواتها، فطلب منها أخيرًا أن تسير بجواره ففعلت، سألته على استحياء:
, - كم عمر أختك"حبيبة"
, - تصغرك بعام؟
, ثُمّ أردف بعد أن رنا إليها سريعًا:
, - وتشبهك كثيرًا.
, أخجلتها ملاحظته وارتبكت فتعلّقت بحقيبتها وقبضت عليها بقوّة وكأنّها تستمد منها الأمان وقالت:
, - لا شكّ أنّك تفتقدها
, - أفتقد كلّ شيء في حياتي، بيتي، وأهلي، رائحة عطر أبي، حضن أمّي، صوت جدي، دفء البيت، حتى ملابسي وهاتفي الجوال، ورفاقي، وحاسوبي.
, - وأنا أفتقد٤ نقطة الأمان.
, التفت إليها وقال بتأثّر:
, - "مَرام" سامحيني لأنني أوجعتك مرّتين
, - لا عليك، أنا أيضًا ضربتك بالغصن على كتفك كالمجنونة.
, قال مازحًا:
, - لكنك لم تؤلميني٣ نقطة أيّ محاربة أنت! وأين قوسك البلاستيكي الذي كنت تلعبين به في الغابة!
, لاحت على شفتيها ابتسامة خبّأتها بكفّها المضمّدة بجزء من قميصه، كانت كلّما رفعت كفّها وتأملته وهو ملفوف بشيء يخصّ "أنس" شعرت بارتباك، وكأنّه يمسك يدها بنفسه! سارت بجواره وفي صدرها يتلجلج صراع بين رفضها للسير مع شاب غريب عنها، وبين اضطرارها لهذا لتعود إلى القصر، فهي لم تختر تلك الظروف، هي مجبرة عليها لا ريب، بدأت تتمتم بالدعاء ألا يتركها ****، وأن يكفيها شرّ نفسها ونفس "أنس".
, قال وعلى وجهه ابتسامة مشرقة بينما كانا يعبران تحت أشجار الياسمين حيث هطل عليهما الياسمين وكأنّه يرحّب بهما:
, - أعشق رائحة الياسمين.
, قالت وهي تحمل بين كفيها حفنة من زهور الياسمين التي تراكمت على الأرض وتقرّبها من أنفها:
, - وأنا، ليتني أستطيع الحديث مع زهراته كما تفعل السيدة "ناردين" فهي تسمع أنين النباتات وتسبيحها وتنصت لحكاياها العجيبة.
, - معقول!
, - ألا تعرف قصّة السيدة "ناردين" مع الغابة هنا؟
, - لا
, - حسنًا٣ نقطة سأخبرك بها
, بدأت "مَرام" تقصّ عليه ما حدث مع السيدة "ناردين"، أشفق على العجوز عندما علم بما فعلته معها زوجة ابنها، وتعجّب عندما علم بحديثها إلى النباتات وكيف تنصت إلى أنينها وتحاورها، بينما كانت"مَرام" تحكي له عنها كان يقاوم ضجّة أحدثتها "مَرام" في عقله ووجدانه، طريقتها في الكلام راقت له، ذاك الهدوء وتلك السكينة التي حلّت عليها بعد أن انتهت تلك العاصفة التي أصابتها عندما اختفى من أمامها فجأة يعجبه، وهذا الضعف الأنثوي الرفيق الذي فيها أثّر في نفسه، وقارها واحتشامها أسَرَا فؤاده، أما دموعها فقد صوّبت تجاه قلبه الضربة القاضية! سألها وقد اقتربا من بيت "ناردين":
, - أتساءل هل ظهرت العبارات في كتابي أم ليس بعد!
, - لا أدري هل سيطلق كتاب "إيكادولي"سراح الكلمات وهو بعيد عن يديك يا "أنس" أم لا!
, - كيف كانت العبارات تظهر في كتابك؟
, - كان يهتزّ وأحيانًا يتحرّك في مكانه فكنت أنتبه، وكانت تنبثق الحروف تباعًا وكأنّها تُنقشُ بريشة ومحبرة حرفًا حرفًا على السّطر، أحيانًا كنت أشعر أن الكتاب يتنفّس وله قلب ينبض وهو يظهر الكلمات، تلك الكتب حيّة يا "أنس"!
, - كنت أفكّر أنه ربما يكون "كلودة" و"أشريا" هما بطلا قصّتي، أليس كذلك؟
, تمتمت بضيق ثُمّ قالت:
, - أرى "كلودة" لا يستحق أن يكون بطلًا لأي قصة حبّ!
, - لماذا؟
, تجهالت سؤاله حتى لا تضطر لفضح "كلودة"٤ نقطة ثُمّ قالت:
, - ربّما بطل قصّة كتابك هو "كُومبو" وفتاة أخرى! ولم لا؟
, هزّ كتفيه قائلًا:
, - أو ربّما "أُونتي" وأي شخص آخر!
, - لا تذكّرني بـ"أُونتي" أرجوك٣ نقطة
, - لماذا؟
, هزّت رأسها في ضيق وقالت:
, - لا شيء٢ نقطة فلننس أمرها.
, كانت العجوز "ناردين" تجلس أمام الكوخ وتستند بذقنها على كفيها المعقودتين فوق عكازها الذي أصبح صديقًا لا يفارقها أبدًا عندما تهلل وجهها وبرقت أساريرها من الفرح وهي تراهما يقتربان، أصابتها السعادة وتهللت أساريرها عندما رأتهما معًا، لم تتمكن من منع نفسها من الضحك بصوت عالٍ وكأنّها طفلة صغيرة سرّت بقطعة من الحلوى أهديت إليها، جلسا عن يمينها وشمالها بينما احتضنت كفّ "مَرام" بحنان فور أن رأت ضمادتها وجلست تسألها عمّا أصابها، ثمّ سألتهما كيف كان الطريق، وماذا حدث لهما حتى الآن.
, ٣ علامة استفهام
,
, مرّ الوقت لطيفًا حيث استأنست "مَرام" بالعجوز "ناردين" وكذلك سرّ "أنس"، وسعدت هي بزيارتهما، وقفت "مَرام" تودّعها، كانت العجوز تبكي، فتلك هي المرّة الأخيرة التي ستراها فيها، كانت قد ودّعتها من قبل بعد انتهاء مهمتها، وها هي لحظة الوداع تتكرر، وكانت "ناردين" تحمل همّ تلك اللحظات، فهي تشعر بالألم في صدرها عندما يغادرها من تحبّهم، تكره الوداع، سارت معهما قليلًا حتى أصبح الطريق أمامها مكشوفًا وحتى حدود الغابة، حيث كان الفاصل الحجري يحيط بالغابة، ابتعدا وكلاهما يتلفّت من آن لآخر ويلوح لها، وما أن لوّحت لـ"ناردين" آخر مرّة وفور أن خطت "مَرام" خارج الغابة شعرت وكأنّ سهمًا ناريًا يخترق رأسها، سقطت على الأرض وعيناها معلّقتان بالسماء، ثُمّ فقدت الوعي.
, صبّ "أنس" الماء المتبقي معه على رأسها لكنها لم تفق، تحسس نبض يدها ليتأكد أنها لم تفارق الحياة، ثُمّ حملها وعاد للغابة وأسرع وخلفه العجوز "ناردين" تجاه كوخها، وضعها على فراش "ناردين" التي أسرعت تربّت على جبهتها لعلّها تفيق، أحضرت زجاجة بها سائل نفّاذ الرائحة وقرّبته من أنفها فأفاقت "مَرام" وبدأت تسعل، كانت تشعر بدوار شديد، أخبرتهم أنها تشعر أنّ دماءها تغلي في عروقها، تحسست "ناردين" جبهتها ففوجئت بأنّ حرارتها مرتفعة! قامت تطحن عشبًا ما وأشارت لـ"أنس" ليحضر بعضًا من الماء وبدأت تذيبه في القليل منه، وسقتها منه شيئًا فشيئًا، بعد قليل بدأت "مَرام" ترتجف فدثّرتها العجوز وجلست تحنو عليها وتتمتم بالدعاء، وعندما بدأت المسكينة تتعرّق قالت "ناردين" بثقة وهي تطالع وجه "أنس" الذي استبدّ به القلق عليها:
, - ستكون بخير إن شاء ****
, قال مستغربًا:
, - لا أدري ما الذي حدث لها! كانت بخير!
, فتحت "مَرام" عينيها وطالعته بنظرة تعني ألّا تتركني وحيدة هنا، لم تتمكن من فتح فمها لتحدّثه، لكنه فطن لما ترمي إليه وقال يطمئنها:
, - لا تخافي يا "مَرام"
, أغمضت عينيها وخرج من الكوخ، جلس على الدرج الحجري يتفكّر فيما آل إليه الأمر الآن! اقتربت "ناردين" وربّتت على كتفه، همس إليها قائلًا:
, - هل أستطيع الذهاب إلى القصر دون أن تخبريها؟
, - نعم تستطيع، ولكنك ستعود إليها بالتأكيد، أليس كذلك؟
, - بالطبع سأفعل إن شاء ****، وددت فقط أن أسأل "سامي كول" عن شيء ما
, - سأغلق باب الكوخ علينا ولن أخبرها، فلا تتأخر، أراها تخشى أن تغادر وتتركها وحيدة
, - لا تقلقي يا أمي
, تأثّرت العجوز مرّة أخرى بندائه، لم يُدرك أنه يربّت على قلبها بتلك الكلمة٣ نقطة يا "أمي"! كانت نظراتها له تقطر حنانًا وهي تراقبه وهو يستلّ خنجره ويحرّكه في طبقات الهواء، انبثقت الفجوة تتلاعب وكأنّها تناديه، قفز داخلها بينما أسرعت العجوز ودلفت إلى الكوخ وأغلقت الباب، كانت "مَرام" تئن وترتجف وقد غمر العرق جبينها، فبدأت العجوز تربّت على كتفها بحنان.
