NESWANGY

سجل عضوية او سجل الدخول للتصفح من دون إعلانات

  • حبيته
التفاعلات: برنس الڪون
  • بيضحكني
التفاعلات: darkangile و برنس الڪون
نسوانجي كام أول موقع عربي يتيح لايف كام مع شراميط من أنحاء الوطن العربي
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
  • حبيته
التفاعلات: PepOoz69
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
  • حبيته
التفاعلات: PepOoz69
--------------------------

(الجزء السابع)

وفي تلك اللحظات، حُكِم على باسل بالموت
وليس هو فقط، بل كلّ شخص كان يجاوره، ومع الوقت بدأت الجاذبية تقوى حتّى بدأت تبلغ الذين اعتقدوا أنّهم في مأمن. كان يبدو كما لو أنّ ذلك الثقب الأسود يستطيع بلع النجوم والمجرّات دون أن يواجه أيّ مشكلة.

وعلى حين غرّة، لم يعد هناك تأثير للجاذبيّة على باسل. انبثقت أرض واسعة أسفله وأسفل الجميع كأنّها عالم يستطيع حمل السماء من السقوط وتنمية الجبال الأوتاد. كانت تلك الأرض حمراء كالدم، تجعل الشخص يعتقد أنّه وثب بحر دماء.


ظهرت تلك الأرض للحظة فقط ثم اختفت قبل أن يفكّر أيّ أحد في ماهيتها، ولكنّ مجرد الشعور بها في تلك اللحظة الوجيزة كان كافيا ليجعل كلّ شخص موجود يحسّ بوجوده الضئيل ويحتقر نفسه على مشاركته نفس العالم مع صاحب تلك الهالة.

اختفت تلك الأرض الواسعة، وبدت لمن استطاع لمح القليل أنّها أصبحت رمحا بطريقة ما. ارتفع الرمح المتوهّج في السماء، وبحركة من إدريس الحكيم الذي كان بعيدا بمئات الأميال، انطلق الرمح نحو القرص بسرعة كبيرة للغاية. كان هذا الرمح مقاوما لجاذبية الثقب الأسود ولم تؤثّر عليه أبدا، فكانت تلك السرعة التي ينطلق بها سرعته الخاصة.

لم يكن بإمكان أحد رؤية الرمح عند تحرّكه، وفي اللحظة التالية التي بصروه فيها، كان قد اخترق الثقب الأسود بقوّة أرعبت الوجود في هذا العالم. تزلزلت الأرض بفعل ذلك، وتقلّبت الأمواج في البحر المجاور، اسودّت السماء وتساقطت الصواعق، ثُقِب الفضاء وتشوّهت صورة الوجود حول الرمح والثقب الأسود.

عبس إدريس الحكيم ثم قال: "إذا هكذا انتقلت إلى هنا يا شيطان اليأس. لا أعلم ما هذا الكنز، ولكن بالنظر إلى هذا الجزء البسيط فقط من قوّته... هذا يجعلني أتساءل."

حكّ إدريس الحكيم ذقنه بينما يترك رمحه يتعامل مع الموقف بدلا منه، ثمّ فكّر لقليل من الوقت. تمتم مرّة أخرى: "لقد سبق وأن رأيت العديد من كنوز الفضاء، ولكن ولا واحد منها يشبه هذا. ما أصله؟"

حدّق باسل إلى الرمح ثم علم ما حدث، فتحدّث عبر خاتم التخاطر: (أيّها المعلّم، ماذا هناك؟)

ابتسم إدريس الحكيم في وجه باسل: (هوهوهو، لا شيء مهم يا أيها الفتى باسل.)

استمرّ التصادم بين الرمح والثقب الأسود لمدّة لا بالطويلة ولا بالقصيرة، وكلّ ذلك سبّب في تحرير الآخرين من الجاذبيّة التي أصبح جلّ تركيزها على الدفاع ضدّ الرمح.

وفجأة، اختفى القرص عن الأنظار، ولم يعلم أحد أين ذهب غير إدريس الحكيم الذي قَطَبَ وقال: "هذا حقّا غير متوقّع. كنز يفوق توقّعاتي يجب أن يكون كنزا ساميا على الأقل." تنهّد إدريس الحكيم بعد ذلك ثم خاطب باسل بينما يداعب لحيته: (خسارة لك يا فتى، لقد فقدت غنيمة فوزك. لقد كان هناك شيء مختلط بالقرص.)


تنهّد باسل قليلا ولكنّه لم يتحسّر. لقد كان راضيا نوعا ما. فعندما كان ينظر إلى نتائج الحرب، كان يجدها أكثر من كافية حتّى تجعل مزاجه جيّدا للغاية وتنسيه في كلّ شيء سيّئ آخر. نظر إلى تشكيله ورضي عمّا أنجزوه، ورأى حال الكبير أكاغي والآخرين فحمد ربّه على سلامتهم، ثم اطمأنّ على بعض أتباعه كأخويْ القطع والحارس جون فوجدهم بخير أيضا.

لقد كانت هذه الحرب دمويّة، والعديد من الجنود ماتوا، وفقدت الإمبراطوريات الثلاث الكثير من قواها، ولكنّ كلّ ذلك كان فوزا بالنظر إلى ما حقّقوه. لقد أبادوا العدوّ الذي كان يشكّل خطرا على العالم بأسره، ولم يتركوا أيّ عضو منه. لقد كانت هذه بداية جديدة أخرى لهم، بداية حيث يرجون ألّا تكون هناك حروب ولا قتالات صراع على السلطة.

مات مئات الآلاف اليوم، وأصبحت أرض المعركة قرمزيّة، ولم تكن بمكان سيزوره البشر للسياحة. لقد حدثت هنا مجازر مريعة، وتركت بصمتها طويلة الأمد في هذا المكان. وعلى الأقل منذ آنذاك حتّى بضع آلاف سنين، ستُقَصّ هذه الحادثة كقصة للأطفال لإرعابهم، أو قصة لتحفيزهم حتّى يصبحوا مثل ذلك الشخص الذي أنقذ عالمهم، والذي سيُعرَف على مرّ تلك السنين بـ'بطل البحر القرمزيّ'، إشارة بذلك إلى بطولته في تلك الحرب التي خلّفت بحرا دمويّا ولم يسبق لها مثيل في العالم الواهن.

أخبر إدريس الحكيم باسل: (يا أيها الفتى باسل. رتّب أمورك وجدني في الكوخ.)

