NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

مكتملة منقول فانتازيا وخيال عربية فصحى إيكادولي (للكاتبة حنان لاشين) | السلسلة الأولى | خمسة وعشرون جزء 1/12/2023

٢٠
خطر


على حصان كستنائي اللون وتحت ستار الليل، كانت الأميرة "نَبرة" متجهة صوب مكان بعيد عن القصر وبعيدًا عن عين أخيها الملك "كِمشاق"، ترجلت بثوب فتّان وأقبلت ترفل في زينتها حيث كان "أنس"، عندما رأت وجه "أنس" أحسّت بقلبها ينسحق لكنّها نجحت في السيطرة على مشاعرها، كان يقف بكبرياء، تأملت فتوته بإعجاب، قطراتُ العرق كانت تتلألأ على جبينه رغم برودة الجو! فأدركت أنه كالبركان داخله يغلي رغم القوة والثبات الذي يحاول الظهور بهما، كان قد أغمض عينيه وأرخى ذراعيه يبدو منهمكًا في التفكير بعمق، وقفت لدقيقة تتأمله وتراقبه، فُتنت به فنسيت من هي وأين هي ولم جاءت، بينما كانت تراقب كلّ لفتة منه وكلّ حركة يقوم بها بإعجاب، كانت تقترب بخطوات هادئة، أشارت للحراس الذين حيوها بإجلال، انتبه "أنس" ورفع عينيه ورنا نحوها بنظرة خاطفة وقال وهو يطوف في الأرجاء بعينيه:
, - أين "كلودة"؟
, اقتربت ووقفت قبالته حتى اخترق عطرها القويّ أنفه وقالت وهي ترمقه بجرأة:
, - أنت قويّ، وجريء! كيف لبيت دعوتي بتلك السهولة! ألا تخشى أن أقتلك؟
, لم يرد عليها مثيرًا لديها شعورًا بغيضًا بأنّها تتحدث إلى الفراغ. كادت تصرخ في وجهه كما اعتادت، تنهره، تصفعه ليرفع عينيه ويحدّثها، لكنّها وقفت أمامه كالقط الصغير، قالت بنَبرة مرهفة:
, - اسمي٣ نقطة"نَبرة".
, لائذًا بفقاعة من الصمت انصرف مبتعدًا عنها بينما وقفت تتابع خطواته، لم يتسنّ لها التنفس، وكأنّ نبض قلبها يتردد في صدغيها، لقد فُتنت "نَبرة" ولأوّل مرّة في حياتها! فتنت بالمحارب الذي جاء خصيصًا ليسترد نهاية كتاب ستنازعه عليه!
, جلست على مقعد قرّبه إليها أحد حرّاسها ووضعت ساقًا على ساق وقالت بخضوع:
, - "إيكادولي"٢ نقطة هل تعرف معناها؟
, لم يلتفت "أنس" ، قالت هامسة:
, - أحبك
, لم يرف له جفن، كان ثابتًا كالطود فشعرت بانزعاج وأردفت:
, - أين الكتاب؟
, - ليس معي
, - وأين هو؟
, - في أمان.
, قالت بهدوء:
, - لماذا لم تحضره معك، ألا تثق بي؟
, - وما الذي يدعوني للثقة بك! لقد خطفتم صديقي!
, كانت تحاول أن تمدّ حبائلها حوله ببطء، قالت وهي توقّع كلماتها:
, - وما الذي جعلك تثق بـ"الحوراء"؟ أليس من الغريب أن تمنح ثقتك لغرباء دون آخرين، أتيت إلى مملكتنا غريبًا عنا، لا تعرف عن ماضينا فما لك تحكم على الناس دون أن تسمع منهم؟
, - كان جدي هنا من قبل وكذلك أبي، وأنا أثق بهما وبمن وثقا به من قبل.
, ابتسمت وقالت:
, - وهل لا بدّ أن نفعل كل ما فعله أباؤنا وأجدادنا دون تفكير!
, بدأت كلماتها تستفزّه، قال بعصبية:
, - لا٢ نقطة ولكنني أثق في حكمهما على الأشخاص، ولكل منهما تاريخه وتجربته هنا.
, تحولت ابتسامتها إلى تقلّص مريع على جانبي فمها وقالت:
, - أين عقلك، أليس لك عقل تفكّر به وتحكم على الصواب والخطأ، وتختار بإرادتك؟ أم أنت تساق كالأعمى!
, بدأ الوريد في جبهته ينبض، ردّ بحدّة:
, - اخترت بإرادتي وعقلي أن أثق بأبي وجدي.
, تلونت سريعًا كالحرباء ونظرت إليه نظرة فيها كل معاني الاستسلام والغزل وقالت:
, - لماذا أنت غاضب؟ هل ضايقناك في شيء؟ أنت تعلم أنني كنت أستطيع أن أطلب منهم إحضارك بنفس الطريقة التي أحضروا بها "كلودة"، لكنني أعلم أنك مختلف عنه، أنت شريف٣ نقطة لكنه خائن غدر بـ"أُونتي" المسكينة، وكانت تحبّه.
, - هو ليس بخائن!
, قالها وهو يمرّ على وجهها سريعًا حيث رمشت عندما التقطت مقلتيه فأردف مدافعًا عن "كلودة":
, - كانت تطارده، لم يكن ليفكر في أميرة وهو شاب بسيط وفقير، هي التي فتحت له الأبواب، وكانت تستدرجه وتغويه، وقد ندم وتراجع وأنهى علاقته بها وأخبرها بنفسه.
, لم يكن أمر "أُونتي" يشكل أهمية لدى "نَبرة"، كان جلّ تركيزها على "أنس"، شعرت للحظات أنها فهمته، هو من ذاك النوع من الشباب المهذّب الذي يسهل الطريق إلى قلبه عن طريق معاملته بذوق وأدب، لا بأس من إظهار بعض الضعف حتى تستميله، وربما تشهر أسلحة أنوثتها لاحقًا، قالت بعد صمت خفيف:
, - أنت على صواب، أهلكتني أختي "أُونتي"، كنت أنصحها كثيرًا لكنها كانت تسيء إلى أسرتنا بأفعالها، لا أدري كيف أتصرف معها.
, ثُمّ سألته:
, - هل هما أبطال قصّة كتابك؟ هل ظهرت العبارات بعد أن التقيت بهما؟
, - ربّما٣ نقطة ربما "كلودة"و زوجته.
, - أو "كلودة" و "أُونتي"!
, - لا أظن.
, - الكتب هنا تفاجئنا، تكون عكس كل التوقعات! ربما أنا وأنت أبطال هذه القصّة.
, ارتبك "أنس" عندما قالت هذا ورنا إليها حيث اقتنصت نظرة منه، ابتعدت عنه خطوات ثُمّ استدارت فجأة قائلة:
, - هل أحببت من قبل؟
, - ولم تسألين؟
, هزّت كتفيها وقالت:
, - طالما قلت هذا فأنت عاشق، من لا يحب يجيب نافيًا بثقة في الحال، ترى من هي؟
, أشاح "أنس" بوجهه بعيدًا عنها وقال:
, - أتيت لأتحدّث عن "كلودة"، أين هو الآن؟
, - لا بأس بحديث جانبي، وسنعرج للحديث عنه فلا تقلق.
, - لا٣ نقطة لا مجال لحديث آخر.
, قام يسير بغضب فعلق قميصه بمسمار بارز من خشب الجدار، نزعه منه بعصبية فتمزّقت منه قطعة وعلقت بالمسمار فابتعد وهو يفرك ذراعه حيث أصابه المسمار بجرح، بينما اتجهت"نَبرة" والتقطت قطعة القماش التي تمزّقت من قميصه وكورتها في كفّها، أومأت لكبير الحراس فقد اتفقت معه أن ينزع عن "أنس" قميصه قبل رحليه لتعطيه للساحر "قرجة"، لكنها الآن ستكتفي بهذا الجزء الممزق، فهمها الحارس في الحال.
, كرر "أنس" كلامه باستياء شديد:
, - أريد أن أرى "كلودة" حالًا.
, كان يتحدّث بثقة، فهو لا يهابها ولا يخشاها، حتى أنه لم ينظر إليها! شعرت "نَبرة" أن هناك من رشق كومة من الإبر في جسدها، انتفضت وسارت نحو حصانها حيث ساعدها أحد الحراس في ركوبه، ثُمّ التفتت نحو "أنس" وقالت بعنجهية:
, - أحضر كتاب "إيكادولي" واستبدله بصديقك، وأسرع قبل أن يقتله الملك.
, انصرفت "نَبرة" والغيرة تتأجج في صدرها، ذاك الشاب عاشق لا محالة، لم يرف له جفن وهي من هي تتألق في زينتها أمامه، وكأنه قد عمي وهي بقربه!
, ٣ علامة استفهام
,
, كان اللصوص ومنذ خروجهم من قصر الملك "كِمشاق" يبحثون عن "أنس" في كل مكان، توزعوا بين القرى يبحثون عنه، على حين غفلة منه، وبينما هو عائد من لقاء "نَبرة"، وبعد أن تتبعوه نجحوا في أسره بعد اشتباك عسير مع رجالهم، فقد كان "أنس" من ذاك النوع الذي يصعب أن تغلبه إلّا بالكثرة، فهو خصم قويّ وعنيد. أسرعوا به نحو قصر الملك ، ودخلوا به مقيّدًا، وقدموه لـ "حليم"، ركلوا "أنس" بقسوة ليخرّ مرغمًا على ركبتيه أمامه، لكنّه وثب بقيوده واقفًا وأبى أن ينحني، فانهالوا عليه بالركلات حتى فقد وعيه.
, استيقظ على أثر ضرب السياط وقد كان معلّقًا من ساقيه، كان يشعر أن دماءه التي تجمّعت في رأسه المتدلّي تكاد تخرج من عينيه، كان الجلّاد ينهال على جذعه بالسياط، بينما كان "حليم" يتمشّى أمامه، أشـــــــــــــــار للجلاد ليتوقف
, عن ضربه، أخرج خنجرًا رفيعًا واقترب من قلبه ليثقبه، وقال يهدده:
, - أتعلم أنني أستطيع الآن أن أثقب قلبك؟
, - وماذا بعد؟
, - ستموت.
, - وهل أنا على قيد الحياة الآن!
, قالها "أنس" وكان يعنيها، فقد بدأت الأمور تختلط عليه، ملّ من تلك المملكة، وبدأ يكره كلّ ركن فيها. كاد "حليم" يشير للجلاد ليعود لجلده، لكن "أنس" باغته سائلًا:
, - في أي عام نحن الآن؟
, - ماذا!
, - وددت أن أعرف٣ نقطة في أي عام نحن؟
, - مائه وثلاثة وأربعون.
, - ماذا!
, - كما قلت لك مائة وثلاثة وأربعون، لماذا تتعجب؟
, - معقول!
, كاد "أنس" يقول شيئًا ما، فقد تذكّر نصيحة الأمير "أواوا" التي أخبره بها في الممر تحت الماء في تلك الرؤيا، أن ينتبه للأرقام! لولا دخول"نَبرة" التي صرخت فالتفت "حليم" تجاهها وقال:
, - "نَبرة"! صحيح، نسيت أن أدعوك لتشهدي تلك اللحظة، ها هو المحارب وسنثقب قلبه الآن.
, اقتربت وهمست وهي ترشقه بنظراتها:
, - وكيف ستثقب قلبه والكتاب ليس معنا أيها الأحمق!
, زمجر غاضبًا حيث استفزته كلماتها وقال بصوت جهوري ليسمعه ويخيفه:
, - سنجمع دماءه في وعاء لوقت لاحق وعندما نعثر على الكتاب سنكتب ما يليق بملكنا العظيم "كِمشاق".
, - وما أدراك أن هذا صواب؟ لم يحدث هذا من قبل.
, التفتت "نَبرة" نحو وجه "أنس" فسحبت "حليم" من ذراعه بعيدًا حتى لا يسمعهما وأردفت قائلة:
, - أرى أن نستبقيه حيًّا حتى نحصل على الكتاب، لقد كنت سببًا في ضياعه يا "حليم"، ألم تعثر على تلك الجارية التي اشتريتها من السوق٣ نقطةالتي سرقت الكتاب؟
, - ليس بعد، لكنني سأعثر عليها.
, انصرفا معًا وتركا "أنس" بعد أن أمر "حليم" الجلّاد أن ينزله ويقيد ساقيه بالسلاسل.
, وبعد نحو ساعتين، وتحت جنح الليل تسللت "نَبرة" إلى زنزانته وهي تخفي وجهها. كان ثمن صمت الحراس غاليًا، لكنها ولأنها تعرف عن زعيمهم الكثير من الأسرار بسبب عيني بومتها كان التهديد وسيلة لتصل إلى ما أرادته، استطاعت أن تحرر "أنس"، وقفت تلتقط أنفاسها وقالت هامسة:
, - سنذهب الآن إلى غرفتي، سأخفيك حتى أرتب أمر هروبك مع الحراس.
, - لا
, - لماذا؟
, - ولماذا أذهب معك وأنا استطيع الفرار الآن!
, كان "أنس" لا يثق بها، لكنها كانت سببًا لكي يهرب، ما زال لا يفهمها! ربّما فيها بعض الضعف الذي يراه في عينيها، أو ربما هي فعلا ذات قلب طيب، لكن جرأتها وسفورها عظّما في قلبه الامتعاض والحذر منها، كان محتارًا في أمرها، وهو بالـتأكيد لن يبيت في غرفة امرأة! لا سيما التي لا حياء لها! قال محاولًا أن يستشف ما وراء أفعالها:
, - كيف استطعتِ دخول زنزانتي؟
, قالت في دلال وقد تملكها الزهو:
, - لي عيون ورجال، لا تستهن بي!
, ران عليهما الصمت للحظات كانت تفكّر في مخرج ما، يبدو أنه صعب المراس، رأت أن تتركه يرحل لتكتسب ثقته مؤقتا، وتستدعيه مرّة أخرى وقتما شاءت، سمعت صوتًا أربكها، فأسرعت تجاه أحد رجالها، وكلّفته أن يدله على الطريق لكي يخرج من القصر بسلام.
, هرب في الظلام مهتديًا بضوء القمر، قطع المسافة ركضًا وكأنّه يهرب من الموت، كان غضبه هادرًا وشديدًا، هدّأ من ركضه عندما اقترب من بيت "أشريا"، في تلك الساعة كانت القرية قد خلت إلا من أواخر الناس وطوارق الليل وبقيّة من الأنفاس تحبو في الطرقات ذاهبة إلى مضاجعها، وضعت "مَرام" يدها على صدرها وتنهّدت باطمئنان عندما رأته يقترب، حيث كانت تتنقل بين "أشريا" وهي تنتفض بين يدي أمها، وبين النافذة تراقب الطريق وتنتظر عودته، أسرع "كُومبو" مهرولًا نحوه فور أن رآه ليسأله عن "كلوده"، طلب منه أن ينتظر حتى تنضم إليهما"مَرام"، فهو لا يودّ إزعاج "أشريا" لأنه لا يحمل خبرًا جديدًا عن زوجها، وبعد أن خرجت "مَرام" قصّ عليهما ما حدث بالتفصيل، وفور أن انتهى أطبق عليه الصّمت كأنّ كلّ الكلام قد تلاشى وتبخّر على شفتيه.كان متعبًا تؤلمه آثار السياط على جذعه، فارقه نشاطه وخفته وبدأ يجثم على صدره نوع من الكآبة، قالت "مَرام" وهي تسقيه الماء:
, - "أنس" ما بك؟ هل تخفي عنّا شيئًا ما؟
, كانت تلك المرّة الأولى في حياته التي يجلد ويضرب فيها بتلك الطريقة، وكان يشعر بالإهانة، أمسك الكوب وفي يده بقية من اضطراب وقال:
, - لا٣ نقطة ولكنني أشعر أن الأمور قد بدأت تتعقّد.
, اختلس نظرة واقتبس شيئًا من عينيها ليسترد شيئا من إرادته ثُمّ خفض طرفه وقال:
, - لكنّ تلك الأزمة ستمرّ إن شاء ****، وسنعود إلى ديارنا يا "مَرام".
, حاولت أن تمنحه ابتسامة مغتصبة لتشجّعه وتخفف عنه، لكنّها لمحت في وجهه مرارة وفي قسماته وجومًا أخافها. انصرف مع "كُومبو" ليطبب له جراح ظهره في بيته، وعادت "مَرام" وسهرت ليلتها بجوار "أشريا".
, ٣ علامة استفهام
,
, يقولون إنّ تحت البحر نار، وإن جوف الأرض يتلجلج بجحيم يتلظى، وهناك تحت هذا الرماد شظيات تختبئ، وهنا تحت بشرة تلك الأميرة التي تبدو للناظرين باردة دماء تغلي وقلب يحترق٣ نقطة كانت "نَبرة" تتساءل في نفسها، كيف تجاهلها "أنس"؟، كيف لم يُفتن بجمالها؟، كان يشبه تلك التماثيل الخالية من النقوش، يتحدث معها وكأنّه لا يقول شيئًا، ينظر إليها وكأنّه لا يراها! قررت أن ترسل إليه مرّة أخرى، وكان قد مرّ يومان على رحيله من القصر، والذي أحدث ضجّة بين الحرّاس كلفتها الكثير من المال، واضطرت لقتل أحد رجال "حليم" حيث ذبحه رجالها لأنه كاد يشي بأمر تهريبها لـ "أنس"، لم يكن "حليم" يعلم بأنّها تعرف عنوان "أنس"، وظلّت تخطط لكي لا ينكشف أمره لأخيها ولـ "حليم" ففي نفسها شيء تجاهه، ترى أنه يصلح أن يكون حبيبًا لها، وربما تغير أمورًا كثيرة في تلك المملكة!
, كانت تتعجل رؤيته، أرسلت إليه رسالة تطلب منه أن يلتقي بها لأمر هام وضروري، أرسلتها في الخفاء مع أحد رجالها.
, وسط النهار، وبينما يفكّر في طريقة ما يعرف بها أخبار "كلودة"، حيث حاول أكثر من مرّة أن ينتقل بالخنجر لبلاط القصر ليبحث عنه، كان يدلف إلى الفجوة ويعود لنفس المكان! هناك شيء غريب! لا ينجح الأمر مع قصر الملك "كِمشاق" كما نجح مع غيره! وأصابه إرهاق شديد.
, جاءته الرسالة معطّرة بعطرها وملفوفة بشكل أنيق وكأنها رسالة حبّ مما جعله يتعجّب! أرادت "نَبرة" أن تلتقي به بالقرب من بيت "كلودة"! تعجب للمكان الذي اختارته، أخبر "مَرام" و"كُومبو" وأسرع إلى هناك، مرّة أخرى ذهب للقائها دون الكتاب، ومرّة أخرى تركه والخنجر مع "مَرام" التي ماتت على لسانها الكلمات، فهي تشعر أن الأميرة "نَبرة" تدبّر لشيء ما، وكانت تخشى على "أنس".
, فور أن وصل إلى البيت انطلق يفتش بعينيه هنا وهناك، لا حراس ولا خيول! فأين هي؟ خلف البيت، وفي بستان كثيف الأشجار فوجئ بصقر مهيب الطلعة ينتظره مع "نَبرة" التي رحّبت به في شىء من الحرارة، وقفت أمامه بزينتها وكأنها قطعة من الفتنة المتحركة.
, قدّمته له بإجلال، كانت تلك هي المرّة الأولى التي يرى فيها "القرناس"! ذاك الصقر الذي سمع عنه الكثير، كان يختلف في هيئته عن "الرمادي"، كان "القرناس" ذا ظهر أسود، والجسد أبيض يخرج منه جناحين مبرقشين، وذيل طويل، وعريض، ومدبب عند نهايته، ذو طرف أزرق وعلامة بيضاء على أقصاه. يظهر أعلى رأسه السوداء كما الشارب الذي يمتد على الوجنتين بلون أردوازي يتباين بشكل حاد مع جانبيّ العنق الداكنين والحلق الأبيض. اهتزّ فور أن رأى "أنس" وقال بصوت أجشّ:
, - مرحبًا أيها المحارب!
, - مرحبا أيها "القرناس".
, - أين كتابك؟
, - ليس معي.
, - من الخطأ أن تسير بلا كتابك.
, - أعرف هذا جيّدًا، والآن٢ نقطة ماذا تريدان مني؟
, تقدّمت "نَبرة" تجاهه وطالعته بشغفٍ و إعجاب وقالت:
, - صفقة!
, - أي صفقة؟
, أشارت بارتباك للقرناس الذي قال بثقة:
, - أنت تعلم أننا نحن الصقور نعرف عن التاريخ والكتب ما لا تعرفونه، فدعني أطلعك على السر.
, - أي سر؟
, - كتابك يتحدّث عن الحب، "إيكادولي" يحكي قصّة حبّ أميرة ومحارب، الأميرة وقعت في حبّه منذ النظرة الأولى، أنت محارب وها هي الأميرة.
, ثُمّ بسط جناحه مشيرًا إلى "نَبرة" وأردف قائلًا:
, - القصّة كانت تنتهي بموت المحارب، حيث سيقتله أحد الأمراء غيرة عليها، ولأن الأميرة "نَبرة" تكره هذا وتخشاه، والصفقة هنا أعرضها عليك بنفسي، فأنا لي مكانتي بين باقي الصقور. الأميرة "نَبرة" تعرض عليك أن تسلّمها الكتاب بنفسك، وتكتبا معًا قصتكما على صفحاته بدماء جرح بسيط على كفيكما، وتسلّمك نفسها وتسلمها نفسك، ليخلد حبكما إلى الأبد.
, حرّك "أنس" رأسه وقال ساخرًا:
, - أتعني أن أتزوجها!
, تطلعت إليه بنظرة كلها نداء وقالت:
, - ولماذا نتزوج! أنت تعلم أن زواجنا مستحيل لأنّك محارب، يكفينا الحبّ
, قال باشمئزاز:
, - أي حبّ هذا٢ علامة التعجب
, قالت بتهدّج:
, - الحب لا يحتاج إلى زواج!
, قال غاضبًا:
, - ما هذا الهراء! أنت تخرفين٢ نقطة
, ثارت "نَبرة" ومادت الأرض تحت قدميها، وبدلا من أن تصرخ في وجهه غطت وجهها بكفيها وبدأت تبكي، رفرف "القرناس" بجناحيه وحلّق مبتعدًا، كان الصقر يفهم ما تقدم على فعله الأميرة "نَبرة"، فانصرف وترك لها الساحة لتكمل دورها، بينما هرولت هي نحو "أنس" وقالت بخفوت:
, - أنت لا تصدّق أليس كذلك؟
, - أصدق ماذا؟
, - أنني أحبك!٢ نقطة أرجوك٣ نقطة أنا أحبك!
