NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

دكتور نسوانجي

مدير
طاقم الإدارة
مدير
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
نسوانجي قديم
حاصل علي أكثر من 100000 نقطة
ناشر مجلة
إنضم
8 سبتمبر 2021
المشاركات
45,841
مستوى التفاعل
11,983
نقاط
19,257
قصة : النواسيّ ! ( م/ م ، ف/م )


بضعة تنويهات :

تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف ، فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك ، فقد نوهنا به .

تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين جماعةٍ من الذكور . وعلاقةً جنسيّةً بين أنثى وذكر على غير النهج التقليدي الذي أشار إليه الفرزدق في قوله ( وأعطيْتَ ما تعطي الحليلةُ بعلَها ) ، فإن كانت هذه أو تلك تسوؤك / تسوءك، فقد نوهنا بهما .

تنويه 3 _ وهو فرعٌ على تنويه 2 _ : من الجليّ أن كل الأفراد الذين يشاركون في أي سلوك جنسيّ في هذه القصّة وغيرِها من قصص المدوّنة قد تجاوز سنُّهم الثامنة عشرة .

ولأن هذه القصة بالذات تشير في الجزء الخاص بالتصدير إلى نصوص من الأدب العربي القديم ، ومعلومٌ أن الأدب العربي القديم كان يقصر المثلية الجنسية _ تقريباً _ على اغتصابِ القصّر الذين يشار إليهم بالمرد أو غير ذلك ، وجبَ التنبيه إلى أن الكاتب ينصّ على رفضه القاطع لذلك الفكر ، وأنه يرى في صواب تجريم ممارسة أي فعل ذي طبيعة جنسية يفعله شخصٌ بالغ بأيّ *** لم يبلغ السنّ القانونيّ ... وأن هذا الفعل يكون آنذاك اغتصاباً لأنه لا تتوفّر فيه الموافقة حتى لو تُوُهِّم وجودُها ...
فإن كان هذا مما يسوؤك/ يسوءك ، فتلك كارثة .

تنويه 4 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ
Erotic spanking (/ />
فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .



تنويه 5 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه ، ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه ، وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة ، وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف ، وليس حثاً على الحقيقة ، ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .

فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .




(تصديرٌ)


يُعْتَبَرُ الحسَنُ بن هانئ _ وكنيته أبو نواس _ ( 756 - 814 م ) واحداً من أشهر شعراء العصر العباسي والأدب العربي عموماً ...

وقد أدَّى ولعُه بوصف الخمر والغزل الصريح إلى إكسابِه سمعةً لا تزال ممتدّةً حتى عصرِنا هذا ...
ولعلّ ابن المعتزّ كان موفّقًا إلى حدٍّ بعيدٍ عندما وَصَفَ سمعتَه عند الناسِ بقوله _معقباً على إحدى القصائد الماجنة_ :

((وهذا الشعر مما ينحله العامة أبا نواس. وذلك غلط، لأن العامة الحمقى قد لهجت بأن تنسب كل شعر في المُجُون إلى أبي نواس، وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر : كلُّ شعْرٍ فيه ذِكْرُ ليلى تنسبه إلى المجنون. ))

ومعلومٌ أن مجنون ليلى قد قَصَرَ ديوانَه وحياتَه كلَّها على حب ليلى ، حتى اعتقد الناس أن كلَّ شعرٍ في محبوبةٍ اسمُها ليلى هو له ، فإذا بلغ أبو نواس في "المجون" حدًّا يعتقد معه العامة أن كل شعرٍ ماجنٍ من نصيبه فإن هذا يوضح في جلاءٍ ما اتصف به هذا الشاعر من " مجونٍ " مفرطٍ .

وفي هذا التصدير سنعرض بضعة نصوصٍ من كتب لمؤلفين مختلفين ، وهذه النصوص ستلقي بعض الضوء على نشأةِ ذلك الشاعر الكبير ، ثم ستكون القصّةُ _ فيما بعدُ _ مستلهمةً لهذه النصوص .

النص الأول من كتاب طبقاتِ الشعراء لابنِ المعتز ( 861 - 908 م ) الخليفةِ العباسي حفيدِ حفيدِ هارون الرشيد _ وقد كان هارون الرشيد ممن مدحهم أبو نواس ، فهذا النص كَتَبَه حفيدُ حفيدِ ممدوحِه _ ، ويبيّن لنا هذا النص الطويل نسبيًّا بعضَ الصفات التي اتّسم بها والبة بن الحباب ( ؟ - 786 م ) _أستاذ أبي نواس _ ، والتي تُعْتَبَرُ مدخلاً لفهم شخصية أبي نواس :

(( أخبار والبة بن الحباب

حدَّثني عبد الكريم بن عبد الرحيم الأنباري قال: حدَّثني إسماعيل العمري قال: رأيْتُ الحسنَ بن هانئ غلاماً مع والبة بن الحباب
_صغيراً مليحاً نادراً_، يَخْدِمُه ويتصرَّف في حوائجه الخفاف .

ووالبة هو الذي أدَّب أبا نواس.

وحدثني محمد بن الهيثم الموصلي قال: حدَّثني العامري وإبراهيم بن عقيل قالا: قال والبة : رأيت إبليس فيما يرى النائم كأنه أتاني فقال لي: ترى غلامك الحسن بن هانئ هذا؟

قلت: ما شأنه؟

قال: إنّ له لشأنا و**** لأغوينّ به أمة محمد عليه السلام، ولألقينّ
محبته في قلوبهم .

ومما يُسْتَحْسَنُ لوالبة:

أحْسَنُ من درٍّ ومرجانِ || آثارُ إنسانٍ بإنسانِ
قد عَضَّه ذو حَنَقٍ مُشْفِقٌ || وقلبُه ليس بغضبان
عاقَبَنَي منتقماً جُهْدَه || وقد جزاني كلَّ إحسانِ
لو كان يدري أنه محسنٌ || بَدَّل إحساناً بهجران

ولوالبة في المجون والفتك والخلاعة ما ليس لأحدٍ، وإنما أخذ أبو نواس ذلك عنه.

ومما رُوِيَ لوالبة في المجون:

شرِبْتُ وفاتكٌ مثلي جموحٌ || بـ(غمَّى) بالكئوسِ وبالبواطي
يعاطيْنا الزجاجةَ أريحيٌّ || رخيمُ الدلِّ بُورِكَ من مُعَاطِي
أقول له _على طربٍ_ ألِطْنِي || ولو بمُؤَاجِرٍ عِلْجٍ نباطي
فإنَّ الخمْرَ ليس تطيب إلاّ || علي وَضَرِ الجنابة باللواطِ

وله أيضاً في ذلك:

قد قابلَتْنَا الكئوسُ || ودابرَتْنَا النحوسُ
واليوم هرمزُ روزٍ || قد عظمَتْه المجوسُ
لم تُخْطِهِ في حسابٍ || وذاك مما تسُوسُ
ونحن عندَ عميدٍ || قد غاب عنا البسوسُ
نُعِير كأساً ، وكأساً || أوصى بها جَالِنُوسُ
أنا وجيٌّ عروسٌ || والكأسُ أيضاً عروسُ
يسْقَى العروسُ عروساً || إحداهما الخندريس
حتى إذا ما انتشينا || وهزّنا إبليسُ
رأيْتَ أعجبَ شيءٍ || منّا _ونحن جلوسُ_ :
هذا يقبّلُ هذا || وذاك هذا يبوسُ

وهذا الشعر مما ينحِلُه ( ينسبه ) العامةُ ( إلى ) أبا نواسٍ . وذلك غلطٌ، لأن العامةَ الحمقى قد لهَجَتْ ( اعتادتْ ) بأنْ تنسبَ كلَّ شعرٍ في المجون إلى أبي نواس، وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر ؛ كلُّ شعْرٍ فيه ذِكْرُ ليلى تنسبه إلى المجنون.

وحدثني اليزيدي قال: حدَّثني أبو سلهب الشاعر قال: كان والبة بن الحباب ماجناً خليعاً. ما يبالي ما قال ولا ما صنع. وكان منزلُه في آخر زقاق لا منفذ له. فكان إذا أتاه السائلُ ( المتسوّلُ ) يسأله، يتركه حتى يطيل ( الوقوف على البابِ) ويُكْثِرُ ( الطلبَ ) ولا يجيبه ( لا يفتح له البابَ ) ، فإذا عَلِم أنه قد انصرف ومشى إلى طرف الزقاق- والزقاق طويل جداً- فتح بابه ثم ناداه، فيجيبه: لبيك لبيك، يظن أنه قد أخرج له شيئاً ( أنه سيعطيه مالاً )، ويُقْبِلُ نحوه، فإذا قَرُب منه قال: صنع **** لك ( وسّع **** عليك ) .