, ٣ علامة استفهام
,
, كانت "الحوراء" تعلم بأخبار "أنس"، فالرياح تحمل إليها كلّ همسة تخرج من بين شفتيه، وقفت تنتظر وصوله وهي تطرق بأصابعها على الطاولة في قلق، ظهر أخيرًا فقامت فور أن رأته وسارت نحوه بخطوات سريعة، كان القلق باديًا على محياها:
, - كيف هي "مَرام" الآن؟ وما الذي أصابها؟
, - لا أدري! فور أن خرجنا من الغابة سقطت على الأرض، تركتها في كوخ العجوز"ناردين"
, - كان مُتوقعًا أن يحدث هذا
, - لماذا؟
, - أخبرني أبي أنها لن تستطيع الرحيل إلّا بعد استعادة كتابك، كلاكما شريكان في كتاب "إيكادولي" بطريقة ما، حتى لو وافقت أن تنتقل معك من خلال الفجوات كنا سنعيدكما إلى القرية، وددت أن أخبرها هذا بنفسي لأخفف عنها فهي تثق بي وأنا أعلم كيف تشتاق الآن للعودة لديارها ولأمّها، لكن يبدو أنّها صارت ضعيفة جدًا بعد أن فقدت مميزاتها كمحاربة، أرجوك يا "أنس" عد إليها سريعًا، واعتن بها٢ نقطة أرجوك.
, - سأفعل ولكن هل من الممكن أن أطلب من الحكيم "سامي كول" أن يسمح لها بالعودة إلى بيتها، وسأتحمل وحدي مسئولية استرداد كتاب "إيكادولي"؟
, - للأسف يا "أنس"، لا تسير الأمور بتلك الطريقة، ليس أبي من يحدد
, - لقد تعبت "مَرام" وتعرّضت للكثير من الأمور، وهي فتاة رقيقة وضعيفة، أخشى عليها
, - إذن فلتحمِها وترعَها حتى تسترد كتابك
, - مولاتي٢ نقطة
, أغمضت "الحوراء" عينيها وكسا وجهها تعبير أدرك منه "أنس" أنه لا مجال للنقاش في أمر رحيل "مَرام"، كاد ينصرف لكنّه استدار وسألها:
, - هل من دواء لها أستطيع حمله معي على الأقل!
, ابتسمت "الحوراء" وقالت بثقة:
, - أنت في بيت طبيبة بارعة، "ناردين" ستعتني بأمر الدواء، لا تقلق يا "أنس"، عد الآن لتكون بجوار "مَرام"٣ نقطة أرجوك.
, استدار "أنس" بعد أن حيّاها، وأخرج خنجره بعد أن توقّف وتأمّله للحظات تذكّر فيها وجه جدّه وهو يسلّمه إليه ويخبره أنّه سيقطع به مسافات كبيرة! لم يفطن وقتها لهذا المعنى، لكنّه يدركه الآن، حرّكه في الهواء وعاد إلى الكوخ، حيث كانت "مَرام" ترتجف، طرق على الباب بخفّة ففتحته "ناردين" ودلف محتميًا من الأمطار الغزيرة التي سقطت فجأة، هذا المكان عجيب!
, اشتدّ البرد واشتدت قوة الرياح، البروق تنقدح في السماء، ستار سميك من المطر حجب الرؤية، انحنت الأشجار وتعانقت فوق سطح الكوخ تظلله وتبعد سيول الأمطار عنه، والتفت وشائج الأشجار وأحاطت بأركان البيت تمنع تسرّب الرياح من فتحات الكوخ، كانت النباتات تعتني بـ"ناردين" لسنوات طويلة، وها هي تعتني بها وبضيفيها، كانت "مَرام" تنتفض من آن لآخر فما زالت حرارتها مرتفعة، وكانت العجوز تغفو بجوارها وهي جالسة فتسقط رأسها فتنتبه وترفعه ثُمّ تعود فتغفو مرّة أخرى، بينما جلس "أنس" في ركن الكوخ مستندًا بظهره على الجدار. وبدأ يحدّث نفسه٢ نقطة
, عمرها ثمانية عشر عامًا! ما زالت "مَرام" في بداية مرحلتها الجامعية، لا شك أن خبرتها قليلة في معاملة الشباب، لهذا تصدّه وتعامله بنوع من العدوانية أحيانًا، ربّما هي ترى أنها هكذا تحمي نفسها كما تظن الكثير من الفتيات! تحتاج وقتًا لتنضج وتصبح أكثر انضباطًا في ردود أفعالها حتى لا تحرج من يتعامل معها، ولكنها تبدو فتاة خلوقة ومهذّبة و٣ نقطة جميلة، نعم هي جميلة، هكذا يراها، فهي تعجبه وتروق له، وعلى كلّ حال ذلك ليس حبًّا كما يقولون، فليس من المعقول أن يحبّها بتلك السرعة! لماذا يفكّر فيها كثيرًا! فليحاول الآن التفكير في طريقة يصل بها إلى كتابه، أما هي وبأي حال من الأحوال سترافقه طوال رحلته مع كتابه، ولكن٣ نقطةكيف سيتعامل معها؟
, كانت الأفكار تتناطح في رأسه وهو يراقب انعكاسات أضواء الشموع وهي تتراقص وتتشابك على الجدران، تكوّر على الأرض وتوسّد ذراعه واستسلم للنوم، فقد أخبرته العجوز أخيرًا أن حرارة "مَرام" قد انخفضت، وأنها تستبشر بكثرة تعرّقها لأن تلك علامة خير. دثّرته العجوز بغطاء من الصّوف، وعادت حيث كانت "مَرام" ترنو إلى "أنس" بعينيها الكليلتين.
, ٣ علامة استفهام
,
, على استحياء أشرقت الشمس وأقبلت زرقة السماء وفتّتت الغيوم فأضاءت أرجاء الغابة، نفحتهم بعض الدفء فأطلق الريحان عبيره الفوّاح، كانت نباتات الغابة تتألّق بخضارها الزاهي بعد أن غسلتها الأمطار طوال الليل، قالت "ناردين" وهي ترشف بتلذذ المشروب الساخن من كوبها الذي تحتضنه بكفّيها:
, - إذن أخبرتك "الحوراء" أن "مَرام" لن تغادر الآن، وستلازمك حتى تستردّ كتاب "إيكادولي"٢ نقطة غريب!
, - وما الغريب؟
, - عادة لكلّ كتاب محارب واحد يتدخل بطريقة ما حتى يمنع من يريدون تغيير محتوى الكتاب ليخدم أفكارهم الشاذّة
, - ترى٣ نقطة من يريد تغيير قصة كتاب "إيكادولي"؟
, - الكتاب عن الحبّ، هناك حبيبين، ربّما هناك من يقهرهما ويفعل الأفاعيل ليمنع اجتماعهما.
, وضع "أنس" كوبه برفق وقال:
, - أو قد يخطئان عندما تغلب الشهوة فوق الفضيلة، وتسقط الروح فيغلب الجسد!
, قالت العجوز وهي تتلذذ بالمشروب:
, - الحبّ فضيلة؛ جزء منها نولد به، فهي مغروسة في أنفسنا، وجزء آخر من تلك الفضيلة نجاهد لنصل إليه.
, قال "أنس":
, - من يحب الطعام سيشتهيه وسيجد لذّته في تناوله بأي طريقة، ولو تخلّى عن الفضيلة سيسرق الطعام! وكذلك من يحبّ ويعشق أيضًا سيجد لذّته في النظر إلى حبيبه بأيّ طريقة، ولو تخلّى عن الفضيلة سيسقط في الحرام."
, قالت "ناردين" وقد أعجبتها كلماته:
, - نحن لا نعرف ما تحمله لنا الأيام القادمة!
, هزّ "أنس" كتفيه وقال:
, - ليس الحبّ مقصورًا بين حبيبين فقط! قد يكون الحب من نوع آخر، حبّ ****، الأمومة والأبوّة، حبّ الصديق، وحبّ الخير كما يفعل المغاتير.
, كان الهواء عذبًا وكانت تنظر إليه بحنوّ، ابتسمت وقالت:
, - أنت شابٌ طيّب القلب يا "أنس"
, طالعها بإشفاق وقال لها:
, - وأنتِ أمٌ رائعة وحنونة.
, دنا منها وقبّل رأسها وأحاط كتفيها بذراعه، كادت العجوز تبكي، كانت تشتاق إلى ابنها الحبيب، أرادت أن تبوح لـ"أنس" ببعض مما حملته بين ضلوعها لسنين طويلة، لكنّ عطسة "مَرام" وهي تقف متدثّرة بشال "ناردين" وهي تستند برأسها على حافّة باب الكوخ انتشلتهما من حديثهما، هشّ "أنس" فور أن رآها أمام عينيه، قال برفق وهو يبتسم:
, - يرحمك ****!
, كان على وجهها ابتسامة متعبة، اقترب منها مع العجوز "ناردين"، والتي قالت بعد أن تمعّنت في عينيها:
, - أنت اليوم أفضل، سأعدّ لكما حساء شهيًا في الحال.
, أسرعت تجمع بعض الأعشاب والثّمار لتعدّه بينما كان "أنس" يحاول ترتيب الكلمات، لا بدّ أن "مَرام" ستحزن عندما تعرف أنها لن ترحل إلّا بعد استرداد كتابه، قال متلعثمًا:
, - لقد ذهبت إلى قصر الحوراء
, رفعت عينيها إليه ثُمّ كسرت نظرتها سريعًا، كان جفناها يرفّان من الحبّ، قالت تلومه:
, - تركتني إذن!
, - لم أغب طويلًا كما تعلمين، كما أنّك كنتِ مع السيدة "ناردين"، وأنا أثق بها
, ثبتت نظراتها على الأرض أمامها وقالت:
, - وأنا أيضًا أثق بها
, - المهم، أخبرتني "الحوراء" أنّ "قطرة الدمع" لن تتمكن من إعادتك إلى بيتك الآن يا "مَرام"
, - لماذا؟
, - لأن لك دورًا في كتابي، ولهذا كانت صورتي تظهر لك في كتاب "هيلا"، لا بدّ أن تبقي معي حتى أستردّه
, شدّت "مَرام" الشال على كتفيها وهزّت رأسها برفق ولم تثُر كما فعلت من قبل، كان ينتظر منها الهستيريا والصراخ في تلك اللحظة!، لكنّه رآها ساكنة راضية بما سمعته منه، حتى أنّها لم تسأله عن التفاصيل، ولم تسأله عن خطوتهما التالية، سألها باهتمام:
, - كيف هي يدك؟
, - ما زالت تؤلمني
, - آسف٢ نقطة أنا السبب!