, شعر "أنس" بكارثة تظلله، تراجع للخلف مستعجبًا وهو يراقب عينيها المغرورقتين بالدموع وقال:
, - الحبّ لا يأتي بالتوسّل والرجاء
, - لكنه يقع على الإنسان بغير اختياره، لا أريد منك سوى القرب، دعني أسكب روحي بروحك، اسمح لي أن أحبك.
, أنهت كلماتها وعادت تبكي، كانت ماهرة في استجلاب دموعها، وبارعة في توظيف إيماءاتها ونظراتها. أقبلت عليه فقال في صوت غائر كأنما ينبعث من أعماق هاوية:
, - اتركيني٢ نقطة ابتعدي عنّي.
, شعر "أنس" بالخطر عندما بدأ يتعاطف معها! وعندما بدأت كلماتها تؤثر فيه، أسرع مهرولًا خارج البستان، وعاد والأفكار تتناطح في رأسه. وكأن عاصفة تجتاح نفسه فتحطمها وتوشك أن تحطم حياته كلها.
, ٣ علامة استفهام
,
, حلّ الليل وأطلّ القمر مختنقًا، في ضوء واهن لشمعة أوشكت أن تنطفئ ويحترق فتيلها، وكانت هناك ظلال صغيرة قد ظهرت وانعكست على الأرض يراقب أصحابها وجه "أشريا". في ركن يلفه الظلام إلا من بصيص مصباح صغير، كان جبينها مغمورًا بالعرق وهي تجلس في هوانٍ وبجوارها أمّها تمسح رأسها بالماء من آنٍ لآخر وهي ترتجف. شدّت الغطاء الصوفي على جسد ابنتها المتكورة بجوارها قبل تسقيها الدواء٢ نقطة
, خرج "أنس" ومعه "كُومبو" و "مَرام" يتحاورون، كان "أنس" قد قصّ عليهما ما حدث مع الأميرة "نَبرة، كان "أنس" متعبًا وكأنه خرج للتو من حرب، مرّت البومة البيضاء من فوقهم فصرخت "مَرام"، أخبرت "أنس" أن "نَبرة" تراقبهم وأخبرته عن تلك البومة وكيف تمنح "نَبرة" رؤى ليلية وها هي ستنقل إليها أنهم التقوا هنا ومعهم الكتاب، لاحق "كُومبو" البومة وطاردها بالقاء الأحجار عليها حتى ابتعدت، قرروا الانتقال مع "أشريا " وأمها إلى مكان أمين، حتى أم "كُومبو" ذهبت معهم، بعيدًا عن أعين الناس، وعن عيني "نَبرة" وبومتها قضوا ليلتهم غير مطمئنين، فالقلق يستبد بهم على "كلودة" المسكين، وكان الانتقال بـ"أشريا" وهي مريضة أمرًا لم تستحسنه أمها لهذا قاومتهم كثيرًا لكنهم في النهاية اضطروا إلى هذا، خوفًا من حراس "نَبرة". وكانت "أشريا" لا تزال تعاني من الحمّى، لم يخرج أحد منهم، وكانوا الثلاثة "أنس" و "مَرام" و "كُومبو" يفكرون في طريقة للوصول إلى "كلودة"، قرروا أن يحاولوا الذهاب سيرًا على الأقدام في اليوم التالي، فـ"مَرام" تعرف الطريق إلى القصر، وربّما تسطيع مساعدتهم للتسلل من أحد الأبواب. أرخى الظلام ستره، وسكنوا حيث هم، وبعد أن عانت "نَبرة" طوال النهار من نفسها التي تتقلب بين جنبيها وعاودت البكاء، فقد شغفها "أنس" حبًا وباتت مغرمة به، وقد بدأ ذاك الشغف منذ رأته بعيني بومتها في الغابة.
, خرجت ومعها تلك القطعة التي تمزّقت من قميصه، كانت تشمها وتقبّلها. وصلت في مكان ما حيث اجتمعت زمرة من النساء غليظات الملامح، لديهن أجسادُ ضخمة، ووجوه كستها صفرة كالحة. ساهمات الخدود، كأنّما تدلين على الأرض من مشنقة. جلست كلّ منهن بجوار الأخرى وشكلوا حلقةً حول الأميرة "نَبرة"، وعليهن ثياب سوداء طويلة مطبوع عليها رموز خضراء وصفراء فاقعة، كتابات غريبة ترمز لشىء ما!
, ذهبت إليهن "نَبرة" حيث أخبرتها الوصيفة أنهن سيساعدنها على استجلاب الحب لقلب "أنس"، وأنّه سيغرم بها إن نادت عليه الليلة وهن يرتلن ترانيما معيّنة بينما تعقد كبيرتهن عقدة على قطعة من قميص "أنس" الذي يحمل عرقه. وكانت "نَبرة" تؤمن أنّ السحر هو الحل! فقد فشلت في إغوائه بجمالها، فشلت لأوّل مرّة أمام رجل! وهي التي لا يصمد أمام جمالها الرجال!
, من خلفهن كان هناك بعض الغلمان يعلّقون الطبول على رقابهم، أمّا النساء الغلاظ فقد استقرّت بين أيديهن أوعية من الفخّار مجوفّة تصدر دويًا مكتومًا عندما يطرقونها بكفوفهن. رفع زعيمهم عصاه فبدأ القرع على الطبول بانتظام، امتزج صوت قرع الطبول بأصواتهم الغليظة، همهم الرجال وهم يقرعون أجراسًا نحاسية في أيديهم، ثُمّ بدأت النساء بترديد ترانيم حزينة، كان للصوت وقع مهيب ومخيف، بدأت الترانيم تتغير لنَبرة غاضبة، وتسارع إيقاع القرع على الطبول والأجراس، بدأت "نَبرة" تنفعل، اهتزّ جسدها كلّه وكأنّها أُصيبت بصاعقةٍ من السماء، وبكت بنشيج مسموع، التفّت حولها بعض النساء وقمن بحركات منتظمة، حرّكن رءوسهن وأكتفاهن بطريقة غريبة، إنّها رقصة النّار، شهقت "نَبرة" ثم قالت بصوت مخنوق وكأنّه يصدر من بئرٍ عميق، وقد نبع من سويداء قلبها:
, - "إيكادولي"
, تعالت أصوات النساء يردون عليها بنفس الكلمة، مصحوبة بنغمة حزينة:
, - "إيكادولي٦ نقطة إيكادولي"
, كانوا يطيلون الصوت بالحرف الأخير وكأنهن يَنُحنَ معها ويستجلبن البكاء، علا صوت "نَبرة" شيئًا فشيئًا، بدأت تصرخ كالمذبوحة، مرّات ومرّات، دموعها أغرقت وجنتيها، ضمّت يديها لصدرها، كانت رغبتها الجامحة إليه تستنفض على وجهها، وتسوقها في عنان الغيظ، دارت حول نفسها وكأنّها غابت عنهم، حتى انهارت وغرقت في يأسها وانحنت متقوقعةً وكأنّها تتلقى طعنة في فؤادها، تلوّت من الألم، سقطت على الأرض وهي تكررها "إيكادولي٤ نقطةإيكادولي"، بينما كان "أنس" في مكان آخر مشغولًا بحديثه مع "كُومبو" شعر وكأنّ أحدهم غرز في قلبه شوكة. حاول الوقوف على قدميه، بدأ يتقدّم ببطء كما لو كان بصدد غطسة انقطع نفسه لها ثُمّ غاب عن الوعي فجأة., خارج القائمة
 
٢١
سحر


لم ينم "أنس" تلك الليلة، كان شارد اللب ذاهل الحسّ تجيء به الخواطر وتذهب، يرى الناس حوله وكأنّهم أخيلة تتراقص، وأشباح تضطرب، كان يتصفّح وجوه "مَرام" و"كُومبو" وأمّه، و"أشريا" وأمها فينكرها ولا يعرف فيها وجها! كانت صورة "نَبرة" تتمثّل أمامه بزينتها، صوتها كان يهمس في أّذنيه نفس الكلمة التي كانت تصرخ بها وسط النساء وهي تتلوى٣ نقطة "إيكادولي"، حتى عندما أغمض عينيه رأى عينيها أمامه، رائحة عطرها التي عرفها يوم رآها كانت تخترق أنفه! انفصل عن الواقع وبدا وكأنّه قد سُلب عقله!
, سأله "كُومبو" باهتمام:
, - ما بك يا "أنس"؟
, ابتسم ابتسامة ممزقة يُخالطها الأسى، وقال:
, - أشعر وكأنّي لست أنا!
, - ربّما أصابتك الحمّى.
, تحسس رأسه فانتفض "أنس" وأبعد كفّه بانزعاج، تراجع "كُومبو" ورمقه بنظرة فاحصة ثُمّ قال:
, - هل هناك شىء ما تودّ أن تُخبرني به؟
, باضطراب ووجل طاف "أنس" بنظراته في المكان ثُمّ قال:
, - لا٣ نقطةلا٣ نقطةلا يوجد شىء.
, ثُمّ أردف متمتمًا بصوت متقطع:
, - "نَبرة"٤ نقطة أُريد "نَبرة".
, فغر "كُومبو" فاه وقال باندهاش:
, - نَبرة!
, - نعم٣ نقطة أُريدها!
, أغمض "كُومبو" عينيه وحاول أن يُعيد أفكاره إلى نصابها ٢ نقطة اقتربت أم "كُومبو" وكانت تراقبهما، قالت وهي تشير إليه بأصابع ترتجف:
, - إنّه مسحور٣ نقطة
, قال "كُومبو":
, - كيف؟ كيف يا أمي؟
, - ألا ترى عينيه!٢ نقطة وكيف يردد اسمها!
, قال "كُومبو" بتوتّر شديد:
, - قميصه! نعم٢ نقطةقميصه كان ممزّقًا يا أمي، وعندما سألته عنه و طلبت منه الجزء الممزّق لأرقعه له أخبرني بما حدث وقال إنه ترك الجزء المقطوع وراءه هناك، لا بدّ أن الخبيثة "نَبرة" أخذته وعقدت عليه سحرًا.
, خرج "أنس" من البيت القديم الذي كانوا يختفون فيه هائمًا على وجهه، حتى أنّه لم يتحدّث إلى "مَرام"، ركض وهو يترنح نحو السهول حول بيت "كلودة"، ولاحقه "كُومبو" الذي صاح فور أن رآه يتجه إلى هناك:
, - كنت فريسة سهلة، انشغلت بخنجرك وانتقالك عبر الفجوات، وكتابك العجيب، وأصابك العجب بنفسك، نسيت أنّ كلّ هذا هباء إن لم تستعصم ب****!
, قال له هذا محاولًا أن يكبح جماح تلك الوساوس والخواطر التي تجتاح صديقه الذي كان يقف أمامه منكسرًا بحلق جافّ ووجه ملتهب وهو يُردد:
, - وماذا سأفعل الآن٣ نقطة ساعدني.
, - ماذا تريد؟
, - أن أذهب إلى "نَبرة"
, - لن تذهب! ولن أتركك.
, دفعه "أنس" بعنف، وصارعه للحظات، كان أكثر منه قوّة فتراجع "كُومبو" قليلًا ثم ظلّ يلاحقه ويحدّثه، قال يذكّره:
, - أترى؟ أنت الآن تفعل ما كان يفعله "كلودة".
, - لا
, - أنت تسعى إلى الرذيلة.
, - لا٣ نقطة أنا سألتقي بها فقط، سأتحدث إليها.
, - عد يا "أنس" أرجوك، أفق قبل أن تتمزّق هيبتك
, طالعة "أنس" بعينين محتقنتين وقال صارخًا:
, - اغرب عن وجهي.
, اعترضه "كومبو" بصدره وثبّت ساقيه بالأرض وقال له:
, - إذن٣ نقطة تخطني أولًا إن أردت صعود ذلك السهل.
, ووقف "كُومبو" مكانه ولم يتزحزح قيد أنملة وظلّ يدفعه ويمنعه، ثُمّ أرهق كلاهما من دفع الآخر له، هرب "أنس" من "كُومبو" الذي كان يلاحقه ويمنعه من الذهاب لـ "نَبرة"، حاول أن يستخدم الخنجر ليصل إليها سريعًا وحرّكه في الهواء، ظهرت الفجوة فوقف أمامها وجرّب أن يردد اسم القصر، وجرّب أن يردد اسمها٣ نقطة "نَبرة"، لكنّ الخنجر لم ينقله إليها!
, ولمّا ملّ من ملاحقة "كُومبو" له انتقل إلى الغابة، فأسرع "كُومبو" وأخبر "مَرام" بما حدث، فهي وحدها تستطيع الدخول إلى الغابة. كانت "مَرام" تركض خلفه محاولة اللحاق به، بينما كان يسير بخطوات متعرّجة وبلا هدف وسط الغابة، وكأنّ هناك من يسوقه بحبل، وصلت أخيرًا حيث استطاعت أن تنادي عليه فسمعها والتفت ورمقها بعينين ذابلتين وسألها في حنق:
, - ماذا تريدين.
, كانت أنفاسها المتلاحقة تمنعها من الكلام، دقّات قلبها كانت تتواثب بسبب ركضها المتواصل من بيت "أشريا" وحتى مكان "أنس"، بصعوبة قالت:
, - لا تذهب إليها يا "أنس"٢ نقطة أرجوك.
, - لا أستطيع، لا بدّ أن أراها.
, - لا٣ نقطةلا
, صرخت فالتفت إليها غاضبًا كما لم يفعل من قبل وقال بغضبٍ هادر:
, - مرّة أخرى تصرخين؟٣ نقطة هيا انتحبي بالبكاء واضربيني بغصن شجرة كالأطفال٢ نقطة
, كانت "مَرام" تدرك أنه ليس "أنس" الذي تعرفه، حاولت أن تتماسك وقالت بهدوء:
, - أنت لست بوعيك يا "أنس"، أرجوك عد معي وسنحاول الخروج من تلك الأزمة معًا.
, - عودي أنت واتركيني، أو سيري في الغابة وحدك٢ نقطة
, - أرجوك يا "أنس".
, - ابتعدي عني.
, دفعها فسقطت على الأرض بينما أكمل طريقه غير مبالٍ بنداءاتها المتتالية، صاحت قائلة:
, - "نَبرة" لا تحبك٢ نقطة ذاك ليس حبًّا يا "أنس"، وأنت لا تحبّها
, - ومن أخبرك أنني لا أحبّها؟
, انسحقت روحها وقالت بخفوت:
, - أنا أعرف.
, - وما أدراكِ؟ هل قرأتِ أفكاري؟
, ثمّ ضحك ساخرًا وقال:
, - هل عادت لك تلك الموهبة؟
, وقفت وسارت نحوه بهدوء وقالت وهي تحدّق في وجهه بعين منطفئة:
, - لم أقرأ أفكارك٣ نقطة لكنني شعرت بك!
, حرّك عيناه كالمجنون وقال:
, - أنت لا تعلمين شيئًا يا "مَرام"، عودي إلى الغابة، إلى "ناردين" واتركيني لحالي.
, رفعت صوتها قائلة:
, - "نَبرة" تريد الكتاب٢ نقطة "إيكادولي" وفور أن تحصل عليه ستقتلك.
, صارت عيناه تقدحان شررًا مخيفًا، بحركة فجائية عنيفة أخرج "أنس" الكتاب والتفت نحو "مَرام" وألقاه في وجهها فأحدث الكتاب خدشًا بطول خدّها الأيمن وسقط أمامها على الأرض، تحسست وجهها وكان الخدش يحرقها، كادت تبكي لكنها تماسكت، قال دون أن ينظر إليها:
, - أنا ذاهب لأجلها٣ نقطة لأجل "نَبرة"، خذي الكتاب واتركيني لحالي.
, رفع خنجره في الهواء، أراد أن يقول شيئًا لكنّه كان في حالة من الهوان والضعف حتى أنّه لم يتمكن من نطق حرف واحد، كان غارقًا في غياهب فكره وكأنه قد شُلّ فجأة، اقتربت "مَرام" بسرعة وتحلّت بالشجاعة واستجمعت كلّ ما لديها من قوة وعزيمة وحدّقت في الفجوة وهي تتلاعب أمامهما في الهواء وقالت:
, - البيت القديم مع "كُومبو".
, ثُمّ دفعته بأقصى قوّة أمامها فالتقمته الفجوة، وقفزت خلفه لأوّل مـــــــــــــــــــرّة
, تبتلع خوفها من أجل إنقاذه، وفور أن وصلا ورآه "كُومبو" حيث كان ينتظرهما وهو في غاية القلق أمسك بـ"أنس" وأسنده حيث كان يترنّح وصبّ على رأسه الماء، فهدأ "أنس" وقال له بخفوت:
, - ساعدني أرجوك.
, رمقه مبتسمًا وحاول جاهدًا أن يظهر رباطة جأشه ليثبته وقال له:
, - ما أنا إلّا عبدٌ ضعيف الحيلة إن لم تقوَ أنت على الأمر بنفسك.
, - أرجوك٤ نقطة
, - ولم ترجُوني يا "أنس"! وما أملك لك أنا! اطلبها من ****!
, خرّ "أنس" على ركبتيه مسحوقًا مكسورًا، مرّت الدقائق ثقيلة عليه، كان يقاوم رغبة تنازعه وتدفعه للركوض إليها، وكان جسده يؤلمه وكأنّ هناك من يدّق كلّ جزء فيه بمطرقة من حديد، وقفت "مَرام" تبكي وهي تراه في تلك الحالة، غربت الشمس فاضطرت لتركهما، قبل انصرافها قالت له:
, - "أنس" سأرحل الآن، أرجوك تماسك.
, - ساعديني.
, - ليتني أستطيع.
, نخر الحزن قلبها بلا هوادة، أرادت أن تخبره أنّها تحبّه، كانت تغربل ذهنها باحثة عن كلمة تبثّ فيها ما تشعر به، لكنّها ضلّت الطريق إلى كلّ المعاني والكلمات! وأرادت أن تطلب منه أن يحفظ نفسه لها فكل راجفة من رواجف قلبها تهتف باسمه٢ نقطة لكنها لا تستطيع أن تخبره بكلّ هذا!
, أحدث صمتها ضجيجًا في نفسه، وتكلّم كلّ شيء فيهما دون أن يتكلّما، وانصرفت تمشي على استحياء تجرّ قلبها الممزق خلفها، وعادت حيث "أشريا". لازمه "كُومبو" ولم يفارقه، تعاهدا على اجتياز تلك الضربة القاسية معًا، قرر ألّا يتركه، وقف "كُومبو" يقلّب الأفكار في رأسه، الأحداث تتسارع، لا بدّ أن يزول أثر السحر، بينما هو غارق في الاحتمالات كلّها زفر "أنس" وكأنّ روحة تتفلت من بين جنبيه وقال بعد جهد شديد:
, - قيّدني يا أخي.
, - ماذا!٢ نقطة لم أُقيّدك يا "أنس"؟
, - قيّدني أرجوك٣ نقطة
, - اجلس واذكر ****.
, - قيّدني أولًا، حتى لا أركض نحوها، لا أُريد أن أقع فيما لا يرضي ربّي.
, - حسنًا فلننتقل إذًا إلى مكان آخر حيث أستطيع أن أغلق عليك بابا يا "أنس".
, وانتقلا معًا إلى مكان آخر، أسرع "كُومبو" بتقييد "أنس" بسلسلة من حديد، طلب "أنس" منه أن يقيد قدميه أيضًا ففعل على مضض، أغلق النوافذ، ثُمّ تراجع للخلف وهو يراقب "أنس"، وجلس على الأرض أمامه وبدأ في تلاوة ما يحفظه من القرآن، لم يكن "كُومبو" شيخًا ولا ناسكًا يتحدّث عنه الناس ويشيرون إليه، لكنه كان يحمل في قلبه يقينًا قد لا يحمله شيخ فقيه، كان ينهي القراءة ويعود للبداية فيقرأ مرّة أخرى، لم يملّ ولم يكلّ طوال الليل، بينما كان "أنس" كالوحش الكاسر يزوم في قيده، انطفأ بريق عينيه، وتسارعت دقّات قلبه، كان في الماضي مستريح النفس، خالي الفكر، لا تملكه شهوة وكان يبكي من خشية ****، فماذا سيفعل الآن وقد تبرّجت له الدنيا!٣ نقطةأين تلك اللوعة التي كان يشعر بها عند ذكر ****؟
, أغمض عينيه ودفع بآخر قواه في أتون المعركة الداخلية التي من شأنها أن تعيد نفسه إليه، دارت بين نفسه العفيفة ونفسه التي أسرتها الشهوة حرب عنيفة ملتهبة كان وقود نارها من روحه وجسمه، كان صدره ضيّقا وكأنّه يصّعّد في السماء، جرّ أقدامه وتقدّم ببطء، ارتعدت أوصاله.
, مرّت ثلاثة أيّام وهو على حاله، ينازع في قيده الذي أدمى ساقيه، يطعمه "كُومبو" ويرقيه بالقرآن ويعتني به، ويتركه لساعة يزور فيها أمه و"أشريا" وأمها، و"مَرام"، بدأ ينتشل نفسه من غيابة الجب الذي أُلقي فيه، وداس على الشهوة التي تتأجج في صدره مخافة ربّه. لم يتسنّ له التنفّس وسقط مغشيًا عليه. شعر أخيرًا وكأنّ روحه قد عُتقت من رق الجسد وارتفعت عن الأرض فهامت في السماء.
, ٣ علامة استفهام
,
, ثلاثة أيام بلياليها مضت تملّس على بعضها البعض، بنهارها العكر وليلها البهيم، وأخيرًا جلس "كُومبو" أمامه بابتسامة متعبة حزينة، عندما شعر أن "أنس" قد استرد نفسه التي رآه بها أوّل مرّة التقى به فيها، كان "أنس" ثابتًا ساكنًا بعد أن داس على الشهوة التي كانت تتأرجح في صدره مخافة ربه.
, أراد "كومبو" أن يخبره بما دار خلال الأيام الثلاثة الماضية، حيث كانت تحمل الكثير من الألم، فقد داهم الحراس ذاك البيت القديم الذي كانوا يختبئون فيه، سرقوا الكتاب "إيكادولي" من "مَرام"، وأسروا "مَرام" عندما تعرّف عليها أحد الحراس حيث كان بصحبة "حليم" عندما اشترى الجواري وكانت من ضمنهم، عادت "أشريا" مع أمها لدارهما، ما زالت أم "كُومبو" تلازمهما. أنهى "كُومبو" سرد التفاصيل على "أنس"، ووضع أمامه خنجره وذاك الكيس الذي يحتوي على قطع الكريستال التي تحوّلت إلى قطع فحم مرّة أخرى، وبجوارهما بسط الخريطة التي أعطتها "الحوراء" لأنس، ثُمّ خلع قلادة "أنس" وأعادها له فقد كان يرتديها لأن "أنس" كان قد ألقاها على الأرض في إحدى المرّات، وأخرج من جيبة الزجاجة الزرقاء الصغيرة وقال وهو يطرق عليها بأطراف أصابعه:
, - ذاك نوع من الحبر المعتّق، نوع نادر مصنوع من مسحوق حجر أسودٍ نفيس ما عاد يصنع الآن، أظنه معك لسبب وجيه.