وحُدِّثْتُ أنّ المهدي ( الخليفة العباسي والد هارون الرشيد ) ذَكَرَه ( في مجلسه ) ذات يوم فقال: ما أشعرَه وأملح شعْرَه! وهو مع ذلك أديبٌ واسعُ الحفظ.

فقال له بعضُ مَنْ في مجلسه: ما يمنعك من منادمته؟

قال: يمنعني من ذلك قوله :

قلْتُ لساقينا _على خلْوةٍ_ : || أدْنِ _كذا_ رأسَكَ من راسِي
وادْنُ ، فَضَعْ صَدْرَكَ لي _ساعةً_؛ || إني امْرؤٌ أنْكِحُ جُلّاسِي

فتريد أن ينكِحَنا _لا أمَّ لك_ ؟! ))

وفي مكانٍ آخرَ من الكتابِ نفسِه :

(( .... ومات والدُهم هانئُ ( أبو أبي نواس ) _ وأبو نواس صغيرٌ_ فنقلتْه أمه ( أمُّ أبي نواس ) إلى البصرة وهو ابنُ ست سنين، فأسلَمَتْه إلى الكُتَّاب، فلما ترَعْرَعَ خَرَجَ إلى الأهواز، فانقطع إلى والبة بن الحباب الشاعر، وكان والبةُ يومئذ مقيماً بالأهواز عند ابن عمِّه النجائي وهو واليها ( كان النجائيّ والي الأهواز ) ، فأدَّبَه وخَرَّجَه.

وكان أبو نواس وضيئاً صبيحاً ، فَعَشِقَه والبةُ وأعْجِبَ به، وعُنِيَ بتأديبِه حتى خرج منه ما خرج. ))

أما الجاحظ ( 780 - 869 م ) _ وهو من أئمة المعتزلة _فقد كان أكثرَ عنفاً من ابن المعتز ، فقد تحدَّثَ صراحةً عن رأيِه في والبة بن الحباب فذكره في الزنادقة ، فقال في كتابه (الحيوان) :

(( ذِكْرُ بعْضِ الزنادقة
وكان حمّادُ عجرد، وَحَمَّاد الرّاوية، وحمّادُ بن الزّبرقان، ويونس بن هارون، وعلي بن الخليل، ويزيد بن الفيض، وعُبادة ، وجميل بن محفوظ، وقاسم، ومطيع، ووالبة بن الحباب، وأبانُ بن عبد الحميد، وعمارة بن حربية، يتواصلون وكأنهم نفس واحدة .
وكان بشّار ينكر عليهم .
ويونس الذي زعم حمادُ عجْردٍ أنّهُ قد غَرَّ نفسه بهؤلاءِ، كانَ أشهَرَ بهذا الرّأي منهم، وقد كان كتبَ كتاباً لملك الرُّومِ في مثالب العرب وعيوب الإسلام ، بزعمه. ))

ثم نصل إلى النص الأخير والذي كتبَه أبو الفرج الأصفهاني ( 897 - 967 م ) الأموي _ حفيدُ الخلفاءِ أيضاً ، فجَدُّه السادس هو الخيفة الأموي مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويّين _ في كتابه ( الأغاني ) ، ويروي لنا هذه القصّة التي سينقلها عنه كتّابٌ آخرون فيما بعد بصيغ متقاربة :

(( أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني ابن أبي فنن، قال:

... وكان والبةُ أستاذَ أبي نواس، وعنه أخَذَ ، ومنه اقتبس، قال: وكان والبة قد قَصَدَ أبا بجير الأسديَّ وهو يتولى للمنصورِ الأهوازَ، فمَدَحَه وأقامَ عنده، فألفى أبا نواس هناك وهو أمردُ ، فصَحِبَه وكان حسنَ الوجْهِ، فلم يزلْ معه .
فيقال: إنه كَشَفَ ثوبَه _ليلةً_ فرأى حُمْرَةَ أليتَيْهِ ( رِدْفَيه ) وبياضَهما، فقَبَّلَهما ، فضَرَطَ عليه أبو نواس، فقال له: لِمَ فعلت هذا ويلك؟!
قال: لئلا يضيعَ قولُ القائلِ : ما جزاء من يُقَبِّلُ الاستَ إلا ضَرْطةٌ ! ))

بَقِي أن نشير إلى أنّ حياة أبي نواس _ من وجهة نظر بعض النقاد _ لم تكُنْ _كما شاع عنها_ حياةَ لهْوٍ وهزلٍ ومجونٍ وخلاعة ...ولكنه أغرى الناسَ باعتقادِ ذلك خوفاً مِن أن يكشفوا حقيقة ما يعانيه من استياء ورفض للظلم الاجتماعيّ الواقع عليه بسبب كونِه مولًى ( ليس عربيَّ الأصل ) ، وبسبب ما شاع من مظالم الحكام ورجال الدولة التي لم يستطع أن يقاومَها _ كما تملي عليه طبيعتُه العلميّة والأدبيّة _ خوفاً من أن يناله بطشُ هؤلاء الحكام ، فلجأ إلى الخمر يهرب إليها وبها من همومه وعذاباتِه ...

ولو جاز لنا أن نعلّق على رأي هؤلاء النقاد لقلْنا ما قاله المثل : المرْئِيّ في الرائي !

الأقربُ إلى الصحّة _ فيما نرى _ أن أبا نواس لم يكنْ بهذا التوجّه " الرومانسيّ" على الإطلاق ، بل إن جاز اختزاله في قالبٍ ما ، فهو قالب المجون والخلاعة الذي خلعه عليه الأقدمون ...

وبإمكان النقاد المعاصرين أن يذمّوا نظم الحكم في تلك الفترة ، أو أن يتحدثوا عن رأيهم في الطبقية الاجتماعية والعداء للأجانب في الدولة الأموية والعباسية ، ولكن محاولتهم اصطناعَ حلفاء بأثر رجعيّ عن طريق ليّ أعناق النصوص وتحميلها ما لا تحمله ، لن ينتج عنه أكثر من فقدانهم مصداقيَّتَهم لدى المتلقي ...

وعليه فأبو نواس الحقيقي _ على الأغلبِ _ هو أقربُ إلى أبي نواس (ألف ليلة وليلة) منه إلى أبي نواس (أمل دنقل )!



*****************

- القصة :-
( 1 )

من كتابِ أبي نواس الحسن بن هانئ إلى عنان جارية الناطفي


.... وذكرْتِ أنكِ تَجِدِين من الأنس بي وعدم احتشامي ما أغراكِ بسؤالي عن شيءٍ بلغكِ عنّي ولا زال يشغل بالكِ منذ بلغكِ ، وأنّه لا تزال بكِ بقيّةٌ من حياءٍ فلم تقدري على مخاطبتي به فأرسلْتِ إليّ في هذا الكتابِ سؤالَكِ عنه ...

ثم إنني قلّبْتُ الكتابَ ظهراً لبطنٍ فلم أر فيه سؤالاً ولا ما يشبه السؤال ، فقُلْتُ لعله لغزٌ ما .. فأطلْتُ النظر في الكتابِ فلم أنتهِ إلى شيءٍ ..

ولما ساءني أن يقتصر كتابي إليكِ على ما سبق ، فإنني رأيْتُ أن أجتهد أنا في حزْرِ ما لعله قد بلغكِ عني ..

فإنّ ما بلغك لا يعدو أن يكون أحدَ شيئين : إما أن يكون صدقاً فأنا _ولا بُدَّ_ عالمُه ، وإما أن يكون كذبًا لا أصلَ له ، فيكون على إحدى حالتين : أنه كذبٌ شاع عني وانتشر ، حتى بلغني خبرُه كما بلغ الناسَ ؛ فأنا _ وإن لم أكنْ أول من علمَه _ قد علمْتُه سماعاً عمَّنِ اختلقَه ، وإما أن يكون كذبًا لم يشِع بين الناس فلم يبلغني خبرُه ، وكونه كذلك بعيدٌ ؛ لأنه بلغكِ أنتِ _ مع أنكِ لسْتِ ممن يتتبع عوراتِ الناس ( مجازاً ، وإلا فولعكِ بتتبع عوراتهم على الحقيقة لا يجهله أحدٌ ) _ فلا بد إذن من أنه خبرٌ شاع بين الناس إن صدقاً وإن كذباً .

وعليه ، فما بلغَكِ معلومٌ لديّ ، فلم يبقَ إلا أن أحدس ما هو ..

وقد رأيْتُ أن أستفيض في وصْفِ ما أعتقد أنه هو الذي بلغكِ عني ، حتى تشفع الإطالةُ في الوصف في احتمال كون الموصوف ليس المطلوبَ لديكِ ؛ فتكوني كالتي ابتاعَتْ غير حاجتِها فلما عادَتْ إلى بيتِها قالتْ : " ليس هذا ما قصدْتُ إلى شرائه ، ولكنّه كثيرٌ عميمٌ ، ففي كثرتِه _على رخص ثمنه_ ما يغني عن كونه ما أردْتُه " ، فهذه بعضُ الأخبار التي أحسب أن فيها ما بلغكِ عني ومنعَ النومَ عن عينيكِ ...