, - لا عليك، بدأت أعتاد الألم
, انسحب بلطف وتركها وانضم يساعد "ناردين" التي كانت تحاول إشعال النار تحت القدر، ووقفت "مَرام" تراقبهما في هدوء شديد. كانت كل عظام جسدها تؤلمها، أرادت أن تعود للفراش لترقد وترتاح، لكنّها كانت تستمتع بمراقبتهما من بعيد، كانت العجوز سعيدة، فابتسامتها ومزاجها الرائق يمتعان الناظر إليها، وكان "أنس" يرفق بها ويكثر المزاح معها، يبدو أنّه أشفق عليها عندما علم بقصّتها، فصار يهوّن عليها ويقصّ عليها الطرائف مما أدخل السرور على قلبها، واهتزّت لتلك الأحاديث النديّة أشجار الياسمين وبعثرت عبيرها فاختلط برائحة الحب.
, ٣ علامة استفهام
,
, مر يومان، كانت "مَرام" أفضل حالًا، قررا أن يعودا إلى القرية، وجلسا ليخبرا "ناردين" التي أصابها الضيق عندما أدركت أن تلك اللحظات السعيدة مرّت وانتهت، كانت قد بدأت تأنس بهما، فهي تفتقد الشعور بهذا الجو الأسري الدافئ، مارست أمومتها خلال يومين بشكل عميق، كانت تستمتع بهذا وكانا يستمتعان بكلّ لحظة معها، راقبتهما كثيرًا وهما يتحاوران بهدوء، قبل انصرافهما وقفت أمامهما وقالت وهي تستند إلى عكّازها:
, - هو الوداع الأخير إذن هذه المرة٣ نقطة
, لم يتمكنا من التعقيب سوى بنظرات عاجزة مرتبكة ملؤها الأسى٢ نقطة
, قالت سريعا لتتخطى لحظات الحزن المؤلمة تلك:
, - ليس من الضروري أن تقطعا المسافة سيرًا على الأقدام
, ابتسم "أنس" وقال:
, - لا تحاولي، "مَرام" تصاب بالهلع عندما ترى الفجوات.
, - لم أقصد الفجوات التي تصنعها بخنجرك!
, - إذن ماذا تقصدين؟
, رفعت حاجبيها وقالت في كياسة:
, - النهر!
, سارت العجوز "ناردين" وسارا خلفها حتى اقتربا من ضفّة النهر الأخضر، وقفت تراقب الماء ووقفا خلف كتفيها وطالعت إنعكاس صوريتهما وتأملت الصقر الكبير على يمينها، وذاك الصقر اللطيف على يسارها وضحكت قائلة:
, - صقر قصير مصاب في جناحه، كم أنت قصيرة يا "مَرام"!
, ابتسمت "مَرام" وعادت تسألها:
, - كيف سنعود من خلال النهر؟
, ضربت العجوز الأرض بعكّازها فبدأت الرياح تدور ثُمّ دفعت سطح ماء النهر ليتدفّق بسرعة شديدة تجاه الطريق الذي جاء منه "أنس" و "مَرام" منذ يومين، كانت المياه تسير بسرعة شديدة محدثة تموجات تشكل أنصاف دوائر متوازية في اتجاه واحد، ضربت العجوز الأرض مرّة أخرى فتساقطت أوراق الشجر بكثافة وتحرّكت وكأنّ هناك أيادٍ تتلاعب بها وارتصّت فوق بعضها البعض وشكلت بساطًا أخضر فوق سطح الماء، أشارت إليهما وقالت بهدوء:
, - اصعدا فوق الماء وستنقلكما أوراق الأشجار إلى نهاية الغابة.
, قالت "مَرام" باندهاش شديد:
, - أتمزحين يا خالة!
, مدّت العجوز ساقها وخطت فوق البساط الذي شكلته أوراق الأشجار، استقرّت عليه وكأنّها تقف فوق أرض صلبة! وقفت تطالعهما وعلى وجهها ابتسامة واسعة، قالت تشجعهما:
, - تعاليا، هيّا سأسير معكما حتى نهاية الغابة
, صعد "أنس" فوق البساط، ومدّت العجوز يدها لـ "مَرام" التي كانت ترتجف وهي تنقل ساقيها، صرخت عندما بدأ البساط يسير بسرعة فوق الماء وتمسّكت بذراع "ناردين" كان الهواء البارد يصافح وجوههم ويموج بثيابهم، وثلاثتهم يضحكون وكأنّهم في مدينة الملاهي، منظر فردوسي بدا على الأفق أمامهم، وصلوا سريعًا إلى الجهة الأخرى من الغابة، قفز "أنس" وخلفه "مَرام"، والتفتا نحو "ناردين" التي لوّحت لهما وودعتهما ثمّ انطلق بساط الأوراق الأخضر عائدًا بها إلى حيث كوخها في أقصى الغابة، فهي لا تستطيع تخطي الحاجز الحجري الذي يحيط بها أبدًا.
, ٣ علامة استفهام
,
, دلفت "نَبرة" بخطوات متسارعة تكاد تشق الأرض بحذائها، كانت تجرّ ثوبها خيلاء وتسير بغطرسةٍ أمام أخيها"كِمشاق"، تجاهلت "حليم" كالعادة وقالت بغضب:
, - أين الساحر "قرجة"، أريده في الحال
, - أرسلت أستدعيه، اهدئي يا "نَبرة"، لا بدّ أن الكتاب في القصر، ألم تراودك رؤى عنه؟
, - لا ، عن المحارب فقط، كنت قد رأيته أكثر من مرّة مع ذاك الشاب، ما زال يقيم بداره، لم يظهر الكتاب معه بعد، لكن الرؤى لم تراودني منذ ليلتين، لا أدري أين اختفت البومة٢ علامة التعجب
, وجّه "حليم" كلامه إليها قائلًا:
, - ربما يظهره نهارًا، فأنت لا تراودك الرؤى إلا ليلًا.
, رمقته بازدراء وقالت:
, - المحاربون يديمون النظر في الكتاب ليلًا ونهارًا ليراقبوا ظهور الكلمات فيه، وذاك المحارب يحمل حقيبة لا يبدو أن الكتاب فيها.
, ثُم استدارت وأشارت بعنجهية إلى أحد الحراس وقالت:
, - احضروا الساحر "قرجة" حالًا
, انصرف أحد الحراس مهرولًا ليستدعي الساحر "قرجة" ذا الستة أصابع، والذي يخشاه الجميع، حيث كان يستعين بالجان ويقوم بأفاعيل يشيب لها الولدان، جلست "نَبرة" تفرقع أصابعها وتقرض شفتيها في غضب، لم يجرؤ أخوها "كِمشاق" على لومها فالكتاب قد سُرق من غرفتها وهي التي أصرّت على الاحتفاظ به عندها، لكنّه كان غاضبًا منها بشدّة.
, عادت لجناحها فإذا بجارية تهرول نحوها وهي تحمل عشًّا أحضره بستاني القصر من فوق الشجرة، كان يحوي صغار بومتها البيضاء، اتسعت حدقتاها وكانت في غاية الغضب، قالت "نَبرة" بحنق شديد:
, - ألهذا انشغلت عني تلك البومة الحقيرة!
,
, مدّت كفيها وخنقت الصغيرين داخل العش، كانت الجارية ترتجف وهي تراقب أنفاسهما وهي تتباطأ ثُمّ تنقطع، هرولت باكية وأعادت العش للبستاني الذي أعادة لمكانه في وجل وإشفاق، واختبأ مع الجارية يراقبان البومة المسكينة عندما عادت وقد فُجعت في صغارها., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
١٨
خوف


عاد "أنس" إلى دكان "كلودة" بعد أن ترك "مَرام" أمام بيت "أشريا" واطمأنّ أنّها دلفت إلى الدار بأمان، استقبله "كُومبو" بالعناق وكان في غاية السعادة بعودته، أمّا "كلودة" فبدا ساهمًا وكأنّ هناك ما يشغل فكره، حتى أنّه لم يسأل "أنس" عمّا فعله في الغابة، واكتفى بمتابعة حواره مع "كُومبو"، قرر "أنس" أن يبدأ رحلة بحثه عن كتابه، أخرج الخريطة التي أعطتها له "الحوراء" وعاد يتفحّصها بإمعان، كان يتفكّر في الأرقام المدوّنة عليها، ترى ما الذي تعنيه! حاول أن يجري بعض الحسابات ليربط بينها، اجترّ كلّ المعادلات التي درسها بالجامعة، لعلّه يفكّ تلك الشفرة، لكنّه لم يصل إلى شيء واضح ومحدد! يبدو أنّه سيعود إلى المكتبة العظمى، لا مجال لتأجيل زيارتها ليسألهم عن مصير الكتاب، بينما هو غارق في أفكاره فوجيء بها تقف أمامه! قال متعجبًا:
, - "مَرام"! ما الذي أتي بك إلى هنا؟ ألم نتفق على أن تبقي في دار "أشريا" ولا تخرجي إلّا للضرورة؟
, - أصابني الخوف
, - من ماذا؟
, قالت بصوت تخنقه العبرات:
, - لا أدري، أشعر أنني لن أعود إلى بيتي، لقد انتهى أمري وسأظلّ هنا للأبد
, - بل ستعودين إن شاء الله٢ نقطة ثقي ب****!
, - ونعم ب****. حسنًا٢ نقطة ماذا سنفعل؟ ما خطوتنا التالية؟
, - كما اتفقنا، سأحاول البحث عن الكتاب
, - إذن سأذهب معك.
, - لكنني سأذهب إلى المكتبة العظمى، وسأنتقل من خلال فجوة
, - ولم الفجوات! هل من الممكن أن نسير معًا؟
, - المسافة طويلة جدًا يا "مَرام"، لقد حاولت من قبل، كما أنّ المكان هناك مهيب ويكاد يكون خاليًا من البشر! هنا في القرية أنتِ بأمان، وكونك في دار "أشريا" سيجعلني مطمئنًا عليك عندما أغيب عن القرية، أرجوك عودي إلى هناك.
, قالت بتضجّر:
, - يبدو أنّك نسيت أنني كنت أعيش هنا وحدي قبل مجيئك، ووصولك لا يعني أنك وصيّ عليّ! لقد علقت معك رغم أنفي!
, ثُمّ استدارت وسارت بعصبية فلاحقها وسار بجوارها وقال يلومها:
, - ظننتك توقفت عن هذا!
, استدارت بعصبية وسألته:
, - ظننتني توقفت عن ماذا؟
, - عن الغضب فجأة وبلا سبب٢ نقطة كما تفعل أختي"حبيبة" أحيانًا! كُنتِ أكثر هدوئًا عندما كنّا مع "ناردين" في الغابة
, شعرت بالحرج منه، قالت بتلعثم:
, - لست غاضبة، أنا فقط٢ نقطة
, قاطعها قائلًا:
, - أعلم أنّك قلقة وخائفة، وأنّ فقدك لمميزاتك كمحاربة جعلك أكثر حساسية عن ذي قبل، ولكنك الآن مجبرة على التعامل مع الأمور كما هي، فهوني على نفسك، ودعيني أقوم بمهمتي وساعديني بأن تجعليني مطمئنًا عليك وأنا أؤديها.
