NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

دكتور نسوانجي

مدير
طاقم الإدارة
مدير
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
نسوانجي قديم
حاصل علي أكثر من 100000 نقطة
ناشر مجلة
إنضم
8 سبتمبر 2021
المشاركات
45,844
مستوى التفاعل
11,804
نقاط
18,683
قصة : ابن ( المكبّ ) والقصر الملكيّ ( م / إكس )


- بضعة تنويهات :



تنويه 1 : هذه القصة تعمد في كثير من أجزائها إلى استخدام لغة قد تعد مرتفعة قليلاً عن عربية الجرائد والصحف , فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك , فقد نوهنا به .



تنويه 2 : تصوِّرُ القصة في معظمها علاقةً ذات طابع جنسي بين ذكرين وبين ذكر وأنثى , فإن كانت هذه أو تلك تسوؤك / تسوءك, فقد نوهنا بهما .



تنويه 3 : مما تشمله تلك العلاقة ذات الطابع الجنسي ما يعرف بالإنجليزية / بالإنكليزية بـ


Erotic spanking (/ />


فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .








تنويه 4 : تحوي هذه القصة بعض المشاهد العنيفة التي تتضمن : اغتصاباً , وتهديداً باغتصاب , وقتلاً , وتعذيباً . وليست مقصودة لذاتها ولكن الرغبة في تصوير أدق _ ولو قليلاً _ لواقع معين قد دفعَتْ إليها .



فإن كان هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .




تنويه 5 : هذا العمل ضرب من الخيال لم يقع ولا أجزاؤه , ولا قَصَدَ إلى تصوير ما وقع بكليته أو بجزء منه , وشخصياته ليست محاكاة لشخصيات واقعية وأي تشابه بينها وبين أي شخصية واقعية حية أو ميتة علمنا بها أو لم نعلم محض صدفة , وأي حثٍّ على فعل أو على الامتناع عن فعل بناءً على ما في القصة مما تُوُهِّم أنه مغزى فهو غيرُ مقصود من المؤلف , وليس حثاً على الحقيقة , ومتى وقع الفعل الذي تُوُهِّم أنه حُثَّ عليه فالفعل مسؤولية / مسئولية فاعله ولا يسأل المؤلف عن ذلك .



فإن كان أيٌّ من هذا مما يسوؤك / يسوءك فقد نوهنا به .












- القصة :

(1)





عندما كنْتُ في السادسة من عمري , وقعَتْ لي حادثةٌ غيَّرتْ مجرى حياتي للأبد ... لم تكن تلك الحياةُ وادعةً ولا هانئةً على أية حالٍ؛ في الواقع لقد كانت حياة مزرية , ولكن _على الأقل_ كنْتُ أنعم فيها بحنان أبي وحب أمي ... وكانت أمي ملاكاً يمشي على الأرض ؛ أجمل الناس وجهاً وأرقهم أخلاقاً وأعذبهم ابتسامة . وعلى الرغم من إعجابي بنخوة أبي وشجاعته إلا أنني كنْتُ أستغربُ لماذا اقترنتْ أمي به دون الأغنياء من الرجال أو ذوي المكانة .. لقد كان حباً متبادلاً على ما يبدو , ثم إن الأغنياء من الرجال وذوي المكانة لا يقترنون بالفقيرات المعدمات اللواتي نشأن وعشْن في (المكَبّ) .. هذا هو اسم الحي الذي نعيش فيه ؛ (المكَبّ) . كأنه مكبّ نفايات لا ينتهي إليه إلا أحط أنواع البشر .. في (المكَبّ) مَنْ يملك قوتَ يومه ويعيش في حجرة لا يشاركه فيها إلا أسرتُه فهو ثريٌّ محسودٌ , وقد كان أبي من بين هؤلاء الأثرياء المحسودين , ولكن ما حسده الناسُ عليه أكثر لم يكن الحجرةَ ولا الأكلَ ولكِنِ القمرَ الذي تزوجه ؛ أمي .


وذات ليلةٍ كنا نتناول طعامَنَا ؛ لقيماتٍ لا تكاد تُشْبِع , عندما انفتح باب حجرتنا عنوةً , ولم يمهل الفاتحُ أبي أن يلتفتَ إليه حتى كان عاجله بطعنةٍ نافذةٍ قتلتْه على الفور , ولم يمهل أمي أن تصرخ فزِعةً حتى كان قد رفعها من الأرض _التي كانت جالسة عليها لتأكل طعامها_ وأدارها لتقابله بظهرها , ثم بكل ما أوتي من قوة دفعها جهةَ الجدار لتلتصق به , ويسراه قابضةٌ على أسفل رأسها , ويمناه قد عمدتْ إلى بنطالِه لتنزله , وفي هذه اللحظة رجعتْ لي قدرتي على الحركة , وأعتقد أنني قد أخذْتُ عن والدي شجاعتَه حتى في تلك السن المبكرة , فلم أشعر بنفسي إلا وقد امتدتْ يدي إلى سكين كان في طرف الحجرة وغرسْتُه بكل ما أوتيْتُ من قوةٍ في فخذ هذا المهاجم _ وكان هذا هو ما طالتْه يدي من جسده , إذ كان طويلاً وكنْتُ طفلاً _ لترتخي قبضتُه على جسد أمي ويقع على الأرض _ فيما بعد سأعلم أن طعنتي له قد أصابَتْ شرياناً رئيسياً ينقل الدم لكامل الرِّجْل , وأنه ظل ينزف حتى مات _ والتفتًتْ أمي لترى السكين في يدي , والدهشة بادية على وجهي . ولم أدرِ ماذا أفعل , قبل لحظات كان هناك هدف واضح ؛ إنقاذ أمي , أما الآن فقد بدأت الصورة الكبرى تظهر أمامي فعاودني الذعر ؛ هذا الرجل الذي طعنْتُهُ .. إنه زعيم أكبر عصابة في (المكَبّ) , الجميع يعرفه , والجميع يعرف ولَعَه بالخَمْر وإدمانَه عليها , لا شك أنه قد أسرف في معاقرته لها هذه الليلة حتى سار _ منفرداً دونَ رجالِه _ إلى حجرتنا وهو يمنِّي نفسَه الأمانيّ ؛ لا شك أنه خَطَّطَ _ بعقلٍ غيّبَتْه الكحول _ أن يقتل أبي ويغتصب أمي فلم يلبث أن شرع في تنفيذ مخططه , ولقد كاد مخططه ينجح لولا تدخُّلُ طفْلٍ صغير لم يحسبْ له حساباً .. فالآن ماذا ؟




بدا أن أفكاراً مشابهة تدور في عقل أمي , وإن كان حظُّها من الذعر أكبر , لقد تجاهلَتْ _ بعسْرٍ بالغٍ _ حزْنَها على زوجها الذي عشقَتْه والذي تراه الآن مطروحاً على الأرض جثة هامدة , لينصبّ اهتمامَها بي ؛ بابنها الذي لا تعرف ماذا يكون مصيرُه عندما يعلم أفراد العصابة ما حدث لكبيرِهم على يدِيْ , ورأيْتُ أمي تفتح درجاً ما فتقبض على شيءٍ ما فيه وتضعه في جيبها , ثم تمسك يدي وتهرول بي خارجة من الحجرة ثم إلى الطريق , وفكَّرْتُ في أنها _ لا شك _ قد اهتدتْ إلى أنه لا بقاءَ آمنًا لنا في (المكَبّ) بعد هذه الحادثة .. ولكن إلى أين نذهب ؟ لم يكن (المكَبّ) حيًّا بالضبط لقد كان أٌقرب إلى مدينة ؛ مدينة متاخمة للعاصمة ولكنها معزولة عنها , مدينة بلا قانون إلا قانون الغاب , لا أحد يهتمّ بما يحدث فيها ما دام محصوراً داخلها , ولذلك فلا حدود داخلَها ولكن إذا أردت أن تخرج منها أو تدخل إليها فإنك _ تقريباً _ تنتقل من دولة إلى أخرى وتُعَامَل على هذا الأساس , ولهذا _ بعد ساعاتٍ من المشي الحثيث _ عندما بدأت تظهر لي العمارات المرتفعة التي تميز العاصمة لم يكن مفاجئاً أن توقفنا سيارة شرطة وينزل منها شرطيّ لينظر إلينا في تعجب :


- " من أين أتيتما ؟ "


قالت أمي وهي تكاتم دموعها :