اختفى الرمح من أمام ناظر الجميع، كما فعل بعد ذلك إدريس الحكيم، ولم يستطع أحد معرفة ما حدث بالضبط. ولكن كلّ ما كانوا متأكّدين منه هو أنّهم نجوا من كارثة عظيمة كانت ستجعل من فوزهم مجرّد وهم وجيز. كانوا سيقعون في يأس عميق في اللحظة التي غُمِروا فيها بالأمل.

أحاطت الدماء المكان كلّه، وجعل ذلك باسل يشعر بإحساس سيّئ بالرغم من مزاجه الجيّد، فأراد الابتعاد عن هذا المكان بسرعة. توجّه إلى الكبير أكاغي والآخرين وتبادلوا الحديث المرِح بعد الحرب. لقد كان ذلك فوزا عظيما حقّا لهم، ولن يفوّتوا الفرصة للاحتفال.

وقف الكبير أكاغي بسرعة ثم قال لباسل: "يا حليفنا، لمَ لا تُكمِل فوزنا؟"

ابتسم باسل ثم أجابه: "ذلك دورك أيها الكبير أكاغي. لقد قمتُ بما يتوجّب عليّ فعله مسبقا."

بادله الكبير أكاغي الابتسامة وخالفه الرأي: "بلى، لقد فعلت، ولكنّك لم تُكمِل. أقسِم أنّه لن يكون مكتملا حتّى يأتي منك." غيّر نظره ثم وجّهه نحو جميع من يوجد في الساحة، فأكمل: "انظر إلى الأبصار الناظرة، أتعلم إلى أين هي متّجهة؟ إليك ليس إليّ. إنّهم ينتظرونها منك."


تنهّد باسل ثم حدّق إلى نفس المنظر الذي يشاهده الكبير أكاغي، فحكّ رأسه وتقدّم إلى الأمام: "أظنّ أنّه لا يوجد خيار." رفع رأسه ونظر إلى الشمس التي بدأت تغرب، وتذكّر الأحداث التي مرّت في ذلك اليوم الطويل. لقد كان يوما مرهِقا حقّا.

استخدم باسل عنصر التعزيز فرفع من صوته: [اليوم، بدأنا حربا لم نكن نعلم بفوزنا أم خسارتنا بها. اليوم، فقدنا الكثير من حلفائنا، و كسبنا آخرين، قَتلْنا وقُتِل منّا. اليوم، حاربنا، فكنّا آخر الصامدين. اليوم، أنهينا الحرب الشاملة. اليوم، فزنا.]

رفع باسل ذراعه إلى الأعلى ثم صرخ: [إنّـــه فـــوز عـــالـــمـــنـــا ! ]

اقشعرّت أجساد الحاضرين، وتناغمت مع الجملة الأخيرة، فأحسوا بنشوة لا مثيل لها، ولم يسبق لهم اختبار مثلها. لقد كانت هذه هي اللحظة التي ظهر فيها اتّحاد خالص بين كلّ قوّات العالم لأوّل مرّة في هذا العالم.

'فوز عالمنا'. تردّدت هاتان الكلمتان على مسامع الجمهور، فجعلتهم يقفزون فرحا، وصياحا: [عـــالـــمـــنـــا ! ]

أكمل باسل كلامه بعد ذلك: [نعم، إنّه عالمنا، ولن نسمح لأيٍّ كان بسلبه منّا. حقّنا مُلكنا، ومُلكنا لا يفارقنا. عـــالـــمـــنـــا ! ]

تحمّس الجميع بحديث باسل، فتكلّم أحد منهم فجأة بعدما تأثر بالمشهد الذي صُنِع بوقوف باسل وتحدّثه كذاك. فصرخ: "يحيا بطلنا حامي عالمنا ! يحيا البطل ! "

سمعه الجميع، فردّدوا من بعده: "إنّه بطل الحرب الشاملة، إنّه البطل الذي أنجانا من البحرِ القرمزيِّ. إنّه بطلُ البحرِ القرمزيِّ ! "

[بطل البحر القرمزيّ ! ]

[بطل البحر القرمزيّ ! ]


[بطل البحر القرمزيّ ! ]

ردّد الجيش العظيم ذلك الاسم مرارا وتكرارا حتّى ترسّخ في قلوب جميع الحاضرين.غُمِر كل شخص بالسرور، ببطل سيحميهم من كلّ الشرور. لقد كان ذلك ظهور لبطل سينقذهم من كلّ المخاطر المرتقبة. سعِد الجمهور بهذا وبدأ بعضهم يؤلِّف الشعر والقصائد بالفعل من شدّة الحماس.

لقد كانت هذه لحظة ستجعل من أيّ شاعر يريد تأليف وصفه الخاص لها. كانت تلك ملحمة تاريخيّة ستُروى لآلاف السنين، ولم يكن هناك شاعر لم يرغب في أن يكون مؤلّف القصيدة المأثورة.

مات اليوم مئات الآلاف من كلا الطرفين، ولكنّ العالم قد فاز. لقد مرّ العالم الواهن مرّة أخرى بعقبة كبيرة، فأحسّ ساكنيه بالطمأنينة المؤقّتة.

انتشرت الأخبار بسرعة البرق، وبلغت الصغير والكبير في الإمبراطوريات الثلاث. نُظِّمت الولائم والحفلات، واحتفل العالم الواهن بعد ذلك لأيّام. كان هناك الحزانى على أعزائهم، ولكن بعدما تذكّروا الدور الذي أنجزوه بموتهم، أصبِح الألم متحمَّلا وقابلا للشفاء.

لا يهم أين، أو من، كل شخص احتفل بالفجر الجديد، وبالنجم الذي سطع كشمس الشروق – بطل البحر القرمزيّ.

أثناء تراجع الجيش العظيم، افترقت قواه، كلّ واحدة اتّخذت طريقا نحو ديارها. كانت إمبراطورية الشعلة القرمزيّة هي الأقل تعرّضا للخسارة، وتوسّطت إمبراطوريّة الأمواج الهائجة اللائحة، ثم جاءت إمبراطورية الرياح العاتية في المرتبة الأولى من حيث عدد القتلى.

لقد كانت تملك أربع جنرالات فقط، وذلك أثّر كثيرا على مردوديّة تشكيلاتها أثناء المعركة، أمّا قبائل الوحش النائم، فبالرغم من تلقّيها خسائرا فادحة أيضا إلى أنّها كانت في مدّة قصيرة فقط كونها أتت في الوقت الأخير من الحرب.