, راقت لها كلماته البسيطة، وسارت بجواره تغمرها حالة من السكون الجميل، تحتاج من آن لآخر لبعض الطمأنة لا أكثر، فالوضع مربك وهي ترزح تحت ضغوط نفسية متشابكة. أعادها إلى بيت "أشريا"، ودّعها بعد أن وعدته ألّا تغادر البيت مرّة أخرى حتى يعود إليها. ثُمّ أسرع إلى أحد البساتين بعيدًا عن أعين الناس، أخرج خنجره وحرّكه في الهواء، انتقل إلى المكتبة العظمى، تكررّ الأمر! وتكرر ما حدث له مع الرمال المتحرّكة، كادت الرمال تبتلعه لولا أنّه فعل كما فعل في المرّة السابقة ليخلّص نفسه منها، سحبته الفجوة وعاد إلى بيت "كلودة"، يبدو أن الانتقال إلى المكتبة العظمي أصعب من الانتقال إلى كلّ الأماكن في تلك المملكة، كان متعبًا ومرهقًا ففضل أن يرتاح قليلًا، مكث هناك حتى عاد "كلودة" ليلًا، وكان لهما حديث طويل، استسلما بعده لنوم عميق.
, ٣ علامة استفهام
,
, ما زالت السماء مظلمة، لم يبسط الفجر رداءه كاملًا بعد! أفاق "أنس" على صوت الباب وهو يُغلق، وثب وتبع "كلودة" حيث خرج قبل أن تشرق الشّمس بدقائق، كان يسير نحو السهول متوجهًا للقصر للقاء "أُونتي"، لحقه "أنس" دون أن يشعر به وضربه على كتفه، أجفل "كلودة" واستدار غاضبًا، سأله "أنس" وعيناه تتهمانه:
, - هل عدت للقائها؟
, - أنا فقط أريد أن٣ نقطة
, هربت منه الكلمات، لم يجد ما يقوله!، سأله "أنس":
, - ألم تخبرني أنّك ندمت وتبت يا "كلودة"؟
, - كنت فقط أودّ أن أتحدث إليها لأخبرها أنني لم أقصد أن أجرحها أو أسيء إليها.
, - تشفق عليها٢ نقطة أليس كذلك؟
, - وأشعر بالذّنب الشديد، كان الصواب أن أصدّها من البداية.
, - لكنّك إن التقيت بها ستضعف وتعود.
, - لن أعود لذلك يا "أنس"، صدقني، أنا فقط٢ نقطة
, - انظر لنفسك! تستدرجك شهوتك لتنزلق مرّة أخرى.
, - لا٢ نقطةأنا ذاهب فقط لكي يرتاح ضميري ولست ذاهبًا لإرضاء شهوتي، اتركني يا "أنس" أرجوك.
, واستدار وترك "أنس" وأكمل طريقه تجاه القصر، لاحقه "أنس" وسبقه ووقف يعترض طريقه وقال وهو يمسك بكتفيه:
, - عد معي، وأغلق تلك الصفحة تمامًا، ولتنس أمرها وتسلّمه لله، هو يكفيها، وادع لها في صلاتك هي وكل من يخطئ، توبتك تحتاج منك أن تقطع صلتك بالماضي إلى الأبد، مجرّد عودتك إلى نفس المكان ستنبش الذكريات، ستضغط على بقايا علقت بنفسك ولم تزل بعد أدرانها، ما زالت روحك تتأرجح، فشدّها بعيدًا واضرب خيمتك في فلاة واربأ بنفسك عن هذا واستغفر واستعصم، وعضّ على بنانك إن استبدت بك الشهوة وأصابك الحنين إلى العودة إلى هنا.
, - أشعر أحيانًا أنني قوي، وأحيانًا أخرى أنني قبيح وقذر ونفسي متسخة٣ نقطة ولن أتغير أبدًا، وسأظل كما أنا، لن يغفر لي الناس، ستظل بقايا الماضي عالقة بي، وستطاردني.
, - المهم أن يغفر لك ربّ الناس
, - أخشى أن٣ نقطة
, - لا تكملها٣ نقطة ظن به خيرًا!، سيغفر لك، وسيستجيب، أتظن أن كلّ من حولك ملائكة! كلهم يخطئون ويذنبون يا "كلودة".
, - لعلهم يذنبون ذنوبًا خفيفة، أمّا أنا فخطئي أكبر! ابتليت في شهوتي يا "أنس"
, - كل الذنوب شهوات، شهوة جسد، لذّة جوارح مادية، تذوقها أعضاؤك فقط، أما روحك٣ نقطةفلها ملكوت آخر، جرّب أن تتلذذ وأشبع روحك بذكر ****، سيغادرك هذا الإحساس بالدونية، وستكون أقوى٣ نقطة جرّب.
, - وددت أن أكون إنسانًا فاضلًا يا "أنس"٣ نقطة ولكن فات الأوان!
, - من قال هذا؟ أن تكون فاضلًا تعني أن تكون إنسانًا طيّبًا ونقيًا، أَمِنَ الآخرون أذاه.
, - ويحب مكارم الأخلاق وتتمثل فيه، أنا أخطأت٢ نقطة كيف سأعود نقيًّا؟
, - لكنك ندمت! كلّ سيئة ستقلب برحمة **** إلى حسنة، وكل ظلمة ستضيء، وكل نكتة سوداء ستبيضّ، أنت بشر ولست نبيًا معصومًا، أنت تخطئ لكنك تداركت الأخطاء، قد تذنب، لكنّك تريد التوبة، يكفي أن يكون معظمك فاضلًا يا "كلودة"، لسنا ملائكة يا صديقي
, ظللتهما السكينة ووقفا للحظات، انتهى الكلام لكن معانيه لم تنتهِ، نفرت دمعة من عين "كلودة" فاستقبلها "أنس" بكفّه واحتضنه ثُمّ سار يتأبّط ذراعه نحو البيت، عاد كلاهما لفراشه لينعم بساعة يغفو فيها قبل أن ينطلقا للعمل.
, طرقات خفيفة على باب الدار أيقظته من غفوته، كان "كلودة" غارقًا في النوم عندما أفاق "أنس" وسار نحو الباب، فتحه فأصدر الباب أزيزًا غريبًا وامتلأت الدار بضوء ذهبي قويّ رفع "أنس" كفيه ليحجبه عن عينيه، خرج من باب الدار ليرى إن كان مصباحًا أو ماذا! اختفى الضوء فجأة وظهر أمامه الأمير "أواوا" الذي كان قد رآه من قبل في النفق تحت الماء، كانت عليه ثياب كتّانية مصبوغة بلون برتقالي فاقع ومحفورة بخيوط ذهبية على أطرافها، على رأسه كان التاج يومض تحت ضوء الشمس عاكسًا ألوان فصوص الياقوت التي تطعّم التاج، فغر "أنس" فاه وهو يتأمل هيئة الأمير الساحرة بقامته المديدة وملامحه المستضيئة، أجفل عندما رآه ينزع التاج عن رأسه ويركض وكأنّ هناك من يطارده، تلفّت "أنس" ثُمّ تبعه حيث دار خلف البيت وأسرع يختبي خلف جذع شجرة، رأى الأمير "أواوا" ينحني حيث كانت هناك كومة من الأغصان وبدأ يزيلها ثُمّ بدأ يحفر الأرض بأصابعه حتى تغبّرت رموشه وحاجباه و ملابسه، نفض يديه وأخرج صندوقًا خشبيًا وجلس بجواره وأخرج منه كتابًا ما، فتحه فدار وتقلّب في الهواء وانفصلت ورقاته وطارت في الهواء وحلّقت حول الأمير "أواوا"، عاد الأمير يكرر العبارات التي رددها على مسامع "أنس" في الممر تحت الماء بينما تدور الصفحات حوله، وبعد أن انتهى عادت تستقر بانتظام بين دفّتي الكتاب، أغلقه بحرص شديد وحمله وكأنّه يحمل رضيعًا وتأمّله بامتنان ومد يديه بالكتاب لـ"أنس"، تلاقت عيناهما فشعر "أنس" وكأنّ روحه تنسحب من بين جنبيه، استيقظ على صوت "كلودة" وهو يهزّه بقوّة ويقول له:
, - ما بك يا "أنس"؟ لماذا تشهق بتلك الطريق؟
, في تلك اللحظة، كان "كُومبو" يقف ويصيح عليهما بصوته الجهوري من أمام باب البيت، ولمّا لم يفتحا ركل الباب بقدمه ودلف بعينيه الضاحكتين، قال بمرح:
, - أعدّت أمي لكما إفطارًا شهيًّا، فطيرة محشوّة بالتفاح والعسل.
, في ثوانٍ معدودة كانت الغرفة تعبق برائحة الفطير الشهي، وثب "أنس" من فراشه، كان يشعر أن عظام جسده تكاد تتفتت، جلس ساكنًا كالصنم للحظات ثُمّ قال لهما:
, - سأعود بعد لحظات.
, خرج راكضًا ودار خلف البيت يتفحّص الأشجار، عثر على كومة الأغصان تحت شجرة جذعها عريض، أسرع "أنس" يحفر تحت الشجرة كما فعل الأمير "أواوا" في الحلم الذي رآه، انحنى وسحب صندوقًا ممتلئًا بالكتب، جلس والتراب يغطي رأسه وثيابه ثُم أخرج منه كتابه الذي يبحث عنه، لقد دلّه الأمير "أواوا" على مكانه!
, عاد بالكتاب لرفيقيه، فور أن رآه "كلودة" شهق وألقى الفطيرة من يده وقال:
, - إنّه كتابي٢ علامة التعجب
, - بل كتابي٣ نقطة "إيكادولي"
, - كيف عرفت مكانه٢ علامة التعجب
, - لن تصدّق٣ نقطة بعد أن عدنا غفوت لدقائق ورأيت رؤيا تدلّني على المكان تحت الشّجرة، دلّني عليها الأمير "أواوا"
, قال "كُومبو":
, - يا ****! إذن الكتاب من ضمن كتاباته العظيمة يا "أنس"!