وستَرَين سوءَ ظني بكِ ؛ فليس في هذه الأخبارِ إلا ما هو مغموسٌ غمسًا بالمجون ، معجونٌ عجنًا بالخلاعة ؛ لأني لا أحسب أنّ شيئاً يشغلكِ إلا وهو من هذا الصنف ..

وسترين تبصري بالعواقب ؛ فإنني ذكرْتُ آنفاً أن ما بلغكِ قد يكون صدقاً أو كذباً ، ولكني لن أبيّن أهذه الأخبار من الصدقِ أم من الكذب ، حتى إذا رفعْتِ أمري إلى السلطان _ ولن تفعلي _ وجدْتُ لي مخرجاً ؛ أنني إنما أخبرْتُكِ بما بلغني أن الناس يقولونه عني ، ولكني لم أفعلْ مِنْ ذلك شيئاً ، وإنما هم مفترون .

وأنا أرتّب هذه الأخبار على زمان وقوعها _ حقيقةً إن كانتْ حقيقةً ، أو وهماً إن كانتْ مما افتراه عليّ الناس _ ..

فأوَّلُ ما أبدأ به خبرٌ سبق وقوعُه مولدي بسنين ، وذلك أن أبي كانتْ زوجتُه عاقراً لا تنجب ، وكان أبي يرغب في الولد ، ومع ذلك فهو فقيرٌ لا يقدر أن يتزوج غيرها ، فعزم على أن يتسرى بجارية لعلها تحمل منه ، وأبلغ أمي بما عزم عليه ، فعظم الأمر على أمي وأقسمَتْ ب**** لئنْ فَعَل فلن يجمعها به بيتٌ واحدٌ ، فترك أبي ما كان عزم عليه ... وساءَه أنه يموت ولا عقبَ له ... وظل حزنُه يزداد يوماً بعد يوم حتى بلغ به الحزنُ إلى أن كاد يترك الكلام ولا يردّ على الناس إلا إيماءً ، فحزنَتْ أمي لحزنه وكادَتْ أن تجيبه إلى شرائه أمة لعله يُرْزَقُ منها الولدَ ...

ثم صادف أن أمي كانتْ عندها بعضُ صواحبِها ذاتَ يومٍ ، فرأتْ صاحبتُها ما هي عليه من الأسى ، فسألتْها عن سبب حزنها ، فسكتَتْ أمّي ، فلما ألحَّتْ عليها صاحبتُها أخبرَتْها بالخبرِ ، فقالتْ صاحبتُها _ وكانتْ أمُّها أعلمَ أهل زمانها بالكهانة والسحر _ : إن شئتِ جمعْتُ بينكِ وبين أمي فتطرق لكِ بالحصى لتنظرَ ما يكونُ فيه ذهابُ عقمكِ ، فترزقي بالولد ، فسُرَّتْ أمي بذلك سروراً شديداً ، فلما ذهبَتْ إلى أم صاحبتِها ، ونظرَتْ تلك في أمر أمي ، قالتْ لها : إني أرى أنكِ سترزقين بالولد ، ولكنّ ولدكِ له خطب عظيم وستنتهي إليه رياسةُ أهل المجون والخلاعة ، فلا سبيلَ إلى أن تحملي به كما تحمل النساءُ بأولادهنّ ، فقالتْ لها أمي : فكيف أحمل به ؟ قالت الكاهنة : تتمنّعين على زوجكِ أياماً وأنتِ ترتدين له كلَّ يومٍ أحبَّ الثيابِ إليه وتتزينين له ، حتى إذا عيلَ صبرُه واشتدَّ غضبُه واعدْتِه على أن تبلّغيه مرادَه في تلك الليلة ، حتى إذا صرتما إلى مضجعكما لم تتركي شيئاً سمعْتِ أن النساء يفعلْنه مع أزواجهنّ إلا وفعلْتِه معه ، ولا يمنعكِ الحياءُ عن ذلكَ وإلا فسد الأمر كلُّه ، فإذا تم ذلك بلغْتِ مرادَكِ ، ورزقْتِ الولدَ ...

وكانتْ أمي غريرةٌ فسألَتْ الكاهنة عما تفعله النساء والرجال غير الجماع ، فضحكَتْ منها وهي تحسبها تعبث ، فلما رأتْ صدقَها ، أقبلَتْ تقص عليها أخبار المواجن وألاعيبَهنّ وأمي تزداد خفراً وحياءً ، فلما فرغَتْ من قصصها ، قالتْ أمي : لا سبيل إلى فعلِ ذلك مع زوجي ، وإني لأستحيي من أن أسمي أمامه الجماع باسمه ، فكيف بما ذكرْتِ ؟ فقالتْ الكاهنة : لا سبيل إلى الولد إلا بالذي ذكرْتُ لكِ ... فعزمَتْ أمي على فِعْلِ ما أخبرتها به الكاهنة ...

وكان أبي _ رحمه **** _ قد انشغل عنها بحزنه وخوفه من أن يموت أبترَ ، فلما تزيَّنتْ وارتدَتْ ما يحبّه من الثياب همّ بها ، فامتنعَتْ عليه ، فخرج من عندها مغضباً ، فلما كان اليومُ الذي يليه تكررّ منها فعلُها وتمنعها عليه وغضبُه ، وظلا كذلك أيَّاماً حتى كاد أبي يغلق عقلَه الغضبُ والرغبةُ فيها ، فلما رأتْه في تلك الحال واعدَتْه أن تجيبه إلى مطلبِه تلك الليلة على أن يجيبها هو إلى مطلبها أولاً ، فسكت عنه الغضبُ ، وقال : وما الذي تطلبينه ؟ فجاهدَتْ نفسَها جهاداً شديداً حتى حملَتْ نفسها على أن تقول : كذا وكذا _ مما كانتْ الكاهنةُ أخبرَتْها به _ فتبسّم أبي ، وقال : إن كان هذا فالأمر هيّنٌ ...

وتمّ الأمر كما أرادَتْه أمّي ، وحملَتْ أمّي بي في تلك الليلة بعد أن أظهرَتْ لزوجها من أنواع الخلاعة والمجون ما تعجز عنه أمجن النساء ...

فتريْن أنني _منذ جئتُ إلى هذه الدنيا_ وأنا فرعُ الخلاعة ، أو أصلها ، أو قسيمها نرتد معاً إلى أصل واحد .

ولا أرى أنّ هذا هو الخبر الذي بلغكِ ؛ إذ مِن أين لكِ أن يبلغكِ هذا وما علم به _ إن كان حقاً _ أو سمع به _ إن كان كذباً _ إلا أقل القليل ؟! ولكني رأيْتُ أن أبدأ به لأوّليّتِه ...

فأما الخبرُ التالي فمشهورٌ ، ولا أدري من أين وقع الناس عليه _ إن كان حقاً _ أو مَنْ الذي جرؤ على اختلاقه _ إن كان مفترىً _ ، ويقول الخبر :

أنَّ (والبة بن الحباب) قد بلغه عني أني هجوْتُه _ وكنْتُ قد أخذت عنه الشِّعْرَ ، وصحبْتُه زماناً أتعلّم منه _ فهاله أن يكونَ جزاؤه _وقد أدّبني_ أن أهجوَه ، ولكنّه نظر إلى الشعر الذي زعموا أني هجوْتُه به فرآه ركيكاً وليس من شكل شعري _ وإنْ كنْتُ لمّا أبلغْ من العمر واحداً وعشرين عاماً آنذاك _ ، ولكنه رأى أن يستوثق من ذلك... فزارني في بيتٍ كنْتُ قد اكتريْتُه أنا وجماعةٌ من أصحابي المشتغلين بالأدب ، ولمّا طرق الباب فتحوا له _ ولم أكنْ في البيت _ ، وأدخلوه وضيّفوه شيئاً ، وسألهم عما أحدثْتُه من الشعر ، فرووا له قصائد كنْتُ قلْتُها بعد مفارقتي له ، فتأكّد لديه أن الشعر الذي بلغه ليس من شعري ؛ لِمَا رأى من جودة شعري وقوّتِه ،

وقال لهم : إني قد بلغتْني أبياتٌ زعموا أنّه صاحبُها ، فرأيْتُ أن أزوره لأسأله عنها

فقال أحدُ أصحابي له : وما هذه الأبياتُ ؟

فتردد والبة ثم أنشدهم ما بلغه من هجائه ، فضحك أحدُهم ، وقال :

وإن كان (الحسن) هو مَنْ قالها فأي شيءٍ كنْتَ تفعله به ؟

فقال والبةُ : ما كنْتُ لأهجوه وهو صنيعتي ، ولكني كنْتُ لأؤدّبه حتى لا يعودَ لمثلِها ...