عادت القبائل إلى وطنها أيضا، ولكن رافقت لمياء وقادة القبائل الثلاث الأخرى الكبير أكاغي كي يقرّروا مستقبلهم. كان هناك خمس قبائل قياديّة في الواقع، ولكن تبيّن كما توقّع باسل أنّ إحداهنّ كانت خائنة، وكانت قبيلة حاكم النيران، ولهذا لم تظهر في هذه الحرب. فبعد كلّ شيء، مصير الخائن هو الإعدام في هذا العالم دون استثناء.

أعدِم جميع المسؤولين وحُجِز التوابع إلى أجل غير مسمّى حتّى يتّضح الأبيض من الأسود. وبسبب ذلك، هرب بعضهم، فجعل ذلك القبائل تتأخر في القدوم إلى الحرب، بما أنّهم اكتشفوا أنّ من هرب تلقّى المساعدة، واحتاجوا إلى أن يعرفوا من قدّمها لهم، فذلك عنى وجود خائن شريك.

وهكذا كانت القبائل قد انتهت أخيرا من انعزالها الذي استمرّ لخمس وخمسين سنة. فأصبح بمقدور أعضائها الانطلاق نحو العالم لرؤية معالمه وما يحمله من مفاجآت ومغامرات. ولكن ليس حتّى يتقرّر الأمر على يد قادتهم.

عندما اختفى الجميع، ظهر شخص أمام جثّة ظلّ الشيطان، مبتسما بوجه طفولي. كانت عيناه تحملان وهجا من الحماس، بينما تحدّقان إلى الجسد الميّت أمامه. نطق فمه بعد أن انحنى إلى الجثّة: "حامل عنصر الدمار الوحيد في كلّ العوالم. لا تقلق يا ظلّ الشيطان أو أيّا كنت، فبالتأكيد لن أجعل من موتك يذهب سدى."

عاد باسل وأنمار إلى القصر الإمبراطوريّ أيضا، ولبثا هناك لأيام قليلة قبل أن يقرّرا العودة إلى ديارهما التي ابتعدا عنها لمدّة طويلة. لم يرَ باسل أمّه لعام كامل، لذا كان متسرّعا من أجل العودة.

ترك كلّ الأمور المهمّة لقادة التشكيل، واتّفق مع الكبير أكاغي على مغادرته، فترك له التعامل مع القبائل وكلّ شيء آخر. لقد مرّ بعام مليء بالأحداث، ولم يكن ولا واحد منها يشمل أمّه، أو العمّة سميرة، أو الجدّ عليّ حتّى.


اشتاق باسل كثيرا إلى أمّه، أكثر شخص يعزّه في حياته، وافتقد مزاح العمّة سميرة، ولطف الجدّ عليّ إضافة لجزره الحلو. كلّ ذلك أصبح أقصى أولوياته، ولم يرد أن يبقى بعيدا عنه لوقت أطول بعدما انتهت كلّ الحفلات.

أثناء مغادرتهما، لم يأخذا معها عربة ولا شيء آخر. كان باسل يريد الترحال بين المناطق المحظورة والتمتّع بالمناظر في طريقه. فلو أراد الإسراع للوصول لاستخدمت أنمار وحشها المستدعى أو طار هو بهما بالرياح. لقد كان يريد أخذ رحلته نحو الديار بهدوء، ويحسّ بالشعور الذي ألف به طوال صغره.

كانت أنمار في الجهة الأخرى سعيدة بذلك. كلّ ما تريده هو وقت تكون فيه لوحدها مع باسل، ولو كانت هذه الرحلة ستمنحهما ذلك، فستفضّل أن يكون وقتها طويلا. كانت مبتسمة طوال الوقت، ولم تزح نظرها عن باسل بينما تمشي بجانبه. حتّى أنّ نظراتها جعلت باسل يشعر بالإرهاق من محاولة تجنّبها.

كانت تبدو أنمار في قمّة السعادة، وكأنّها ذاهبة لحفل زفافها، من أجل الزواج بحب حياتها. حيّرت أمر باسل بصمتها غير المعتاد، والذي استمر لمدّة طويلة جدّا بعد مغادرتهما العاصمة. فجعلته يتكلّم قائلا سؤالا لم يتخيّل أنّه سيأتي يوم ويقوله: "لمَ أنت صامتة هكذا؟"

ابتسمت أنمار، فجعلت الزهور المشرَقة بالشمس تخجل من فخرها بجمالها. كانت ملاكا بين الجنّيات، وجعلت من أرواح الطبيعة تقرّ بنقص فتنها أمامها. كانت ابتسامتها مغمضة العينين كافية لإسقاط جميع الرجال في غرامها، وعندما فتحتهما، بدت كأنّها أخذت هيبة السماء وسموّها وجعلتهما ملكها.

جعلت تصرفاتها قلب باسل يتحرّك، فاضطرّ إلى النظر بعيدا. خطت أنمار بعد ذلك قليلا ثم قابلت وجهه عن قرب، فجعلت وجنتيه تحمرّان من الخجل. تراجع عدة خطوات للخلف كأنّه هرب من عدوّ، فتبعته أنمار مباشرة فلم يستطع باسل ملازمة مكانه.

خطوة بعد خطوة، عاد باسل من الطريق الذي أتى منه، متراجعا مبتعدا عن أنمار، غير مدركٍ لمَ لا يستطيع مواجهة تصرّفاتها الغريبة. لم يسبق لأنمار أن تعاملت معه هكذا، لذا لم يعلم كيف يستجيب. تبع غرائزه فقط، والتي أخبرته أنّه في خطر محدّق.

تعثّر باسل فجأة، فسقط أرضا بعدما اختلّ توازنه، ثم نظر إلى العينين الزرقاوين اللتين تحدّقان إليه مباشرة دون أن ترمشا. ازداد توتّره فقال: "ما الذي يحدث معك؟ إنّك تتصرّفين بغرابة."

اقتربت أنمار منه، فجعلت حرارته ترتفع، لقد كان يعلم أنّ مشاعره لها من الماضي لم تختفِ، ولكنّه لم يتوقّع ان يكون الأمر إلى هذا الحدّ. أغمض عينيه وانتظر ما سيحدث، ولكنّ لا شيء وقع. فتح عينيه فوجد أنمار تمدّ يديها إليه فقط لتساعده على النهوض.

أمسك باسل يدها ثم نفض عنه الغبار بعدما نهض، وركّز النظر إلى عينيْ أنمار محاولا اكتشاف سبب تصرّفاتها المفاجئة، واستمتع بجمالها في نفس الوقت بينما يشعر بالخجل. راودته العديد من المشاعر المتضاربة ولم يعلم كيف يتعامل معها. فحتّى مع كلّ الدروس التي تلقّاها من معلّمه عن كيفية التعامل مع النساء، إلّا أنّه لم يستطِع إثبات نفسه أمام أنمار.