, ارتبك "كلودة" وبدا عليه التوتر، لم يتخيل أن يكون الكتاب الذي أهدته له الأميرة "أُونتي" هو كتاب "أنس"، قال بتحرّج:
, - لم أكن أعلم، فقد أهدته لي "أُونتي"، وجدت صفحاته خالية فكتبت به! كانت تلك الهدية التي أرسلت إليّ مع "مَرام" لتطلب مني أن أتخلص منها.
, - إذن كانت "مَرام" قريبة من الكتاب وهي لا تعلم!
, قلّب "أنس" صفحاته فلم يجد شيئًا، تعجّب "كلودة" وأخذ يبحث عمّا كتبه فيه، ثُمّ قال متعجبًا:
, - كنت قد كتبت بعض الكلمات، لا أدري أين اختفت!
, أغلق "أنس" كتابه وقال:
, - الكتاب لا يقبل ما يكتب عليه، يبتلع الكلمات ويرفضها، ستظهر الكلمات تباعًا في وقت ما، هذا ما أعرفه!
, قال "كُومبو" بفمٍ ممتلئ بالفطير وكان يتابعهما بفضول شديد :
, - هكذا إذن تحدث الأمور، حسنًا أيها المحارب، ها أنت قد استعدت كتابك، فهل سترحل عنّا؟
, قالها وفي عينيه مسحة حزن تشي بأنّه قد تعلّق بـ"أنس" ويصعب عليه أن يغادرهما، قال "أنس" يلاطفه:
, - لا أيها السمين! سأبقى معكما وسأظل بالقرية حتى يسترد الكتاب كلماته.
, - لست سمينًا
, - ألست "كُومبو"؟
, - نعم أنا "كُومبو"!
, - إذن أنت سمين
, انطلق الثلاثة إلى دكان العطارة، كان "أنس" سعيدًا باسترداد كتابه،، ظلّ يشاكس "كُومبو" طوال الطريق، بينما البسمة المتعبة لم تغادر وجه "كلودة"، الذي كان يتعافى من الماضي، وقد بدأ يسترد روحه النقيّة، عاد يسبح، قال بصوت مكسور:
, - سبحانك سبحانك، ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله!
, ٣ علامة استفهام
,
, بأنف عريضٍ مثقوب تتخلله حلقة ذهبية رفيعة، وأذنين يتدلّى منهما فصّان من الياقوت الأحمر، وبوجه ضامر مغبّر تثقبه عينان ضيقتان، وعليه ثياب سوداء مشبوحة باللون الأصفر دلف الساحر "قرجة" وعلى رأسه قبّعة غريبة تنفر منها ضفائره المجدولة بحبال تتدلى منها أجراس صغيرة ، جلس أمام الأميرة "نَبرة" وقال بصوت أجشّ:
, - مولاتي الأميرة "نَبرة"
, كانت "نَبرة" تخافه لكنها تأبى أن تظهر هذا، لم تجرؤ على إطالة النظر إلى عينيه أكثر من ثانيتين، كانت تركز على أصابع يده الستة وهي تتحدث إليه قائلة:
, - أيها الساحر العظيم، أرسلت إليك لتساعدني.
, نظر إليها بعينيه المتلصصتين تحت حواجبه المرتعشة على نحو شائن وقال:
, - طوع أمرك مولاتي.
, - هناك كتاب ثمين يخصّني سُرق من غرفتي، وأنا أبحث عمن سرقه.
, مد "قرجة" يده فجأة وأمسك بيدها فانتفضت وركزَ عينيه في عينيها فارتجفت وراعتها نظراته، ترك يدها فتراجعت وقبضتها نحو صدرها وقالت له:
, - سأعطيك ما تطلبه، ودلني على السارق.
, صفّق "قرجة" فاقترب مساعده، ووضع إنائين أمام نبره، صبّ في أحدهما الماء، ووضع في الآخر طينًا أسود، وبدأ يتمتم بكلمات لم تفهمها "نَبرة"، ظلّ يرددها وكانت تشعر بالجو حولها يزداد حرارة، طلب منها أن تختار إناء وتحمله، حملت "نَبرة" إناء الماء فانسكب عليها، غضن الساحر حاجبيه ثم أغمض عينيه في غضب، صرخ صرخة ارتجّت لها أركان الغرفة، وأحسّت هي بأنّ هناك ألف إبرة رشقت في ذراعها، طلب منها أن تحمل الإناء الآخر الممتلئ بالطين الأسود، حملته بين يديها بحرص شديد، بدأ الساحر يحدّق فيه، وبدأت الصور تتمثّل أمام عينيه حيّة مرّة أخرى ورأى فتاة تفتش في خزانة "نَبرة" وتسرق الكتاب، كان ينتظر أن تستدير ليرى وجهها، وكانت "نَبرة" تتابع تعابير وجهه بتركيز شديد وتنصت إليه وهو يصف ما يراه من مشاهد أمام عينيه لتعرف مصير الكتاب، ولكنّ الطين الأسود ماج في بعضه ثُمّ تصلّب فجأة وتحوّل إلى حجر صلد، فشهق الساحر وأغمض عينيه، صاحت "نَبرة" بعصبية:
, - ما الذي حدث؟ من هي الفتاة؟
, أمسك الساحر بالإناء وسحب منه الحجر الأسود الذي تكون وقال لها:
, - أغلق الطين عينه!
, - ما هذا الهراء! أعد ما قلته ولتحضر المزيد من الطين وأخبرني إلى أين ذهب الكتاب؟
, - هذا الكتاب ليس لك.
, - وما أدراك؟
, - الكتاب مسروق من صاحبه.
, وقفت وسارت خطوتين ثمّ التفتت إليه وخلعت خواتمها وكلّ ما ترتديه من جواهر وألقتها أمام الساحر وقالت:
, - ولك المزيد، فقط دلّني على مكانه.
, - لن أستطيع
, - لماذا؟
, - منعنى "المجاهيم" من تتبع مكان الكتاب
, - ومن هؤلاء
, - قبيلة من قبائل الجان، يبدو أن الكتاب يهمهم، لماذا تريدين هذا الكتاب؟
, - أريده لأتمكن من السيطرة على المحارب، أريده٣ نقطة أتفهم؟
, رفع حاجبيه وقال وهو يرشقها بنظرة خبيثة:
, - يبدو أنّك تريدين المحارب لا الكتاب يا مولاتي!
, عضّت الأميرة "نَبرة" على شفتيها بغيظ، كادت تنصرف لولا أن "قرجة" قال لها بصوت يشبه الفحيح:
, - قد أساعدك في السيطرة على المحارب نفسه.
, - كيف؟
, - أحضري لي شيئًا يخصّه، واتركي الأمر لي.
, ٣ علامة استفهام
,
, أشرقت الشمس تكنس بقايا الليل، تنزع أدرانًا علقت بثوب الصُبح، فتنفّس تائبًا منيبًا، وأنار كلّ شيء بنور ****، صفحة من ليل بهيم ولّت تطوي ذنوبًا غسلتها دموع التائبين، نسمات الهواء تهمس شكرًا لله على ستره للخاطئين، فهو لم يفضحهم ولم ينزع الغطاء عنهم لأنه أراد أن يمهلهم ليتوبوا.
, كان أنس يتفحّص كتابه باطمئنان وهو يجلس في ركن هادئ بدكان "كلودة"، كان يتفكّر كيف ستظهر الكلمات، وكيف ستكون؟ هل هي قصة؟ أم مجموعة من النصائح والحكم في شكل قصصي؟ أم ماذا٢ علامة التعجب هو لا يحتاج الآن إلى الذهاب إلى المكتبة العظمى ليسألهم عن الكتاب، بل يحتاج لمخالطة الناس حتى يظهر أبطال قصّة كتابه، ألقى عصا التّسيار في القرية التي امتلأت طرقاتها بالغائدين والرائحين، مرّ الوقت فعاد وكان قد قرر أن يعاون "كلودة" و"كُومبو" في عملهما بدلًا من الجلوس معهما في الدكّان بلا فائدة، بعد يوم طويل مر الثلاثة ببيت أشريا"، دعتهم الأم الكريمة كعادتها لتناول الطعام، كانت تلك المرأة النوبية تجد متعة في الحياة الاجتماعية، مهما ازدادت مسئولياته لا تتأخر عن إطعام الطعام، أعدّت لهم "الكابد" حيث كانت تعدّه أحيانًا بعد أن يختمر ليتناولوه في الإفطار مع العسل واللبن، كانت تجيد صنعه من دقيق الذرة والشعير, كما كانت تطعمهم "الدوركد"، و"الشطيطة"، و "المرجيجة"، و"الشيلد"، والعديد من أصناف الأكلات النوبية الشهيّة.
, اقترب "أنس" من "مَرام" وأخرج الكتاب لتراه، قالت وهي تمرّ بيدها على غلافه:
, - يا إلهي! كان الكتاب قريبًا منّي طوال الوقت وأنا في القصر!
, - نعم وفي نفس الغرفة، وكنتِ تطلبين من "كلودة" أن يتخلّص منه! ماذا لو حرقه "كلودة" مثلًا!٢ نقطة تخيلي!
, - تلك الكتب تدافع عن نفسها يا "أنس" لا تقلق
, ثُمّ أضافت مقطبة جبينها:
, - إنها تشعر بكلّ شىء!
, - بالمناسبة، لا تخبري "أشريا" بأمر الأميرة "أُونتي" وعلاقتها السابقة بـ "كلودة"
, - لن أخبرها٣ نقطة
, - أعلم أنّك ساخطة عليه، لكنني أشعر أنّه و "أشريا" أبطال قصّة كتابي.
, - هو لا يستحق "أشريا"!
, - يا "مَرام"، "كلودة" كان قد اتخذ قرارًا بالتوقف عن رؤيتها من قبل أن تصلي إليه برسالتها، كما أنه كان سيرسلك شخصيًا لها لتخبريها بهذا.
, هزّت كتفيها وهي تجلس وقالت:
, - أوقال لك هذا!
, - نعم، ولكنّك أخبرتِه أنّك حرّة ولن تعودي للقصر
, أشاحت بوجهها وقالت:
, - أشك في صدقه
, - لقد ذهب بالفعل وأخبرها أنه لن يذهب إليها مرّة أخرى.
