NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

متسلسلة منقول عصر الأهوال (للكاتبYoKio_HTM) | السلسلة الثالثة | ـ حتي الجزء الرابع 16/4/2024

  • حبيته
التفاعلات: Ehab Demian
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
  • حبيته
التفاعلات: امير الظلام الاول
  • عجبني
التفاعلات: مصطفى بشندى
  • عجبني
التفاعلات: غريب عن العالم
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
  • عجبني
التفاعلات: غريب عن العالم
فين الجزء الثالث
 
  • عجبني
التفاعلات: BABA YAGA
فين الجزء الثالث

(الجزء الثالث)

خبر سيّئ. ما الذي يمكن أن يحدث؟ العوالم مختومة ولا يمكن لأحد التنقّل إلى هنا من عالم آخر. هل يمكن أنّ خلافا ما حدث في أكاديميّة الاتّحاد؟ ألهذا السبب لا تجيب أنمار والآخرين؟ ولكن كيف لأحد من هذا العالم أن ينافسهم؟
(لقـ... لقـ-لقد قتلوا وسلبوا كلّ شيء.)
كلّ شيء.
ارتعش جسد باسل لمّا سمع هاتين الكلمتين. كلّ شيء. لم يقل باسل شيئا، لا، لم يقدر أن يقول شيئا وانتظر الخبر يأتي من الجنرال رعد الذي كانت أفكاره متبعثرة.
(لقد جاؤوا مرّة أخرى... و... لقد قتل ذلك الشيطان... ذلك الشيطان... قتلهم كلّهم. لقد قتل جلالة الإمبراطور...)
بووم
دقّ قلب باسل بقوة كبيرة كما لو أنّه سينفجر من مكانه. تسارعت بعد ذلك دقّات قلبه، وهذا بسبب أنّه علم أنّ جلالة الإمبراطور هو الكبير أكاغي من طريقة كلام الجنرال رعد. ومع ذلك، لم يقدر أن يقول شيئا، وهذا لأنّ ما سمعه تاليا جعل من جسده يهِن لدرجة لم يقدر فيها على تحريك شفتيه.
(وقتل الجنرال منصف.)
كان صوت الجنرال رعد في ذهن باسل واهنا للغاية، لكن ما كان يقوله كان ثقيلا بشكل لا يوصف. الكبير أكاغي والجنرال منصف. الشخصان اللذان عدّهما باسل كجدّ وعمّ. الشخصان اللذان حسباه جزءا من عائلتهم وعاملاه كواحد منهم.
ماتا؟ قُتِلا؟ ما الذي يتحدّث الجنرال رعد عنه الآن؟ ذلك الشيطان قتلهما؟ أيّ شيطان في هذا العالم المعزول؟
(لقد قتل أخويْ القطع.)
الشابّان اللذان اتّسخت أيديهما بسبب الأميرة شارلوت التي استعملت أختهما الصغيرة حتّى تتحكّم فيهما. الشابّان اللذان وثقا فيه وتبعاه. الشابّان اللذان جعلاه يتمنّى لو امتلك أخيْن أكبرين مثلهما.
اهتزّ جسد باسل بعنف شديد وارتعشت عيناه. تنفّس بسرعة كبيرة بينما يحاول استيعاب ما يقال له. ألم يكن من المفترض أن يخرج من هنا ويذهب إلى أكاديميّة الاتّحاد المباركة حتّى يلتقي بهؤلاء الأشخاص؟ ألم يكن يُفترض أن يبدأ في الاستعداد لتنميّة هذا العالم الروحيّ كفاية لمواجهة أخطار باقي العوالم الروحيّة؟
قال باسل بتردّد: (مـ-ما الذي...)
لم يكمل باسل كلامه. أضاف الجنرال رعد بعد ذلك ما كان يخشى باسل سماعه. لقد قُتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخوي القطع. من قُتِل أيضا؟ تورتش والآخرين؟ عائلته؟
(عائلتك... هو... ذلك اللعين... شيطان اليأس، إبلاس.... لقد قـ-قتل عائلتك!)
"هااااااااا............؟؟؟؟؟؟؟؟؟"
لم يفهم باسل شيئا. لا، بل لم يرد أن يفهم أيّا من هذا. الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع، وعائلته. ما الذي يسمعه؟ شيطان اليأس؟ إبلاس؟ هل يمكن أنّ الجنرال رعد قد حلم بكابوس وما يزال يعتقد أنّه يحلم؟

(ما الذي تقوله؟ هل تحلم؟ ها... أخبرني... يا أيّها الرجل الأشقر...)
صرخ باسل بينما ينقل كلامه للجنرال رعد: "أخبرني أنّك حملت كابوسا كهذا! اللعنة!"
ما سمعه باسل كان شهيق الجنرال رعد المملوء باليأس.
(أنا آسف... أنا آسف. أنا آسف... أنا... لم أقدر أن أحميهم. لم أستطع إنقاذهم. لم أستطع إنقاذ السيّدة لطيفة، وأمّ الفتاة الشقراء، وجدّتك. لم أستطع حماية أحد. آسف... آسف...)
نظر باسل إلى يديه اللتين كانتا ترتجفان. لقد كان جسده بالكامل على ذلك الحال. يجب أن يكون هذا مجرّد حلم. عليه أن يذهب إلى هناك للتأكّد من أنّ هذا حلم. عليه أن يقابل الجنرال رعد حتّى يجعله يقول أنّ كلّ ما قاله مجرّد حلم اعتقد أنّه حقيقة.
مدّ باسل يده بسرعة فسُحِب إليها الرمح الطاغيّة من بعيد بسرعة كبيرة.
صرخ الرمح: "مـ-ما الذي تفعله الآن يا لعين؟"
نظر إليه باسل شزرا، وقال شيئا واحدا: "اخرس!"
لو كان للرمح جسدا، لكان يبلع ريقه الآن. اختار السكوت بعدما لاحظ مزاج باسل السيّئ للغاية، وجدّيّة وضعه.
ظهرت المخطوطات الثلاث في يد باسل اليسرى، فجعلها تطفو أمامه وتحكّم فيها بطاقته الروحيّة. شكّلت المخطوطات الثلاث مثلّثا شعّت رؤوسه وامتدّ منها ضوء بنفسجيّ التقى في المركز لتتشكّل شعلة بنفسجيّة هنا.
قال باسل بدون النظر إلى الرمح: "ليس لديّ الطاقة الكافيّة لاستخدام قدراتك بشكل مريح، لذا سأستخدم هذه المخطوطات كوسيطة."
اهتزّ الرمح قليلا بشكل مطيع كما لو كان يومئ رأسه لو كان يملكه.
لقد كان يعلم ما كانت هذه المخطوطات، أو بالأحرى، لقد كانت هذه المخطوطات الثلاث مبنيّة بمساعدته. لقد كان هو المسؤول عن زرع فيها قدرة التلاعب بالفضاء. لم يتذكر هذا، لكنّه علم عنه لمّا شاهدها.
استعمل باسل هذه المخطوطات للتنقّل من أجل مساعدة الجنرال منصف والآخرين بالفعل، وكان يعلم أنّ عدد مرّات استخدامها محدود، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن. حاليا، عليه أن يسرع حتّى يسمع من الجنرال رعد يقول أنّ ما قاله سابقا كان مجرّد ما شاهده في كابوس الليلة الماضيّة.

امتدّت طاقة باسل الروحيّة نحو الرمح الذي اهتزّ بعد ذلك بشكل طفيف. لقد كان يشعر بهالة باسل والضغط القادم منها. فقط ما الذي كان يجري مع هذا اللعين؟ لماذا صار 'حضوره' قويّا هكذا؟ نعم، مثل تلك المرّة التي جعله فيها يرضخ. لا، بل أكثر من ذلك بكثير.
أحكم باسل القبض على الرمح واتّخذ وضعيّته مستعدّا لاختراق مركز المثلث. شحن الطاقة الروحيّة الكافيّة ثمّ طعن تجاه المركز مباشرة.

صرير
التقى الرمح بالشعلة البنفسجيّة، لا، اخترقه واختفى رأس الرمح داخل الشعلة البنفسجيّة. تموّجت الشعلة بعد ذلك وازداد حجمها فجأة حتّى غطّت مساحة المثلّث بالكامل. حدّق باسل إلى المثلّث البنفسجيّ وبدأ يستخدم الحكمة السياديّة بعدما تراجع للخلف قليلا.
ظهرت ثلاث كرات ضوئيّة فضيّة فوق رأسه فبدأ يستخدم الدرجات الثلاث التي يمكنه استخدامها من الحكمة السياديّة.
دارت الكرات الفضّيّة حول محاورها الخاصّة وحول مدارها المشترك الذي كان مركزه رأس باسل.
كان باسل ما يزال متّصلا بالجنرال رعد، لذا استخدم هذا الاتّصال من أجل ربط هذا المكان بمكان الجنرال رعد، واستخدم رؤيته الحكيمة السحيقة وتحليله الحكيم الشامل وتحكّمه الحكيم السليم من أجل النجاح في هذا. كان هذا ممكنا فقط لأشخاص يمكنه اتّباع مسار الموجات السحريّة والروحيّة وتحليلها والتحكّم فيها من أجل حساب الموقع المفترض الانتقال إليه.
كان يعلم أنّ مكان الأكاديميّة سيكون قدّ تغيّر على الأغلب، لذا بذل مجهودا كبيرا محاولا اتّباع مسار اتّصاله بالجنرال رعد. ولحسن الحظّ، لم يكن موقعها بعيدا للغاية. بل على العكس، يبدو أنّه صار أقرب إلى قارّة الأصل والنهاية ممّا كان عليه.
فهم باسل حالا أنّ القارّة العظيمة وقارّة الأصل والنهاية قد اقتربتا من بعضهما عمّا كانتا عليه. وبالطبع، فهم هذه الأشياء تلقائيّا، وليس لأنّه اتهمّ فيها حاليا. لم يكن لديه وقت ليفكّر بأشياء كهذه.
سحب الرمحَ ثمّ وضعه أمامه بشكل عموديّ، قبل أن ينطلق بعدما وجّه رأس الرمح تجاه الثلّث البنفسجيّ.
اخترق الرمح المثلّث البنفسجيّ، أو حاول ذلك، لكن ما حدث كان مختلفا. امتدّ المثلّث البنفسجيّ كالمطّاط بسبب اختراق الرمح له حتّى صار هناك مكانا كافيا لباسل داخل المثلّث.
كان هذا الرمح يتحكّم في الفضاء كمادّة ملموسة.
غلّف الضوء البنفسجيّ باسل وعادت المخطوطات إليه، فوجد نفسه ينتقل عبر مسار سلس عبر بعد آخر.
لم يمر وقت طويل قبل أن يلاحظ مثلّثا كالذي جاء منه. لقد كان هذا المثلّث أبيضا. كان ذلك يشير إلى الضوء القادم من الجانب الآخر.
***
توقّف الاتّصال بباسل فجأة، فاستعجب الجنرال رعد. لم يستطع أن يقول شيئا واحدا بدون أن يتلعثم. لم يقدر على تنفيذ مهمّته الوحيدة.
كان الجنرال رعد يائسا.
صرير
انشقّ الفضاء فجأة مرّة أخرى أمامه.
"ها..."
لهث الجنرال رعد وسقط على ركبتيه: "ماذا الآن؟ ما الذي يمكن أن يحدث مرّة أخرى؟ ألم تأخذوا منّا كلّ شيء بالفعل؟"

كان يعتقد الجنرال رعد أنّ نفس الشيء يحصل كما حدث عندما ظهروا أولئك الملاعين، لكنّه لاحظ أخيرا أنّ تخمينه كان خاطئا.
ظهر ذلك الفتى القرمزيّ من ذلك الشرخ الفضائيّ. لم تظهر تلك المخلوقات الفظيعة.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل الذي كانت عيناه متّسعتين بشدّة. ليس لأنّه رأى دموع الجنرال رعد التي لم يمكن إيقافها، بل لأنّه رأى الأرض التي كان يقف عليها شبه مدمّرة.
لقد كانت هذه الأرض جانب البحيرة المباركة.
تلك البحيرة التي اعتادت أن تكون خلّابة وموقّرة حتّى اعتُقِد أنّها مباركة... لقد كانت مغطّاة بالوحل ومستنزفة من الطاقة السحريّة والروحيّة.
كانت التربة تحته ميّتة وصارت مجرّد غبار لا يحمل ذرّة من طاقة العالم.
كان بناء الأكاديميّة يبدو كقلعة مهجورة.
كان الناس المنتشرين في كلّ مكان يبدون كجثث هامدة، لا، بالفعل كانت هناك جامدة بينهم، إلّا أنّ الحيّ والميّت كانا سيّان.
"لم يكن حلما..."
كان هذا أوّل ما قاله باسل بعدما رأى الكارثة التي حلّت عند غيابه.
"الكبير أكاغي."
بدأ يردّد الأسماء التي سمع بخبر موتها.
"العمّ منصف."
تحرّك خطوة كلّما نادي اسما. تجاوز الجنرال رعد ومدّ يداه نحو الفراغ كما لو أنّه يحاول إمساك شيء.
"غايرو وكاي."
ولكن مهما أمِل، لم يكن هناك شيء ليمسكه. كان هناك فقط الخراب.
الخراب والعذاب.
"أمّي... أمّي... أين هي أمي؟"
ارتفع كلام باسل: "أين أمّي؟"
صرخ: "أخبروني أين هي أمّي؟!"
ولكن، لا أحد أجاب. لم يكن للجثث شيئا لتقوله.
"عائلتي... لقد تركتها هنا في رعايتكم. اللعنة! أين تخبّؤونهن؟"
التفت باسل بعد ذلك إلى الجنرال رعد، الشخص الوحيد الذي بدا ما يزال حيّا، وقال بعينين مضبّبتيْن: "صحيح... أنت... الرجل الأشقر. أنت واحد من قادة الأكاديميّة الثلاثة. أنت تعلم أين هن، أليس كذلك؟ هاها، بالتأكيد تعلم."

سارع باسل عائدا إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "هيّا... أخبرني. أين خبّأتهن؟"
وضع باسل يديه على كتفيْ الجنرال رعد وهزّه بشكل عنيف بينما يكرّر نفس الكلام: "أخبرني، لقد خبّأتهن في مكان آمن، صحيح؟ كما هو متوقّع منك. كنت أعلم أنّ هذا حلم سيّئ."
بالرغم من أنّه كان يسأل عن مكانهنّ، إلّا أنّه ما زال يريد من هذا أن يكون حلما.
لقد أدرك أنّ الجنرال رعد لم يحلم عندما شاهد ما حصل هنا بعدما جاء.

"سأستفيق بعد قليل وأجد نفسي بالمنزل. نعم، سأرى عندئذ أمي، والعمّة سميرة، وجدّتي ليندا. هاها... سأراهنّ. نعم، لنستيقظ من هذا الكابوس."
لذا كان يعتقد أنّ هذا كابوسه الآن. لقد كان يأمل أنّ يكون مجرّد كابوس.
"آسف..."
حدّق الجنرال رعد إلى دموعه الخاصّة التي نزلت على الأرض بدون أن يكون قادرا على رفع رأسه. ظلّ هناك يردّد نفس الشيء كما لو أنّه فقد القدرة على قول شيء آخر.
"آسف... آسف... آسف... آسف."
"ها" لهث باسل لهثةً كالضحكة وقال: "ما الذي تقوله؟ إنّك مزعج حقّا حتّى في الأحلام. ما الذي تتأسّف بشأنه؟ انتظر، هذا مجرّد حلم. ما الذي أحاول مناقشته معك في حلم؟"
دوو
استغرب باسل لمّا وجد قبضة الجنرال رعد تبتعد عن وجهه بعد أن لمسته. هل حاول لكمه قبل قليل؟
لم يحاول، بل فعلا لكمه.
حدّق الجنرال رعد إلى باسل في المقابل ثمّ صرخ بينما تنهمر دموعه بلا توقّف: "إنه ليس حلما، اللعنة!"
"حسنا، حسنا، إنّه ليس حلما."
أكمل باسل ساخرا: "إذن لمَ لا أشعر بأيّ ألم بالرغم من أنّك بدوت كما لو أنّك لكمتني بكلّ قوّتك؟ ها؟ أليس من المفترض أن أشعر بالألم إن كان هذا واقعا؟"
لقد كان فقط اختلافا في المستويات. لقد كان باسل سيّدا روحيّا بالفعل، وليس أيّ سيّد روحيّ، بل شخص نجح في تحقيق ما لم يسبق لأحد النجاح فيه. لقد كان شخصا رائدا لمسار روحيّ فريد عبر العصور.
لكنّه لم يفكّر حتّى في هذا الأمر البسيط. لقد أراد من كلّ هذا أن يكون مجرّد حلم.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي ما زال لا يريد تصديق ما قاله حتّى الآن. هذا ما كان يخشاه. لم يكن يريد تكرار قول تلك الحقيقة مرارا. مرّة واحدة كانت صعبة بالفعل، لكن كان عليه الآن أن 'يقنع' الفتى القرمزيّ بتصديق كل هذا.
"عندما انتهى تحوّل العالم الروحيّ، وفاضت طاقته الروحيّة، ظهرت شروخ فضائيّة. أولئك الملاعين بدؤوا يظهرون واحدا تلو الآخر."
بدأ الجنرال رعد يروي ما حدث. لقد كانت هذه هي المهمّة الموكّلة له. لقد كان هو المرسول. مرسول الشيطان.
نظر الجنرال رعد إلى باسل الذي كان يهزّ جسده باستمرار. كانت قبضتا باسل محكمتين بشدّة حتّى شعر الجنرال رعد أنّ كتفيه سيُكسران، لكن لم لكن ذلك ما آلمه حتّى عضّ شفتاه وغرس أظافره في كفّيْه؛ لقد كانت الكلمات التي يجب عليه أن يستخدمها حتّى يقنع الفتى القرمزيّ هي ما تجعله يتألّم. كان عليه تذكّر كلّ ما حدث بتفاصيله حتّى يخبر باسل... تذكّر تلك اللحظات...
كلّ كلمة جعلته يسترجع الأحداث التي عرف فيها حقّ المعرفة عن ضعفه وعدم نفعه.
ولكن لم يكن هو الشخص الوحيد الذي كان يعاني. لقد كان يعلم. هو شخص علم عن ضعفه بعدما 'حاول'. هو شخص 'يئِس' بعدما 'أمِل'. إذن ماذا عن الشخص الذي لم تُتَح له فرصة ليقاتل أو يحمي أحبّاءه؟ ماذا عن الشخص الذي فاته الأوان على التحلّي بالأمل حتّى؟

كان يعلم أنّ الفتى القرمزيّ أمامه يتعذّب بكلّ كلمة ينطقها، فكيف له أن يرضخ هو لآلامه ويلازم الصمت؟ ألم يشعر بالعار بشكل كافٍ؟
أليس عليه أن ينفّذ مهمّته الأخيرة بشكل جيّد على الأقلّ؟
وصل الجنرال إلى الجزء الأصعب: "لقد سحق رأس جلالته وحرص على أن تشاهد الفتاة الشقراء عينيه تخرجان من مكانهما."
كانت روحه تتآكل بينما يقول ذلك بالتفصيل. وفي الجهة الأخرى، كان باسل يتمتم بشكل غير مسموع، لكن علم الجنرال رعد عمّا كان يردّده باسل، 'هذا حلم. يجب أن يكون حلما.' ومع ذلك، قرّر الجنرال رعد المواصلة بدون نسيان شيء.
وصل إلى جزء مقتل الجنرال منصف، ورأى باسل يتلعثم في تمتمته.
ذكر مقتل أخويْ القطع فأكّد باسل لمرّة واحدة بصوت مرتفع على أنّ هذا حلم قبل أن يستأنف تمتمته، متشبّثا بكتفيْ الجنرال رعد.
وصل الجنرال رعد لأصعب جزء. الجزء الذي تيقّن فيه من ضعفه وعدم نفعه. الجزء الذي فقد فيه روحه وليس فقط كرامته.
"ذلك اللعين... ذلك الشيطان اللعين." بكى الجنرال رعد وقال: "لم يسمح لها بتوديع الفتاة الشقراء حتّى. لم يتركها تكمل كلماتها الأخيرة حتّى. هو لم يهتمّ لها أصلا. كان مهتمّا بالفتاة الشقراء فقط. قتلها بالرغم من أنّه لم يهتمّ بها. اللعنة! تبا...!"
كان هذا الجزء من رواية الجنرال رعد هو ما جعل تمتمة باسل تصبح صراخا: "اخرس! اخرس! اخرس! لماذا لا أستيقظ، لماذا؟! اللعنة!"

ضعفت يدا باسل وارتخت قبضتاه حول كتفيْ الجنرال رعد، فسقط على ركبتيه ويديه.
لو كان هذا حلما، فليوقظه أحد، لكن باسل بدأ يدرك أنّه ليس حلما.
لو كان هذا حلما، لكان قد استيقظ منه مسبقا.
أراده أن يكون حلما، لكنّه لم يكن حلما.
لقد كان يعلم. حتّى بدون الحكمة السياديّة، كان يعلم بكلّ حواسّه أنّ هذا واقع.
كانت الأرض التي يلمسها حقيقيّة ولو كانت تربتها ميّتة.
علم أنّ السماء التي رآها فوقه واقعيّة ولو كانت رؤيته ضبابيّة.
استطاع شمّ رائحة الدماء التي يكرهها كثيرا في الأرجاء.
تذوّق ملوحة دموعه التي بدأت تنهمر بالفعل من عينيه.
وسمع... سمع التفاصيل المؤلمة من فم الجنرال رعد ذي الصوت المهتزّ.
لم يكن هذا حلما وإنّما واقع. واقع لم يرده أن يحصل. واقع أمِل ألّا يحصل. واقع فعل كلّ ما بوسعه حتّى لا يحصل. واقع غيّر العالم من أجله حتّى لا يحصل.
لكن... حصل!
في النهاية حصل. حصل! لقد حدث حقّا! كلّ ما قاله الجنرال رعد واقع. إبلاس قتل الكبير أكاغي والجنرال منصف وأخويْ القطع. شيطان اليأس قتل أمّه والعمّة سميرة وجدّته.

وعندما أدرك... لا، عندما 'تقبّل' باسل الواقع، تذكّر شيئا.
أنمار.
أين هي؟
أين تورتش والآخرين؟
نظر إلى الجنرال رعد بعينين أكثر حمرة من عادتهما. كانت الشرايين فيهما تكاد تنفجر.
نهض باسل ثمّ وقف أمام الجنرال رعد وقال بصوت بارد، بارد كثيرا لدرجة شعر فيها الجنرال رعد بالقشعريرة بالرغم من أنّ الصوت كان خاليا من الحياة لقلّة ارتفاعه وحدّته.
"أكمل."
"حـ-حسنا."
لقد أراد أن يعلم. ما الذي حدث لها؟ هل فقدها أيضا؟ هل فقد كلّ شيء؟
حكى الجنرال رعد عمّا حصل مع تورتش والآخرين، حتّى وصل إلى الجزء الذي الأسوأ بين الأسوأ مرّة أخرى.
"لا أعلم ما مصير الفتاة الشقراء حاليا. بالرغم من أنّ تلك المرأة والرجل الذي كان معها دافعا ضدّ إبلاس والشياطين، بالرغم من أنّهما نجحا في ذلك حتّى آخر لحظة..."
نظر الجنرال رعد إلى باسل، إلى عينيه اللتين لم يعد يرى فيهما بياضا. كانتا حمراوين باحتقان الدم فيهما. بدتا كعينين لشخص يريد سفك الدماء حالا وأبدا، لكنّهما أيضا جعلتاه يرى انعكاس الآلام التي يشعر بها باسل حاليا.
بلع ريقه وأكمل: "عندما ظنّنا أنّه استسلم وقرّر الجميع المغادرة، استخدم قوّة غريبة كانت عبارة عن سائل أحمر في صحن فخّار. لم تستطع المرأة ولا الرجل ملاحظة أنّ السائل الأحمر كان مختلطا بدماء أعدائهما التي التصقت بهما."
كان السائل الأحمر بنفسه كالدماء، ولكن بما أنّ شخصا في مستوى الملاك ملاك لم يلاحظه، فلا بدّ أنّ ذلك السائل شيء خاصّ وفريد للغاية. وكيف لا؟ لقد كانت تلك قوّة سلطان أصليّ.
ومع ذلك، لم يستخدمه إبلاس هذه المرّة مباشرة كما فعل ضدّ إدريس الحكيم. هناك اختبار جدارة لأيّ شيء يخالف قواعد وقوانين هذا العالم. فإذا أراد شخص إخلال التوازن، عليه أن يكون مستعدّا لتجاوز اختبار العالم حتّى يكون جديرا بذلك.
واستخدام قوّة سلطان أصلي، كيان يعد في حد ذاته إخلالا بالتوازن الطبيعي، سينشّط اختبار الجدارة لا محالة.
في ذلك الوقت ضدّ إدريس الحكيم، قرّر إبلاس استخدام قوّة سلطان أصليّ، وكان مستعدّا لمواجهة اختبار العالم، لكنّه هذه المرّة لم يملك الوقت ولا الحاجة للقيام بذلك.
كلّ ما احتاج لفعله هو استخدام جزء بسيط للغاية. فقط قطرة صغيرة جدّا.
"يبدو أنّها تعرّضت للعنة ما بسبب شيطان اليأس، فاضطرّت تلك المرأة في النهاية اصطحابها معهما. كان وجه المرأة شاحبا عندما علمت عمّا أصاب الفتاة الشقراء، بينما كان وجه إبلاس مشرقا، كـ-كما لو أنّ كلّ شيء حدث كما أراد."
فقط جزء صغير من تلك القوّة الملعونة التي كانت تستمرّ في أكل روح إدريس الحكيم بالرغم من أنّ الهجوم كان قد انتهى. ذلك الجزء الضئيل كان كافيا ليضع إبلاس لعنة على أنمار بدون أن تستطيع الملاك ملاك وفاصل ملاحظة شيء في الوقت المناسب.
نظر الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ.
لقد كان يعلم الجنرال رعد معنى كلامه.
قد تكون أنمار ماتت أيضا.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ الذي ظلّت عيناه الحمراوان متّسعتين بشدّة كما لو أنّه يحاول استدراك الأمور.
بالفعل، كان عقل باسل مشغولا بشيء واحد. هل فقد حقّا كلّ شيء؟ من أجل ماذا فعل كلّ ما فعل حتّى الآن؟
ألن يرى ابتسامة أمّه؟ انس الابتسامة... حتّى لو بكت كلّ ليلة كعادتها، فقط أعدها له.
ألن يرى العمّة سميرة التي ربّتت على رأسه ودافعت عنه في كلّ مرّة أتى بها متّسخا ووبّخته أمّه.
ألن يرى جدّته التي تكلّمت عن عشيرة النار القرمزيّة بكلّ فخر وفرح؟
ألن يرى بعد الآن أنمار التي لاحقته في كلّ مكان وسخّرت نفسها له منذ نعومة أظافرهما؟

الكبير أكاغي، والجنرال منصف، وأخويْ القطع. كلّ هؤلاء الأشخاص الذين تقرّب منهم كثيرا.
تورتش والآخرين اختفوا كذلك.
كلّهم... فقدهم كلّهم.
تكلّم الجنرال رعد فجأة. لم يتوقّع باسل أنّ الجنرال ما زال يملك ما يقول.
لكن الجنرال رعد كان مرسولا، وأيّ مرسول يحمل رسالة.
لم يبلغ الجنرال رعد رسالته بعد.
تذكّر باسل أنّ الجنرال رعد قد قال شيئا عن إمساك إبلاس إيّاه. شعر أنّ ما سيقوله الجنرال رعد تاليا هو ما فعل إبلاس كلّ هذا من أجله.
"أخبَرَني أن أبلغك رسالة بعدما أخبرك بكلّ ما حدث بالتفصيل."
علم باسل عمّن كان يتكلّم الجنرال رعد بدون ذكر اسمه.
تعب الجنرال رعد من ترديد اسم ذلك اللعين.
"هذا ما قاله ذلك اللعين، 'البارحة قتلت معلّمك. اليوم أبدت عائلتك وأحبابك. فماذا، يا ترى، سآخذ منك غدا؟ متشوّق للقائنا القادم يا تلميذ حكيم، لا، يا باسل.' كان هذا آخر شيء أتذكّره قبل استيقاظي هنا."