أخذ نفسا عميقا لمرّات متتالية، ثم أهدأ من روعه. لقد كان قلبه متسارعا بشكل مذهل حقّا. تنهّد قبل أن يقول: "حسنا. يمكنك الكلام فقط إن أردت. أنا دائما أخبرك بالسكوت، ولكن تستطيعين التحدّث الآن."

وبشكل مفاجئ، نطقت أنمار بصوت منخفض وحنون: "لمَ ابتعدت عنّي؟"

تفاجأ باسل لأنّها تكلّمت أخيرا، وسألت ذاك عكس ما توقّع أن تقول، فأجاب: "هذا لأنّك كنت تتصرفين بغرابة."

"لا ! " رفعت أنمار صوتها: "أنا أقصد لمَ ابتعدت عنّي في ذلك الوقت. لقد واصلت وضع مسافة بيننا طوال تلك المدّة. ألا تعلم كم كان مؤلما لي؟"

صمت باسل غير قادر على الإجابة، كما لو أنّ القط أكل لسانه. تذكّر بعض الأشياء ثم قطب بينما يحدّق إلى السماء. لقد كان هذا موضوعا صعب عليه ذكره. نظر إلى أنمار مرّة أخرى وأجاب: "أنت تعلمين لماذا."

قطبت أنمار واستهجنت. لقد علمت ما عناه، فأحكمت قبضتيها دون شعور، وأرادت ضرب أيّ شيء مهما كان. ودّت أن تنفّس عن غضبها الذي ذكّرها به في أسرع وقت. ومع ذلك، استجمعت أفكارها وهدّأت نفسها. نظرت إلى عينيْ باسل مباشرة ثم قالت: "إنّك من لا تفهم. فلو حدث ومررنا بنفس الأحداث مرّة ثانية، فلا أزال سأفعل نفس ما فعلته. إنّه ليس خطئي أنّني أردت المحافظة عليك لي. إنّه خطؤها لمحاولتها أخذك منّي."

"دوما، دوما، دوما." تكلم باسل بعد أنمار مباشرة وبدأ يرفع صوته مع كلّ كلمة يقولها: "إنّك دائما تظنّين نفسك تفهمينني ولكنّك لا تفعلين ذلك حقّا."

"ها؟" صرخت أنمار كذلك: "ما الذي تعنيه بهذا؟ ليس هناك مخلوق يفهمك أكثر منّي في كلّ ما بين السماوات والأرض. وما علاقة هذا بذاك؟"

صاح باسل: "حتّى لو فهمتني كثيرا، لو لم تفهمي لماذا ابتعدت عنك فلا معنى لكلّ ذلك. لو أنّك فهمتني وفهمت لمَ ابتعدت عنك في المقام الأوّل لما بلغنا هذا الحال."


جهرت أنمار بصوتها أكثر قبل أن تضيف: "ولهذا أسألك لماذا ابتعدت عنّي، أيها الأحمق ! " لم تستطِع ضبط نفسها أكثر، وفاق غضبها المستوى الذي تقدر على تحمّله، فلكمت باسل فجأة بكلّ ما تملك من قوّة.

طار جسد باسل لعشرات الأمتار بعيدا وارتطم مع جبل قريب. نهض بسرعة بينما يسيل القليل من الدم من فمه. حدّق إلى أنمار ثم قال: "أنت لا تفهمين..."

بووم

لم يعرف باسل ما حدث حتّى وجد نفسه محلّقا لمئات الأمتار بعيدا. لم يتوقّع أنّ أنمار ستكمل الضرب.

"لقد فرغتُ من التصرّف كالعروس الجيّدة ! " استدعت أنمار وحشها السحريّ ثم ركبته فتبعته. كانت تستشيط غضبا في تلك اللحظات، وقالت صارخة: "لا تفهمين، لا تفهمين، لا تفهمين. نعم أنا لا أفهم، وذلك محبِط كثيرا. نعم لا أفهم، وذلك مؤلم كثيرا. نعم لا أفهم، ولهذا أسأل. فلِمَ لا تتوقّف عن قول لا تفهمين وتفهّمني."

لم تتركه أنمار يرتاح، وأكملت ضرباتها المتتالية، باستخدام فنّها القتاليّ، وعنصر الوهم، إضافة لاقتراض عنصر الماء من وحشها المستدعى، والذي بدوره استخدمته في الهجوم أيضا. لقد كانت تهاجم باسل كأنّها تقاتل عدوّا لدودا. كان ذلك مقدار غضبها. بدت كأنّها تسأل السؤال ولا تنتظر الجواب لأنّها تخاف أن تسمع ما لا يرضيها.

وعلى عكس ما توقّعت، لم يقاومها باسل إطلاقا، وتركها تضربه لوقت طويل حتّى جعلت جسده مغطّى بالدماء، ومحطّمَ العظام، كما لو كان قد مرّ بمعركة ضارية. لقد ضربته لوقت طويل جدّا حتّى استفرغت كلّ ما لديها من طاقة وقوّة.

وفي النهاية، اقترب منها باسل بجسد الدامي، ونطق: "أنا أعلم لِمَ ضربتها حتّى شارفت على الموت، أعلم أنّك فعلت ذلك لأنّكِ علمتِ أنّها كانت تحاول أخذي منكِ، وأنّها فعلت ذلك فقط لتلبّي رغبة أخيها عثمان في إبعادي عنك. ولهذا أبرحته ضربا قبل خمس سنين."

ضربته أنمار مرّة أخرى بقضبتها، ولكنّها لم تكن تملك قوّةً، ليس فقط لأنّها استفرغتها، ولكن أيضا لأنّها كانت محطَّمة. نزلت قبضتها على صدر باسل المحطّم، فتبع جسدُها قبضتَها واتّكأت على باسل المليء بالجروح.


أكمل باسل بعدما وضع ذراعيه حولها: "ابتعدت عنكِ لأنّكِ تحرّكتِ من خلفي ودون علمي. لقد كنت تفعلين ذلك دائما، ولم تخبريني أبدا عمّا تنوين فعله. إنّكِ لا تفهمين، أنت لا تفهمين أنّني خشيت أنّني لا أستطيع فهمك."

دمعت عينا أنمار بعد ذلك مباشرة، ثم قالت: "أيها الأحمق ! " فنامت بين ذراعيه. جلس باسل بعد ذلك ثم حدّق إليها لوقت طويل، حتّى وجد نفسه هائما في جمالها. أخرج إكسير علاج وشربه، ثم استلقى هو الآخر بينما يضع رأس أنمار على ذراعه، وناما في تلك الليلة من شدّة التعب.