, - ظننته دواء٢ علامة التعجب
, همس "أنس" بكلماته الأخيرة وهو في حالة انهزام نفسي وهوان شديد، أشفق عليه "كُومبو" فانطلق يحثّه ويشجعه:
, - هيا يا "أنس"، قم أيها المحارب، لا بد أن تستعيد كل شيء.
, - وكيف هذا؟
, - فكّر، فما كان "إيكادولي" ليختارك إن لم تكن أهلا لاسترداده، أشعر أنك اقتربت من النهاية، ستسترد الكتاب، وتحرر "كلودة" ليعود لعروسه، وتنقذ "مَرام" من أيديهم.
, ران عليهما صمت ثقيل، قطعه صوت "كُومبو" الذي حاول أن يخرجه من شروده عندما أشار إلى الخريطة وهو يسأله:
, - ماذا تعني تلك الأرقام التي على الخريطة؟
, بدأ يقرؤها وهو يشير إلى كلّ بقعة في الخريطة، كان يحكي موقفًا مرّ بهم معا هنا وهناك، وهناك. وبينما يتحدث بعفوية كان "أنس" ينظر في الخريطة، وثب فجأة وقد بدأ يتضح له شيء ما! تلك الأرقام تعني الكثير، وهي المفتاح، وقف وقد بدت في عينيه نظرة واثقة ولاح على شفتيه شبح ابتسامة، فسأله "كُومبو"بفضول:
, - أشعر أنك اكتشفت للتو شيئًا ما؟ أليس كذلك؟
, - بلى، أنت رائع يا "كُومبو".
, قالها وطلب منه ألا يغادر مكانه، وبدأ يحرّك خنجره في الهواء، تارة يقول قصر "الحوراء"، وتارة يقول الغابة، وتارة يقول بيت كلودة، كان يختفي لدقائق ثُمّ يعود وينبثق من الهواء، وكان الأمر يبدو لـ"كُومبو" مضحكًا ومخيفًا في الوقت نفسه.
, وبينما يتنقل "أنس" ويتحدّث مع "الحوراء" و"سامي كول" و"المغاتير" والعجوز "ناردين" و"المجاهيم"، وخلال فجوة منهم ظهر له فجأة "شهاب" وجذبه من قميصه بعنف إلى بيته الذي زاره فيه بالغابة والذي لم يعثر عليه مرّة أخرى، كان غاضبًا للغاية، ألصقه بالجدار وغرس عينيه في عيني "أنس" وصرخ في وجهه قائلا:
, - أتظن أنّك ستغيّر شيئًا أيّها الأحمق؟ أنت مجرد حرف لا قيمة له٢ نقطةأنت مجرّد علامة، رمز لا يلتفت إليه من يعيش هنا، وجودك غير هام بالمرّة، أنت لا شيء٣ نقطة ولن تغير شيئًا.
, - ما كنت لأغيّر الماضي، أنا فقط سأجاهد لكي أستعيد الحقيقة كما كتبها صاحبها أوّل مرّة.
, - أنت أضعف من أن تعيد الحروف، وعقلك أضيق من أن يستوعب تلك الكلمات، أنت بلا فائدة.
, - سأكون علامة ترقيم تزيد المعنى وضوحًا، حرف عطف يقرّب بين معنيين، وفاصلة تفصل بين كذبتين، ونقطة تنهي بعض الجمل المؤلمة، وعلامة استفهام بعد سؤالٍ بليغ، وربّما قوسين يضمّان الحقيقة التي أؤمن بها، أو قوسًا يغلق جملة ما فينهي حقبة بأكملها!
, - لن تفعل يا "أنس".
, - بل سأفعل إن شاء **** يا "شهاب".
, - مستحيل.
, - كلّ شيء ممكن طالما أنّك تسعى وراءه وتطلبه.
, - لن تستطيع.
, - راقبني إذن.
, - سأراقبك٣ نقطة ولن أسمح لك بإفساد كلّ شيء.
, أفلت منه "أنس" وغاص في الفجوة، ثُمّ عاد إلى حيث كان "كُومبو" مستلقيًا على الأرض ينتظره، سأله بملل وهو يتثاءب:
, - لماذا تأخّرت هذا المرّة يا "أنس"؟
, بصوت واثق ونظرة ثاقبة سحبه من ذراعه وقال له:
, - الآن يا "كُومبو" ستنتقل معي خلال الفجوات، وسنذهب جميعًا لإنقاذ "كلودة" و"مَرام"، هل أنت مستعد؟
, ازدرد "كُومبو" ريقه بصعوبة، وهمس بخفوت:
, - أنا مستعد.
, قال "أنس" وقد تألّقت عيناه وأطلّ منهما بريق روح المحارب التي تسكنه:
, - الآن نعالج الأمور على طريقة عالمكم العجيب بإذن ****، هيّا بنا.
, حرّك "أنس" خنجره في الهواء، فانبثقت فجوة تتلاعب وتموج ألوانها في بعضها البعض، ثُمّ دلف فيها ساحبًا معه صديقه "كُومبو"., خارج القائمة
 
٢٢
روح المحارب


كانت العجوز "ناردين" جالسة أمام كوخها عندما ظهر "أنس" وبصحبته "كُومبو" من خلال فجوة أمامها، حيّاها بإجلال ومدّ يده فأعطته عكازها الذي تتكئ عليه، وكأنّها تسلمه شيئًا عظيمًا أو تقلّده وسامًا! كان عكازها يعني لها الكثير، غصن شجرة غليظ ومتين سحبته يوم ألقت بها زوجة ابنها في الغابة، كانت تنصت لأنينه، وينصت لهمساتها، يؤنسها الغصن وتستأنس به، ومنحها سرًا عظيمًا. قالت بصوت مرتعش تصاحبه بحّة لطيفة:
, - لا تنس يا "أنس"، ثلاث طرقات ثُم انتظر، وأتبعهم بطرقة وسيكونون طوع أمرك.
, حياها بحبورٍ، وعاد يحرّك خنجره في الهواء، انتقلا إلى قصر "الحوراء"، كان "كُومبو" يرتعد، تلك كانت أول مرة يرى فيها "المغاتير"، كانوا يقفون في صفوف منتظمة وهم يمتطون خيولهم بكبرياء وعلى رءوسهم قلنسوات زرقاء وقد تلثّموا بمناديل بيضاء تخفي ملامحهم عن الناظرين، توقفوا أمامه وترجل أحدهم مقتربًا من "أنس" وحيّاه بوقار قائلًا:
, - طوع أمرك أيها المحارب.
, كان ذاك الزاجل الأزرق"، والذي كان لحضوره أثر عميق في نفس "أنس"، فقد شعر بالطمأنينة بعدما تحدّث معه في مرّة سابقة من تلك المرّات التي كان يلج فيها خلال الفجوات منتقلًا إلى القصر. رفعت "الحوراء" يدها وأصدرت لهم الأمر، وفور أن حرّك "أنس" خنجره في طبقات الهواء وردد اسم قصر الملك "كِمشاق" ٢ نقطةانبثقت الفجوة، وبدأ المغاتير يقفزون فيها واحدًا تلو الآخر بخيولهم، تبعهم "أنس" ومعه "كُومبو" وعندما اطمأن أنهم يقفون على السهول قريبًا من القصر ترك "كُومبو" معهم وانتقل من خلال فجوة أخرى حيث "المجاهيم"، وطلب منهم الأمان، وتعاهد معهم أن ينقلهم من خلال فجوات خنجره إلى حيث يستطيعون السيطرة على ما تحت أرض قصر الملك "كِمشاق"، لتتوسع مملكتهم، فتلك هي الطريقة الوحيدة لكي يتمكنوا من عبور الفاصل الحجري الذي يحبسهم في الغابة وبسببه لا يخرجون منها، مقابل أن يعينوه على اقتحام القصر وتحرير صديقه "كلودة"، و"مَرام" التي كان يتحرّق شوقًا للاطمئنان عليها، وافق زعيم "المجاهيم"، وأعطاه الأمان له ولرفاقه وللمغاتير، فسمح لهم "أنس" بالانتقال عبر الفجوة، لم يرهم "المغاتير" ولا "كُومبو"، لكنهم سمعوا أصواتهم فقط بجوارهم فأصابهم الرعب الشديد وقد كانوا حولهم في كلّ مكان، لكن "أنس" وحده كان يستطيع رؤيتهم، في الجهة المقابلة غير بعيد ظهرت كوكبة من الفرسان يتقدمها أحدهم يبدو كأنّ له شأنًا عظيمًا بينهم، ربّما فارس عال المرتبة، كان وشاحه من قماش فخم محفور بفراء ثمين مختلف ومميز عن بقية الفرسان، كان ذاك "حليم" يستعد للدفاع عن قصر الملك الذي يفديه بحياته، والذي يثق به ثقة عمياء، فقد أربكهم ذاك الحشد وهو يقترب.
, كان فارع الطول، له وجه يشع مهابة، ينفث الرعب في قلب أي غريب. تقدم وحيدًا بجواده ثُمّ توقف، استعار "أنس" جواد "الزاجل الأزرق" وامتطاه بقفزة واحدة، وسار وحيدًا حتى وقف في مواجهة "حليم" الذي أومأ يحييه وقال:
, - هربت مني المرّة السابقة، ليتني ثقبت قلبك ولم أستمع لنصيحة الأميرة "نَبرة".
, - كان من حسن حظي أن حررتني بنفسها من أسرك لتنكشف لي نواياها.
, - ماذا! أنت كاذب!
, - لست بكاذب، ولك أن تسأل حرّاسها الذين يلازمونها، واسألها أيضًا عن كتاب "إيكادولي" فهو معها الآن.
, - أنت كاذب!
, - أنا لا أكذب، وأستطيع أن أكشف لك الحقيقة كلها، وما لا تعرفه أيضًا! ولتعلم أن اقتحامنا للقصر سيتم لا ريب! وسأكون بعد قليل في ديوان الملك، وسأضرب عنقه.
, شهر "حليم" سيفه وقال وهو يشير إليه به:
, - لن تمرّ٣ نقطة سأقتلك قبل أن تفكر في الأمر.
, تفحّص "أنس" بهدوء ملامح "حليم"، ثُمّ قال له:
, - أتذكر عندما سألتك عندما وقعت في أسرك عن أي عام نحن فيه؟
, - نعم ٢ نقطة أذكر.
, - حسنًا٣ نقطة إلى أي حد أنت مغامر؟
, - ماذا تعني؟
, - لو رأيتني أقفز في الهواء بجوادي هذا خلال فجوة معلّقة في الهواء، هل ستقبل أن تقفز إليها بجوادك خلفي؟
, تردد قليلًا ثُمّ شدد قبضته على سيفه وقال متحفّزًا:
, - ولو قفزت للجحيم سأقفز خلفك.
, ابتسم "أنس" بعد أن سمع جملته الأخيرة، وتراجع بجواده إلى الخلف خطوتين ثُمّ حرّك خنجره في الهواء وقال "مملكة الجنوب"٣ نقطة ثلاثة وعشرون٣ نقطة
, انبثقت الفجوة وتعلّقت في الهواء، التفت نحو "حليم" ودعاه ليتبعه، وقفز خلالها قبله، وخلفه وقف"حليم" مترددًا للحظات، ثُمّ قفز واختفى كلاهما لوقت تعدى النصف ساعة. ظنّ المغاتير أن "أنس" لن يعود، ووقف "كُومبو" يقرض أظافره، وأخيرًا عاد وكأنه يقفز من رحم الهواء وتبعه "حليم"، دار كلاهما حول الآخر بفرسه، ثُم توقف "حليم" ونكّس رأسه لوقت وجيزٍ كان كافيًا لاتخاذ أهم قرار في حياته، قالها بثقة وهو يحدّق في رأس جواده:
, - كما اتفقنا٣ نقطة اتركه لي يا "أنس"، واهتم أنت بصديقك.
, قال "أنس":
, - و"مَرام"؟
, - عندما تنقذ صديقك، وعندما أفعل ما عليّ أن أفعله، سأقلب القصر بحثًا عنها، وسأنقذها بنفسي.
, - كلمة شرف؟
, - نعم أيها المحارب٢ نقطة كلمة شرف!
, حدث كلّ ذلك و"المغاتير" و"كومبو" وحتى "المجاهيم" كانوا في دهشةٍ شديدة. تراجع "حليم" وأمر الجنود بالبقاء في أماكنهم على بوابات القصر وفوق سطحه، ودلف إلى داخل ديوان الملك "كِمشاق، وعلى عينيه تستقر نظرة غريبة. كان "أنس" يلملم شتات فكره، ويحاول التركيز على إنجاح خطّته، بقي أن يستدعي الصقور، وقبل أن يحرّك خنجره في الهواء، كانوا يفدون أفواجًا فوقهم حتى أظلمت السماء، تحرّك "المغاتير" وتبعهم "المجاهيم" وأحاطوا القصر من جهاته الأربعة، وارتفعت الصقور فوقه فحجبت ضوء الشمس عنه فارتج الملك "كِمشاق" وحاشيته، وخرج الجميع بأسلحتهم، وغطت الغربان القصر فاسودّت نوافذه من الخارج، وارتص الحراس بالنبال واتخذ عدد من الرّماة أوضاع التصويب نحو "المغاتير"، ووقف جند القصر شاهرين سيوفهم وحرابهم أمام البوابات، وبدأ صدام عنيف.
, ٣ علامة استفهام
,
, كان "أنس" يقف أمام القصر بثقة حيث رفع صوته وصرخ بأقصى ما أوتي من قوّة مناديًا على الملك "كِمشاق"، لم يخرج إليه أحد، كان يمسك بعصاة العجوز "ناردين" التي سلمتها له، رفعها في الهواء ثُمّ ضرب الأرض ثلاث ضربات متتاليات فأحدث دويًا خلع قلوب كلّ من بالقصر، وانتظر قليلًا ثم قال :
, - اخرجي بأمر ****.
, ثُمّ ضرب ضربة قويّة فانغرست العصاة في الأرض التي بدأت تنشــــــــــق وتتفتـــــــــــــــــــــح جنباتها بسرعة، وبرزت وشائج أشجار متشابكة ظلّت ترتفع وتتشابك وتسير كما تسير الأفاعي هنا وهناك، شلّت أركان القصر، وسحبت الجنود والتفت على سيقانهم ثُمّ سحبتهم لباطن الأرض فابتلعتهم جميعًا فارتبكت الغربان وانتفضت تتخبط في بعضها البعض محلّقة بعيدًا وسقط منها ما سقط. التفت تجاه "الزاجل الأزرق" وتبادل معه نظرة ذات معنى فاقترب منه، ثم استدار نحو زعيم "المجاهيم" الذي دنا منه في الحال، ثُم أشار للرمادي فاقترب، كاد "كُومبو" أن ينضم إليهم، فقال له "أنس":
, - "كُومبو" انتظر أنت، من أجل أمك و"أشريا" وأمها، ولو لم أعد وكتب **** لـ"مَرام" النجاة، عاهدني أن تساعدها على العودة لقصر "الحوراء" إن لم ينجُ أحد من "المغاتير" ليعود بها.
, أومأ "كُومبو" برأسه في صمت ووجوم، شدّ على كفّه متأثرًا حتى أن عينيه الضاحكتين امتلأتا بالدموع، خشي أن يكون هذا الوداع! ووقف في رهبة يراقب "أنس" الذي حرّك خنجره في طبقات الهواء قائلًا:
, - ديوان الملك "كِمشاق"
, انبثقت الفجوة فدلف منها "أنس" مع "الزاجل الأزرق" و زعيم " المجاهيم" الذي لا يراه إلا "أنس" ومعهم الرمادي، فوجيء الملك "كِمشاق" ومن حوله بظهورهم أمامهم، كان أول ما روع "أنس" هو رؤيته لـ"كلودة" وهو معلق من قدميه، كان الساحر "قرجة" يجلس تحت رأسه، وبين يديه كتاب "إيكادولي"، يستعد لكتابة أول عبارات فيه على طريقتهم بدماء كلودة بعد أن يثقبوا قلبه، وكانت "نَبرة" تمسك بسهم وتستعد، اهتزّت يدها عندما رأت "أنس"، لكنها عادت تطالعه كذئبة جريحة ما زال بها بعض خبث ودهاء، كان الغل والغضب يطغى على مشاعرها، إن لم يكن هو لها، فالكتاب سيكون!
, وإن كُتب على صفحاته باسمها واسم أخيها وعلى شريعتهما التي تكفر بكل شيء إلا ملكهما، فذاك سيجعل "أنس" أسيرًا لديها لأنه فشل في استرداد كتابه، ستسيطر على كل شيء، هكذا كانت تظن، أسرعت نحو "كلودة" ورشقت السهم في قلبه، فصرخ صرخة مدوية وبدأت الدماء تسيل منه، وبدأ الساحر يجمعها في إناء صغير و يكتب بها في صفحة من الكتاب، بينما وقف أمامه رجل ضخم الجثّة يحمل سيفًا ويحرّكه مهددًا في الهواء أي شخص يفكر في الاقتراب من الساحر، صرخ "أنس" مطلقًا إشارة الهجوم فانقض "المجاهيم" على بقية الجنود واحدًا تلو الآخر وفور أن رأى المغاتير سقوط الجنود أمامهم، انطلقوا وبدأوا يقتحمون القصر بالتدريج، بينما انقض "الزاجل الأزرق" على الفارس الذي كان يحمي الساحر وهو يكتب وبارزه حتى جندله بسيفه وصرعه فأحاط به آخرون، استمر يضرب ويجندل، وحوله زعيم "المجاهيم" يصرع بعضهم هنا وبعضهم هناك يخنقهم ويحبس أنفاسهم ، من بينهما وهما يساعدانه تسلل "أنس" مقتربًا من الساحر وضربه ضربة بالسيف فقطع ذراعه التي كان يكتب بها، ثُمّ قطع الحبال التي كان "كلودة" معلقًا بها من قدميه، كان "كلودة" يتألّم وبدا وكأنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة، نظر إليه "أنس" فألفاه ساكن الأطراف، شاخص البصر، وصدره يرتفع وينخفض وشفتيه تختلجان، فالتفت واستلّ خنجره وحركه في الهواء لينتقل به إلى الغابة حيث العجوز "ناردين"، وسحبه معه خلال الفجوة، هرولت العجوز تجاههما وفور أن رأت "كلودة" شهقت وانحنت تتحسس السهم المرشوق في قلبه، رفعت عينيها تجاه "أنس" وقالت له:
, - هل أحضرت الزجاجة التي سألتك عنها؟
, - نعم٢ نقطة ها هي، ولكن هل أنت على يقين مما أخبرتني به؟ لقد أخبرني "كُومبو" أنّها حبر معتّق!
, ابتسمت العجوز، وهزّت رأسها بثقة، ثُم سحبت زجاجة الحبر الزرقاء من يدي "أنس"، وفتحتها بحرص، قرّبتها لأنفها أوّلًا وشمّتها ثُمّ قالت بصوت واثق:
, - الآن يا "أنس"
, قبض "أنس" على السهم الذي رشقته "نَبرة" في قلب "كلودة"، وانتزعه بقوّة، فانفجرت الدماء من الجرح، كانت الدماء حالكة السواد! ارتجّ قلب "أنس" فزعًا وهو يراها تسيل، وضعت العجوز كفّها عليها وهمست:
, - يكفي٢ نقطة يكفي.
, فتوقفت الدماء عن السيلان وبدأت تقطر من الزجاجة داخل الجرح نقطة نقطة، ورفعت رأسها تجاه "أنس" قائلة:
, - اتركه الآن ولا تقلق عليه، وعُد لتنقذ "مَرام"، فلن أستطيع علاج جراحها هنا!
, انتفض "أنس" وشعر بالخوف يعتصر قلبه، حرّك خنجره في الهواء وعاد لقصر "كِمشاق"، كانت المعركة ما زالت مستمرة، وكانت "نَبرة" والتي كانت تكفكف دماء "كلودة" التي استحالت سوادًا على الأرض وتكتب بنفسها في كتاب "إيكادولي"، فور أن رأته يقترب احتضنت الكتاب وفرت به. بينما كان "حليم" يغرس سيفه في قلب أخيها "كِمشاق"٢ علامة التعجب ويراقبه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثمّ سحب سيفه ورفعه وهتف بصوته ممجدًا ذكرى أبيه فهزّ أركان القصر، هنا يعلو سلطان الملك على سلطان الصداقة، كانت نظراته كالبرق المتطاير من عين جواد مفترس، توقف الجند عن القتال والتفوا حوله يأتمرون بأمره بعدما صارت الغلبة والسلطة له منذ تلك اللحظة، بينما انسحب "المغاتير" بأمر "الزاجل الأزرق" وعادوا أدراجهم على السهول حول القصر، وعادت الصقور تحلّق بعد أن فتكت بمجاميع الغربان التي كانت قد تبقّت حول القصر، كان " القرناس" قد حمل "مَرام" وطار بها بعيدًا دون أن يلتفتوا إليه، وانطلقت "نَبرة" على جوادها وهي تحتضن كتاب "إيكادولي" يحميها رجالها بالنبال ويرشقون كل من يتبعها، كانت تتجه نحو الجبل الأحمر.
, ٣ علامة استفهام
,
, بكلمات مقتضبة تحدث "حليم" حيث كانت دماء "كِمشاق" لا تزال على سيفه، لم يجرؤ أحد أن يناقشه، فقد كان قوي الشكيمة، حتى نقطة ضعفه الوحيدة - وهي حبّه لـ"نَبرة"- تلاشت عندما تبعثر تلك الليلة التي اقتحمت فيها "أُونتي" الحفل وتحدّثت معه بكل أريحية وصراحة، وأخبرته بقصتها مع "كلودة" وكيف كانت تحبه لكنها الآن تشعر وكأنه شبح عديم الملامح مرّ بها، كانت تدرك أنها ركضت خلف شهوة، نعم، لقد أطلقت العنان لجسدها ليمتطي روحها وكانت تتصرف كالحيوانات، وها هي نادمة، فالحب لا يأتي بالتوسل. أنصت إليها وتأمّل حال نفسه وما يراه من "نَبرة" من إهانات متوالية، وهي تنفر منه وتهينه وتقاومه، قرر أن يخرجها من قلبه، وكان لكلمات "أُونتي" وقع عظيم في نفسه.
, تقدّم "أنس" ووجه الكلام إليه بإجلال أمام الجميع ليثبّت أركان ملكه الجديد، وطلب منه ما وعده به مسبقًا:
, - جلالة الملك "حليم".
