٣
الرمادي
كان "أنس" مستلقيًا على أرض الغرفة عندما انفتحت النافذة فجأة، أضاءت السماء بنور قوي ناصع، حملق في تلك البقعة السوداء التي تظهر وسط الضوء أمامه، كانت البقعة تكبر وتزداد اتساعًا، وتزيد، وتزيد، ظهر طائرٌ يبسط جناحيه على الجانبين ويخفق بهما، رأى ظلّه يتعملق أمامه حتى اندفع فجأة من النافذة ثُمّ ظلّ يحلّق في سقف الغرفة المرتفع في دائرة فوق رأس "أنس" الذي زحف بصعوبة تجاه باب الغرفة يحاول فتحه لكنّه فشل. كان الصقر ذا ظهر أزرق ضارب إلى الرمادي الأردوازي، والجسد أسود يخرج منه جناحان مبرقشان، وذيل طويل ضيّق مستدير عند نهايته، ذو طرف أسود وعلامة بيضاء على أقصاه. ويظهر أعلى رأسه على الجانبين لون أزرق بديع، ويمتد على الوجنتين كخطّ كما الشارب يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الباهتين. بدا الصقر متينًا مهيب الطلعة.
, هبط الصقر فجأة وانزوى في ركن الغرف وطأطأ رأسه ثُمّ ضمّ جناحيه وألصقهما بجسده، حدّق في "أنس" بعينيه المخيفتين، ثُمّ غطّس رأسه في جسده. مرّت لحظات طويلة على "أنس" استيقظت فيها كلّ حواسه، كان يرهف السمع بشدّة لعله يسمع أيّ صوت يؤنسه، بالتحديد كان يتمنى أن يناديه أبوه أو جدّه من خلف الباب، حاول أن يفتحه مرّة أخرى لكنّه فشل، كان صلبًا كالصخر الأصمّ وكأنه جزء من الجدار. سار ببطء محاولًا الاقتراب من النّافذة، غمغم الصقر وكأنّه يحاول أن يمنعه من الاقتراب منها فتسمّرت ساقا أنس والتصقتا بالأرض، ثُمّ رمى الصقر بطرفٍ خفي وهمس محدّثًا نفسه:
, - ظننتك أكبر حجمًا أيها " ا٢ نقطةل٢ نقطةر٢ نقطةم٢ نقطةا٢ نقطةد٢ نقطةي" كصقور الأساطير العملاقة.
, حرّك قدمه ببطء شديد ليخطو خطوة أخرى فتحرّك الصقر موازيًا لخطواته فتوقف "أنس" مرّة أخرى وقال بسخرية:
, - تترصّدني إذًا أيّها الصغير!
, - لست صغيرًا يا صديقي٤ نقطة أنا شيخ كبير!
, شعر "أنس"وكأن ألف إبرة رشقت جسده، تكورت جذوع الشعر على جلده فاستحال جلد إوزة، الصقر يتكلّم! ابتلع ريقه بصعوبة وكأن كتلة من الأشواك تحتل حلقه، بسمل وحوقل وبدأ يقرأ آية الكرسي لعلّه يختفي من أمامه، أغمض عينيه لعلّه يستيقظ من ذاك الكابوس٢ نقطةلكنّه لم يكن حلمًا أبدًا! لم يتمكن من تحريك جسده مرّة أخرى، باغته الصقر وهبّ فجأة محلّقا بضربة جناح واحدة ووقف على كتفه الأيسر، ثُمّ همس في أُذنه:
, - لا تخف منّي يا "أنس".
, كانت قطرات العرق تنسال على ظهر "أنس" متتابعة، وكاد يفقد الوعي، لكنّه تماسك. كان يخشّب رقبته محدّقًا بطرف عينيه بتربص نحو موضع الصقر وراءه، وكأنّه يخشى انقضاضه عليه فجأة، ظنّ أنّه سينقره في رقبته أو أُذنه لكنّ الصقر كان هادئًا جدًا وساكنًا. مرت دقيقة وهما على ذاك الحال وكأنهما تمثالان من الشمع. أخيرًا نطق الصقر مرّة أخرى وقال بلطف:
, - هل هدأت الآن؟ لا أُحبّ أن نبدأ رحلتنا وأنت ترتجف هكذا.
, حرّك "أنس" عينيه تجاه كتفه وأدار رأسه ببطء وكذلك فعل الصقر فتقاربت عيناهما تمامًا وحدّق كلّ منهما في الآخر للحظات، ازدرد "أنس" ريقه بصعوبة وقال بصوت مرتعش:
, - لا أُصدّق أنّك ستحملني؟
, زفر الصقر فلامست أنفاسه بشرة "أنس" فانتصبت شعيرات ذقنه الخفيفة، ثُمّ قال له وهو يتسلّق رأسه:
, - لا تسير الأمور بتلك الطريقة يا صديقي، سأحملك حتما ولكن بطريقتي الخاصة.
, استوى الصقر على رأس "أنس" الذي رفع مقلتيه لأعلى بينما بسط الصقر جناحيه في الهواء، ثُمّ احتضن وجه أنس بهما ببطء وبهدوءٍ شديد، حيث غطى وجهه كلّه بريش جناحيه ريشة فوق ريشةٍ بانتظام، جبهته وعينيه وأذنيه وخديه، لم يترك إلا أنفه وفمه ليتمكن من التنفس والكلام. شعر "أنس" بجسده يخدّر، وسرى في نفسه شعور غريب، شيئًا فشيئًا خفّ جسده وكأنّه ريشة في جناح الصّقر! حاول فتح عينيه٢ نقطةكان يظنّ أن ريش جناح الصقر ما زال يغطيهما، لكنّه فوجئ بنفسه يطير وقد غمر الضباب كلّ شيء حوله، لفحته الرياح الباردة، وشعر برذاذ خفيف يبلل جبينه وكفيه، رائحة المطر الخفيف داعبت أنفه، عطس فجأة فإذا بصوت الصقر يصدر من أعلاه:
, - يرحمك **** يا صديقي.