استيقظت أنمار أوّلا في الصباح التالي، فوجدت نفسها في تلك الوضعية، فاحمرّت وجنتيها ومدّت يدها ثم لامست وجه باسل النائم، وداعبت شعره لوقت بينما تنظر إلى كلّ زاوية من جسده. شعرت بالهناء والراحة، وأرادت استغلال هذه اللحظات الثمينة.

فتح باسل عينيه، فوجد أنمار تجلس بجانبه، بينما تلمس شعره، فوقف بسرعة كبيرة، ولم ينبس ببنت شفة، ثم ذهب إلى نهر قريب متصّرفا كأنّه لم يحدث شيء. غسل وجهه وبدأ يزيل ملابسه حتّى يغتسل، فإذا به يجد أنمار خلفه مباشرة.

صاح متفاجئا: "ما الذي تفعلينه هنا؟ ألا ترينني أستعد للاغتسال؟"

ابتسمت أنمار ثم قالت: "من واجب الزوجة الاعتناء بزوجها."

"زوجة؟" استغرب باسل من كلامها ثم أكمل: "أيّ زوجة تتحدّثين عنها؟ ليس لديّ الوقت لهذ..."

توقّف باسل عن الكلام فجأة. كان ذلك بسبب تلقّيه اتصالا عبر خاتم التخاطر: (أيها الفتى باسل. أسرع إليّ. يجب أن تكون عندي في أسرع وقت ممكن.)

استغرب باسل ثم أجاب في الحال: (نحن قريبان أيّها المعلّم. سنكون عندك في الحال.)


أكمل إدريس الحكيم: (من الأفضل ألّا تأتي بالصغيرة أنمار. سأنتظرك.)

تعجّب باسل من كلام معلّمه، وحدّق إلى أنمار دون شعور. أنهى الاتصال ثم أخبر أنمار: "سأذهب للقاء المعلّم الآن. فلتسبقيني، سآتي لاحقا."

عبست أنمار ثمّ قالت: "لا، أودّ الذهاب معك."

قطب باسل ثم فكّر: "ها قد عدنا من جديد." فوَردت فكرة في ذهنه، فقال مباشرة: "أليس من واجب الزوجة الاستماع لزوجها؟" ابتسم باسل عند قوله ذلك، وكان واثقا ممّا يقول.

وبالطبع، كما توقّع مباشرة، أكلت أنمار الطعم ثم هدأت وقالت: "حسنا. سأسبقك."

ودّعته، ثم أخذ باسل طريقه نحو معلّمه.

كان إدريس الحكيم يطوف فوق الكوخ، في شكله الشابّ، بينما يستخدم حكمته السيّاديّة لحساب العديد من الأشياء. كان العالم الواهن الصغير مثل راحة يده، يمكنه رؤية كلّ شيء به وتوقّع أيّ شيء يحدث به. وركّز هذه المرّة بشكل كلّيّ على مكان محدّد في قارّة الأصل والنهاية.

كان ذلك المكان محميّا بهالة خارقة، جعلت من الحكمة السياديّة دون نفع. كان ذلك المكان يدار بنيّة سامية لم يقدر حتّى إدريس الحكيم على معرفة من مالكها لمدّة طويلة، ولكنّه حمل شكّا هذه المرّة جعله ينادي باسل في عجلة من أمره.

كانت هناك أشياء أخرى أراد مناقشتها أيضا مع باسل، ولكنّ ذلك الشكّ الذي حمله في قلبه كان صادما حتّى بالنسبة له. كان ذلك له علاقة بما كان يحدث لباسل مؤخّرا، وبدأ يربط إدريس الحكيم الخيوط كي يحصل على الصورة الكاملة.

أحاط ضوء فضّيّ إدريس الحكيم فجعله يبدو كأنّه في عالمه الخاصّ، ولا يقدر أحد على الإفلات من أحكامه وسيطرته المطلقين في ذلك العالم. ظهرت تعاويذ ذهنيّة روحيّة، وجعلت منه يبدو كسيّاديّ سامٍ قادر على محق كلّ العالم الواهن بكلّ سهولة لو أراد.

لقد كان إدريس الحكيم يدعى بـ'حكيم الفنون السامي السياديّ' لسبب، وكان ذلك يفوق مخيّلة أيّ شخص من العالم الواهن. لقد كان اسم الحكيم السياديّ منتشرا عبر العوالم الروحيّة كلّها، ولم يكن هناك شخص لا يضع الاعتبار له، سواء أكان من أقوياء الوجود أو من حكّامه حتّى. لقد كان إدريس الحكيم دائما شوكة في حلوقهم، وليس فقط بسبب مستواه الحالي، ولكن بسبب الإمكانيات الهائلة التي يملكها كحكيم سياديّ.

كان لا يزال صغيرا كساحر روحيّ، ومع ذلك كان مستواه جيّدا للغاية مقارنة بمن في نفس عمره. كان هناك القليل من يستطيع منافسته، ولم يكن ذلك القليل من جنس البشر لأنّه كان في قمّة شبّانه، واقتصر ذلك على الشبّان من الأجناس الأخرى كونها لديها مزايا مختلفة تخوّلها مجاراة الحكمة السياديّة.

ومن بين كلّ هؤلاء الشبّان، تذكّر إدريس الحكيم واحدا راسخا في ذاكرته. لقد كان ذلك الشخص منافسه، وعدوّه اللدود منذ أن كانوا مجرّد سحرة. لم يكن هناك شخص أكثر منه أهلا لينادى بخصم إدريس الحكيم. فبكلّ حرب، ترقّب الجميع قتالَهما، وتضاربَ استراتيجياتهما.

كان ذلك الشخص من جنس الشياطين، وكان من أفضل الموهوبين بعرقه. كانت له مكانة، وأيّ شخص يسمع باسمه يهرب إلى أقصى ما يمكنه بلوغه. لقد كان يجلب اليأس معه أينما حلّ، لأنّه كان اليأس بعينه في نظر كلّ شخص. لقد كان ذلك الشخص أحد قادة جيش ملك الشياطين العظيم، شيطان اليأس، إبلاس.


كان إدريس الحكيم قلقا، ومتشوّقا. تضاربت مشاعره مع بعضها، ولم يعلم ما الإحساس الذي يجب عليه الأخذ به. "فأينما حلّ إبلاس نزل اليأس". كانت هذه مقولة معلومة لدى العوالم الروحيّة. لذا كان إدريس الحكيم قلقا بسبب ذلك، ومتشوّقا لمقاتلة خصمه بعد مدّة طويلة.