***

احمرّت عينا باسل لدرجة كبيرة، حتّى اعتقد الجنرال رعد أنّ الدم سيسيل منهما.
اهتزّت الأرض حولهما بشدّة. علم الجنرال رعد أنّ هذا كان بسبب طاقة باسل الروحيّة. طاقة روحيّة شعر لسبب ما أنّها أثقل وأنقى من الطاقات الروحيّة التي بعثها بعض تلك الوحوش اللعينة.
صرخ باسل فجأة: [إبــــــــلااااااااااااااااااااااااااس!!!]
كان صراخه صاخبا للغاية حتّى بدون استخدام أيّ معزّز.
بلغ صوته كل الجثث الهامدة في جميع الأنحاء. تحرّكت بعض الجثث أخيرا بعدما عادت الحياة إليها.
كلّهم نظروا إلى الشابّ القرمزيّ الذي كان يتصرّف بشكل غريب للغاية.
بعدما صرخ باسل، هدأ فجأة، لكنّه صرخ بعد ذلك بشدّة: [لا أريد أن أهدأ، اللعنة!]
لم يفهم أحد ما الذي يقصده.
لكنّه هدأ من جديد. كان ذهنه يصير صافيا. كان عقله يصبح سليما.
ومع ذلك صرخ: [اللعنة! لقد قلت أنّني لن أهدأ! لا تجعليني أهدأ!]
تردّدت صرخاته في الأنحاء بدون توقّف. اعتقد الجنرال رعد والأشخاص الذين عاد إليهم بعضا من الرشد أنّ باسل فقد رشده.
لم يعلموا عمّا كان يحدث.
كيف لهم أن يعلموا عن شيء كالحكمة السياديّة؟
ذات حين، تخاصم باسل والعالم المجنون عندما كانا في أرخبيل البحر العميق، فحاول العالم المجنون التلاعب بمشاعر باسل، لكنّ باسل لم يفقد رشده. كان هناك سبب واحد–الحكمة السياديّة.
كلّما بلغت به الأمور لحد يفقد فيها رشده ومنطقه السليم، جعلته الحكمة السياديّة يهدأ ويترزّن كإجراء اضطراريّ. كان ذلك أثرا جانبيّا للدرجة الثالثة من الحكمة السياديّة، التحكّم الحكيم السليم.
كان يهدأ، لكنّ غضبه كان شديدا للغاية. حتّى لو جعلته الحكمة يهدأ، كان يتذكّر الأحداث التي حصلت في غيابه ويغضب بجنون من جديد.
كان يتذكّر أوجه أحبابه، ويتقبّل حقيقة موتهم. كان هذا يجعل روحه تضطرب بشدّة، لكنّ الحكمة السياديّة أتمّت دورها بشكل مثاليّ.
كان تلك حلقة لا نهائيّة. كان هذا معذّبا أكثر. لم يستطِع أن يغضب بشكل مناسب حتّى.
كانت هذه أوّل مرّة يكره فيها باسل الحصول على الحكمة السياديّة من معلّمه.
لم يكن هناك شيء بدون ثمن.
كان يشعر بحزن شديد، لكن لم يحقّ له أن يغضب بشكل مجنون. كيف له أن ينفّس عن غضبه؟ كيف له أن يكون هادئا؟
شعر أنّ الحكمة السياديّة لم تكن نعمة بل نقمة. لقد مات أعزّ الناس إلى قلبه لكنّه كان هادئا. أراد أن يُجنّ ويدمّر كلّ ما هو أمامه، لكن لم يستطع فعل شيء كهذا وعقله سليم.

كان يقترب في الأثناء بعض الأشخاص منه. كان من بينهم الإمبراطور هاكوتشو والإمبراطور غلاديوس، والأميرة كريمزون سكارليت وأمّها.
كانت عائلات الأباطرة معزولة في مكان ضيافة خاصّ، ولم يهتم لهم أحد. في الواقع، لم يهتم أحد لأيّ شخص طالما كان بدون فائدة. فقط إبلاس من اهتمّ بأشخاص كعائلة باسل بالرغم من أنّهم مجرّد أشخاص عاديين.
كانت أوجههم شاحبة، وخصوصا الإمبراطور هاكوتشو الذي فقد أخته، والأميرة سكارليت وأمّها اللتين فقدتا الكثير، تماما مثل باسل.
لقد مات الكبير أكاغي الذي كان أبا محبّا لسكارليت وزوجا مخلصا لزوجته. مات الجنرال منصف الذي كان أبا وقدوة لابنه كارماين، وزوجا أحبّته سكارليت من أعماق قلبها بعدما تزوّج بها وساعد في المحافظة على استقرار عائلتها. وأخيرا، اختفت أنمار التي فقدت عائلتها.
فقدت سكارليت اليوم أبا وزوجا وابنة أخٍ وثلاثة نساء عدّت إحداهن جدّة لها والأخريَيْن أختين لها.
كانت الأجواء كئيبة ومظلمة بالرغم من أنّ الشمس لم تغرب بعد وظهر أفق خياليّ بالنظر من فوق السحب على الأرض المباركة الطافية في السماء.
لم يتكلّم أحد بالرغم من أنّهم وصلوا إلى باسل. من يمكنه التكلّم معه وهو ما يزال يصرخ ويهدأ باستمرار؟ لقد كان يبدو كالمجنون تماما.
لقد كانت الكثير من الأسئلة تجوب خاطرهم. وأهمّها، أين كان باسل عندما حدث كلّ ذلك؟
لماذا لم يأتِ؟ لماذا لم يستطع أحد الاتّصال به؟
كان هناك بعض الأشخاص الذين شكّوا في غيابه في ذلك الوقت الحاسم. هل ربّما خاف ولم يأتِ؟ هل هرب بعدما علم أنّ أولئك الملاعين كانوا يخطفون الآخرين؟
ولكن... كلّ من فكّر بهذا كان لا يعرف باسل بشكل شخصيّ، وحتّى لو راودتهم مثل هذه الأفكار، كانوا يقمعونها مباشرة؛ فهناك من رأى كيف أنقذ باسل العالم من حلف ظلّ الشيطان، وهناك من رأى كيف حمى العالم من التحوّل الروحيّ بتلك الحواجز التي نشرها في أنحاء العالم، وهناك من شهد قدومه البطوليّ كي ينقذ الجنود في قارّة الأصل والنهاية، وهناك من رأى أنّ الأباطرة والقادة الكبار لم تراودهم هذه الأفكار حتّى وسلكوا نفس المنهج.
تحسّرت سكارليت وأمّها لوقت طويل قبل أن تقتربا من باسل، كلّ واحدة بأحد الجانبين. وضعتا أيديهما على كتفيه وتردّدتا قليلا بينما تحاولان عناقه.

لقد كان هذا الفتى، لا، هذا الشاب أكثر من مجرّد حليف ومنقذ للعائلة. لقد كان وريث عشيرة النار القرمزيّة التي كانت لها علاقة أخوّة بعائلة كريمزون. لقد كان الشخص الذي جعلهم يتّصلون بحفيدتهم التي أحبّته بشدّة. لقد كان ابنا وأخا لهم.
كانتا تفهمان شعوره بالضبط.
لم يستطع باسل النظر إلى المرأتين. لم يعلم كيف يفعل ذلك.

لقد كان الشخص الذي كان غائبا عندما مات الأشخاص الأعزاء على قلوبهم. لقد كان من المفترض أن يكون هنا في ذلك الوقت ويقدّم المساعدة. لقد كان عليه... كان عليه... كان عليه.. كان عليه...
لم يتوقّف باسل عن إلقاء اللوم على نفسه، وخصوصا بعدما اشمأزّ من حقيقة استمرار سلامة عقله حتّى الآن بالرغم من أنّه فقد ما اعتقد سابقا أنّه سيُجنّ لو فقده.
نظر باسل إلى سكارليت بعينيه 'الحمراوين' اللتين لم ترمشا منذ مدّة طويلة جدّا، ثمّ إلى أمّها بعد ذلك قبل أن ينظر إلى الأرض مرّة أخرى متحسّرا.
قال بصوت واهن: "لربّما كان معك حقّ يا أيّتها الجدّة ابتهال. لربّما استطاعت اللعنة التمكّن منّي. إنّني ملعون. أنا السبب في حدوث كلّ هذا."
رفعت الجدّة ابتهال رأسها ونظرت إلى باسل بعينيها المملوءتين بالدموع وشهقت. لقد كانت الشخص الأكثر خوفا من 'اللعنة' التي لاحقت عشيرة النار القرمزيّة. شعرت في هاته اللحظات أنّ باسل يلوم نفسه ووجوده بحدّ ذاته.
"لا!" تكلّمت بسرعة: "أنا كنت مرتعبة فقط. الحقيقة مختلفة تماما. لقد كانت العشيرة ظلّنا لسنين عديدة وحمتنا من كلّ شرّ. حتّى في حرب الانقلاب كنّا لنُباد تماما لولا تضحيّة العشيرة."
أكملت الجدّة ابتهال بسرعة قبل أن يقتنع باسل أنّه مصدر كلّ الشرور التي حدثت: "وحتّى في حرب الاسترداد، كانت العشيرة، كان أنت من استردّ حقّنا. لقد كنت الشخص الذي نمّى عالمنا بأكمله ولم تطالب بشيء في المقابل. أنت والعشيرة فعلتما هذا دائما. لقد ندمت كثيرا لأنّني اعتقدت لوهلة أنّ هناك لعنة ما بالعشيرة."
كانت اللعنة التي تتحدّث عنها الجدّة ابتهال هي موت أعضاء العشيرة ميتة شنيعة وخشت أن تقترب هذه اللعنة من أبنائها. كان هناك جانب آخر للعنة، وهو غدوّ الأب ضعيفا بشكل ملحوظ ما أن يكبر خلفاؤه كفاية.
بالفعل، كان أعضاء العشيرة يموتون صغارا، ولكن بالتفكير في ذلك بشكل منطقيّ، أليس من المفترض أن يكون من الطبيعي موت أشخاص يكرّسون حياتهم لحماية الآخرين؟
ومع ذلك، حتّى لو استطاعت الجدّة ابتهال فهم هذا الأمر، إلّا أنّه كان مختلفا نوعا ما عن اللعنة التي تكلّم عنها باسل.
أوّلا، كان يتكلّم عن كونه لعينا من الأربعة عشر مختار، وثانيا كان يقصد حالته الحاليّة التي لم يستطِع أن يراها إلّا كلعنة.
كانت لعنة السارق الخسّيس تقبع في أعماق روحه، فعلم أنّ مساره الروحيّ سيكون الأكثر دمويّة بين المسارات الروحيّة كلّها، لكنّه كان قد سبق وقرّر أن يحمل أيّ ثقل ويكمل مساره الروحيّ.
والآن، صار يرى شيئا ضحّى معلّمه بحياته من أجله كلعنة. تعذّب بمختلف الطرق. لم يستطِع أن يغضب بشكل جنونيّ بعدما فقد أشدّ أحبّائه، وبدأ يكره شيئا استلمه مع من معلّمه الذي عدّه والدا له.

ولكن بدون هاتين اللعنتين، كان يعلم أنّه هو بنفسه سبب مقتل كلّ أولئك الأشخاص. ما كان إبلاس ليفعل كلّ هذا لو لم يكن مهتمّا به. حتّى لو أتى إلى هنا، فما كانت النتيجة لتختلف.
ردّ باسل بعدما حدّق إلى الجدّة ابتهال ثم سكارليت: "لقد خذلتكما. خذلت الجميع."
كانت صور أمّه والآخرين تومض في عقله باستمرار، فكان يكاد يُجنّ لكنّه يعود لرشده في الآن ذاته. كان يتذكّر الأيّام التي كان فيها ضعيفا للغاية كصبيّ.
في ذلك الوقت، أقسم بالرغم من أنّه كان يملك جسدا ضعيفا مقارنة بباقي الأطفال على أن يغدو قويّا كفاية حتّى يحمي أمّه كما فعل أبوه قبل أن يموت.
ملأت تلك الذكريات عقله وشغلته واحدة تلو الأخرى.
(يا باسل، ليس عليك أن تكون قويّا. فقط عش حياتك كما تريد. لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتّع بالعالم.)
خرجت هذه الكلمات من فم لطيفة بينما يعلو وجهها تعبيرا يحنّ إلى الماضي.
نظر إليها باسل ذو الخمس سنوات وتذكّر الليلة الماضية التي بكت فيها أمّه بشدّة. لقد كانت تنصحه هكذا في كلّ صباح بكت خلال ليلته.
لم يعلم باسل معنى تلك الكلمات، لكنّه كان طفلا ذكيّا وورث كلّ ما تميّزت به عشيرة النار القرمزيّة، لذا فهم أنّ أمّه لم تكن تريد أن يحدث له ما يجعلها تبكي في العديد من الليالي.
ردّد باسل الصغير كلمات أمّه: (لا تختبئ في الظلال طوال حياتك وتمتع بالعالم.)
وقف بعدما كان يجلس مع والدته على سريره وقال بعدما رفع قبضته نحو الأعلى: (سيصير ابنك هذا أقوى ساحر في العالم ويحميك والعمّة سميرة وأنمار من كلّ شرّ.)

ابتسمت لطيفة وأجابت ابنها الذي كان يقول شيئا كهذا بالرغم من أنّ جسده كان ضعيفا جدّا بالنسبة لعمره. ما الذي يمكنه أنّ تقوله لفتى بالخامسة من عمره عندما يصرّح بشيء كهذا؟ بالطبع...
(نعم، ابني باسل سيصير أقوى ساحر في العالم، ولكن يا باسل، تذكر، لا تضلّ طريقك أبدا واجعل من حماية الأعزّاء على قلبك أقصى أولوياتك. احرص على سلامتهم حتّى لا تندم لاحقا، ولن ينفعك الندم بشيء غير تدمير ذاتك.)
حتّى لو أرادته أن يعيش حياة طبيعيّة بسلام، كيف لها أن تدمّر 'حلم' طفلها الصغير بكلماتها؟ لقد كانت كلمات الأمّ بالنسبة لطفل بهذا العمر حقيقة مطلقة. لم تكن لتسمح لنفسها بفعل شيء كهذا أبدا.
لقد كانت تعلم أنّ باسل يدرك وهانة جسده مقارنة بالأطفال في عمره، لذا لم تحاول أن تخبره أنّ هذا مستحيل.
كانت تعلم كم عمل ابنها على تحسين نفسه منذ أن لاحظ تلك الفروقات.
كان يساعد في الحقول ويمرّ على مكتبة القرية الصغيرة ويتدرّب على أساسيّات فنون القتال البسيطة ويعود متّسخا للمنزل، منهكا تماما.

كان يمرض في العديد من الأحيان، كلنّه استمرّ في إجهاد نفسه بدون توقّف. أراد أن يكون مثل أبيه الذي حمى عائلته. أراد أن يوقف دموع أمّه. أراد أن يصير قويّا ويستكشف العالم وخباياه ويتمتّع بها كما أخبرته أمّه.
كان يقترب منه في تلك الأثناء بعض الأطفال فقط ليسخروا منه. لم يستطع اللعب معهم لأنّه كان ضعيف الجسد، لكنّهم كانوا يأتون بين الحين والآخر ليجعلوا يومه أصعب.
عندما كان يحاول التدرّب بوضعية القرفصاء، كانوا يطرحونه أرضا بمباغتته من الخلف.
عندما يتمرّن تمارين الضغط، يجلسون على ظهره.
عندما يجري يعرقلون قدميه.
(هل تانك قدمان أم زعنفتان؟)
قالها الطفل عثمان الذي كان يكره باسل منذ صغرهما.
لماذا هذا التافه الضعيف يحصل على اهتمام ملاك القرية، أنمار، بينما هو أقوى الأطفال وأكثرهم وعودا يتلقّى الرفض منها حتّى عندما يريد مساعدتها؟
حتّى في هذه الأوقات، كانت تظهر أنمار وتحاول مساعدة باسل على النهوض، لكنّه كان يرفض ذلك ويقف على ساقيه اللتين كانتا تهتزّان وترتجفان حتّى تحملان وزنه الخفيف.
(لا أحتاج ليد المساعدة أثناء تدريبي يا أنمار. لن أصير أقوى ساحر بذلك المنوال. لن أستطيع حماية شيء لو تخاذلت في تدريباتي.)
حدّقت أنمار الصغيرة إلى الصبيّ القرمزيّ ووضعت قبضتها على صدرها وتمتمت بصوت غير مسموع: (من سيحميك إذن؟)
لم تستطع أن تتجاهل جهود هذا الفتى الواهن الذي كان يحمل نفسه بما لا طاقة لها به، فحسمت أمرها أن تحميه في المقابل.
لقد كانت تراقبه منذ الصغر، فعلمت عن مزاياه ومساوئه، وبالرغم من أنّه صغير، إلّا أنّه كان ذكيّا ويناقش أمين المكتبة في مواضيع معقّدة.
علمت عن ضعف جسده وقوّة إرادته، فتعجّبت مرارا من عزيمته التي تخطّت حدود المعقول.
مهما مرّ من الزمن، لم يتوقّف باسل عن التدرّب وقراءة الكتب في المكتبة. بالرغم من أنّه تدريباته لم تحسّن من قدراته الجسديّة إلّا أنّه استمرّ. بالرغم من أنّه قرأ كل الكتب المتاحة في مكتبة القرية الصغيرة إلّا أنّه أعاد قراءتها مرارا وتكرارا.
كان يعمر الثامنة إلّا أنّ جسده كان ما يزال واهنا، وحتّى والدته وسميرة تعجّبتا من هذا. لقد كان باسل وريثا لعشيرة النار القرمزيّة، فكيف له أن يملك جسدا ضعيفا مع العلم أنّ ***** العشيرة كان يُعرفون بأجساد بنفس قوّة الكبار.
(هل أنا السبب يا ترى؟)
لامت لطيفة نفسها. لقد عارضت العشيرة على زواجها، إلّا أنّ جاسر أصرّ على عقد القران معها. هل يمكن أنّ دمها البسيط الذي يجري في عروق باسل هو ما جعله على هذا الحال؟
ربّتت سميرة على ظهرها وقالت: (لا تكوني حمقاء. أنا متأكّدة أن تلك الحادثة لها علاقة ما.)
'تلك الحادثة.'
قبل ثمان سنين، ظهر رجل عجوز غامض وفعل شيئا لابنها. ترجّت ألّا يكون شيئا سيّئا قد حلّ بابنها. ماذا لو كانت لعنة ما؟
وبالطبع، إدريس الحكيم، الشخص المسؤول عن هذا كان يعلم تماما ما كان يحدث.
(الختم الذي منحني جلالته لا يوقف طاقة العالم من الولوج إلى جسد الفتى، ولكن يمتصّها بعدما تدخل إلى جسد الفتى قبل أن تؤثّر على روحه. ومع ذلك، هذا يؤثّر على جسد الفتى ويضع عبئا ثقيلا على كاهليه. إنّني متفاجئ أنّه قادر على التحرّك بشكل عادي فما بالك بالتدريبات التي يقوم بها.)
ابتسم إدريس الحكيم الذي كان يراقب باسل من حين إلى آخر: (هذا يشعرني بالحنين. لربّما تختلف موهبتينا في السحر كاختلاف الليل والنهار، لكن إرادته الحديديّة تذكّرني بعدم استسلامي للواقع المرّ الذي وجدت نفسي أعيشه. إنّه مثير للاهتمام.)
بلغ باسل العاشرة من عمره، فلاحظ بعض التغيّرات تطرأ على جسده بمرور الأيّام.

لم يعد يشعر بالوهن. لم يعد تؤلمه عظامه وعضلاته كلّما تحرّك. صار يتنفّس بشكل طبيعي حتّى لو تحرّك لمسافات بعيدة.
بدأت التدريبات تظهر مفعولها. صار جسده خفيفا بالرغم من ازدياد وزنه. لم يعد يملك الأطفال فرصة للتنمّر عليه.
عندما يريدون إسقاطه أرضا كان يقفز ويلتف على نفسه.
عندما يجلسون على ظهره كان يستمر في تمارين الضغط بسرعة كبيرة حتّى يجعلهم يسقطون.
عندما يحاولون عرقلة جريه يسلك طريقا أعوج وأكثر صعوبة بسهولة.
كلّ هذه التغيّرات حصلت على مدى شهور، لكن كلّ تغيّر بسيط كان له أثر كبير على جسده الواهن وحياته. شعر باسل بالحريّة أخيرا، فصار يعود بملابس أكثر اتّساخا عن ذي قبل ويضطر للإنصات لمحاضرة أمّه حتّى صارت لديه عادة في البقاء نقيّا قدر المستطاع وتطهير نفسه وملبسه عند تلوّثهما.
لم يهتم بما فعل الأطفال عندما كان ضعيفا، لذا لم يهتم حتّى عندما صار قويّا. تجاهلهم فقط واستمرّ في التدرّب كالمجنون.
ذات يوم، اقتربت منه تلك الفتاة. كانت فتاة لطيفة وظريفة بشعر أسود وسلس كشعر أمّه وبنفس العمر.
بالطبع كان باسل وسيما منذ صغره، إلّا أنّ اهتمام الفتيات به قلّ كثيرا بسبب ضعفه الشديد وخوفهنّ من عثمان الذي كان يترأّس مجمع الفتيان.
والآن، اقتربت منه هذه الفتاة، وليس أيّ فتاة، بل أخت عثمان بنفسه. هل هذه مزحة؟
بالطبع كان باسل فتىً بالخامسة من عمره، إلّا أنّه كان ذكيّا للغاية وفهم مباشرة الحبكة وراء هذا.
ابتسم فقط وصافح يد الفتاة الصغيرة التي ابتسمت بإشراق. لقد كانت شمسا في حياة هذا الطفل المظلمة. هذا ما اعتقدت الفتاة. هذا ما خطّطت له.

***
(يا أيّها الجدّ عليّ، إنّ الجزر الذي تزرعه وترعاه بيدك أفضل جزر في العالم. لقد كنت أحب الجزر منذ صغري، لكنّك جعلتني أدمن عليه. لقد صرت الآن عاجزا عن العيش بدون جرعتي اليوميّة من الجزر.)
اعتقد باسل أنّه لن يأتي يوم يكون فيه حيّا ولا يحاول تعاطي جرعته اليوميّة من الجزر. لم يستطع تخيّل قدوم يوم ينسى فيه جرعته اليوميّة.
ضحك الجدّ عليّ وردّ: (الفلاحة جيّدة يا أيّها الفتى باسل. أعلم أنّك قلت سابقا أنّك تريد أن تغدو ساحرا، لكن أليس من المثير للاهتمام محاولة زرع وتنميّة الجزر الذي تحبّه كثيرا بيديك الخاصّتين؟)
ابتسم باسل وردّ بعدما عضّ جزرة اقتناها من رزمة الخضر: (قد أفعل ذلك ذات يوم. لربّما عندما أحقّق أحلامي، سيكون من الجيّد العيش بسلام في مزرعة بجوار الأحباب.)
حدّق الجدّ عليّ لبعض من الوقت إلى باسل ثمّ تنهّد وقال: (فقط لا تنسَ ألّا تضحّي بذلك السلام في طريقك لتحقيق تلك الأحلام. ألا تظنّ أنّ كلّ شيء سيكون بلا معنى إذا فقدت ما أردته بسبب سعيك ورائه؟ في بعض الأحيان، يجب عليك أن تقنع بما هو لديك.)
(هاها...) ضحك باسل ذو العشر سنوات: (إنّك تتكلّم مثل أمي نوعا ما يا أيّها الجدّ عليّ. على أيّ حال، لن أقنع أبدا حتّى أتأكّد تماما أنّ أولئك من أحبّهم سيحيون ويموتون بشكل طبيعيّ وبهناء.)
حدّق الجدّ عليّ لوقت طويل إلى باسل ثمّ قال: (إنّك تقول كلاما صعبا بالرغم من أنّك ما زلت صبيّا صغيرا. ألا ترى أنّه يجب عليك الاستمتاع أكثر بما هو حولك؟)
قضم باسل الجزرة ثمّ بلع ما مضغه وردّ: (أنا أفعل ذلك بالفعل أيّها الجدّ عليّ. إنّما فقط الأمر هو، لا أرى أنّ ما حولي مجرّد قرية صغيرة. أنا أرى عالما مليئا بالأسرار والمفاجآت. الاستمتاع؟ بالطبع سأستمتع كثيرا، ولتحقيق هذا، يجب أن أسعى لتحقيق أحلامي. إذا صرت أقوى ساحر في العالم، يمكنني حماية من أريد، والاستمتاع بما أريد، والعيش بسلام كما أريد.)
بالفعل كانت كلماته طفوليّة بعض الشيء، لكنّ آفاقها كانت واسعة للغاية. لم يسع الجدّ عليّ سوى أن يتنهّد ويتمتم لنفسه: (لا مفرّ إن كان ذلك هو القدر.)
استغرب باسل من هذيان الجدّ عليّ وتناسى الأمر بعدما سمع العجوز يضيف بصوت مسموع: (عندما تريد زراعة الجزر، ابحث عنّي حتّى أعلّمك وصفتي السرّيّة. قد أكون مجرّد فلّاح بسيط، لكنّني واثق من مهارتي في زراعة أفضل جزر في العالم على الأقلّ.)
حكّ باسل مؤخّرة رأسه وأراد أن يقول شيئا، إلّا أنّه قوطِع. ظهرت تلك الفتاة ذات الشعر الأسود السلس خلفه وربّتت على كتفه مرّتين ثمّ أمالت رأسها، مبتسمةً: (علمت أنّك ستكون هنا. إنّك تحبّ الجزر كثيرا يا باسل قبل كلّ شيء.)
ابتسم باسل بإشراق: (هاهاها! إنّك حقّا تعرفينني جيّدا يا أدريان. كيف تعلمين دائما عن المكان الذي أكون فيه؟)

(بالطبع سأعلم عن مكان صديقي المفضّل. أخبرني، هل ستتمرّن اليوم أيضا؟)
نظر باسل إلى الفتاة التي تقرّبت منه بنجاح في الأسابيع الأخيرة. لقد كانت فتاة محبوبة حقّا على عكس أخيها المتنمّر والحقود. يبدو أنّها كانت "تراقب" ما كان يفعل أخوها لباسل طوال الفترة الماضيّة وأرادت أن تصادق باسل حتّى يتوقّف عثمان عن تفاهاته. قالت أنّه قد يتوقّف عن أفعاله القاسيّة لو علم أنّ أخته الصغيرة التي "يعزّها" تصادق ذلك الشخص.
لقد كانت أدريان طفلة عطوفة حقّا حتّى تفكّر في شخص وحدانيّ كباسل.
ردّ باسل على كلامها: (طبعا. سأذهب بجوار منطقة محظورة حتّى أعتاد على أخطار المناطق المحظورة. من يعلم، ربّما أجد ساحرا يعلّمني السحر أيضا.)
تفاجأت أدريان وبدت قلقة للغاية، لكن حتّى باسل لم يستطع ملاحظة التعبير الذي ظهر قبل تعبير القلق لوقت وجيز للغاية. لقد كانت تلك ابتسامة سوداويّة كابتسامة مفترس وجد الفرصة للانقضاض على فريسته.
اختبر باسل اليوم الأوّل بجانب منطقة القرد الأزرق الضخم المحظورة. لقد كان يوما شاقّا بالرغم من أنّ المكان كان خارج المنطقة المحظورة. كانت هناك حيوانات شرسة كانت في بعض الأحيان تدخل إلى المناطق المحظورة وتتعارك مع الوحوش غير السحريّة حتّى تحصل على الموارد الغذائيّة وتعلن المنطقة المحظورة كمنطقة خاصّة بها.
استمرّ الأمر على ذلك الحال. تحوّلت تمرينات باسل العاديّة إلى محاولات نجاة من الموت. لقد كان الأمر مرعبا وتضرّر جسده لكنّه كان يكتشف في كلّ مرّة حركات جديدة ليراوغ ويهاجم بها، لذا كان الأمر ممتعا أيضا. لقد كان يلاحظ أنّ ذلك الفتى الواهن اختفى وحلّ محلّه فتى نشيط وقويّ للغاية. كان باسل قد بدأ يلاحظ أنّ جسده قويّ مثل أجساد الكبار.
(لقد أثمرت تدريباتي الجهنّميّة أخيرا.)
ذلك ما اعتقد باسل، لكن السبب الرئيسيّ لم يكن التدريبات في الواقع. مهما تدرّب *** بالعاشرة من عمره، لم يكن ليملك جسدا بقوّة الكبار الأقوياء. لقد كان كلّ هذا بسبب اعتياد جسده على طاقة العالم أخيرا وتحسّن حاله. ولهذا ظهرت أخيرا ميزات وخواصّ عشيرة النار القرمزيّة التي كانت مقموعة.

كان إدريس الحكيم يراقب باسل طوال الوقت. لم يكن هناك ما يفعله أصلا غير التدرّب والتدبّر، لذا كان وقت فراغه يُصرف في مراقبة باسل. كان يجب عليه أن يكون حريصا على عيش الفتى الذي قال الملك الأصليّ أنّه مهمّ للحفاظ على توازن العوالم.
لم يعلم إدريس الحكيم ما قصده الملك الأصليّ، لكنّه علم أنّ الأمر له علاقة بقدرات الفتى المميّزة. لم يسبق لأحد أن أحبّته طاقة العالم بهذا الشكل. لم يحتج أن يحاول امتصاصها، فهي بنفسها تأتي إليه.
(الحفاظ على التوازن.)
قال إدريس الحكيم تلك الكلمات ونظر إلى الفتى القرمزيّ.