, هزّ "حليم" رأسه وفي عينيه نظرة امتنان على تلك اللمحة التي تركت أثرًا على حاشية الملك البائد "كِمشاق"، وأصدر الأمر لجنوده ليفتشوا القصر بحثًا عن "مَرام"، كانت "أُونتي" تنتحب في غرفتها وتبكي شقيقها "كِمشاق"، وكانت تخشى ما هو قادم. أخبرتهم أن المسكينة "مَرام" الآن بين يدي أختها "نَبرة" وهي في طريقها لتلقي بها من فوق الجبل الأحمر.
, كان "حليم" يقف بإجلال أمامها، أراد أن يشرح لها سبب قتله له، والذي صحبه "أنس" خلال فجوة ليكشفه له، ففوجئ بها تعرف السبب! فقد أسرّت لها أمّها به قبل أن تموت، ران عليهما صمت طويل وحولهما بعض المقرّبين، توقفت عن البكاء، وأخبرته أنها سترحل وتترك القصر فرفض بشدّة، وخيرها بين أن تظلّ في القصر معززة مكرّمة، أو أن تختار مكانًا قريبًا ليأمر ببناء قصرٍ جديد يليق بها وتكون تحت رعايته، كانت حائرة ومكلومة فلم تجبه، فتركها لتهدأ، وأمر حراسه بألا يتركوها تغادر القصر، وانصرف وقد بدأ يحمل لها في قلبه من المشاعر ما قد يغير مصيرهما يومًا ما!
, ٣ علامة استفهام
,
, حرّك "أنس" خنجره في الهواء وشعر وكأنه يشق به صدره وردد بصوت مرتعش:
, - قمّة الجبل الأحمر.
, انبثقت الفجوة وكان يتعجل ظهورها ودقّات قلبه تتواثب، كان يخشى أن يصل فيراها صريعة وقد فارقت الحياة، كان قلبه ينتفض بين ضلوعه وهو يقفز في الفجوة ليصل إلى هناك، حيث كانت "نَبرة" تقف وقد انحنت تكتب نهاية قصتين، أنهت أولهما بموت المحب "كلودة" الذي كان يعشق "أشريا" لكنّه أخطأ وفطر قلب أختها، وكادت تنهي الأخرى بموت "مَرام"، كانت "مَرام" مقيّدة من يديها بحبل طويل، أوقفها رجال "نَبرة" على حافّة الجبل الذي غطى الجليد قمّته، وتحلّقت فوقه سحب حمراء، قيل إنها من دماء المحاربين الذين قُتلوا ظلمًا من قبل، على مر السنين، ولم يسمع بهم أحد، كانت "مَرام" تحدّق في السحب وعليها سكينة عجيبة! وكأن روحها قد سقيت صبرًا وثباتًا حتى رضيت واطمأنت.
, أما "أنس" فكان يقترب في وجل وحرص شديدين وهو يراقبها ويتلفت ويراقب "نَبرة" وهي تكتب، كان الحراس على مسافة بعيدة منها، يحمون ظهرها و يراقبون الطريق، ووقفوا في حالة استعداد لصدّ أيّ هجوم جديد، حاول "أنس" أن يتخطى "نَبرة" ليقترب من "مَرام" وينقذها، لكنها انتفضت وشعرت به، فأسرعت وركلت "مَرام" من ظهرها فسقطت من فوق قمّة الجبل وهي تصرخ، انطلق "أنس" يركض نحو حافّة القمّة وأغمض عينيه وقفز فحلّق كما أخبرته "مَرام" من قبل٢ نقطةأنّ المحاربين وحدهم يستطيعون التحليق كالصقور حول الجبل وفي نطاق الغابة، لكنها لم تجرؤ يومًا على فعلها، ولأنها فقدت مميزاتها كمحاربة منذ عادت ودخلت الغابة لتتبع "أنس" لم تتمكن من التحليق مثله، كانت تهوي بسرعة شديدة نحو القاع، تذكّر "أنس" ما أخبرته به عن "قطرة الدمع"، فضمّ يديه إلى جنبيه وألصق ساقيه ببعضهما وانطلق بسرعة شديدة وسبقها لثقل وزنه عنها ثمّ بحركة خاطفة التقطها من الحبل الذي قيدتها به "نبرة"، شقهت عندما شعرت أن هناك من يجذبها وكانت قد أغمضت عينيها بعد أن نطقت بالشهادتين تنتظر الموت والفناء، فتحت عينيها فوجدت نفسها معلّقة في الهواء، رفعت رأسها فرأت "أنس" وهو يمسك بالحبل ويرتفع ويرتقي ويحلّق وكأنّه صقر يطير بجناحين، صعد بها شيئًا فشيئًا وكان يتعجب من قدرته على الانتقال من طبقة لأخرى في الهواء، حتى شعر أنه يستطيع أن يثبّت نفسه معلّقًا كما تفعل الطيور في الهواء، فعلها للحظات وثَبُتَ ونظر إلى معصمها فإذا بالحبل ينغرس في لحمها يكاد يذبح يديها، وكذا كان أثره مؤلما في يده، بدأ يسحب الحبل ليمسك يديها فتأرجحت وكاد الحبل ينفلت من يده فشخصت نحوه وصرخت صرخة انخلع لها قلبه، شدد قبضته على الحبل وأسرع يرفعها حتى وصلا لبروز حجري عريض قُرب قمّة الجبل تعلوه ندف السحاب الأحمر التي تشكل تلك الحلقة الحمراء، رنا إليها بإشفاقٍ وهو يتحسس يده وذراعه حيث كان يلف عليها الحبل، كانت تحرقه بشدّة وتوجعه، وكذلك يداها، أجهشت "مَرام" بالبكاء، قال "أنس" وصوته يقطر حنانًا وحبًا:
, - ذكريني بعد أن ينتهي كلّ شيء أن أخبرك بشيء ما، شيء يهمنا معًا٣ نقطة ذكريني يا "مَرام".
, بلا كلام، وفي مساحة من الزمن لم تُحسب، وفي عالم عجيب لم يعرفا موقعه لكنه احتل من قلبيهما مكانًا قصيًّا، كان قلبه وقلبها متناغمين في الدقات، فكل دقّة في صدرها صداها قويٌّ في صدره، كانت روحه وروحها منسجمتين بلا عناق، نفسٌ٢ نقطةوأخرى تريد أن تسكن إليها، لكنهما يتعففان رغم كونهما على حافة جبل حيث لا تراهما عيون الناس، لكنهما على يقين أن ربّ الناس يراهما.
, أخرج خنجره وحرّكه في الهواء وانتقلت قبله "مَرام" إلى الغابة وتبعها خوفًا عليها، لم يحب أن يتركها وحيدة مرّة أخرى، في تلك اللحظة الخفيفة فور اختفائها داخل الفجوة أمامه بدت وكأنها فجوة تفصل شطري حياته، كان يحبّها حبًا نقيًّا ملائكيًا، وأمام كوخ العجوز "ناردين"كان "كلودة" قد برأ وكأنه لم يُصب بسهم من قبل، أعاده "أنس" لعروسه وداره، وأعاد "كُومبو" إلى أمه، ونقل "المغاتير" إلى قصر "الحوراء" مع "مَرام"، ثُمّ عاد للغابة ليردّ للعجوز "ناردين" عكازها الذي تتكئ عليه، كان الغصن يحنُّ إليها كما كانت هي تحن إليه! وقف "أنس" أمامها وقال بعد أن حيّاها وشكرها:
, - ها هو عكّازك يا أمي.
, احتضنت العجوز عكّازها وكأنّ عزيزًا كان غائبًا ورُدّ إليها، قرّبته من أذنها وبدت وكأنّها تنصت لشيء ما، ثُمّ رفعت عينيها تجاه وجه "أنس" وقالت:
, - كنت أعلم أنّه سيحبّك يا "أنس"، لم يخب ظنّي بك، منذ اللحظة الأولى وأنا أشعر أنّك شاب نقيّ.
, ابتسم "أنس" ووضع يده على كتفها وقال بحنان بليغ:
, - والآن يا أمي، هل ستقبلين هديتي؟
, - أيّ هدية!
, - رحلة .
, - إلى أين؟!
, - مفاجأة!
, - أخبرني أرجوك، فأشجار الغابة لن تسمح لي بالرحيل أبدًا.
, - حتى من الفجوات التي أحدثها بخنجري؟
, - سيسحبونني منها يا ولدي٤ نقطة سيرفضون.
, رفع "أنس" صوته وكأنّه يودّ أن تسمعه كلّ أشجار الغابة وقال:
, - سأنقلك إلى بيتك٢ نقطة إلى ولدك يا أمي٢ نقطة فأنت تشتاقين لرؤيته وقلبك يتوجّع.
, اهتزّت أشجار الغابة وعلا همسها وضجيجها حتى أن "ناردين" رفعت يديها على أذنيها وهي تسأله:
, - وكيف عرفت عنوانه!
, - سألت أنا و "كومبو" وأخيرًا وصلنا إلى ولدك الحبيب ولقد رأيته يقف أمام داره ويلاعب أبناءه، كم هم رائعون!
, شعرت العجوز بارتباك شديد، كانت مشاعرها تتأرجح بين شوقها لرؤية ابنها وبين خوفها من أن يكون قد أقرّ ما فعلته زوجته، كانت تخشى أن تكشف ال**** عن الحقيقة، فهي لم تسمع أيّ خبر عن أنّه جاء ليبحث عنها، حتى عندما تخبرها أشجار ونباتات الغابة عن دخول أحدهم أو حتى وفاته كانت تذهب لتتحرى الأمر وتتصفح الوجوه لعلّها ترى وجه ابنها بينهم، لكنها كانت تصاب دومًا بخيبة الأمل، وتعود مكسورة القلب إلى كوخها.
, قالت وقد دمعت عيناها:
, - لا يا "أنس"٢ نقطة اتركني هنا كما أنا بين أشجاري.
, طربت الأشجار لما سمعته، حلّ السكون وعاد الجميع لينصت لحديثهما، حاول "أنس" أن يشجعها ويبث في قلبها الطمأنينة فقال وهو يبتسم:
, - أحد أحفادك يُدعى "بدر" وله وجه كالبدر يا أمي، حقًا إنه خفيف الدم.
, ابتسمت العجوز بفمٍ مفضوضٍ وكان لابتسامتها البريئة أثرٌ بليغٌ في قلب "أنس" الذي أردف قائلًا:
, - وشقيقته الصغرى تدعى "شموس"! يبدو أن ابنك يكثر من مراقبة السماء! أخشى إن أنجب ***ًا جديدًا أن يسميه "رعد" أو "برق"!
, ضحكت "ناردين" وأمسكت بذراع "أنس" وقالت بفضول:
, - متى ذهبت.
, - قبل أن تظهر عليّ أعراض السحر، وانشغلت بما عرفتِه عنّي فأجَّلت إخبارك حتى اللحظة.
, قالت وقد بدت علامات الخوف على وجهها الطيّب:
, - وهل٣ نقطة رأيت زوجته؟
, - لا، كان هو فقط من يداعب الصغيرين أمام داره، وكان أشقاؤهما الأكبر عمرًا يجلسون في هدوء وسكينة، هيّا بنا، الوقت يمرّ٢ نقطة
, - لحظة يا "أنس"، سأرتدي ثوبًا آخر وأغسل وجهي.
, أسرعت "ناردين" وقد دبّ النشاط في أوصالها وهرولت تجاه الكوخ وبعد دقائق كانت تقف أمامه بابتسامة رائعة كانت هي أبلغ زينتها، حرّك "أنس" خنجره في الهواء فظهرت الفجوة، امتدت وشائج الأشجار واقتربت من ساقي "ناردين" وكادت تلتف حولها، لكنها لم تجرؤ! توقفت عن الزحف وعادت إلى أماكنها بينما كانت "ناردين" تراقبها بعينين مغرورقتين بالدموع، دلف "أنس" إلى الفجوة بعد أن أمسك بذراع "نادرين" تاركين خلفهما أشجار الغابة تهزّ أغصانها وتئن وتبكي في نشيج عجيب، يخشون أن ترحل للأبد! علت أصوات الأغصان وهي تتشابك وتتخبط وتهتزّ، فهناك خطب جلل قد حدث في تلك الغابة!
, رحلت الحبيبة "ناردين"، رحلت تلك التي تمنح الحبّ للجميع، و لكلّ من يمرّ من بين ضلوعها!
, كان لا بدّ أن ينقلها "أنس" إلى بيت ابنها فما كانت لتخرج من حدود الغابـــة
, وتتخطى ذاك الحاجز الحجري إلا بواسطة الفجوة التي يفتحها بخنجره، بعد لحظات خرج "أنس" من الفجوة ويده في يد العجوز التي شهقت فور أن رأت أمامها ابنها يقف بقامته المتوسطة الطول ووجهه المستدير، كان يحمل فتاة صغيرة رائعة الجمال، اقترب "أنس" منه وكانت "ناردين" تتأبّط ذراعه بيدها اليسرى بينما تتكئ بيدها اليمنى على عكازها، كان يطعم ابنته حبّات من التوت بحنان ولطف، فور أن وقعت عيناه على وجه أمه انتفض ووضع الصغيرة على الأرض ثُمّ وثب وصرخ كطفل صغير مذهول:
, - أمي٣ نقطة إنها أمي٣ علامة التعجب
, صاحت "ناردين" وقد انهمرت دموعها في الحال:
, - "ربيع"!
, هرول "ربيع" تجاه أمّه وانكب عليها يقبل يديها تارة ويقبل رأسها تارة أخرى وقد اختلطت دموعه بدموعها، كان يبكي وهو عاجز عن الكلام، لم يجد كلمة تعبّر عمّا يعتمل في صدره، مسحت "ناردين" وجهه بكفّيها وقالت بصوت تقطعه الدموع:
, - اشتقت إليك يا حبيبي، دعني أشمّك يا "ربيع"، أشتاق رائحتك.
, أجهش "ربيع" بالبكاء، وعانقها وظلّت تشمّ عنقه وهو يبكي في حضنها، قال بعد أن تحامل على نفسه:
, - بحثت عنك كثيرًا في كلّ مكان، ظننت أنك هربت من الدار، كُنت أعلم أن زوجتي لا تحبّك.
, وضعت العجوز يدها على فم ابنها لتسكته وقالت:
, - هسس٣ نقطة لا ترفع صوتك يا "ربيع" حتى لا تسمعك.
, - لا تخافي يا أُمّي، لقد طلّقتها.
, - ماذا!
, - قلبت حياتي جحيمًا فطلّقتها وتركتْ الصغار بكلّ قسوة وتخلّت عن أمومتها.
, قالت العجوز بألم:
, - وحرمتني من أمومتي ومنك.
, احتواها "ربيع" في حضنه وقال بحنان:
, - لا يا أمي، لن يحرمك أحد مني أبدًا بعد الآن.
, ثُمّ حمل صغيرته وقرّبها من وجهها وقال لها:
, - لقد تزوجت "سندس" أتذكرينها، وأنجبنا "بدر" و"شموس"، انظري يا أمّي٢ نقطة هيّا هيّا احمليها.
, ورفع صوته ينادي زوجته التي كانت تخبز فوق سطح الدار، أجابت زوجته النداء وهبطت الدرج على عجل وأسرعت تجاهه بوجهها الطيب، تذكّرتها في الحال فقد كانت تقطن في البناية المجاورة مع أمها التي كانت أعزّ صديقة لـ "ناردين"، عانقتها طويلًا وجلس الجميع داخل الدار، إن للماضي حنينًا يتغلغل في القلوب ويتمكن منها، عادت "ناردين" بذاكرتها إلى سنين مضت، كانت تقلّب عينيها بين أحفادها بفرحة وحبور، مضت ساعة وهم على تلك الحال، وحولهم الصغار يلعبون ويراقبون جدّتهم والفرحة تطلّ من أعينهم، وقف "أنس" ليستعد للرحيل، وبعد أن ودّعهم كاد يحرّك خنجره لولا تعلّق "ناردين" فجأة بذراعه! كانت في هلع وكأنها *** يتيم سيرحل من يرعاه ويتركه في بيت غريب!
, تعجّب عندما توسلت إليه ليعيدها إلى كوخها في الغابة، قالت بتوتّر:
, - أرجوك يا "أنس" أعدني إلى الغابة.
, صاح "ربيع" متعجبًا وقد سمعها:
, - كيف يا أمي! كيف٢ علامة التعجب
, - أرجوك يا "ربيع"، لن أستطيع البقاء هنا٢ نقطة سأموت.
, - غير معقول يا أمي! أتفضلين وحدتك في غابة موحشة على البقاء معي أنا وأبنائي!
, - عشت لسنوات هناك فلا تقلق.
, - أنت تعلمين أنني لن أستطيع دخول تلك الغابة أبدًا ولن أتمكن من عبور ذاك الحاجز الحجري! أنا حتى لا أعلم كيف تعيشين في تلك الغابة المخيفة وحدك!
, - اتركني يا ولدي لأعود ٢ نقطة أرجوك؟
, قال "أنس" محاولًا إقناعها بالبقاء مع ابنها "ربيع":
, - أنت تحتاجين للسيد "ربيع" وهو لن يستغني عنك يا أمّي، أرجوك ابقي هنا معهم.
, قالت بعد صمت ثقيل:
, - أصبح الكوخ بيتي، وأنا لا أرتاح إلّا في بيتي.
, ثُمّ جذبت "أنس" بلطف من ذراعه فانحني لتهمس في أذنه:
, - دعني أرحل حتى لا تتغير نظرة الحب التي رأيتها في عيني "سندس" اليوم، فإن بقيت ستتغير، الإنسان ثقيل يا ولدي، وأنا أكره أن أكون حملًا يستثقله الآخرون.
, لم يفلح أحد في إقناعها، أصرّت وأخبرتهم أنها ستسير إلى هناك إن لم ينقلها "أنس"، لم يطب لها البقاء بين أحفادها، حتى دموع ابنها لم تشفع لديها، ستكتفي برؤيته كلّ أسبوع على أطراف الغابة!، أخبرت "ربيع" أن الأشجار ستتركها تتخطى الحاجز الحجري بأمان ولن تعيدها كالعادة طالما أنّها ستراها اليوم وقد عادت لتقيم هناك للأبد، هكذا همس لها عكازها. خضع "ربيع" على مضضٍ وودعها بالدموع. استجاب "أنس" لرغبتها وأعادها إلى الغابة حيث كوخها فهاجت الأشجار وماجت وعلا الضجيج، وأقيم عرس بالغابة، عادت الحبيبة "ناردين"٣ نقطة عادت الحبيبة "ناردين".
, ٣ علامة استفهام
, في بقعة أخرى، بسط "المجاهيم" نفوذهم أخيرًا على ما تحت أرض قصر مملكة الجنوب حيث يطلّ قصر الملك "حليم" فوق تلك المساحات الواسعة كوتدٍ ضخم تحيطه السهول الخضراء من كلّ جانب، فتوسعت مملكتهم وانتقل بعضهم إليها للأبد، أصاب "أنس" إرهاق شديد، فكثرة التنقل جعلته يشعر بدوار شديد، أصبح يرى كلّ شيء بالأرقام، وباتت لديه خريطة منحوتة في ذهنه، على كلّ بقعة فيها رقم منقوش له دلالة بات يعرفها، أراد أن يرتاح ولو للحظة لكنه لا يستطيع، ما زال أمامه الأهم وهو أن يسترد كتاب "إيكادولي" من بين مخالب وأنياب الذئاب.
, كان "القرناس" قد حمل الكتاب من فوق قمّة الجبل الأحمر بعد أن أنهت "نَبرة"آخر جملة فيه إلى المكتبةالعظمى، تسلّمه منه الحراس بالمكتبة واجتمعوا ليطلعوا على ما فيه، كانت تلك العبارات التي ظهرت بينما كان الكتاب مع "أنس" قد اختفت جميعها، وامتلأ الكتاب بعبارات صاغها الساحر "قرجة" قبل أن يقطع "أنس" يده، وأكملتها الأميرة "نَبرة" بدماء "كلودة" التي كانت على الأرض، فور أن يُختم الكتاب ويضاف إلى رفوف المكتبة سيكون لـ"نَبرة" شأن عظيم، كان حرّاس الكتب بالمكتبة العظمى يتصفحون الكتاب بينما حدث شيء عجيب لم يحدث منذ فترة بعيدة!.
, ٣ علامة استفهام
,
, اندفعت حزمة من أشعة الشمس الوردية على أوراق أشجار السنديان الوارفة المحيطة بالبناء العظيم، ثُمّ انسابت على جذوعها المغطّاة بالطحالب والنباتات المتسلّقة، و أخيرًا انزلقت على الأرض وكأنّها ترقص فوق العشب! فوق الممر المؤدي إلى البوابة الرئيسية للمكتبة، كانت الأشجار تتلاحم وتتعانق مع بعضها البعض لتحبس ضوء الشمس عن الوصول إلى الممر، نسمات الهواء كانت باردة، صفان من الحجارة البيضاء كانا على الجانبين مرصوصان بنظام دقيق، كان "أنس" قد انتقل إلى المكتبة عبر فجوة ونجحت المحاولة هذه المرّة، لم يسقط في بحر من الرمال المتحركة ليبتلعه، ولم تصِبه صاعقة من السماء تفتك به. كان من الضروري أن يزور المكتبة العظمى بنفسه، فالكتاب هناك كما أخبروه في قصر "الحوراء"، ولا بدّ أن يكون حاضرًا في تلك اللحظات الفارقة لعلّه ينجح في استرداده، كان "أنس" يرى كلّ هذا من خلف بوابة ضخمة من الحديد مشغولة بطريقة عجيبة، حاول أن يصدر صوتًا لعلّ هناك من يجيبه، حاول أن يهزّها بيديه لكنها كانت متينة وثقيلة، من بعيد أسرع بعض الرجال الأقوياء نحو البوابة يتعجبون من ذاك الذي وصل إليها ووقف يراقب البناء العظيم، كانوا يتبادلون النظرات التي تشي بتعجبهم، من يجرؤ على الاقتراب من حدود المكتبة العظيمة! قبل أن يصلوا إلى البوابة، وحيث انتهت صفوف الحجارة البيضاء، وقفوا بجوار بعضهم البعض عاقدين أذرعتهم أمام صدورهم، تقدم أحدهم وكان يثقب "أنس" بنظراته، بينما كان يمسك بالبوابة الحديدية ينتظر أن يدنو منه ليسأله، وقبل أن يقترب فُتحت نوافذ البناء من خلفهم فجأة وصرخ أحد ما:
, - لا تتحرّك من مكانك نحن في خطر داهم وأنت الملوم!
, ثُمّ فجأة ومرّة أخرى صرخ مناديًا كما صرخ منذ قليل:
, - أَدخلوه حالًا٣ نقطة أدخلوه٢ نقطة فلقد حدث ما لم يحدث من قبل!