وصل باسل أخيرا إلى معلّمه، ثم بقي معه ليوم كامل قبل أن يذهب إلى منزله بنظرة عبوسة للغاية، والتي لم تطل ما أن بصر باسل القرية. استنشق الهواء بعمق ثم انطلق إلى المنزل. تناسى مؤقّتا ما دار بينه وبين معلّمه ثمّ ركّز على مقابلته لأمّه والآخرين.

وعند دخوله القرية، لمح رأس ثعبان ضخم معلّقا فوق البوابة. لقد كان ذلك رأس ملك الثعابين الشره. لم يعلم باسل كيف وصل إلى هنا، ولكنّه لم يهتم بذلك وأكمل طريقه.

وصل إلى المنزل بسرعة، وكان الوقت صباحا، وبمجرد ما أن دقّ على الباب، حتّى فتحت أمّه لطيفة الباب بسرعة وانتفض جسدها، فترامت إلى ابنها جاعلة إيّاه بين ذراعيها. انهمرت الدموع من وجهها بينما تعانقه بشدّة، قائلة: "انظر كم كبرت. لقد أصبحت أطول قبل أن أعلم، وجسدك أضخم، هل كان عليك حقّا أن تغيب عنّي كلّ هذه المدّة؟"

لقد كان باسل قرّة عينها، وكأمٍّ وحيدة دون زوج يساندها، ربّت باسل جنبا إلى جنب مع صديقتها سميرة أمّ أنمار. لقد كان باسل عائلتها الوحيدة من دمها، ولم تستطِع معاناتها إن فقدته أيضا. تذكّرت العديد من الذكريات عندما حدّقت إلى ابنها، فرأت زوجها المتوفّى جاسر، فبكت أكثر وتحسّرت بينما تتذكّر بعض كلمات أب باسل: "هل حقّا تريدين هذا حتّى بعدما علمتِ بلعنتي؟"

ومضت بعض الصور في عقلها، وأحسّت كما لو أنّها في نفس اللحظة التي ردّت فيها على زوجها آنذاك: "لا تهمّني أيّ لعنة، فكلّ ما أريده هو البقاء إلى جانبك أقصى ما أمكنني."

حدّقت إلى باسل فوجدته يصنع نفس الابتسامة التي رأتها في أبيه حينذاك، فجعلها ذلك تسقط على ركبتيها من شدّة الأمر عليها. لطالما حاولت البكاء مختبئة عن باسل، ولطالما علم هذا الأخير بذلك. ولكن اليوم، كلّ شيء ظهر إلى العيان، فأحسّ باسل بأنّ أمّه بدأت تنظر إليه كرجل قادر أخيرا.

انحنى باسل ثم قبّل رأس أمّه، و نظر إليها بعدما نزلت دمعة من عين واحدة، رافقتها ابتسامة مشرقة وحنونة لم يسبق له أن بَسَمَ مثلها. غمرته الفرحة والسرور، واختفت منه كلّ الأحزان والشرور. كلّ ما بقي هو معزّته لأمّه لا شيء آخر.

عانق أمّه ثم قال لها: "لقد عدت يا أمّي. لطالما فعلت، ولَأفعلنّ."

كانت اللحظات التي يمضيها باسل مع أمّه إحدى اللحظات التي يجد فيها السكينة والطمأنينة، ويشعر أنّه في هناء لا يقربه شقاء. أعزّ أمّه واعتبرها عالمه، فأراد حمايتها وتوفير لها حياة رغيدة حيث لا تمرّ بما سبق اختبرته من مآسٍ.


نطقت أمّه ثم قالت: "لقد كنت خائفة من أن تصيبك اللعنة أيضا."

دخل باسل بأمّه إلى المنزل ثمّ أمضى معها وقتا تحدّثا فيه عن كلّ المغامرات التي قام بها باسل دون ذكر مخاطرها. وفي المقابل، كانت أمّه دائما تعلم أنّه يفعل ذلك في كلّ مرّة يحكي لها. لقد كان ذلك طبعا من أبيه فقط، ولم يكن ليمرّ بها كلام منه دون أن تكشف خباياه.

بعد فترة وجيزة، أتت العمّة سميرة وأنمار في نفس الوقت، وبقوا معا حتّى تناولوا الغذاء مجتمعين، بينما تلقي العمة سميرة مزاحها المعتاد: "أيها الغرّ، ما بالك لا تمرّ على منزلي حتّى بعدما عدت. حقّا عادتك لا تتغيّر."

تكلّمت بعدها لطيفة: "لا تكوني قاسية عليه. فأنا من أسره معي."

عبست سميرة ثم قالت: "أنت دائما ستأخذين جانب ابنك على أيّ حال، لذا كلامك غير مبرِّر."

ضحك أربعتهم لوقت طويل بينما يأكلون. مرّ النهار على ذاك الحال، حتّى جاء موعد ذهاب باسل لزيارة الجدّ عليّ. ومرّ وقت قصير فقط بعد ذهابه فعاد إلى المنزل. فقال سائلا أمّه والآخرين: "أتساءل، أرأى أحدكنّ الجدّ عليّ؟ فأنا لم أجده في السوق، وعندما سألت عنه لم يعطني أحد إجابة مرضية."

صنع جميعهنّ نظرات مستغربة، فنطقت لطيفة أوّلا: "الجدّ عليّ؟ من هذا يا ترى؟"

قطب باسل ثم حدّق إلى أنمار وأمّها، فوجدهما تنظران إليه بغرابة، كأنّه يتحدّث عن غريب ما. لم يفهم باسل ما يحدث فنطق بسرعة: "لا تقلن لي أنكنّ أيضا نسيتنّه، إنّه الجدّ عليّ صديق عائلتنا، بائع الجزر الحلو. كيف لكنّ ألّا تتذكّرنَه؟"

كانت أنمار تغسل الصحون في ذلك الوقت، فاستدارت وقالت: "لا أذكر أنّني وضعتك تحت وهم كهذا. من أين تأتي بكلّ هذا؟"

اتّسعت حدقتا باسل فتأكّد أنّ هناك شيء خاطئ لا محالة. كيف لأمّه وتينك الاثنتين أن ينسين الجدّ عليّ. لا بدّ وأنّ شيئا ما حدث. خرج مسرعا من المنزل وذهب إلى السوق مرّة أخرى، فوجد أولئك الأشخاص الذين كانوا يزعجونه دائما يتحرّكون في مجموعة بينما يترأّسهم عثمان – حرس الملاك أنمار الشخصيّ.