, كانت "مَرام" غاضبة وهي تنصت إليه، فقد رأت "كلودة" بعينها مع "أُونتي" وكانت تكره فعلهما حيث كانت مجبرة على الذهاب معها، لم تكن قد شهدت بكاء "كلودة" ولم تسمع كلامه الذي أثر في "أنس" و"كُومبو"، وعدته أن تكتم السر، بعد لحظات وبشكل فجائي انطلقت أم "أشريا" تزغرد في فرح فقد طلب "كلودة" الزواج من أشريا" مرة أخرى ووافقت أخيرًا الفتاة على الزواج! تذكّرت "مَرام" حديثها معها في غرفتها وأدركت أنّها قررت أن تقف بجوار "كلودة" وتثبّته وتتقبله بعيوبه لأنّها تحبّه، كانت "مَرام" ترى تلك مجازفة وحماقة! ما زالت "مَرام" لا تثق في "كلودة"، لكنها لا تستطيع أن تفتح فمها! اقتربت منها وهنأتها، وكذلك فعل "أنس" مع "كلودة"، وعادا إلى أماكنهما يتحدثان، همست "مَرام" لـ"أنس":
, - لماذا يفعلون هذا!
, - من هم؟
, - الرجال!
, - ما بهم؟
, - أترى "كلودة"! يعربد مع فتاة ويتزوج بأخرى عفيفة! أُشفق على "أشريا" لكنني لا أستطيع البوح لها بشيء.
, - شش٣ نقطة كفي عن هذا! لا تفضحيه!
, - لا أدري كيف تدافع عنه!
, - لقد تاب، وهو نادم على ما فعله بشدّة.
, غمغمت قائلة:
, - وما أدراك؟
, - أعرف، فأنا شاب مثله، مرّت أيام قليلة لكنّ ما شهدته فيها يكفي.
, - لا يوجد شاب بكر العواطف على وجه الأرض٣ نقطةلماذا لا تكون الزوجة أول حب لزوجها؟
, - وما أدراك أن كل الأزواج هكذا؟
, - لا أدري٣ نقطة مجرّد ظنّ.
, - أتحسبين أن أي خاطرة ترد على فكر رجل أو شاب تعتبر حبًا؟ الأمر ليس بتلك السهولة، ربّما هناك إعجاب، وربّما يفكر الشاب في فتاة ويتراجع كما تفعل هي أيضًا، حتى الفتاة العفيفة تعرض على عقلها صورة الخاطب لها، وتمر بخاطرها، لكنها وإن انصرف كلّ منهما لحاله تستخلص نفسها من حالة الفكر تلك، ولا يحسب هذا عليها حبًّا٢ نقطة أليس كذلك؟
, - لو فتّشت في قلب أي شاب ستجده مغارة علي بابا، ممتلئة بآلاف قصص الحب لكل الفتيات اللاتي التقى بهنّ في حياته.
, - لا تقعي في فخّ التعميم، فليست كلّ الفتيات تملك قلبًا كمدينة الملاهي التي يستطيع أي شاب تلتقي به أن يتنزّه فيها.
, أطبقت فمها، وعادت تتحفز له، كانت تشعر بالغضب تجاه "كلودة"، وكانت تصبّ غضبها على "أنس"، وكأنّه مسئول عن أخطاء غيره! لاحظ توترها، أراد أن يخفف عنها فقال بهدوء:
, - لم يكن قلبي يومًا كمغارة علي بابا، كنت أتعامل مع زميلاتي في الجامعة بتحفظ حتى أن البعض كان يظنني شخصًا باردًا لا يجيد فنون التعامل معهن بلياقة ولطف، لكنني كنت دومًا أرى أنه في يوم ما سألتقي بفتاة مميزة، وكما أنني حفظت قلبي من أجلها سيحفظها **** من أجلي.
, - ولكن! انظر ها هي "أشريا" حفظت قلبها! وها هي ستتزوج من شاب٤ نقطة
, - ربّما لصدقه حفظها **** له، وربّما لنقائها أصلحه **** لها!، لا يوجد شخص مثالي يا "مَرام"، كلنا نخطئ، وأخطاؤنا متفاوتة.
, ابتلعه صمت خفيف بعد أن أنصت لنفسه! كان يسترجع فيه ما كان يفعله مع رفاقه سابقًا، كيف كان يلغي صداقته بمن يخطئ خطأ واحدا راوده شعور بالذنب تجاه كلّ من أقصاهم من حياته، لماذا لم يتراجع ويعطيهم فرصة! أو حتى يسأل عنهم ويكون هناك عندما يحتاجونه، فربما يثبتهم ولا يعودون للخطأ، انتشلته من فقاعة الصمت التي لاذ بها وهي تقول:
, - نعم٣ نقطة ربما أصلحه **** من أجلها يا "أنس"٣ نقطة أرجو هذا.
, ازدحم البيت في الحال، أقبل الجيران يفدون إلى الدار يهنئونهم، وكان "كُومبو" يهلل فرحًا ويقفز هنا وهناك يسلّم على الناس وكأنّه هو صاحب العرس، بينما وقف "أنس" و"مَرام" في حالة سكون لطيف يسترقان النظر خلسة لبعضهما، ويراقبان ميلاد حب جديد، كانت الفرحة تطل من عيني "أشريا"، وكان "كلودة" يشعر بفرحة ممزوجة بالخوف والوجل.
, في لحظة ما تلاقت عيناها بعيني "أنس" فأسرعت تصرفهما، شعرت بدقّات قلبها تتواثب، هو الحب لا ريب، هكذا كانت تطقطق الكلمات في ذهنه هو الآخر، وكلاهما يشيح بنظره عن الآخر بينما القلبان يتبادلان النظرات، اهتزّ كتاب "إيكادولي" في حقيبة "أنس"، فأخرجه وفتحه واقتربت "مَرام" عندما لاحظت ارتباكه والكتاب بين يديه، لقد ظهرت أوّل عبارات الكتاب، وقف كلاهما يقرؤها بفضولٍ شديد:
, "ذات ليلة، وحيث السماء يظللها جريد النخل وكأنّه سحاب أخضر، أطلّ قمرٌ طاهر على أرض لا يعرفها إلّا ساكنوها فأضاء جنبات نفس أخرى بالنور، فباح الريحان بعطره وملأ الكون عطرًا لأجلهما، وتعانقت أوراق الورد، ورقصت الفراشات على حواف الزهر، ودارت الرياح تهنئ بعضها البعض، وسكن ماء النهر لينصت على استحياء، فهمَس المحب في نفسه، وكان لحبّه صوت لم يسمعه إلّا حبيبه٢ نقطةفي نفسه! وحمل القلبان الحبّ كما يحمل الغمام المطر، في بقعة ما بين الشرق والغرب، حيث تتأرجح الحياة بنا، يحكى أنّ، ذات مرّة،٢ نقطةولد حبّ!"
, تبادل "أنس" مع "مَرام" نظرة خاطفة على استحياء، وعادا يتابعان ما يدور أمامهما في صمت وسكون جميل., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
١٩
فرحة


انقلب البيت رأسًا على عقب، الزواج اليوم! كانت تلك مفاجأة لـ"أنس"، كما كانت مفاجأة ل "مَرام"، فهما من عالم يستغرق الزواج فيه شهورًا طويلة، وربما عامًا أو عامين حتى يتم! كان الإسراع في الزواج وتسهيله من عادات أهل القرية، وخاصّة إن كانا أبناء عم أو خال، كانوا يعاونون بعضهم البعض وكأنّهم أهل بيت واحد، حمل بعض الأهالي أثاثًا بسيطًا لبيت "كلودة" كل منهم ينفحه هدية، كما أسرعت النساء بإعداد الطعام كل منهن تعد صنفًا شهيًا، أما الفتيات فتجمعن في بيت "أشريا" التي كانت مشغولة بشيء ما تتفحصّه بينما كانت صديقاتها يمشّطن لها شعرها، سألتها "مَرام" عنه فأخبرتها أنه "متّكأ الحبيب"، وهو نوع من البروش مصنوع من سيقان القمح ومشغول بقماش بديع الألوان شغلته "أشريا" ليعلّق خلف العريس "كلودة"، وكذلك تفعل كلّ عروس بالقرية، ابتسمت "مَرام" بينما كانت تتابع ضحكات الفتيات، وأحاديثهن الخجولة، وتلك الهمسات واللكمات الخفيفة على الظهور في جو من الفضول والخجل، ستتزوج "أشريا" أخيرًا من حبيبها الذي تعففت حتى طلبها.
, مرّ اليوم جميلًا، وبسطت الفرحة رداءها على الجميع، انتقل "أنس" لبيت "كُومبو" وبات ليلته عنده، بينما عادت "مَرام" مع أم "أشريا" تكفكف لها دموعها فقد غادرت قرّة عينها لبيتها الجديد، كان كلّ منهما في مساحة أخرى، لكنّهما كانا يحلّقان معًا في سماء الحبّ، همس "أنس" لنفسه والكرى يعقد بمعاقل جفنيه وقال:
, - سأتزوجها٣ نقطةولم لا؟
, بينما كانت "مَرام" ساهمة وهي تحدّق في الفراغ وتقول:
, - "إيكادولي"
, ٣ علامة استفهام
,
, انتصف الليل، لكنّ السكينة والهدوء لا يزوران القصر حتى يطلع الفجر، كالعادة يحتفل الملك "كِمشاق" ورفاقه بأي شيء، ليس ضروريًا أن يكون هناك سبب محدد، ولكنهم يحتفلون! أمّا"نَبرة" فما زالت غاضبة، لكن غضبها لم يمنعها من الجلوس وسط الاحتفال لتستمتع وتتلذذ بمراقبة العيون لقوامها وجمالها.
, في غرفتها كانت "أُونتي" تفرك يديها في غضب وهي تسترجع آخر حوار لها مع "كلودة"، تذكرت عندما قال لها (ربما لا ترينني مرّة أخرى)، لكنّ هذا لم يكن ما يقضّ مضجعها بل تلك المقاومة التي لاقتها وهي تحاول أن تقترب منه كالمرة السابقة! كان يمسك بذراعيها بقسوة! ويدفعها وهي ترغب فيه وتحبّه! حتى أنه عاد وظهر من بين الأشجار بعد أن انصرفت الجارية وأخبرها بوضوح وبكلمات مقتضبة أنه سيتوقف عن لقائها، وأنه نادم على كل لحظة رآها فيها، وأنه يخشى **** ويرجو مغفرته! شعرت بطعنة وكأنه وجه إليها إهانة شديدة٢ نقطة لم يترك لها الفرصة وأسرع هاربًا منها وكأنّها الموت يلاحقه.
, - فليذهب للجحيم ذاك الحقير!