, أسرع الرجال يفتحون البوابة الحديدية وأفسحوا الطريق لـ "أنس" ليدخل، كان يسير وهو يتلفّت يمينًا ويسارًا، فهو يشعر أنّ هناك من يلازمه كتفًا بكتفٍ ويسير معه، يكاد يسمع أنفاسه المتتابعة! بل يشعر بدفئها! لكنّه لايراه!
, دلف إلى البناء فأحاط به شعور بالسكينة رغم ارتباك الجميع وازدحام المكان بوجوه تطالعه باهتمام، بدا وكأنّ كل من بالبناء تخطوا الستين من أعمارهم، كانت السقوف مزيّنة بنقوش ذهبية بديعة، مطعّمة بألوان زاهية، تشبه تلك التي رآها في بيت جدّه، تذكّر الآن كيف تشبه بوابة بيت جدّه تلك البوابة الخارجية لكنها تصغرها حجمًا، مرّ بشجرة من خشب الأبنوس تشبه تلك التي سقط فرع منها في غرفة جدّه عندما رأى كتاب "أبادول" لأوّل مرّة، وكأنّه يتجوّل في متحف عريق ممتلئ بالتحف الثمينة كان "أنس" يتجوّل مستمتعًا بما يراه، صعد الدرج خلف كهل متوسّط القامة له لحية كثّة طويلة بيضاء بعد أن رحّب به، وأخيرًا وصل إلى قاعة تتوسطها طاولة مستديرة يحلّق حولها رجال يتشابهون في الخلقة لهم سحنة طيبة مريحة، على رأس الطاولة كان أكبرهم يجلس بوقار تحتل وجهه ابتسامة مشرقة، تلوح على جبهته الواسعة سجدة رمادية خفيفة لا يشك الناظر إليها أنها جبهة عابد، استند الكهل على حافّة الطاولة ووقف يرحّب بـ"أنس" وأشار إلى بهو كبير تتفرّع منه ممرات طويلة ممتلئة بالرفوف يمينًا ويسارًا حيث تستقرّ عليها الكتب، سارا معًا من بينها حيث كان الكهل يمسك بذراع "أنس" ويشير إليها ثُمّ قال:
, - لم تتحرّك الكتب منذ ثلاثين عامًا كما تحرّكت اليوم، لقد أصابنا الرعب، ظننا أن البناء سينهار، كانت أوّل مرّة تخرج من أماكنها وتدور ثُمّ تعود يوم وصول جدّك يا "أنس"، ومن بعدها حين جاء أبوك وها هو الأمر يتكرر اليوم، ثمّ أكمل مبتهجًا:
, - الآن يا "أنس"٢ نقطة حان الوقت.
, - الآن ماذا؟
, - سأتركك هنا لتخلو بصديقك قليلًا.
, - صديقي٢ علامة التعجب
, - "إيكادولي"٣ نقطة الكتاب! وسأنتظرك مع حرّاس الكتب، لنتسلّمه منك.
, - وأين هو الكتاب؟
, - في تلك الغرفة، أرسلناه مع كوكبة من الصقور وغسلوه في ماء النهر الأخضر، فالكتابة بالدماء لا تزول إلا بغسله هناك، أتدري يا "أنس"؟ لو قتلوك لبقيت الكلمات في "إيكادولي" للأبد، وما كان ماء النهر ليمحوها، وكنا سنضطر لقبول الكتاب وضمّه للرفوف.
, - وهل حدث هذا من قبل؟
, - نعم، لكن لا تقلق، الكتب لا تهدأ وستظل تدافع عن نفسها ، وكلّ كتاب سُرق سيبحث عن محارب جديد ليسترده، عندما يصدّق شخص ما بالقيم التي فيها تسترد عزيمتها وروحها فتبتلع الكلمات، وحتى إن كانت بالدماء، فوجود ذاك المحارب يمنحها القوة لتعافر وتعاني صراعًا حتى يأتي ويساعدها.
, ثُم استقرّت عيناه على عيني "أنس" وقال:
, - أظنّك تحمل مفتاح الغرفة، أليس كذلك؟
, أخرج "أنس" ذاك المفتاح الذي أعطاه له والده، ورفعه ليراه الكهل الذي هشّ حين رآه، ثُمّ أشار تجاه غرفة في صدر ممر يقع على يمينهما وطلب من "أنس" أن يتجه إليها، سار "أنس"تجاه الغرفة وعاوده الشعور بأن هناك من يلازمه ويسير قربًا منه كتفًا بكتف، دسّ المفتاح في الباب وفتحه، ودلف بهدوء.
, في غرفة مضيئة جدرانها بيضاء وخالية من النقوش كان كتاب "إيكادولي" يستقرّ على طاولة بيضاء مستديرة تحتل بقعة صغير وسط الغرفة، اقترب "أنس" ولامس الكتاب بأطراف أنامله، فور أن فتح الكتاب شعر بقشعريرة تجتاح جسده، ثم انطلقت صفحات الكتاب هاربة من بين دفّتيه واحدة تلو الأخرى تتعلّق في الهواء، أحاطت الصفحات الخالية بـ"أنس" ودارت عدّة مرات ثُمّ توقفت عن الدوران، ابتعدت عنه وارتفعت وبطريقة فجائية اقترب أولها وانبسط أمام عينيه، ظهرت عليها تباعًا العبارات التي رآها "أنس" في المغارة تحت النهر الأخضر، رآها أولا بنفس اللغة الغريبة التي لم يتمكن من فكّ طلاسمها، ثم تلاشت لتستقرّ معانيها باللغة العربية أمام عينيه، كانت كلّ ورقة تحمل عبارة واحدة، كانت العبارة تظهر وفي نفس الوقت يتردد معها صوت الأمير "أواوا" وهو يقولها باللغة النوبية عندما رآه "أنس" في الممر تحت النهر الأخضر، كان صوته متزامنًا ومتناغمًا مع الكتابة:
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن كل علامات الحب خرجت من خدرها فجأة عندما رأيتك، خصيصًا لك وحدك، بعد أن دثّرتها طويلًا حتى أعثر عليك.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن أتستر برداء الطهر حتى ألتقي بك على غير موعد، أحفظ لك أمانتك في نفسي دون أن أراك، لتكون أول من يوقّع على شغاف قلبي.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أنني سأعشق ملامحك يومًا بعد يوم، وسأعيش في تضاريس وجهك حتى أموت، سأحب فيك روحك التي بين جنبيك، ولن ألتفت لغيرك!
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن ترتجف كفّي لأوّل مرّة بين يديك، لأنك أول من يلمسها، فأنت بداية الحبّ، وأنت نهايته، قوسان بينهما حلال، وليس خارج القوسين ثَمّة حبّ!
,
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن أسكنك، وتعيش أنت بين ضلوعي، وأن أكون لك الأمان، والحصن الذي تلجأ إليه إن أغضبتُك فتشكوني إلى نفسي وأنت أقرب إليَّ من نفسي.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن أدمن النظر إليك، وأعود فأغض طرفي عنك حتى تكون لي وأكون لك، فأراك في كلّ العالم حولي، و تئنّ كلّ راجفة من رواجف قلبي هاتفةً باسمك، تطلبك من ****، ترجوه أن يمنحني إيّاك مطيبًا بالحلال.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن يضيئني قربك ولا يطفئ شعلة روحي، وهنا في قلبي حيث تسكن تتشابك خيوط النور فأبصر في عينيك كلّ الوجود جميلا.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن أُقبل عليك لأحدّثك بخواطري، ثمّ أدّخر الكلمات فتحدث ضجيجًا في نفسي، فأعقد عليها حتى يضمّنا العشّ وأعطيك الميثاق، فأسكبها لحنًا شجيًا في أذنيك، فيخفت الضجيج وأسكن إليك.
,
, إيكادولي
, أُحبُّك؛ تعني أن يكون حبّك ****ًا لي عن المعاصي، فصلاحك يصلحني، وعفافك يلهمني الشرف، فأحبك لما أنت عليه من فضيلة، ولما أكون عليه منها عندما أكون معك، تقرّبني لربي، وتجرّني إليه، فيحبنا **** ونحبّه.
,
, إيكادولي
, أحبُّك؛ تعني أن يتكلّم كلّ شيء فينا دون أن نتكلّم، نلتقي دون أن نغرق في بحر الرذيلة، فتسمعني بطهرك، وأنصت إليك باستعفاف، حتى يريد ****.
,
, دارت تلك الصفحات وكانت العبارات العشر قد كُتبت عليها أمام عيني "أنس"، ثُمّ انطوت من جديد بين دفّتي الكتاب المفتوح على الطاولة، وبدأت صفحات أخرى مرقمّة تتوالى أمام عينيه، تحكي ما مرّ به بالتفصيل، كلّ خطوة، كلّ همسة، كل شخص التقى به، حتى "مَرام"، حتى الغابة وما فيها، والقصرين، وبقيت الصفحة الأخيرة، كان يُكتب فيها ما يحدث له في تلك الغرفة بالتحديد، تركت مساحة فارغة !٣ نقطة ثُمّ كُتب أمام عينيه على السطر الأخير:
, واسترد الكتاب الذي يحبّه٢ نقطة "إيكادولي"!
, ثُمّ سُحبت الورقة الأخيرة فجأة من الهواء واستقرّت داخل الغلاف، وأُغلق الكتاب بقوّة فأصدر دويًا أجفل منه "أنس"، في تلك اللحظة فتح الكهل ذو اللحية البيضاء الباب خلفه، وحمل الكتاب، وسار معه يربّت على كتفه، ويهنئه باسترداد كتاب "إيكادولي". وبعد أن أنهى "أنس" زيارته إلى المكتبة، أخرج خنجره وحرّكه في الهواء وانتقل إلى قصر "الحوراء"، حيث كان الجميع ينتظرونه، حمله "المغاتير" على الأعناق، كانوا يحتفلون بنجاحه، سقطت حقيبته فالتقطتها "مَرام" وعلّقتها بكتفها كما يفعل "أنس"، ووقفت تراقبه، تخلّص بلطف منهم واقترب على استحياء ليبوح لها بمكنون صدره، كانت دقّات قلبه تتواثب وكذلك كانت هي، كاد يقول شيئًا لولا "الرمادي" الذي ظهر فجأة وانطلق تجاه "أنس" كقذيفة مدفع، وفجأة! انقض عليه بمخلبيه وطار به محلّقًا فوق مملكة البلاغة وسط صياح الجميع، ظلّ الصقر العجيب يخفق بجناحيه ويبتعد٣ نقطة ويبتعد٣ نقطة ثمّ ابتلعتهما سحب السماء. شعر "أنس" بدوار شديد، وغرق في الظلام وشعر وكأنّ ملزمة تضغط على صدره، دوائر يغوص فيها وتتسع٢ نقطة وتتسع٢ نقطة وتتسع، صرخ مناديًا باسمها:
, - "مرام"٣ نقطة"مرام", خارج القائمة
 
٢٣
عودة


وأخيرًا فتح عينيه ليجد نفسه في بيت جدّه بالفيوم، ممددًا على أرض الغرفة التي التقى فيها بالرمادي لأوّل مرّة، حاول أن يرفع رأسه فإذا بباب الغرفة يفتح ليهرول تجاهه والده وجدّه، لم يتمكن من فتح فمه، أراد أن يقول شيئًا ما! لكنّ والده ربّت على يده بحنان وطالعة بنظرات تعني أن الوقت قد حان لكي ترتاح، ارتخى جفناه واستسلم للنوم لفترة، ثُمّ أفاق فجأة وانتفض وقفز يتلفت يمنة ويسرة وكأنّه يبحث عن شيء ما، قال جدّه الذي دلف للغرفة وهو يحمل في يده الجريدة:
, - ما بك يا "أنس"؟ عن أي شيء تبحث؟
, - الكتاب٣ نقطة "إيكادولي"٢ نقطة أين هو؟
, - اهدأ يا "أنس".
, - "مَرام"!
, - من "مَرام"؟
, - فتاة التقيت بها هناك.
, - سيبقى هؤلاء هناك، لا بدّ أن تعلم أنّك الآن انفصلت عن عالمهم.
, - ولكن.
, طالعه أبوه الذي كان يراقب حوارهما بتأثّر وقال بصوت غلبته نَبرة حانية:
, - أعلم وأقدر شعورك الآن، أنت تتوجع، تعلّقت بهم، أحببتهم، وكأنّ هناك من اقتلعهم فجأة من قلبك.
, - اسمعني يا أبي، "مَرام" كانت مثلي، م٢ نقطةم٣ نقطة محاربة، لا بدّ أنها قد عادت هي الأخرى إلى هنا، إلى عالمنا! كيف سأصل إليها؟
, - "أنس"٣ نقطةتمالك نفسك، فكلّ ما عشته سيظل٣ نقطة
, - سيظل ماذا؟
, - في الحقيقة٣ نقطة أنت٢ نقطة
, - أنا ماذا٢ علامة التعجب
, - كنت مجرّد٣ نقطة شخصية في رواية!
, بدأ الغضب يأخذ طريقه إلى رأسه، صاح بعصبية:
, - ماذا٢ علامة التعجب ما الذي تقوله!
, - كما سمعت٢ نقطة مجرّد شخصية في رواية!
, - وتلك الملابس التي ما زلت أرتديها٢ علامة التعجب لا تحدثني بتلك الطريقة أرجوك!
, - رفقًا بنفسك يا بني، مررت بما تمر به من قبل، اصبر أيامًا وسينتهي كلّ شيء.
, - كيف٣ نقطة كيف٢ علامة التعجب هذا لم يكن حلمًا!
, - تحلم لفترة تخطّت الأسبوع٢ علامة التعجب وتختفي عن الوجود يا "أنس"!
, - أرأيت٢ نقطة تعترف إذن أن ما مررت به حقيقي، لقد اختفيت من هنا، لم أفقد الوعي ولم أكن نائمًا ولم أغرق في غيبوبة، كنت أعلم أن الشمس التي تشرق على تلك المملكة هي نفس الشمس التي تشرق علينا هنا فكيف تقول أنني غصت في رواية! أنا بشر، أنا روح، أنا إنسان!
, - يا بنيّ، انتهى الأمر٣ نقطة
, تحسس "أنس" يده وقال بحماس:
, - انظر ٢ نقطة أثر هذه الحبال المجدولة على يدي، ما زال يحرقني!
, أغمض الأب عينيه في يأسِ وقال:
, - لن يصدقك أحد، ولن تستطيع العودة إلى هناك، حاولنا قبلك وفشلنا٢ نقطة أنسيت؟
, هزّ "أنس" رأسه وقام يجول في الغرفة كالمجنون وقال:
, - وكيف أنسى نفسي التي وجدتها هناك؟
, أمسك جدّه بذراعه وأعطاه الجريدة وقال بهدوء:
, - انظر٢ نقطة ها هي الجريدة هناك إعلان عن رواية جديدة للكاتب "شهاب السيوفي"، ستصدر عن دار "مملكة البلاغة" للنشر والتوزيع، مكتوب هنا أنّ الرواية تحكي قصة حب نوبية قديمة، هكذا تسير الأمور.
, أمسك "أنس" الجريدة وطالع صورة الكاتب، وصاح متعجبًا:
, - إنه هو٣ نقطة"شهاب"٢ علامة التعجب
, - لا بدّ أنّك التقيت به هناك، أليس كذلك؟
, - بالتأكيد، كان يظهر ويختفي من آن لآخر.
, هزّ الجد رأسه بثقة وقال بهدوء:
, - وهذا ما حدث معنا من قبل، معي ومع أبيك، صدرت روايتان بعد عودتنا وكنا نلتقي بالكاتب هناك، يظهر فجأة، ويختفي فجأة، وانتهى الأمر.
, التفت إليهما الأب الذي كان يحملق في زجاج النافذة مراقبًا انعكاس ضوء الشمس عليه:
, - هذا ما أعنيه يا ولدي، كلّ ما مررت به مخطوط في تلك الرواية بعناية شديدة، وانتهى الآن فقد تم تسليمها لدار النشر وستتم طباعتها، فلتنس كلّ ما مررت به هناك.
, - و"مَرام"٢ علامة التعجب
, - كانت أيضًا مجرّد شخصية في رواية.
, - لا٣ نقطة لا٢ نقطة مستحيل!
, - أعلم أن الأمر يصعب عليك، هكذا هو في البداية، ستعاني كثيرًا يا ولدي، اهدأ فأنت عاقل وتعلم جيدًا أنّك لن تعود إلى هناك. والأيام كفيلة بلملمة الجراح.
, - ولكن٣ نقطة الرمادي! ألن يعود!
, - لن يظهر إلا بظهور رمز جديد، لأحد أفراد العائلة، ربما بعد سنوات طويلة من الآن، ابن لك أو حفيد من أحفادك، حاول أن تتجاوز الصدمة لتكمل حياتك.
, - ولكن٣ نقطة
, قبض "أنس" على صدره، و قال بخفوت:
, - شيء ما مني بقي عالقا هناك ولم يغادر.
, قال والده:
, - اثبت يا "أنس"، واحمد **** أن الأمر لن يتكرر.
, - ماذا تعني؟
, - تخيّل مثلًا لو تكرر الأمر من آن لآخر كلّما قرأ أحدهم الرواية تعود أنت لنقطة البداية وكأنّ شيئًا لم يكن، وتتكرر الأحداث!
, - ليت هذا يحدث، ليته يتكرر كلّ يوم، ليتني أراهم مرّة أخرى، عزائي الوحيد وقتها أنني سألتقي بمن أحببتهم مرات ومرّات.
, - لكن إن حدث هذا لن تستطيع إخبارهم بأي شيء.
, - لماذا؟
, - لأنك ستنسى كلّ شيء وتعود لنقطة البداية، وكأن ذاكرتك قد محيت تمامًا، انتهى الأمر يا بني٣ نقطة تماسك أرجوك.
, ارتفع رنين هاتف والده، كانت والدته، يبدو أنّها كانت غاضبة لأنّ "أنس" لم يرد على مكالماتها طوال أسبوع كامل!، كان الأب يحاول شرح موقف "أنس" وأخبرها أن هاتفه كان مفقودًا وأنّه كان مع رفاقه، أصرت على سماع صوته فقد كانت تشعر أنّ هناك شيئًا ما قد حدث له، فليس من عادته ألا يهاتفها ليطمئنها عليه بنفسه، اقترب الأب من "أنس" وهمس في أذنه قائلًا:
, - لا تخبر أمّك فهي لا تعلم شيئًا، فأنا أخبرتها أنّك كنت مع رفاقك، وهذا ما حدث بالفعل.
, ضمّ الأبُ الهاتف لصدره ليكتم الصوت ورمقه بحزم وأردف قائلًا :
, - لا تخبرها ولا أي أحد آخر غيري وجدّك٣ نقطة لن تصدقك وسيظنك الجميع مجنونًا.
, أمسك "أنس" الهاتف وتحدث مع أمه بصعوبة، كان يعتذر وحسب، ويكرر اعتذاره مرّات ومرّات، ظلّت تصيح عليه في الهاتف وتلومه فقد كانت في غاية القلق عليه وظنت أنه أصيب في حادث أو شيء ما، أنهت صياحها ببكاء شديد فأخذ يهدئ من روعها ثُم قال بصوت يقطر ألمًا:
, - كنت مع رفاقي٣ نقطة
, قالها "أنس" وهو يتألم، كان يفتقد رفاق رحلته العجيبة، فقد احتل كلّ منهم جزءًا من كيانه، تذكّر قول العجوز "ناردين" عن كل من تلتقي بهم وتحبّهم، وكيف كانت تشير إلى صدرها وتقول أنّهم مروا من هنا٢ نقطة كان "أنس" في غاية الحزن.
, أغلق الهاتف وأمسك برأسه فجأة، كان يشعر بخفقان يضغط على صدره والحرقة تنخر معدته فسقط مغشيًا عليه فحمله أبوه وجده وأعاداه إلى فراشه وجلسا طوال الليل بجواره يتألمان لألمه ويسألان **** له الثبات.
, ٣ علامة استفهام
, أطلّت الشمس من خلف السحب، وكأنّها تتخفى من "أنس"، كان بالفعل مستيقظًا منذ وقت طويل، يحملق في سقف الغرفة ويسترجع كلّ لحظة مرّت به، وثب وارتدى ملابسه على عجل وخرج دون أن يشعر به أبوه وجدّه، قرر أن يذهب للقاء "شهاب" بالقاهرة، بعد ساعات كان يهرول خارجًا من محطة القطار فور وصوله باحثًا عن سيّارة أجرة، ولكي يحصل على عنوان بيته اتجه أولًا لدار "مملكة البلاغة" للنشر والتوزيع، بناء أنيق من القرميد الأحمر تحيط به حديقة رائعة من كل الجهات، أخرج بطاقته الشخصية للحارس النحيف الذي كان يعبث بشاربه وهو يتفحّص هاتفه الجوّال، لم يطالع الحارس البطاقة ولم ينظر حتى لوجهه، تأخّر المصعد وكان "أنس" في قمّة التوتر حتى أنّه بدأ يقرض شفتيه، هرول نحو الدرج وصعده وثبًا متوجها لمكتب مديرة الدار في الطابق الخامس من تلك البناية، وبعد أن أشارت إليه موظفة الاستقبال بلطف ليتفضل بالدخول طرق الباب وفتحه وهم بالدخول وكانت المفاجأة.
, الحوراء تجلس أمامه بشحمها ولحمها، تجلس بوقار خلف المكتب على كرسي من الجلد الفاخر وعلى أنفها عوينات صغيرة تطل من خلفها عيناها الواسعتان والسوداوان حيث كانت تطالع شاشة الحاسوب باهتمام شديد، التفتت إليه وخلعت عويناتها وابتسمت له، ثُمّ قالت مرحبة به:
, - أهلًا وسهلًا، تفضل بالجلوس.
, ثُمّ أمسكت ببطاقة ورقية صغيرة وقرأت ما دون عليها وقالت:
, - المهندس "أنس كمال".
, - نعم أنا.
, - مرحبا بك، كيف أستطيع أن أساعدك؟
, - عفوًا سيّدتي، هل التقينا من قبل؟
, - لا أظن! تبدو مألوفًا لكنني لم أرك من قبل يا ولدي!
, - حسنًا، وددت أن أسأل عن رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي"
, - هل أستطيع أن أعرف السبب؟
, - أمر خاص بروايته الجديدة.
, - وما بها؟
, - أفضل أن أخبره شخصيًا.
, اعتدلت المديرة في جلستها وتأرجحت على مقعدها على نحو خفيف وقالت باهتمام:
, - كل ما يخص تلك الرواية بالذّات يخصّنا.
, - وددت فقط أن أسأله عن نهايتها ومصير أحد الأبطال في الرواية.
, - انتظر إذن حتى تُطبع وتقرأها.
, - لا أستطيع الانتظار فهناك أحداث لا بدّ أن تُعدّل بشكل سريع.