(لا أعلم عن أيّ توازن يتحدّث جلالته، لكنّه يجب أن يكون يعلم أنّني لن أجبر تلميذا لي على اتّباع طريق محدّد. لربّما لهذا السبب أخبرني أن أعلّمه وأرشده لا أن أحدّد مساره الروحيّ.)
كلّ ساحر روحيّ كان له مسار روحيّ خاصّ به، وتقرير المسار الروحيّ لشخص ما يجعل هذا الشخص غير مؤهّل ليكون ساحرا روحيّا حتّى.
في أحد الأيّام، كان باسل مرهقا بعدما تدرّب لمدّة طويلة، وحان الوقت ليذهب لأحد الآبار التي كان يزورها حتّى يغتسل ويزيل الأوساخ قبل أن يذهب للمنزل. كان ماء ذلك البئر منعشا للغاية. ما أن بلعه حتّى شعر بالحيويّة تتجدّد عبر عروقه.
ظهرت عندها أدريان كعادتها. لقد اعتاد باسل على طريقة ظهورها هذه. كانت دائما تظهر فجأة.
(هل أنهيت تدريبك اليوميّ؟)
أجاب باسل كلامها الهادئ والقلق: (نعم. كنت أنوي العودة إلى المنزل بعد الانتهاء هنا.)
خاب أمل أدريان وبدأت تلعب بأصابعها كما لو أنّها تريد قول شيء ما لكن لم تستطع. كانت تنظر من حين إلى آخر إلى السلّة التي كانت بجانب قدميها.
لاحظ باسل هذا فمدّ يده: (قولي ما تريدين قوله. ألسنا صديقين؟)
كانت ابتسامته البريئة جذّابة، فاحمرّ وجه أدريان. لم يعلم باسل إن كان احمرار وجهها ذاك تمثيلا أم لا، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان يريد أن يعلم ما الذي ستريده أخت عثمان بعدما "تقرّبت" منه كفاية في هذه الأيّام الاخيرة.
ابتسمت أدريان بإشراق بعدما جمعت شتاتها وردّت: (أ-أنا... أريدك أن تذهب معي في نزهة.)
(نزهة؟)
تساءل باسل فأجابت أدريان بسرعة كبيرة: (نعم. نزهة. لطالما أردت أن أتنزّه مع صديق لي. لقد أعددت الشطائر أيضا. آه، وسلطة الجزر، وعصير الجزر أيضا.)
علم باسل أخيرا عن محتوى السلّة التي كانت بجانب قدميْ الفتاة الخجولة. لقد أتت مستعدّة حقّا. سيكون سيّئا رفض طلبها بعد كلّ ما فعلته. سيكون سيّئا إهدار سلطة وعصير الجزر.
(آه، لمَ لا؟ لنذهب إذن.)
ابتسمت أدريان بإشراق. لقد كانت فرحة للغاية. لم تكن تمثّل، بل كانت حقّا سعيدة لأنّ باسل قبل طلبها هذا.
كانت العديد من الأعين تراقبهما في هذه الأثناء.
قال أحد الأشخاص المختبئين في الظلال: (يبدو أنّ أدريان قد نجحت في إغرائه. يمكننا التخلّص منه أخيرا.)
ردّ شخص آخر بقلق: (ألا تظنّ أنّهم سيجدون جثّته فيما بعد؟ سنكون في خطر كبير لو علم شخص عن هذا.)
(لا تقلق.) أكمل الشخص الأوّل: (ألا تعلم ما هو وادي الظلام العميق؟ لا أحد يعود بعدما يسقط في ذلك الوادي.)

كان هذا الشخص هو عثمان. لقد كان بعمر الثانيّة عشر حاليا. كان لديه جسد ضخم مقارنة بباقي الفتيان بعمره.
تساءل أحد الأشخاص الذين كانوا معه: (أليس هذا مبالغ فيه قليلا؟)
(لا!) صاح عثمان ثمّ ردّ حاسما: (يجب على ذلك اللعين أن يختفي. بالتأكيد عليه أن يموت. لن تنظر الملاك أنمار إلى جهة أخرى طالما يظلّ حيّا.)
لقد كان عثمان هو زعيم الحرس الشخصيّ للملاك أنمار، وكان باسل على قمّة قائمتهم السوداء. ازداد كره عثمان لباسل أكثر بكثير عن السابق بعدما صار باسل قويّا حتّى لم يعودوا يستطيعون إعاقته حتّى. كانوا يعلمون أنّهم يحتاجون لإلهائه بطريقة ما وجعله عاجزا عن فعل شيء حتّى يتخلّصوا منه.
وهنا أتى دور أدريان.
تحرّكت أدريان بنشاط بينما تهمهم وترقص في طريقهما إلى موقع نزهتهما. لقد كانت فوق السحاب حقّا. بالطبع، لم يكن سبب فرحها هذا هو ذهابها في نزهة مع باسل، بل بالأحرى ما كان سينتج عن نجاحها في جعل باسل يذهب معها في هذه النزهة.
فكّرت أدريان: 'متشوّقة للوقت الذي يربّت فيه أخي عثمان على رأسي. لقد وعدني أنّه سيمضي وقتا أكثر معي إن نجحت في فعل هذا. يمكنني أخيرا أن أجعله يهتمّ بي لا بتلك الشقراء العاهرة.'
نظرت أدريان إلى باسل مبتسمة واستكملت تفكيرها: 'سأجعلها تفقد محبوبها أيضا، لذا سأضرب عصفورين بحجر واحد.'
كانت أدريان فتاة متعلّقة بأخيها الأكبر عثمان، لذا فعلت ما طلبه منها أن تفعل. لقد كان عليها أن تتقرّب من باسل وتجعله يثق فيها لدرجة يأكل من طبخها.
لقد كان هذا اللعين الصغير يأكل طعام عائلته فقط، لذا كان من الصعب تسميمه حتّى.

الآن، كلّ ما عليها فعله هو جعله يشرب عصير جزره المحبوب ليتسمّم ويفقد قواه كلّيّا، فيأتي عثمان ويكمل باقي العمل. عندها... عندها... سيمدحها عثمان كثيرا ويهتمّ بها أكثر.
وصلا أخيرا إلى موقع النزهة. كان في الغابة المجاورة للقرية. كان باسل معتادا على هذه الغابة، فاختارتها أدريان من أجله.
تحدّثا لوهلة ثمّ بدآ يأكلان الشطائر وسلطة الجزر أثناء ذلك، وعندما يجفّ حلقهما، يشربان من عصير الجزر.
بقيا على ذلك الحال لمدّة طويلة، فبدأت أدريان تتعرّق.
لمَ ما يزال واعيا؟ أليس من المفترض أن يفقد قواه بعد رشفتين أو ثلاث؟ لقد كان يجب أن يكون قد فقد وعيه منذ وقت طويل. لقد أخبرها أخوها عثمان أنّ هذا السمّ يفقد الشخص البالغ الوعي في غضون دقائق معدودة، لكنّ هذا الشقيّ اللعين كان يشارف على إنهاء كلّ طعامه وشرابه وما يزال بصحّة وعافيّة.
لقد كانت تخشى أنّها أخطأت في فعل شيء ما. لقد أرادت أن تكون ذات منفعة لأخيها الأكبر. لا يمكن أن تفشل هنا. يجب أن تنجح حتّى تحصل على مديح أخيها عثمان.
رفع باسل يده فجأة فاقشعرّ جسدها. هل يمكن أنّه أدرك شيئا؟ انتظر، ما الذي فعلته لتوّها أصلا؟ هل سمّمت شخصا؟
كانت أفكارها مشوّشة. لم تفكّر للحظة عندما طلب منها أخوها عثمان فعل هذا، لكنّ توتّرها الآن استحوذ عليها وبدأت تدرك خطورة ما تجرّأت على فعله.
وقفت بسرعة كبيرة وكادت تفتح شفتيها لتقول شيئا، لكنّ اليد التي رفعها باسل حتّى يمسك بها رأسه الذي كان يؤلمه توقّفت في الهواء فجأة ونزلت إلى الأسفل، فتبعها جسده كلّه.
فقد باسل الوعي.
فتحت أدريان عينيها على مصراعيهما وتنفّست بصعوبة لمدّة طويلة قبل أن تشعر بيد تربّت على كتفها. استدارت لتجد أخاها عثمان يقف مبتسما: (لقد أحسنت عملا يا أدريان. سأكافئك لاحقا.)
تنهّدت أدريان وتنفّست الصعداء أخيرا. سيكون كلّ شيء على ما يرام الآن بعدما ظهر أخوها الذي يُعتمد عليه.
لقد كانت تعلم أنّ عثمان والآخرين الذين كانوا معه كانوا يراقبونها وباسل طوال الوقت، لكنّها نسيت ذلك لوهلة بسبب توتّرها المفاجئ.
ما لم تكن تعلمه هو وجود عينين أخريين كانتا تراقبانهم كلّهم من مسافة بعيدة للغاية. كانت هاتان العينان زرقاوين وسطعتا بشدّة بينما يقترب حلول الظلام. لقد كانتا عينان لمفترس مستعدّ للانقضاض على فريسته.
انطلق المفترس بسرعة كبيرة متّجها نحو المكان الذي اتّجهت إليه مجموعة عثمان.

***

حمل اثنان من رفاق عثمان باسلَ من ذراعيه وجرّاه متّجهين نحو وادي الظلام العميق.
(هل حقّا من الآمن التوجّه نحو منطقة محظورة كتلك؟ ألن نقع في المتاعب؟)
لم يكن هذا الشخص هو الوحيد الذي كان خائفا، بل حتّى الشخصان اللذان كانا يحملان باسل كانا مرتعبين من الاقتراب من وادي الظلام العميق. وفي الواقع، كان عثمان خائفا أيضا لكنّه كان عازما على التخلّص من هذا الغرّ نهائيّا.
لقد كان ينوي أن يصير ساحرا في المستقبل ويصير زعيم قريتهم، فيتزوّج بعد ذلك بأنمار أجمل فتاة في القرية. كان ينوي أن يجعل القرية مدينة يصير هو نبيلها الحاكم. لا يجب أن يترك هذا اللعين حيّا. إن بقي باسل بالجوار، فسيكون شوكة في حلقه دائما. لن تنساه أنمار، وقد يقف في طريقه نحو زعامة القرية أيضا.
تكلّم عثمان عازما: (لا أهتمّ. المهمّ الآن هو التخلّص من هذا اللعين. لن نتراجع بعدما بلغنا هذه المرحلة. هل تعتقدون أنّه يمكننا التخلّي عن هذا بعد كلّ ما فعلناه؟)
كانت هذه أفضل فرصة. كان باسل فاقدا للوعي، وكان من المستحيل له أن يقاوم. وأصلا، كيف لهم أن يتراجعوا الآن؟ من يعلم ما الذي قد يفعله باسل في المقابل إذا حدث واستيقظ.
بالفعل كان السم الذي منحوه إيّاه كافيا لإفقاده الوعي، وقتله حتّى بعد مرور بضعة أيّام، لكن عثمان لم يكن يريد من هذا الشقيّ أن يحصل على فرصة يعي فيها بما حدث له ويحاول فعل شيء. وفوق كلّ ذلك، من يعلم إذا لم ينفع السمّ معه أصلا.
بعدما تجاوزوا الغابة وظهر الجرف أمامهم أخيرا، شعروا كلّهم بالقشعريرة. لقد كان وادي الظلام العميق منطقة محظورة، لكن المناطق المحيطة به كانت خاليّة من المخلوقات على عكس المناطق المحظورة الأخرى التي كانت تحيط بها حقول لحيوانات شرسة تنافس بعض الوحوش غير السحريّة.
كلّ هذا زاد من رعب الوادي. هدوء محيطه عنى فقط أنّه حتّى تلك الحيوانات الشرسّة تخشى الاقتراب منه.
تكلّم عثمان بهذه الأثناء: (والآن، أنتما،) أشار إلى اللذين كانا يحملان باسل ثمّ إلى الوادي: (اتّجها إلى هناك وارمياه. لا تقلقا، سنراقبكما من هنا حتّى نتأكّد أنّه لا أحد قادم ونحمي ظهريْكما.)
فتح الفتان أعينهما بشدّة وبدوَا مندهشين. ألم تكن هذه خطّة عثمان؟ ألم يكن الشخص الأكثر رغبة في التخلّص من باسل؟ لمَ عليهما أن يقوما بهذا العمل نيابة عنه؟ ألم يفعلا ما يكفي بالفعل؟
ومع ذلك، لم يتجرّآ على معارضته. لقد كان قائدا لهما وغرس فيهما سيطرته منذ الصغر. فعلا كلّ ما قال حتّى الآن، لذا فعلا ما قاله الآن أيضا.
تحرّكا تجاه الجرف الذي كانت أصوات الموت تصعد منه ولم يعلم الشخص ما إذا كانت الريّاح التي تتراقص في الوادي أو الزماجر التي تصدى بي الحين والآخر هي المسؤولة عن أصوات الموت تلك.

كانت أيدي الاثنين ترتجف، كما كانت سيقانهما ترتعدان، وبالكاد استطاعا جرّ باسل، لكنّهما توقّفا فجأة ولم يقدرا على التقدّم أكثر. شعرا أنّ باسل الذي كان يجرّانه صار أثقل عمّا كان عليه. هل ربّما هذا بسبب خوفهما؟
لا!
سرعان ما علما الإجابة. ما أن التفتا إلى الخلف ليريا ما السبب، وجدا عينيْ الفتى القرمزيّ تحدّق إليهما بشراسة كما لو كانتا عينيْن داميتين لوحش يعيش فقط ليفترس.
لقد كانت تانك عينان لشخص اختبر مواقف وضعته بين الحياة والموت مرارا وتكرارا.
أفلت الصبيّان ذراعيْ باسل فور ما رأيا العينين الحمراوين وشعرا بالقشعريرة تصعد مع جسديهما والخوف يتملّك قلبيهما.
أنّى لهما أنّ يصمدا أمام تينك العينين؟ بالفعل كانتا عينين لفتى بالعاشرة من عمره، لكن نيّة القتل التي انبعثت منهما كانت كافية لجعلهما يتراجعان عدّة خطوات للوراء.
تراجعا إلى جهة عثمان ونظرا إلى باسل. كان عثمان مندهشا للغاية. هل استيقظ بعدما تعاطى لذلك السمّ؟ كيف يمكن هذا؟ لقد كان سمّا يسقط الكبار غائبين عن الوعي لمدّة طويلة ويمكن أن يؤدّي بهم إلى الموت في الكثير من الحالات، فكيف له أن يستيقظ؟
نظر عثمان إلى أخته الصغيرة بعينين متسائلتين، فهزّت أدريان رأسها بسرعة وجمعت يديها عند صدرها وقالت بسرعة: (أ-أنا متأكّدة. لقد شرب حقّا ذلك السمّ.)
(إذن لماذا؟) صرخ عثمان: (لماذا يتحرّك الآن؟ اللعنة! كيف لك أن تتصرّف بشكل طبيعيّ أيّها الوحش الصغير.)
لم يدرك عثمان أنّه قد بدأ يرى باسل كوحش صغير بالفعل.
وقف باسل مستقيما ثمّ نظر إليهم وقال: (لم أهتمّ إطلاقا بما فعلتَ وحاشيتك لي طوال هاته السنوات. لطالما كنتم مجرّد صراصير في نظري، ولم أحمّل نفسي طاقة التخلّص منكم حتّى.)
حملق باسل إلى عثمان مباشرة: (اعتقدت أنّك تملك بعضا من الشرف على الأقلّ كزعيم الصراصير.)
تجعّدت جبهة عثمان أكثر واسودّ وجهه. لقد كان تصرّف باسل المتعالي هذا هو ما كان يكرهه أكثر من أيّ شيء. لقد كان هذا الوحش الصغير مغرورا هكذا دائما. حتّى عندما كان يزحف على الأرض كدودة قذرة كان يتجاهلهم ويعاملهم كالحشرات. لم عليه هو العثمان أن يُزدرى من طرف هذه الدودة؟

سمع عثمان باسلَ يكمل كلامه: (ظننت أنّه لو تماشيت مع تمثيليّة أختك الصغيرة، فقد ترتقي من منصبك كصرصور وتجرؤ على مواجهتي مباشرة مدّعيّا أنّني كنت أستغلّ أختك الصغيرة أو ما شابه. ومع ذلك، كنتُ مخطئا؛ الصرصور يبقى صرصورا مهما حدث. لم تجرؤ على تنفيذ الأعمال القذرة بيدك واعتمدت على أختك الصغيرة والقذارة المحيطة بك حتّى تحقّق هدفك.)

تماشى باسل مع هذه التمثيليّة فقط لأنّه كان فضوليّا بشأن ما كان عثمان يخطّط لفعله. كيف لشخص بحذاقته أن يُخدع بتمثيل طفلة بنفس عمره؟ كيف له ألّا يعلم عن نواياها الخفيّة التي كانت في الواقع جليّة؟
تحرّك باسل مقتربا منهم، فصرخ عثمان: (كيف يمكنك التحرّك؟ لقد شربتَ السمّ، فكيف لك أن تكون واعيا.)
رفع باسل حاجبه وردّ: (لم يكن عليك استخدام عصير الجزر.)
(ها؟) استغربت أدريان وقالت: (إنّ الجزر طعامك المفضّل. إنّه أفضل شيء لاستخدامه، لأنّك لن تشكّ في شيء.)
رفع باسل إصبعيْ يده اليمنى وقال: (اثنان لا يُبلعان لي مهما حدث، الجزر المرّ...) شدّ بعد ذلك إصبعه الوسطى وأشار بسبّابته إلى اتّجاه عثمان والآخرين وأكمل: (والحثالة مثلكم.)
شعر عثمان أنّ ظهره كان باردا.
لماذا يشعر هكذا في حضور هذا الفتى اللعين؟ هل هو خائف؟ هل يخشى غضب هذه الدودة القذرة حقّا؟ كيف له هو الذي تزعّم فتيان القرية وتسلّط على باسل كلّ هذه السنوات أن يخاف منه؟
لَكَمَ ركبتيه في نفس الوقت حتّى يوقف ارتجافهما وتغلّب بألمه على خوفه.
ضحك بتقطّع وقال: (وما الذي يجعلك تعتقد أنّه يمكنك التصرّف بهذا التعالي؟ ألا ترى أنّك لوحدك هنا؟ عددنا تسعة هنا. لم يكن بمقدورنا فعلها علانيّة، لكنّنا منفردين بك هنا. سنجعلك تعاني الأمريّن بما أنّك لم ترد الموت بهنـ...)
لم ينهِ عثمان كلامه حتّى كان باسل قد اختفى من مرأى عينيه. لقد كان ضخما مقارنة بباسل، فلم يلاحظ اللكمة التي كانت قادمة من الأسفل تجاه ذقنه.
باام
اهتزّ دماغ عثمان داخل جمجمته فشعر أنّ العالم يدور بشكل عشوائيّ ولم يعد يميّز بين الماضي والحاضر فما بالك بالاتّجاهات. جعلت تلك اللكمة أسنانه تتصدّع وانكسر أحدها جزئيّا.
سالت الدماء من فمه وأنفه بعدما سقط على الأرض. بالطبع كان هو بنفسه ما يزال يعتقد أنّه كان محلّقا. كان يشعر أنّه ما زال داخل الحلم الذي حلمه الليلة الماضيّة. ما كان مختلفا في هذا عن حلم الليلة الماضيّة هو أنّه كان الشخص الذي حلّق بعدما ضُرِب وليس باسل.
وقف باسل بين الثمانيّة الآخرين، في المكان الذي اعتاد عثمان أن يكون فيه، محاطا بأربعة من كلّ جانب، وقال: (لقد كنتم تنوون قتلي. لا أحد منكم سيغادر هذا المكان سليما. لن أرضى حتّى أحفر وأزرع الخوف في أدمغتكم الدنيئة.)
لم يكن باسل قد قتل شخصا في حياته حتّى الآن. لقد كان فتى بالعاشرة من عمره فقط لذا كان هذا طبيعيّا حتّى في هذا العالم الفوضويّ. وبالتالي، لم يفكّر في قتل هؤلاء الأطفال الجهّال لكنّه كان عازما على أخذ ثأره منهم وسحقهم تماما. أراد أن يجعلهم يتذكّرون هذه الحادثة لما تبقّوا من حياتهم ويتركونه وشأنه ويعيشون بعد ذلك كأناس أخيار.

أراد أن يريهم ما هو الشرّ حتّى يعلمون ماهيّة الخير.
ابتعد عنه الثمانيّة بشكل تلقائيّ. بالطبع، لم تكن أدريان محسوبة من التسعة الذين تكلّم عنهم عثمان فيما سبق. لقد كانت قد تراجعت بالفعل عندما لمّح عثمان لقتال باسل.
جمعت يديها عند صدرها بينما تحدّق إلى أخيها عثمان المستلقي على الأرض ثمّ إلى باسل مرارا. كان واضحا أنّها كانت تتساءل ما إذا كان ما حدث للتوّ حقيقة. ألم يكن أخوها زعيم القرية المستقبليّ؟ كيف له أن يُهزم هكذا وبهذه السرعة؟
لكن، وا حسرتاه! بالطبع راقبت أدريان باسل طوال الأسابيع الأخيرة، لكنّها لم يكن لها وسيلة لتعلم عمّا كان يفعله باسل بالقرب من المناطق المحظورة المجاورة للغابة التي كانت تروق له.
وقع نظرها على عثمان مرّة أخرى، فرأت أنّه يحاول النهوض بصعوبة بعدما استقرّت حالته قليلا. لم تقدر على الذهاب لمساعدته. لقد كانت تخشى أن يفعل باسل شيئا لها، وكانت تخشى أن تضرّ كبرياء أخيها الأكبر.
فتح عثمان عينيه الداميتين. هل حقّا يشعر بكلّ هذا الألم فقط من لكمة واحدة من *** أصغر منه بعامين؟ بالأحرى، لماذا يشعر بالألم في كلّ أنحاء جسده بالرغم من أنّها مجرّد لكمة على الذقن؟
استطاع بعد محاولات متعدّدة أن يلمح صورة باسل أخيرا. لقد كان باسل يحمل الطفلين اللذين كانا يحملانه إلى هنا من عنقيهما.
(سأدقّ رأسيكما جيّدا حتّى تتعلّما كيف تستخدمانهما المرّة القادمة عندما يطلب منكما شخص فعل أمر يعارضه حسُّكما السليم.)

طرق
طرق
طرق

طرق باسل رأسيْ الفتيَيْن ببعضهما لعدّة مرّات حتّى فقدا الوعي كلّيّا قبل أن يرميهما. كان جسداهما معطوبا في كلّ الأنحاء أيضا، حالهما حال من سبقهما.
التفت باسل إلى عثمان وقال: (كم قلتَ سابقا؟ تسعة؟ لا أرى سوى واحدا.)
لم يخرج باسل أدريان من الحساب على عكس عثمان. بالفعل كان هناك واحد متبقٍّ فقط.
لم تكن أدريان موجودة هنا بعد الآن. لقد شاهدت شيئا مروعا للغاية، ولم ترد أن تراقب أخاها يحدث له نفس الشيء. وأكثر من ذلك، لم ترد أن يحدث لها نفس الأمر. لقد كانت ملابسها مبلّلة بالفعل، لذا كفاها ذلك إهانة. لا يجب أن تصبح قبيحة بسبب ضرب باسل، وإلّا سيجب عليها أن تتحمّل كره أخيها لوجهها المشوّه في المستقبل.
بالطبع لاحظ باسل هروبها، لكنّه لم يهتم بهذا حاليا. لقد كان هدفه هو تلقين هؤلاء الصراصير درسا لا يُنسى، لذا كان واثقا أنّ تلك الشقيّة ستتعلّم الدرس بعد هذه الحادثة وتتصرّف بشكل جيّد. بالرغم من أنّه لم يهتم كيف يعيش هؤلاء في نهاية المطاف، إلّا أنّه لم يردهم أن يزعجوه أبدا في المستقبل.

وفوق كلّ ذلك، كان عثمان هو رأس الحربة، وما أن ينهي أمره فسينتهي كلّ شيء آخر.
وقف عثمان بعدما مسح الدم من زاوية فمه وبصق الدم الذي تجمّع بين أسنانه. هذه المرّة، كانت ركبتاه ترتجفان، لكنّه لم يستطِع إيقاف ذلك بإيلام نفسه. لقد كان متألّما بالفعل. لم يعلم ما إذا كان الخوف أو الألم هو سبب ارتجافه، أم كانا معا.
اقترب باسل ببطء بينما يقول: (هل شعرت بها؟ أأحسست بالصاعقة تصعد معك تطفئ دماغك تماما؟)
لم يفهم عثمان ما كان باسل يلمّح له.
أكمل باسل موضّحا: (لقد جعلتك عاجزا لوهلة ريثما أتخلّص من هؤلاء. لقد أردتك أن تكون الأخير، وذلك حتّى ترى ما كان مصير من سبقك، حتّى تعلم من كلامي الحالي أنّ مصيرك سيكون أسوء بكثير.)
كان هؤلاء ******* كمزحة لباسل الذي كان يمضي غالب أيّامه يقاتل الحيوانات الشرسة ويطارد الفرائس بدوره حتّى يؤمّن هديّة مناسبة كعشاء لعائلته.
كانت حواس وأفعال عثمان خاملتين كلّيّا مقارنة بخصومه المعتادين.
لم يستطع عثمان ملاحظة باسل يتحرّك وهو بكامل عافيته، فما بالك وهو ضعيف حاليا ولا يقدر على الرؤية بشكل طبيعيّ؟
*باام
بالطبع كان باسل يضربه من جانب، فيحاول عثمان الردّ، إلّا أنّه كان يتلقّى ضربة أخرى من جانب آخر. كانت لكمات عثمان تخطئ بينما كان باسل يستبدل لكماته بركلاته عندما يملّ.
وقف باسل أخيرا أمام عثمان الذي سقط على ركبتيه. كان عثمان خائر القوّة كلّيّا ولم يستطِع رفع رأسه الذي كان داميا تماما بعدما نزف الدم من فمه وأنفه وبقيّة أنحاء رأسه.
(فلتحرص على تذكّر ما حصل اليوم جيّدا يا صرصور.)
كان ذلك آخر شيء قاله باسل قبل أن ينزل بكعبه على رأس عثمان، والذي تجمّد في مكانه كما لو أنّ الروح خرجت من جسده قبل أن يميل جسده ببطء ويسقط عند قدميْ باسل.
تنهّد باسل بعد ذلك ومشط شعره للخلف ثمّ غادر المكان كما لو أنّ شيئا لم يكن. يمكنه أن يعيش بسلام أخيرا.
تمتم لنفسه بعدما تصاعدت معه القشعريرة فجأة: (أتمنى أن ينفع معهم طرق الرؤوس فقط.)
شعر بتلك القشعريرة عندما فكّر في عيشه بسلام منذ الآن فصاعدا. لقد كان هذا حدسه الذي غالبا ما أصاب. كان حدسه يخبره أنّهم لن يستسلموا لسبب ما.
تنهّد مرّة أخرى ثمّ غادر عائدا عكس الاتّجاه الذي أتوا منه إلى هنا بروية.
(هل كان عليها أن تختار عصير الجزر؟ لماذا لمْ تضع السمّ في الشطائر؟ إنّها تملك شخصيّة ملتويّة. عصير الجزر...)
تحسّر باسل على مضيعة عصير الجزر الذي "تظاهر" أنّه شربه، وأخرج جزرة من جيبه ثمّ قضمها.

(كما توقّعت، جزر الجدّ عليّ هو الأفضل في العالم.)
***
كانت أدريان متعرّقة كثيرا، لكن لم يكن ذلك السبب الأصليّ في تبلّل ثوبها. لم تهتمّ بالرائحة الكريهة التي تصاعدت معها طوال الوقت، وركّزت فقط على الهروب. لقد كانت تريد العودة إلى منزلها والاغتسال ثمّ النوم والاستيقاظ مرّة أخرى. أرادت أن تنسى كلّ شيء وتكمل حياتها كأنّ شيئا لم يكن.
(ألن يلاحقني؟)
كانت تنظر إلى الخلف بين الحين والآخر. كانت متأكّدة أنّ أخاها الذي "يُعتمد عليه" سيُهزم بسرعة، لذا كانت تخشى أنّ باسل سيسعى خلفها بعد ذلك.
مرّ بعض الوقت على ذلك الحال، وكادت تفقد عقلها من الخوف. لم تأخّر هكذا؟ لا يجب أن يتأخّر هكذا. هل... هل يمكن أنّه بطريقة ما انتصر أخوها على ذلك الوحش الصغير؟
توقّفت أدريان عن النظر إلى الأمام لوقت طويل وظلّت تنظر إلى الخلف بالرغم من أنّها كانت ما زال تتحرّك. كان تحركها إلى الأمام دليل على خوفها من باسل، ونظرها إلى الخلف دليل على أملها في فوز أخيها.