- " (المكَبّ) , لقد قُتِل زوجي قبل قليلٍ , وإن حياة ابني في خطر ... سأفعل أي شيء ! "


كنت أنا مدهوشاً مما قالته أمي .. لماذا لم تطلبْ عون الشرطي ؟ لماذا تتحدث معه وكأنه أحد أفراد عصابة ما .. لم أكن أعرف في هذا السن المبكرة الكثيرَ عن المحيط الخارجي الذي أعيش فيه , كنت أسمع بعض القصص عن الفساد الهائل الذي يضرب بجذوره في كل مكان , ولكنني تصورت أن هؤلاء الذين يذمُّون العصابات وحياة سكان (المكَبّ) الخالية من القانون , تصورْتُ أن هؤلاء يجب عليهم أن يلتزموا هم بالقانون ليكون لاعتراضهم معنى . ولذا فقد زادت دهشتي عندما سأل الشرطي :


- " هل كان زوجكِ يعمل معنا ؟ "


وردت أمي :


- " لا , لم يكن زوجي فرداً في أي تشكيل عصابي , ولا علاقة لنا بأحد "


نظر إليها الشرطي في حيرة :


- " ولماذا قُتِل إذاً ؟ "


قالت أمي وهي لا ترى نهايةَ خيرٍ لهذا الحوار :


- " لقد أراد قاتلُه الوصولَ إليّ "


- " وما الذي منعه , إن كان زوجكِ قد قُتِل بالفعل ؟ "


- " لقد طعنْتُه بسكين كان في متناول يدي , وأخشى أن ينتقم هو وعصابته مني أو من ابني فيقتلوننا "


نظرْتُ في ذهول لأمي وهي تحرّف القصة ظنًّا منها أنها تحميني . وهنا كان الشرطي قد تخلى عن أي ذرة من أخلاق , وبدأ في التحديق بتبجح في جسد أمي , ثم اقترب منها , وقال في جرأة :


- " لا يسمح القانون لأيٍّ من سكان (المكَبّ) أن يدخل العاصمة إلا بتصريح موقع من مدير أمن العاصمة , ولكنَّ بوسعي أن أغض الطرفَ عن متسللَيْن دفعتْهما الضرورة إلى دخول العاصمة , ولكن ذلك على شرط ... "


ودنا بجسده من أمي , وقد بدا واضحاً _ حتى لي أنا _ ما يريد قولَه , واختلطَتْ أماراتُ الاشمئزاز والإحباط على وجه أمي , وقالت مجربة حظها :


- " إننا لا نملك الكثير , ولكن زوجي كان حَرِصَ على أن يشتري لي في يوم زواجنا خاتماً ذهباً , إنه لا يساوي الكثير , ولكن رجاءً خُذْهُ ودعنا نمرّ "


وأخرجتْ من جيبها الخاتم , فنظر إليه الشرطي , وقال :


- " لا حاجة بي إليه , وإن كنْتِ ترغبين في أن تخرجي من (المكَبّ) فلا سبيل إلى ذلك إلّا ما علمْتِ .. "


نظرتْ أمي إليّ وكأنها تزن خياراتِها ثم قالت وقد رضخت للأمر الواقع :


- " أين ؟ "


- " هنا ! "


- " إن ابني .. "


- " وما عليه أن يتعود على هذا المشهد من الآن , فسيراه كثيراً في المستقبل , أم تظنين أنك واجدةٌ عملاً في العاصمة من غير هذا النوع ؟ "


نظرَتْ أمي إليه في فزعٍ وقد بدا لها جلياً أنها هربت من الرمضاء إلى النار , ثم قال الشرطي وكأنه يقدم تنازلاً :


- " بإمكاننا أن ننتقل إلى سيارة الشرطة إن كان هذا عندكِ بهذه الأهمية "


ثم عاد إلى سيارته وفتح بابها الخلفي , ووجدْتُ أمي تتردد ثم تنظر إليّ ثم تعزم أمرها وتدخل إلى السيارة ويدخل خلفها , ويدعانني منفرداً لا أعلم ماذا أصنع , وبدا لي أنني على مشارف البكاء وقد بدأت أصوات ما يحدث داخل السيارة تصل إلى أذني , ولكن شيئاً ما في داخلي كان ينمو شيئاً فشيئاً حتى تَمَّ نموُّه فحال دوني ودون البكاء وحال دوني ودون أن أرثى لحالي , ووعدني أنه سينتقم من هذا الشرطي يوماً ما ؛ قال لي : ليس ما تريده هو البكاء ولا الجزع , ما تريده هو الغضب والصبر حتى تتاح لك فرصة الانتقام ؛ لا مكان لأفعال الأطفال ولا مشاعر الأطفال في مثل هذا العالم , وفي هذه اللحظة خرج الشرطي وأمي من السيارة , وفوجئْتُ به يقول :


- " حسناً لقد كان هذا لا بأسَ به , ولكن عليكما أن تعودا من حيث أتيتما وإلا اعتقلْتُكُما ! "


نظرتْ له أمي , وهي لا تصدق أذنيها .. :


- " ولكنك قلْتَ...."


قاطعها الشرطي بفظاظة :


- " إن لم تعودي بابنك في هذه اللحظة فسأعتقلكما بتهمة التعدي على السلطات , فاختاري لنفسك "


وقفتْ أمي مذهولةً للحظة , فأمسك الشرطي يدها , وقال :


- " حسناً فليكن , ستذهبين أنت وابنكِ للسجن , ويُحَال بينك وبين ابنك الذي سينتهي به الأمر صانعاً ما صنعتِهِ قبل قليل إن عاجلاً وإن آجلاً "


كان الشرطي يتكلم وهو يضع الأصفاد في يديها , ووجدْتُ أمي لأول مرة تصرخ وكأنها على وشك الإصابة بنوبة هستيرية :


- " اهرب يا ( سيف ) ! اهرب ! "


لم أدرِ كيف تحولْتُ فجأة إلى بطل سباق , ولكن الشرطي حاول أن ينحي أمي جانباً ويخرج مسدسه ويصوبه تجاهي ولكني كنت قد ابتعدت بما يكفي ليخطئ هدفه وتقع رصاصته على بعد سنتيميترات من أذني , وزادني ذلك سرعةً , فلم تمضِ ثوانٍ حتى كنْتُ قد ابتعدت عن مرمى مسدسه , ويبدو أنه لم يكن مهتماً بي إلى هذا الحد , فلم يطاردني ولم يرَ فيّ خطراً عليه ؛ فلو ذهبْتُ وشكوْتُهُ للشرطة , فلن يصدقوا قول ***ٍ ويكذّبوا قولَ أحدهم , دعك من أن هذا الطفل في النهاية هو *** من (المكَبّ) , يشتكي شرطياً بسبب ما فعله لامرأة من (المكَبّ) ؛ لا أحد سيهتم بهذا . وكانت تلك الليلة هي آخر مرة أرى فيها أمي في حياتي !




********************








(2)

يتوقف الحبيبان عن المشي فجأة وينظر الفتى إلى فتاته التي تردُّ نظرتَه بمثلها وقد غزا الخجل وجنتيها ثم تهم بأن تقول شيئاً فيفاجئها صوتُ *** وهيئةُ *** ووراءهما قلب رجل وعقل رجل :


- " النقود , والحليّ ! "


ينظر الفتى إلى المدية التي في يدي , ثم يرفع عينَه إليّ فلا يرى أكثر من *** في الثانية عشرة من عمره , ولكن شيئاً ما في عينيّ يجبره على التخلي عن طلب البطولة أمام فتاته , ويمد يديه في جيبه ليخرج ما فيه من مال , وتفعل فتاتُه مثلَه , ويسلمانني مالهما , فأقول :


- " والحليّ ! "


تمر الفتاة على قُرْطَيْ أذنيها بيديها , وتقول :


- " رجاءً ! لقد كانا هدية من أمي قبل موتها "


ويعتصر الألم قلبي فأمد إليه يداً خفية فأقضي عليه , ثم أقول _ولم يفقد صوتي من صرامته شيئاً_ :


- " والحليّ ! "


فتستسلم الفتاة وتحل قرطَيْها وتسلمهما لي . وأسيرُ عنهما في تؤدة وأنا لا أبالي بهما ؛ فهناك صنفان من المجرمين : صنفٌ يبدو وكأنه مقرٌّ بفساد ما يفعله فهو يرتعد ويرتجف ويتمنى لو قُضِي عليه , وصنفٌ يأتيْ إجْرَامَه وكأنه يشرب الماء فإذا لمْتَه استغرب . وإن ستّ سنين من حياة الإجرام التي يُدْفَع إليها دفعاً ***ٌ في السادسة لا تدع له رفاهية أن يكون من الصنف الأول .