, رفع رأسه ففوجئ بالصقر وقد ازداد حجمه أضعاف حجمه الحقيقي الذي رآه منذ قليل في الغرفة، كانت مخالبه تقبض على كتفي "أنس" حيث يحلّق به فوق "مملكة البلاغة"، ردّ بعد أن اضطرب قليلًا وتأرجح بجسده من المفاجأة قائلًا:
, - ي****!٣ نقطة يا له من شعور غريب!
, - لا تخف من السقوط
, - لا أصدق!
, - بل صدّق واستعد لما هو أكثر مفاجأة لك
, - هل وصلنا؟
, - اقتربنا، حاول أن تستمتع بالطيران.
, بدأ الشعور بالخوف يغادر صــــــدر "أنس" وحـــــــلّ مكانـــــه تدريجيًا الشعـــــــــور
, بالفضول وبدأ حسّ المغامرة يدغدغ نفسه، كانت حياته راكدة لفترة طويلة، وها هي الأمور تتغير فجأة! سأل "الرمادي" مستأنسًا بحواره معه:
, - هل تعرف جدّي؟
, - بالتأكيد.
, - أخبرني أبي أنّك صديق.
, - أتمنى أن أحوز لديك نفس المكانة التي حزتها عند أبيك.
, - كيف تتحدّث كالبشر؟
, - لا تسأل.
, - لا بدّ أن أسأل!
, - إذن ستقضي وقتك كلّه في الأسئلة، والوقت يمرّ، حاول أن تتقبل بعض الأشياء كما هي، لا تسأل إلّا عمّا يفيدك، أمّا ما لا يعنيك ولا يفيدك فلا تضيع وقتك بالركض خلفه.
, قال "أنس" متلعثمًا:
, - إنّه٣ نقطة فضول أنيس.
, قال الصقر وهو يخفف من سرعة طيرانه استعدادًا للهبوط:
, - بعض الفضول قد يفيد، وبعضه قد يؤذيك، فاحذر يا صديقي.
, سرت طمأنينة في نفس "أنس"عندما تذكّر والده وهو ينصحه بنفس النصيحة، بنفس الكلمات عندما كان يجلس بجواره في محطة القطار بالإسكندرية، لكن تلك الطمأنينة تلاشت سريعًا عندما بدأ "الرماديّ" يقترب به من مصبّ النهر الأخضر. تسارعت دقّات قلبه أكثر فأكثر، كاد يقفز من بين ضلوعه، كان البرد يزداد كلما اقتربا من سطح الماء، بينما كان لون الماء الأخضر الزمرّدي يزداد بهاء ووضوحًا.
, هبّت رياح خفيفة فمسحت وجه الماء مخلفة وراءها تموجات متوازية بديعة، من بعيد وعلى شاطئ النهر كانت أوراق الأشجار المتساقطة تدور مع الرياح، وكأنّ هناك أياد خفيّة تتلاعب بها، كادت ساقا "أنس" تلمس الماء، لكنّ "الرماديّ" وبعد أن حلّق به برشاقة فوق سطح الماء تركه على ضفّة النهر وارتفع محلّقا لدورة كاملة قبل أن يعود ليقف أمامه من جديد ويحني رأسه وكأنّه يحييه، من جديد ضمّ جناحيه وألصقهما بجسده فبدا وكأنّه أمير يتلحّف برداء أنيق. كان "أنس" ما زال يتطوّح، للحظات قليلة كان قد فَقد اتزانه، لكنّه تمالك نفسه وقال بعفوية:
, - أنت سريعٌ جدًا.
, ران عليهما صمت خفيف قبل أن يحرّك الصقر جناحيه ويقول:
, - والآن اسمح لي أن أنصرف، انتهت مهمتي.
, - ولكن! ماذا سأفعل أنا!
, - سيستقبلك "المغاتير" ويصحبونك للقاء "الحوراء".
, - ومن هم "المغاتير"؟
, - قوم صالحون يخفون وجوههم فلا تهبهم.
, - ولم يخفون وجوههم!
, - لا ينتظرون الشكر، ولا يبتغون الأجر، استغنوا عن الناس فأغناهم **** عن الناس وصار الجميع يحتاجون إليهم، ودائمًا هم في الطليعة. انتظرهم هنا على أطراف الغابة خارج حدودها ولا تتحرك من مكانك فهم لن يدخلوها أبدًا.
, رفع "أنس" حاجبيه وكاد يسأله لماذا لولا أنّ "الرمادي" باغته قائلًا:
, - سأمرّ عليك في وقت لاحق.
, ثُمّ بسط جناحيه وارتقى يحلّق في الفضــــاء مبتعدًا عـــــــــن "أنس" ومتجهًــــــــا
, صوب جبل مهيب أحاطت قمّته هالة حمراء قاتمة، برزت من وسطها تلك القمّة بشموخ وقد كساها الجليد الأبيض، شعر "أنس" بقشعريرة تجتاح جسده عندما رأى الجليد، كان الجوّ باردًا جدًا. صاح وهو يركض موازيًا لطيران الصقر على الأرض:
, - أرجوك لا تتركني الآن، أُريد أن أسألك عن أشياء كثيرة.