, - وهل تعرف أحداثها؟
, - نعم
, - أقرأتها؟٢ نقطة معقول٢ علامة التعجب من سرّبها٣ نقطة أخبرني؟
, - لم أقرأها ورقيًا ولكن٣ نقطة
, - مهلًا٣ نقطة أنت لا تعرف رقم هاتف السيد شهاب ولا عنوانه، ولم تلتق به! فكيف تعرف أحداث الرواية!
, - علمت أن اسمي مدرج بها، وبعض ما يخصني شخصيًا.
, - كيف هذا! الرواية تتحدث عن قصة نوبية قديمة! والأسماء فيها لا تتضمن اسمك!
, - ربّما٣ نقطة
, - أرجوك كن واضحًا معي!
, - أودّ أن ألتقي به. ولتعتبري ما أعرفه عن الرواية مجرد تخمين، أو شيء يشبه الرؤى.
, - من فضلك ليس لديّ وقت لهذه الحوارات، ولن أستطيع إمدادك بعنوان السيد "شهاب"، فكلامك يقلقني، ربما تودّ أن تلتقي به لإعجابك به يا بنيّ، ولكن ليس بتلك الطريقة! للكتاب حياتهم الخاصة، انتظر حتى تلتقي به في حفل التوقيع.
, - ولكن٢ نقطة
, - من فضلك٢ علامة التعجب
, رفعت يدها لتستوقفه فأدرك أنّ لا مجال للنقاش. خرج من الغرفة غاضبًا، يبدو أن الأمر أعقد مما تخيله، وقف شاردًا أمام المصعد ينتظر وصوله، كان يغمض عينيه ويتأفف بينما اقترب شاب أنيق يرتدي بذلة سوداء فاخرة حسنة التقاطيع أظهرت تناسق جسده، عطره النفاذ أرغم "أنس" على فتح عينيه، كاد يصرخ عندما رأى ملامحه، إنّه "الزاجل الأزرق"٢ علامة التعجب
, دلف معه المصعد وهو يطالعه بفضول شديد، كان الشاب يمسك هاتفه النقال ويقلّب فيه باهتمام، رفع عينيه على نحو سريع وحيّاه بابتسامة مقتضبة ثمّ عاد ينظر إليه مرّة أخرى عندما لاحظ اندهاشه فقال له:
, - هل أنت جديد هنا؟
, قال "أنس" وما زالت عيناه معلّقتين على وجه الشاب:
, - لا٢ نقطة أنا مجرد زائر.
, - أنت كاتب إذن!
, - تقريبًا.
, - هل قمت بتقديم عملك اليوم؟
, - ليس بعد.
, - أسرع إذن فالسيدة "ناردين" ستنتهي من مراجعة رواية الأديب "شهاب السيوفي" الليلة، حتى تضم عملك في جدولها قبل أن تُنشر الرواية، فبعدها ستنهال علينا الأعمال من الكتاب والأدباء كالعادة، وربما يتأخر دورك.
, - هل تعمل هنا؟
, - أنا " أحمد" وبالفعل أعمل هنا.
, - مرحبًا بك.
, - تبدو شابًا لطيفًا، لا بد أن كتاباتك رائعة.
, - هل من الممكن أن أطلب منك شيئًا بسيطًا؟
, - وما هو؟
, - رقم هاتف السيد "شهاب السيوفي"، أودّ أن ألتقي به وأعرض عليه عملًا ما.
, - حسنًا، ها هو رقمه، دونه الآن، ولا تنس أن تضيفني على "الفيسبوك"
, - وما اسمك هناك؟
, - "الزاجل الأزرق"
, فغر "أنس" فاه ثُمّ هزّ رأسه متعجبًا، الأمر مضحك وموجع في آن واحد، ما الذي يحدث الآن بالتحديد٢ علامة التعجب
, بدأ الأمل يدبّ في نفسه فربما يلتقي بـ"مرام" أيضًا! كان يرزح تحت موجة من الحنين إليها، يشتاق لوجودها بجواره، تتنفس نفس الهواء، تسير وتتحرك وتروح وتجيء وإن كانت بعيدة عنه ولكن في نفس المكان، نفس العالم!
, خرج من المصعد وسار بخطوات بطيئة خلف "أحمد"، نفس طريقة السير، نفس الصوت، نفس الإيماءات الخاصّة، إنّه هو "الزاجل الأزرق"!
, بأصابع مرتعشة ضغط "أنس" على أزرار هاتفه ليحدّث السيد "شهاب"، كان صوته على الهاتف أكثر اتزانًا من صوته في مملكة البلاغة، حتى طريقته في الكلام بدت أكثر تعقلًا وهدوءًا، عرفه بنفسه وطلب منه أن يلتقي به، وأخبره أن السيد "أحمد" هو الذي نصحه بلقائه قبل أن يعرض أي عمل على السيدة "ناردين"، بعد مماطلة من "شهاب" وافق أخيرًا على لقاء "أنس" وأعطاه عنوانه، أسرع يوقف سيّارة أجرة لتقلّه سريعًا إلى هناك، كانت دقّات قلبه تتواثب وتتسابق على نحو سريع، شعر بها وكأنّها طبول تدق في أذنيه، وقفت السيّارة الأجرة أمام بناء عتيق مكون من طابقين، كانت البوابة الحديدية تحمل لافتة مكتوب عليها بخط واضح "فيلا شهاب السيوفي"، ترجل من السيّارة بعد أن نقّد السائق الأجرة ووقف شاردًا يتأمّل البناية، كانت الثانية عشرة إلا الربع، باقٍ ربع ساعة على موعده معه، تنهّد بعمق وأغمض عينيه، ما زال موجوعًا، مسح على صدره بيده وكأنّه يتحسس الألم، لم ينتظر حتى تمرّ الربع ساعة، بل أسرع يدق جرس الباب., خارج القائمة
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
٢٤
شهاب


تناهى إلى سمعه صوت خطوات تقترب من الباب، فتح السيّد "شهاب" له الباب بنفسه، كانت ملامحه كما هي عندما رآه هناك، وجه يحمل مسحة من الوسامة بشعره البنيّ، وبشرته الباهته وفكّه العريض، وأمّا تلك النظرة الساخرة التي كانت تُطلّ من عينيه الضيقتين تبدّلت بنظرة عميقة منكسرة، وكانت عيناه خلف عوينات أضفت على مظهره وقارًا لطيفًا.
, كانت دقات قلب "أنس" متسارعة، حتى أن "شهاب" شعر بتوتره وهو يصافحه حيث قال وهو يهزّ يده بحرارة:
, - مرحبًا بك، يبدو أنّك متوتر جدًا، يدك باردة جدًاوكأنّها قطعة من الثلج.
, تنحنح "أنس" في ارتباك وهو يتأمّل وجه "شهاب"، بدا أكثر اتزانًا وتعقلًا مما كان عليه، أكبرًا عمرًا ربّما! وكأنّه أربعيني!
, كما أنّه تخلى عن نزعة الغرور التي كانت تطفح من عينيه، أغلق "أنس" الباب وسار خلفه، مرّ برواق البيت حيث كان كل شيء يسبح في هدوء شديد، وصلا سريعًا إلى غرفة كبيرة جدرانها تحتضن الكثير من الرفوف المكتظة بالكتب، كانت رائحة الصندل تفوح من المكان، ذكرته الرائحة بالغابة والعجوز "ناردين".قال "شهاب":
, - أخبرتني على الهاتف أنك حصلت على رقمي من "أحمد".
, - نعم٣ نقطة الزاجل الأزرق.
, قهقه "شهاب" وهو يتأرجح بالكرسي الجلدي الفاخر الذي غاص فيه خلف مكتبه ثُم خلع عويناته وقال ساخرًا:
, - أنت صديق له على الفيسبوك أيضًا، كم هو لطيف ذاك الفتى، أحبه كثيرًا، حسنًا أخبرني عن روايتك أو كتابك، أم٣ نقطة هل أنت شاعر؟
, - في الحقيقة لست بكاتب ولكنني جئتك في أمر آخر هام جدًا بالنسبة لي.
, اعتدل "شهاب" في جلسته أعاد ارتداء عويناته ونظر إليه بجدية وسأله:
, - وما هو؟
, - أنت تعرفه٢ نقطة لا تزعم أنّك لم ترني من قبل!
, - أنا بالفعل لا أعرفك!
, لم يتمالك "أنس" نفسه وثار فجأة ووقف يتحدّث بعصبية شديدة:
, - أين "مَرام"؟
, - ومن هي "مَرام"!
, - لماذا أخرجتني من هناك قبل أن ألتقي بها؟
, - أخرجتك من أين٢ علامة التعجب
, طرق "أنس" بقوة على سطح المكتب وقال:
, - لم يكن الأمر واضحًا في بدايته، لكنني أدركت الحقيقة عندما ربطت بين الأرقام التي كانت على الخريطة والفجوات، وما مرّ من أحداث محدده في أماكن محدده برقم خاص.
, شعر "شهاب" بالقلق وبدأ يتحرّك من مكانه نحو باب الغرفة وهو يقول:
, - أيّ أرقام! وأيّ فجوات؟ هل أنت مجنون!
, رفع "أنس" سبابته وحرّكها بعصبية في الهواء وقال:
, - لم تنجح خدعتك، لا تحاول العبث بعقل من درس الهندسة، فأنا لديّ خيال واسع وسرعة بديهة سهّلت عليّ كشف الحقيقة!
, ثار "شهاب" ودفع "أنس" تجاه باب الغرفة وقال:
, - اخرج من بيتي!
, كاد "أنس" يسقط، لكنه عاد ووقف بثبات وقرّب وجهه من وجه "شهاب" وقال:
, - الأرقام كانت أرقام صفحات رواياتك، وكنت أنتقل بالفجوات من رواية لأخرى، حتى أنني عدت بـ"حليم" لصفحات سابقة ليرى كيف قتل "كِمشاق" والده وذبحه واستولى على عرشه، وكان ذاك عونًا لي ليكون في صفي عندما اقتحمت القصر لأخرج "كلودة".
, - "حليم" و "كِمشاق" و "كلودة" شخصيات في رواية لي بالفعل، لكنني لا أفهمك٢ علامة التعجب
, بدأ "شهاب" يرتجف، كانت يداه تهتزّان كما لو كان يعاني من اضطراب أو مرض ما، ارتبك "أنس" وعاونه على الجلوس على أقرب مقعد، هدأ كلاهما للحظات كانت كافية لخلط الأفكار في رأس "أنس"، ربّما "شهاب" لا يعرف شيئًا عمّا رآه وعاشه، وكما قال والده وجدّه سيظنه مجنونًا كما سيظنه أيّ شخص آخر لم يخُض تلك التجربة بنفسه، قرر أن يشرح له الأمر بطريقة أخرى، لعلّه يصل إلى أي معلومة عن "مَرام"، قال بعد أن تنفّس بعمق ثُمّ مسح وجهه بكفّيه:
, - حسنًا يا سيدي٣ نقطة اسمع، أنا مررت بتجربة غريبة وحدث لي شيء لا يُصدّق.
, هزّ "شهاب" رأسه ليشجعه على إكمال كلامه فأردف "أنس" مكملًا حديثه:
, - بطريقة ما انتقلت إلى مملكة البلاغة وعشت هناك لفترة.
, - أتقصد دار النشر؟
, - لا٣ نقطة مملكة البلاغة هي بلاد غريبة، حتى أنني التقيت هناك بعدّة أشخاص قد تكون أنت كتبت عنهم في روايتك.
, - ماذا٢ علامة التعجب٢ نقطة
, حملق "شهاب" في وجهه وأطرق للحظات يفكّر، ظنّه يعاني من اضطـــــــــراب
, نفسي فقرر أن يجاريه، سأله مظهرًا اهتمامًا بكلامه:
, - وأين تلك البلاد؟
, - لا أدري مكانها بالتحديد.
, - كيف سافرت إلى هناك؟
, - حملني صقر.
, رمقه "شهاب" بتعجّب وقال بنغمة تخالطها رنّة ارتياب:
, - من فضلك٣ نقطة إن كنت تريد إخباري بفكرة رواية لأكتب عنها فلا تتبع تلك الطريقة معي٣ نقطة كن منطقيًا وتحدث بشكل طبيعي وسأتجاوب معك.
, - أليس هذا ما كتبته في روايتك؟.ألم تكتب اسمي فيها؟
, - في الحقيقة٤ نقطة
, قاطعه "أنس" بعصبية وقال:
, - المغاتير، المجاهيم، الأمير "أواوا"، المحاربون!
, رفع "شهاب" حاجبيه ثُمّ قال:
, - هل اطلعت على النسخة التي قدمتها للسيدة "ناردين؟
, أكمل "أنس" غير مبالٍ بسؤاله:
, - قصر الملك، والقرية، والغابة٣ نقطة
, غضن "شهاب" حاجبيه غاضبًا وقال:
, - كيف سمحوا لك بقراءتها٢ علامة التعجب لا بد أن أتحدث معهم الآن، هذا غير لائق!
, أمسك "شهاب" بهاتفه فمدّ "أنس" يده ووضعها فوق يده يستوقفه وقال برجاء:
, - سيدي من فضلك٤ نقطة أرجوك صدقني، الكتاب اختارني بنفسه.
, احتدّت نَبرة صوت "شهاب" وهو يسأله:
, - أي كتاب؟
, - كتاب قديم صفحاته خالية كان بمكتبة جدي.
, - أنت شخص غريب!
, - "أبادول"٢ نقطة هل تعني لك شيئًا؟
, حرّك "شهاب" عينيه في المكان ثُمّ قال:
, - تلك رواية كتبها روائي عظيم من أساتذتي منذ سنوات، وأصدرتها نفس دار النشر ٢ نقطة لماذا تذكرها؟
, - هذا جدي٢ نقطة أبادول هو جدّي.
, ران عليهما صمت ثقيل للحظات، حاول "شهاب" أن يستعيد رباطة جأشه، تأمّل وجه "أنس" وتفرّس في ملامحه ثُمّ قال بجديّة:
, - يبدو أنّك واسع الخيال يا فتى، ربما الأفضل لك أن تتجه للكتابة، تلك الأفكار ستساعدك وربما ينجح الأمر معك وتصبح كاتبًا مشهورًا يومًا ما، أرجوك انتهت الزيارة.
, وقف "شهاب" فوقف "أنس" متأهّبًا وقال:
, - إيكادولي٣ نقطة هل تعني لك شيئًا؟
, رفع "شهاب" كتفيه في استغراب شديد وقال:
, - كيف عرفت اسم روايتي٢ علامة التعجب لم أخبر أي مخلوق أنني اخترت هذا الاسم بعد لروايتي! حتى دار النشر نفسها لا تعلمه! حتى السيّدة "ناردين" فقد أرسلتها إليها معنونة بعدّة اقتراحات للاسم ليس هذا من بينها فقد فكرت فيه أمس!، حتى زوجتي وتوأم روحي التي تشاركني في كل شيء لا تعرفه!
, قال "أنس" في ثقة:
, - ألم أخبرك أنني كنت هناك؟ الآن ستصدقني٢ نقطة أليس كذلك؟
, - ماذا تقول؟٢ نقطة كن منطقيًا أرجوك٢ نقطة
, قاطعه "أنس" وقال محتجًا:
, - ما حدث لي خارج نطاق المنطق، لا تخبرني بأن الغابة والمملكة والقرى حولها غير موجوده، انظر إلى يدي، ذاك أثر الحبال لمَّا حملت "مَرام" عندما سقطت من فوق الجبل.
, مدّ "أنس" يده أمام "شهاب" الذي اتسعت حدقتا عينيه عندما رأى أثر الحبال المجدولة على يد أنس وذراعه، تذكّر ما كتبه في روايته، شعر بقشعريرة تجتاح جسده، تسارعت دقّات قلبه من شدّة الانفعال وتراجع خطوة للخلف، حملق في وجه "أنس" مرّة أخرى٢ علامة التعجب قال بصوت مرتعش:
, - الحبل الذي تعلّقت الفتاة به٢ علامة التعجب
, خرّ "شهاب" على الكرسي خلفه بعد أن ترنح قليلًا وقال بخفوت:
, - يا إلهي٢ علامة التعجب لا أصدّق٢ نقطة
, - هل ستساعدني إذن؟
, - في أي شيء؟
, - عدّل نهاية روايتك٣ نقطة أرجوك.
, كان "شهاب" يحدّق في وجه "أنس" الذي انطلق متحدثًا بسرعة:
, - كنت أعيش في روايتك، لا أدري كيف، لكنها الحقيقة، حتى أنني التقيت بمحاربة أخرى هناك اسمها "مَرام" كانت تعيش أحداث رواية أخرى تسمى "هيلا".
, - "هيلا" رواية أخرى لي بالفعل٣ نقطة ولكن مهلًا٢ نقطة أنت تقول أنك التقيت بتلك الفتاة هناك؟
, - نعم٣ نقطة"مَرام"
, - بالفعل روايتي الجديدة "إيكادولي" والتي لا يعلم مخلوق أنني اخترت لها هذا الاسم تحتوي على أحداث متشابكة وبها شخصية محارب و محاربة!
, - أتقصد أنا و "مَرام"؟
, - حسنًا كما تحب٣ نقطة أنتما٣ نقطة
, قال "أنس" بصوت غلبت عليه نَبرة التوسّل والرجاء:
, - أرجوك يا سيّدي تحدث عن الأمر بتلك الطريقة فهذا سيعني لي الكثير لأنني عشته بالفعل٣ نقطة قل أنت و "مَرام"
, تنهّد "شهاب" بعمق وقال بهدوء:
, - حسنًا يا "أنس"، اجلس وأخبرني بكلّ ما مررت به بالتفصيل، وكلّي آذان صاغية.
, كان "شهاب" يحرّك رأسه يمنة ويسرة ويفرك كفّيه بتوتر شديد وهو ينصت إلى"أنس" الذي بدأ يحكي له بالتفصيل كل شاردة وواردة مرّ بها، كان ما يرويه الشاب عصي على الفهم، عصي على الشرح، عصي على التصديق! في النهاية، وبعد أن أفرغ "أنس" ما بجعبته، قال "شهاب" بعد أن خلع عويناته ومسح وجهه وصمت لوهلة وكأنّه يرتب أفكاره:
, - في الحقيقة يا "أنس" ما تخبرني به عجيب، فروايتي وإن كان أبطالها من النوبة وبها من الشخصيات مثل "كلودة" و"أُونتي" و"كِمشاق" و"نَبرة"، إلا أنني لم أكتب عن الصقور، كما أن أمر الكتب واختيارها للمحارب لم يكن موجودًا.
, - ماذا تعني!
, - إن كان ما تحكيه صدق٢ نقطة
, ثم رمقه بنظرة عميقة وأردف:
, - فهذا يعني أنّ الكتب حيّة وتنبض وتشعر بنا.
, قاطعهما أزيز الباب وهو يُدفع بلطف، ظهرت زوجة "شهاب" التي عادت للبيت منذ دقائق، وجه مريح عليه مسحة طيبةٍ وقسمات تنم عن جمالٍ متعب، رحّبت بـ "أنس" ووضعت أمامهما كوبين من عصير البرتقال وانصرفت بهدوء.
, التفت "أنس" تجاه "شهاب" وسأله:
, - لديك ثلاث بنات، "جميلة"، و"جمانة"، و"جويرية"٢ نقطة أليس كذلك؟
, شخص "شهاب" للحظات، ثُم قال مذهولًا:
, - يبدو أنك اخترقت رأسي٣ نقطة وقرأت أفكاري.
, - ماذا تعني؟
, اقترب "شهاب" من باب الغرفة وأغلقه بحرص وعاد لمكانه وقال بصوت خفيض:
, - هذا ما كنت أحلم به قبل زواجي، أن ننجب أنا زوجتي ثلاث فتيات متشابهات وكأنهن توائم ولدن في سنوات متفرقة، نسخة متطابقة ومتكررة، يركضن حولي ويتعلّقن بساقي عندما أدلف إلى البيت، يغرقوني بالحب، "جميلة" و"جمانة" و "جويرية"، هكذا تمنيت، لكن **** برحمته كتب على زوجتي أن تتعثر على درج الأمومة، فهي لا تتخطى الشهر الثاني في حملها وسريعًا ما يسقط الجنين، وما زلت أحلم٣ نقطة وما زلنا ننتظر الفرج من ****، لكنني لا أحدثها أبدًا بذاك الحلم وتلك الأمنية، ولم أحدث به مخلوق!
, - لقد رأيتهن هناك.
, ابتسم "شهاب" وربّت على ساق "أنس" وقال له:
, - بل رأيتهن في رأسي، يبدو أنّك كنت هنا.
, وأشار لرأسه وهو يبتسم بلطف، لاحظ "أنس" في تلك اللحظة علامات الهمّ التي ارتسمت على وجه "شهاب"، كانت روحه متعبةً ذاك الحدّ الذي جعله لا يقوى على إكمال حديثه مع "أنس".
, أطبق عليهما الصمت حيث ندم "أنس" على ما قاله، بينما جعل هذا "شهاب" يزداد ثقة به، فها هو يتحدث عن أحلامه وأمنياته التي يخبئها في رأسه، قال "أنس" محاولًا أن يخفف عن "شهاب":
, - آسف
, هزّ "شهاب" رأسه وقال بثقة:
, - لا عليك، أعلم أنّك من النوع الذي يراعي مشاعر الآخرين، أنسيت؟ أنا أعرف كلّ شيء عنك، كتبت عنك طوال الأيّام الماضية. فسمات شخصيتك مطابقة لسمات شخصية المحارب في الرواية.
, قام "شهاب" وتوجه نحو أحد الرفوف وأحضر مجموعة من الروايات وبسطها على مكتبه أمام "أنس" وبدأ يقرأ العناوين:
, - هذه رواياتي الخمس، كل منها رواية منفصلة عن الأخريات، ويا للعجب! يبدو أنّك بالفعل عشتها بل وكنت سببًا في انتقال الشخصيات من رواية لأخرى بطريقة ما!٢ نقطة رواية "الغابة المسحورة" حيث العجوز "ناردين، ورواية "المجاهيم" وعالمهم تحت الأرض، ورواية "مملكة الشمال" حيث الملكة العادلة "الحوراء" وابنها الذي يفعل الخير ويساعد الناس متخفيًا مع رفاقه، ورواية "مملكة الجنوب" حيث كان ملك ظالم وشقيقته الأميرة شديدة الجمال التي أحبّها شاب حليم الطباع لكنّها كانت أنانية ولا تستحقّه، وفي تلك المملكة عدّة قرى متجاورة تعكس روعة أهل النوبة وأخلاقهم وعاداتهم الجميلة، لكلّ قرية سرّها الغامض ، واحدة منها كان فيها كهل يسمى "الرمادي" يتجوّل فيها ولاقى الكثير مع زوجته. وأخيرًا هذه رواية "هيلا" التي يبدو أنّك لم تخترق صفحاتها، ولو اخترقتها وعشتها لعشقت أهل النوبة بحق!