لقد مرتْ ستٌّ سنواتٍ على مقتل أبي ... على هروبي من الشرطي الذي اغتصب أمي ... على لجوئي للعاصمة ورؤيتي بأم عيني إجراماً يجعل إجرام (المكَبّ) كأنه عرض مسرحي لاهٍ ؛ نعم في (المكَبّ) ليس هناك قانون ... والقوي يأكل الضعيف , ولكن في العاصمة هناك قانون لا يسمح للقوي ولا للضعيف أن يأكلا شيئاً إلا بإذن صاحب الأمر , فإذا كان صاحب الأمر فاسداً ... ؟




لقد ظللْتُ طيلةَ هذه السنوات الست أقتل كل بقية باقية من طفولتي فصرْتُ رجلاً ولمَّا أبلغِ العاشرة , ثم انتقلْتُ درجةً أخرى فقتلْتُ كل بقية باقية من إنسانيتي فصرْتُ ما صرْتُ إليه الآن ؛ إذا كان غيري يرى الظلم فيبكي , أو يرى الظلم فيسعى إلى تغييره , أو يرى الظلم فيبرر وقوعه ويتمحل له الأماحيل , فإنني أنا لا أراه أصلاً حتى يكون لي إزاءه ردُّ فعلٍ ؛ ما يحدث يحدث وما لا يحدث لا يحدث وهذا كافٍ في بيان موقفي من الدنيا .




كان هذا اليوم بالذات يوماً مهماً , ولكن أهميته لم تَحُلْ بيني وبين سرقة هذين الحبيبين لما واتَتِ الفرصة , ولكنني الآن أنتقل إلى قسم الشرطة والمسروقات لا تزال في جيبي , ويخطرُ لي أنه من المنطقي أن أعود بمسروقاتي أولاً إلى البيت _ وهو عقار مهجور تنازع على ملكيته شقيقان ولما لم ينتهيا إلى شيء أقمْتُ فيه حتى يقضى فيه بشيء _ ثم أذهب للقسم فيما بعد , ولكنني لا أبالي وأعلم يقيناً أن الشرطة أيضاً لا تبالي ؛ ليس هذا هو ما يهمهم فلماذا أشغل نفسي به .. أدخل قسم الشرطة فينظر لي أحد صغار الضباط _ممن لم يسبق لي التعامل معه_ باستغراب , فأسأله عن مأمور القسم الضابط ( سامي ) فيَهِمُّ بأن يزجرني ظاناً أنني أعبث , ولكن ( سامي ) يراني , فيدعوني نحوه ... لا مودة زائفة بيني وبينه ؛ كلانا عالم بمراد صاحبه : أنا أريد أن أُتْرَك وشأني , وهو يريد أن أبلغه كلما وقعت عيني على أمر يهمه , وما يهمه هو استقرار الأوضاع على ما هي عليه , لهذا عندما اقتربت منه وقلت له في هدوء :


- " سياسة ! "


أشار لي في اهتمام لأتبعه إلى مكتبه , فلما دخلنا المكتب أغلق بابه ورمقني في فضول , فقلت :


- " هناك جماعة ما _لا أفهم شيئاً من أهدافها _ ولكنهم مغرقون في السرية على ما يبدو .. كنْت أسرق منزلاً ما فوجدت فيه كثيراً من أدبياتهم , ويبدو أنه منزل مسئول كبير في هذه الجماعة , على أية حال لقد صوَّرْتُ ما وجدته من وثائق ووضعتها على كارد الذاكرة المحمول هذا "


وأدخلْتُ يدي في جيبي فاصطدمت بالقرْطَيْن فزحزحتهما حتى وصلْتُ إلى الذاكرة فسلَّمْتُها له , فقال في اهتمام :


- " هذا جيد ! إن كثيراً من الاضطرابات قد نشات مؤخراً , وقد خلص محللونا أن وراءها على الأغلب مجموعة من الخارجين على القانون من أصحاب التوجهات السياسية , فلعلهم هؤلاء "


أخفيتُ ابتسامتي بصعوبة عندما تحدث عن الخارجين عن القانون , فقد أخبرْتُه لتوي أني سرقْتُ بيتاً فلم يبالِ . ثم قال وكأنه قد تذكر شيئاً فجأة :


- " بالمناسبة هناك اختبار طلبَتِ القيادات العليا أن نجريَه لجميع المنتسبين إلى الشرطة , وعلى الرغم من أنه _ رسمياً _ لا شيء يربطك بنا , إلا أني أرغب في أن تخوضه على أية حال "


- " أي اختبار ؟ "


- " مجموعة من الأسئلة مطلوب الإجابة عليها في وقت محدد , أو شيء من هذا القبيل , إنهم يجرونه في المكتبة في الأعلى "


لم أكن أعلم أن هناك مكتبة في أقسام الشرطة , ولكنني وافقْت على مضض , وسرْتُ إلى المكتبة , ووضعوا الأوراق أمامي , فنظرت إلى الأسئلة فوجدتها تافهة , مجموعة عمليات حسابية بسيطة , وأشكال متشابهة , فرفعت عيني إلى القائم على الاختبار , وسألته :


- " ما الفكرة في هذا الاختبار بالضبط ؟ "


- " إنه يفترض أن يقيس درجة الذكاء , ولكنه مرتبط بالعمر فمن الطبيعي أن تكون درجتك فيه منخفضة "


ساءني الردّ , فعزمْتُ أن آخذ الاختبار بجدية , وسألت :


- " ما هو زمن الإجابة ؟ "


- " لا يوجد زمن محدد , ولكن كلما كانت الإجابة أسرع زادت الدرجة "


وعندما أنهيْتُ الاختبار , طٌلِب مني الانتظار حتى أحصل على نتيجته , ثم نظر لي القائم على الاختبار في دهشة , وقال :


- " 140 ! لقد طلب منا المأمور أن نحيل إليه أي درجة تزيد على 110 "


- " ليصنع بصاحبها ماذا ؟ "


- " ترقية على ما أعتقد , هل أنت ابنٌ للمأمور ؟ "


- " أحد معارفه سيكون توصيفاً أدق "


وعندما قابلْتُ المأمور _ بعد أن علم بالدرجة فلاقاني أثناء خروجي _ عرض عليّ رسمياً العمل في الشرطة , واستغربْتُ :


- " ألا يُشْتَرَطُ عمرٌ معين في الانضمام إلى الشرطة ؟ "


- " أنت أحد أبناء ( المكبّ ) , وعليه فلا يوجد شهادة ميلاد رسمية لك , ولهذا عندما نستخرج لك واحدة الآن سنجعلك في السادسة عشر من عمرك , وهو السن الأدنى للانضمام _ بشكل تدريبي _ لجهاز الشرطة . فهل أنت موافق ؟ "


- " بشكل مبدئي ؛ نعم "






********************




(3)