, أجابه "الرمادي" وهو يبتعد:
, - ستجيبك عنها جلالة الملكة.
, توقف "أنس" عن الركض حيث انتهى الطريق ووقف على حافة وادٍ كبير، أوشك أن يسقط فيه لولا أنّه انتبه ثُمّ أرخى ذراعيه بيأسٍ وهو يراقب "الرمادي" وقال:
, - وداعًا.
, عاد "الرمادي" للتحليق فوقه وقال بنَبرة حميمية:
, - لا تقل وداعًا يا صديقي، بل قل إلى اللقاء.
, - حسنًا٢ نقطةإلى اللقاء.
, اختفى "الرمادي" مخلفًا وراءه "أنس" وهو يتلفّت حوله يتأمّل الأشجار التي بدت وكأنّها تطالعه بفضول، سار بضع خطوات نحو ممر ضيّق بينها، أجفل عندما تناهى إلى سمعه حفيف الأشجار وشقشقة العصافير،
, تحسس القلادة التي ألبسها له جدّه وطالع النقوش التي عليها مرّة أخرى، طال سيره فأحسّ بالإرهاق، تفحص ساعة يده فإذا بعقاربها لا تتحرك! لقد توقفت عند الواحدة ظهرًا، نفس التوقيت الذي غادر فيه بيت جده!
, تذكّر شعوره وهو يحلّق في الهواء، مزيج من الخوف والحماس بدأ يعتمل في صدره، استعاد رباطة جأشه على نحوٍ سريع! ما عاد فزعًا كما كان لحظة ظهور الصقر لأوّل مرّة، بل خفّ ذاك الشعور، وما عاد خائفًا كما كان والكتب تدور حوله في غرفة المكتبة، لكنه بالطبع قلق. استغرقته المشاهد وهو يجترّ ما مرّ به خلال الساعات الماضية في شرود بينما ينتظر ظهور "المغاتير"( ).
, ٣ علامة استفهام
,
, لمح "أنس" طيفًا يمرّ قريبًا منه قد افترش ظلّه على الأرض وقبل أن يلتفت نحوه فوجئ بخبطة على كتفه فالتفت متأهّبًا وأمسك بذراع هذا الذي باغته فجأة من الخلف وسحبه ثم انقلب به على الأرض واضعًا ركبته فوق صدره وقابضًا بأصابعه العشرة على رقبته، ابتسم الشاب بسخرية وقد فتح كفّيه مظهرًا استسلامه الكامل لـ"أنس" وقال بصعوبة من أثر قوة قبضة "أنس" على أنفاسه:
, - مهلًا يا رجل، وددت فقط أن أُرحّب بك.
, خفف "أنس" من قبضته وتركه وتراجع إلى الخلف، تحسس الشاب رقبته وقال بنظرة ماكرة:
, - يبدو أنّك تمارس الرياضة، أليس كذلك؟
, - من أنت؟ وماذا تريد؟
, - أين تعلّمت تلك المهارات؟ هيّا أخبرني؟
, حدّجه "أنس" بنظراته، بدا وجه الشاب يحمل مسحة من الوسامة بشعره البنيّ، وبشرته الباهتة وفكّه العريض، وتلك النظرة الساخرة التي تُطلّ من عينيه الضيقتين، لكن تلك الملامح جعلت "أنس" يرتاب منه. كان يظنّ أنه سيلتقي بأناس سمر البشرة وبملامح نوبية، كتلك التي قرأ عنها ورآها من قبل. سأله متجاهلًا سؤاله الأخير قائلًا:
, - ما اسمك؟
, - أنا "شهاب" وأنت؟
, - "أنس".
, بدأ "شهاب" يدور حول "أنس" ويتأمّله بتمعّن ناقلًا عينيه من أخمص قدميه وحتى قمّة رأسه، ثُمّ قال باستخفاف:
, - تبدو غريبًا عن المكان، ألك صديق هنا؟
, أجابه "أنس" بتحفّز:
, - الرّمادي.
, - ذاك الكهل الأحمق.
, شعر "أنس" بالإهانة وكأنّ السبّة وجهت له، فأخفى غضبه وسأله:
, - وهل تعرفه؟
, - أنا أعرف الجميع هنا٣ نقطةحتى ذاك الكهل البغيض.
, بدأ كلاهما يدور حول الآخر، سأله "أنس" بترقّب:
, - هل٣ نقطةأنت مثلي!
, خرجت من "شهاب" قهقهات عالية، استغرقته للحظاتٍ قبل أن يقترب منه حدّ ملامسته وقد شَخَصَ فيه بسحنة متوّعدة:
, - لستُ مثلك!
, ثُمّ تغيرت ملامحه الضاحكة فجأة وصارت صارمة، وقال وهو يتراجع إلى الخلف:
, - أنا لست مثل أحد٣ نقطةأنا مختلف! أنا مميّز.
, التفت "أنس" تجـــاه الطريق الممتـــــد أمامــــــــه بين الأشجــــــار ورمــــــــاه بنظــــــــــــرة
, خاطفةٍ ثُمّ قال بهدوء محاكيا طريقة "شهاب" في الكلام:
, - كيف تعالج الأمور هنا؟
, - أيّ أمور؟
, طاف "أنس" بنظراته في كلّ اتجاه ثُمّ قال:
, - كلّ شيء٣ نقطةأود أن أعرف ما دوري.