, ثُمّ سكت هنيهة وأردف قائلًا:
, - أمّا أمر الكتب والمكتبة فهو عظيم لكنني لم أكتب عنه ولا عن الصقور!، وددت لو ذهبت إلى هناك يا "أنس"٢ نقطة لا شك أنّه شعور رائع، وصفك للمكان والرفوف ولقاؤك بالكتاب في تلك الغرفة والحرّاس وهيبتهم فتن عقلي وأسر روحي.
, قال "أنس" وهو ينقل عينيه بين أغلفة الروايات:
, - ولهذا كان هناك فاصل حجري يفصل بين كلّ مكان والآخر لا يتعداه أحد، فكلّ رواية منفصلة عن الأخريات.
, - وتلك الفجوات التي كنت تصنعها بالخنجر وتنتقل بها من مكان لآخر كانت طريقة ذكيّة تنتقل بها من صفحة لأخرى، وخاصة استخدامك لأرقام الصفحات، حتى أنّك نجحت في تغيير بعض الأحداث! ونقلت بعض الشخصيات من رواية لأخرى يا "أنس".
, - أدركت هذا وأنا هناك.
, - لكن ما لم تدركه أنّك دخلت رواية منهم بطريقة معكوسة، لقد بدأت رحلتك من صفحاتها الأخيرة يا "أنس"
, - ماذا!
, - القصة تبدأ بشاب سيء الخلق يسمى "كلودة"، تحبّه ابنة عمّه في صمت، تتمناه زوجًا بينما يعيش قصّة حب مع أميرة تدعى "أُونتي" كانت أنانية وشهوانية، لا تفكّر في مشاعر الآخرين، تطارده فيقع في غرامها، كان الناس يعرفون بقصتهما، وكانوا ينفرون منه.
, - ألهذا كانت "أشريا" ترفض الزواج منه؟
, - نعم، كانت تعلم خبيئته وتتألم، وعندما أفاق من غفلته وندم وتوقف عن لقائها وتزوج من ابنة عمّه ثارت الأميرة وغضبت، وظلت تهدده ليعود إليها، فعاني كثيرًا ومرض بسبب فراق زوجته التي جرحها الأمر.
, تذكّر "أنس" عندما ذهب معه للطبيب أوّل مرّة التقي به فيها وقال:
, - كان يتناول علاجًا من خلطة خاصّة يعدّها طبيب له، عاني من الهلوسات وكان حزينًا٢ نقطة
, - لكنّه ظل على ثباته فأمرت الأميرة بقتل ابنتهما، فهربا للغابة، فتبعهما حراس الأميرة وقتلت "أشريا" وخطفت ابنتها الرضيعة، فانطلق "كلودة هائمًا على وجهه يبحث عنها حتى وجدها، وعاد للقرية وأعطاها لزوجة الخباز لترضعها وترعاها، وتنسّك وظل على حاله منكسرًا حزينًا و باكيًا على زوجته، يسبّح ليلًا ونهارًا ويذكر **** في كلّ حين.
, سكت "شهاب" للحظات ثُمّ أردف:
, - كان أوّل لقائك ب"كلودة" في الصفحة الأخيرة، لكنّك بإلباسك القلادة لـ"أشريا" وابنتها أنقذتهما من الهلاك والموت على يد "المجاهيم"، تغيّرت بعض المواقف بالطبع، ثُمّ عدت إلى البداية حيث بيت "كلودة" عندما بدأ صباح أول يوم لك معه، ولهذا أخبرتني أنّك شعرت أنّه بروح جديدة وكأنه لم يبك في الليلة الماضية كما أخبرتني! ولهذا أيضًا عندما سألت عن الرضيعة لم تحصل على إجابة شافية، لقد بدأ "كلودة" فاسدًا ثم تاب وتزوج من حبيبته "أشريا"، وتنسّك بعد ذلك ولم ينتكس ويضلّ كما ظننت أنت، ومرّت الأحداث تتوالى، وانطلقت تعدّل في الرواية أيها المحارب!، بل وسحبت شخصيتين من رواية "إيكادولي" وأدخلتهم رواية "الغابة المسحورة"! في الحقيقة أنا مذهول! حتى الحبر الذي سكبته العجوز "ناردين" في جرح "كلودة" أنقذه لأنه شخصية مكتوبة في رواية!٢ نقطة دماؤه سوداء لأنّها مجرد حبر!
, كنت تظن أن "كلودة" و"أشريا" هما أبطال رواية "إيكادولي"، والصحيح أن المحارب والمحاربة هما البطلان! أنتما! أنت و "مَرام"! كان الجميع هناك يراكما في صورة المحاربين! كنتما مكانهما!
, شعر "أنس" وكأن هناك من ألقى بجبل من الحجارة على رأسه، تخشّب لسانه للحظات قبل أن يسأل بصوت متقطع:
, - وأي شيء كنت أحاربه ؟
, - هذه النقطة تحديدًا أودّ أن أوضحها لك يا "أنس"، المحارب لا يحارب بخنجر ولا بسيف وليست معركته بالنبال والسهام، حياتنا كلّها معارك، وكلّنا محاربون، نحارب أحيانًا أفكارنا الشاّذة، ونحارب أنفسنا عندما نضل، ونحارب شهواتنا عندما نتوب ونعود لخالقنا، ونصارع الأنانية فينا، نحارب الحقد وتلك النفس المتقلبة التي تجرنا أحيانا إلى الشر وتسقطنا في الفتنة، نحارب حتى ننطق بالحق والصدق، ونحارب من أجل الحبّ٣ نقطة كلنا محاربون.
, - لماذا اختارني كتاب "إيكادولي"؟
, - لأنك تؤمن بالفضيلة يا "أنس"، كان واضحًا وجليًا وأنت تحكي لي بالتفصيل أنّك كنت ثابتًا عليها حتى وأنت تعاني من السحر، وحتى عندما دق الحب على أوتار قلبك، أنتما أو المحاربان، كنتما من وجهة نظري كمؤلف تحاربان نفسيكما لأنكما وقعتما في الحب رغم أنفيكما، وهذا ما وصفته في رواية "إيكادولي"، المحاربان شخصيتان رئيسيتان، أنت و"مَرام"! كلاكما كان يجاهد نفسه، تمسكتما بالفضيلة لآخر لحظة، دار صراع عظيم وأحداث عدة، وتفرقتما عدّة مرّات.
, - وماذا حدث في نهاية الرواية؟ أخبرني كيف كتبتها؟
, - تركت النهاية مفتوحة.
, - لماذا؟
, - وددت أن أترك للقارئ مساحة ليفكر بنفسه، ليحدد ما يراه من منظوره مناسبًا.
, - ولماذا٢ نقطة لماذا تفعل هذا! إما نهاية سعيدة أو مؤلمة٤ نقطةاقتلني إذن لكن لا تتركني هكذا بدونها.
, - رضاء القراء غاية لا تدرك، إن كتبت نهاية سعيدة سيقولون هذا هراء ويشبهونها بالأفلام التافهة والمسلسلات الفاشلة، وسيتهمون القصّة بالضعف كالعادة، وإن كتبت نهاية حزينة سيسبونني ويقولون إن الرواية كئيبة، النهاية المفتوحة ترمي الكرة في ملعبهم، فلينهها كلّ منهم في خاطره كما يحب، أوتدري! حتى النهاية المفتوحة تُحزن البعض مثلك فهي تتركهم في تخبط مؤلم كمن سقط منه شيء ثمين وحزن عليه.
, - وأنا؟ و"مَرام"؟
, لاح شبح ابتسامة على وجه "شهاب" وهو يقول:
, - أتعلم أنها فكرة مجنونة!
, - أي فكرة؟
, - أن ألتقي بشخصية في رواية كتبتها٢ علامة التعجب
, - لكنني التقيت بك هناك! كنت تهددني، وأخبرتني أنني لن أستطيع تغيير شيء!
, - لم أكن أنا! وكانت تلك نفسك تهيئ لك هذا!٣ نقطة لا تستهن بالصراع الداخلي الذي كنت تخوضه مع نفسك، ليتني كنت هناك مع بناتي اللاتي وصفتهن لي!
, همهم "أنس" بكلام غير مفهوم، بدأ ينهار وتخلّى عن تماسكه، أمسك "شهاب" بيده بعد أن أشفق عليه وسارا نحو أريكة وثيرة تتوسّط غرفة المكتب وجلس بجواره يحدثه بهدوء حيث قال:
, - لولا إحساسي الذي لا أستطيع تكذيبه بأنّك شاب طيب وصادق لأنهيت هذا اللقاء فورًا. ولأنّك أخبرتني بأشياء مخبوءة في رأسي فقد أنصتّ إليك وأنا الآن أصدقك٣ نقطة لكن أتظنني أستطيع تغيير شيء؟
, - لا أدري!
, - بل تدري، فكلّ شيء يحدث لنا في حياتنا له تفسير منطقيّ.
, - وبعد؟
, - لا أدري؟ وددت لو أستطيع أن أساعدك، لكنني عاجز، ليس بيدي شيء!
, قال"أنس" وهو يتحسس ضلعه:
, - وماذا سأفعل أنا!.
, وضع "شهاب" كفّه على صدر "أنس" وقال:
, - ألم الفراق، أعلم ما شعرت به هناك، أحيانًا وأنا أكتب تراودني مشاعر مشابهة وكأنني رحلت إلى تلك الأماكن التي أكتب عنها، أشعر بك٢ نقطة
, قال "أنس" وكأنه يقطتع الكلمات من قلبه:
, - و ما أحمله الآن من ألم؟
, ترقرقت دمعة في عينيه فتأثّر "شهاب" وقال وهو يضع يده على صدر "أنس":
, - حتى ما تحمله الآن من ألم٣ نقطة فقد صرت كتابًا مفتوحًا أمامي أيّها الشاب الطيّب، قد تظن أن حياتك قد انتهت، وأن كل لحظة تعيشها ستزيد همّك، وأنّه لا يوجد بصيص نور في هذا الظلام، لكنّك ستسعد عندما تبتسم في وجه عجوز، أو تنظر برحمة لصديق، أو تقف بجواره في محنة، أو تطعم فمًا جائعًا، أو تسعد أحدهم بكلمة، نفحات السعادة التي ستمنحها للآخرين سترتدّ إليك بعد حين، قد يكون الحصول على السعادة أمر صعب، لكنّ منحها لمن حولنا أيسر بكثير.
, ثُم قال بحنان:
, - "أنس"، لا تظنّ أن قدرك بين يديّ أنا مخلوق ضعيف مثلك، ما مررت به غريب وعجيب، لكنّ الأقدار بيد **** وحده، هو الذي يكتب علينا جميعًا ما سيحدث لنا، ما أنا إلّا شخص ضعيف يحاول أن يكتب شيئًا يبني قيمًا هنا، ويزرع أملًا يزهر هناك، لكنني في النهاية ضعيف ليس بيدي شيء أقدمه لك، وإلّا كنت قد قدمته لنفسي قبلك! فلا تلجأ إلّا لله وحده٣ نقطةاطلبها منه!
, رمش "أنس" بعينيه، وأقرّ ما سمعه وعيناه ساهمتان، كادت تندّ منه أنَّةٌ موجعةٌ لكنّه تماسك، تمتم بالدعاء بصوت خفيض "اللهم اجبر كسر قلبي"، وجلس ساكنًا للحظات. ثُمّ ودّع "شهاب" وشكره على إنصاته له وكاد ينصرف لولا أنّ "شهاب" استوقفه وقال له:
, - الأمر يشبه ما حكيته عن العجوز "ناردين"، اهمس بالدعاء٢ نقطة فالهمس بالدعاء وبحكايانا التي توجعنا ونخبئها بين طيّات سهام الليل يسبق ما نعيشه وما نكتبه! أما تعلم أن الدعاء يتصارع مع القدر ويغلبه أحيانًا ويسبقه!
, ثُم ابتسم "شهاب" وعانقه طويلًا، انصرف "أنس" وقد ازداد شعوره بالغربة والوحشة، وغادر المكان برصيدٍ هائلٍ من الحزن. كانت زوجة "شهاب" تراقبه من خلف زجاج النافذة، اقترب منها "شهاب" وأحاط كتفها بذراعه، كاد يخبرها عن "أنس" لكنّه خشي ألّا تصدقه! ظلا يراقبانه وهو يبتعد. قالت بهدوء:
, - أليس هذا هو الشاب اللطيف الذي كان يداعب الأطفال الصغار في محطّة القطار والذي رأيناه منذ أسبوع أو أكثر ونحن عائدان من الفيوم؟
, - يا إلهي٣ نقطة يبدو أنّه هو!
,
, ابتسم "شهاب" وأطرق مفكرًا، هل من الممكن أن ينقله صقر إلى مملكة البلاغة في يوم ما!, خارج القائمة
 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
٢٥

النهاية

الأخير


اختفى "أنس"٣ نقطةاختفي المحارب!
, ارتبك كل من بالوادي، ثمّة لمسة من الحزن الشاجي تظلل المكان، كانت الحوراء تتلفت يمنة ويسرة في تعجب، ركض "الزاجل الأزرق" تجاه "سامي كول" الذي كان ثابتًا في مكانه كالصنم، عيناه ثابتتان كعادته، وسأله عن سبب اختطاف "الرمادي" فجأة لـ"أنس"، قال "سامي كول" بعد أن تنهّد بعمق ورفع صوته ليسكن الجميع وكأن الصمت ألقى فوق رءوسهم عباءته فجأة:
, - لقد نجح "أنس" واستعاد كلّ شيء، الصفحات امتلأت بالكلمات، وتم ختم الكتاب وضمّه لسجلات المكتبة وسينشر في الآفاق.
, قالت "الحوراء":
, - ولماذا إذن اختطفه "الرمادي" بتلك الطريقة! لم نودعه كما يليق به!
, أجابها "سامي كول" بجدية شديدة:
, - كان لا بد من حمايته، "الرمادي" أنقذه في اللحظة الأخيرة، كاد "القرناس" يقتلع رأسه.
, - القرناس٢ علامة التعجب٣ نقطة لماذا؟
, - إنّها "نَبرة" عادت لتثأر .
, سألته "مَرام" وعلامات القهر على وجهها:
, - هل سأراه مرّة أخرى؟
, - ربما نعم٣ نقطة وربما لا٣ نقطة **** وحده يعلم.
, - لقد حدث ما أخبرتني به أيها الحكيم، كان طوق نجاة لي٢ نقطة
, سالت دموعها وسط صمت الجميع، لم يجدوا من الكلمات ما يواسونها به، لم تفلح في إخفاء مشاعرها، الآن بدأت "قطرة الدمع تحلّق فوق رءوسهم، تريد أن تعيد "مَرام" لعالمها. رفعت "مَرام" رأسها بوجه أغرقته الدموع، ثُمّ كفكفت دموعها وركضت نحو "الحوراء" وأمسكت بثوبها وقالت تترجاها والدموع تملأ عينيها:
, - أرجوكِ يا مولاتي حققي لي ما وعدتني به، ألم تعديني بتحقيق ما أطلبه منك بعد انتهاء مهمتي هنا؟
, - بلى
, - الآن٣ نقطةحققي لي طلبي.
, انحنت "الحوراء" وأمسكت بيديها وساعدتها على النهوض وقالت لها بحنان:
, - وما هو طلبك يا ابنتي؟
, - ستحققينه مهما كان؟
, - بالتأكيد أنتِ تعلمين أنني عندما أعدُ لا أخلف الوعد يا ابنتي.
, - أريد حق التدوين.
, - ماذا٢ علامة التعجب
, اقتربت "مَرام" من "الحوراء" وهمست لها:
, - نعم، أنت الوحيدة التي يسمع لها الصقور، وتسمع لها الحروف، أريد أن أكتب نهاية قصّتنا، لم أتوقع أن أحب "أنس"، ظننت الأمر أبسط لكنني لا أملك قلبي الآن ولم أتمكن من حجب حبّه عنه، لقد ابتليت بحبّه.
, طالعتها "الحوراء" بإشفاق وقالت:
, - عودي يا ابنتي لبيتك، ربّما تلتقين به يومًا ما.
, - قبل أن أعود٣ نقطة لا بدّ أن يكون هنا كتاب يحكي قصتنا، ينتهي بلقاء! أرجوك، اسمحي لي بالتدوين.
, - ماذا تقولين٢ علامة التعجب
, - نعم، ولن تحتاجوا إلى استدعاء محارب، فهي مجرّد قصة ستقرأ يومًا ما٣ نقطة
, - عن ماذا؟
, - عني وعن "أنس"، عن الحب الذي يعيش طاهرًا حتى اللحظة الأخيرة وإن لم يلتقِ الحبيبان.
, - ولكن يا "مَرام" ٢ نقطة
, - أرجوك يا مولاتي ارفقي بقلبي واطلبي من الصقور وحراس المكتبة أن يسمحوا لي.
, نقلت "الحوراء" نظراتها لأبيها "سامي كول" واقتربت منه وأمسكت بيده، فسحب كفه من بين يديها برفق ونكّس رأسه، لم ينبس ببنت شفة، أدركت أنه يحيل القرار لها وحدها، بدا عليها الارتباك الشديد، مرّت الأحداث أمام عينيها تتوالى، كلّ ما قدمته "مَرام" وقدمه "أنس" للمكتبة، سارت عدة خطوات تتبعها نظرات الجميع، ثمّ ارتقت فوق درجات السلّم المؤدي لبوابة قصرها ورفعت صوتها قائلة لتفاجئ الجميع بقرارات متوالية:
, - أيها الجمع الكريم الطيب، كنت أخطط لتلك اللحظة، أفكر فيها وأرتب لها، لكنني لم أتخيل أنها ستكون الآن٣ نقطة
, صمتت هنيهة والكل يترقب ثُمّ أردفت قائلة:
, - حان وقت انتقال الحكم لولدي الأكبر والذي ظلّ لفترة طويلة بين صفوف "المغاتير" ساعيًا لخدمتكم لا يطلب مجدًا ولا شهرة، فاسمحوا لي بإلباسه التاج، فأنا على وشك القيام بأمر جلل.
, رفعت "الحوراء" كفيها وخلعت التاج عن رأسها، وتقدّمت تجــــــــاه "الزاجـــــــــل
, الأزرق" ووضعته على رأسه وسحبت غطاء وجهه لينكشف أمام الجميع، كان مرتبكًا ذاك الحد الذي عقد لسانه وجعله يقف صامتا أمام نظرات عيني أمّه التي ترجمت كلّ شيء، كل الحب، كل التقدير، كل الفخر به.
, اندفع بمشاعر الابن التي كان يخفيها دائمًا أمام الجميع وقبّل يد أمه بإجلال ثُمّ عانقها، فقد اعتاد وأمه على التعامل بشكل رسمي أمامهم حيث كان يصرّ على إخفاء هويته ليفعل الخير ويساعد الناس دون أن ينال منهم شكرًا ولا جزاء على فعله، سالت دمعة من عيني "الحوراء" وهي تضع كفها على خدّه وتتأمله وكأنها تملّي عينيها منه، تصافح كل التفاصيل الصغيرة بمقلتيها!
, تحرّك الموكب والكل في ذهول مما حدث، أصبح لديهم ملك جديد!، حتى "سامي كول" لم يجد كلمات يعبر بها عما يعتمل بصدره من مشاعر، سارت "الحوراء" نحو الغابة، يبدو أنها سترسل "مَرام" لحراس المكتبة، تحرك الموكب تكلله الهيبة، وصلوا للحدود حيث وقفت "الحوراء" وهي تمسك بيد "مَرام" أمام الفاصل الحجري بين أرض مملكتها والغابة، التفتت ولوحت لشعبها الذي كان يهتف باسمها، فاجأتهم ورفعت طرف ثوبها وتخطّت الحاجز الحجري ومشت خطوة واحدة ووقفت تتأرجح على أرض الغابة ثُمّ ندت منها صيحة فزع، لقد أظلمت الدنيا في عينيها فجأة، فقدت "الحوراء" بصرها للأبد، صرخ "الزاجل الأزرق":
, - لماذا يا أمي؟٢ علامة التعجب
, أدرك الآن أن أمه دخلت الغابة بإرادتها وهي تعلم أنها ستفقد بصرها للأبد لتلتقي بكبار الصقور وتتحدث إليهم، ولتنقل رياح الغابة كلماتها للحروف فوق الجبل الأحمر، ولحراس المكتبة الأجلاء، وأدرك أيضًا أنها لن تتراجع عن قرارها وأنه لن يستطيع الدخول معها للغابة.
, ارتفع صوت أبيها "سامي كول" وهو يقول مثبتًا إياها:
, - رعاك **** يا ابنتي، هذا عهدي بك، لا بدّ من تضحية لأجل المحاربين، هذا دَين وستسددينه عنّا.
, ثُمّ همس لحفيده "الزاجل الأزرق" الذي اقترب وعيناه تراقبان أمّه وهي تبتعد:
, - كان "أنس" طوق النجاة لـ"مَرام" عندما أنقذها من الموت، وستكون طوق النجاة لقلبه.
, مضت "الحوراء" في الغابة تسحبها "مَرام" وهي تبكي، كانت تظنّ أن الملكة ستستدعي الصقور ربما أو ترسلها إلى مكان ما، لكنها لم تتخيل أنها ستدخل معها الغابة بنفسها!
, لم تتمن "مَرام" أن يحدث هذا، لكنه القدر!
, ٣ علامة استفهام
,
, أوراق الأشجار المتساقطة تدور وكأنّ هناك من يتلاعب بها، الأشجار تهتزّ وكأن هناك صاعقة تضربها، الرياح تهب من هنا وهناك، الغابة ترتج، وهناك من يهمسون٢ نقطة
, "الملكة في الغابة٢ نقطة الملكة في الغابة"
, حتى الفراشات التي كانت تغطي جذوع الأشجار في سكون طارت وحلّقت فجأة٣ نقطة "وووووو٣ نقطةوووو٣ نقطة"
, دوي مخيف يصدر من الأكواخ وكأن وحوشًا تسكنها، أظلمت فجأة! ثم عبر شعاع الشمس فشق الضباب فسقطت خيوط ذهبية وتقاطعت على الأرض أمام "مَرام"، كانت "الحوراء" تتخبط وتتعثر، قالت بارتباك:
, - لم أدرك قدر نعمة البصر إلّا الآن! سبحان ****!
, - سامحيني يا مولاتي.
, - لا عليك يا "مَرام"، كان لا بدّ من هذا، كنت أعلم أنني سأدخل الغابة يومًا ما، لكنني لم أعلم متى بالتحديد، حتى أنني كنت أربط عيني من آن لآخر وأسير في غرفات القصر٢ نقطة كنت أستعد!