فجأة...
باام
تصدّع

سقطت أدريان على الأرض.
ما الذي حدث؟
كان هذا هو السؤال الوحيد الذي شغل بالها.
رأت ساقين بيضاوين لا يمكن أن تكونا ساقين لشخص يتدرّب ليل نهار مثل باسل. لقد كانتا ساقين راقيتين لشخص عاش محافظا ومعتنيا ببشرته. كانتا أيضا ساقين لشخص يقارب عمرها وليس ساقين لشخص بالغ.
رفعت أدريان رأسها فوجدت عندئذ "الحافز الحقيقيّ" الذي جعلها تفعل ما أخبرها أخوها أن تفعله.
كانت تلك العاهرة الشقراء أمامها.
بالطبع كانت أدريان ما تزال لا تعلم لمَ سقطت على الأرض.
سمعت حينها تلك الكلمات التي بدت كهمسات من الشيطان: (هل ظننتِ أنّه يمكنك المغادرة بهذه السهولة بعد ما تجرّأت على فعله؟)
فتحت أدريان فمها محاولة قول شيء، لكنّ أنمار قاطعتها: (لا تجرئي. ما فعلتِه لا يُغفر بهذه البساطة. لا تظنّي أنّه يمكنك أن تتجاوزي هذا الأمر بطلب السماح فقط. لقد تغاضى باسل عن أفعالك، لكنّني لست بتلك الرحمة. قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.)
بدأت أسنان أدريان ترتعد. لم يكن السبب الوحيد هو كلام أنمار. لقد أدركت أخيرا لمَ لا تستطيع التحرك. لقد كانت قدماها مكسورتين. ونفس نفس الوقت، رأت ما كانت أنمار تحمله في يديها خلف ظهرها. لقد كانت تلك مجرفة. علمت فورا أنّ تلك المجرفة كانت هي ما كسر قدميها حتّى صارت عاجزة عن التحرّك.
لقد كانت هناك أيضا بعض الدماء الطازجة على المجرفة والتي كان مصدرها الدماء التي كانت تنزف من قدميْ أدريان.
أكملت أنمار كلامها: (ولهذا، يجب على أحد آخر في محلّه أن يعتني به. إنّه يفعل كلّ شيء من أجل عائلته، لكنّه ينسى نفسه، لذا يجب على شخص آخر أن يحمي ظهره.)
أمالت أنمار رأسها ثمّ قالت: (أظنّ أنّه يمكنك القول أنّني أيضا عديمة الرحمة عندما يتعلّق الأمر بأذيّة أحدهم لعائلتي. ليس هناك فرق كبير بيني وباسل في الواقع، فكلانا يفعل ما بوسعه لحماية أحبابه.)
(لقد راقبته منذ نعومة أظافرنا يفعل كلّ ما بوسعه ليضمن سلامة أحبابه. لن أسمح لأحد أو أيّ شيء بالوقوف في مسعاه لتحقيق ذلك. سأدمّر أيّ شيء يحاول النيل منه.)
ابتسمت أنمار آنذاك برزانة كطفلة جيّدة. هل كانت ابتسامة أدريان الخفيّة فيما سبق سوداويّة؟
لو كانت تلك الابتسامة سوداويّة، فأدريان كانت متأكّدة؛ لقد كانت هذه ابتسامة شيطانيّة.
لم تستطِع الفتاة الصغيرة في تلك الأثناء أن ترى مخلوقا بشريّا أمامها. كلّ ما رأته كان شيئا يحمل شيئا ويحاول أن يفعل شيئا.
فزعت أدريان من ذلك "الشيء".

***
لم تكن أنمار تخدع أحدا. لطالما كانت لطيفة وحنونة حقّا. لم يكن ذلك تمثيلا قطّ. بالفعل تألّم قلبها عندما شاهدت الفراخ تسقط من الأعشاش، أو عندما تنمّر الأطفال على القطط والكللابب، أو عندما تعدّى الشبّان على العجائز.
لقد كانت تكره رؤية كلّ هذا، لكن لم تفعل شيئا بشأنه. لم يكن لها القوّة ولا الشجاعة للتدخّل. لماذا عليها أصلا التدخّل فيما لا يعنيها؟ هي لا تريد أن تجلب المتاعب لعائلتها الصغيرة.
تحمّلت آلام قلبها واستمرّت في عيش حياتها على ذلك الحال.
لكن...
لربّما بسبب تحمّلها وكبتها لتلك الرغبات التي كانت تنبع من قلبها... لربّما لأنّها أرادت مساعدة الضعفاء لكنّها اختارت ألّا تفعل... لربّما لذلك السبب، صارت أنمار تصير شخصا آخر تماما عندما تشاهد ما تريد حمايته يتعرّض للأذى.
كما لو أنّها امتلكت شخصيّتين مختلفتين، إلّا أنّ الشخصيّتين لم تتفرّقا وحافظتا على وعيهما في نفس الوقت.
تحمّلت أنمار مشاهدة باسل يتعذّب طوال الوقت، فأرادت مساعدته لكنّه لم يسمح لها لأنّه أراد أن يصير أقوى.
رأت الأطفال يتنمّرون عليه لكنّه لم يرد مساعدتها ولم تفكّر في فعل ذلك بما أنّه لم يحاول الانتقام، وفقط اقتصرت على مراقبته كعادتها بينما يحاول تحسين نفسه بلا ملل أو كلل، كلّ يوم، كلّ ليلة، سنة تلو الأخرى.
ومرّة أخرى، تكوّنت رغبة عميقة في قلبها. إن لم يكن سيسمح لها أن تحمل ذلك الثقل الذي يضعه على ظهره، فستحرص على حماية ظهره بكلّ ثمن. لن تسمح لأيّ شيء بالاقتراب من ذلك الظهر الذي عشقت رؤيته صامدا بالرغم من كلّ المصاعب التي تحاول كسره.
لو لم يستيقظ باسل قبل أن تأتي وتراه ينهي أمر أولئك الأطفال الملاعين، لكانت الشخص الذي شقّ رؤوس أولئك الأطفال بدون رحمة.
وبالطبع، عندما هربت أدريان، اعترضت أنمار طريقها. لقد عاقب باسل أولئك الأشقياء على أفعالهم، لكن هذه العاهرة الصغيرة التي حاولت قتل باسل يجب أن تُعاقب أيضا. لا يجب أن تسمح لها بالكون في هذا العالم حتّى تتأكّد تماما أنّ شيئا كهذا لن يحصل ثانيّةً. يجب أن تبيد كلّ ما يحاول كسر الظهر الذي تلاحقه.
رفعت أنمار المجرفة ثمّ نزلت بها على ذراع أدريان اليسرى.
*تصدّع
(غيااااه!!!) صرخت أدريان بجنون وتكوّرت على نفسها بينما تحضن ذراعها التي انحرفت في اتّجاه غريب.
كانت الدموع تسقط من عينيها الداميتين بغزارة وبلّلت نفسها مرّة أخرى.
ترجّت باستماتة: (آسفة، آسفة، آسفة، أرجوك سامحيني! لن أعيدها مرّة أخرى. أقسم لك أنّني سأختفي من حياتكما. لن أفعل هذا لأيّ أحد أبدا. لقد كنت مخطئة. أنا المخطئة! أرجوك، آسفة...)

صارت كلمات أدريان بعد ذلك كخزعبلات غير مفهومة من شدّة سرعتها في الكلام واختلاط أفكارها.
ومع ذلك، كان ذلك الشيء أمامها بدون أيّ ذرّة من الرحمة. كانت عينا ذلك الشيء فارغتين من الحياة، وبدا كما لو أنّه يحاول إزالة شيء من على الطريق حتّى يتسنّى له التقدّم بكلّ راحة.
لقد كانت ترى اليأس متجسّدا أمامها.
ذلك الشيء... لقد علمت ماهيّته أخيرا.
متى علمت عن ماهيّته؟
حدث ذلك عندما لاحظت تلك الابتسامة تظهر مرّة أخرى. جعلتها تلك الابتسامة تصحّح أفكارها. لم يكن الأمر أنّ هذا الشيء كان فارغا من الحياة، بل كان هذا الشيء حيويّا أكثر من أيّ وقت مضى. نعم، بدا كشيطان يطلق العنان لرغباته المكبوتة.
باام
تصدّع

كُسِرت الذراع الثانيّة.
لم يهمّ كم ترجّت أدريان. لقد كان ذلك الشيطان مستمتعا بما يفعله. كيف لها أن تقنع شيطانا بالعدول عن فعل شيء يمتّعه؟
ومع ذلك، كان الأمر مختلفا قليلا عمّا بدا عليه الأمر لأدريان. بالفعل ظهرت تلك الابتسامة الشيطانيّة على محيى أنمار، إلّا أنّ ذلك لم بسبب استمتاعها بالتعذيب بحدّ ذاته، وإنّما لأنّها كانت مرتاحة البال لأنّها ستتخلّص أخيرا من الخطر المحدّق بباسل. أخيرا يمكنها حمايته كما رغبت لوقت طويل.
صارت أنمار تبدو لأدريان كحاصد أرواح يلوّح بمنجل الموت الخاصّ به. كلّما لاحظت المجرفة ترتفع، علمت أنّ الألم سيهبط معها كالصاعقة.
ألا يمكن أن تموت فقط وتتخلّص من هذه الآلام؟
(اقتليني. فقط اقتليني، اللعنة! لمَ عليك فعل كلّ هذا؟ أنهي الأمر حالا!)
لم تعد أدريان تهتمّ بأيّ شيء آخر. هل كانت قلقة فيما سبق بشأن غدو وجهها قبيحا؟ لقد صار جسدها كلّه مليئا بالجروح الآن. هل عليها أن تعيش بقيّة حياتها هكذا؟ لا. ستفضّل الموت بكلّ تأكيد.
ردّت أنمار مباشرة هذه المرّة: (لمَ عليّ أن أستمع لطلبك؟ سأقتلك عندما أرى أن الوقت مناسب.)
كادت عينا أدريان تخرجان من مكانهما. حاولت إقامة جسدها قليلا باستخدام طاقة غضبها بينما تصرخ: (أيّتها العاهرة! لطالما علمت أنّك وحش في هيئة فتاة جميلة. كلّ تلك الطيبة... كلّ ذلك العطف والرأفة... لطالما زيّفت كلّ ذلك. إنّك مجرّد مسخ متنكّر كبشر! هل يعلم باسل عن هذ...)

باام
فلطحت المجرفة وجه أدريان التي سقطت أرضا مستلقيّة هناك كالجثّة.
قالت أنمار بصوت خالٍ من الحياة: (لا تجرئي على نطق اسمه بفمك الوسخ يا قذارة. لا أهتمّ كيف ترينني، ولا أهتمّ كيف يراني العالم. أنا فقط سأحمي ما هو غالٍ على قلبي في كلّ حال.)

(كيهي... كيهيهاهاهاها!)
بدأت أدريان تضحك كما لو أنّها جُنّت. لقد كان الضحك لوحده يجعل الألم يصعق جسدها، فما بالك بالتحرّك، إلّا الحماس جعلها قادرة على التغلّب على آلامها لوهلة.
لقد كانت متحمّسة لأنّها علمت أنّ باسل لا يعلم عن هيئة أنمار هذه. كانت فرحة لأنّها فكّرت في اليوم الذي يكتشف فيه باسل حقيقة أنمار.
اقتربت أنمار وتلك الابتسامة ما زلت على وجهها من أدريان.
(ما الذي يحدث هنا؟)
وكما لو أنّ أمنيتها الوحيدة التي ترجّت حدوثها ذات يوم تحقّقت بهذه السرعة، سمعت أدريان صوت باسل. ابتسمت بوجهها القبيح. لقد كانت هذه نفس الابتسامة التي أظهرتها في كلّ مرّة فرحت كثيرا، لكن هذه المرّة لم تكن تلك الابتسامة مشرقة لكن مظلمة.
لم تكن أدريان تتخيّل أنّها ستكون سعيدة لهذه الدرجة بظهور هذا الفتى اللعين الذي اعتقدت أنّه وحش صغير قبل قليل فقط وحاولت الهرب منه بكلّ جهدها.
(كيهيهاهاهاها! هاهاهاخوه!)
تقيّأت أديان الدماء بين ضحكاتها الهيستيريّة.
لقد رأت بصعوبة وجه باسل المصدوم. لم يكن حقّا يعلم شيئا عن ذلك المسخ المتنكّر في هيئة فتاة صغيرة.
حدّق باسل إلى هذا الوضع لوقت طويل. لقد رأى شيئا غير قابل للتصديق.
هل أنمار هي المسؤولة عن هذا؟ نعم، هي المسؤولة. لقد كانت تحمل المجرفة التي تغطّيها دماء الفتاة التي صارت كدمية مكسورة.
لكن كيف؟ لماذا؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟
أنمار... الفتاة اللطيفة، الحنونة. الفتاة التي لم تستطِع مشاهدة أبسط الاعتداءات... كيف لها أن تفعل شيئا كهذا؟ فقط ما الذي حصل لأنمار التي يعرفها؟
لماذا كانت تبتسم بذلك الشكل؟ لماذا كانت تبدو مستمتعة بتعذيب أدريان؟
هل كان كلّ ما عرفه عنها كذبا؟ هل كانت تمثّل طوال هذا الوقت؟ هل حقّا خدعته بتمثيلها كلّ هذه السنوات؟
لقد كان باسل مفتخرا بنفسه لأنّه رأى عبر تمثيل أدريان وخطّة عثمان بكل سهولة، لذا كان مصدوما تماما عندما رأى هذا الجانب من أنمار.
ومع ذلك، كان باسل ما يزال صبيّا حاذقا؛ لقد علم تماما ما وجب عليه فعله في هذه الأثناء.
أوّلا، عليه أن يمنع أنمار من قتل أدريان. شعر أنّه لو سمح لها بأن تقتلها، فشيء سيتغيّر بأنمار للأبد. أحسّ أنّه لن يستطيع رؤية أنمار التي عشقها طوال هاته السنوات مرّة أخرى.
لم يرد أن يخسر تلك الفتاة اللطيفة التي اهتمّت بعائلتها بطريقتها الخاصّة بقدر ما اهتمّ هو لعائلته. لقد كانت هي أفضل منه بكثير. لقد تحسّرت حتّى على مشاكل الآخرين على عكسه، ولو لم تتدخّل.

تجمّدت أنمار في مكانها لمّا شاهدت تعبير باسل. لم تهتمّ لآراء الآخرين، ولم تهتمّ كيف يراها العالم، لكنّها اهتمّت كثيرا لما يعتقده باسل بشأنها. لم ترد أن تخسره، لذا حاولت التكلّم، لكنّها قوطِعت.
(لا تقولي شيئا حاليا.)
كان باسل قد وصل إلى أدريان.
كانت أدريان متحمّسة لردّة فعل باسل، لذا ظنّت أنّه سيساعدها ويكره أنمار. على الأقلّ ستصيب أحد العصفورين اللذين أرادت إصابتهما سابقا، وذلك هو جعل أنمار تخسر باسل.
قرّب وجهه منها ثمّ قال بصوت هادئ وبارد: (اسمعيني جيّدا. لقد هاجمتك الذئاب برفقة أخيك والآخرين. لو أخبرت أيّ أحد عمّا حصل هنا اليوم، فسأحرص على جعلك تفضّلين الموت على الحياة.)
لقد كانت تانك نفس العينين اللتين رأتهما سابقا عندما حطّم هذا اللعين رؤوس أولئك الفتيان. علمت أنّه لم يكن يستهتر بكلامه هذا. سيطبّق ما قاله حقّا لو خالفت أقواله.
تذكّرت أدريان قول أنمار: 'قد يكون باسل عديم الرحمة عندما يؤذي أحدهم عائلته، لكنّه يتساهل مع الآخرين عندما يتعلّق الأمر بإيذائه.'
علمت أنّها إذا أخبرت القرية عمّا فعلته أنمار، فستضرّر أنمار، وهذا يدخل في مجال أذيّة عائلة باسل. لم ترد أن تختبر عدم رحمة هذا الفتى.
اللعنة! ما الذي كانت تنتظره من هذا الوحش الصغير على أيّ حال؟ لقد كان هذا اللعين هو الشخص الذي أحبّته تلك العاهرة. بالطبع سيكون مسخا مثلها.
أخرج باسل بعض الأعشاب وأوقف نزيف أدريان ثمّ تركها تستلقي هناك. سيجدها عثمان والآخرين عند عودتهم كما وجدهما هو هنا. لقد كانت هذه هي الطريق المعتادة التي يستخدمها الصيادين.
تحرّك وتجاوز أنمار، ولم يقل شيئا. أرادت أنمار أن تفسّر موقفها، لكنّها تذكّرت أنّ باسل أخبرها ألّا تقول شيئا. علمت انّه لم يرد التحدّث عن هذا هنا.
للأسف، لم يكن باسل ينوي التحدّث عن هذا إطلاقا، وليس هنا فقط.

منذ هذا اليوم، صار باسل يتجنّب أنمار كلّيّا.
وكما أخبره حدسه، لم يستسلم أولئك الأطفال عن محاولة إغاظته.
تنهّد وقال: (من كان يعلم أنّ طرق رؤوسهم كثيرا سيجعلهم ينسون ما حدث كلّيّا؟ لقد فشلت. كان يجب عليّ أن أطرق رؤوسهم بقّوة أقلّ.)
بالمناسبة، لطالما اعتقد باسل أنّ طرق الرؤوس يعالج الغباء، وأنّه الطريقة الفضلى للتخلّص من المزعجين.
مشط شعره إلى الخلف ثمّ أضاف: (على الأقل، تذكّرت أدريان ما قلتُه.)
بعد تلك الحادثة، اختفت أدريان من حياة أنمار وباسل تماما. كانت مجرّد شبح يعيش في قريتهما.

***
كان يحيط الإمبراطوران والجنرالات والعائلات الإمبراطوريّة يحيطون باسل حاليّا. حتّى كارماين ابن سكارليت كان هنا.
لقد كانوا كلّهم يرتدون الأبيض.
لقد كان الأبيض هو لون باسل المفضّل لارتداء الملابس، لكنّه كرهه كثيرا اليوم. لطالما ارتدى الأبيض كثيرا حتّى يلاحظ الأوساخ بسهولة ويظلّ نقيّا كما أردته أمّه أن يكون، لكنّه صار يرى هذا الأبيض كعلامة شؤم. سيذكّره هذا الأبيض بفقدان أمّه وعائلته والآخرين لما تبقّى من حياته.
كانت ذكريات الماضي ما تزال تجوب عقله. حدّق بعينين فارغتين من الحياة إلى القبور التي كانت المسكن الجديد لأجساد الأشخاص الذين كانوا أحياء قبل أيّام فقط. لقد بدا الأمر كـكذبة.
كانت عائلة باسل هي العالم بالنسبة له، فغيّر العالم بنفسه من أجل حمايتها، إلّا أنّه فقدها، فتحطّم عالمه كلّيّا.
كان هناك شخص واحد ما زال يترجّى باسل أن يكون حيّا بطريقة ما بالرغم من أنّ احتماليّة موته أكبر بكثير من عيشه. كان يأمل بكلّ ذرّة من كينونته أن تكون أنمار ما زالت حيّة. كان ذلك الأمل المضمحلّ هو ما يجعله متشبّثا بالحياة.
***
(...يبدو أنّني سأحتاج لأعلّمك كيف تعامل النساء أيضا بدءا من اليوم.)
أمسك باسل رأسه الذي طرقه معلّمه، ثمّ نظر إلى أنمار وهي تكتسب عطف معلّمه.
لقد كان في هذا الوقت يعتقد أنّها كانت تخدعه طوال الوقت، لذا لم يرد منها أن تخدع معلّمه أيضا.
ومع ذلك، استسلم عن ذلك بعدما قرّر إدريس الحكيم اتّخاذ أنمار تلميذة له.
جلس باسل ومعلّمه في أحد الأيّام، فسأل المعلّمُ مباشرة: (لماذا تتجنّب الصغيرة أنمار؟)
عبس باسل بعدما سمع ذلك السؤال وردّ بصوت مرتفع: (تلك... هي... لقد كانت تتصرّف بـ'طريقة' طوال الوقت، لكنّها كانت في الواقع شيئا آخر. لقد خدعتني طوال هذا الوقت.)
حدّق إدريس الحكيم إلى باسل لوقت طويل ثمّ سأل مرّة أخرى: (هل تخشاها؟)
شعر باسل أنّ معلّمه قد سأل وهو يعلم ما يجول في خاطره. لطالما ظنّ أنّ معلّمه له قدرة غريبة في الرؤية عبر الآخرين واكتشاف نواياهم بسهولة. لقد كان صبيّا حاذقا وكان واثقا في التحكّم في مشاعره وتعبيراته، لذا علم أنّه لم يكن سهل القراءة وإنّما معلّمه من كان خبيرا.
لم يحاول المراوغة في الإجابة. لقد كان باسل صريحا مع معلّمه كعادته: (لا أخشاها بحدّ ذاتها. أخشى أن أفقدها. أخشى أن أفقد أنمار التي لطالما عرفتها.)
ابتسم إدريس الحكيم بعدما سمع صراحة باسل وقال: (لا تقلق إذن. أنمار التي لطالما عرفتها، وأنمار التي اكتشفتها لاحقا... كلاهما أنمار. ما عليك سوى أن تتقبّل هذه الحقيقة.)

لم يقل باسل شيئا. لم يفهم ما قاله المعلّم في تلك الأثناء، لكنّه استوعب مع مرور الوقت أنّ أنمار لا تحاول إخفاء ذلك الجانب منها، وأنّ أنمار التي عشقها ما تزال موجودة. هي لم تختفِ بعدما ظهرت أنمار الأخرى.
أدرك هذا الشيء جيّدا عندما كانا في أحد الأيّام يتدرّبان في منطقة محظورة. كان إدريس الحكيم قد منحهما كعادته مهمّة إرضاخ منطقة محظورة.
التقى باسل وأنمار ببعض السحرة، فتعاونا معهم بناء على طلب السحرة. أراد السحرة أن يكتسبوا لقمة عيشهم، وأراد باسل وأنمار أن يتعرّفا على سحرة آخرين غير معلّمهم. أرادا أن يريا الفرق بينهما وباقي سحرة العالم.
كان هناك ساحر بالمستوى الرابع، وثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربعة سحرة بالمستوى الثاني.
كان إدريس الحكيم يراقب ما يحدث، فلاحظ بعض الأشياء لكنّه لم يتدخّل. كلّ ما فعله هو التعليق: (سيكون هذا درسا جيّدا لهما. لنرَ كيف سيتعاملان مع هذا الموقف.)
تكلّم أحد السحرة بالمستوى الثالث: (إنّكما ماهران حقّا. لم أتوقّع أنّ هناك عبقريّيْن مثلكما في هذا العالم. من كان ليتوقّع أنّ فتى وفتاة في هذا السنّ الصغير سيكونان ساحرين بالمستوى الثاني.)
ضحك باسل وحكّ رأسه بخجل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يلتقي فيها سحرة آخرين، لكنّه لم يرخِ دفاعه أيضا بسبب حماسه. لم يكن في المستوى الثاني، لا هو ولا أنمار. لقد زيّفا ذلك فقط حتّى يتسنّى لهما الاندماج مع السحرة بسهولة.

مرّ يوم فقط، فبلع السحرة أرياقهم من شدّة الحماس. لقد جمعوا العديد من أحجار الأصل. لقد أرضخوا منطقة محظورة كلّها. لم يتوقّعوا أن يحصدوا كلّ هذه الكنوز أيضا التي وجدوها في الكهوف. لقد كانت هناك أسلحة سحريّة بالمستوى الرابع حتّى؛ لا بدّ وأنّ بعض السحرة بالمستوى الرابع ماتوا هنا.
لو فكّروا بشكل منطقيّ، لعلموا أنّهم لم يكونوا ليهزموا منطقة محظورة أنهت أمر سحرة بالمستوى الرابع، لكنّ جشعهم تغلّب على منطقهم. كانوا ليلاحظوا أنّ باسل وأنمار كانا قويّين بشكل غير طبيعيّ.
لم يتغلّب جشعهم على منطقهم فحسب، بل جعلهم ينسون كرامتهم وإنسانيّتهم حتّى.
في تلك الليلة، أحاط السحرة أنمار وباسل من جميع الجهات. لقد أرادوا جميع الجوائز لأنفسهم ولم يريدوا اقتسامها مع هذين الطفلين.
كانت ردّة فعل باسل بسيطة: (حسنا. خذوا ما شئتم. نحن لا نتهمّ بأيّ شيء آخر. فقط لا ترونا أوجهكم مرة أخرى.)
وبالطبع، جشع السحرة فاق هذا بكثير: (من قال أنّنا نريد الحصيد فقط؟)
نظر هذا الشخص الذي كان ساحرا بالمستوى الرابع إلى جهة أنمار وقال: (لم يسبق لي أن رأيت فتاة بجمالها بالرغم من تجوالي كِلَا إمبراطوريّتيْ القارّة العظيمة. سنستمتع بها جيّدا قبل أن نبيعها كجاريّة لأحد النبلاء. أمّا أنت... للأسف لا أملك هواية اللعب مع الفتيان. أنت ستكون عبدا بكلفة عاليّة للغاية.)

كان هؤلاء السحرة في الواقع مرتزقة. لم يكن من السهل رؤية سحرة بالمستوى الرابع هنا وهناك بكل سهولة. لقد كانت هذه الفرقة جيّدة بالنسبة لمرتزقة في الواقع.
عبس باسل لكنّه كان محافظا على هدوئه حتّى في هذا الموقف. لطالما أخبره معلّمه أن يظلّ رزينا في كلّ المواقف. لطالما أخبره أنّ سلامة العقل تعني سلامة المسار الروحيّ.
لكن...
شخص آخر كان مختلفا.
ظهرت أنمار الأخرى التي رآها باسل في ذلك اليوم.
اندفعت بتهوّر تجاه الشخص سمعته يقول أنّه سيستعبد باسل.
هذه المرّة، لم تكن تحمل مجرفة، بل سيفا سحريّا، لا، بل سيفا أثريّا.
زباام
لم يملك ذلك الشخص بالمستوى الرابع الفرصة للدفاع عن نفسه حتّى وجد نفسه مقطوعا لنصفين من الخلف. لقد ظنّ أن السيف قادم من الأمام، لكنّ ذلك كان مجرّد وهم.
شاهد باسل هذا الأمر وبدأ يستوعب ما يحدث مع أنمار.
وبالطبع، لم يكن لديه وقت ليفكّر في هذا بروية. لقد لاحظ أنّ أولئك الملاعين ينقضون على أنمار، وكانت في خطر محدّق.
في الواقع، لم تكن في خطر على الإطلاق. حتّى لو كان قد بقي ثلاثة سحرة بالمستوى الثالث وأربع سحرة بالمستوى الثاني، كانت أنمار قادرة على الفرار من هجماتهم الموحّدة على الأقلّ.
لكن...
لم يفكّر باسل في هذا في هاته اللحظات. وفقط عندما قطع بسيفه لحم وعظم السحرة، أدرك لمَ تصرّفت أنمار بذلك الشكل بدون أن تشعر.
لطالما كانت أنمار تراقبه وتحمي ظهره، لكنّه حصر صورتها في ذهنه على أنّها مجرّد فتاة لطيفة لا غير. الآن فهم أنّ أنمار مثله. فهم أنّها ستفعل أيّ شيء من أجل حماية أحبابها، وأنّها ستتحوّل لشيطان عديم الرحمة من أجلهم.
هي لم تكن تمثّل أو تخدع الناس عندما تصرّفت بلطف وعطف. لقد كانت تلك أنمار، ولكن حتّى أنمار عديمة الرحمة كانت أنمار. الآن فهم باسل تماما ما قصده معلّمه. نعم، كلاهما أنمار.
لم يمر وقت طويل قبل أن يظهر إدريس الحكيم. أوّل ما قاله معلّمهما كان: (ما هو شعوركما؟)
علم الاثنان ما كان يقصده. لقد كان يتحدّث عن القتل. لقد كانت هذه أوّل مرّة يقتلان فيها بشرا.
أجاب باسل بشكل طبيعيّ: (لا شيء. لقد شعرت مثل ما أشعر به عند قطع الوحوش.)
ارتفع حاجب إدريس الحكيم وسأل: (لمَ ذلك؟)
حدّق باسل إلى عينيْ معلّمه وقال بصرامة: (لقد ميّزهم عقلي كوحوش من تلقاء نفسه ما أن حاولوا مهاجمة أنمار.)
نظرت أنمار إلى جهة باسل بوجنتين محمرّتين، فابتسم إدريس الحكيم عند ملاحظة هذا. لم يحتج أن يسمع إجابة أنمار بعدما رأى تعبيرها ذاك. لقد كانت فقط مرتاحة البال لأنّ باسل لم يصبه شيء، وسعيدة للغاية لأنّها سمعته يقول ما قاله عنها.
***
انتهت أخيرا الجنازة التي أقيمت في مدينة العصر الجديد، وبالضبط في بيت عائلة باسل المتواضع. كان باسل يجلس وحيدا على التلّ القريب من المدينة التي كانت تُرمّم من جديد. هذا التلّ الذي ارتاح فيه باسل بعد 'ولادته الجديدة' سابقا... صار هذا التلّ مقبرة.
حدّق إلى السماء التي ذكّرته بالعينين الزرقاوين اللتين عشق النظر إلى الحنان يتجسّد فيهما.
(اهتم بـ'أنمار' جيّدا؛ فالإنسان لا يعلم قيمة الشيء الحقيقيّة إلّا بعد فقدانه.)
تذكّر باسل كلام أمّه في هاته اللحظات التي شعر فيها أنّه وحيد في هذا العالم. لقد فعل ما بوسعه حقّا حتّى يقدّر ما يعزّه، لكن كما قالت أمّه، لا يعلم الشخص قيمة الشيء الحقيقيّة حتّى يفقده.

لقد كان يعلم أنّه سيفقد عقله بعد فقدان عائلته، لكنّ الحكمة السياديّة لم تسمح له بذلك.
ومع ذلك، كان عالمه محطّما تماما.
علم أنّ الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجمع شتاته هو ذلك الأمل المضمحلّ.
تذكّر أيضا كيف ثابر الصناديد عبر العصور وتحلّوا بصبر شديد حتّى يمرّروا عصارة أملهم إليه.
تذكّر كيف اختبر الرمح الطاغيّة الوحدة القاسيّة لعصور أبديّة.
تذكّر أيضا كيف أخبره معلّمه أن يحرص على مرافقة أنمار بالمسار الروحيّ.
ولهذا قرّر...
عليه أن يبحث عنها.
-وعنه-
عليه أن يجدها.
-ويجده-
عليه أن يصلح عالمه المكسّر.
-ويكسر عالم إبلاس-
عليه أن يسويّ كلّ شيء.
ولفعل هذا، عليه أن يغادر العالم الواهن.