عندما وافقْتُ على الانضمام كمتدرب إلى الشرطة لم تتغير حياتي كثيراً بذلك , رسمياً صِرْتُ جزءاً من الشرطة _ كما كبر سني فجأة أربع سنوات _ , ولكن فعلياً ظللتُ أصنع ما كنتُ أصنعه قبلها , فقط صار هناك غطاء قانوني لما أفعله , وكأنه جزء من مهمة سرية من أجل كسب ثقة المجرمين , وإن كانت خبرتي في استعمال الأسلحة البيضاء قد تضاعفت مرات كما اقترن بها إتقان استعمال الأسلحة النارية , أضف إلى هذا أنني قد بدأت التدريب في سن مبكرة كما يقولون ؛ لقد عِشْتُ في بيئة إن لم تَقْتُلْ فيها قُتِلْتَ منذ كُنْتُ في السادسة , ولذلك فعندما بلغْت الثامنة عشرة _ أو الثانية والعشرين وفقاً للوثائق الرسمية _ صرْتُ أداة قتلٍ تمشي على رجلين , ولم يخفَ ذلك عن أعين رجال العصابات وقيادات الشرطة جميعاً ؛ ولكن رجلاً واحداً من بين هؤلاء كنت أتمنى أن يسمع بمهاراتي المتعددة .. وهو اللواء ( شكري ) مدير أمن العاصمة .. لو كان لي مَثَلٌ أعلى لكان مديرَ أمن العاصمة ؛ فهو مِثْلِي قد نشأ في ( المكبّ ) ولا يعرف أحدٌ كيف هرب منه , ولا كيف صار زعيماً لكل مجرمي العاصمة لا يعصي أحدهم أمرَه , ولما بدأ الصدام بين عصاباته وبين الشرطة _ وكان ذلك قبل أن يتم تطبيع العلاقات بين الطرفين _ بدا واضحاً أيُّ الطرفين أقربُ للقضاء على خصمه , عندها اضطرت الشرطة إلى التفاوض مع ( شكري) , وانتهى التفاوض بأن يعترف كلا الطرفين _ من تحت الطاولة _ بمجال نفوذ الآخر ؛ ألا تدخل الشرطة إلى ( المكبّ ) وأن تعلن بصراحة عن الأهداف التي تشكّل خطاً أحمر حتى تتجنبها العصابات ويكون ما سواها مباحاً , وعلى الطرف الآخر أن يتعهد بحق الشرطة في السيطرة على كل أرجاء العاصمة , وأن يتم التواصل مع الشرطة في حال تنامى إلى علم العصابات وجود مخطط لقلب النظام , أو لاستعمال العنف ضد الدولة ومؤسساتها , ولقد كان نفعُ ذلك الاتفاق على الطرفين هائلاً حتى إن قراراً ملكياً صدر بتعيين ( شكري ) مديراً لأمن العاصمة ومنحه رتبة لواء , وقد غَضِبَتْ بعضُ القيادات الأمنية من ذلك القرار, ولكن ما إن تعاملوا مع ( شكري ) حتى علموا بُعْدَ نظرِ ذلك القرار .




لذلك عندما أخبرني المأمور أن مدير أمن العاصمة يرغب في لقائي اعترى قلبي _ الذي ظنَنْتُ أنه كان تيبَّس من قلة الاستعمال _ خفقة مفاجئة , ثم رجع إلى حالته الأولى فكأنه *** قد نَدَتْ عنه كلمةٌ في مجلس الكبار فالتفتوا إليه فهاله ما صنع فخرس . وكان اللقاء كما توقعْتُه جافاً براجماتياً , قال ( شكري ) شيئاً عن كلام طيب سَمِعَهُ عني , ثم قال في جدية :


- " هناك مهمة قد تبدو لأول وهلة تافهة , ولكن الظروف تدفعنا لتوكيلك بها "


نظرْتُ إليه في اهتمام , فأضاف وكأنه محرجٌ من أن يضيع وقته فيما سيقوله :


- " إن وليَّ العهد _ كما تعلم _ قد احتفل بعيد ميلاده الثامن عشر قبل أيام , ومن عادة المملكة أن يتم زواج وليِّ العهد بمن يختارها من الفتيات بعد بلوغه الثامنة عشرة مباشرة , على أية حالٍ فإن ولي العهد _ كما قد لا تعلم _ ليس بهذا الاتزان الذي تحاول الدولة أن تصوّره عليه , في الواقع إن الأمير مولعٌ بالأفلام السينمائية التي تصور حياة العصابات , وهو _ في غير المناسبات الرسمية _ يحاول تقليد أسلوب رجال العصابات في الكلام , وارتداء الملابس التي تشبه ملابسَهم ؛ إن لديه مشكلة .. ولكن هذا أمر قابل للتدارك _كما هو واضح_ . ولكن الملك أبى إلا أن يطلب من طبيبه النفساني الخاص أن يجري كشفاً على ابنه ليعرف ما الذي يدفعه بالضبط للاهتمام بحياة العصابات هذه , وقام الطبيب بمجموعة من الاختبارات وسأل مجموعة من الأسئلة , ثم ثَبَّتَ مجموعة من المستشعرات على جبين ولي العهد وعلى صدره ثم عرض عليه صوراً لمجموعة من رجال العصابات وسجَّل سرعة النبض وأشياء طبية أخرى , ولكن الطبيب شديد الملاحظة انتبه إلى شيء آخر قد يكون هو السبب الحقيقي وراء اهتمام ولي العهد برجال العصابات , وذلك عندما جعلَ الأميرُ إحدى رجليه على الأخرى بمجرد عرض الصور عليه , وذلك ليخفي _ على الأغلب _ ... "


وأشار ( شكري ) بيديه إشارة مبهمة , فجاهدْتُ لإخفاء ابتسامتي , فأضاف :


- " وهذا أيضاً أمرٌ قابلٌ للتدارك .. إن الساذج فقط هو من يعتقد أن القَصْرَ لا يعجّ بمثل هذه العلاقات , ولكن مشكلة الملك الكبرى كانت هي ما إذا كان ابنُه تقتصر رغبتُه على هذا النوع من العلاقات أم تمتد لأنواع أخرى ؛ أو بعبارة أكثر صراحة : هل يرغب ولي العهد في الزواج من فتاة أم لا ؟ وصارح الملكُ ابنَه فصارحَ الابنُ أباه ... ومرة أخرى هذا أيضاً أمرٌ قابل للتدارك .. كثيراتٌ يتمنين لقب (أميرة) ولقب (ملكة) فيما بعد حتى لو عنى ذلك أن يتزوجن زواجاً صُوَرِياً , وقد تقدم الطبّ الآن وصار التخصيب خارج الرحم حقيقة , وكثيرات يتمنين أن يكن أمهات للملك القادم ؛ أو بعد القادم للدقة , فلن نعجز عن إيجاد مَنْ تقبل بزواج صوري وأن تحمل من ولي العهد حتى لو لم يكن به رغبةٌ فيها .. كل هذا قابل للتدارك .. "


ثم صمَتَ ( شكري ) لوهلة , فتساءلْتُ عن المشكلة ؛ ما دامتْ كل الأمور قابلة للتدارك على ما يبدو .. فأضاف ( شكري ) في مجاهدة _إذ يبدو أن جرأته وسمعته في الاستهانة بالدماء , لا تنسحب على الأمور الجنسية_ :


- " وفي خضم كل ذلك كان من الطبيعي أن يُطْلَبَ من الأمير أن يتحدث بصراحة بالغة عن كل ما يتعلق بميوله الجنسية وما مارسه من قبل وما يريد أن يمارسه فيما بعد , حتى نَضَعَ مُقَارَبَةً لكيفية مواءمة كل هذا مع طبيعة مهمته كولي للعهد ثم كملك فيما بعد . وبالطبع فقد دار هذا كله في دائرة ضيقة للغاية من الثقات , وبعد جهدٍ جهيدٍ أَطْلَعَنَا الأميرُ على أسراره كلها , فخلصْنا إلى أن المشكلة أكبر مما تبدو عليه . ولكننا فجأة وقعنا على ملفك وبدا وكأن المشكلة بسبيلها للانفراج "


كان هناك تصوُّرٌ ما لديّ حول النهاية التي سيذهب إليها هذا الحوار , فلما ذكر ( شكري ) " ملفي " تأكَّدَتْ لدي هذه النهاية , ولأنني كنت قد مللْت من كل هذا اللف والدوران و" المقاربة" و"المواءمة " , فقد قاطعْتُه قائلاً :


- " الأمير يريد أن يخضع جنسياً لرجل , وتخشَوْن أنتم أن ينسحب هذا على استقلالية قراره , و" ملفي " يظهر أنني لا أتورع عن أي فعل ذي طبيعة جنسية حتى أصل إلى غايتي _ وهي في الأغلب أن أخلو بهدف مطلوب تصفيته , إلا أنه من حيث المبدأ فهذا ينسحب على قدرتي على تلبية رغبة الأمير_ "


نظر ( شكري ) لي شاكراً وكأني أزلت عنه عناء شرح هذه النقطة , وأضاف :


- " بالضبط , ولكن نحن لا نستطيع أن نضمن أنَّ مَنْ سيخضع له الأمير لن يستغل هذه الفرصة ليتحكم فيه_ على الأقل هذه هي وجهة نظر المَلِك _ , ولكن معك أنت فالوضع يختلف , هناك شيءٌ نستطيع توفيره لك _ وبحكم معرفتي الشخصية بطبيعة حياتك _ فإنه على الأغلب سيضمن ولاءك لنا _ وعلى رأسنا الأسرة الحاكمة بالطبع _ للأبد "