فنظر إليه _ وكان ماجنًا _ وقال : فليته هو مَنْ قال تلك الأبياتِ ، ثم ليتني كنْتُ مكانَه !

فردّ عليه صاحبٌ آخرُ _ وكان أمجنَ منه _ : حتى يكونَ ماذا ؟ فليس كلام أبي أسامة إلا جعجعة بلا طحن ! ولو حضره (الحسن بن هانئ ) فلا أدري أيهما كان يعلو صاحبَه !

فلما رأى صاحبي الثالث _ وكان حيَّيًا _ ما قاله صاحباه وما يوشك أن يقع بينهما وبين (والبة) ، احمرّ خجلاً ، وتعلَّل بشيءٍ حتى يغادر البيتَ ، ثم ذهب إلى الباب وفتحه فقابلني لدى الباب _ وكانت حمرة الخجل لا تزال في خديه _ فلم أملك نفسي أن قبّلْتُه ودخلْتُ به إلى البيتِ وأغلقْتُ البابَ ... ثم رأيْتُ (والبة ) ، فسألْتُه عما جاء به ، فقال :

بلغني هجاؤكَ لي ، فجئْتُ لأؤدبكَ ..

وكنْتُ أحسبه يقول جدًّا ، فأقبلْتُ أعتذر إليه وأقسم أني ما قلْتُ فيه شيئاً ، وأنني ما كنْتُ لأجازي إحسانه بالإساءة ، ونظرْتُ إلى صاحبيّ فوجدْتها يتبسّمان ، فاستربْتُ بالأمر ، فقال لي صاحبي الحيِّي :

لقد سألَنَا عن قصائدك التي أحدثْتَها فلما سمعها استيقن أن ما بلغه ليس من شعرك ، ثم إن (سعيداً) سأله _تماجناً عليه_ : ما الذي كنْتَ لتصنعه لو كانتْ له ، فلمّا أخبره تمنى أن يكون مكانك ، وهزأ به ( يزيد ) _ تماجناً أيضاً _ ، وقال : لو أدركْتَ الحسن لكان هو من يعلوك !

فنظرْتُ إلى ( يزيد ) غيرَ مصدّقٍ لعربدتِه ، وقلْتُ لـ(والبة) :

إن للهزل مقاماً وللجدّ مقاماً ، ولقد أسرف صاحباي ، وإني أعتذر إليك مما قالاه ، وإن شئْتَ أن تتناولَهما بالأدب فافعل ..

فنظر إليّ ( يزيد ) و ( سعيد ) نظرةً أعلم ما وراءَها ، وقال ( سعيد ) :

أما وقد أرادَ ( الحسن ) أن تقع علينا عقوبتُكَ ، فنحْنُ نَصْدُقُكَ خبرَه ، فإنّ تلك الأبياتِ التي بلغتْكَ هو قائلُها ، وقد شهدناه وهو ينظمُها وينشدها ، ولا شكّ في نسبتها إليه ، واسأل ( يزيداً )

فأمّن ( يزيدُ ) على كلامِه ، فقال ( والبة ) :

لا أراني أقبل منكما حقًا ولا باطلاً ، ولكنّ هذا الشادن الحيّي صادقٌ عندنا ، فإن قال بصدقكما أدَّبْتُ ( الحسن ) ، وإن قال بكذبكما أدَّبْتُكما !

فتوجَّهَتِ العيونُ إلى ( ياقوت ) ، وعلِم أنه إن قال هذه غضب عليه هذان وإن قال تلك غضبْتُ عليه أنا ، فسأل ( والبةَ ) أن يعفيَه ، فأظهر له ( والبة ) الجدّ ، وقال :

إن لم تخبرني بكون الأبيات لـ ( الحسن ) أم لا ، بدأتُ بتأديبِكَ أنت قبلَهم !

فظلّ ( ياقوتُ ) على تردّده ، فقام إليه ( والبةُ ) وهو يُظْهِرُ الغضبَ عليه ، فلما دنا منه أنساه جمالُه ما كان ينوي فعلَه ، فأطال النظرَ إليه وقد بُهِتَ ، ثم حاول أن يقول شيئاً فلم يقدر ، وبلغَه ضحكُ ( سعيد ) و(يزيد) هزءًا به ، فأراد زجرَهما ، فلم يُطِق صَرْفَ نظره عن ( ياقوت ) ، ولم يقلْ شيئًا ، فقال ( سعيد ) معابثاً :

لَعَمري لَقَد غالَبتُ نَفسي عَلى الهَوى *** لِتَسلى فَكانَت شَهوَةُ النَفسِ أَغلَبا

فلمّا سمع ( والبةُ ) الشعرَ ، أقبل بوجهه على ( سعيد ) وقال :

لِمَن هذا ؟

فابتسم ( سعيد ) وقال :

لعلّه من شعر ( الحسن ) ، ولكني لن أخبرك بكونِه كذلك أم لا ... فإذ لم أفعل ، أفلا يصحّ في حقي ما صحّ في حق ( ياقوت ) قبل قليل ؛ أني إذا لم أعلمْكَ بقائلِ البيت كنْتُ أوَّلَ من تبدأ بعقابه ؟

فنظر إليه ( والبة ) وقال :

فكذلك إذاً ، ولكني أخشى عليك من سطوتي وشدة ضربي ، ولا أريد أن أزيد في عقابك على الحدّ الذي أرتضيه ، فلو كشفْتَ عن جلدِك حتى أعلم من لونِه إن كنْتَ قد نلْتَ كفايتَك ..

فلم يتمَّ ( والبة ) كلامَه حتى نزع ( سعيد ) ما عليه ، ووقف أمامه عرياناً ، ثم قال ( سعيد ) _ وقد رأى انشغال ( والبة ) بالتملي في محاسنه_ :

أأنا أملحُ عندك أم ( الحسن ) ؟ فإني لا أشك أنه سبق إليه منك نظراتٌ كثيرة فيما مضى .

فقال ( والبة ) _وقد رآها فرصةً سانحةً _ :

لا يُحْكَمُ والغريمُ غائبٌ ..

ثم أشار إليّ بأن أنزع ثيابي ، ففعلْتُ ، ثم جعلني أقف إلى جوار ( سعيد ) وعيناه تتنقلان بيني وبينه ، ثم قال :

لا أرى سبباً لقصْرِ الموازنة عليكما دون صاحبيكما ..

وكأنّ ( يزيدًا ) كان مترقّباً لمثل هذا القول ، فتعرّى ، ووقف جوارَنا ، وعادَتِ العيونُ ترقب ( ياقوت ) الذي ظل واقفاً مكانَه ، وقد ازداد خفراً وحياءً ، فسار إليه ( والبة ) ونزع عنه ملابسَه وهو يتنفس صعداً ، حتى إذا عرّاه أبقى يديه على جسده وكأنه يتمنى أن يكون عليه مزيدٌ من الثياب ليلامس جسمَه وهو ينزعها ، وبدا وكأنه يريد أن يُبْعِدَ يديه عن جسم ( ياقوت ) فلا يستطيع ...

ورأى ( يزيد ) ما هو فيه .. فسار إليه وأمسك بيديه ، وسار به جهة وسادةٍ فأجلسَه عليها ، ونحن نعجب من صنيعه ، فلما استقر ( والبة ) جالساً استلقى ( يزيدُ) في حجره ، كأنه عودٌ في حِجْرِ مغنٍّ ، وعلَتِ استُه فكانتْ تقابلُ وجهَ ( والبة ) ، فولّاها ( والبة ) بصرَه ، ثم أهوى عليها يلثمها ، ونظرْتُ إلى (ياقوت) وهو يرى فعْلَهما ، وقد احمرّ خداه حتى حكيا الياقوت، فأمسكْتُ بيده وسرْتُ به إلى وسادة أخرى ، وفعلْتُ به ما فعله ( والبةُ ) بـ ( يزيد ) ، فلمّا علَتِ استُ ( ياقوت ) في حجري ، أوليتها بصري ، ثم لم أتمالك أن أهويْتُ إليها ألثمها ... ونظر ( سعيد ) إلى ( ياقوت ) و ( يزيد ) وقد استقرّا في حجري وحجر ( والبة ) ، ثم قال :

وَأُفْرِدتَ إِفرادَ الطَريدِ ، وَباعَدَت || إِلى النَفسِ حاجاتٌ وَهُنَّ قَريبُ

وأردْتُ أن أجيبه بشيءٍ ، وكذلك بدا أن ( والبة ) يريد أن يجيز له البيتَ ، ولكن انشغالَنا بغَمْرِ ما في حجرنا من الأستاه بالقبلات حال دون أن نردّ عليه بشيءٍ ، فلما رأى انشغالَ كلٍّ منا بما بين يديه ، قَصَدَ البابَ ، وهَمّ أن يفتحه _ وهو عريان _ ، فترك ( والبةُ ) ما هو فيه ، وهرع إليه فأمسكه _بالكاد_ قبل أن يفتح البابَ ، وقال :

ما حملك على ذلك ؟

فقال ( سعيد ) :

إني رأيْتُ كلاً منكما قد انشغل بما لديه ، فأردْتُ أن أخرُجَ لأبحث عمن ينشغل بي .