***

مغادرة العالم الواهن. لقد علم باسل عن صعوبة فعل شيء كهذا في هذه الأوقات. لقد كانت العوالم مختومة، ولولا التحوّل الروحيّ الذي جعل الختم غير ثابت مؤقّتا، لما استطاع أيّ شخص المجيء إلى هنا.
إذن، كيف له أن ينجح هو في فعل هذا؟ كيف له أن يفعل شيئا عجز حتّى الآن ملك الشياطين بأعوانه؟
بالفعل كان للرمح الطاغيّة قدرة التلاعب بالفضاء، لكنّ ذلك غير كافٍ، فباسل قد أخبر الرمح الطاغيّة عندما كانا في العالم الثانويّ أنّه حتّى قدرة الرمح غير كافيّة لأنّ الختم الذي وضعه "السابع" قويّ للغاية.
وقف باسل ثمّ استدار. كان أمامه الآن خمسة قبور. كان في هذه القبور أمّه والعمّة سميرة والجدّة ليندا وأخوا القطع.
لم يُدفن الكبير أكاغي والجنرال منصف هنا لأنّه وجب أن يُدفنوا في المقبرة الإمبراطوريّة بالعاصمة.
حدّق باسل إلى القبور التي كانت بسيطة. كلّ ما ميّزها كان وجودها لوحدها على هذا التلّ.
طال نظر باسل إلى القبور حتّى تغرغرت عيناه بالدموع التي انهمرت بسرعة كبيرة وبدون توقّف. قد تكون الحكمة السياديّة تتحكّم في منطقه وحسّه السليم، لكنّها لم تأخذ منه إنسانيّته. طالما لا يفوق الأمر "الحدود"، فآثار التحكم الحكيم السليم تبقى غير مفعّلة.
ومع ذلك، كان باسل يكاد يفقد نفسه في كلّ مرّة تساقطت دموعه التي لم يستطع التحكّم فيها بدون الحكمة السياديّة. كان يبكي لوقت طويل للغاية حتّى يبدأ يفقد حسّه السليم، فتجّف عيناه مباشرة بعدما تتدخّل الحكمة السياديّة. كل ما كان يبقى هو عيناه اللتان تكونان قد ازدادتا حمرة عن لونهما الطبيعيّ.
سقط على الأرض عندما جعلته الحكمة السياديّة يهدأ، ونظر إلى الأرض لوقت طويل للغاية.
"لماذا؟ لمَ يجب أن يحدث لي كلّ هذا؟ كلّ ما أردته هو أن تعيش عائلتي بسلام. لم أحاول تمديد طول عمرهم أو عارضت القوانين الطبيعيّة. ما الذي يجب عليّ فعله يا أنمار؟"
كان يكرّر كلامه هذا دائما وبدون توقّف. كانت تلك أسئلة بلا إجابة، لذا لم يتوقّف إلّا عندما أجابه الواقع القاسي مرارا بحقيقة ما حدث. عليه الآن أن يتعايش مع كلّ ما حدث. ليس هناك ما يمكن فعله. ما فات قد مات.
تحسّر هناك لوقت طويل جدّا حتّى أغربت الشمس. لم يشعر بمرور الوقت قطّ. أحسّ أن شعوره بالزمن صار منعدما. هل ربّما يعود السبب لكونه وحيد؟ كيف ذلك ولطالما فضّل الوحدة؟
عرف باسل المعنى الحقيقيّ للوحدة في هذه الأثناء. كان هناك مكان لم يستطع أن يملأه سوى أشخاص محدّدين. كانت هناك ثغرة في قلبه شعر أنّها ستبتلع روحه في أيّ لحظة لولا الحكمة السياديّة.
لم يمكن ملء هذه الثغرة أبدا، بل تغطيّتها فقط. علم باسل بدون إدراك أنّه عليه أن يجد ذلك الغطاء.

***
في أحد المنازل في العاصمة...
انحنى رأس باسل قليلا وقال: "آسف. تقع المسؤوليّة عليّ. كلّ ما يمكنني فعله لكنّ هو ضمان حياة آمنة لكنّ كما أرادوها لكم، ومحاولة استرجاعهم، هم الذين فقدتنهم."
كان باسل يتحدّث إلى ثلاث نساء. كانت هؤلاء النساء زوجات فانسي وشينشي وبرودي، قادة التشكيل الثلاثة.
كانت أوجه النساء الثلاث شاحبة. لقد كنّ على علم بما حلّ بالعالم، وبالأكاديميّة. علمن كيف خُطِف أزواجهنّ.
نظرن إلى باسل بأعين حزينة لكن عطوفة في نفس الوقت.
قالت زوجة فانسي: "إنّك أكثر شخص يتعذّب فينا هنا، فلا تعتذر من فضلك. نحن نعلم عنك وعن مجهوداتك. لطالما أخبرنا أزواجنا عن المسؤوليّة التي تتحمّلها بالرغم من سنّك الصغير."
أضافت زوجة شينشي: "انظر، لقد أتيت لتعتذر، لكنّك أتيت أيضا لتخبرنا أنّك ستفعل ما بوسعك لإرجاعهم لنا."
ابتسمت زوجة برودي بصعوبة. كان واضحا أنّها تجبر نفسها، لكن تلك الابتسامة كانت كافية لجعل قلب باسل يرتاح قليل: "لولا جهودك، لما اقتصر الأمر على ما حدث. كنّا لنشهد دمارا شاملا أسوء بكثير من الذي حدث قبل سبع عشرة سنة. لقد كنتَ وما زلت حامي هذا العالم. لا يهمّ ما يعتقده الآخرين، أنت بطل العالم الواهن. سأحرص على قول هذا طالما حييت."
كانت زوجة برودي تقصد الإشاعات التي كانت تدور في بعض الأماكن عن خوف بطل البحر القرمزيّ وعدم ظهوره بالرغم من موت عائلته وأتباعه.
لم يكن هناك مفرّ من انتشار إشاعات كهذه. لقد كان باسل أصلا مشهورا، وكان هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يعجبهم الأمر، وخصوصا عندما يفكّرون في أنّ فتى صغير يمكنه أمرهم كما يبتغي. كان هناك أيضا من عارض منهجه، وهناك من حسده فقط. واحد من تلك الأسباب فقط كان كافيّا لنشر إشاعات عديدة عند ظهور فرصة كهذه.
حدّق باسل إلى الثلاث. بالفعل لم يهتمّ بما قاله الآخرين، لكن...
"لقد خذلتُ الجميع."
النتيجة كانت جليّة. كانت النتيجة هي الأكثر أهمّيّة. فماذا لو فعل هذا وذاك؟ كلّ ذلك يُعدّ بلا معنى إذا فشل في النهاية.

تدخّلت زوجة شينشي: "لم تخذل أحدا يا سيّدي. على العكس، نحن نعلم، أنّ عالمنا كان ليكون في حالة يُرثى لها بهذه الأثناء لولاك. لربّما تعتقد أنّك خذلت الجميع، لكنّك أنقذت المليارات من الأرواح في الواقع."
كانت الإمبراطوريّات الثلاث منقسمة لممالك عديدة فيما سبق، ولكن بعدما أصبحت الممالك ثلاث إمبراطوريّات وعمّ السلم نوعا ما لسنوات عديدة، ازداد التعداد السكانيّ للعالم الواهن كثيرا. كان هناك حاليا المليارات من الناس يعيشون بالعالم الواهن.

فكّر باسل فيما قالته زوجة شينشي. لم تكن مخطئة. بالفعل أنقذ باسل العالم الواهن إن نظر الشخص إلى الأمر نظرة أوسع، لكنّ عالم باسل كان أمّه وعائلته.
وجد باسل الأمر ساخرا عندما فكّر في الأمر بروية. عندما كان صغيرا، كان يرى العالم بشكل واسع للغاية ولم يرد أن يحصر نظره في قرية صغيرة، لكنّه الآن كان يفعل عكس ذلك تماما، لكنّه لم يعتقد أنّ ذلك خاطئ. لطالما وسّع آفاقه لأنّه أراد حماية عائلته. لقد كان كلّ شيء يتمحور حول عائلته منذ البداية.
ماذا عليه أن يفعل إذا بعدما فقد عائلته؟
مرّة أخرى، عليه أن يتعلّم كيف يتعايش مع هذا الأمر.
فهو لن يسمح لنفسه بالموت وهو يأمل أنّ أنمار ما تزال حيّة، ولن يفقد عقله لأنّ الحكمة السياديّة تجعل مساره الروحيّ سليما قدر المستطاع.
عليه أن يتقبّل ما حدث.
نظر باسل إلى النساء الثلاث ثمّ قال بعدما حسم أمره: "شكرا لكنّ. أعدكنّ، سأفعل ما بوسعي لأعيد أزواجكنّ إليكنّ."
فكّر باسل لوقت طويل في شيء آخر بينما ينظر إلى الأسفل.
ماذا لو تطلّب منه الأمر عقودا، أو ربّما حتّى قرونا قبل أن يجد أنمار والآخرين؟ كيف له أن يسمح لنفسه أن يجعل هؤلاء الثلاث ينتظرن كلّ تلك المدّة؟
رفع باسل رأسه ثمّ حاول قول شيء ما، لكنّ زوجة فانسي سبقته: "سننتظر مهما طال الأمر. لا يهمّ إن كان ذلك عقودا أو مدى حياتنا. سننتظر."
لم تعلم النساء ما كان باسل يفكّر فيه، لكن صادف الأمر أنّهنّ كنّ عازمات أيضا على الانتظار.
لم يستطع باسل أن يخبرهنّ أّلّا ينتظرن. لقد كان ذلك خيارهنّ، ولا يمكنه أن يأخذه منهنّ أو يجبرهنّ على فعل شيء آخر. لقد تمنّى فقط أن يعشن بسعادة.
أومأ باسل رأسه ثمّ استدار ليغادر. قال بعدما وضع يده على مقبض الباب: "شكرا لكنّ."
كانت الزوجات حانيات رؤوسهنّ خلف ظهر باسل ولم تقلن شيئا آخر. ومع ذلك، علم باسل أنّهنّ كنّ في الواقع يحاولن بكلّ جهدهنّ إخفاء وجوههنّ التي كادت تبلغ حدّها وتنفجر باكيّةً.
علم أنّهن فعلن هذا من أجله حتّى لا يشعر بالذنب أكثر، ولهذا شكرهنّ قبل أن يخرج.
كان عليه الآن أن يتوجّه للقصر حتّى يلتقي بالأميرة سكارليت التي كانت على وشك أن تصبح إمبراطورة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة.
كان ما يزال هناك أشخاص ليتعذر إليهم. أراد أن يفعل هذا بشكل صائب، بينما كان يلوم نفسه على فعل الأشياء الأخرى بشكل خاطئ.
***
جلس باسل برفقة امرأتان وفتى صغير حول طاولة.
وقف الفتى الصغير أمام باسل. لقد كان هذا هو الفتى الذي جعل من نفسه منافسا لباسل في الحبّ. لقد كان لتوّه فتى صغيرا لا يعرف شيئا وتمنّى أن يكون زوجا لشخص علم لاحقا أنّه لا يمكنه الزواج به. الفتى الذي أحبّ أنمار كـ"أخت كبرى"، وكان ابنا للجنرال منصف، وحفيدا للكبير أكاغي.

اليوم، وقف هذا الفتى شاخصا أمام باسل قبل أن يتحدّث أيّ شخص آخر. حدّق لوقت طويل إلى باسل الذي بادله النظرات بصمت منتظرا لحظة زوال السكون.
تكلّم الفتى الصغير ذو السبع سنوات بصوت واضح: "متى ستذهب لتبحث عن أختي الكبرى أنمار؟"
لقد كانت أنمار ابنة خاله، لكنّه لطالما أحبّها وعاملها كأخت كبرى. علم أيضا أنّ أنمار كانت تنظر إلى باسل فقط.
نظر باسل بتعجّب إلى الفتى الذي ركله في لقائهما الأوّل فقط لأنّ أنمار قالت أنها ستتزوّجه هو وليس كارماين. لماذا يسأل فتى كهذا عن شيء كهذا؟ أليس من المفترض أن يكون حزينا للغاية ويبدأ في التساؤل عن مكان أبيه وجدّه؟ أليس من المفترض أن يكون يبكي بدون توقّف؟
حدّق باسل إلى عيني الفتى اللتين كانتا حمراوين. لقد كان واضحا أن الفتى كان يبكي بدون توقّف لأيّام. كيف له أن يقول شيئا كهذا الآن؟
حتّى لو كان فتى صغيرا، فلا بدّ وأنّه يعلم على الأقلّ عن غياب باسل. ألي من المفترض أن يكون الأطفال جهالا في هذه الظروف ويلومون شخصا كباسل في هذه الحالة؟
التفت باسل ثمّ نظر إلى سكارليت وابتهال، لكنّهما نظرتا إلى كارماين كما لو أنّهما تخبرانه أن يجيبه. لقد أتى إلى هنا عازما على الاعتذار بشكل رسميّ، لكنّه وجد نفسه في هذا الموقف.
نظر باسل إلى الثلاثة بتناوب. هل يمكن أنّهم يعلمون عمّا ينوي فعله؟ ألهذا سأل كارماين مثل ذلك السؤال؟

أحكم قبضتيه تحت الطاولة ثمّ نظر إلى كارماين وأجاب: "سأنهي بعض الأعمال هنا وأذهب لأبحث عنها."
"طبعا ستفعل. لو أخبرتني أنّك غير قادر أو أنّك لا تعتقد أنّها ما زالت حيّة أصلا، كنت عندئذ لأدقّ رأسك ليل نهار حتّى تستفيق من أحلامك."
ردّ كارماين بوجه حازم. يبدو أنّ هناك شخص آخر يعتقد أنّ دقّ الرؤوس يحلّ المشاكل.
تكلّمت سكارليت لأوّل مرّة: "نحن عائلة."
التفت باسل بسرعة بعدما تفوّهت بذلك، ثمّ حدّق إليها بينما تكمل كلامها: "أفراد العائلة يحزنون مع بعضهم بعضا عند فقدان القريب. لا يجب الاعتذار لأنّك كنت بعيدا وتبذل جهدك حتّى تصير أقوى من أجل هذا العالم، من أجل عائلتك. أتمنّى أن تكون فكرتي وصلت."
كان الجوّ المحيط بسكارليت مختلفا تماما عن الذي كانت تبعثه في العادة. لطالما كانت أميرة نشيطة وأمّا عطوفة وزوجة مخلصة، لكنّها اليوم كانت شيئا آخر. لقد كانت رزينة بعينين شاخصتين. اليوم، كانت إمبراطورة.
لاحظ باسل الفرق الذي تشكّله المسؤوليّة عندما توضع على كهل أحدهم. كان يمكن للشخص أن يتغيّر كلّيّا عندما يعلم أنّ هناك أرواح عديدة تحت رعايته. وبالطبع، كان يعرف ذلك حقّ المعرفة كشخص اختبر مسؤوليّة أكبر من تلك بكثير.

وقف باسل ثمّ انحنى قليلا وقال مغمض العينين: "شكرا لكم."
لقد كان يعلم عن الحزن والألم اللذين يشعرون به، فهو مثلهم، إلّا أنّهم قمعوا تلك المشاعر وتحمّلوا آلامهم حتّى يساندوه ويفتحوا أمامه الطريق الذي يريد أن يسلكه.
"حظّا موفّقا أيّتها الأميرة."
قال باسل ذلك ثمّ استدار محاولا المغادرة. لقد أتى إلى هنا من أجل وضع خاتمة، وليس للاحتفال بتتويج سكارليت.
حدّقت سكارليت إلى ظهر باسل ثمّ تذكّرت ذلك اليوم الذي التقته فيه.
***
(أنت لا تحتاجين لشكري أيتها الأميرة، كل ما فعلته كان من أجل نجاح خطتنا وصادف فقط أن كان الأمير الأول هو العقبة الأولى التي يجب علينا تجاوزها.)
(حتى ولو كان كذلك الأمر فهذا لا يغير حقيقة جلبك لشرفنا الذي سلب منا لمدة... لماذا ناديتني بالأميرة؟)
(ما الخطأ في مناداة أميرة بالأميرة، هل هذا غريب؟)
(لا، لكني لم أعد أميرة بعد الآن.)
(لكنّكِ سوف تعودين لكونك أميرة، لذا قررت مناداتك بذلك منذ الآن لأعتاد على الأمر، فالاسم الذي أنادي به أي شخص بالمرة الأولى غالبا ما سيكون هو ما أناديه به دائما.)
(فوفوفو، إنك حقا ممتع يا حليفنا.)
***
أومأت سكارليت رأسها بشكل خفيف للغاية وغير ملحوظ كما لو أنّها تخبر نفسها بأنّه فعلا ينادي الشخص بما يناديه لأوّل مرّة للأبد. حتّى في هذا اليوم الذي كانت مشرفة فيه على أن تغدو إمبراطورة، استمرّ باسل في مناداتها بالأميرة.
وقفت ثمّ انحنت أكثر ممّا فعل باسل سابقا وقالت بصوت واضح: "أثق أنّك ستجلب شرفنا من جديد كما سلف وفعلت."
لم يستدر باسل وأكمل طريقه فقط نحو خارج الغرفة. لقد كان عازما بالفعل. ومع ذلك، كان هناك مكان واحد فقط ما يزال عليه زيارته.
***
"سأغادر."
كانت تلك الكلمة الوحيدة التي قالها باسل لهذا الشخص أمامه.
حدّق الجنرال رعد إلى الفتى القرمزيّ أمامه ثمّ نظر إلى الأسفل مرّة أخرى.
كانا يجلسان شبه متقابلين في القاعة الرئيسيّة للأكاديميّة. أخذ باسل أحد مقاعد القادة الثلاث وحدّق إلى الجنرال رعد الذي كان يائسا تماما.
قال الجنرال رعد بعد صمت طويل: "مـ-ما الذي تقصده؟ إلى أيـ-أين أنت ذاهب؟"
كان صوت الجنرال رعد مرتجفا. لقد كان على هذا الحال منذ ذلك اليوم المشؤوم.
لم يزح باسل نظره عن الجنرال رعد قطّ. ردّ بهدوء: "لا أعلم. أنا فقط سأبحث عن مخرج من هذا العالم."

فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما: "هل تقول أنّك ستغادر عالمنا؟!"
"أجل."
رفع الجنرال رعد صوته: "لـ-لكن كيف؟ ألم تقل أنّ العوالم مختومة؟ أليس لهذا السبب لم تتوقّع ظهور أولئـ..."
لم يكمل الجنرال رعد جملته حتّى. لم يرد أن يتذكّر ذلك اليوم.
"لا أعلم. أنا فقط سأغادر مهما كلّفني الأمر. سأجد طريقة ما."
لاحظ الجنرال رعد وجه باسل العازم. لقد كان حقّا ينوي مغادرة هذا العالم.
لم يعط باسل الجنرال رعد وقتا للتفكير: "ولهذا، يجب أن تجمع شتات نفسك قبل أن أغادر."
"ها؟" استغرب الجنرال رعد من كلام باسل. يجمع شتات نفسه؟ ما الفائدة من ذلك؟ إنّه مجرّد زينة موضوعة في هذه الأكاديميّة أصلا، وكان ينوي التنازل عن مقعده عندما تستقرّ الأمور قليلا.
تساءل الجنرال رعد: "لا أظنّ أنّ هناك فائدة ترجى من جمع شتاتي. لماذا عليك المغادرة أصلا؟"
حملق باسل إلى الجنرال رعد بحاجب مرفوع كما لو أنّه يزدريه: "هل صرت غبيّا أيضا؟"
وقف باسل ثمّ اتّجه إلى جانب الجنرال رعد ووضع يده على كتف الرجل الأشقر ثمّ قال: "إذا واتتك الفرصة لإنقاذ أمّي مرّة أخرى، فماذا ستفعل؟"

اهتزّ جسد الجنرال رعد لمّا سمع كلام باسل. هل علم باسل عن مشاعره تجاه لطيفة؟
ضغط باسل على كتف الجنرال رعد: "أجبني، ماذا كنت لتفعل؟"
أحكم الجنرال رعد قبضتيه بشدّة وصرّ على أسنانه. بدأت الذكريات تلتهم عقله، لكنّ كلّ ذلك اختفى فجأة لمّا شعر بالألم يتخلّل جسده بسبب يد باسل التي واصلت الضغط.
هدأ أخيرا ثمّ قال: "لو واتتني الفرصة، سأفعل أيّ شيء من أجل إنقاذها، حتّى لو كنت أعلم أنّني سأكون بلا فائدة وأفشل لا محالة."
ارتخت قبضة باسل وأزال يده عن كتف الجنرال رعد ثمّ قال: "إذن لا داعٍ أن أشرح لك أنّني سأقلب العوالم كلّها رأسا على عقب من أجل إيجادها."
كان الجنرال رعد يائسا لدرجة مهولة حتّى أنّه يئس من فكرة بقاء أنمار على قيد الحياة.
بلع ريقه ثمّ نظر إلى باسل وقال: "حتّى لو عنى هذا التخلّي عن هذا العالم؟"
كان ذلك سؤالا مفاجئا، حتّى لباسل.
لم يعلم باسل كيف فكّر الجنرال رعد بهاته الطريقة، لكنّه تنهّد ثمّ ردّ: "ولهذا أخبرك أن تجمع شتات نفسك."
سأل الجنرال رعد سؤالا مختلفا: "وهل جمعت أنت شتاتك؟"
نظر باسل إلى عيني الجنرال رعد وردّ: "ماذا تخالني أفعل حاليّا؟"
لقد كان كلاهما محطّما. كان باسل يحاول إصلاح عالمه المنكسر، لذا يجب على الجنرال رعد جمع شتات نفسه أيضا. عليهما أن يتخطّيا الأمر.
لم تنتهِ أسئلة الجنرال رعد عند ذلك السؤال: "كيف تفعلها؟"
استدار باسل ثمّ نظر إلى الطاولة الكبيرة التي تقع في مركز القاعة الرئيسيّة لأكاديميّة الاتّحاد المباركة.
كان هناك شعار كبير مرسوم عليها.
كان هذا الشعار عبارة عن دائرة سوداء بوسطها نقطة بيضاء، وأحيطَت بأربعة عشر دائرة زرقاء اللون يصل حجم كلّ واحدة منها إلى عُشر حجم الدائرة السوداء، وارتبطت كلّ دائرة صغيرة بشبيهتها وبالدائرة الكبرى عبر شريط له نفس الزرقة. فبدا الشعار كالزهرة في النهاية.
تذكّر باسل ما رمز له هذا الشعار.
"سيزهر الأمل في أعماق الظلام دوما ما دام هناك وحدة."
رفع الجنرال رعد رأسه ثمّ نظر إلى باسل. تأمّل فيما قاله للتوّ وحاول فهم كلامه.
عندما سأله، قال باسل أنّه يجمع شتات نفسه، وليس أنّه قد جمع شتاته بالفعل.
عندما سأله كيف يفعلها، ردّ باسل بشعار الأكاديميّة.
الأمل الذي ينتج عن الاتّحاد.
لقد كان باسل يحاول شفاء نفسه بالبحث عن شخص آخر.
ومع ذلك...
"أنا لا أملك شخصا كالذي تملكه يا أيّها الفتى القرمزيّ. لا أملك ذلك الأمل الذي يمكنه أن يخرجني من أعماق الظلمات."
حدّق باسل إلى الجنرال رعد ثمّ قال: "فلتعش في الظلمات إذن. اقطنها وصر حاكما لها. لا تدعها تلتهمك وهيمن عليها. فلتجعلها ملكك."
أكمل باسل كلامه بعد صمت وجيز: "للأسف، لم تسنح لي الفرصة للسقوط في الظلمات بهذا الشكل."
"هل تخبرني أن أتخلّى عن الضوء؟ هل تنصحني بالعيش في الظلام للأبد؟"
نظر باسل إلى عينيْ الجنرال رعد وقال: "ذلك صحيح. اختر أن تعيش بتلك الطريقة، ولربّما يمكنك يوما التحرّر بعدما تسيطر تماما على تلك الظلمات، أو يمكنك الانكماش على نفسك كما تفعل الآن والاستمرار في فعل هذا للأبد داخل الظلمات آملا إيجاد ضوء ما، ضوء لا يمكن لأحد آخر أن يمنحه لك سوى نفسك."
عش في الظلمات وهيمن عليها، وعندها لربّما تجد وسيلة للتحرّر منها وإيجاد الضوء.
أحكم الجنرال رعد قبضتيه.
لا يمكنه أن يسمح لنفسه بالموت لأنّه يشعر بالذب الشديد ويريد التكفير عن أخطائه.
لا يريد أن يعيش لأنّه يعتقد أنّه بلا فائدة في هذه الحياة.
ما عليه إذن إلّا أن يتقبّل حاله هذا بسرور، ولربّما يوما ما يجد إجابة تصفّي ذهنه وعالمه.

***
عاد باسل للمقعد الذي كان يجلس عليه ثمّ قال: "لنتكلّم عن كيفيّة مسير الأمور من الآن فصاعدا."
ارتخت قبضتا الجنرال رعد أخيرا واستمع لكلام باسل القادم. لقد أراد أن يكون ذا نفع، وأراد أن يعلم عمّا ينوي الفتى القرمزيّ فعله قبل مغادرة هذا العالم كما قال.
"أوّلا وقبل كلّ شيء، مسقط رأسي، مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم، وأخيرا، نهر ددمم التنّين الذي يقسم سلاسل الجبال الحلزونيّة... يجب أن تعلم عن العلاقة التي تجمع هذه الأماكن ببعضها."
"علاقة؟ هل هناك علاقة خاصّة بين هذه الأماكن؟"
كان الجنرال رعد مستغربا. لقد علم عن تميّز كلّ واحد من هذه الأماكن، لكنّه لم يسمع عن أيّ علاقة تجمع كلّ مكان بالآخر. لم يفكّر في هذا حتّى.
"هذا صحيح. العلاقة التي تجمع هذه الأماكن الثلاثة ستكون إحدى الركائز التي سيُبنى عليها عالمنا كعالم روحيّ ينافس العوالم الأخرى بجدارة."
زاد الجنرال رعد من تركيزه بعدما سمع تصريح باسل الكبير. لقد كان هذا شيئا يهمّ هذا العالم بأسره. ومع ذلك، صار تعبيره بليدا بعدما سمع سؤال باسل التالي.
"هل تؤمن بوجود التنانين؟"
"ها؟"
لم يعلم الجنرال رعد كيف يجيب عن هذا السؤال الغريب الذي كان بعيدا عن الموضوع الذي كان باسل سيتكلّم عنه.
"هل تتحدّث عن التنانين التي نسمع عنها في الأساطير؟"
أومأ باسل رأسه ثمّ أجاب سؤال الرجل الأشقر الحائر: "نعم، التنانين التي نسمع عنها في الأساطير. التنانين التي تُعدّ عرقا فريدا مثل عرق العنقاوات."
زاد استغراب الجنرال رعد. لم يتوقّع أنّه سيدخل في محادثة مع الفتى القرمزيّ تدور حول أساطير كهذه.
ومع ذلك، ردّ بوضوح: "بصراحة، أعدّها مجرّد أسطورة. ليس لأنّني لم أرَ تنيّنا من قبل، بل لأنّه لا يوجد سبب لأؤمن بوجودها. ما يزال هناك تفسير لوجودي ووجودك ووجود العالم حتّى بدون وجود التنانين."
أومأ باسل رأسه. لقد كانت هذه إجابة جيّدة. لقد كانت هذه هي إجابته أيضا قبل أن يولد من جديد، لكن بعدما ولِد من جديد في ذلك اليوم وتتبّع الوريد الذي كان ينبض في أعماق العالم الواهن ببطء شديد وبلغ منبع الوريد الذي كان في نهر ددمم التنّين، تغيّرت نظرته إلى الأمور تماما.
اعتقد في تلك الأثناء: قد تكون هناك تنانين بالفعل. أوَ ليس هناك وحش نائم بجواره له نفس مرتبة تلك التنانين؟
وبعد لقائه بالوحش النائم، صارت تلك الشكوك يقينا.
لا بدّ من وجود التنانين. لو كان هناك مخلوق مصدره الأساطير والخرافات مثل الوحش النائم، فليس هناك مانع من وجود التنانين أيضا. بالأحرى، كان هذا مجرّد تأكيد لما رآه باسل في نهر ددمم التنّين ذلك اليوم.