, قالتها بمرارة وكل خلية في جسدها تنفر غاضبة، فتحت خزانتها وأخرجت أحسن أثوابها وأكثرها إظهارًا لمفاتنها وارتدته ونزلت في كامل زينتها للحفل، أرادت أن ترضي غرورها بشكل ما، شيء ما يعيد إليها كرامتها التي أهدرها "كلودة" بنفوره بتلك الطريقة، فور دخولها ران صمت مفاجئ على الحضور، لو ألقى أحدهم إبرة لاستمع الجميع لرنينها، كان جمالها في تلك اللحظة يفوق جمال "نَبرة" التي استشاطت غضبًا عندما رأتها، فهي لا تقبل بوجود من ينازعها عرش الجمال في ذلك القصر، حتى أختها الشقيقة، انضمت "أُونتي" للحضور، وعاد الصخب للقاعة.
, ٣ علامة استفهام
, كان كل شيء يبدو رائعًا في عيني "مَرام" وهي تسير بتؤده نحو الدكّان، كانت تراودها أحلام يقظة خاطفة وهي تسير، وكانت تبتسم وهي شاردة كطفلة صغيرة، تخيّلت نفسها عروسًا ترتدي فستانًا أبيض واسعًا وتزفّ إليه، تخيّلت كلّ شيء حتى لون ربطة عنقه، كل تلك التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تعلم أنها ستدقق فيها حتى وهي تحلم به وتتخيله، حمدت **** أنه لا أحد يرى ما يدور برأسها. اقتربت منهما بانضباط وحيتهما بوقار ثمّ وضعت سلّة ممتلئة بالطعام أعدتها أم "أشريا" للعروسين أمام "كُومبو" و"أنس" وسألتهما:
, - من منكما سيحمل الطعام للعروسين؟
, قهقه "كُومبو" قائلًا:
, - ما زلت لا أصدق أن "كلودة" تزوج!
, كان "أنس" على غير عادته، لقد بدأ يرتبك في حضور "مَرام"! كان يشعر أن نفسه التي بين جنبيه ترتج كالجرس، هربت الكلمات منه، شعر أنه لا يستطيع الكلام، وكأن الوهن أصابه! تذكّر كيف كان يرى "كلودة" وهو يتحدّث إلى "أشريا"، وكيف كان يتهمه بالهوان والضعف، اخترقت "مَرام" فقاعة الصمت التي كان لائذًا بها وسألته:
, - هل ستحمل أنت الطعام يا "أنس"؟
, - يبدو هذا لأن "كُومبو" لن يستطيع ترك الدكان، هل من الممكن أن تسيري معي؟
, فاجأته بردها الذي نزل عليه كالصاعقة عندما قالت:
, - لا!
, رد بتحرّج:
, - يبدو أنني أزعجتك.
, قالت بارتباك:
, - لا٢ نقطةلا٢ نقطةلم تزعجني ولكنني، أفضل أن أعود لأم "أشريا" فهي حزينة لفراق ابنتها كما تعلم.
, - حسنًا سأذهب الآن.
, - لا تنس أن تنقل سلامي إليهما.
, استدار كلاهما وافترقا، كانت "مَرام" قد قررت ألا تسير معه وحدها مرّة أخرى، لا تدري كيف في تلك الظروف العجيبة! وفي تلك المملكة الغريبة! لكنها أرادت أن تحتفظ بتلك المنطقة المحظورة التي تربت على أن تحيط نفسها وقلبها بها، فلا تسمح لغريب بأن يقتحمها، حتى لوكانت٥ نقطة تحبه!، اجترّت ذلك الحوار الذي دار بينها وبين "أُونتي" التي أخبرتها أنها لن تستطيع السيطرة على مشاعرها ونفسها إن وقعت في الحبّ، وأنّها ستخطئ، وكان ردها أنها ستستعصم.
, سار "أنس" نحو بيت "كلودة"، شاردًا يفكر كيف أصابه سهم الحب فجعله هشًا بتلك الطريقة! في تلك اللحظة شعر باهتزاز في حقيبته فأدرك أن هناك عبارة جديدة ظهرت في الكتاب٤ نقطة
, "عندما أحبّها، ارتقى معها فوق مستوى اللذة، لم يدع الفرصة لجسده لكي يمتطي روحه ويقودها إلى الهاوية، ترك العنان لروحه لتحلّق فوق جسده فروضته وارتقت به نحو الجنان، كان يحبّها، ويعشقها، لكنه يخشى من نفسه، ويخشى عليها من نفسه!"
, أكمل "أنس" طريقه يتفكّر في الكلمات، وبعد أن وصل لبيت "كلودة" والتقى به وعانقه طويلًا، ثُمّ أعطاه الطعام طلب منه الدعاء، شعر "كلودة" لأول مرّة أن "أنس" أصابه شيء ما! لكنّه أسرع يغادر على استحياء وعاد من حيث أتى.
, أغمض "أنس" عينيه، وجال في نفسه، وكأنّه يتعرّف عليها لأوّل مرّة! هناك اشتياق لحالة من الشفافية مرّت به ربّما في لحظات عديدة في أيام مضت، أحيانًا وهو ساجد، وكثيرًا لحظة إفطاره بعد صيام رقّ فيه قلبه، وربما عندما كان يقرأ القرآن، تنفّس بعمق ثمّ فتح عينيه، وسار وهو يطالع كل شيء حوله بعين أخرى، ومن منظور مختلف.
, عاد إلى الدكان حيث كان "كُومبو" يوزع الابتسامات، ذاك الشاب لديه روح تضج بالسعادة، يفرقها على الآخرين، وكأنه لا يخشى الحزن أبدًا.
, ٣ علامة استفهام
, مرّ أسبوع عاش فيه "كلودة" أسعد لحظات حياته مع حبيبة قلبه "أشريا"، كانت كل لحظة تمر بهما تزيدهما قربا، وكانت هادئة كقطة وديعة اطمأنت أخيرًا لجوار صاحبها وسيّدها فسكنت له. ما زال البرد شديدًا وكأنّ تلك المملكة فصولها الأربعة شتاء! كانت "أشريا" ترتجف عندما أخبرها "كلودة" وهو يحتضن كفيها بين كفيه أنه سيعود للعمل، وإن أحبّت أن تسير معه لبيت أمها فلتستعد في الحال، هبّت واثبة ووضعت على رأسها خمارًا فضفاضا وسارت ترفل فيه خلف زوجها، استدار يحتضن كفّها بكفّه وسارا معًا نحو بيت أمها التي أغرقت دموع فرحتها وجهها فور أن رأتها، توجه إلى الدكان حيث كان "أنس" يقرأ في كتابه بتمعّن، كان قد استقرّ في نفس "أنس" أن "كلودة" و "أشريا" هما بطلا قصة الكتاب بالفعل، أخفى عنه ما كان يقرؤه وبعد أن سلّم عليه انخرط كلاهما في العمل، مرّ اليوم لطيفًا على الجميع، واجتمعوا على الطعام كالعادة، وقف "أنس" بجوار "مَرام" غير ناظر إليها وقال وقد بدا عليه التحرّج:
, - هل أنتِ بخير؟
, - نعم أنا بخير.
, - كيف هي عينك ويدك؟
, - عيني أفضل، وبدأ الجرح في كفّي يتحسّن والحمد لله.
, كانت وكلما تنظف جرح يدها تعيد تضميده بتلك القماشة التي مزّقها من قميصه، ودّت أن تخبره بالكثير من الأشياء، عن خوفها فما زالت خائفة، لكنها أصبحت تخجل من أن تخبره أنها تخاف أن يختفي فجأة، أو أن يحدث له خطب ما، مضى "أنس" بخياله يطوي الأيام وقال فجأة:
, - عندما نعود لديارنا٣ نقطة ما رأيك أن تتعرّفي بأختي "حبيبة".
, بدا على وجهها الاستبشار وقالت:
, - أود ذلك بالفعل.
, افترّت شفتاه عن ابتسامة وقال:
, - ستسعد بهذا، فهي قليلة الأصدقاء، كما أنّها تشبهك كثيرًا.
, - أخبرتني بهذا من قبل.
, نسى وجودهما في بيت أشريا ووسط الجميع وبدأ يحدّثها بصوتٍ عالٍ عن نفسه أمام الجميع، حدّثها عن أيام الجامعة، ورفاقه، وطبيعة دراسته، حتى أنّه أخبرها عن طفولته، كانت تنصت إليه مستمتعة بحديثه، قالت مبتهجة:
, - يبدو أنّ دراسة الهندسة ممتعة، أظنك درستها بحبّ وشغف.
, أومأ موافقًا وأكمل حديثه، وكأنّه اليوم لا يريدها أن تتحدث، بل أن تنصت إليه وحسب، فهو يودّ أن يخبرها بكلّ شاردة وواردة عن حياته،
, كانت حريصة على أن تبدو هادئة منضبطة في تصرفاتها وأقوالها لتداري بهذا المظهر ما يضطرب في نفسها من نوازع. وكان يحدّثها وفي عينيه وهج جميلٌ تطل منه إشراقة مسحورة. كان يراها قريبة منه جدا وبعيدة عنه جدا، فهو يتعجّل الخروج من تلك المملكة ليطمئن أنها موجودة بالفعل، وأنها واقع في حياته يستطيع أن يجعلها جزءًا منه، أصبح يخشى أن تكون "مَرام" حلمًا يراوده!
, لو تنبهت لعينيه لرأتهما تقطران حبًا لكنها كانت تخفض الطرف، وكان هو يتحدّث إليها طويلًا ثمّ يختلس نظرة ويعود فيخفض الطرف عنها، كانت هناك معركة تدور في صدره، كان يستجيب فيصمت ويسكن، ثمّ يجد نفسه وقد عاد يحدّثها وكأن لسانه كان محبوسًا لسنوات وأطلق سراحه للتو، وكانت كلّها آذان صاغية، بينما كان "كُومبو" يراقبما في سكينة وهدوء شديد. جاء وقت الفراق، وكان ثقيلًا على قلبه كما لم يكن من قبل، ودعها وانصرف مع "كُومبو" وأمّه إلى بيتهما ترف كل جوارحه هوى إليها. اهتزّ الكتاب في حقيبته، فأخرجه وقرأ ما كتب فيه:
, "وأُسرت روحها لديه، وعلق قلبه لديها، ومضى كلّ منهما يملك في نفسه شيئًا من الآخر، يحلمان بلحظة يسكب كلّ منهما رحيق الحب الطاهر في فؤاد الآخر"
, رفع رأسه وتأمّل "كلودة" و"أشريا" وهما يسيران أمامه نحو بيتهما، ثُمّ أغلقه وأعاده إلى حقيبته ومضى مع صديقه "كُومبو".