, - ليس لديك دور هنا، أنت مجرد شاهد.
, - على ماذا؟
, - على ما ستراه هنا من أحداث.
, - لا أظنّ.
, - ومن أنت حتى تظن أو حتى تفكّر!
, تجاهل "أنس" نَبرة الاستخفاف التي شابت الكلمات، وتخطاها قائلًا:
, - لكلّ منا دور في حياته وحياة الآخرين، كل كلمة ننطق بها وكل فعل نفعله.
, - لكن الأمور هنا ستسير رغم أنفك على طريقة لن تحددها أنت.
, - صحيح، وهكذا الحياة كلّها، لكن لا تخبرني أننا هنا لنراقب في صمت كالجمادات.
, ران عليهما الصمت للحظة، بدا فيها "شهاب" وكأنّه يجترّ بعض الذكريات قبل أن يقول بنَبرة تشوبها المرارة:
, - أتدري، ربما أنت على صواب٢ نقطة كلمة (مسئول) قد تقلب حياة شاب، كلمة (خبيثة) قد تفرق بين اثنين، وإشاحة بنظرة قد تعني (أكرهك).
, رمقه "أنس" وقرأ على وجهه الآلم فتحرك تجاهه وقال:
, - والتفاتة قد تعني الحب، مجرّد الحضور في موقف ما قد يعني الكثير لآخرين دون أن ندرك هذا، لكنهم يدركون، حتى الصمت أحيانا إن كان في موضعه الصحيح فله دور.
, - حتى إساءتنا للآخرين؟
, - نعم٢ نقطة حتى إساءتنا للآخرين وإساءتهم لنا، أنت مثلًا قد تعزم على إزاحة جبل لكي تثبت لمن آذاك وأساء إليك أنه على خطأ، نحن نتعلم في مدرسة الحياة وما زال أمامنا الكثير من الدروس.
, ابتسم "شهاب" وقال وهو يهزّ رأسه إعجابًا:
, - تبدو حكيما يا فتى، بدأت أحبك.
, ثُمّ عاد يتفحّص وجه "أنس" قبل أن يقول وهو يحكّ أنفه:
, - كم عمرك؟
, - ثلاثة وعشرون عامًا، وأنت؟
, - خمسة وثلاثون عامًا.
, ثم سكت هنيهة وقال لـ"أنس":
, - هل٢ نقطةتحبّ أن تأتي معي؟
, - إلى أين؟
, - حيث أقيم.
, - لكنني لا بدّ أن ألتقي الملكة أوّلًا.
, - الحوراء؟
, - نعم هي "الحوراء"
, ما كادا ينهيان الكلام حتى تناهى إلى سمعهما صوت حوافر الخيـــــــول وهي
, تضرب الأرض ، أفزع صهيلها "شهاب" الذي تلفت في اضطراب ثُمّ شهق وقد كست وجهه علامات الرهبة وركض سريعًا وشق الطريق بين الأشجار وكأنّ الموت يطارده! تبعه "أنس" وهو يتساءل عن سبب فزعه، أصابته عدوى الفزع لمجرد رؤية نظرات "شهاب" الشاخصة ثم شهقته التي جعلت "أنس" يرتبك بشدّة، كان "أنس" يركض وعينه على رأس شهاب.
, في تلك اللحظة، ارتفع صهيل الخيول ثُمّ علت أصوات حوافرها وأصدرت شرارة وهي تقدح الأرض التي انتقلت إليها للتو بعد أن غادرت البستان المجاور للغابة، كانت تلك الأرض تبدو كشريط عريض يفصل بين البستان والغابة التي ركض فيها "أنس" خلف "شهاب"، لم تتحرك الخيول خطوة واحدة، وقفت صفًا واحدًا على ذاك الشريط الحجري الفاصل بين الجهتين، وهي تنظر تجاه "أنس"، صاح "الزاجل الأزرق" بصوته الجهوري:
, - يا إلهي٢ نقطة تأخرنا!
, ثمّ قال بتوجس:
, - بدأت رحلته دون أن يسمع منّا٢ علامة التعجب
, ٣ علامة استفهام
,
, مالت الشمس فانزاح ال**** عن وجهها بحياءٍ فأضاءت شرفات القصر، جلست"الحوراء" في ديوانها بوقار، حيث كانت ترتدي برنسًا مرصعًا بالجواهر تتدلّى منه سلسلة ذهبية مطعّمة بالأحجار الكريمة، ثيابها البيضاء الواسعة تشعر من يراها بمهابةٍ وسكينةٍ كانت تلف رأسها بوشاح أبيض وقد انسدل من فوق رأسها شالٌ طويلٌ غطى كتفيها وقد لفّته باحتشام على صدرها. عجوز كانت ٢ نقطة لكنّها جميلة!
, استأذن أحد رجال الديوان وقال بعد أن حيّاها بإجلال:
, - مولاتي شغب بعضُ الجند في المنطقة الشرقية٣ نقطة ماذا سنفعل؟
, أشارت "الحوراء" للكاتب الذي كان جالسًا بالقرب منها وعلى يمينـــــه الـــــــــدواة
, والقلم وأمامه الأوراق متأهّبًا ليكتب ما ستقوله وقالت:
, - لا يُلبُّوا على الشغب، ولا يُحوَجون فيما بعد إلى الطلب.