تذكّر باسل اليوم الذي جعله فيه معلّمه يُخضع سلاسل الجبال الحلزونيّة برفقة أنمار. تذكّر الوحش الذي كان في قمّة السلسلة الغذائيّة هنا، وتذكّر كيف علّق المعلّم على ميزات ذلك الوحش.
كان باسل متأكّدا؛ لقد كان معلّمه متشكّكا في وجود علاقة قريبة للتنانين بذلك الوحش، ولو التقى المعلّم بالوحش النائم أو علم على الأقلّ بوجوده كما فعل باسل، لصار المعلّم متيقّنا من وجود التنانين تماما، هذا إن لم يكن إدريس الحكيم قد اختبر مسبقا في حياته شيئا يجعله يؤمن بوجود التنانين.
"التنانين موجودة، أو يمكن 'على الأقلّ' أنّها كانت موجودة في وقت معيّن."
صرّح باسل بذلك وانتظر استجابة الرجل الأشقر.
حدّق الجنرال رعد إلى عيني باسل لقليل من الوقت قبل أن يقول: "ما الذي يجعلك تقول هذا؟"
بدأ تفسير باسل: "لديّ اعتقاد مبنيّ على حقائق ودلائل واقعيّة أنّ هناك بقايا من نوع ما لتنّين ما تقبع في أعماقٍ تحتَ أعماقِ نهر ددمم التنّين."
بلع الجنرال رعد ريقه بينما أكمل باسل كلامه: "الدليل الأوّل، تمساح الأعماق الفولاذيّ الذي يرقد في أعماق نهر ددمم التنّين... اكتسب ذلك الوحش خواصّا تنّينيّة كما هو معروف عنها في الأساطير بالرغم من أنّه كان مجرّد وحش سحريّ. لا يكتسب الوحش السحريّ أيّ خواصّ لسلالة ددمم عتيقة إلّا بعد التأصّل، وهذا لا يحدث إلّا عند الاختراق إلى المستويات الروحيّة وبعد ذلك."
بلع الجنرال رعد ريقه مرّة أخرى. وحش سحريّ بمواصفات تنّينيّة؟
لقد سمع بالفعل عن الكثير من الوحوش التي أسنِد إليها لقب التنين مثل الحرباء التنّينيّة الناقصة التي كانت تقطن أرخبيل البحر العميق، لكنّها كانت "ناقصة" كما أوضح اسمها ودلّ على أنّها سُمِّيت بالتنّينيّة لتميّزها وقوّتها فقط، وليس لأنّها كانت تحمل خواصّ ومواصفات التنانين حقّا.
أضاف باسل: "الدليل الثاني، هناك وريد يجب أن يكون الآن صار وريدا روحيّا مندمجا بالكامل مع طاقة العالم الواهن الروحيّة، ومنبعه هو نهر ددمم التنّين وينشطر نحو ثلاث مواقع."

فتح الجنرال رعد عينيه على مصراعيهما. وقف بسرعة كبيرة بعدما وضع يديه على الطاولة: "انتظر! انتظر، انتظر... لا تقل لي... هل تلك المواقع الثلاث هي..."
أومأ باسل رأسه من جديد بهدوء وقال: "ذلك صحيح. مدينة العصر الجديد، وأكاديميّة الاتّحاد المباركة، ووكر الوحش النائم. هذه هي المواقع الثلاثة التي تنتهى فيها الأوردة الثلاثة التي تنبع من المصدر في الأعماق تحت نهر ددمم نهر التنّين."
وضع الجنرال رعد يده على جبهته التي تعرّقت بشدّة على حين غرّة. اقشعرّ جسده ثمّ فشل جسده وعاد لمكانه ليجلس.

فكّر في هذه المعلومات لوقت طويل، فطرأ في باله سؤال لم يتأخّر في طرحه: "انتظر، أليست الأكاديميّة تطفو حاليّا؟ لم يرَ أيّ أحد أيّ وريد طاقة سحريّة أو روحيّة حتّى الآن. هل يمكن أنّه فُصِل عن الأكاديميّة بعد التحوّل الروحيّ؟ انتظر... لن تشمل الأكاديميّة في حديثك لو حدث شيء كهذا... إذن..."
كان الجنرال رعد يتكلّم بسرعة. كان يقول كلّ ما كان يجول بخاطره؛ يسأل فيجيب في دورة لانهائيّة، حتّى تكلّم باسل ومنحه الإجابة.
"ذاك هو دليلي الثالث. بعدما تحوّل العالم الروحيّ، صارت الأرض المباركة وما يحيطها جزيرة عملاقة عائمة في السماء، ومع ذلك، ما زال الوريد التنّينيّ متّصلا بها."
"كيـ-"
لم يكمل الجنرال رعد سؤاله. لقد كان يعلم أنّ باسل سيجيب، إلّا أنّ محاولة سؤاله كانت مجرّد ردّة فعل طبيعيّة.
"كيف يبقى الوريد التنّينيّ متّصلا هو دليلي؛ الزمكان. إنّه يخترق الزمكان ويتّصل مباشرة ببحيرة الأرض المباركة."
"الزمكان؟!"
أراد الجنرال رعد أن يبلع ريقه بدون وعي منه، لكنّ حلقه كان ناشفا بالفعل. وريد روحيّ يمكنه اختراق الزمكان حتّى. هذا لوحده كافٍ لإثبات مدى عظمته وندرته. لقد كان هذا شيئا يجب على عالمهم معاملته بحرص شديد واستغلاله بكلّ إتقان.
فهم الجنرال رعد كلام باسل أخيرا عندما قال أنّه يجب منح الأولويّة لهاته المواقع عند حلول كارثة ما.
فكّر بعد ذلك لوقت وجيز فقط ليدرك أنّ أيّ كارثة يمكنها التأثير على الوريد التنّينيّ كانت كارثة يمكنها التأثير على العالم بأسره. فهم أنّ باسل كان يقصد أن تُمنح الأولويّة لهذه المواقع عند حلول كارثة يمكنها تدمير العالم بأسره.
لقد كان هذا الوريد التنّينيّ، لا، كانت هذه الأوردة التنّينيّة الثلاثة التي كان مصدرها نهر ددمم التنين إحدى الركائز التي يمكنها دعم العالم الواهن كما قال باسل. يمكن لأشياء أن تُهدم وتُبنى من جديد طالما يظلّ الأساس صامدا، ولكن لو تدمّر الأساس، فكلّ شيء آخر سينهار بسرعة وسهولة.
تذكّر الجنرال رعد أنّ باسل لم يقل أنّ هذا هو دليله الأخير، فانتظر الفتَى القرمزيَّ ليكمل كلامه.
كان باسل يفكّر في هذه الأثناء في الوحش النائم الذي لم يعلم حتّى الآن إذا ما كان أنثى أو ذكرا. لقد كان الوحش النائم هو دليل باسل الرابع والأخير والأكثر موثوقيّة.
لقد علم عن وجود الوحش النائم لمّا اختلس النظر على ذكريات السارق الخسّيس قسرا، لكن كلّ ما رآه في تلك الذكريات هو مخلوق فريد له جمال لا يضاهى وبضوء ساطع يتباهى يحلّق عبر السماوات هاربا من شيء ما باستماتة. علم لاحقا أنّ ذلك المخلوق السامي كان هاربا من السارق الخسّيس.

كانت الذكريات التي رآها باسل مجرّد شظايا بسيطة لأحداث مختلفة بأزمنة متنوّعة. فبعدما رأى هذا الحدث، شاهد الصناديد ينقضّون على السارق الخسيس بأمل خاب بعد مواجهة قوّة السارق الخسّيس المطلقة.
علم بعد ذلك عن خطة السارق الخسّيس التي نتج عنها اختياره للعالم الواهن بعدما علم أنّ الوحش النائم الذي هرب منه فيما سبق يقبع هناك.
علم باسل أيضا عمّا يحاول الوحش النائم فعله بسبب هذا، ولهذا علم أيضا عن سرّ قبائل الوحش النائم وأخبر لمياء به عندما ذهب إلى هناك بعدما وُلِد من جديد.
كانت تلك الرحلة إلى هناك هي دليل باسل الرابع والأخير، لكنّه لم يكن ليسمح لنفسه أبدا بقول أيّ شيء يتعلّق بالوحش النائم. لقد كان وجود الوحش النائم بحد ذاته مخفيّا ولا يجب أن يعلم عنه أحد.
لقد ائتمن الوحش النائم رماده على باسل، وجعله وريثه الشرعيّ بمنحه قدرات فريدة كان يعلم باسل أنّها قدرات لا يمكن للوحش النائم منحها سوى لشخص واحد فقط في كلّ الأزمان؛ لقد أقسم ألّا يفشي سرّ الوحش النائم أبدا، ولهذا، لم يخبر حتّى أنمار عن هذا.
قال باسل: "ودليلي الرابع والأخير هو..." حدّق إلى عينيْ الرجل الأشقر ثمّ قال بثقة: "دليلي الأخير هو أنا."
كان باسل يشير إلى نفسه بسبّابة يده اليمنى: "أنا من يقول هذا الكلام، وهذا خير دليل، أليس كذلك؟"
قبُح وجه الرجل الأشقر لمّا سمع هذا الكلام ثمّ تنهّد وهزّ رأسه. هذا الفتى القرمزيّ... إنّه يستمرّ في غروره هذا حتّى في هذه الأثناء. تنهّد فقط وتقبّل الأمر في نهاية المطاف.

أكمل باسل كلامه بعدما رأى استجابة الجنرال رعد المقتنعة: "كما تعلم، صارت القارّات أقرب إلى بعضها بكثير عمّا كانت عليه. الآن اقتربت القارّات وأرخبيل البحر العميق من بعضهم بعضا بكثير. ومع ذلك، كبر العالم بكثير عند التحوّل الروحيّ."
سأل باسل: "هل تعلم ماذا يمكن أن يعني هذا؟"
انتظر الجنرال رعد إجابة باسل فقط. لم يستطع أن يتخيّل ماذا يمكن أن يصير.
لم يتأخّر باسل في إجابة السؤال الذي طرحه بنفسه: "ظهرت وستظهر أراضٍ جديدة ولربّما قارّة أخرى حتّى. التحوّل الروحيّ لعالم سحريّ يؤثّر بالزمكان بحدّ ذاته فيجعل من العالم أضخم بشكل هائل عمّا كان عليه، لكن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها. ما زال العالم سيمرّ بعدّة مراحل تصاحبها كوارث طبيعيّة كنتيجة حتّى يبلغ ذروته."
أكمل باسل بدون توقفّ: "كلّ هذا يعني شيئا واحدا. ستظهر ممالك أخرى على مرّ الزمن، ولا يمكن لأيّ أحد أن يمنع هذا. ستكون هناك حروب عديدة من أجل امتلاك الأراضي الجديدة، لكن ستستقرّ الأمور بعدما تنبثق ممالك وإمبراطوريّات جديدة."

"ولهذا، يجب على أكاديميّة الاتّحاد المباركة أن تبقى محايدة تماما. لا أريد من الأكاديميّة أن تأخذ جانب الإمبراطوريّات الثلاث عند حصول هذا. لقد أنشِئت الأكاديميّة من أجل توحيد قوى العالم، لمواجهة أخطار العالم، وحماية العالم، وليس لسيادة العالم ولا لاستخدام قوّتها لمساعدة إحدى المنظّمات على حساب منظمّة أخرى."
أومأ الجنرال رعد رأسه وردّ: "أفهم وجهة نظرك. بمعنى آخر، يجب أن تبقى الأكاديميّة محايدة حتّى يتسنّى لها الحصول على المواهب التي ستنمو في الممالك والإمبراطوريّات الجديدة أيضا. هذا لن يحصل إلّا بعد مرور زمن طويل جدّا، لكنّه يبقى أفضل من اتّباع الجشع واحتكار الموارد الجديدة."
أومأ باسل رأسه: "نعم، أريد لعالمنا أن يكون عالما مليئا بالمنافسين. المنافسة بين القوى ستجعل من العالم ينمو بوتيرة أسرع بكثير، وأريد من الأكاديميّة أن تكون بمركز كلّ هذا. ستتسابق الممالك والإمبراطوريّات في المستقبل البعيد من أجل تدريس شبابها في الأكاديميّة، فتنتفع الأكاديميّة بسبب قوانينها التي تسمح لها باستغلال تلك المواهب في المواقف الحرجة. يمكن القول أنّه سيمكن للأكاديميّة إجبارهم على القتال بجانبها عند حلول كارثة في العالم. ستكون الأكاديميّة دوما المنظمّة التي ستجعل العالم يواجه الخطر بشكل موحّد."
أومأ الجنرال رعد رأسه مرار وتكرارا. لقد كان هذا الفتى القرمزيّ يفكّر لمستقبل بعيد جدّا. قد تمرّ عقود أو حتّى قرون قبل أن يحصل كلّ هذا.
لم يعلم أحد عن المدّة التي يمكن أن يصمدها الختم بين العوالم، لكنّ باسل قدّر أنّ الأمر سيستغرق أكثر من عقدين على الأقلّ للنجاح في كسر الختم.
"هذا بالنسبة للأكاديميّة، أمّا بالنسبة للمنطقة الثانية، مدينة العصر الجديد، فإنّي أنوي ترك التشكيل الذي درّبتُه هناك. لقد تكلّمت مع الأميرة في هذا الأمر مسبقا وليس هناك مانع."
لقد كانت مدينة العصر الجديد جزءا من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، لذا لن يكون هناك مانع من وضع أقوى الجيوش هناك طالما تظل فرقة السنبلة الخضراء التي قادها الجنرال رعد ذات مرّة في العاصمة.
لم يسأل الجنرال رعد عن هويّة الأميرة لأنّه علم أنّ باسل يتحدّث عن الإمبراطور سكارليت كريمزون. ما جعله مستغربا كان شيئا آخر: "من سيقودهم؟"
فهم باسل تساؤله. لقد اختفى قادة التشكيل من هذا العالم، لذا يجب أن يُحدّد قادة آخرون.
ردّ باسل بسرعة: "لا تقلق، لقد قرّرت بالفعل. الحارس جون الذي يحرس مدينة العصر الجديد سيكون قائد القادة، أمّا القادة الأربع الآخرون فسيكونون 'صيّاد قطّاع الطرق كيكان'، و'ساحت الرؤوس كوبيكيري'، و'سولو الساحر الوحيد'، وأخيرا 'أبهم'."
وضع الجنرال رعد يده على ذقنه بينما يفكّر.
فسّر باسل له: "لقد أخذت الحارس جون تحت جناحي منذ وقت طويل للغاية، وقوّته وموهبته جيّدة حتّى لو كانت لا تصل لمرتبة تورتش والآخرين. لديه موهبة في القيادة لذا سيكون مناسبا للمنصب الذي سيُمنح له. كيكان وكوبيكيري وسولو نافسوا قادة التشكيل لوقت طويل وبالرغم من أنّهم لم يفوزوا ولو لمرّة واحدة، إلّا أنّهم كانوا يلاحقونهم باستمرار، وأقرّ كلّ واحد في التشكيل بجهودهم. رغب الكثيرون في أن يكون أولئك الثلاثة نوّاب القادة، إلّا أنّ هؤلاء الثلاثة رفضوا العرض."
"أمّا أبهم، فلا أظنّ أنّني أحتاج لتفسير الكثير عنه. إنّ موهبته جيّدة للغاية، حتّى أنّني قارنتها في أوّل مرّة بموهبتي وموهبة أنمار."
بالطبع كان باسل يقصد موهبته في السحر فقط.
"لقد عاش في وكر الوحش النائم لمدّة طويلة، ونمّى قدراته بشكل مهول. إنّك تعلم كيف هي قوّة القبائل، لذا يجب أن تعلم عن قوّة أبهم الذي صار يقارن بزعماء العشائر الرئيسيّة حاليّا."

فكّر الجنرال رعد في قوّة القبائل.
عندما مرّ العالم الواهن بالتحوّل الروحيّ، لم يتعرّض وكر الوحش النائم للكثير من الاضطرابات بسبب الكوارث الطبيعيّة، وحتّى عندما انتهى التحوّل الروحيّ، أحاطت منطقة القبائل حواجز روحيّة غريبة لها آثار الوهم والتلاعب بالعقل، فلم يستطع أحد الاقتراب من الوكر وقبائله قطّ عند حلول تلك الكارثة حول العالم بأكمله.
كان الأمر كما لو أنّ خّط الجون الذي خطّته القبائل ذات مرّة لتفصل بينها وبين بقيّة العالم صار حقيقيّا وعزل الوكر تماما.
كان باسل يعلم عن سبب هذا في الواقع. لقد كان السبب ببساطة هو 'حياة'.
لقد كان يعلم باسل عن عظمة هذه الشجرة التي غرسها الوحش النائم أملًا في أن تغدو شجرة عالم يوما ما.
وبعدما صار العالم الواهن عالما روحيّا، حمت 'حياة' منطقتها بهذه الطريقة، تماما كما تفعل شجرة العالم في الأساطير.
زاد هذا الخبر من احترام الكثيرين للقبائل، وأقرّوا بقوّة الوحوش النائمة.
قال باسل كما لو كان فخورا: "سيقوم هؤلاء الخمسة بعمل جيّد بعدما يُرشدون لمدّة من الوقت."
تساءل الجنرال رعد حول شيء ما فجأة: "بالمناسبة، ألن تمنح اسما للتشكيل؟ ألا ترى أنّه من الغريب مناداته بالتشكيل فقط؟ هناك من يلقّبه بتشكيل بطل البحر القرمزيّ، وهناك من يقول عنه تشكيل القائد الأعلى، أو تشكيل الطفل المعجزة وما إلى ذلك... لكنّك دوما تقول عنه 'التشكيل' فقط."
لوّح باسل بيده: "سأفكّر في ذلك لاحقا."
بالطبع فكّر باسل في هذا، لكنّه كان يؤجّل الأمر في كلّ مرّة.
أكمل باسل كلامه: "وأخيرا، المنطقة الثالثة، والتي هي الوكر الذي تحدثّنا عنه للتوّ. ليس هناك ما يقال عن الوكر لأنّني فعلت ما يجب فعله عندما ذهبت هناك آخر مرّة. كلّ ما يجب إضافته هو استقبال عدد كبير للغاية من الوحوش النائمة في الأكاديميّة."
أومأ الجنرال رعد رأسه وتابع كلامه مع باسل. لقد كان باسل يحاول تهيئة كلّ شيء قبل أن يغادر هذا العالم، وكان استغلال الأوردة التنّينيّة على رأس كلّ هذا.
وقف باسل عند البحيرة المباركة في تلك الليلة، ثمّ حدّق بعينيه الحكيمتين إلى أعماقها. استغرق وقتا طويلا في ذلك قبل أن يغطس فيها فجأة.
كان يبحث عن ذلك الوريد الذي شقّ طريقه عبر الزمكان.
وبعد أيّام قليلة، غادر باسل الأكاديميّة.

***

كان باسل قد أنهى في الأكاديميّة الاستعدادت اللازمة للوريد التنّينيّ الذي ينتهي عند البحيرة المباركة. كان قد فعل مثل هذا الأمر بالفعل في مدينة العصر الجديد قبل أن يغادرها، وكلّ ما تبقّى هو الوكر ونهر ددمم التنّين.
كان ينوي الذهاب إلى الوكر أوّلا بالرغم من أنّ نهر ددمم التنّين كان في طريقه حتّى يعمل على الوريد التنّينيّ الثالث قبل أن يعمل على مصدر كلّ الأوردة في أعماق النهر، وأيضا من أجل أن يفعل شيئا آخر في نفس الوقت بقمّة 'حياة' إذْ كانت مناسبة لذلك.
كان يجب عليه أن يفعل هذا الشيء الآخر قبل أن يذهب نهر ددمم التنّين ويواجه ذلك الوحش المرعب الذي سيكون اخترق إلى المستويات الروحيّة وتأصّل بشكل مرعب أكثر من الوايفرن بكثير.
كان الشيء الآخر الذي يجب عليه فعله هناك هو...
"يجب أن أنهي اختراقي للمستويات الروحيّة."
نعم، كان باسل حالة خاصّة وفريدة عبر الأزمان. بالرغم من أنّه صار ساحرا روحيّا إلّا أنّه ما زال لم ينهي بناء روحه، أو في حالته، روحه الثانيّة.
كان يجب على الساحر الاستحواذ على روح وحش سحريّ، لكنّ باسل جعل روح الوحش الروحيّ تعمل كواسطة بين روحيْه غير المستقرّتين.
كان يجب أيضا على الساحر الروحيّ أن يستخدم 'تقنيّة تكامل تأصليّ' حتّى يستحوذ على تماما على روح الوحش ويدمجها مع روحه.
لم يقم باسل بهذه الأمور بهذا الترتيب لسببين؛ السبب الأوّل كان هو ضيق الوقت الذي لم يسمح له بفعل كلّ شيء بروية. كان عليه أن يجعل روح الوحش -الذي اكتسب الحكمة للتلاعب بقوانين العالم- تجعل روحيْه مستقرّتين قبل أن تدمّرا بعضهما. والسبب الثاني كان عدم وجود تقنيّة تكامل تأصليّ مناسبة له إطلاقا في العوالم بأكملها.
"عليّ أوّلا أن أجعل من روحي الثانيّة روحا كاملة."
لقد كان كلّ ساحر روحيّ يملك روحا، لكن ماذا امتلكت هذه الروح؟ ماذا كانت مواصفاتها؟
أوّلا وقبل كلّ شيء، وحتّى عندما تكون الروح مجرّد بحر روحيّ، يملك كلُّ ساحر عنصرا سحريّا.
"ليس عليّ أن أمرّ بمراحل حالة 'الصفاء الذهنيّ والروحيّ' كما فعلت عندما أردت أصير ساحرا حتّى أتحصّل على العنصر السحري."
كان كلّ ساحر يملك عنصرين سحريّين بعد قسم مستويات الربط الثاني. إذن ماذا عن روح باسل الثانيّة التي كانت بلا أيّ عنصر حتّى الآن؟
اعتقد باسل في البداية أنّ تلك الروح الثانيّة ستكتسب نفس العناصر التي امتلكها في روحه الأولى، لكنّ الروحين كانتا مختلفتين تماما ولم يمكن أن تمتلكا نفس الخواصّ.
يمكن تشبيه الأمر بروحيْ ساحرين مختلفين. كانت الروح شيئا مميّزا للغاية، وكان من المستحيل أن تكون هناك روحان متطابقتان.

"يمكنني أن أكتسب عنصرين سحريّين مباشرة لأجعل روحي الثانيّة كاملة حقّا."
كان يمكنه أن يكتسب عنصرين آخرين!
"وهذه المرّة، على عكس أيّ ساحر عادي، يمكنني أن أقوم بعدّة تجارب على كلّ أنواع عناصر السحر في العالم الواهن، وأختار ذينك العنصرين بنفسي. هذا أمر يستحقّ التجربة، واحتماليّة نجاحه كبيرة عندما أضيف الحكمة السياديّة إلى المعادلة."
عنصران سحريّان باختياره!
تذكّر باسل الشابَّ ذا الوجه الطفوليّ عندما فكّر في القيام بالتجارب، ثمّ تمتم لنفسه: "لو كان ذلك العالم المجنون هنا لاستطعت التقدّم في هذا بشكل أسهل بكثير."
كان باسل محقّا أكثر مما اعتقد في الواقع. لم يعلم باسل عن هذا، لكنّ العالم المجنون كان يقوم بالعديد من التجارب المختلفة، وإحداها هو الكيفيّة التي يكتسب بها الساحر عنصره السحريّ، والأشياء التي تحدّد أيّ عنصر يكتسب.
حتّى بدون علم أيّ أحد، ظهر العالم المجنون بعد الحرب الشاملة وأخذ معه جثّة هدّام الضروس لدراستها من أجل إشباع فضوله. أراد أن يعلم لمَ اكتسب هدّام الضروس بالخصوص عنصر الدمار.
تنهّد باسل ثمّ قال: "آمل فقط أنّه يقوم بعمل جيّد في حماية صفاء."
لم يسع باسل سوى أن يتحسّر على حياة الفتاة البائسة. لقد تعذّبت في عمر صغير للغاية، وعندما قابلت عائلتها أخيرا، فقدتها بتلك الشناعة وتلك السرعة.
أحكم قبضتيه كلّما فكّر في ما كان على الأشخاص القريبين منه أن يعانوا منه في غيابه.
"لننهِ هذا الأمر أوّلا ونفكّر في طريقة للبحث عنهم بعد ذلك."
ساحر روحيّ بروحين وخمس عناصر سحريّة!
ببطء، ولكن بثبات، كان يولد وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان.
***
انحنى خمسة أشخاص أمام باسل في غرفة مظلمة.
كان باسل حاليا في الغرفة السرّيّة التي يعقد فيها زعماء قبائل وكر الوحش النائم اجتماعاتهم التي تقرّر مستقبل القبائل.
هذه المرّة، كان هناك شخص آخر غير الزعماء في هذه الغرفة. كان هذا الشخص هو أبهم.
تكلّمت لمياء رأس القبائل كلّها: "تعازينا الخالصة لك يا سيّدي. أرجوك اعذر غيابنا عن الجنازة. يمكنك أن تعاقبنا إن ارتأيت أنّنا لا نستحقّ سماحك وعطفك."

تعرّقت أجبنة الخمسة بعد سماع كلام لمياء. لقد كانت طريقتها في خطاب باسل في قمّة الاحترام؛ كيف لا وهو الوريث الشرعيّ الذي اختاره أبوهم الروحيّ بنفسه؟ كيف لا وهو الشخص الأوّل الذي تسلّق شجرتهم التي يبجّلونها وكشف الغطاء عن اسمها الذي جعلها كاملة؟

لقد كان باسل يمثّل حاليا رغبة الوحش النائم، لذا صار يتلقّى معاملة أفضل بكثير من زعماء القبائل حتّى.
كان هذا هو السبب الوحيد الذي خوّل أبهم القدرة على أن يكون في مثل هذا المكان الخاصّ.
قبل أن يغادر باسل، جعل أبهم ممثّلا له في القبائل، فصار أبهم قادرا على حضور الاجتماعات التي تقام في هذه الغرفة السرّيّة.
نظر باسل إلى الخمسة ثمّ تنهّد. لمَ عليهم ان يعتذروا له بهذه الطريقة؟ هل يعتقدون أنّه نوع من الطغاة أو ما شابه؟ بالطبع كان يعلم أنّ الظروف لم تسمح بدخول أو خروج أيّ أحد من الوكر لبضعة أيّام بعد انتهاء التحوّل الروحيّ للعالم.
"ارفعوا رؤوسكم. إنّني أعلم عمّا فعلته 'حياة'. اعتذاركم وانتظار العقاب بهذه الطريقة يُعدّ إهانة لي. أنتم تقلّلون من شأني وإدراكي للأمور فقط."
اهتزّ جسد لمياء والآخرين لمّا سمعوا ما قاله. لقد أرادوا أن يكونوا أطفالا جيّدين حتّى لا تُطرق رؤوسهم كالمرّة السابقة، لكنّهم زادوا الطين بلّة على ما يبدو.
"نحن آسفون. أرجوك سامحنا. نحن لم ننوِ فعل هذا."
انحنى الخمسة أكثر من ذلك أكثر حتّى شكّلوا زاوية قائمة.
"لقد أخبرتكم ان ترفعوا رؤوسكم،" عبس باسل فحكّ قبضته ونفخ عليها ثمّ قال: "لكن يبدو أنّكم متشوّقون كثيرا لدقّ الرؤوس حتّى أنّكم تقدّمونها لي على طبق من ذهب."
تصاعدت القشعريرة مع ظهور الخمسة حتّى استقامت تلك الظهور تماما. امتدّت أذرعهم أيضا نحو الأسفل ووقفوا هناك شاخصين.
أومأ باسل رأسه بعد ذلك ثمّ تجاوزهم ليجلس على الكرسيّ الذي كان يتفرّد على جهة من الطاولة بينما تقابله خمسة كراسي. لقد كان واضحا أنّهم وضعوا مكانة باسل في الاعتبار.
بالطبع كان باسل يقدّر هذه المكانة للغاية. لقد احترم باسل الوحش النائم بعدما علم عنه من ذكريات السارق الخسّيس، وزاد ذلك الاحترام بدرجات عديدة عندما رأى ذكريات الوحش النائم أثناء الحصول على تلك القدرات الفريدة منه، ولهذا اعتزّ بهذه المكانة وتصرّف بناء عليها.
أذن باسل للآخرين بالجلوس، ثمّ دخل في الموضوع مباشرة: "سوف أتسلّق إلى قمّة حياة."
تفاجأ الخمسة كثيرا. لقد كانوا يعلمون أنّ باسل قد فعل هذا الأمر بالفعل، لكنّ حدوثه مرّة أخرى ما زال أمرا مبهرا.
لا أحد غيره استطاع فعل مثل هذا الأمر حتّى الآن.
"لقد ارتأيتُ أنّه سيكون من الأفضل أن يلحقني أولئك الذي تظنّونهم سيدخلون إلى المستويات الروحيّة أوّلا. سأجعل من تسلّقي درسا لهم. لا يمكنني تعليمهم أيّ شيء بشكل مباشر، لأنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم، لكن ربّما يمكنهم اكتساب فهم أعمق على الأقلّ."