فقبّله ( والبة ) ، ثمّ قال :

إني كنْتُ سأثنّي بك بعد صاحبِكَ ثم أثلّث بـ ( ياقوت ) ، ولو بدأتُ بك لثنّيت بأحدهما وثلّثْتُ بالآخر ، فما أعجلك على نصيبِك !

وطرق سمعي مقالتُه ، فقلْتُ _ ووجهي لا يزال عند استِ ( ياقوت ) _ :

أرانا قد صرْنا ثلاثة ، وعهدي بساكني هذا البيت أنّهم أربعة ؟!

فقال ( والبة ) :

إن رابعَهم قد شرِبْتُ منه حتى رويْتُ ، فأنا أؤخِّره حتى أبدأ بالجديد ؛ فلكل جديد لذّةٌ !

فقلْتُ له :

صدَقْتَ ؛ لقد شرِبْتَ منه حتى رويْتَ ؛ حقيقةً لا مجازاً !

ولم يفطَن أحدٌ من أصحابي لما أردْتُه ( ولعلّكِ أنتِ أيضاً يا ( عنان ) لا تفطنين لذلك ، وإن كنْتِ أنتِ الأخرى قد شرِبْتِ من مولاكِ حتى رويْتِ ، ولقد حكى لي مرّةً ما فعله بكِ ... ولكن هذا خبرٌ يطول )

ولكنّ ( والبة ) فهم ما قلْتُه ، وساءه أن أعلن سرّه على الناس _ حتى لو كان هؤلاء الناس عريانين مقبَّلِي الأستاه غير فاهمين لما قلْتُ _ ولكنه كان غاضباً ، وأشار إليّ لأنهض ، فقبّلْتُ استَ ( ياقوت ) مودعاً لها ، وأزحْتُه وقمْتُ ، فما أسرع ما حلّ ( سعيدُ ) محلّي على الوسادة ، وجعل ( ياقوتَ ) في حجرِه ، وصنع به ما كنْتُ أصنعه به ، أما أنا فأدناني ( والبة ) منه حتّى عانقني ، وأمرني أن أبْقِي يديّ ملتفتين حوله ، ثم أمَر ( يزيد ) _ وكان لا يزال مستلقياً على الوسادة _ أن يقومَ بإزائي ويحطأ استي بيده ، ففعل ...

وكلما اشتدّ عليّ الألمُ من حطء ( يزيد ) لي ، ازداد عناقي لـ ( والبة ) إحكاماً حتى كدْتُ أذوبَ فيه ، فقبّل ( والبةُ ) صفحةَ وجهي ، ثم أمر ( يزيدًا ) فتوقّف عن حطئي ... ثم أدارني وأمر ( يزيداً ) أن يعتنقني كما رآه يفعل ، فظنَنْتُ أنه سيحطؤني هو ، فخفْتُ ، ولكنّه سار قليلاً حتى صار بإزاء ( يزيد ) ، ففطن ( يزيد ) لما يريد صنعَه ، وقال كالمعتذر :

وأنا ماذا صنعْتُ ؟

فقال له ( والبةُ ) :

ذكرْتَ أن وعيدي جعجعةٌ بلا طحن ، ثمّ أمّنْتَ على كذبة صاحبك أن ما هجيتُ به كان من نظم ( الحسن ) ، وإن شعر ( الحسن ) لا يخفى عليّ ، ولكني أردْتُ اختبارَكم ...

ثم التفت إلى ( سعيد ) وقال :

وإذا فرغْتُ من صاحبك فصِرْ في مكانه ..

فرفع إليه ( سعيدُ ) عينيه كالموافق _ وأكثرُ وجهه لا يزال غائصًا في است ( ياقوت ) _ فتبسّم ( والبة ) .. ثم التفتَ إلى ( يزيد ) وشرع في حطئه ، فازداد لصوقاً بي _ ونحن عاريان _ ، فلما فرغ ( والبة ) من حطئه وتوجّه إلى ( سعيد ) ، سرْتُ أنا بـ ( يزيد ) إلى الوسادة التي كان ( والبة ) يجلس عليها ، فأجلسْتُه مكانَ ( والبة ) ، وهمَمْتُ أن أستلقي في حجره ، ولكنّه أمسك بذراعيّ ، ثم قرّبني إليه فعانقني جالسَين ، وقد صيَّر رجليّ محيطتَيْن بخصره ، وكان أطولَ مني ، فتقابل وجهانا ، فابتسَمْتُ له ... وأشار برأسِه ؛ أن انظر وراءكَ ، فالتفتّ فوجدْتُ ( والبةَ ) قد صنع بـ ( ياقوت ) مثلما صنع ( يزيد ) بي ، ثم زاد على فعل ( يزيد ) فقبض على ردفَي ( ياقوت ) بيديه قبضاً شديداً ، كأنه يريد أن يجعل كل ردفٍ في ناحية ، ثمّ لثم فاه ... و(سعيد) واقفٌ بإزائهما وهو ينظر إلينا ، كأنه يشكو ما يلقاه من اشتغال ( والبةَ ) عنه بـ ( ياقوت ) ، فأشرْتُ إلى ( سعيد ) أن يدنو منّا ففعل ، ثم قمْتُ من مجلسي على فخذَيْ ( يزيد ) وأشرْتُ إلى ( سعيد ) أن يجلس مكاني ، فلما فعل جلسْتُ بإزائه ، وأهويْتُ بيدي إلى استه ، فتأوّه كالمتسائل ، فقلْتُ له :

لا تنجو منها وأذوقُها أنا و( يزيد ) !

فأمّن ( يزيد ) على كلامي ، فقال ( سعيد ) :

ولكنّ ( ياقوتَ ) نجا ؟

فقلْتُ له :

وما الذي فعله ( ياقوتُ ) حتى يعاقبَ لأجله ؟

ثم أمطرْتُ ردفيه _وكان ستهماً _ بصفعاتٍ متتالياتٍ ، وازدادَ رِدْفَاه تموّجاً فاستحالتْ الصفعاتُ قبضاتٍ ولهانة ، فكأن يدي قد صارتْ فماً وكانتْ تقبّل استَه فصارتْ تعضّها ... ثمّ لمّا لم يكْفِ ذلك في شفاء غلّتي تمدّدْتُ على الأرض حتى صار فمي بإزاء استِه ، فلثمْتُ استَه وعضضْتُها على الحقيقة لا المجاز ، و( يزيد ) لا يزال مشغولاً بوجه ( سعيد ) يلثمه ويعضه ... فكنْتُ أنا أقبِّل أسفلَه و( يزيد ) يقبّل أعلاه ... و(والبة ) يصنع مثل ذلك بـ ( ياقوت ) ولكن تقبيله لأسفل ( ياقوت ) على المجازِ لا الحقيقة .

وبِتْنا في أسعد ليلة وأهنئها .. ولولا أن هذا الكتابَ أبعث به إلى امرأة " حيية ، غريرة " لأسهبْتُ في تفصيل ما انتهَتْ إليه ليلتُنا ، ولكني أخشى أن تقولي : (تجاوَزَ الحدَّ وعدل عن القصْدِ )، فاكتفيت بما ذكرْتُ ..

فهذا خبرٌ ثانٍ ، ولعله هو الذي بلغكِ ، فإنني لا أفتأ يأتيني من مجّان العراق ومواجنه من يسألني عن هجائي لـ ( والبة ) وكيف كان ردّه عليّ ، فإذا أمعنْتُ في وجه السائل أو السائلة ، وكنْتُ _ كما تعلمين _ أحْسِنُ الفراسة ، تبيّن لي أنه بلغه ذلك الخبر _ الذي هو صادق أو كاذبٌ كما أسَّسْنا _ فهو يسأل عنه ، وإذا ردَدْتُ عليه أو عليها بردٍّ من نحو ( لم يكنْ ردُّه على هجائي أكبرَ ممّا سأرد به على سؤالك ) ثم احمرّ وجهه أو وجهها ، وعلاهم البهر ، وبدا أنهم يمنّون أنفسَهم الأمانيّ ، لم أشكَّ في أنه بلغهم ذلك الخبرُ فشغل عليهم بالَهم _ كما شغل عليكِ بالكِ _ ...