, هزّ رجال الديوان رءوسهم وهمهموا موافقين، مرّت لحظات ناقشوا فيها كيف يكفون حاجة الجُند حتى يتفرغوا لما هو أهم، وهو حماية "مملكة البلاغة" من الأعداء، ثمّ قال أحدهم:
, - إن أهل المنطقة الشمالية رفعوا مظلمة يشكون فيها عاملًا هناك.
, أشارت "الحوراء" مرّة أخرى للكاتب ليدوّن خلفها وقال:
, - أرسل لهم٣ نقطة"عيني تراكم، وقلبي يرعاكم"
, وأمرت "الحوراء" بإرسال من يتحقق من الأمر ويعود إليها، ثم التفتت إلى أحد رجال القضاء الذي قال وهو يرنو لرجل يقف بعيدًا يراهم ولا يكاد يسمعهم:
, - مولاتي لقد قمت باستدعاء والي المنطقة الغربية كما أمرتِ وهو يستأذن بالدخول.
, - أذنت "الحوراء" له بالدخول وبعد أن ألقى عليها السلام
, قالت بحزم:
, - أخربت البلاد، وأهلكت العباد؟
, فقال الوالي مرتبكًا:
, - يا مولاتي، ما تحبِّين أن يفعل **** بكِ إذا وقفتِ بين يديه، وقد قرعتك ذنوبك؟
, فقالت "الحوراء:
, - العفو والصفح.
, قال الوالي بلهجة يشوبها الإحساس بالذنب:
, - فافعلي بغيرك ما تختارين أن يُفعل بك.
, صمتت "الحوراء" لوهلة ثمّ قالت:
, - قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطف خير من والٍ مستأنف.
, أسرع الوالي بالانصراف وشيّعه رجال الديوان بأعينهم ثم قال أحدهم فور أن انصرف:
, - حقًا يا مولاتي إنّك من أفضل حكّام المملكة حلمًا.
, قالت"الحوراء":
, - وأنا و**** أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه.
, فرغ الرجال من باقي مراسيمهم، وانتهى وقت الديوان وعادت "الحوراء" لقصرها واتجهت إلى صالة واسعة حيث كان الجميع يستعدّون للاحتفال بمناسبة هامّة( ).
, ٣ علامة استفهام
,
, شد "الزاجل الأزرق" سرج فرسه الذي صهل بعنفوانٍ قبل أن يقفز صاحبه به في الهواء قفزة رشيقة عابرًا نهرًا رفيعًا يفصل المكان الذي كانوا فيه عن وادٍ فسيح بين جبلين يحتضن قصرًا مهيب الطلعة، كان القصر بارزًا وكأنه نُحت داخل بلورة عملاقة، كلّ جزء منه كان رائعًا في حدّ ذاته، تحفة فنية لا تشبه ما يجاورها، شرفاته كانت وكأنّها محار مفتوح تطل منه لؤلؤات بديعة، بواباته عليها نقوش والتواءات تشبه فروع الأشجار، وكأنّ الأزهار المنحوته تضجّ بالحياة من روعتها. وقف "المغاتير" أخيرًا وكانت قوائم خيولهم مصطفّة على التوازي بشكل أنيق أمام البوابات، رفع "الزاجل الأزرق" يده ولوّح لحراس القصر ففتحت البوابات، فدلف ومعه رفاقه للقاء الملكة.
, بخطوات منتظمة سار "المغاتير" في زمرةٍ مهيبة تجاه جناح الملكة، توقفوا جميعًا فجأة عندما بدأت الأرض ترتفع قليلًا في مستواها عما خلفهم، تقدّم "الزاجل الأزرق" حيث استقبله خدام القصر بوجوه باسمة، وكأنّهم كانوا يترقبون وصوله!
, كان الصمت يخيّم على المكان، أشعة الشمس الحانية كانت تتسلل من النوافذ لتلقي على الأرض أمامه انعكاسات ذهبية خلابة، كانت تتراقص أمام خطواته وكأنّها ترحّب به، بدت النقوش والزخارف بديعة على الحوائط وهي تحتضن وتتكاتف، وارتصّت أوعية من الفخار على الرفوف تطالع أهل القصر من أعلى بشموخ. دلف حيث كانت الملكة تجلس بوقار وعلى الجانبين عدد كبير من الرجال يجلسون على الأرض في صفّين منتظمين وأمام كلّ منهم طاولة صغيرة عليها كتاب والكلّ مشغولٌ بالتدوين، كان للملكة وجه به بقايا جمال متعب، بدت عجوزًا تخطّت السبعين لكنّها كانت جميلة الروح، تلك التجاعيد التي حول عينيها من الطرفين بدت وكأنّها تحتضن نظراتها بحنان، كان بؤبؤاها شديدي السواد يسبحان في بياض عينيها الشاهق بحياء، سقط حاجباها لكنّ جبينها كان شامخًا بعزّة، هشّت فور أن رأت "الزاجل الأزرق"، أشارت له ليجلس مكانه ففعل بهدوء، كانت تقف أمامها فتاة احتشمت برداء أرجواني اللون فضفاض واسع، له قلنسوة مذهّبة الأطراف بشكلٍ بديع، أكمام ردائها الواسعة كانت تصطف على حروفها فصوص من الياقوت الأحمر دقيقة جدًا كانت الفتاة تقرأ بتأثّرٍ من كتابٍ بين يديها وبصوت تشوبه بقايا بكاء:
, "نكس الفارس سيفه وأجهش بالبكاء، كان قلبه يخفق بحرارة طغت على حرارة النار التي أحرقت قدميه، كان الحزن مذاقه اليوم مختلفًا، ليس قصيدة حزينة تنزف في أذنيه، وليس خبرًا مفزعًا يستقبله بالنحيب، الحزن مرّ لأنّ صديقه الذي كان يثق به قد خان العهد. عاد الفارس إلى الديار بعد أن طاب جرحه ليبحث عنها، وأخيرًا وقف أمامها يرجو المغفرة، ما عادت الحياة تطيب بعيدًا عنها. وكانت "هيلا" تتوسّد الصبر حتى يعود. لم تذق عيناها الجميلتان طعم النوم والراحة حيث ضاق بها المكان خلال غيابه، زُفّت إليه على عجلٍ في ليلة ملأت فيها كفّه بالدموع وتفجّر في صدريهما ينبوع الحب، وأخيرًا رقص جريد النخل، وتعانقت حبّات المطر، وبات الصدق يجول في الأنحاء، في الديار، على التلال، شامخًا فوق الجبال، كما يجول الهواء في صدور الأنقياء الأصفياء"
, أغلقت الفتاة الكتاب بين يديها، وفي نفس اللحظة أغلق كلّ الرّجال الكتب أمامهم في آن واحد وكأنهم قد اتفقوا على التوقيت، وتقدّمت الفتاة بخطوات ثابتة نحو "الحوراء" تسلّمه لها، وضج المكان بأصواتهم وكأنّهم يحتفلون بحدث عظيم. كانوا يحتفلون بـ "هيلا" وهو اسم لأميرة نبيلة وهو أيضًا عنوان قصة يحكي عنها هذا الكتاب.
, في تلك اللحظة استدارت الفتاة التي كانت تقف أمام "الحوراء" وتقرأ، ورفعت الكتاب الذي كان مكتوبًا عليه بخط واضح "هيلا"، فهلل الجميع، كانت الفتاة مشرقة ولها وجه طفولي بريء، لون عينيها كان يتأرجح بين اللون الرمادي والأزرق الشاحب، كانت تطالعهم وعلى وجهها ابتسامة فخر، فور أن رأت "الزاجل الأزرق" الذي لا تعرف من ملامحه سوى عينيه الواسعتين فهو يتلثم دائمًا كعادة المغاتير، شخصت بعينيها تجاهه وانتفضت فجأة وتغيّرت ملامحها، فهي تريد الرحيل فورًا والعودة إلى بيتها وعالمها فقد أدت مهمتها على أكمل وجه، وتخشى أن يتحقق ما أخبرها به الحكيم "سامي كول"٢ علامة التعجب
, ٣ علامة استفهام
,
, تقدّم "الزاجل الأزرق" ووجه تحيّته للملكة وقال بعد أن لاحظت علامات التوتر التي تطلّ من عينيه:
, - مولاتي، لقد وصل المحارب، وصل "أنس".
, - وأين هو؟
, - للأسف ركض في الغابة ولم نتمكن من الحديث معه.
, - يا للمصيبة! كيف حدث هذا! أين الرمادي؟ وأين كنتم أنتم؟
, - تأخرنا للحظات فقط٣ نقطة مجرد لحظات.
, رفعت صوتها وقالت وهي توقع كلّ كلمة بنَبرة صوتها المميزة:
, - أن تصل مبكرًا وتنتظر خير لك من أن تصل بعد فوات الأوان.
, - أعلم مولاتي، وأعتذر٢ نقطة لن تتكرر.
, - والآن كيف سنتواصل معه؟
, من بعيد، ومن خلف الستار، كانت "مَرام" تراقب الحوار وقد كتمت أنفاسها عندما سمعت اسم "أنس"، ذاك الشاب الذي يتحدثون عنه تعرفه، فقد أخبرها "سامي كول"، ذاك العجوز ذو اللحية أنّها ستلتقي بهذا الشاب، وربما تضطر للبقاء، وهي تود الرجوع إلى أهلها في الحال.
, ركضت خارجة من القصر في فزع والتف حولها العديد من الفتيات والجواري، اتجهت إلى الوادي القريب من القصر تنتظر أنثى الصقر التي ستحملها لتعود إلى بيتها، كانت ترتجف، غابت فرحتها فجأة، أرادت أن تتخذ القرار، تريد العودة لكنّ ضميرها يؤنبها هل تخبر "الحوراء" بما قاله لها "سامي كول" أم لا؟ كانت خائفة.
, اقتربت "الحوراء" في موكبها وحولها الحرّاس، من خلفها كان يسير "الزاجل الأزرق" وهو يقلّب ما حدث في رأسه، ماذا لو وصل "أنس" إلى الجنوب؟
, في تلك اللحظة قالت "الحوراء" موجهة كلامها لـ "مَرام" التي بدت على ملامحها علامات الارتباك:
, - شكرًا لك يا "مَرام"، حان وقت الرحيل.