أوقفهم، ثم حدّق إليهم بشكل شرس، لكنّ قائدهم عثمان لم يهلع كعادته هذه المرّة، وتقدّم إلى الأمام قائلا: "ماذا تريد أيها البرغوث؟ هل أتيت باحثا عن مقتلك؟"

تنهّد باسل ثم فكّر لقليل من الوقت: "لماذا لا يتعلّم هذا المخلوق درسه أبدا؟" قال بنظرة جدّية بعد ذلك: "لا أريد ضرب أحد في الوقت الحالي، فلا مزاج لي. أريد سؤالكم عن شيء واحد فقط، فأجيبوني عنه."

تقدّم أحد من المجموعة إلى الأمام ثم تكلّم بصوت مرتفع: "هيْ، هيْ، هيْ، مع من تظنُّكَ تتحدّث؟ ألا تعلم أنّك في حضرة ساحر القرية الأقوى، عثمان قاتل الثعبان؟ إنّه الشخص الذي أتى برأس ملك الثعابين الشره من وادي الظلام العميق، وجعله رمزا لقريتنا. انظر إلى هناك."

أشار الشابّ بيده إلى مدخل القرية، وأكمل: "لقد رأيت رأس الثعبان الضخم عند المدخل؟ سأنوّرك يا هذا. لقد كان قائدنا، مفخرتنا، عثمان أبو عثمان هو من علّقه ها هناك. وهل تعرف ماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّ القرية تحت حمايته. واسمها الآن هو قرية العثمان. لقد عفى عنك الزمن أيها البرغوث الأحمر، إنّه زمن سيّدن..."

فرقعة

فجأة، توقّف ذلك الشخص عن التكلّم ثم علم كلّ واحد أنّه أُرسِل محلّقا لعشرات الأمتار. حملق باسل إلى عثمان ثم قال: "لن أعيد كلامي."

تقدّم عندئذ عثمان إلى الأمام وازدرى باسل بأسلوب متعالٍ: "إنّك حقّا لمغرور كعادتك."

ابتسم باسل وردّ: "وإنّك حقّا لصرصور كعادتك."

ارتفع ضغط ددمم عثمان، فاحمرّ وجهه وانقضّ على باسل، وفعّل سحره، فكوّن سيوفا من الرياح، ورمى بها واحدة تلو الأخرى على باسل حتّى يصنع لنفسه ثغرة في دفاع باسل. لم يتحرّك هذا الأخير وتركها تضربها كلّها، فضحك عثمان بصوت مرتفع، واثبا، مستعدّا للكم باسل بكلّ ما يملك من قوّة وسحر.


وفجأة، امتدّت يد من الغبار، وقبضت عنقه. لم يعلم عثمان ما حدث حتّى وجد نفسه معلّقا في الهواء بيد باسل. لم يستطِع التحرّك ولا استخدام سحره تحت ذاك الضغط الهائل الذي وجد نفسه تحته. لقد كان واثقا كلّ الثقة هذه المرّة من فوزه، ولكنّه لقي نفسه، مرّة أخرى، في نفس الوضعية التي اعتاد باسل إمساكه بها دائما.

تكلم عثمان صارخا: "أنتم، اهجموا ! "

حملق إليهم باسل ثم قال: "أتريدون إعادة الكرّة؟"

ارتعدوا جميعا، ولم يستطيعوا التقدّم. فنظر بعد ذلك باسل إلى عثمان المعلّق في الهواء: "والآن، فلتجبني. أرأيتَ الجدّ عليّ؟"

نظر عثمان إليه، وقال بصعوبة: "من سيجي..."

توقّف عن الكلام قبل أن يكمله، وكان ذلك بسبب أنّ باسل ضغط على عنقه أكثر. تكلم باسل بجدّية: "أجبْ ! "

تنفس عثمان بصعوبة ثم قال: "لا أعلم. أنا لا أعلم."

ارتفع غضب باسل ثم قال: "أخبرني، إنّه الرجل العجوز قبل ثلاث سنوات. لا تقل لي أنّك لا تتذكّره. لقد حنيت رأسك له." ضغط باسل بقبضته على عنقه أكثر، فجعله يقترب أكثر من الموت.

قال عثمان بخرخرة: "أقسم لك. لا أعلم. أرجوك اتركني."

أطلق باسل سراحه ثم ذهب يسأل الناس واحدا تلو الآخر، ولكن كل ذلك كان بلا نتيجة. لم يعلم أحد عمّن يسأل باسل، والذي جعله يصبح مجنونا. كيف لشخص أن يختفي فقط هكذا. بدأ الشكّ يتخلّله حتّى، أنّه الشخص الواهم.


هرع باسل في ذلك الوقت مباشرة نحو الكوخ: "يجب أن أعرف ما يحدث في هذا العالم ! "

كان في ذلك الوقت إدريس الحكيم داخل عالمه الفضّيّ، وكان يدرس العديد من الأشياء في آن واحد. كان يدرس التعاويذ الذهنيّة الروحيّة، والسحر، والروح، والأسلحة، إضافة للعالم الواهن. وفي ذلك الحال، كان يستطيع الإحساس بكلّ شيء في نطاق شاسع للغاية.

وفجأة، نطق صوت بداخل عالمه الفضّيّ. كان صاحب هذا الصوت عجوزا بسيطا. لا يبدو عليه أيّ أثر من القوّة. بدا كعجوز يعيش ما تبقّى له من سنوات قليلة فقط لا غير.

"ما زلت مبتدئا."

فتح إدريس الحكيم عينيه المغلقتين، وتسارع قلبه بجنون. لم يحسّ بأيّ ذرّة من الوجود تأتي من ذلك العجوز أمامه، فلم يشعر أبدا بدخوله، فلم يعلم كيف دخل. قال إدريس الحكيم بشكله الشابّ بصوت مرتعب: "مـ-من أنت؟"

ظهرت أسنان العجوز البيضاء الناصعة، صانعا ابتسامة عريضة، قائلا: "لا أحد."

حملق إدريس الحكيم إلى الشخص أمامه، وحاول إدراك ما حدث، وكيف لهذا الشخص ألّا يبعث ذرّة وجود. كان إدريس الحكيم يشعر كأنّه يواجه صورة وهمية فقط، دون جسد ولا روح ولا نيّة.

بلع الشابّ الفضّيّ ريقه ونطق: "كيف دخلت؟"

حدّق إليه العجوز محافظا على نفس الابتسامة العريضة، وقال مستهزئا: "إن لم تعلم ذلك حتّى، فإنّك مجرّد مبتدئ لا أكثر."