أو لعله خبرٌ آخرُ ذلك الذي بلغك ، خبرٌ حدث لي عامَ أوّل _ أو افْتُرِي كذباً أنه حدث لي عام أول _ وقد بلغ القاصي والداني ، فلعلّكِ ممن بلغه ، وتفصيله :

أنني كنْتُ في بيتِ رجلٍ من أصحابي ، وقد دعاني إلى شرابٍ وشواءٍ وليس عندنا أحدٌ ، فبينما نحن في مجلسنا إذ سمِعْتُ صوتَ صراخٍ منكراً ، وكأنه نادبةً تندب ميتًأ ، إلا أنه صوتُ شابّ ، وكان صاحبي يسمع الصوتَ فتنقبض نفْسُه ، فلم أشأ أن أسألَه عنه حتى يكونَ هو من يخبرني عنه ... فلم يلبثْ إلا هنيهةً _والصوتُ يعلو ويخفت _ حتى قال :

أتدري ما هذا الصوتُ يا أبا نواس ؟

فقلْتُ له : وما يعنيني مما يكونُ في أهل بيتِكَ ، فكأني لم أسمع شيئاً .

فقال لي : ولكني أنا قد ضقْتُ بالأمر ذرعاً ، فأريد أن أخبرَكَ خبرَه .

فقلْتُ له : إذا شئتَ ..

فقال : إنني كنْتُ _ كما تعلم _ قد ضنَنْتُ بابني أن أرسلَه إلى الكتّاب ، أو أن أبعث به إلى مؤدّبٍ يؤدبه . وقلْتُ في نفسي : أي شيءٍ سيجنيه من ذلك كلِّه ؟ وإنما ينتهي به الحالُ تاجراً مثلَ أبيه ، وودَدَتُ أنا لو كان أبي قد اقتصر في تعليمي على مصاحبتِه في دكّانِه ، بدلاً من الاشتغال بالأدب واللغة ، ولم نجنِ من ورائهما شيئاً إلا التعبَ والنصبَ ، إذ ليس كلُّ من يُرْسَلُ به إلى الكتاتيب يصير أبا نواس أو الجاحظ ... فرأيْتُ أن بقاءه في بيتِه أصلح له ، ولقد حسُنَ في عيني أنْ رأيْتُه _ وهو صبيٌّ _ لا يعاني ما تعانيه الصبية من العناء في طلب العلم والصبرِ عليه ، وكنْتُ أكتفي باصطحابِه معي إلى السوق ليرى البيع والشراء ويعلم من ذلك ما يكون فيه معاشُه ... فنشأ لا يعرف شيئاً من لغة أو خط أو تاريخٍ أو غيرِ ذلك إلا شيئاً من الحساب مما يحتاج إليه في سوقِه ...

وكنْتُ حتى وقتٍ قريبٍ راضياً عن ذلك كلِّه ، حتى جاءَ إليّ قبل شهورٍ ، والحزنُ بادٍ عليه ، وهو يقول :

أدركني يا أبي ؛ فقد هلكْتُ .

فقلْتُ له : فداك نفسي ، أتجد وجعاً فأرسلَ إلى الطبيب ؟

قال : لا ، ولكنّي رأيْتُ فتاةً في السوق فذهبَتْ بلبّي ، واشتدّ حبُّها في قلبي ، فذكرْتها لأمي ووصفْتُها لها ، فقالتْ : إنه لا سبيل إلى زواجي بتلك الفتاة لأنها من المتأدبات الشواعر ، ولا ترضى بأن يكون زواجها من جاهلٍ أميٍّ ، فاشتدّ عليّ الحزن وفارق عيني النومُ ، ورأيْتُ أن أخبرَكَ أني عازمٌ على الرحيل وعلى فراقك ، فإني لا أطيق أن أقيم معها في بلدٍ واحدٍ وأنا أعلم أنه لا سبيلَ إليها .

فداخلني من الهم ما داخلني ، وقلْتُ في نفسي : إنني أنا من فرّط في حق ولده ، وهو يحسب أنه يُحْسِنُ له .. فأقبلْتُ عليه أترضّاه ، وقلْتُ له : ستجد في النساء من تغنيك عن هذه ، ولو تسرَّيْتَ بأمةٍ تنسيك ما تجد ، فإن النساء كلَّها ككلِّها ، وإنما ينكر ذلك من لم يختبرِ من أمرهنّ شيئاً فهو يتوَهّم ما لا أصلَ له .... فلم يزِد على أن قال : لا ؛ لا أريد زواجاً ولا إماءً ، وإنما أريد هذه ، فإن لم يكن سبيلٌ إليها ، فإنني سأترك تجارتك ودكانك ، وأضرب في بلاد الأرض على غير هدى ، فإنني لا يعنيني غيرُها ...

فلمّا لم يقبل مني نصحاً ، لم أجِد ما أحتال به عليه ، إلا أن قلْتُ له : إن كانتْ إنما ترفض الزواج منك لجهلك علّمْناكَ ، فإنك لا زلْتَ في مقتبل العمر ، وما فاتك تدركه ، فتنال منها مرادَكَ ...

فقَبِل مني ذلك ، فأرسلْتُ إلى معلّم صبيان ليعلّمه مبادئ الخط والعربية ، فلما علِم أنه إنما يُطلَبُ منه تعليم ابن ثمانية عشر عاماً ، لا ابن ستة أعوامٍ رفض ، فألححْتُ عليه، فقبل على مضض ، واشترط زيادةَ أجرِه ، فقبِلْتِ ، فلم تكن إلا أيامٌ حتى آيس ابني من أن يتعلم شيئاً على يديه ، فطلب مني أن آتيه بمعلمٍ غيرِه ، فقلْتُ له : وما يصنع المعلم ؟! فإنّ طلب العلم عسيرٌ ، وإن لم تحمل نفسَك عليه لم يغنِ عنك هذا المعلم أو ذاك !

فكأنّه لانَ لي ، وعاد إلى معلمه وهو عازمٌ على الاجتهاد والسهر في طلب العلم ، ولكن عزيمتَه لم يطلع عليها النهارُ حتى عادَتْ شكوى وتململاً ، فقلْتُ له : يا ولدي ، إنني لا أجد شيئاً يصلح ليدفعك دفعاً إلى التعلّم إلا ما كان يدفعنا نحن دفعاً إلى التعلّم ، فقال لي : وما ذاك ؟ قلْتُ : أن تجعل لمعلمك من الحق في تأديبِك ما كان أهلُنا يجعلون لهم ، فإذا استقرّ عندَكَ أنك متى قصَّرْتَ في شيءٍ نالك عقابُه ، كان ذلك دافعاً لك على الاجتهاد ... فاستغرب واستنكر أن يقع ذلك له ، في سنه تلك ، فقلْتُ له : إن الأمر إليك ، فإن لم ترغبْ في ذلك فكما تشاء ، ولكني لا أعلم شيئاً هو أنجع في حثّك على الاجتهاد من ذلك .

فوافق على مضض ، وهو يمنّي نفسَه أن تكون تلك الفتاة زوجَته يوماً ما ... وكأنّ الخوف من العقوبة كان كافياً في ذاته فلم يحتج معلّمه إلى أن يعاقبه بشيءٍ ، بل كان يتوعّده بالضرب فيرعوي ، ويجتهد في درْسِه ، واستمر على اجتهاده ذلك شهوراً حتى صار يحسن القراءة والكتابة ، ويعلم بعض النحو والشعر والحِكَم وأخبار الدول .. ووقع في نفسه أنه لم يبق على نيله درجة الرياسة في الأدب إلا قليل ...

ثم كان أنّ الفتاة التي كان يمني نفسه بزواجها قد خطبها رجلٌ من ذوي الرياسة لابنه وقبلَتْ ، ولو كان الأمر كذلك لهان بعض الشيء ، ولكنّ الداهية أن الابن كان أميًّا جلفاً لا علمَ له ولا أدبَ ، فلما سمع ابني بذلك أصابه ما أصابه ، فلا تمرّ عليه ليلةٌ دون أن ينوح ويبكي كأنه بلغه موتُ عزيزٍ ، وأنا لا أدري ما الذي أصنعه له ، ولكني ضقْتُ ذرعاً به وببكائه ، وقد دعوْتُك هذه الليلة لآنس بك فأبى إلا أن يفسد عليّ مجلسي معك بصراخه وبكائه ...