, - تستعدين لماذا؟
, - هكذا تمضي الأمور، عند انتقال الحكم لا بــــــــــدّ من الخـــــــــــــروج من نطــــــــــــــاق
, المملكة و دخول الغابة، مرحلة جديدة تبدأ، وملك جديد يتولّى الحكم. فقدَ أبي بصره هو الآخر عندما دخل إلى الغابة، ألبسني التاج قبل أن يدخلها بإرادته، من أجل محارب قديم، ضحى من أجله هو الآخر٢ نقطة
, - أتعلمين يا جلالة الملكة٢ نقطة كنت أظنّه يرى، فهو يحرّك عينيه ويطالع من يحدّثه وكأنّه يراه!
, - هكذا يظن الكثيرون، لأنه أيضًا يسير وحده بدون مساعدة، فهو يحفظ كل شبر بالمملكة.
, - إنّه رجل عظيم.
, - نعم يا ابنتي، هو رجل عظيم وأب رائع، وكان ملكًا عظيمًا أيضًا، إن كان فقد بصره فهو لم يفقد بصيرته.
, هبّت رياح قوية أطارت أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض وأطاحت بالأغصان الصغيرة فوق سطح مياة النهر الأخضر حيث كانت "الحوراء" تسير مع "مَرام"، ظهرت "ناردين" فجأة ووقفت وهي تستند على عكازها، همست بكلمات لم تفهمها "مَرام" فإذا بالحوراء تبتسم وتضغط على يدها وتقول بحماس:
, - "ناردين"؟ أهذا أنت؟
, طالعتها العجوز وقالت بإجلال:
, - نعم يا مولاتي، هي أنا٣ نقطة العجوز الوحيدة في الغابة.
, - كم كنت أتمنى أن ألقاك.
, - وها نحن ذا٢ نقطة نلتقي أخيرًا.
, أحنت الملكة رأسها وقالت بخفوت:
, - ليتني أرى وجهك.
, - لقد فات الأوان يا مولاتي.
, - نعم٣ نقطة لقد فات الأوان.
, - لماذا دخلتِ الغابة؟
, - من أجل "مَرام"٣ نقطة طلبت حق التدوين، تريد أن تكتب قصّة حبها.
, التفتت "ناردين" إلى "مَرام" وقالت:
, - ولكن نهايتها مؤلمة يا "مَرام"!
, زفرت "مَرام" بقهر ولم تتكلّم، استدارت "ناردين" وضربت الأرض بعكازها فارتجّت الغابة واهتزّت أشجارها وأسقط المزيد من أوراقها على الأرض، من بعيد ومن خلف الجبل الأحمر أطلت كوكبة من الصقور يحلقون في نظام بديع، كان هناك صقر كبير يتقدمهم بينما يصطف خلفه الصقور على التوازي في خطوط تزداد طولًا وعددًا وكأنّهم جيش كبير، اقتربوا تجللهم الهيبة وحلقوا للحظات قبل أن يهبطوا على الأرض الفسيحة أمام "ناردين"، وقفوا بنظام كما كانوا يطيرون بنظام، ضمّوا أجنحتهم إلى أجسادهم ووقفوا برءوس شامخة ينظرون تجاه الملكة "الحوراء"، ارتجفت "مَرام" وجاست خلال الصفوف تبحث عن قطرة الدمع، اطمأنت أخيرًا عندما استقرّت عيناها عليها وقد عرفتها من لون ريش رأسها المميز، استدارت "ناردين" ووجهت حديثها إلى الملكة وقالت:
, - تفضلي يا مولاتي.
, خطت "الحوراء" خطوة للأمام، وبدأت تتحدث بإيجاز، ألقت التحيّة على الصقور، ذكرت أسماء بعضهم ممن قضوا نحبهم خلال سنوات مضت، ذكّرتهم بأحداث جليلة، تحدّثت عن أبيها، وعن الكتب التي تتحدث عن النور، والخير، والحب، والصدق، والفضيلة. عن الحروف والكلمات، وعن قيمة ما يُكتب ويُقرأ، كانت الصقور تنصت إليها في صمت بليغ، لم يتحرّك أحد منهم، ولم يرّف لهم جناح، إلّا عندما ذكرت "القرناس"، وكيف كان سيقضي على "أنس" لولا "الرمادي" الذي أنقذ حياته فحينها أصدروا غمغمات تشي بغضبهم منه، سألت عن "الرمادي" فأسرعت "ناردين" تنفي وجوده، لم يعد بعد!، نكّست "الحوراء" رأسها حزنًا عندما تذكّرت كيف رحل "أنس" دون وداع يليق به، طلبت أخيرًا من الصقور أن يساعدوا "مَرام" لتقوم بكتابة قصّة حبّها على الورق، مرّت لحظة صمت مهيبة قبل أن يبسط أكبر الصقــــــــور
, جناحيه ثُم يقترب من الملكة التي انحنت على "مَرام" وقالت لها:
, - الآن يا "مَرام"
, - الآن ماذا؟
, - سيحملك هذا الصقر إلى المكتبة العظمى حيث ستكتبين ما يريح قلبك
, - ولكن٣ نقطة
, شعرت "مَرام" بالخوف، كادت تتراجع لولا "القرناس" الذي ظهر فجأة ونقر كبير الصقور بين عينيه، تراجعت الصقور وأفسحوا المجال لزعيمهم ليقاتل "القرناس"، انقضّ كلاهما على الآخر في معركة شرسة، شكّلت الصقور دائرة حولهم فغاب المشهد عن "مَرام" التي كانت تمسك بيد الملكة ومعهما العجوز"ناردين"، ابتعد الثلاثة وساروا نحو الكوخ، لا بدّ من الاحتماء به حتى تنتهي المعركة، من الخلف ظهرت "نَبرة" وفي يدها خنجر غريب يبرق حدّه كاللجين، كان "القرناس" قد حملها إلى الغابة وتركها خلف الأشجار، انقضّت على "مَرام" وأسقطتها أرضًا وكادت تغرز الخنجر في قلبها وهي تقول:
, - إن لم يكن "أنس" يومًا لي، فلن يكون يومًا لك.
, ثمّ أطلقت صرخة غضب عالية وهي ترفع يدها للأعلى لكي تهوي بالخنجر وتثقب قلب "مَرام"، في تلك اللحظة انقضّت بومتها عليها وغرزت مخالبها في عينيها فسقط الخنجر من يدها واستمر صراخها وهي تركض في الغابة حتى سقطت في النهر الأخضر الذي استحال سوادًا، ثُمّ عاد لونه الزمردي بعد أن أحدث فورانًا وكأنه يبتلع شيئًا ما، حلّقت البومة البيضاء التي طالما كانت "نَبرة" ترى بعينيها فوق النهر حتى تأكّدت أن "نَبرة" غرقت فيه، لم تنس تلك البومة أبدًا عندما خنقت "نَبرة" صغارها في العشّ لأنّها انشغلت بهم ولم تحلّق ليلًا لأيام جعلتها لا تتمكن من متابعة تحركات "أنس"، كرهت تلك اللحظة التي قهرتها فيها "نبرة" على صغارها ولم تنسها أبدًا، عادت حيث كانت "مَرام" ورمقتها بنظرة تعني الكثير، ثُمّ حطت على رأس "الحوراء" التي صاحت:
, - ما هذا! ما الذي يحدث! اتركوني اتركوني.
, أسرعت "مَرام" تجاه "الحوراء" محاولة إزاحة البومة عن رأسها، لكن "ناردين" منعتها بعكازها الذي مدته أمام صدر "مَرام" وهي تتقدم وقالت لها:
, - لا٣ نقطةاتركيها!
, اهتزّت البومة وبسطت جناحيها الأبيضين وغطّت عيني "الحوراء" بهما ثُمّ أغمضت عينيها هي الأخرى للحظات ونزلت لتستقرّ على كتف "الحوراء" التي كانت في غاية الارتباك بينما وبشكل سريع انتشرت على أطراف جناحيها تموجات رفيعة باللون اللازوردي الفتّان أظهرت بياض لونها بقوّة وزادتها تألّقًا وجمالًا، وفجأة! صرخت "الحوراء":
, - ما هذا! أنا أرى٢ علامة التعجب عاد بصري٢ علامة التعجب٢ نقطة عاد بصري٢ علامة التعجب
, تهلل وجه "ناردين" واقتربت منها ثُم قالت:
, - بل منحتك البومة هدية، أنت ترين الآن بعينيها كما كان يحدث مع "نبرة" الهالكة، ستصحبك البومة وستكون دليلك يا مولاتي.
, التفتت "الحوراء" تجاه البومة وتأمّلت لونها الرائع وابتسمت، كان بياضها يحاكي روح "الحوراء" النقية، قالت "الحوراء" وقد بدا التأثّر عليها:
, - سأسميها "الشهباء"، كم هي جميلة!
, انتفض الثلاثة عندما قعقع الرعد في السماء، رياح قويّة هبّت عليهم وتناهى إلى سمعهم غقغقة أحد الصقور٣ نقطة كان "القرناس" يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما يستعدّ الجميع للتحليق مرّة أخرى خلف زعيمهم الذي اقترب من "مَرام" وما زالت الدماء تقطر من منقاره، ودون أن يسأل الحوراء حمل "مَرام" من كتفيها وانطلق بها وخلفه الصقور في صفوف، اشتدت الرياح، ندف شلجية صغيرة تتطاير في كلّ صوب، كانت "ناردين" تصيح وتلوح لها:
, - لا تخافي يا "مَرام" أنتِ في أمان.
, كانت تحمل حقيبة "أنس" حيث أخفت خنجره، وما تبقى من الحبر في الزجاجة الزرقاء التي استخدمتها "ناردين" في علاج جرح "كلودة"، وصلت أخيرًا وفُتحت لها الأبواب، وانتقلت مع كبير حراس الكتب إلى ديوان الكتابة حيث تستطيع كتابة قصّتها مع "أنس" بنهاية ترضيها، بينما يسيران تجاه ديوان الكتابة، وفي أحد الممرات التي دخلها "أنس" من قبل، توقف كبير الحراس وكان يشعر بمعاناتها وقال متأثرًا:
, - ذاك باب الغرفة الخاصّة بكتاب "إيكادولي".
, توقفت "مَرام" أمامه، أرادت أن تدخل وترى الكتاب، حاولت أن تفتح الباب فلم تتمكن.
, اقترب منها كبير الحراس وقال بهدوء:
, - هذا الباب لا يُفتح إلا بمفتاح خاص، وذاك المفتاح كان مع "أنس"، وقبله والده، وقبلهما جدّه، فهل المفتاح معك؟
, فتشت "مَرام" في الحقيبة فلم تجد المفتاح وأسقط في يدها وشعرت وكأن الأرض تميد تحت قدميها، سالت دموعها، ما عادت تقوى على الكلام، طنٌّ من المشاعر الجريحة يقبع بين ضلوعها الضعيفة٤ نقطة وفجأة!، صدر دوي مكتوم، ثم فُتح لها باب الغرفة على مصراعيه! بلا مفتاح! كست وجه كبير الحراس ابتسامة واسعة، وهزّ رأسه يشجعها على الدخول، دخلت تهرول يسبقها قلبها مهرولًا على درج الذكريات، كلّ لحظة مرّت والتقت فيها بـ"أنس" أو تحدثت إليه فيها تتجدد الآن! شعور بالحنين يغمرها، أجفلت عندما نشر كتاب "إيكادولي" صفحاته أمام عينيها ثُمّ بدأت تقرأ كلّ شيء، كل تلك التفاصيل الصغيرة التي مرّت بهما، دارت الصفحات حولها وغمرها شعور بالسكينة ، قرأتها وهي تبكي، سقطت الصفحة الأخيرة أمامها على الطاولة، أسرعت نحوها وأخرجت زجاجة الحبر من حقيبة "أنس" بيد ترتجف، تلفتت حولها بِحيرة، كانت تبحث عن شيء ما تغمسه في تلك الزجاجة وتكتب به، أرادت أن تنقش شيئًا هامًا على تلك الورقة، ربما لقاء أخير لهما وإن لم يكن، أو ربّما نهاية سعيدة كانت تتمناها، وأخيرا رُفعت الصفحة الأخيرة أمام عينيها وارتفعت في الهواء بعيدًا عنها فانخلع قلبها ومدّت يدها محاولة أن تجذبها لكنّها لم تتمكن، كانت تظنّ أنها ستكتب نهاية لتلك القصة التي عاشتها، لكنّها لم تقدر، فلن نكتب أبدًا أقدارنا٢ علامة التعجب
, وبينما تبكي٣ نقطة شعرت بأنفاس دافئة قريبة من وجهها فأجفلت فهي وحدها في تلك الغرفة! همسٌ بصوت عذب تردد في أذنيها!
, إنه كتاب "إيكادولي" الذي كان يخبرها بشيء ما٢ علامة التعجب
, ٣ علامة استفهام
,
, في الغابة، التفتت "ناردين" تجاه الملكة التي كانت تراها بعيني بومتها "الشهباء"، ابتسمت لها "الحوراء"، وأخيرًا رأت وجهها وملامحها، عانقتها بحرارة وسارت معها، صعدت العجوز التلّة وجلست على الدرج الحجري فجلست الملكة "الحوراء" بجوارها ثُمّ قالت وعلى وجهها ابتسامة مشرقة:
, - أظنّ أنّ "مَرام" ستحسن كتابة نهاية سعيدة.
, - المسكينة، تظن أنها تستطيع كتابة النهاية بنفسها، لكنها ستفيق بعد مرور الصدمة، ولست قلقة عليها، فهي فتاة عاقلة ومؤمنة تعلم أن أمرهما بيد **** وحده.
, قالت "ناردين" بتعجّب:
, - ألن تكتب هي النهاية؟
, - لا!
, - إذن فلم طلبت حقّ التدوين؟
, - أنسيتِ يا "ناردين" أن كلّ هذا مكتوب في رواية٢ علامة التعجب كان لا بدّ أن تطلب "مَرام" حق التدوين لتذهب إلى هناك لسبب ما ربما لا أعرفه أنا ولا أنتِ.
, - صحيح٢ نقطة نسيت٢ نقطة عمومًا، لا تزال لقصتهما بقية٣ نقطة فالستار لم يسدل بعد.
, لكزتها "الحوراء" في ذراعها وقالت:
, - نحن النساء نفضل النهايات السعيدة، أليس كذلك؟
, - نعم، فأنا لا أفضل النهايات المفتوحة، أرأيت كيف أصبحت نهاية قصّة "كلودة" و "أشريا"؟
, صفّقت "الحوراء" وقالت مبتهجة:
, - نعم٢ نقطة لم تمت "أشريا" بل خرجت من الغابة، والآن يعيش الزوجان في سعادة.
, رفعت "ناردين" عينيها وكأنّها تقتنص فكرة ثُمّ قالت:
, - لكنني٣ نقطة وددت أن يتزوج "كُومبو" من فتاة جميلة، ويسمن قليلًا حتى يناسبه اسمه! ربّما في مرّة قادمة، أليس كذلك؟
, - ولم لا٢ علامة التعجب
, - والآن٣ نقطة تعالي لنهمس بقصة "أنس" و "مَرام" حتى نُسمع الجميع.
, - هيّا٤ نقطة فلنبدأ.
, بدأت العجوز "ناردين" تهمس و خلفها "الحوراء" تردد الكلمات٣ نقطة سمعتهما الرياح وحملت أصواتهما هنا وهناك، وتناقلت أجواء الكون قصّة حبّ عفيف طاهر،٣ نقطة
, (يحكى أنّه كان هناك شاب مليح الوجه له عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك الالتحام يرى كلّ ليلة كابوسًا مزعجًا و٧ نقطة)
, ٣ علامة استفهام
,
, في اليوم التالي ليوم لقائه بـ"شهاب" في القاهرة، وبعد ليلة لم ينم فيها ووصل سهده بتهجده وهمس بالدعاء، وعلى شاطئ البحر في الإسكندرية، بعد أن تذكّر وسط يأسه وحزنه أنه كان قد اتفق مع "مرام" على مكان للقاء، فلمع في نفسه بصيص أمل وظلّ يفسح له حتى ملأ الضياء جوانب نفسه فأسرع مهرولًا تجاه المكان الذي اتفقا عليه منذ طلوع فجر ذلك اليوم، كان يقف ساهمًا يراقب الساعة من آن لآخر، وكلما مرت دقيقة كان يشعر بالاختناق وكأنّه على وشك الغرق، كان ينتظر طوق النجاة لقلبه، يرجو أن يراها مرّة أخرى، ارتج كيانه وهو يسمع صوتًا أنثويًّا رفيقًا ولطيفًا خلف أذنه يناديه:
, - "أنس"؟ أهو أنت؟!
, شعر بوجيب في قلبه عندما سمع صوتها، التفت مرتبكًا فإذا بــــهـــــــا خلفــــــــــــه
, بقامتها القصيرة وجسدها الرقيق وملامحها البريئة، وعينيها الرائعتين، مخبوءة في شعاع نوراني من حيائها الجميل٣ نقطة إنّها "مَرام"٢ علامة التعجب
, صاح بحماس غير مبال بالتفات المارّة إليه:
, - "مَرام"٣ نقطة يا إلهي!
, طالعها بنظرة بثّ فيها كل ما بقلبه من أشواق، رفعت كفها في الهواء فظهرت آثار الحبال المجدولة عليه، ما زال الجرح يحرقها، رفع "أنس" هو الآخر يده ليريها آثار الحبال على كفّه وذراعه، وكأنّ كلاهما يريد أن يثبت للآخر أنّه هو. بدا عليهما الارتباك الممزوج بالسعادة، لمعت دمعة طاهرة في عينها كنجمة قطب ثمّ نفرت من جفنها وسالت على خدّها برفق، رفعت عينيها الشهلاوين وعليهما آثار التعب وقالت:
, - ظننتك مجرّد شخصية في رواية، هكذا أخبرتني أمي٣ نقطة
, مرّت لحظة صمت لطيف قال بعدها:
, - كيف عدت إلى هنا؟
, - أمر الملك الجديد "قطرة الدمع" بإعادتي.
, - ملك جديد!
, - تخلت "الحوراء" عن عرشها لابنها.
, - "الزاجل الأزرق"!
, - وهل كنت تعرف أنّه ابنها؟
, - بل عرفت عندما أتيت إلى هنا، سأخبرك لاحقًا، يبدو أنّ كلانا لديه ما يحكيه للآخر، المهم أننا التقينا، وهذا من فضل ****، كنت على يقين أنّني سأجدك هنا٣ نقطة وثقت بربي.
, قالت وهي تشعر أن كيانها يختلج:
, - أتدري، همس لي "إيكادولي" يذكّرني بالمكان والموعد الذي اتفقنا أن نلتقي فيه يومًا إن افترقنا٢ نقطةأرجوك لا تختفي مرّة أخرى٣ نقطة
, - وإن حدث٣ نقطة سأبحث عنّك حتى أجدكِ، كوني على ثقة من هذا.
, انزوت على ثغرها ابتسامة وقالت وهي تشيح بعينيها بعيدًا عنه:
, - أثق بهذا.
, ثمّ قالت باهتمام شديد:
, - "أنس"، عندما كنّا فوق قمّة الجبل أخبرتني أن أذكرك بشيء ما تودّ أن تخبرني به، فهل ما زلت تذكر هذا الأمر الهام؟
, - بالطبع أذكره، وكيف أنساه!
, - وما هو؟
, أومضت حفنة من النجوم في عينيه البندقيتين وقال:
, - هل تقبلين الزواج منّي؟
, لم تنطق "مَرام" بكلمة، كانت الدموع تنهمر على وجنتيها مختلطة بماء المطر الذي بدأ يهطل برقّة وعذوبة، غمرتها حمرة الخجل، ثُمّ همهمت موافقة بصوتٍ خفيض، شعر "أنس" بالفرحة تموج في صدره، كست وجهه ابتسامة واسعة فأشرقت عيناه، كان يتأرجح في مكانه وكأن صاعقة أصابته فجأة٢ نقطة
, اختبأ قرص الشمس خلف سحابة هشة وبدأ المطر الهتون يسقط عليهما،
, دسّ "أنس" يديه في جيبي سترته وسألها عن الساعة وهي التي كانت خارج نطاق الزمان والمكان، ثُم قال بحماس:
, - فلنذهب الآن للقاء والدتك٢ نقطة
, ردت مشرقة:
, - حسنًا أيها المحارب.
, قهقه "أنس" وفتح ذراعيه ثُمّ رفع رأسه يستقبل زخّات المطر على وجهه الذي أضاءه الحبّ، بدأ يغني بصوت تنضج منه البهجة و في لحن جميل كان يردد أغنية طالما رددها "كلودة" و "كومبو"، كانت بدايتها كلمة واحدة محببة لقلبه٣ نقطة "إيكادولي٤ نقطة إيكادولي"
, غضنت "مَرام" حاجبيها وقالت بغضب ممزوج بالخجل:
, - مهلًا مهلًا٣ نقطة ليس الآن!
, ثُمّ هرولت أمامه في خجل ورفعت يدها لتستوقف سيارة أجرة تقلّهما للقاء أمّها بينما كان يلاحقها معتذرًا وهو يقول:
, - كنت أغنيها فقط٣ نقطةلم أقصد أن٣ نقطة يا "مَرام" لقد فهمتني خطأ٢ نقطة أأقصد ٢ نقطة هذا بالفعل ما أشعر به٢ نقطة سامحيني.
, - "ليس الآن٣ نقطة ليس الآن"
, قالتها وهي تهرب بعينيها منه٣ نقطة
, بعد سنوات، وحيث حملت الأيام ثلاث بشريات لـ"شهاب" وزوجته، ونثرت الكثير من السعادة على "مَرام" و"أنس"، وفي بيت الجدّ، وبينما في بقعة أخرى من مكان آخر كان هناك شاب لطيف وواسع الخيال يجلس في غرفته ويقرض أظافر يده اليسرى ويتمتم وهو يكتب آخر جملة في روايته الجديدة٢ نقطة كانت الكتب تدور في مكتبة الجدّ بالفيوّم حول "حبيبة" شقيقة "أنس"، والتي كادت تفقد الوعي عندما سقطت الكتب فجأة على أرض الغرفة مخلفة حولها سحابة من الغبار حيث أصدر سقوطها دويًّا مهيبًا، كان هناك كتاب واحد فقط بقي مفتوحًا أمامها، كانت ترتجف وهي تحملق في الصفحات وهي تتقلب وحدها أمام عينيها وكأن هناك شبحًا يعبث فيها، اقتربت بحذر من الكتاب، رأت صورتها تُرسم على الصفحة، ثُمّ بلون أحمر كرزي رأت رمزًا غريبًا يُكتب بوضوح!
,
, ٢ نقطة تمت ٢ نقطة, خارج القائمة




 
  • عجبني
التفاعلات: wagih
عودة
أعلى أسفل
0%