تأملْتُ في اهتمامٍ يدَ ( شكري ) وهي تسحب مظروفاً من أمامه وتفتحه وتخرج ما يبدو وكأنه مجموعة صور وتضعها أمامي :


- " للأسف لقد توفيتْ والدتُك بعد ليلة مفارقتها لك بأيامٍ , ولكن هذا أفضل ما استطعنا القيامَ به "


خفق قلبي بعنف وأنا أرى محتوى الصور .. هناك شيءٌ واحدٌ ظل عصياً عليَّ محوُه طيلة تلك السنين .. كنت أتساءل : هل صِرْتُ إنساناً آلياً بعد ؟ فتكون الإجابة : بَقِيَ جزءٌ واحدٌ من إنسانيتك يَحُولُ دون ذلك . والآن تتاح لي الفرصة أن أشعر كإنسان مرة أخرى ؛ أن أتلذذ بمشاعر الانتقام ؛ هذه الصور ... تُظْهِرُ أولاها وجْهَ رجلٍ لن أنساه ما حييْتُ ؛ ذلك الشرطي الذي أذل أمي أمام عيني ؛ وهي التي كانت لتدفع هذا الذل بكل ما تملك , ولكنها رضيَتْ بالذل خوفاً على حياتي .. ثم كان ماذا ؟ .. قيل لها : كأن لم تفعلي شيئاً ... سواءٌ عليك إقدامُكِ على فعلٍ _الموتُ أحبُّ إليكِ منه_ وعدمُ إقدامك ... مدى الانحطاط !.. ولقد شَفَتِ الصورةُ الثانيةُ نفسي ؛ الوجه نفسه الذي في الصورة الأولى ولكنه هذه المرة متورمٌ من أثر الضرب ؛ ضرب محترفين كما يبدو في الصورة , لم يقتلْه وقعُ هذه الضرباتِ ولكنه تعذَّبَ بها أياماً حتى تمنى الموت, وفي ملامحه ذعرٌ لا يوصَف , وفي الصورة الثالثة تبدو أعضاءه ممزقاتٍ ويظهر مِنْ ذعرِ ملامح وجهه في الصورة السابقة أنها مُزِّقَتْ من جسده وهو لا يزال على قيد الحياة ؛ لو كان لي أن أرسم له مصيراً أبشع من هذا لما استطعْتُ , وبدا لي كأن حِمْلَ جبالٍ كان على صدري طيلة تلك السنين ثم تبخَّر ؛ فرجعَتْ لي القدرة على التنفس بعد اثنتي عشرة سنة من الاختناق .

وهمَمْتُ أن أسألَ , ولكن ( شكري ) عاجلني :


- " لقد أودِعَتْ أمكَ مستشفى السجن في الليلة التي قُبِضَ عليها فيها بسبِبِ ما شُخِّصَ أنه نوبة اكتئاب كبرى ؛ ظلَّتْ تردد عباراتٍ تعتذر فيها لـ ( كريم ) _ أعتقد أن هذا اسم والدِكَ _ , وتطلب أن يأتوها بكَ , وتذكر جريمة ذلك الشرطي , واستمرت في هذه النوبة حتى ماتت بعدها بأيام "


فوجئْتُ أن حزني على وفاة أمي لم يكن بنفس قوة تلذذي بمقتل ذلك الشرطي ؛ ربما بعد كل هذه السنين لم تعد لديّ القدرة على الحب والحزن على فراق الأحبة , وصارت أٌقرب المشاعر لدي وأقدرها على التأثير فيّ هي العنف والقتل والانتقام . بدا أن ( شكري ) يحترم صمتي ووقع كل هذا عليّ .

ولكنني أن أردتُ أن أعبرَ عن امتناني وأيضاً عن صدْقِ حدسه :


- " أعترف أنني لا أهتم كثيراً بالولاء لهذا أو ذاك , ولا بالصواب والخطأ , ولكن لو كان هناك شيءٌ أعلم أنني أَدِينُ بالشكر لفاعله ما حييْتُ وأتولاه على من سواه , فهو هذا الذي قمْتَ به "


هز ( شكري ) رأسَه في تفهم , ثم قال :


- " حسناً , فلننتقل إلى الجزئية الرئيسية في حديثنا ؛ ما الذي ستفعله بالضبط . "


بدأتُ أصغي السمع باهتمام , ولكنني فوجئت بـ ( شكري) وهو يقول بصوت عال للجندي الواقف على الباب :


- " اطلب من الأميرة ( ليلى ) أن تدخل "


ضرب الجندي الأرض برجله ورفع يده بالتحية العسكرية ثم انصرف . فنظرت متسائلاً لـ ( شكري ) :


- " الأميرة ( ليلى ) ؟ "


وكأنها سمعتْ سؤالي فدخلَتْ من الباب مباشرة وتبعها الجندي , ونظرْتُ إليها فوجدتها فائقة الحسن , وشعرْتُ بوقوف ( شكري ) تحيةً لها , فقمْتُ أنا كذلك , فصافحَتْني قائلةً :


- " ( ليلى ) ! ابنة عم ولي العهد "


كنْتُ لا أزال في حيرة من دور ( ليلى ) هذه فيما نحن فيه , ولكنني أجبْتُ في هدوء :


- " (سيف) !"


ووجدت ( شكري ) ينسحب وهو يقول :


- " الأميرة ( ليلى ) هي الصديقة الأكثر قرباً من ولي العهد , وستخبرُكَ بـ .. "


وبدأ شكري يلوح بيديه مرة أخرى , فبادرْتُه قائلاً :


- " هذا واضح يا سيادة اللواء ! "


- " حسناً , أترككما إذن ! "


ثم انصرف , فجلسَتْ ( ليلى ) مكانَه , وأتمَّتْ جملتَه :


- " وستخبرك بما يرغبُ الأميرُ أن تفعله به . "


ابتسمْتُ , وقلْتُ لها :


- " إن لسيادة اللواء أسلوبه في عرض فكرته , ولقد كنت أخشى أن تكوني .. المعذرة .. أن يكون سموُّكِ على نفس الدرجة من التكلف "


- " على الإطلاق , ورجاءً ! لا داعي لـ " سموك " ولا لـ "الأميرة" , نادني باسمي ؛ إن ما سنخوض فيه يمنع أن تكون لهذه الألقابِ هَيْبَتُها على أية حال "


هززْتُ رأسي موافقاً على كلامها , فأضافت :


- " لقد امتدَّتْ صداقتي للأمير طيلة حياتينا تقريباً , وهو يخُصّني بكل أسراره , ولا أخفيك أنني كنت مسرورة بتعرضه لما تعرض له مؤخراً مما حدثك عنه اللواء ؛ أنا أرى أن حرجه من انكشاف سره أهون من أن يعيش حياة كاملة لا يلبي فيها رغباته , ولا أدري إلى أي مدى وصف اللواء مشاعرَ ابن عمي , ولكن علمي بحيائه _ اللواءَ لا ابنَ عمي _ يجعلني أعتقد أنه لم يقل الكثير "


أمَّنْتُ على قولها :


- " لم يقل شيئاً في الواقع .. لقد استنتجْتُ أنا مما قاله الفكرةَ الرئيسيةَ , بينما ظل هو يتكلم عن مقاربةٍ تُحَقِّقُ رغباتِ ولي العهد ولا تتعارض مع منصبه , أو شيئاً من هذا القبيل "


ابتسمتْ ( ليلى ) وقالت :


- " لقد كانت أولُ مرة أعلم فيها بـ " رغباتِ ولي العهد " عندما وجدتُ صدفةً _ وأقسم أنها كانت صدفةً وأنني لا أقول ذلك لأدفع عن نفسي الحرج _ إحدى المجلات التي يدمن قراءتها , وكنتُ حينها في السادسة عشرة والأمير في الرابعة عشرة , ولأننا مقرّبان للغاية فقد ساءني أن يخفي عني ذلك , وعندما فاتحْتُهُ بالأمر كانتْ أولَ مرةٍ يكذب فيها عليّ صراحة , وقال إنه لا علم له بالمجلة ولا يدري من أين أتتْ , ولم أشأْ حينها أن أضغط عليه فأظهرْتُ أني أصدقه , وانتظر حتى الغد ليخبرني أنها مجلته وأنه لم يكذب عليّ في أي أمر آخر من قبل , لكن هذا السر بالذات لا يطيق أن يُطْلِعَ عليه أحداً , ومنذ تلك اللحظة وعلى مدار قرابة الأربع سنوات كنتُ الشخصَ الوحيد الذي يخبِرُه الأميرُ _أولاً بأول_ بما يجدّ في هذا السياق _ إن صح التعبير _ , كما كان يخُصُّني دون الناس بعرض قصصه التي يكتُبُها ويُوْدِعُهَا خُلاصَةَ أسرارِه "