وكنْتُ أنا قد انشغلْتُ عن تصوّر عناءِ صاحبي بتصوّر مشهد ابنه _ وكنْتُ أعرف جماله _ وهو يسلّم نفسَه طوعاً ليد معلّمه ، ثم صوَّرَتْ لي نفسي أني أنا معلّمه ، وما كنْتُ لأصنعه به لو سنحَتْ لي تلك الفرصةُ ، فلما انتهى من تمامِ كلامه ، خطرَتْ لي فكرةٌ ، فقلْتُ له :

أترى ابنَك _ وقد خدعه إيهامُك له أنه يطيق إدراك ما فاته ثمانية عشر عاماً في بضعة شهور ، مع صعوبة التعلم في الكبر _ أتراه يصدقك إن أخبرته أنني أشفع له عند محبوبتِه تلك _ وهي كما يقول من المشتغلات بالأدب _ وأخبرها أن زواجَها من أمي جاهل فيه زراية بحقها ومكانتِها ثم أزيد على ذلك _ فأصيرَ خطّابةً _ فأذكره عندها وأزيّن لها الزواجَ به ، خاصّةً وقد صار _ بعد أن جعلْتُه راويةً لي _ من الأدباء المفلقين النابغين ؟

فنظر لي صاحبي ، ثم قال _وكأنه قد سري عنه_ :

سأخبره بما قلْتَه ، وأرسله إليك ، ولعله يتعلل بذلك فيكون في مصاحبتِه لك ما يشغله عنها !

فاندهشْتُ من قوله ، وكدْتُ أستوثق منه أنه يعي ما يقوله ، ولكنّه بادرني قائلاً :

إني لا أريد أن أعلم شيئاً مما يكونُ بينكما ، وحسبي أني أقول إن ابني قد صار راويةً لصاحبي ... ثم أنا لم يبلغْني أكثرَ من ذلك !

فوافقْتُ ، ورجعْتُ إلى بيتي وأنا أمنّي نفسي الأمانيّ ، فلما كان صباح الغدِ ، صدق الأبُ في وعده ، ووجدْتُ ابنَه _ مستبشراً متهللاً _ واقفاً على بابي ، فأدخلْتُه وأظهرْتُ عدمَ احتفالي به ، ليكون ذلك أدفعَ له في طلبِ رضاي وإجابتي إلى ما أريده منه ... فلمّا رآني لا أكاد أعبأ به ، قال :

لعلّكَ بلغك عني من كلام أبي ما قلّل من قدرِي عندك ...

فقلْتُ له :

بل الأمر على خلاف ذلك ، وليس في استهتار المحبّ بنفسه في سبيل محبوبه ما يعيبُ ، ولكني نظرْتُ في أمركَ وأمري ، فوجدْتُك تنال مني ما تريده من التأدّب ورواية الشعر ، ثم لا أنال منك شيئاً ، فيكون ذلك بيعَ غبْنٍ عليّ ...

فقال لي :

وما الذي أملك أن أعطيكه وأنت أشعر الناس ونديم الخلفاء ،، ومالُك أكثر من مال أبي ؟

فقلْتُ له :

تجعلُ لي في تأديبِك ما كنْتَ جعلْتَه لمعلمك ذاك الذي علّمك الخط والنحو !

فأحدّ إليّ النظر ، وقال :

إنه لا يخفى عليّ مذهبُك ، ولقد كنْتُ أراك تطيل النظرَ إليّ إذا رأيْتَني في مجلس أبي ، فأنا أعلم ما وراء سؤالك من حاجة ... والثريّا أقربُ إليك من بلوغ حاجتِك تلك ...

وكنْتُ _ كما تعلمين _ من أفرس الناس ، فتأملْتُ فيه ، فعلِمْتُ أنه يظهر خلافَ ما يبطِنُ ، فقلْتُ له :

ما أراك صادقاً فيما تقول ، وما أحسبني أطلْتُ النظرَ إليكَ في مجلس أبيكَ ولا في مجلس غيره ، إلا أن تكوّن تمنيْتَ ذلك فتوهّمْتَ وقوعَه وإنْ لمْ يقع ...

وصدقَتْ فراستي إذ رأيْتُه يحمرّ خجلاً ، وأراد أن يدفع عن نفسه فقال :

أنا بفتاتي تلك في شغلٍ عنكَ وعن غيرِك ..

فقلْتُ له :

لا شكّ في ذلك ، لأن آخر عهدِك بالنساء والرجال توهمُكَ أني نظرت إليك في مجلس أبيك ، فلمّا رأيْتَ تلك الفتاة أغرمْتَ بها ، ولو كنْتَ قد اجتمعْتَ بمن يُنْزُلَك منزلتَك التي يبوّئكَها جمالُك ودلالُك لانشغلْتَ به عن الأباطيل والأوهام ...

وكان خفره وحياؤه يزداد كلما ألمحْتُ إلى رغبتِه في ما يزعم أن الثريّا دون وصولي إليه .. فلمّا فرغْتُ من كلامي ، أخذْتُ بأذنه ، وقلْتُ كالمغضبِ :

تكلّف أباك شططاً ، وتفضحه في الناس بعشقك لفلانة ، وإنما دواؤك بين رجليك ؟ ما أراني أدعك حتى أحسن أدبك ! انزع عنك ثيابك !

فنظر إليّ ونفْسُه تنازعه أن يكذّبني ويُغْلِظَ لي، فبادرْتُه ، فنزعْتُ عنه ثيابَه ، فلما وقف أمامي عريان أخذني من البهر ما أخذ ( والبة ) لما رأى ( ياقوت ) ؛ لملاحة جسمه ، فلأياً بلأيٍ ما حملْتُ نفسي على أن ذهبْتُ به إلى السلّم فربطْتُه فيه ، فأقبل يعتذر وصوته قد تهدّج ؛ لا يخفى ما وراءَه مِن شهوةٍ ، فرقّ قلبي له ( ولو رأيتِه يا ( عنانُ ) بضّ المجرّد رجراج الاست ، قد أوثقَتْ يداه في السلم فلا يملك أن يحول بيني وبين أن أفعل بجسمه ما شئتُ ... لو رأيْتِ ذلك منه لرقّ له قلبكِ أنتِ أيضاً) . فقلْتُ له :

قد عفوْنا عن ذنبِك ذلك ، ولكنّكَ لا زلْتَ في مقام المتعلم وأنا في مقام المعلّم ، وسأسألك عن أشياء فإن لم تعرف جوابَها جعلْتُ يدي سوطاً ونزلْتُ بها على استِك ...

فما أسرع ما كان جوابُه :

وإن أجبْتُ عليها ، فماذا ؟

فقلْتُ له :

إن أجبْتَ عليها ، نزلْتُ على حكمك !

فَرَضِيَ ، ثم إني سألته مسائل هيّنةً في النحو واللغة ، فوجدْتُه يعرف جوابَها .. فقلْتُ له :

إن كنْتَ إنما علمْتَ ذلك كلّه في شهورٍ ، فإنك لجيد الفهم شديد الحفظ ، وقد قلْتُ إني أنزل على حكمك ، فأيّ شيءٍ تريد ؟

فقال _ وقد زاد صوتُه تهدّجاً _ :

أرأيْتَ الذي أوعدْتني إن لم أعرف الجوابَ ؟ فذلك الذي أريد !

فسرّني تهتّكه وخلاعتُه ، ورأيْتُ فيه مخايل ماجنٍ كبيرٍ ؛ علق فتاةً في أول شبابه ثم أسلاه عنها المجونُ .... ؛ فلو لم يكنْ قليل العلم باللغة والأدب لقلْتُ إن فيه شبهاً مني !

فحطأْتُ عَجُزَه ، فاهتزّ ردفاه كأنما أودعا زئبَقاً ، ولذّ لي ملمسُ جلدِه البضّ فحطأتُه ثانيةً ، فأدنى استَه منّي كأنه يسأل المزيدَ ، فازدَدْتُ به خبالاً ، وهوَتْ يدي على استه الوثيرة مراتٍ ومراتٍ ، حتى علا أنينُه ....

ثم رأيْتُ أن أعود لتعليمه فسألتُه مسائل أخرى هينةً فأجاب عليها ، ثم صرْتُ إلى مسائلَ أصعب فلم يعرف جوابَها ، فأخبرْتُه بالجوابِ وشرحتُه له ، حتى رضيْتُ من فهمه له ، ثم أعدْتُ عليه السؤال فيها فعرف أكثرها ونسي بعضَها ، فقلْتُ له :

الآن استحققْتَ العقابَ ، ولكني لا أدري بِمَ أعاقبك _ وقد لذّ عندك ما كنْتُ أنوي أن يكون عقابُك _؟

فقال :

إن شئتَ فاجعل عقوبتي حرماني مما لذّ عندي !

فقلْتُ :

إن ذلك لهو الرأي ..

ثم حللْتُ وثاقه ، وأمرْتُه _ على كرْهٍ مني _ أن يلبس ثيابَه ، ففعل ، وصرنا إلى المجلس ، وجاءَتْنا جاريةٌ بطعامٍ وشرابٍ فأصبْنا منه ، ثم انصرف إلى بيته ...