تحمّس الزعماء، وحتّى أبهم الذي نسي أنّه ليس وحشا نائما في الواقع.
لقد وضع باسل ثلاثة شروط حتّى يكتسب أيّ عضو من القبائل الوصفة وطريقة التدريب والتقنيات الخفيّة من أجل إيقاظ وحشه النائم.
كانت تلك الشروط هي القيام بعهد ذهنيّ روحيّ ينصّ على عدم إفشاء هذه الأسرار أبدا لأيّ كان، وبلوغ المستويات الروحيّة، واجتياز اختبار 'حياة' الذي يختلف حسب الشخص بذاته.
تناسى الخمسة حماسهم بعدما لاحظوا أنّ باسل عبس فجأة بعدما قال ما قال. تكلّمت لمياء نيابة عن الآخرين. لقد كانوا كلّهم يريدون السؤال عن نفس الشيء: "هل هناك خطب ما بحياة؟"
لاحظ باسل أنّه استغرق في أفكاره، فلوّح بيده وردّ: "لم تكن 'حياة' من قبل أفضل حالا ممّا هي عليه الآن. لا تقلقوا، لقد كنت أفكّر في شيء آخر."
لقد كان باسل يفكّر تنقيّة التكامل التأصّليّ التي يجب عليه أن يخترعها. لقد كان يفكّر في الوقت الذي سيحتاجه قبل أن ينجح في ذلك.
لربّما كانت روحيْه مستقرّتين حاليا، لكنّ ذلك الاستقرار للأبد طالما تبقيان الروحان متفاوتين بذلك الشكل. كان يجب عليه أن يسرع قبل أن تسوء الأمور.
ظنّ في السابق أنّ روحيه ستسقرّان للأبد لأنّه ظنّ أنّ الروح الثانيّة ستكتسب خواصّ الروح الأولى.
كان يفكّر أيضا في العنصرين اللذين يجب عليه اختيارهما. لقد كان هذا هو الشيء الأهمّ حاليا بالنسبة له.
نظر باسل بعد ذلك إلى أبهم ثمّ قال: "على كلّ، سيغادر أبهم معي بعدما أنتهى من عملي هنا."
اهتزّ جسد لمياء قليلا بعد سماع كلام باسل. لقد كان واضحا أنّها تأثّرت بقراره هذا بالرغم من أنّها حاولت بكلّ جهدها إخفاء الأمر.
لقد أظهر أبهم حبّه لها منذ قدومه إلى هنا، لكنّها جهلت ذلك لمدّة طويلة، حتّى أنّها أخطأت في حقّه عندما أخبرها باسل عن سرّ القبائل وظنّت أنّ أبهم تجسّس عليهم بطريقة ما ونسيت أنّ ذلك كان غير ممكن أصلا.

اعتذرت لاحقا عمّا بدر منها، وصارت تثير الانتباه أكثر لأبهم حتّى تعلّقت به بعدما رأت جهوده المثيرة للإعجاب التي خوّلته أن يصير في رتبة الزعماء من حيث القوّة والمكانة في هذه الفترة الوجيزة. وفوق ذلك، كانت لمياء ضعيفة تجاه الحب الذي كان أبهم يعطيه لها كلّما وجد الفرصة.
راقب باسل أبهم لقليل من الوقت ثم صرّح: "يبدو أنّك بلغت درجة مقبولة في تدرّبك على التقنيّة السرّيّة التي منحتها لك."
وقف أبهم ثمّ انحنى قليلا.
عندما وُلِد باسل من جديد وأتى إلى الوكر، وجد أبهم قد صار ضخما ومفتول العضلات لدرجة كبيرة، حتّى أنّ طوله ازداد بكثير عمّا كان عليه، إلّا أنّه كان الآن بعضلات بحجم طبيعيّ وطول أقلّ بقليل عمّا كان عليه، كما لو أنّه انكمش أو صغُر.

"كلّ هذا بفضلك يا سيّدي."
لقد كان أبهم ممتنّا للغاية لباسل. كيف بلغ هذه المكانة التي هو فيها الآن؟ كيف صار قويّا لينافس الزعماء بهذه السرعة؟
لقد كان كلّ هذا بسبب التدريبات القاسيّة التي فرضها عليه باسل والتقنيّة السرّيّة التي منحها له. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، ولطالما اهتمّ باسل بأتباعه وعائلاتهم.
كان باسل متردّدا في البداية، لكنّه لاحظ المجهود الذي كان أبهم يبذله كلّ يوم، حتّى صار جسده بذلك الشكل، فقرّر أن يمنحه شيئا استخدمه إدريس الحكيم بنفسه حتّى يقوّي جسده.
نعم، كانت هذه التنقيّة السرّيّة شيئا تدرّب عليه إدريس الحكيم جنبا إلى جنب مع تقنيّات أخرى من أجل أن يجعل جسده العادي قويّا كفاية ليكون حاوية ووعاء مناسبا وجديرا بثلاثة فنون قتاليّة في نفس الوقت.
حتّى إبلاس تساءل مرارا عن الكيفيّة التي استخدمها إدريس الحكيم في تقويّة جسده.
بالطبع كان باسل ينوي فعل نفس الشيء بعد ولادته الجديدة، إلّا أنّه اكتسب جسدا أفضل بكثير بعد لقائه بالوحش النائم، فلم يعد يحتاج لذلك، ولم يعد ممكنا له التدرب على تلك التقنيّات التي تعارض بنية جسده الجديدة. كان هذا سبب آخر في قراره بتمرير إحدى تلك التقنيّات السرّيّة لأبهم.
كان اسم تلك التقنيّة السرّيّة هو 'تأصيل الجسد الوحشيّ'.
وكما قيل، لقد كانت تقنيّة سرّيّة للغاية، لذا جعل باسل أبهم يقوم بعهد ذهنيّ روحيّ قبل أن يسلّمها له.
وكما دلّ اسمها، لقد كانت تقنيّة مبنيّة على المبدأ الذي تتقدّم به الوحوش في المستويات الروحيّة الثلاثة الأولى.
تأصيل الدم – تأصيل اللحم – تأصيل العظم.
بعدما لاحظ باسل أنّ أبهم قد بلغ درجة متقدّمة من مرحلة تأصيل الدم، قرّر شيئا آخر في هذه اللحظة: "سأمنحك تقنيّة أخرى قبل أن نتفارق."
اهتزّ جسد أبهم. لقد كانت تلك التقنيّة الأولى لوحدها مرعبة كفاية؛ جعلت جسده قويّا مثل أجساد زعماء الوحوش النائمة وهو ما زال في المرحلة الأولى فقط، فما بالك عندما يتقن التنقيّة تماما بجميع مراحلها؟
والآن، يقول باسل أنّه سيمنحه تقنيّة أخرى؟
كان الشوق والخوف يجعلان جسده يرتجف بالتفكير في المستقبل الذي ينتظره.
انحنى أبهم أكثر ثمّ قال: "شكرا لك كثيرا يا سيّدي. لن أنسى فضلك هذا ما حييت. أعدك أنّني لن أخيب ظنّك بي."
أومأ باسل رأسه، فجلس أبهم في مكانه.
التفت باسل إلى لمياء ثمّ قال: "آسف يا لمياء، لكنّ أبهم يجب أن يذهب إلى مدينة العصر الجديد. لحسن الحظّ، المسافة بين المكانين ليست بعيدة، لذا يمكنكما اللقاء متى شئتما."

احمرّ وجه لمياء الأسمر واهتزّت حدقتاها بينما تتململ في مكانها: "ما الذي تقوله يا سيّدي؟ نحن لسنا..."
التفت لمياء فوجدت أبهم ينظر إليها بعينين كعيني الجرو، فتوقّفت عن كلامها ونظرت إلى الأسفل فقط بعدما احمرّ وجهها أكثر.
تنهّد باسل بعد ملاحظة هذا الأمر وقال: "حسنا، ستتبعونني أنتم الزعماء، والذين تعتقدون أنّهم أفضل المواهب في القبائل. لا أريد إضاعة الوقت أكثر."
وقف باسل، فوقف الخمسة وانحنوا له قبل أن يبدأ باسل بالتحرّك نحو مخرج الغرفة المظلمة.
***
لقد كان في العالم الواهن، كأيّ عالم، أربعة عشر عنصر سحريّ رئيسيّ، وبضعة عناصر سحريّة أخرى تُعدّ عناصر ثانويّة أو فرعيّة للعناصر الأساسيّة.
التعزيز – النار- الماء (الجليد والثلج) – الريّاح – الأرض – السحاب – البرق – الضوء – الظلام – الوهم (العقل) – الاستدعاء – التحوّل – العلاج – الدمار.
كان عنصرا الجليد والثلج عنصرين ثانويّين لعنصر الماء، لكن مستقلّين، مثلما كان الحال مع عنصر العقل وعنصر الوهم.
كان كلّ عنصر مفيد بطريقته الخاصّة، وكما سلف وقال إدريس الحكيم، ليس هناك سحر ضعيف، بل هناك ساحر ضعيف.
كلّ العناصر السحريّة امتلكت إمكانيّات إلّا عنصر الدمار، لكنّ إدريس الحكيم كان يعتقد ببساطة أنّ عنصر الدمار قد بلغ ذروة إمكانيّاته من البداية، ولهذا لم يكن هناك مجال للنموّ أكثر.

كان يفكّر باسل حاليّا في كلّ عنصر على حدى حتّى يختار ما يناسبه أكثر.
لقد كان واثقا من الحصول على أيّ عنصر يبتغي، لذا وجب أن يفكّر مليّا في هذا. ما أن يطبع العنصران السحريّان في روحه، لن تكون هناك رجعة.
لم يحتج عنصر العلاج لأنّه كان يمتلك قدرات 'شفاء ذاتيّ' مبهرة للغاية. لم يحتج لعنصر التحوّل أيضا، فهو سيملك روحين، لذا سيكون لديه تحوّلان روحيّان وليس واحد فقط.
يمكن تعويض عناصر البرق والضوء وحتّى الظلام بعنصر النار من حيث طريقة وقوّة الدمار إن تجاهل الميزات الأخرى التي لم تغريه بشكل كافٍ.
كلّ ما تبقّى هو العناصر: الماء (الجليد والثلج) – الأرض – السحاب - الوهم (العقل) – الاستدعاء – الدمار.
إن كان سيختار من بين هاته العناصر، فعليه أن يختار ما يمكن أن يعزّز من قوّته ويكمّلها أيضا. لم يكن باسل يبحث عن مجرّد رفع للطاقة والقوّة التدميريّة بشكل بسيط، بل كان يبحث عمّا يمكن أن يجعل روحيْه متكاملتين تماما، حتّى من ناحيّة العناصر.
لذا أقصى العناصر: السحاب – الاستدعاء – الوهم.
لم تكن تلك العناصر تكميليّة للعناصر التي كان يملك.
بقي الآن الماء (الجليد والثلج) والأرض والدمار.
لم يقصِ باسل عنصر الدمار لأنّه كان عرضا مغريّا للغاية. حتّى لو كان يملك عنصر النار الذي كان يملك قوّة تدميريّة جيّدة كفايّة، كان عنصر الدمار عنصرا خاصّا للغاية. لم ينسَ للحظة اليوم الذي قاتل فيه هدّام الضروس وعانى الأمرّين بسبب هذا العنصر. لقد كان عليه في تلك الأثناء أن يتجنّب التواصل مع عنصر الدمار بشكل مباشر وإلّا تدمّر أيّ جزء يتلامس بدون حماية مع عنصر الدمار.
ومع ذلك، لو اختار عنصر الدمار، هل سيخلق هذا التوازنَ الذي يبحث عنه؟ هل ستكون قوّتان تدميريّتان في كلا الروحين مكمّلتين لبعضهما؟ أم سيتخلقان نوعا من عدم التكافؤ فتغطّي إحداهما الأخرى ويختلّ التوازن في النهاية؟
لقد كان هذا شيئا مهمّا للغاية ووجب على باسل أخذ كلّ الحيطة والحذر في اتّخاذ قراره. القرار الذي سيتّخذه اليوم سيؤثّر على مساره الروحيّ بشكل هائل.
الماء، والأرض، والدمار.
لو أزال عنصر الدمار، يبقى عنصر الماء والأرض، لكن هل هذا هو الخيار الأنسب؟
"انتظر...!"
صرخ باسل كالمجنون ثمّ توقّف في الطريق نحو 'حياة' بينما يتبعه الزعماء وبعض الوحوش النائمة.
اقترب منه أبهم ثمّ سأل قلقا: "ما هناك يا سيّدي؟ هل يمكن أنّك غيّرت رأيك؟"
تجاهل باسل كلام أبهم بدون وعي منه. لقد كان مستغرقا في تفكيره بما طرأ في باله للتوّ.
ردّد كلاما لم يفهمه أحد: "النار، الريّاح، الماء، الأرض."
نظر باسل إلى يديه كما لو أنّه يتخيّل شيئا فيهما وردّد مرّة أخرى: "نظريّة العناصر البدائيّة!"
"ها!"
أطلق باسل لهثة قويّة عندما فكّر في هذا الأمر. هل يمكن أنّه يستطيع أن يجرّب ما لم يستطِع أحد تجربته عبر الأزمان؟
لقد وجد نفسه يتّجه نحو مسار روحيّ كان موضوعا في النظريّات فقط ولم يستطع أحد تجربته.
صار باسل يعلم عن الكثير من الأشياء عبر الحكمة السياديّة التي نقل عبرها إدريس الحكيم معلومات لا تعدّ ولا تحصى، ومن بينها كانت هناك معلومات عن 'نظريّة العناصر البدائيّة' التي تحدّثت عن كيف كان هناك أربعة عناصر في الفوضى البدائيّة ونتج عنها في النهاية كلّ العناصر السحريّة الأخرى.
قيل أنّه لو تكاملت العناصر البدائيّة بطريقة ما، فيمكن أن ينتج عن ذلك أيّ شيء. قد يكون ذلك الشيء نظاما ثابتا، أو فوضى عارمة حتّى.
ما كان أكيدا هو أنّ تكامل العناصر البدائيّة كان شيئا قد درسه الحكماء عبر العصور، لكن لا أحد اكتسب القدرة على تحقيقه وتسخيره.
توهّجت عينا باسل لأوّل مرّة بعدما كانتا ميّتتين لمدّة طويلة.
قد يكون الوصف، 'وحش لا مثيل له عبر كلّ الأزمان'، قليلا في حقّ المخلوق المتعطّش للمعرفة والقوّة الذي كان يولد من دون علم أيّ أحد.

***
وصل باسل والآخرون بعد مدّة إلى الحاجز الذي كان يحيط بـ'حياة' والمنطقة المحيطة بها.
لقد كان هذا الحاجز بالذّات هو الحاجز الذي أحاط بمنطقة القبائل كلّها بعد تحوّل العالم الروحيّ، وتماما في حدود الوكر. لقد كان الأمر كما لو أنّ المسؤول عن هذا يعلم تماما منطقة الوحوش النائمة.
اقترب باسل من الحاجز ثمّ وضع يده عليه ورأسه وأغمض عينيه: "لقد أتيت مجدّدا يا حياة."
كانت هذه هي المرّة الثانيّة التي سيتسلّق فيها باسل حياة. لقد أحسّ بقرابة غريبة في آخر مرّة تسلّقها فيها، وحتّى أنّه يمكن القول –لحدّ ما- أنّه الشخص الذي سمّاها. لقد كان يشعر بالطمأنينة والسكينة كلّما تواصل مع حياة. لقد كانت اسما على مسمّى حقّا، إذْ جعلت متسلّقيها يُغمرون تماما ويختبرون المرّ والحلو، لكن تحضنهم أثناء فعلها لذلك.
توهّج الحاجز فقط ردّا على كلام باسل، فعبره والتفت إلى الآخرين: "كلّكم غير أبهم."
لم يكن أبهم وحشا نائما، ولم تكن له أيّ نوع من الرخصة مثل ما كان عند باسل الذي صار الوريث الشرعيّ للوحش النائم بشكل مباشر. لم تكن هناك أيّ وسيلة لأبهم كي يعبر هذا الحاجز.
نظرت لمياء بشكل آسف إلى جهة أبهم كما لو كانت تخبره ألّا يشغل باله بالتفكير في هذا.
ابتسم أبهم بعدما لاحظ نواياها وقال: "أنا بخير. لن أشعر أنّني متخلّف عنكم، فالسيّد باسل جعل ذلك مستحيلا أصلا."
نظر إليهما باسل وارتاح قلبه قليلا. لقد كان أبهم أخا لـشي يو، لكنّه فقدها الآن وكان عليه الاعتناء لوحده بعائلته العاديّة التي انتقلت للعيش في العاصمة من أجل حياة أفضل. سيكون من الجيّد أن يكون هناك شخص كـلمياء بجانبه.
لقد كانت لمياء أكبر من أبهم عمرا بحوالي العقد، إلّا أنّها كانت تبدو كفتاة صغيرة أمامه هو الذي لطالما تصرّف كالجبان حتّى لا يثير الانتباه له ويجلب المتاعب لأخته ووالديه.
أومأت لمياء رأسها ثمّ دخلت أوّلا قبل أن يتبعها زعماء القبائل الرئيسيّة ثمّ الآخرون.
نظر باسل إلى أبهم ثمّ قال: "يمكنك الانتظار هنا، لكنّني سأتأخّر قليلا لذا يمكنك المغادرة أيضا إذا أردت. سأجدك عندئذ بنفسي."
"سأنتظرك هنا يا سيّدي."
كيف له أن يجرؤ على ترك باسل يبحث عنه؟
أومأ باسل رأسه وقال: "قبل أن نبدأ التسلّق،" التفت إلى جهة لمياء وأكمل: "أريد منك يا لمياء أن تبقي متّصلة بالعالم الخارجيّ بعد انتهاء التسلّق والقدوم إلى هنا لإعلامي بأيّ شيء مهمّ. يمكنك فقط وضع يدك على الحاجز، أو على حياة مباشرة إن كان الأمر عاجلا، وسيكون بإمكاني التواصل معك."
لقد كانت قمّة حياة شبه منفصلة عن العالم الواهن، لذا كان باسل ينوي ترك صلة بينه وبين العالم الواهن في الوقت الذي يكون فيه منشغلا.

لا يمكن أن يسمح لنفسه بإعادة نفس الخطأ. أبدا!
لا يمكن القول أنّه أخطأ عندما ذهب إلى ذلك العالم الثانويّ لوحده. لم يمكن لأحد آخر الذهاب معه أصلا. لقد احتاج الشخص لمهارة عاليّة للغاية أو هبة كـالحكمة السياديّة حتّى يجد الطريق إلى ذلك العالم الثانويّ، لذا حتّى لو ترك أيّ أحد خارج مجال العالم الثانويّ ليسمع الأخبار، لن يستطيع ذلك الشخص الدخول إلى مجال العالم الثانويّ حتّى يبلغه بالرسالة.
ومع ذلك، كان باسل حريصا أكثر بعدما حصل ما حصل.
أجابت لمياء فورا: "حاضر يا سيّدي."
استدار باسل ثمّ تحرّك نحو حياة بدون أيّ كلام آخر.
التصق بـحياة ثمّ بدأ يتسلّقها، وبعدما ارتفع حوالي خمسة أمتار، لحقته لمياء والآخرون. لم ينطق بأيّ كلمة، ولم يتكلّموا هم أيضا. كان التسلّق هادئا للغاية.
حرصوا كلّهم على مراقبة باسل، وتبعوا كلّ حركة منه، ونسخوا حتّى تعبيراته، لكنّهم فقدوه فجأة.
استغربوا كلّهم عند حدوث هذا، لكنّهم تعجّبوا أكثر عندما وجدوا باسل أسفلهم بعدما كان فوقهم ببضعة أمتار.
استمرّ ارتباكهم أكثر وخصوصا بعدما صاروا متفرّقين تماما بالرغم من اعتقادهم أنّهم سلكوا نفس المسار. كان بعض الأشخاص يجدون باسل بجانبهم وبعض آخر كان يراه ينزل من الشجرة وليس يتسلّقها.
وفي نهاية المطاف، اختفى باسل تماما عن الأنظار ولم يره بعد ذلك أحد.
حاولوا بعد ذلك تسلّق حياة، لكنّهم كانوا يجدون أنفسهم في بعض الأحيان في نقطة البداية كما لو نُقِلوا إلى هناك، أو كانوا يجدون أنفسهم في مسار آخر.
ابتسمت لمياء وتمتمت: "لهذا قال أنّ تسلّق حياة ليس بشيء يُعلّم."
استمرّت في التحرّك بدون توقّف بينما تفكّر في الحلول. الطريقة التي تغيّرت بها أماكنهم واختفاء باسل المفاجئ. كلّ هذا عنى أنّ هناك مسارا واحدا فقط يجب على الشخص إيجاده.
كان هناك شيء يشغل بالها. هل كان تغيّر مكان باسل المفاجئ قصدا منه أمّ أنّه وجد نفسه في مكان آخر كما حدث لهم.

فكّرت في الأمر بعناية. لقد كان باسل هو الوريث الشرعيّ وقد سبق وتسلّق حياة إلى قمّتها من قبل بسلاسة، لذا لا بدّ وأنّه يعلم عن المسار تماما. لا يمكن أن يجد نفسه في مكان آخر بدون دراية منه، إذن لا بدّ وأنّه اتّخذ مسارا شاذا جعله ينزل مرّة أخرى. لقد كان الأمر كالمتاهة. متاهة مرسومة على الشجرة.
استمرّت في محاولاتها اليائسة لكنّها استسلمت في نهاية المطاف كما فعل الآخرون قبلها. لقد أطالت البقاء هناك أصلا. كلّ شخص استسلم منذ وقت طويل بالفعل.
ما كان غريبا في كلّ هذا، هو أنّهم عندما حاولوا النزول من الشجرة، لم يطرأ معهم أيّ شيء غريب. نزلوا بشكل طبيعيّ من حياة كما لو كانت شجرة عادية.

زادت دهشتهم عندما لاحظوا هذا الأمر وتحسّروا في نفس الوقت. كيف لهم أن يتسلّقوا حياة إن كان المسار الذي يؤدّي إلى القمّة شاذا لهذه الدرجة؟
لكن على الأقلّ...
'أظنّ أنّني فهمت قليلا ما يجب عليّ فعله. سأعزل نفسي لبعض من الوقت بعد الاختراق إلى المستويات الروحيّة وأشحذ حواسّي وأتواصل مع وحشي النائم.'
كانت لمياء هي الشخص الذي فكّر في هذا ولم تقله بصوت مرتفع. لقد كان هذا اختبارا فرديّا وشخصيّا لكلّ واحد منهم، لذا حتّى لو كانت قد توصّلت إلى استنتاج معقول، قد لا يكون ذلك هو الأمر بالنسبة لشخص آخر. كانت ما تزال تذكر كيف قال باسل أنّ اختبار حياة ليس بشيء يُعلّم.
هناك مسار واحد، لكن كيفيّة إيجاد كلّ شخص لذلك المسار تعتمد على الشخص بحد ذاته. قد تنجح طريقة ما مع أحدهم، ولكن لا تنفع مع أحد آخر.
لماذا؟ لأنّ حياة لن تسمح بذلك في اختبارها أبدا.
حسمت لمياء أمرها بدون علم أحد: 'عليّ أن أحسّن من قدراتي، وليس كساحرة، بل كـوحش نائم، حتّى أستطيع أن أربط روحي بـحياة، لأنّني أظنّ أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة لإيجاد المسار وتعلّم كيفيّة عبوره.'
قال أحد الوحوش النائمة بعدما لم يستطع التحمّل أكثر: "إنّه فريد للغاية."
نظر إليه الجميع، وفهموا تماما ما كان يعنيه. لقد كانوا كلّهم منبهرين من باسل.
لقد كان يقتصر الأمر على الوحوش النائمة والوريث الشرعيّ فقط عندما يتعلّق الأمر بالرخصة للاقتراب من حياة ومحاولة تسلّقها، ولكن كان الوريث الشرعيّ هو الوحيد فقط في هذا الوجود من كان قادرا على بلوغ قمّة حياة.
لقد كان السبب بسيطا؛ لقد كان الوكر الحقيقيّ للوحش النائم يقع في قمّة حياة، وهناك كانت تلك النخلة العتيقة.
تلك النخلة لوحدها كانت كنزا يمكنه إثارة المشاكل بين العوالم، لكنّ باسل كان قد أخذ من جانبها تمر الحياة الجديدة ومن قمّتها ذلك الصندوق الفخّار اللذين كانت قيمتهما أكثر بكثير من الشجرة بنفسها.
قال خليفة حاكم الجوّ بصوته الأخنّ الحادّ: "قد نكون محظوظين في الواقع لأنّه 'هو' وريثنا الشرعيّ."
ابتسم الجميع واتّفقوا مع كلامه. لقد كان باسل مميّزا فقط، لكن حتّى الوحوش النائمة ما زالت لم تعلم عن تميّز باسل الحقيقيّ.
لقد كان العالم الواهن منغلقا عن بقيّة العوالم حتّى قبل الختم، لذا لم تكن هناك أيّ طريقة لمقارنة مواهب العالم الواهن مع المواهب من العوالم الأخرى.
***
جلس باسل تحت النخلة في العالم الثانويّ الذي امتدّ برماله الصحراويّة في الآفاق. لقد كانت هذه النخلة هي الشيء الوحيد البارز هنا، كما لو أنّ هذا العالم بُنيَ من أجلها، مع العلم أنّها كانت هشّة وبدت كأنّها ستسقط في أيّ لحظة.

لقد كان باسل متدبّرا، محاولا إيجاد الحلّ الأمثل لحالته.
'الآن، بعدما توصّلت لفكرة نظريّة العناصر البدائيّة، لا يمكنني أن أضيع فرصة تجربتها أبدا. أريد أن أعلم ما الذي سيحصل عندما أنجح في تكامل العناصر البدائيّة. أريد أن أعلم كيف سيؤثّر ذلك على روحي وعلى رؤيتي للعالم. أيّ علوّ يمكنني بلوغه؟'
كان باسل متشوّقا للغاية ومتحمّسا كثيرا للوقت الذي يبلغ فيه مستويات روحيّة لم يسبق لأحد أن بلغها. أراد أن ينظر إلى العوالم من تلك القمّة حتّى يراها جيّدا. كلّما استطاع الارتفاع، زاد اتّساع المنطقة التي يمكنه رؤيتها.
'يمكنني اختيار عنصر الثلج أو عنصر الجليد بدل عنصر الماء، لكنّني سأختار عنصر الماء نظرا لكوني أملك عنصريْ النار والرياح اللذين يُعدّان عنصران رئيسيّان. يجب أن أختار عنصرين رئيسيّين فقط لأجعل من التوازن مثاليّا أكثر.'
"عنصر الريّاح سيدعم عنصر النار، كما سيدعم عنصر الماء عنصر الأرض. ستكون الروح الأولى مسؤولة عن إنتاج الدمار بينما تهتمّ الروح الثانيّة بزيادة الحيويّة."
لقد كانت هذه هي الفكرة الأولى التي توصّل إليها باسل. الدمار والحياة. متعارضان لكن ثابتان. طالما يكون حريصا للغاية، وينتبه كي لا يخطئ أبدا في حساباته وتدريباته وتدبّره، فيمكنه الحفاظ على مستوى من التوازن بين الروحين بشكل غير مسبوق.

يبقى عنصر التعزيز فقط.
لم يكن باسل قلقا للغاية بشان عنصر التعزيز. فالبرغم من أنّ هذا العنصر كان في الروح الأولى برفقة عنصريْ الريّاح والنار، إلّا أنّه لم يكن عنصرا يمكن أن يخلّ بالتوازن الذي سيتشكّل بعد اكتساب عنصريْ الماء والأرض في الروح الثانيّة.
لم يكن عنصر التعزيز متعلّقا بالطبيعة كما كانت العناصر الأربعة الأخرى. طالما تحافظ العناصر البدائيّة على التوازن بينها، فعنصر التعزيز لن يخلّ بذلك التوازن طالما لا يستخدمه باسل من أجل ذلك الغرض بالتحديد.
كان عليه الآن البدء في استشعار طاقة العالم مستخدما الحكمة السياديّة، ولكن قبل هذا...
تكلّم باسل: "أحتاج لمساعدتك يا حياة."
لم تمرّ ثانيّة واحدة حتّى رنّ طنين في عقل باسل. كان الطنين هادئا وليس مزعجا، وحمل آثارا مسكِّنة للروح. شعر باسل أنّه ينغمس في تدبّره أكثر فأكثر، كما لو كان يسقط ببطء وراحة في أعماق ليس لها نهاية.
لقد قال باسل فيما سبق أنّ الوحش النائم غرس حياة أملا في غدوّها ذات يوم 'شجرة عالم'.
لو أراد باسل استشعار طاقة العناصر السحريّة المتنوّعة بالعالم الواهن، فحياة كانت الوسيط الأفضل لفعل هذا.
لربّما لم تكن شجرة عالم بعد، لكنّها غُرِست من أجل أن تصبح شجرة عالم وقد عمّرت في العالم الواهن ألف ألفيّة وألف سنة، حتّى أنّها تغذّت على الوريد التنّينيّ طوال تلك السنوات، وهذا كان كافيا لباسل حتّى يبلغ مراده.