- " هناك " قصص " ؟ "


- " نعم ! هذا هو السبب الذي جعلني أتفق مع اللواء أن أكون أنا من يعرض عليك خطة العمل "


- " ولماذا لا تعطينني القصص لأقرأها , وأعرف بنفسي ما يريده الأمير ؟ "


- " لأن معظم تلك القصص قائمٌ على أحداثٍ واقعية , كما يقولون , وشخص ذكي مثلكَ سيفطن إلى كثير من خفايا القصر بمجرد أن يقرأها , ونحن نريدك أن تتولى تلبية رغبات الأمير, لا أن تعرف كل أسرار القصر . وعلى أية حالٍ فأنا أعرف من هذه القصص كل ما يريد الأميرُ فعلَه , وسأغنيكَ عن إتعاب نفسك في استنتاج الخلاصة "


- " حسناً إذن "


قبضت ( ليلى ) أصابع يمناها ثم بسطت من بينها الإبهام وبدأت تعدد :


- " أولاً : _ في المعتاد _ تكون العلاقة بين المسيطِر ولنرمز له بالرمز (ط ) والخاضع ولنرمز له بالرمز (خ) علاقة مقلوبة , هذا راجع _بالطبع_ إلى أن الأمير هو ولي العهد وما لم يتولَّ والدُه لعب دور ( ط) , فإن أي شخص آخر هو دونه في المكانة وفقاً لدستور المملكة .

ثانياً : وبناءً على (أولاً) فإن ( ط ) في المعتاد يبدأ القصة وهو يحترم ( خ ) ويظهر له التبجيل , ولكن من وراء التبجيل تبدو رغبته في أن يضع ( خ ) في منزلتَه التي يعلم كلاهما أنه يستحقها . ومن ثم فهناك دائماً هذه النقلة من ( هل يريد سيدي شيئاً آخر ؟ ) إلى ( لو كان من قال هذا شخصاً آخر لأوجعْتُه ضرباً ) والتي تقود بالضرورة إلى ( كيف تشعر لو دخل علينا الآن أحد الخدم ورآك متورم الجلد باكي العين تطلب الصفح فلا تُمْنَحُهُ ؟ ) , وهذه الفكرة تظهر في كل القصص تقريباً .

ثالثاً : هناك اقتراب وابتعاد أو اعتراف وإنكار للطابع الجنسي لهذه السيطرة ؛ في نقطة ما ينكر ( ط ) أن يكون دافعُه لما يفعله له أي علاقة بالجنس , بل يظهر السخرية والاستهزاء بكون ( خ ) قد أثير جنسياً _ كما هو ظاهر _من هذه العلاقة , وفي نقطة أخرى يعود ( ط ) ويعترف أو يلمّح إلى وجود دافع جنسيّ لرغبته في السيطرة على ( خ ) , ونفس الشيء ينطبق على موقف ( خ ) ففي نقطة ما يتمنى لو تنتهي هذه العلاقة ولو يعود لوضع طبيعي لا يتعرض فيه للضرب أو السخرية أو التحقير , وفي نقطة أخرى نجده توّاقاً لأن يتعرض لذلك كلِّه . كما أن هناك حالة أخرى تنص فيها القصة على أن أحد الطرفين لا ينظر إلى هذه العلاقة على أنها ذات طابع جنسي على الإطلاق , ولما كانت هذه القصص مكتوبة من قبل الأمير الذي يتصور نفسه في مكان ( خ ) , فإن الطرف الذي لا يشعر بإثارة جنسية من هذه العملية يكون في الغالب هو ( ط) مما يزيد من شعور ( خ ) بالمهانة واستحقاق العقاب .

رابعاً : في الغالبية العظمى من هذه القصص هناك تفصيل مستفيض لمشاعر ( خ ) وأثر الأفكار التي تدور في ذهنه على رؤيته لهذا الفعل أو سماعه لهذا القول ؛ بعبارة أخرى فإن القصص مفرطة الذاتية , من الصعب أن نتصور وجود حوار أو حدث لا يؤثر بشكل مباشر على ( خ ) , أو لا يكون هو المقصود به . هذا أمر يجب أن يراعى عندما يتعامل ( ط ) _ الذي ستلعبُ دورَه _ مع ( خ ) ؛ لا بد أن تجعله هو بؤرة الحدث "


هنا وجدْتُ أن عليّ أن أقاطع ( ليلى ) لأستوضح شيئاً :


- " ما مدى الارتجالية _ إن صحَّتِ اللفظة _ التي يفترض بي أن أتعامل بها مع الأمير ؟ ألن يكون هناك نص مكتوب , أو تعليمات واضحة بما يُفْعل وما لا يُفْعل ؟ "


- " حرصاً على ألا تكون علاقتُك بالأمير ذات أثر واضح في حياته , فإنك لن تتفق معه على سيناريو معين تقومان به , بل إنك _ وحدك _ من سيقوم بالدور ؛ مثلاً سيتم تعريفُه بكَ على أنك طالب دراسات عليا أجنبي يريد أن يجري بحثاً على طبيعة العلاقات بين أفراد الأسرة الحاكمة في نظام ملكي , وأن الملك قد قرر _تمادياً في احترام العلم والعلماء _ أن يدعوك لتقيمَ في القصر الملكي نفسه بضعة أيام لترى على الطبيعة موضوع بحثك , عندها تتعرف على الأمير وتسوقك الأحداث إلى أن تقيم به علاقة فيها سيطرة وخضوع , ولكن الأيام سرعان ما تنقضي , وتضطر للمغادرة لمكان آخر بحثاً عن مصادر ومراجع ما , وتعود مرة أخرى ولكن إلى فندق في أطراف العاصمة ويزورك فيه الأمير , وهلم جراً بحيث تقابله على فترات متباعدة وهو يعتقد أنك أنت الشخصية التي تلعبها ؛ لقد قررنا أن هذا أسلم , وأدفع لتحقيق رغبة الأمير بدون تعقيد حياته الخاصة بأن يعرف أن ضابطاً من ضباط المملكة هو من يحقق له رغباته , ومن ثم _ فإجابةً على سؤالك _ إن دورك كله سيكون ارتجالياً تقريباً "





بَدَتْ لي هذه الفكرةُ خَطِرَةً , مَنْ يدري ما الذي سيكونه ردُّ الأمير؟ ربما يتردد عندما تصل الأحداثُ إلى ذروتها ويقرر أنني تجاوزت خطاً أحمر , وحينها فمَنْ في القصر يعرف من أنا ؟ الملك ؟ ربما .. أنا لا أضمن إلا ( ليلى ) و ( شكري ) _إن جاز اعتبار أن ( شكري ) من رجال القصر _ ماذا إذا أَمَرَ الأميرُ أحدَ حراسه أن يقتلني لأنني تجرأتُ على مقامه _ وهو لا يعرف من أنا , والحارس أيضاً لا يعرف من أنا _ وإذا هَمَّ الحارسُ بقتلي فإن الحارس _على الأغلب _ سينتهي به الحال مقتولاً , ولكن هذا يعني أنني قَتَلْتُ حارساً في القصر الملكي , ومن أجل ماذا ؟ من سيقف في صفي ويشهد أنني كنت ضابطاً في مهمة سرية من أجل ضرب الأمير حتى يبكي من الألم ؟ تصوّرْ وجه القاضي وهو يسأل المحامي إن كان هذا دفاعاً أم تهمة يعاقب عليها بالإعدام .