, أمّا "مَرام" فجلست هادئة القلب راضية النفس نشوانة الخيال، لكنّها شعرت بضيق فجأة، كانت تعلم أنه لا بدّ من صراع قبل أن يُسترد الكتاب، ولا بدّ أن وقته اقترب.
, ٣ علامة استفهام
,
, في الصباح التالي وفي غرفتها وحيث كانت "أُونتي" تتلوى من الغيظ دلفت عليها شقيقتها "نَبرة" وجلست بعد أن أشارت للجواري ليتركنهما وحدهما، قالت بلهجة آمرة:
, - هناك شيء ما! أنتِ لست "أُونتي" التي أعرفها، أخبريني ما الذي يحدث؟
, - لا شيء٢ علامة التعجب لم تقولين هذا الكلام
, قامت وسارت نحوها وامسكت بالمقعد حيث غطست "أُونتي" فيه خوفًا ورعبًا منها، وألصقت جبهتها بجبهة أختها وقالت:
, - إن لم تنطقي فسأستخرج منك الكلام بطريقتي الخاصّة.
, تمتمت "أُونتي" بخوف وقالت بصوت مخنوق:
, - ماذا تريدين؟
, - الكتاب٢ نقطة أنتِ سرقتِه أليس كذلك؟
, شعرت "أُونتي" بقشعريرة تجتاح جسدها كلّه وبعد أن ابتعدت عنها أختها وقفت ترتجف كورقة شجرة تتلاعب بها الرياح وقالت بصوت مرتعش:
, - بل سرقته تلك الجارية.
, - من؟
, - "مَرام"
, - تلك المريضة؟
, - لم تكن مريضة، كانت مصابة في عينها فقط، أحضرها "حليم"٢ نقطةاسأليه عنها، فقد دثّرها بوشاحه عندما أحضرها، وكانت سعيدة بهذا! هي سرقت الكتاب من غرفتك وفرّت بعد أن سرقت المال من خزانتي.
, كطلقة مدفع خرجت "نَبرة" من غرفة أختها وهي تهمهم بعبارات توعّد وتهديد لها لأنها لم تخبرها في الحال، كما بدأت تسب وتلعن في "حليم"، انحدرت ككرة من النار على الدرج واقتحمت ديوان أخيها "كِمشاق" وقذفت بكلماتها في وجه "حليم" الذي كان يقف بجواره:
, - أنت السبب، تلك الجارية التي أحضرتها هي التي سرقت الكتاب من غرفتي وهربت من القصر بعد أن سرقت المال من "أُونتي"
, - أي جارية؟
, - "مَرام"
, - أيهم؟ أنا لا أذكرها!
, - تلك التي غطيتها بوشاحك أيها الـ٣ نقطة
, صاح "كِمشاق" يستوقفها قبل أن تسبّه، فهو يكره أن يغضبه لأنّه ساعده الأيمن، وألقت بجسدها على الكرسي وكأن صاعقة أصابتها، قال "حليم" بجدّية:
, - ليس هذا بوجه سارقة.
, - يبدو أنك عاشق أيها الحليم.
, قالتها باستهزاء، فتجاهل ملاحظتها وقال:
, - لست بسفيه أو أحمق حتى أُخدع! تلك الفتاة ليست سارقة، وهي فتاة شريفة لم يمسّها رجل من قبل، عودي لأختك "أُونتي" فهناك شيء ما وراء اختفاء تلك الجارية، وهناك سرّ وراء اختفاء الكتاب.
, عادت "نَبرة" إلى غرفة أختها "أُونتي" ودار بينهما حوار أدارته بطريقتها الخاصّة حتى استخلصت منها القصة بحذافيرها من البداية وحتى تلك اللحظة التي ماتت فيها روحها عندما لفظها "كلودة" ورفض غرامها، انكشف الأمر لـ"نَبرة"، لكنّها لم تخبر أخاها ولم تخبر "حليم" بما عرفته، فهي تود رؤية "أنس" أولًا!
, انطلق بعض الحراس الخاصّين بها بعد طلوع الفجر يبحثون عن "كلودة" وعثروا عليه سريعًا فالوصول إلى بيته سهل عليهم، وانتزعوه من حضن بيته وأمنه وزوجته "أشريا" التي مادت الأرض تحت قدميها وسقطت مغشيًا عليها في الحال.
, ٣ علامة استفهام
,
, عادت "أشريا" إلى بيت "أمها" وأخبرتها و "مَرام" بما حدث بعبارات قليلة يتخللها بكاء شديد بنشيج مسموع، كانت لا تعرف لماذا أخذوه! سألت "مَرام" مرارًا وتكرارًا فهي الوحيدة التي كانت في ذاك القصر، وكانت "مَرام" في حيرة من أمرها أتخبرها بأمر الأميرة "أُونتي" وقصّتها مع "كلودة" أم لا. آثرت الصمت، وخرجت لتخبر "كُومبو" و "أنس" الّلذين أغلقا الدكان وتوجها فورًا لبيت "أشريا"، هدّأها "أنس"، وأخبرها أن "كلودة" يعشق الكتب كما تعرف هي، وأنّ كتابه كان عنده، وحراس الملك يطاردون المحاربين، ويطلبون كتبهم، ولأن الخبر وصلهم بأن الكتاب عنده اعتقلوه، بكت وتعلّقت بكمّه وتوسلت إليه أن يعطيهم الكتاب ويعيد إليها زوجها "كلودة"، وعدها أن يعيده وخرج حائرًا، لا يدري ماذا يفعل!
, ٣ علامة استفهام
,
, كانت ضربات السياط على ظهر "كلودة" متواليه حتى أنه فقد وعيه، كان خائرًا مضعضع القوى حيث علّقوه من قدميه فشعر بأن رأسه سينفجر، كرروا عليه السؤال:
, - أين الكتاب؟
, وكانت إجابته واحدة لا تتغير:
, - الكتاب مع "أنس".
, لكنهم كانوا يتلذذون بتعذيبه، كانت "نَبرة" تراقبهم وهم يضربونه، وجلست تفكّر فقد أخبروها أنه تزوج منذ أسبوع، فهل هو بطل قصة الكتاب؟، وهل إن حصلوا على الكتاب الآن وثقبوا قلبه سيستطيعون كتابة ما يريدون بدمه حسب هواهم! يغيرون ما يحبّون، ويثبتون ما يريدون أن يثبّتوه في عقول الناس! رفعت كفّها فتوقفوا عن جلده، واقتربت منه ووقفت أمام وجهه المقلوب حيث كان لا يزال معلقًا في الهواء، كانت علامات الألم بادية في عينيه الذابلتين وسحنته الشاحبة، سألته مهدده له:
, - إن لم تخبرنا أين "أنس" الآن سأجعلهم يخلعون عينًا من عينيك.
, أخبرها عن مكانه، كان منهارًا لا يحتمل نفخة هواء أخرى تمر على صفحة وجهه، فوصف لها العنوان بالتفصيل، أشارت لرجالها ليحضروا قلمًا وقرطاسًا، وكتبت لـ"أنس" تستدعيه لتراه بطريقة أدبية راقية، وأرسلتهم إليه، أرادت أن تلتقي به لتحاربه بطريقتها الخاصّة.
, ٣ علامة استفهام
,
, مرضت"أشريا" مرضًا شديدًا، كانت تنتفض وجبينها يتفصّد عرقًا، فسيرها في ذاك الطقس البارد بعد أن سلبوها زوجها صباحًا من بيتها لبيت أمها أضر بصحتها، أصابتها الحمى وكانت كسيرة ومهزومة النفس بسبب ما حدث لزوجها وحبيبها، جلست مَرام تمسح جبينها بالماء، أما أمها فكانت لا تتوقف عن البكاء، في غرفة أخرى من الدار كان "أنس" يجلس مع "كُومبو" يفكّر هل يذهب إلى قصر "كِمشاق" الآن ويستخدم خنجره أم يذهب أولا للحوراء ويسألها! تناهى إلى سمعهما صهيل خيول، فانتفض "كُومبو" وخرج يرى من بالباب فإذا برجل مهيب الطلعة قال بطريقة رسمية:
, - معي رسالة من الأميرة "نَبرة".
, كانت طريقته في الكلام توحي بالتوقير الشديد، يبدو أنّ "نَبرة" أوصته بذلك، اقترب "أنس" وتسلّم الرسالة، ثُمّ قرأها وقال:
, - إنّها تدعوني للقائها.
, اقتربت "مَرام" في قلق وقالت:
, - لا تذهب.
, لحظ "أنس" أن يدها ترتعش ونظر فإذا دمعة تند من عينيها، قال بهدوء:
, - لماذا؟
, غامت على وجهها سحابة من الأسى وقالت:
, - أرجوك لا تذهب، إنّها "نَبرة"!
, قال يطمئنها:
, - هي تطلب اللقاء في مكان بعيد عن القصر، وليست الرسالة من الملك "كِمشاق" نفسه، وبأيّ حال لا بدّ أن أساعد "كلودة"، سأساومها على الكتاب.
, وضع "أنس" في حقيبته كتابًا آخرًا ليوهمهم أنه يحمل كتابه في حقيبته، ذاك ما تبادر إلى ذهنه بعد أن فكّر سريعًا ليجبرهم على عدم قتله. قالت "مَرام" وهي تحبس دموعها:
, - وماذا إن لم تعد؟
, أجابها بثقة:
, - سأعود إن شاء ****
, شعرت بشوكة حادة تنغرز في فؤادها، قالت بخفوت:
, - وماذا لو٣ نقطة لم نلتقِ مرّة أخرى هنا على أرض تلك المملكة؟
, اضطربت في دمه الكلمات ثمّ قال:
, - دعينا نتعاهد على شيء، إن لم يُكتب لنا اللقاء هنا، وعاد كلّ منا لأهله، فلنلتقِ في الإسكندرية، في مكان محدد.
, - فليكن
, واتفقا على المكان، وودعها "أنس" وهو يقرأ الألم على وجهها وفي عينيها، كان لا بدّ من إطلاع "كُومبو" على بعض الأمور، استأمنه على "مَرام" وشدّ على يديه وهو يصافحه، وابتعد مع الحراس يتلفّت من آن لآخر مشيرًا إلى "مَرام" التي انخلع قلبها لرحيله., خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
عودة
أعلى أسفل
0%