لم يمر وقت طويل حتّى وجد باسل نفسه في عالم مظلم، لكنّه لم يكن مظلما تماما، فبين الحين والآخر، ومضت بعض الأضواء في الأفق واختفت بسرعة كيراعات تنتهي حياتها.
علم باسل أنّ تلك اليراعات تمثّل طاقات العناصر السحريّة التي تتراقص هنا وهناك لتختفي بين طيّات طاقة العالم الهائلة.
كان عليه أن يجد أيّها هما عنصرا الماء والأرض، ويمتصّ قدرا كافيا منهما في روحه الثانيّة.
كان عليه أيضا أن يمتصّ العنصرين في وقت واحد وبنفس مقدار عنصريْ النار والريّاح حتّى يحافظ على التوازن، ويطبعهما تماما في روحه كما فعل عند اكتساب عنصر التعزيز وعنصر الريّاح.
تذكّر باسل معلّمه في هذه اللحظات. لولا الحكمة السياديّة، لما كان قادرا على فعل كلّ هذا. تذكّر اللحظات الأخيرة لمعلّمه، وكلماته الأخيرة التي تردّدت في أعماق روحه عندما كانت الحكمة السياديّة تُمرّر له.
(لــك كــلّ مــلــكــت يــومــا يــا ابــنــي!)
كان باسل سعيدا وحزينا في نفس الوقت.
لطالما احترم إدريس الحكيم، حتّى أنّه بدأ يعامله كـأب له، لكنّه لم يرد الإفصاح عن هذا الأمر علانيّة. كان ينوي إخفائه دائما. ومع ذلك، ناداه إدريس الحكيم بابنه.
لقد كان فخورا للغاية، وسعيدا جدّا.
لكن...
علم باسل أنّه ما أن يقبل الحكمة السياديّة، فسيكون عليه أن يقبل حقيقة موت معلّمه، لا، حقيقة موت أبيه الروحيّ.
لقد كان يائسا للغاية، وحزينا جدّا.
كلّ ما كان في وسعه الآن هو تحقيق أماني معلّمه، واتّباع مسار روحيّ يجعل معلّمه فخورا به.
بدأ باسل عمله فعليّا.
***
مرّت بضعة أيّام، وعادت الأمور لمجراها الطبيعيّ أكثر ممّا كانت عليه في العالم الواهن بعد الكارثة الأخيرة.
فقد الكثير من الناس أحبابهم، لكن لم يستطيعوا فعل شيء بشأن ذلك. ماذا هناك ليفعلوه عندما عانى أقوى شخص في هذا العالم مصيرا مثل مصيرهم أو أسوء؟
لم تفرّق تلك الكارثة بين أحد؛ فحتّى النبلاء في جميع أنحاء العالم فقدوا ورثتهم الذين كان لهم مستقبل زاهر وكان من المتوقّع أن يطوّروا من مستوى عائلاتهم.
فمثلا، عائلة كين التي كانت ثاني أقوى عائلة في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة تلقّت ضربة قاسيّة عندما خُطِف وريثها 'كين نبيل'.
كان كين تشارلي متحسّرا على هذا بشدّة. كان قد فقد ابنه البكر في الحرب ضد القبائل قبل حوالي سبع وخمسين سنة، والآن فقد نبيل الذي كان واعدا. لقد كان في الواقع سيمرّر له الخلافة ما أنّ يبلغ المستوى الرابع عشر، لكنّه لم يعد موجودا.

كان تشارلي يجلس مع تلميذه مارون براون. واجه براون نفس المصير مثل معلّمه؛ فحتّى هو خُطِف ابنه زونغ.
كان الحال نفسه مع كورو هِيْ الذي رافقهم في هذه الجلسة هنا. لقد أخذوا منه أخته الصغرى 'يامي' وابنه 'هيسي'.
كان هؤلاء الثلاثة قريبين من بعضهم، لذا كان يجتمعون للتحدّث بين الحين والآخر، ولكن جلّ حديثهم هذه الأيّام كان عن حسرتهم وخسارتهم. لقد أرادوا أن يفعلوا شيئا، لكن مثلهم مثل أيّ شخص في هذا العالم، كانوا ينفّسون عن غضبهم لقليل من الوقت فقط بدون الوصول لحلّ.
مرّت أيّامهم على ذلك الحال، حتّى بدؤوا يتقبّلون الواقع القاسي.
لقد خسروا عائلتهم، دمهم ولحمهم، لكن ليس عليهم أن يخسروا أنفسهم أيضا.

قرّروا في هذا اليوم أن يعلنوا عن الورثة الجدد لخلافتهم.
لقد كانوا من عائلات كبيرة، وكان للورثة السابقين إخوة صغار، لذا عليهم الآن أن يصرفوا مجهودهم في تحسين هؤلاء الورثة الجدد.
وفي هذه الأثناء التي كانوا يحاولون مناقشة أعمال عائلاتهم، اتّصل أحدهم بالجنرال براون.
استأذن معلّمه وصديقه هِيْ ثمّ أجاب: (ماذا هناك يا رعد؟ ألم تقل أنّك مشغول ولن تكون متاحا في هذه الأيّام؟)
كان الجنرال براون قلقا منذ البداية. لقد علم أنّ شيئا طارئا قد حلّ بعدما اتّصل الجنرال رعد الذي كان من المفترض أن يكون منعزلا.
سرعان ما سمع الجنرال براون ردّا جعله يقف مستقيما بسرعة كبيرة، فاتحا عينيه على مصراعيهما.
"(ماذا؟!)"
أثار صراخه المفاجئ قلق هِيْ وتشارلي أيضا.
بلع الجنرال براون ريقه ثمّ أنهى الاتّصال بعدما سماع كلّ المعلومات من الجنرال رعد: (حسنا. سنرتّب كلّ شيء هنا تباعا للنظام.)
حدّق بعد ذلك إلى معلّمه وصديقه اللذين كانا ينتظرانه يتكلّم بفارغ الصبر. أيّ كارثة حلّت هذه المرّة؟
تكلّم بعدما أخذ رشفة من المشروب أمامه ليرطّب حلقه الذي جفّ بعد آخر ريق بلعه: "لقد بدأ الأمر. حشدٌ من الوحوش السحريّة متوجّه ناحيّة إمبراطوريّتنا من سلاسل الجبال الحلزونيّة، وبالطبع، وحش روحيّ مسؤول عن هذا."
لقد قال باسل ذات مرّة أنّ العالم الواهن سيتحوّل كلّه لمنطقة محظورة بعد التحوّل الروحيّ للعالم، لكن تُجُنِّبَت الكوارث التي كانت ستنتج عن هذا بعدما أمر باسل بالقضاء على الوحوش السحريّة بالمستوى الرابع عشر.
لقد كانت تحتاج الوحوش السحريّة لوقت أطول للانتعاش بعد القضاء عليها وجمع أحجار أصلها، ولهذا نعم العالم الواهن بالسلام حتّى الآن، لكن لم يُقضَ على جميع الوحوش بالمستوى الرابع عشر في العالم الواهن، لذا بدأ هذا الأمر الذي كان من المفترض أن يبدأ بوقت أبكر وبشكل أفظع بكثير.
فبدلا من حشود متعدّدة من الوحوش السحريّة تعيث فسادا في جميع أنحاء العالم، ظهر حتّى الآن هذا الحشد فقط.
لقد كانت النتائج أكثر من جيّدة.
وقف الجنرال تشارلي وداعب لحيته ثمّ كشّر عن أنيابه: "هذا جيّد للغاية. لقد كنت أتوق للتنفيس عن غضبي طيلة الأيّام الماضيّة."
تنهّد الجنرال هِيْ بعدما وقف بعده: "أوافقك الرأي تماما."
أحكم الجنرال براون قبضتيه ثمّ قال: "لنسحق تلك الوحوش اللعينة حتّى لا يبقى شيئا منها."
خرج الثلاثة من الغرفة التي كانت غرفة خاصّة بلقاءاتهم في قصر عائلة كين.
تكلّم الجنرال تشارلي: "لنستعدّ جيّدا لهذا أوّلا. ما زلت لا أريد الموت، فكما تعلم، لقد تأجّل تقاعدي."
نظر بعد ذلك إلى تلميذه وهِيْ ثمّ أضاف: "سأكون في الطليعة هذه المرّة."
ابتسم الاثنان. لقد فهما أنّ الجنرال تشارلي كان يخبرهما أن يرافقاه.
تكلّم الجنرال براون بعدما أومأ رأسه مثل الجنرال هِيْ: "بالطبع سنكون هناك أيضا، لكن كما قلتَ، لا يجب أن نموت الآن. ما زالت هناك أعمال كثيرة علينا الاعتناء بها. ولهذا، فلنتّصل بالجنرال الأعلى."
ابتسم الجنرال تشارلي وردّ: "وما الذي كنت تتوقّعه عندما قلت أنّه يجب علينا الاستعداد جيّدا أوّلا؟"
ضحك الجنرال هِيْ وردّ: "متّفق معك مرّة أخرى. أفضل استعداد لما هو قادم هو وجود الجنرال الأعلى هنا، أوّل ساحر روحيّ بعالمنا."
بدأت الحيويّة تعود لهؤلاء الثلاثة.
ومثلما كانوا محبطين وصاروا متحمّسين بهذا الشكل، كذلك كان الكثير من الأشخاص.
لقد أراد العديد التنفيس عن غضبهم الذي لم يعلموا أين أو كيف يوجّهونه.
لقد كانت هذه هي الفرصة المثاليّة.
ولكن...
على عكس هؤلاء الثلاثة الذين لم يشكّوا للحظة في باسل بعدما رأوا ما فعله منذ ظهوره في حياتهم، كان هناك العديد من الأشخاص الذي كانوا يشكّون في ظهوره، وخافوا من غيابه.
"لو كنت سأموت وأنا أنتظر معلّقا آمالي على شخص لن يظهر بسبب جبنه، فسأختار على الأقل الموت وأنا أقاتل حتّى آخر رمق منّي. لن أموت بينما أنتظر أحدهم كي ينقذني."
كان هناك العديد من الأشخاص الذين فكّروا بهذه الطريقة.
لم يستطع أحد لومهم، لكن أولئك الذين وثقوا في الجنرال الأعلى كانوا منتظرين، منتظرين ظهور باسل الذي سيغيّر نظرة ذلك النوع من الأشخاص إليه من جديد، ويثبت لهم أنّهم هم الذين وثقوا فيه كانوا على حقّ.
***
وضعت لمياء يدها على حياة ثمّ انتظرت بفارغ الصبر كلمة من باسل. لقد أخبرها أن تأتي وتفعل هذا إذا حدث شيء طارئ وسيتواصل معها.
لكن...
"لماذا لا يتواصل معي؟"
تعرّق جبين لمياء كثيرا بعدما مرّت بضعة دقائق منذ أن وقفت هناك ولم تشهد أيّ تغيّر يطرأ.

***

بعد مرور أيّام عديدة من المحاولات المتتاليّة، وصل باسل إلى نتيجة مرضيّة أخيرا. لقد كانت الحكمة السياديّة شيئا مذهلا للغاية، واستطاع أن يرى ويحلّل ويتحكّم في كلّ شيء بشكل حكيم.
كان باسل مجرّد سيّد روحيّ (نوعا ما)، لذا تمكّن من استغلال الدرجات الثلاث من الحكمة السياديّة بشكل أقلّ بكثير عمّا كان إدريس الحكيم يستطيع فعله بمستواه الروحيّ، لكن بالرغم من ذلك، كان ذلك كافيا له حتّى يجعل روحه الثانيّة كاملة.
بالطبع لم يكن كلّ هذا بلا ثمن فحتى الآن، ما زال جسده وروحيْه يعتادان على الحكمة السياديّة التي اكتسبها بشكل غير 'طبيعيّ'، ولهذا كان جسده يتمزّق وروحاه تُحرقان في كلّ مرّة يستخدمها فيها.
ومع ذلك، كان باسل صبورا طوال الوقت. نعم، طوال الوقت، فهو كان يستخدم الحكمة السياديّة باستمرار حتّى يقمع الشؤم الذي كان يقبع في روحه الثانيّة. كان عليه أن يحجز السارق الخسّيس بالحكمة السياديّة طوال الوقت حتّى يستطيع أن يشعر بالهناء.
والآن بعدما نجح باسل في اكتساب العنصرين اللذين أرادهما، كلّ ما تبقّى هو الاستحواذ على روح وحش روحيّ آخر، لكن يجب عليه بكلّ تأكيد أن 'يخترع' تقنيّة تكامل تأصليّ.
يجب عليه أن يضع في الاعتبار العناصر البدائيّة كلّها أثناء اختراعه للتقنيّة.
كانت تقنيّات التكامل التأصليّ هي ما يسمح للسحرة الروحيّين بتنميّة أنفسهم وبناء عوالمهم الخاصّة، وذلك بجعل الروح تتكامل تماما مع روح الوحش وتتأصّل.
كانت هذه التقنيّات تختلف من واحدة لأخرى. كان الاختلاف الأهمّ بينها هو المستوى الذي تقف عنده إمكانيّات تقنيّة التكامل التأصليّ.
فمثلا، تقنيّة التكامل التأصليّ التي تدرّب عليها إدريس الحكيم وإبلاس كانتا من التقنيّات التي تسمح للساحر ببلوغ مستوى سلطان أصليّ حتّى، لكن كانت هناك تقنيّات تكامل تأصليّ حدودها كان عند مستويات أقلّ من ذلك بكثير.
وبالطبع، كان باسل في حال أسوء من ذلك بكثير.
فالآن، كان عليه أن يخترع تنقيّة تكامل تأصليّ يمكنها على الأقلّ أن تجعله سيّدا روحيّا حقيقيّا قبل أن يفكّر في أيّ شيء آخر. لم يكن لديه الوقت ولا الإمكانيّات لاختراع تقنيّة تكامل تأصليّ تقع حدودها في مستوى أكبر من نطاق الأرض الواسعة.
كان يعلم بالفعل ما عليه أن يفعل على الأقلّ. لقد قرّر أن يجعل الروح الأولى تناشد الدمار، بينما تركّز الروح الثانيّة على الحياة، كـ'مفهوم'.
كان عليه أن يخترع تنقيّة تخوّله أن يكمّل روحه الأولى مع روح الوحش الأوّل، ويكمل روحه الثانيّة مع روح الوحش الثاني، وفي النهاية يكمل ما ينتج عنهما ببعض، أيّ يجعل الروح الأولى 'الكاملة المكتملة' تتكامل مع الروح الثانيّة 'الكاملة المكتملة'.

كان الأمر معقّدا بالتفكير فيه فقط، لكنّ درجة تعقيد النجاح فيه كانت لا تُصوّر.
كان باسل سيفعل شيئا شاذا في العوالم كلّها، ولهذا كان واثقا من شيء وخاشيا منه أيضا.
لو ظهر ساحر روحيّ، له روحين وخمس عناصر سحريّة، فكيف ستكون ردّة فعل العالم؟ فقط ما اختبار الجدارة الذي سيكون عليه اجتيازه عندئذ؟
وبعدما فكّر في هاته الأشياء، تذكّر ما كان يؤرّقه لأيّام عدّة. متى سيحصل اختبار الجدارة المعني بالحكمة السياديّة التي تلقّاها بطريقة غير طبيعيّة؟ إن لم تُختبر جدارته على شيء كهذا، فماذا هناك ليُختبَر عليه إذن؟
لقد كان باسل متأكّدا أنّ اختبار الجدارة قادم لا محالة. لربّما كان ما يزال ضعيفا الآن ولا يستخدم الحكمة السياديّة بشكل غير طبيعيّ جدّا لذا لم يثر الاختبار؟ أو ربّما هناك تفسير آخر منطقيّ أكثر؟
على أيّ حال، يجب عليه أن يكون في أهبة الاستعداد.
صرف وقته بعد ذلك في التلاعب بالعناصر البدائيّة حتّى يكتسب فهما أعمق بكثير من الذي كان لديه أصلا (الذي جاء عبر الحكمة السياديّة)، وقرّر في نهاية المطاف أن يعتمد في اختراعه للتقنيّة النهائيّة على تقنيّتيْ تكامل تأصّلي بجعلهما تقنيّة واحدة.
عنى هذا الأمر أنّه عليه حذف كلّ ما يمكن أن يتعارض بينهما، وتعزيز كلّ ما يمكن أن يجعل تكاملهما أقوى، وأن يعيد صياغتهما من جديد كتقنيّة واحدة، وذلك بتوحيد أسلوبهما ونمطهما وخواصّهما... إلخ.
لقد كانت لديه معرفة شاسعة عمّا بحث فيه الحكماء عبر العصور بسبب ما جاءه عبر الحكمة السياديّة، لكنّ معرفته هذه ازدادت موثوقيّة وفعّاليّة عندما طبّقها على أرض الواقع وليس فرضيّا كما اضطرّ الحكماء القدماء أن يفعلوا.
لقد كان شخصا يملك العناصر البدائيّة كلّها، لذا استغلّ كلّ تلك المعرفة الهائلة في اختراع ما يمكن أن يجعل العناصر البدائيّة تتكامل.
"النار، الريّاح، الماء، الأرض."
عبس باسل لأوّل وقال: "يمكنني أن أرى الآن العلاقة التي تجمع هاته الأشياء بالضبط."

"كما يمكن للنار أن تدمّر، يمكنها أن تمنح الدفء والضوء للحياة أيضا. وفي حالة الماء، فـبه توجد الحياة، وبعدمه تختفي. يمكن القول أنّ الماء له خواصّ الهدوء والسكون والبرودة التي يتّصف بها الموت بينما تتّصف النار بحرقة الحياة."
"توجد الرياح (أو الهواء) والأرض من أجل دعم النار والماء معا وترسيخ نظام هذا العالم الذي يجعل الحياة والموت شيئا طبيعيّا."
أكمل باسل تحدّثه مع نفسه وتتبّع نفس المبدأ الذي أسّسه في الأوّل.

***
"دورة الحياة والموت!"
صرّح باسل بهذا الاسم ثمّ أنهى لمساته الأخيرة على تقنيّة التكامل التأصليّ التي كان هدفها الأوّليّ هو تكامل العناصر البدائيّة.
لقد كانت العناصر البدائيّة ترمز في هذه التقنيّة التي اخترعها باسل إلى الدمار والحيويّة اللذين يتعارضان لكن يبقيان بعضهما متوازنين، مثلما يفعل النور والظلام، والأسود والأبيض، والشمس والقمر، والحياة والموت.
وبالتالي، كانت تقنيّة التكامل التأصليّ قد اكتملت وصارت 'دورة الحياة والموت'.
كانت هذه هي اللحظة التي اختُرِعت فيها تقنيّة جديدة في العوالم الروحيّ، تقنيّة لم يسبق لها مثيل، تقنيّة ستحيّر الحكماء والسلاطين لأجيال قادمة.
ولكن...
"كلّ ما يمكن لهذه التقنيّة فعله حاليّا هو أنّ تجعلني أكمل مستوى نطاق الأرض الواسعة."
كانت إمكانيّاتها محدودة، وكثيرا.
"عليّ أن أبحث عن موارد أخرى من أجل أن أزيد من إمكانيّتها. يبدو أنّه سيكون عليّ تطوير التقنيّة في كلّ مرّة من أجل الاختراق إلى المستوى التالي."
كانت هذه إحدى العقبات التي يجب على باسل تجاوزها. فعلى عكس التقنيّات الموجودة عبر التاريخ والتي بلغت أقصى إمكانيّاتها، كانت التقنيّة التي اخترعها باسل متأخّرة كثيرا.
وليس ذلك فقط...
"هذا بدون ذكر أنّه سيكون علي فعل ضعف كلّ ما يحتاجه أيّ ساحر روحيّ للنموّ."
كان عليه أن ينمّي روحين وليس واحدة فقط، وهذا عنى أنّه سيحتاج لضعف الموارد وربّما أكثر إن فكّر في أنّه عليه جعل الروحين متكاملتين.
لقد كان النموّ الروحيّ لوحده صعبا للغاية، ولهذا ليس هناك سوى عدد قليل للغاية من السحرة الروحيّين مقارنة بالسحرة، لكنّه الآن عليه أن يتجاوز ما هو أصعب من ذلك بمراحل عدّة.
بالطبع لم يُحبط باسل بسبب هذا.
"لكن في المقابل، سأنتفع من ضعف إمكانيّات أيّ ساحر روحيّ بنفس مستواي ولربّما أكثر حسب فعّاليّة 'دورة الحياة والموت'."
نهض باسل ثمّ مشط شعره للخلف وتطلّع إلى قمّة النخلة.
لقد أحبّ ذلك الطائر الخرافيّ النخل، لكن ليس أيّ نخل، بل نوع فريد من النخل كان يوجد في عالم خرافيّ. وبسبب حبّه لذلك النوع الفريد، صار يحبّ حتّى الأشجار التي تشبهه في هذه العوالم.
لقد كان يعلم باسل لماذا زرع الوحش النائم هذه النخلة هنا. فكما أراد الوحش النائم من 'حياة' أن تكون شجرة عالم ذات يوم، أراد من هذه النخلة أن تصير نخلة فريدة مثل التي كانت في العالم الخرافيّ.

ابتسم باسل وقال: "إنّه يحبّ الغرس على ما يبدو، أو ربّما يشعر بالحنين؟"
كان يمزح مع نفسه فقط.
لقد كان يعلم تماما عن المخطّط المستميت الذي وضعه الوحش النائم حتّى فكّر في غرس هاتين الشجرتين. كلّ هذا من أجل اليوم الموعود الذي يعود فيه إلى الوجود، ولربّما إلى العالم الخرافيّ.
التفت باسل بعدما أنهى غرضه هنا وحاول أن يودّع حياة، إلّا أنّه رأى شيئا لا يُصدّق.
لا، لم يكن شيئا، بل شخصا.
لقد كان باسل يعرف هذا الشخص تمام المعرفة.
هل كان يرى أوهاما؟ مستحيل! لقد استخدم رؤيته الحكيمة السحيقة، فعلم أنّ ذلك لم يكن وهما.
لكن لم يستطِع أن يرى أيّ شيء آخر غير صورة ذلك الشخص.
كان الأمر كما لو أنّ صورة ذلك الشخص كانت ها هناك، إلّا أنّه لم يكن موجودا هناك.
كان ذلك شعورا معقّدا للغاية.
بلع باسل ريقه ونطق اسم ذلك الشخص: "الجدّ عليّ؟!"
بالفعل، كان الشخص أمامه هو الجدّ عليّ، بائع ومزارع الجزر، الشخص الذي عامله باسل كجدّ له وتلقّى منه النصائح أحيانا، الجدّ الذي جعله يدمن الجزر واقترح عليه الزراعة.
عبس باسل وقال: "لم أفهم شيئا عندما تذكّرتك ولم يتذكّرك أيّ شخص آخر في هذا العالم، كما لو أنّك اندثرت من عقولهم، لا، كما لو لم تكن موجودا أصلا. فقط أين ذهبت؟ ما هويّتك؟"
كان الجدّ عليّ يقف هناك بدون أيّ حركة. لم يقل شيئا ولم يفعل شيئا.
كان باسل مستغربا كثيرا. هل يمكن أنّه بدأ يفقد عقله أخيرا بعدما استعمل الحكمة السياديّة كثيرا حتّى صارت لا تعمل لتحافظ على سلامة عقله كالعادة؟
لا، لقد استخدم الرؤية السحيقة الحكيمة قبل قليل.
كانت هناك الكثير من الأسئلة التي يودّ طرحها على الجدّ عليّ، لكنّه يرَ أيّ تصرّف يدلّ على أنّه من كان أمامه هو الجدّ عليّ أصلا.

لقد كانت تلك مجرّد صورة للجدّ عليّ. نعم، مجرّد صورة، وإلّا كيف يمكن تفسير وجود الجدّ عليّ بالرغم من أنّ باسل كان يشعر أنّ الشخص أمامه غير موجود.
زاد الأمر تعقيدا بالتفكير في هذا. ولهذا، توقّف باسل عن التفكير وسأل مرّة أخرى: "هل أنت الجدّ عليّ؟"
لم تتغيّر تعبيرات الجدّ عليّ. لم يتحرّك إنشا واحدا.
كلّ ما فعله الجدّ عليّ هو المراقبة. لقد كان يقف هناك ببساطة كما لو أنّه يحاول استنباط شيء ما، أو تقرير شيء ما.
صعدت القشعريرة مع جسد باسل فجأة.
أحسّ أنّ هناك شخصا ما، لا، بل شيئا ما يرى من خلاله من جميع الزوايا، هذا مع وضع الحكمة السياديّة في عين الاعتبار.

حتّى لو كان الساحر الروحيّ في مستويات السلطنة، فهناك أشياء لا يمكنه رؤيتها عبر غطاء الحكمة السياديّة، إلّا إذا امتلك هبةً ما تجعله مخوّلا لفعل ذلك.
ولكن...
كان الأمر مختلفا تماما مع الجدّ عليّ.
لقد شعر باسل أنّ هذا الشخص أمامه يراه كـكتاب مفتوح. أو للدقّة، شعر باسل أنّه كان 'الكتاب'، وكان ذلك الشخص أمامه 'مؤلّف' ذلك الكتاب.
فجأةً، التفت باسل مرارا إلى مختلف الجهات، وذلك حتّى يرى ما إذا كان هناك شخص يتربّص عليه. شعر أنّه مراقب من جميع الزوايا.
لقد كان ذلك مجرّد وسواس.
حكيم سياديّ تمكّن منه الوسواس.
سخر باسل من هذه الفكرة قبل أن يستقيم ويحدّق مرّة أخرى إلى ما أو من يفترض به أن يكون الجدّ عليّ.
غيّر باسل سؤاله مرّة أخرى: "ما هدفك؟"
لقد أراد أن يعلم ما كان هدف هذا الشخص أوّلا.
حليف أم عدوّ؟
لقد كانت هذه قمّة شجرة حياة التي لا يمكن لأحد دخولها سوى الوريث الشرعيّ والوحش النائم بنفسه، فكيف لهذا الشخص أن يدخل إلى هنا؟
يجب أن تكون أولى الأولويّات الآن هي ضمان سلامته وسلامة هذا العالم الثانويّ. عليه أن يعلم ما إذا كان القتال هو الخيار الأنسب أم الحديث.
ومع ذلك، صموت الجدّ عليّ حتّى بعد ذلك السؤال جعل من خيار الحديث غير مناسب بتاتا.
لم يعلم باسل ما كانت هوّيّة الجدّ عليّ حتّى يندثر من الوجود بتلك الطريقة، لكنّه لم يهتمّ بهذا الآن.
لقد قطع وعدا مع الوحش النائم، ويجب أن يوفي به.
لقد كان عليه أن يبقى حيّا من أجل إيجاد أنمار والآخرين.
لقد كان عليه أن ينتقم لعائلته والمقرّبين منه.
لقد كان عليه أن يحقّق أمانيه وأماني معلّمه.
لو كان ذلك اَلجدّ عليّ حقّا، فكان ليشارك باسل الحديث بكلّ شغف كما اعتاد أن يفعل دائما، لكنّه لم يفعل.
لقد سأله باسل مرارا لكنّه لم يجب، لذا كلّ ما تبقّى فعله هو حماية هذا المكان وحماية نفسه.
استعدّ باسل للقتال، وفقط عندما اتّخذ وضعيّته وكان مستعدّا للسماح لذلك الأبله بالظهور مجدّدا في هذا العالم، لاحظ شفتيْ الجدّ عليّ تتحرّكان.
[شاذ.]
لم يرمش باسل مرّة أخرى حتّى كان الجدّ عليّ قد اختفى من هناك تماما.
زرع الجدّ عليّ الرعب في باسل واختفى مرّة أخرى كأنّه لم يوجد في الوجود من قبل.
تسارعت ضربات قلب باسل كثيرا لمّا تذكّر ما قاله الجدّ عليّ بصوته الغريب الذي كان خاليا من أيّ ذرة من الخواصّ.
"'شاذ.' إنّه بكل تأكيد يشير إليّ. لا يمكنني التفكير في شيء آخر."
كان باسل هو الشذوذ بنفسه إن لم يكن شاذا.
"لكن... فقط من يكون بالضبط؟ اللعنة! هذا سيؤرقني لأيّام مرّة أخرى. لقد فكّرت فيه لمدّة طويلة بالفعل لكنّني لم أصل لأيّ نتيجة."
تذكّر باسل نصيحة معلّمه: (يا أيّها الفتى باسل، إنّك لست بواهم، فقط يبدو أنّ الشخص الذي تبحث عنه غير موجود. اسمعني ولا تسألني. لم يكن الشخص الذي تبحث عنه موجودا قطّ، لذا ليس من الغريب ألّا يتذكّره أحد. ستفهم ذات يوم.)
لم يفهم حتّى إدريس الحكيم من أو ما كان الجدّ عليّ في تلك الأثناء، لذا قال ما قال لـباسل. لقد كان يعلم أنّه سيحين وقت ما في المستقبل ويعلم باسل حقيقة ما جرى.
أحكم باسل قبضتيه بعدما تذكّر كلمات معلّمه العميقة، ونقشها مرّة أخرى في أعماق قلبه. لا يجب عليه أن يسأل الآن، لأنّه سيعلم عندما يحين الوقت المناسب لذلك. هذا ما أخبره به حدسه على الأقلّ.
وفقط عندما خلا عقله من هذه الأفكار وعاد لصفائه، لاحظ أنّ لمياء كانت تحاول الاتّصال به منذ وقت طويل.
يبدو أنّ باسل استغرق وقتا طويلا للغاية في التفكير بين كلّ سؤال وسؤال طرحه على الجدّ عليّ(؟) بالرغم من أنّه شعر بمرور الزمن بسرعة. زاد هذا الأمر من شعور باسل بالتنمّل فقط.
تنهّد مرّة أخرى واتّصل بلمياء: (ماذا هناك؟)
أحسّ في هذه الأثناء أنّ لمياء تنفّست الصعداء وعادت الروح لجسدها.
أضاف قبل أن تجيبه لمياء حتّى: "هل هو حشد من الوحوش؟"
كان حشد الوحوش السحرية يتجه الي الشعلة القرمزية، ولم يبدوا أنه سيتوقف الا بعدما يمسح البشر من علي وجه القارة................يتبع!!!!!!
 
جامد يافنان
 
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
تم إضافة الجزء الثالث
 
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
  • حبيته
التفاعلات: smsm samo

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%