فجأةً بدأتْ فكرةٌ أخرى في التبلور في ذهني : هذه الـ ( ليلى ) كائنٌ لطيفٌ .. أليس كذلك ؟ تسعى كل هذا السعي من أجل ابن عمها وتدافع عنه دفاعاً شديد التفهم , لقد قالت " ولا أخفيك أنني كنت مسرورة بتعرضه لما تعرض له مؤخراً مما حدثك عنه اللواء ؛ أنا أرى أن حرجه من انكشاف سره أهون من أن يعيش حياة كاملة لا يلبي فيها رغباته " , ثم تحلل كل قصة كَتَبَها على مدار أربع سنين وتخلص بنتائج مرقمة , وتُعَلِّلُ لعدم إرسال هذه القصص لي وإراحة نفسها من كل هذا العناء بأن شخصاً ذكياً مثلي سيعرف من خلالها خفايا القصر ... شخصاً ذكياً ؟.. من أين لها أن تعرف أنني شخص ذكي ؟ إن درجتي في اختبار مستوى الذكاء موجودة في ملفي في الشرطة , ولكن : أَبَلَغَ بها حبُّ ابنِ عمها وحرصُها عليه أن تقرأ ملف ضابط الشرطة الذي يُحْتَمَل أن يتولى عقابه ؟ ثم هذه المجلة التي وجدتها صدفة أو كما قالت : " عندما وجدتُ صدفةً _ وأقسم أنها كانت صدفةً وأنني لا أقول ذلك لأدفع عن نفسي الحرج _ إحدى المجلات التي يدمن قراءتها " .. صدفة ؟! .. هناك شيءٌ ما ليس في مكانه هنا .




وكنت قد انشغلْتُ بهذه الأفكار برهةُ فحدقْتُ في الفضاء لفترة , و(ليلى) تتأمل فيّ وكأنها تحاول قراءة ما أفكر فيه , فوجهْتُ إليها نظري وقلْتُ :


- " ليلى ! "


بدا على وجهها الاستغراب , واندفع الدم إلى وجهها .. هذه أول مرة أدعوها باسمها بالرغم من حثِّها لي على أن أفعل , ولعلها أول مرة تَسْمَعُ فيها اسمَها مجرداً من لقب الإمارة _حتى من أقرب الناس إليها_ , إن هؤلاء الأمراء ينادي بعضهم بعضاً بالإمارة , لعل أختها _ إن كان لها أخت _ تقول لها : يا أميرة ليلى, ولكن لماذا حثتْني على أن أناديها بـ ( ليلى ) إن كانت ستغضب ؟ أم أن هذا ليس غضباً وأن نظريتي كانت صحيحة منذ البداية , وأكَّدَ ظني أنها أجابت بصوت خافت :


- " نعم ! "


هذا ليس غضباً إذًا , هذا خجل , فجرأني هذا على السؤال :


- " تلك المجلة التي وجدتِها مصادفةً .. "


وأكدْتُ على كلمة "مصادفة" , فأكّدَتْ حمرةُ خجلِها على ما ذهبْتُ إليه , فأكْملْتُ سؤالي :


- " ماذا كان موضوعها بالضبط ؟ "


ازداد خداها تورداً , وتَمْتَمَتْ :


- " رجاءً ! "


رجاءً ؟! لقد رماكِ سوءُ حظكِ يا أميرتي بابن ( المكبّ ) , وأولُ درسٍ يتعلمونه في ( المكبّ ) أن إذا تَقَهْقَرَ خَصْمُكَ أَنْ أجْهِزْ عليه :


- " أكان ما تُصَوِّرُهُ من خاءٍ وطاءٍ كلهم رجالاً أم كان في خائها أو طائها إناث ؟ "


نظرَتْ إليَّ وقد استحال وجهها لوناً قرمزياً , وقالت :


- " أنا لا أبالي بجنس طائها , ولكنني لم أدع فيها خاءً إلا تمنيتُ أن أكون مكانه "


- " فهاكِ ما سنصنعه ! أما خطتكِ ففيها تعريض لي للخطر وتكلف لما لا حاجة لنا به , وأما أميرُكِ فأمرُهُ أهونُ من ذلك ؛ ينقلني اللواء ( شكري ) إلى حرس القصر , وألقاكِ فيه في مكانٍ يسمع الأميرُ منه ما يكون بيننا فأصنعُ بكِ الذي يرجو أن أصنعه به , فإذا سألكِ بعدها كشفْتِ له سرّكِ كما كشف لكِ سرّه قبلها بسنين , ثم يكون هو من يسعى إليّ إن كان مستعداً لذلك , بدلاً من أن أتعرّضَ له فيَقْبَلَ أو يرفضَ "


ولما هزّتْ ( ليلى ) رأسها في حماس , قرَّرْنا أن نضع الخطة موضع التنفيذ .




********************





(4)

كنْتُ واقفاً خلف الأمير العاري ويداه معقودتان خلف رأسه , وقد تكلم بصوت لا أكاد أسمعه , فقلْتُ :


- " ارفعْ صوتَكَ ! "


أطرق الأمير برأسه إلى الأرض وقد كستْ حمرة الخجل وجنتيه , وهو يقول :


- " لقد أخبرتْني الأميرةُ ( ليلى ) .. "


فهوتْ يدي على مؤخرتِه بصفعة ، وألصقت جسدي به من ورائه وأمسكْتُ بفكِّه بيميني لأحرِّك رأسه تلقاء زاوية الحجرة , فتقع عيناه على ( ليلى ) محمرّة الردفين واقفةً في الزاوية ويداها مرفوعتان في الهواء , وهي لا تزال تجهش بالبكاء , ثم قلْتُ :


- " هل تبدو لك هذه الفتاة _التي عوقبَتْ لتوِّها_ صالحةً لأن يقال عنها : الأميرة ( ليلى ) ؟ "


التقط الأمير أنفاسه بصعوبة وقال ويدي لا تزال ممسكةً بوجهه :


- " لقد أخبرتْني ( ليلى ) أنك عاقبتْها البارحةَ , وأنكما تعمدتما أن يكون ذلك بحيث أسمعُكما , حتى أسألها وتعترفَ لي أنها هي الأخرى تهوى أن تعاقَبَ , وأنكَ مستعدٌّ لمعاقبتي إن كنتُ أنا مستعداً "


سكتَ الأميرُ فترةً فتركتْ يدي وجهَه وابتعدْتُ عنه قليلاً , ثم هوتْ يمناي على ردفِه بصفعةٍ أخرى , فأكملَ :


" وأن آية استعدادي أن آتي إلى غرفتكما عريان حتى لا يستغرق تجهيزي لعقابي _الذي طالما تأخَّرَ وقوعُه _ وقتاً طويلاً "


هنا هوت يميني على كل ردفٍ من ردفيه بثلاث ضربات , وقلْتُ في غضب مصطنع :


- " فإذا كانت رسالة ( ليلى ) قد وصلتْكَ كما أرسلْتُها , فلماذا قَدِمْتَ إلى الغرفة وعليك ملابسُك ؟ "


- " كانت هناك خادمة تمسح الرخام أمام الغرفة فلم أشأ أن تراني على هذه الهيئة "


- " وكيف شعوركَ وقد تسبب عصيانك أمري فيما ترى ابنة عمك تبكي بسببه الآن ؟ "


بدَتْ رنةُ ندمٍ صادقة في صوت الأمير وهو يقول :


- " أشعر بالأسى لها , ولقد حاولْتُ أن أخبركَ أنها لم تقصِّرْ في تبليغ الرسالة , وأنني أنا من خالفتُ الأمر , ولكنك أمَرْتَنِي أن أسكت ولا أتكلم حتى تأذنَ لي , فلم تأذنْ لي حتى فرغْتَ من عقابها "


في الواقع كان هذا دوري أن أشعر بشيءٍ من الرثاء , ولكن بسبب شعوره بالأسى وليس بسبب ما أصاب ( ليلى ) . فقد كان هذا اتفاقنا ؛ أخبري ابن عمك أن يأتي عارياً للغرفة , وليكن ذلك في تمام التاسعة مساءً , لأن الخادمة تكون في هذا الوقت بالذات قد وصلتْ في مسحها للرخام إلى الجزء المقابل للغرفة , وحينها لن يجرؤ على نزع ملابسه , ولن يجرؤ أن يتأخر على الموعد الذي حددْتُه له لينتظر مرور الخادمة , وسيضطر إلى دخول الغرفة كاسياً , حينها سألومكِ على عدم إيصال الرسالة له كما بلغتُكِ إياها , وسيحاول هو أن يُخْلِيَ ساحتَكِ فآمره بالصمت , وألا يتكلم حتى يؤذن له , حتى أفرغ من عقابكِ فأرسلكِ إلى الزاوية وأطلب منه نزع ملابسه وأن يعقد يديه خلف رأسه وأن يحكي لي ما أبلغتِه به .. كانت هذه هي الخطة , وقد سارَتْ على ما يرام , وقد دفعني إلى هذه الخطة أنني لم أرغب في أن يكون عقابٌ ما بلا سبب فأما ( ليلى ) فقد كذبَتْ عليّ يوم لقيتُها في مكتب ( شكري ) فجعلْتُ عقابَها شطرين ؛ فعجلْتُ لها الجزء الأول في اليوم الذي سَمِعَنَا فيه الأميرُ وأخرْتُ الجزءَ الثاني إلى هذا اليوم , وظنَّ الأمير أنه بسبب تقصيرها في إبلاغ رسالتي وإنما كان بقيةَ عقابِها لكذبِها عليّ وزعمِها أنها قامتْ بما قامتْ به لا لشيءٍ إلا لصداقتها لابن عمها , وأما الأمير فإنني لم أعرفْ على أي شيءٍ أعاقبُه وأنا لم أٌقابلْه بعد , فكانتْ هذه الخطة لتجعل عقابَه مسبَّبًا حتى لو كان السبب مصطنعاً . فقلْتُ :