, ودَّعوها ووقف الجميع رافعين رءوسهم ينتظرون "قطرة الدمع" لتحملها وتعيدها إلى موطنها، لكنّ "قطرة الدمع" ابتعدت فجأة عندما صاح منادٍ قائلًا:
, - مولاي الحكيم "سامي كول"
, التفت الجميع نحو باب القصر، واقتربوا حيث كان يقف الكهل فكلهم يعظمونه ويقدرونه لأنه ذو شأن عظيم في المملكة، كان يشير وهو مغمض العينين! رفع ذراعه تجاه أنثى الصقر التي كانت تحلّق في السماء والتي يطلقون عليها "قطرة الدمع" لتبتعد٣ نقطة كان الجميع يتساءلون:
, (لماذا جاء ذاك الحكيم الذي لا يغادر بيته إلّا للضرورة في هذا الوقت من النهار؟)
, رفعت "مَرام" رأسها تجاه "قطرة الدمع" التي كانت تحلق فوق رءوسهم في السماء، تابعتها بنظراتها وهي تبتعد بدون أن تحملها معها كما كانت ترجو، ثُمّ ترجرجت الدموع في مقلتيها، بدت حائرة ويائسة وقالت بخفوت وهي تسير بجوار الملكة:
, - لماذا يبعد الحكيم "سامي كول" "قطرة الدمع"! ألن تحملني لدياري؟ ألن أرحل الآن؟
, - يبدو أنّ هناك خبرًا جديدًا، انظري لوجه أبي!
, تمتمت "مَرام" قائلة وهي ترنو إليه:
, - بالفعل٣ نقطةهناك شيء ما!
, - ما هو يا عزيزتي؟
, زفرت بوهن وقالت:
, - ذاك الشاب الذي كنتم تتحدثون عنه منذ قليل٢ نقطة
, - ما به؟
, - رأيت اسمه في منتصف كتاب "هيلا"، ظهر لي بشكلٍ واضح، وأخبرني العظيم "سامي كول" أن أبلغه إن ظهر مرّة أخرى على صفحات كتابي، وأنه من الأفضل أن أبقى لو وصل قبل رحيلي.
, - وهل ظهر اسمه مرّة أخرى؟
, - نعم٢ نقطة أكثر من مرّة، وكأنّ الكتاب يريد أن يخبرني عنه شيئًا ما.
, - وهل قٌمتِ بإخبارِ أبي؟
, - بصراحة٣ نقطة لا!
, التفتت "الحوراء" ورمقت "الزاجل الأزرق" بنظرة ذات معنى، همهم "الزاجل الأزرق" وغضن حاجبيه قبل أن يقول وهو يقترب منها:
, - هل كان هناك رمز؟
, قالت "مَرام" متلعثمة:
, - لا أذكر٢ نقطةفكما تعلمون كنت مشوشة في الفترة الأخيرة حتى أن إكمال مهمتي كان صعبًا جدًا.
, دلف الجميع إلى القصر يتقدمهم رجلٌ قويّ البنية بارز العضلات، يرتدي سروالًا فضفاضًا وقميصًا أبيض ودَرّاعةً من الكتّان، وعلى رأسه قلنسوة بيضاء، ثمّ صاح بصوت جهوري ليعلم كلّ من بالقصر:
, - مولاي الحكيم "سامي كول".
, ارتبك كل من بالقصر، وأسرعت الحوراء نحو الديوان تعدّل من مكان جلوس أبيها، ثُمّ أمسكت بزجاجة مرصعة بالأحجار الكريمة ونثرت بعض قطرات العطر منها على الكرسي بجوارها وكأنّها تهيؤه لاستقباله.
, جلس "سامي كول" تجلله الهيبة وابتسامته العذبة تضوي على ثغره، كانت لديه لحية بيضاء طويلة ناعمة، بدا عجوزًا جدًا كشجرة بلوط قديمة، انحنت قامته ووهن عظمه ولكنّه بدا صلبًا متماسكًا، وأنيقًا أيضًا!
, كان يرتدي قَبَاءً بنفسجية اللون مفتوحة عند الرقبة، أكمامها محلّاة بخيوط ذهبيّة، تغطّي رأسه قلنسوة زاهية اللون ومطرزة، وعلى كتفيه وضع طيلسانًا أخضرَ.
, حيّاهم بحبور وشرد بفكره قليلًا، كانت له عينان شفافتان كالبلور! بدت على وجهه علامات القلق فأسرعت ابنته بسؤاله وكانت ذكية اللبِ حاذقة الفهم تقرأ حال أبيها على وجهه فقالت:
, - هل أنت بخير يا أبي؟
, قال بألم وهو يمسح وجهه بكفيه :
, - مات صديقي الحبيب.
, - رحمه **** يا أبي، لا تحزن.
, قالت "الحوراء" الجملة الأخيرة وهي تمسح على كتفه مخففة عنه ما ألم به من حزن على فراق صديقه العزيز والحبيب.
, دمعت عيناه وجلس شاخصًا بعينيه حزينًا وجلست "الحوراء" تواسيه ثُمّ قالت بعد أن هدأت نفسه:
, - أنهت "مَرام" مهمتها، لكنّها رأت اسم "أنس" يتكرر في كتابها، وتقول أنّك أخبرتها أن من الضروري أن تخبرك إن تكرر ظهوره.
, - وهل تكرر؟
, - نعم
, - وهل وصل "أنس"؟
, - نعم وصل.
, - وأين هو؟
, - للأسف، بدأت رحلته قبل أن يلتقي بنا وتوغل في الغابة وحده.
, التفت العجوز فجأة تجاه "مَرام"، ثُمّ قال لها وهو يحرّك سبابته في الهواء محذّرًا:
, - لا ترحلي، وأسرعي خلفه فأنت تستطيعين دخول الغابة أما نحن فلا٣ نقطة هيا.
, اقترب"الزاجل الأزرق" من الشيخ وسأله بإجلال:
, - هلّا أخبرتنا أيّها الحكيم عن سبب ظهور اسم "أنس" في كتاب "هيلا" الخاص بـ"مَرام"؟
, - كان لا بدّ من هذا، وربّما ستظهر صورتها في كتابه!