وبقيْنا على تلك الحالةِ شهوراً ؛ يزورني فأمتحنه ، فإن أحسن واجتهد نزعْتُ عنه ثيابَه وربطْتُه في السلم كما يُرْبَطُ العبدُ الآبق ، وأوسعْتُ استَه صفعاً ، وإن أساء وقصّر تركت عليه ثيابَه وأجلسْتُه في مجلسي كما يجلس السيد الشريف !

فهل هذا هو الخبرُ الذي بلغكِ وشَغَلك ؟ فإن عندي من هذه الأخبار كثيرًا ؛ فكأنّ حياتي موقوفة على أسباب المجون و****و ( إن كانتْ تلك الأخبار حقًّا ) ، أو كأن الناس قد عمدوا إلى كل خبرٍ ماجن أو فعل خليع فنحلوني إياه ( إن كانتْ تلك الأخبار افتراءً منهم عليّ ) ...

وهذا تمام هذه الرسالة ، ولكن إن كان حدسي خاطئاً ، وكان ما بلغكِ خبرٌ آخرُ ، فأرسلي لي بذلك ، أو أخبريني به إذا اجتمعْتُ بكِ ، وسأحدس أخباراً أخرى لعله يكون فيها المقصودُ ...

والسلام

***********************


( 2 )

من كتابِ عنان جارية الناطفي إلى أبي نواس الحسن بن هانئ

... حسنٌ يا ( حسن ) !

أمَّا مَا ذكرْتَ من أمرِ الخبرِ الذي سألْتُك عنه ، فما أعلمَك بطويّة نفسي !

لقد كان ما بلغني عنك هو قصتُك مع ( والبة ) تلك ، ولكنّي لم يصلْني منها إلا أقلّها فلما بلغتني كاملةً في كتابك ذلك ، وتمثَّل لعيني ما وقع منك وعليك _مما لا أشك في أنه حقٌّ لا مرية فيه _ لم أملِكْ أن احتلْتُ عند مولاي حتى جلدتْني عميرتُه ؛ فلسْتَ أنت ولا ( سعيدُ ) ولا ( يزيد ) ولا غلامُ صاحبِك بأحقَّ بالجلد منّي ...

فأما كونُ تلك الأخبار حقيقةً فأنا مستيقنة منه ، بل هَبْها كانَتْ أخباراً مفترياتٍ فلا أراها افتراها غيرُكَ ؛ إذ ليس في الناس من يقدر على مثل هذه العربدة _ فعلاً أو تصوّرًا _ سوى أبي نواس العَلَمِ الفذّ !

ولقد تمثلْتُ لعيني ما توهَّمْتُه مما كان من خبرِك مع أستاذِك ( والبة بن الحباب ) قبل أن تكتري دارَك تلك وتترك مصاحبتَه ، فكاد عقلي أن يذهب شهوةً إلى أن أكون شهدْتُ ما بينكَ وبينه ؛ ثم إني لم أكتفِ بذلك حتى صوَّرَتْ لي نفسي أني أنا من وُكِّل إليها تعليمُك وتأديبُك ؛ فتمثّل لعيني منظرُك _ غلاماً في الثامنة عشرة _ وقد جلسْتَ أمامي تعتذر عن فعلٍ بدر منك لي ، وأنا أظهر لك غضبًا عليك ، وأبطن افتتاناً بجمال هيئتِك _وقد زادك حزنُك بسبب ما فعلْتَه جمالاً على جمالك_ ... حتى إذا قصّر عذرُك عن إرضائي ولم يزدْني كلامُك إلا غضباً _ متظاهَرًا _ أخذْتَ في البكاء ، فلا أملك نفسي أن أدْنِيَكَ منّي ، وأرشف فاك...

ثم آمرُك أن تأتيني بالعصا _ التي كنْتُ أعددْتُها لتأديبِك _ ، فتأخذَ في البكاء _ طمعاً أن أصفح عنكَ _ فلا أعبأ ببكائك ...

ثم تأتيني بعصاك وقد نزعْتَ عنك ثيابَك _ وكنْتُ قد عوّدْتُك أن تأتيَني على تلك الهيئة إذا عزمْتُ على عقابِك _ فإذا رأيْتُ حسنَك وملاحتَك كدْتُ ألهى بجمالك عما عزَمْتُ عليه من تأديبِك ... إلا أنك _ ويا ما أجملَ طاعتَك _ قد سِرْتَ من تلقاءِ نفسِك _ وبصري قد شدَّتْه محاسنُك إليها ، فهو مربوطٌ بجمال جسْمِك برباطٍ خفيّ _ حتى انبطحْتَ على البساط ، وجعلْتَ العصا مستقرّةً على ظهرِكَ _ كما علَّمْتُك _ . فصِرْتَ أحسن الناس في عيني ؛ أن سلّمْتَ نفسَك لي أصنع بك ما شئْتُ ، مع جمالك الفائق وشبابِك النضِر ..

فإذا رأيْتُك على تلك الحالة أمسكْتُ بالعصا وهويْتُ بها على ردفيك ، وكلما ازداد اضطرابُهما وارتجاجُهما ازددْتُ بهما ولعاً وازدادَتْ ضرباتُ العصا عليهما سرعةً وقوةً ، وكأني قد اعتراني طائفٌ من الشيطان فتلَّهَيْتُ عن كل شيءٍ إلا عجيزتَك القمراء ، فلا أنتبه إلا وقد علا صوتُ بكائِك ... فأمعن النظر في ردفيك فأراهما قد احمرّا احمراراً شديدًا ، فألقي العصا من يدي وآسى لك ... إلا أنني أرتابُ من قشعريرة جسدك وما يصدر عنكَ من صوتٍ خفيتٍ ، ثم أفطن إلى ما أنت فيه ، فأجعل يدي بينك وبين البساط ثم أقبض بها على أيرِك ، فيندفق ماؤك دفقاً ( وكذلك كل شابٍّ : لا تمسّه يد امرأة في ذلك الموضع إلا واندفق ماؤه دفقاً ، لا سيّما بعد أن تكون قد أوجعَتْه ضربًا من أجل تأديبه . فوارحمتا لمن وكِّلَتْ بتأديبِ الشباب : تريد أن تؤدبه وهو عقلُه بين رجليه ؛ فلا يزداد بالضرب إلا إنعاظاً ؛ فما حيلتُها فيه ؟! )

وأقول كالمغضبة :

يا لك ماجناً عربيداً ؛ أأجتهد في تأديبِك فتتخذ ذلك مطيةً تقضي بها شهوتَك ؟! اذهبْ فأتني بالسوط !

فتتوسّل لي لأصفح عنك وقد سال الدمْعُ على خديكَ ، فيكاد يذهبُ عقلي من جمالك _متوسلاً عذباً رقيقاً_ ، فأقول لك _ وقد ذهبَ الشَّبَقُ بأكثر صوتي_ :

انطرحْ كما كنْتَ ، وإن أحسنْتَ الأدب والطاعة فلعلي أستبدل بالسوطِ ما يكون أحبّ إليك وإليّ !

فتعود سيرتَك الأولى ، ولا أقدر على مفارقتِك حتى ألثم ردفيك وأكعمهما كعماً ، ثم أحمل نفسي حملاً على الذهاب لآتي بالكيربيخ ( ولعلك لا تدري ما هذا ، فاسأل سحاقات بغداد يخبِّرْنك ) وأتعرى من ثيابي ، ثم أربط الكيربيخ على حقوي ، وآمرك أن تلتفتَ إليّ لتراه ، فإذا فعلْتَ أخذتْك رعدةٌ ....ثمّ ما أسرع ما تهيّأتَ لما يراد بك ؛ فعمدْتَ إلى ردفيك ففرّقْتَ بينهما ارتقاباً لما هو آتٍ ، فأكاد أبول شهوةً لِما أرى من حسن انصياعك وجمال ردفَيك وما بينهما ، فأصيبُ منك ما يصيبُ الرجلُ من المرأةَ ؛ قام استُك مقام حرها ، وقام كيربيخي مقام أيرِه ؛ فنيكُ التصنّع مقدم على نيك الطبع ... على مذهبِك في الأدب !

فنبيتَ في أهنأ ليلة وأسعدِها ...

وأنا لا أشكّ أن قد كان بينك وبين ( والبة ) مثلَ الذي تمنيتُ أن يكون بيني وبينك ، فلمَ لا توردُ شيئًا مما فعله بك ( حقيقةً أو افتراءً ) في كتابٍ تبعث به إليّ ... فإني أخشى _إن لم تفعل_ أن أراسل ( والبةَ ) _ إن كان لا يزال حيًّا _ فيخبرني هو ( حقيقةً لا افتراءً ) بكلّ ما كان بينك وبينه ...

والسلام ..

------- ( تــمَّـــتْ ) ------
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%