- " لقد كنْتُ أنوي أن أقتصر على بضعة صفعاتٍ وعلى عقاب رقيق _ إن صحتِ العبارة _ أما وقد تسبَّبْتَ فيما رأيتَ ابنةَ عمك تناله قبل قليل , فلا أقلَّ من أن تنال مثلَه , أو لعلي أزيدُكَ ..فإنها بريئة وأنت مذنب , ولا يتساوى بريءٌ ومذنبٌ "


بَلَعَ الأميرُ ريقَه بصوت مسموع , وإن كان في جسده ما أخبرني في جلاءٍ أن هذا بالضبط ما كان يحلم به طيلة تلك السنين .. فعدْتُ إلى مجلسي على طرف السرير وأشرتُ إليه بإصبعي أن اقترِبْ فاقتربَ , فجعلت يمناه في يمناي ويسراه في يسراي ورفعت رأسي إليه , وقلْتُ كأنما أخاطبُ طفلاً :

- " عندما آمُرُكَ بشيءٍ بعدَها فإنك تنفِّذه كأنك لا تملكُ أمْرَ نفسِك , فإذا فرغْتَ من فعلِهِ فَلَكَ حينَها أن تتفكر فيما حدث وتقول يا ليتَ كذا كان مكانَ كذا ؛ يا ليتَ تلك الخادمةَ لم تكن حاضرةً حتى لا تراني عريان . أمّا أن يدفعك تفكيرُك إلى عصيان أمري فإن كلَّ مرةٍ تجلسُ فيها طيلة هذا الأسبوع ستذكِّرك بعاقبة هذا العصيان "


وتركَتْ يسراي يسراه ثم أزاحت يمناي يمناه _وجسدُه يتبعها_ حتى جعلْتُه عن يميني ثم وجهْتُهُ فاستلقى على رجليّ وبين فخذيّ بعضٌ من جسده , حتى إذا استقر في مكانه تموَّجَ ردفاه لأثر وقوع يميني عليهما , وكلما ازدادا تموّجاً دفعا ببعض مائهما إلى مقلتيه فلم تكن إلا دقائق حتى بدأتِ الدموع تنزل من عينيه , وقلْتُ في نفسي : " لعلي أقلل في عقابه عن عقاب ابنة عمه , فإنها لم تبدأ في البكاء حتى غَنَّى الحزام على ردفيها " ثم رجعْتُ إلى نفسي فقلت : " لا يكون أولُ عهدِه بي التلطفَ معه , ولقد وعدته مثلَ عقاب ابنة عمه _ ولقد رآه _ فلا أقلَّ من أن ينال ذلك , فأما الزيادة على عقاب ابنة عمه فإني جعلْتُها محتملةً ؛ فَلِيَ أن أتخلى عنها مراعاةً لدموعه وآهاته " فلما فرغتْ كفي من لثْم ردفيه , أمرْتُه بالقيام , فقام ودموعه على خده , فمنعْتُ نفسي بالكاد من أن أكفْكفَ دموعَه بشفتيّ , وطلبْت منه أن يعمد إلى الكرسيِّ الذي رأى ابنة عمه _ قبل قليلٍ _ تنحني عليه ليكون أسفلها أعلاها وأعلاها أسفلها , فيفعلَ به مثلَ فعلِها , فنظر إليّ _معتذراً _ بعيني جروٍ وقال _ وكلامه يقطر عسلاً _ :

- " أرجوك ! سأكون ولداً مؤدباً , وأسمع لما تأمرني به , وأتولى _ منفرداً _ التكفّلَ بهذا _على عِظَمِهِ_ " وأشار إلى شيءٍ فيّ , فتبعَتْ نظرتِي إصبعَه فرأَتْ ما يقصِدُ , فسرَّنِي أن دموعَه ليس وراءَها ضجرٌ من عقابه , ورجعْتُ لنفسي فقلْتُ لها : لقد أوجب الزيادةَ على عقاب ابنة عمه بتعليقه ذاك , ثم قلْتُ له :


- " أما تكفلُك به فيُبْنَى على ما يكون عليه عقابُك هذه الليلة _ وأنت بالخيار_ ؛ فإن شئْتَ أقصرْتُ في عقابك عن عقاب ابنة عمكَ ثم لا يكون لك أن تتكفلَ به على الإطلاق , وإن شئتَ عاقبْتُك مثلَ عقابها فيكون لي أنا أن أختار كيف تتكفل به , وإن شئتَ زدْتُ في عقابكَ على عقابها فيكون لك أنت أن تختار كيف تتكفل به "


فما أسرع ما بادرني قائلاً :


- " بل الزيادة ! "


وبدا لي أنه من غير اللائق أن تشهد ابنةُ عمه تمامَ ما يكون بيننا , فأمرْتُها أن ترتدي ملابسَها وتغادر الغرفة , فنظرتْ لي وكأنّ في عينِها خطةً بيَّتَتْها , فلما ارتدَتْ ملابسَها وأوشكتْ على مغادرة الغرفة التفتت إليّ , وقالت :


- " احمَدْ لابنِ عمي قوةَ بصرِه , فما أحسب أحداً قبلَه استطاع أن يرى منك ذاك الشيءَ بعينِه المجردةِ بلا مجْهرٍ "


فأضاف ابنُ عمِّها وكأنه يرى العاصفةَ قادمةً على ( ليلى ) فيأبى إلا أن يتعرض لها :


- " بل أنا لم أرَ شيئاً وإنما كنْتُ أشير إلى جيبه ؛ أنني أتكفل به فأملؤ خواءه _ على عِظَمِ ذلك الخواء _ مالاً , فلا أدري ما الذي فَهِمَه من كلامي "


فوقفْتُ بينهما كالمشدوه , ثم عادتْ إليّ نَفسي , فقلْت :


- " ارجعي إلى عريانيتكِ ومكانكِ في زاوية الغرفة . واستعدَّ لتمام عقابِكَ . فإذا فرغْتُ من ذلك , فأنا أُعْلِمُكَ وأُعْلِمُكِ أي مجهرية وأي خواء "


فقالا معًا _وكأنهما كانا اتفقا على ذلك مسبقاً_ :


- " أكثرهم كلاماً أقلهم فعالاً ! "


وشعرْتُ أن أرواحَ أناسٍ كُثُرٍ ممن كانوا سكنوا ( المكبّ ) قد أحاطَتْ بنا ترمقني شزراً , وتقول : " فاقَنَا سكانُ القصور في كل شيءٍ إلا هذه , فلم يَبْقَ إلا أن يهزئوا بنا في هذا الباب _على يديك_ " فقلت لهم : " إلا هذا الباب ! لَتَرْضُنَّ اليوم عن فعلي بالقَصْرِ وساكنِه " ..فلم تسفرْ تلك الليلة عن الصباح حتى قرَّتْ عيونُهم بفعلي بالقصر وساكنِه ... ومن بينهم رجل وامرأة يتحاشيان أن ينظرا مني على ما لا يليق ويقول الرجل للمرأة : " ما كنْتُ أحسبُ أن يأتي يومٌ وقد صار أطول مني " فتقول المرأة مداعبةً " وقد صار أيهما منه أطول من أيهما منك ؟ " فيقول الرجل " احذري لا أفعل بكِ هنا ما يفعله ابنكِ بهما هناك ! " فتقبضُ أمي على شفتِها السفلى بأسنانها وتقول لأبي " أكثرهم كلاماً أقلهم فعالاً ! "




------- ( تـــمَّــت ) ---------
 
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%