, - لماذا؟
, سحب "سامي كول" نفسًا عميقًا ثُم صمت حتى أنّهم ظنوا أنّه لن يتكلّم، ثمّ قال أخيرًا:
, - ستخبرنا "مَرام" بنفسها يومًا ما.
, كانت "الحوراء" تدرك شعور "مَرام"وشوقها للعودة لبيتها، سألت والدها وهي ترنو إليها بحنان:
, - هل عليها البقاء وقد أدّت مهمتها؟ أظنها اشتاقت لأمها.
, رفع الحكيم حاجبيه وقال:
, - على الأقل تحاول اللحاق به وتعيده، لن يستغرق الأمر منها وقتًا طويلًا، ربّما ساعة أو ساعتين!
, نهض "سامي كول" فجأة، قرر العودة لداره، يأبى البقاء في القصر، ويرفض الإقامة مع ابنته، حتى والمطر يهطل بغزارة صمم على الرحيل!
, - لكنّك لم تخبرنا بأيّ شيء جديد! ما سبب ظهور اسمه في كتابي؟ ألست حكيم المملكة يا سيدي؟
, قالتها "مَرام" بضيق، ودت لو وضّح العجوز شيئًا ما، فهي تود العودة إلى بيتها في الحال.
, التفت الكهل بعينيه البلوريتين ثم قال موجها كلامه لـ"مَرام":
, - سيكون طوق نجاة لكِ، وستكونين طوق نجاة له يومًا ما.
, ثُمّ سألها:
, - هل تدركين معنى كلامي يا "مَرام"؟
, ابتلعت "مَرام" ريقها بصعوبة، ثُمّ قالت بصوت مهتزّ:
, - في الحقيقة٣ نقطةلا!
, لاح على شفتيه شبح ابتسامة، استدار وتركها وعلامات الخوف تتمشّى في وجهها.
, التفتت "الحوراء" تجاه "مَرام" التي كانت تطالعها باهتمام شديد ممزوج بالتوتر، كانت تعصر كفيها وتتنفّس بصعوبة، رمقتها الملكة بنظرة تشي بالكثير وقالت لها:
, - "مَرام" أعلم أن مهمتك قد انتهت، لكننا في الحقيقة نحتاج لوجودك معنا في المملكة لفترة وجيزة لمساعدتنا في هذا الأمر، فأنتِ تعلمين أننا لا نستطيع دخول الغابة، أمّا أنت فتستطيعين لأنّك محاربة.
, زفرت "مَرام" بيأسٍ وقالت وهي تهزّ رأسها:
, - وهل لي أن أقرر أو أختار؟ قد كان اليوم احتفالًا بانتهاء مهمتي وكنت على قيد أنملة من عودتي لداري!
, رمشت الملكة بعينيها وقالت:
, - للأسف٣ نقطةلن نستطيع السماح لك بالرحيل الآن.
, مرّت "مَرام" بلحظة عصيبة قبل أن تقول:
, - لكن لي طلب واحد.
, - وما هو؟
, - عند انتهاء الأمر ربّما أطلب منك شيئًا ما، وأريد منك أن تعديني بأن تحققيه لي.
, - وما هو؟
, - ليس الآن٣ نقطة
, - أعدك يا ابنتي طالما الأمر في استطاعتي.
, - حسنًا، والآن٣ نقطةما المطلوب مني؟
, اقترب منها "الزاجل الأزرق" وقال بنَبرة جادة:
, - الأمر هام، وصل "أنس" وها هي رحلته على أرض مملكتنا قد بدأت دون أن يلتقي بنا، أخشى أن تختلط عليه الأمور ولا يميز بين النقيضين، وقد تخدعه المظاهر ويثق بأحدهم فيقع أسيره ويختل ميزان الحكم لديه فيسلب منه حق استرداد كتابه، ودورك أن تتبعيه في الغابة، وكما تعلمين لأنّك محاربة فأنتِ في أمان فيها أمّا نحن فلا، وعندما تلتقين به عودي معه إلى هنا بسرعة.
, - حسنًا٣ نقطةولكن!
, - ولكن ماذا؟
, - كيف سأعرفه؟ هلا وصفته لي.
, - الحقيقة أنني٤ نقطةلا أعرف شكله٣ نقطةلقد رأيته من الخلف فقط، كل ما لاحظته أنّه طويل القامة وقوي البنية، ذراعاه مفتولا العضلات، كما أن لديه شعرًا فحميًّا قصيرًا، ويحمل على ظهره حقيبة جلدية، ويرتدي سروالًا سماوي اللون، لكنني لم أشاهد وجهه.
, زفرت "الحوراء" بحنق وقالت:
, - لحظة واحدة كانت فارقة.
, نكّس "الزاجل الأزرق" رأسه وقال بخجل:
, - أعتذر مرّة أخرى يا مولاتي.
, أمسكت "الحوراء" بذراع "مَرام" وقالت:
, - هيا يا "مَرام" إلى الغابة، لن نضيع الوقت.
, في الحال، هرول "الزاجل الأزرق" تجاه فرسه وامتطاه بقفزة واحدة، صهل الفرس بقوّةٍ فأجابته الخيول بصهيل جماعي وكأنهم يستجيبون لأمره، انطلق المغاتير يصحبون "مَرام" نحو الغابة، حيث ستدخلها وحدها باحثة عن "أنس"., خارج القائمة