عبس إدريس الحكيم، وقال: "هذه المرّة الثانية التي أسمع فيها هذا الكلام في هذه السنة. هذا نادر حقّا. إن لم تكن ستقدّم نفسك بشكل لائق، فانقلع من نطاقي!"

حرّك إدريس الحكيم ذراعه إلى الأعلى، فدارت الكرات الثلاث المحاطة بالحروف الرونية، وبدأت تصنع أحكاما خاصة بها. كانت هذه الأحكام مختلفة عن تلك التي تطبّقها التعاويذ الذهنية الروحية، ولم تكن تستمدّ طاقتها من الطاقة السحرية، ولكن من مصدر آخر.

كان هذا المصدر هو الكرات الثلاث فوق إدريس الحكيم. فكلما دارت تلك الكرات وارتفعت سرعتها، ازدادت قوّة تلك الأحكام وتأثيرها على الوجود. وفي لحظة فقط، كان إدريس الحكيم قد كوّن ختما كبيرا أمامه مكوّن من كلمتين: "طرد إجباريّ."

كانت هاتان الكلمتان تحملان حكمة متناهية، وعبر نيّة ملقيهما، تكوّنت حالا يدان عملاقتان، فاندفعتا نحو العجوز بثقل يستطيع دكّ أعتق الجبال وترويض المخلوقات السامية.

بااام


ضربت اليدان العملاقتان العجوز، فسبّبتا صدمة هزّت جنوب إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة بأكمله، فهلع الناس في شتّى الأماكن، وارتعبوا من ذلك الزلزال المفاجئ والمفزع.

كانت مهمّة هاتان اليدان العملاقتان هو طرد العجوز دون ترك فرصة له للمقاومة. لقد كان إدريس الحكيم داخل نطاق من صنعه بحكمته السياديّة، وطاقته الروحيّة، فكانت له اليد العليا. في هذا النطاق، كان بإمكانه تشكيل ما شاء من الأحكام وتطبيقها على الوجود. لقد كان ذلك عالما صُنِع بواسطته عبر حكمة لا مثيل لها، فكانت له القدرة على القيام بما يشاء داخله.

"ليس سيّئا بالنسبة لمبتدئ." انبثق الصوت من جديد، فجعل ذلك إدريس الحكيم يُصعق مرّة أخرى. كان العجوز يقف أمام اليدين العملاقتين بدون أن يؤثّر عليه أبدا الطرد الإجباريّ.

تكلم إدريس الحكيم صارخا: "من أنت بالضبط؟ ليس هناك سوى قليل ممّن باستطاعتهم تحمّل أختام حكمتي السياديّة في هذا النطاق."

لم يزل العجوز تلك الابتسامة من على محياه أبدا، ثم قال مرّة أخرى ساخرا من إدريس الحكيم: "سأنيرك يا فتى. لربّما أختامك وأحكامك لها تأثير كبير على الوجود بحكمتك السياديّة، ولكنّها بدون فائدة عليّ، فأنا لست من الوجود، ولن يؤثّر عليّ شيء مهما كان. أنا لا أحد."

وفي تلك اللحظة، سمع إدريس الحكيم صوتا قادما من بعيد. لقد كان ذلك باسل يصرخ: "أيّها المعلّم، ماذا هناك؟"

قطب إدريس الحكيم ثم خاطب العجوز أمامه: "سأتجاوز كلّ التساؤلات الأخرى. ما هدفك؟"

ضحك العجوز: "هاهاها. لا داعٍ لأنْ تأخذ الحيطة والحذر منّي. لقد جئت لأرى معدنك فقط." نظر العجوز إلى خارج النطاق، ولم يكن صعبا عليه بتاتا ملاحظة باسل يتقدّم نحوهما، فأكمل: "أتيت لأرى فقط إن كنت ستكون سببا في نجاة الفتى من لعنته الأبديّة، أم ستكون مجرّد سبب آخر في المعاناة طويلة الأمد التي تنتظره."

حملق إدريس الحكيم إلى العجوز ثم صرخ: "ما الذي تقصده؟ أخبرني عمّا تعلمه! أتعلم عن قضيّة الطفل الأخير والمختار تلك؟ قل لي ما الذي المصير الذي ينتظر الفتى باسل."


"يبدو أنّني قلت الكثير." نظر العجوز إلى باسل مرّة أخيرة ثم قال: "لربّما تأثّرت قليلا، ولكن... أنا ليس لديّ الإجابة عن تساؤلاتك. أنا مجرّد مراقب. حتّى مجيئي إلى هنا كان نزوة فقط لا أكثر."

اختفى العجوز مباشرة بعد ذلك، وترك إدريس الحكيم في حيرة من أمره. لقد كان ذلك الشخص من أكثر الأمور غرابة التي اختبرها إدريس الحكيم في حياته كلّها. لم يعلم من أين أتى أو إلى أين ذهب، أو هل سيظهر مرّة أخرى أم لا. لقد كان حقّا شخصا بلا وجود.

بدّد إدريس الحكيم بعد ذلك نطاقه الفضّيّ، ثم استمع لما لدى باسل. وبعدما سمع لكلّ ما حدث، صنع ابتسامة خفيفة لم يلاحظها باسل، ونظر إلى الأفق دون قول أيّ شيء. لقد كان يفكّر في كلّ الأمور التي تحيط باسل.

وفي نفس الوقت، راقبتهما عينان من مكان غير معلوم. كانت العينان تعودان للعجوز الذي لم يستطِع إزاحة عينيه عن باسل. بقي يفكّر لوقت طويل ثم قال بعدما ابتسم، ساخرا من نفسه: "لقد راقبته لسنوات فقط، لا يمكن أن تكون سوى قطرة من نهر الزمن الذي أسري مجراه، ولكنّه أثّر بي؟"

تذكّر العجوز بعضا من الذكريات العتيقة، وأكمل تكلّمه مع نفسه: "هاهاها. لقد راقبت كلّ الثلاثة عشر، ولكنّ الرابع عشر ترك أثره فيّ. لقد كان السابع مثيرا للاهتمام أيضا في صغره، ولكنّه لم يكن بقدر هذا. حتّى أنّ جميع الثلاثة عشر لم يمرّوا بما اختبره هذا."

راقب العجوز إدريس الحكيم وباسل من اللّامكان، وأخرج جزرة، ثم بدأ يأكلها، واختفى نهائيّا.

نظر إدريس الحكيم إلى باسل ثم قال: "يا أيّها الفتى باسل، إنّك لست بواهم، فقط يبدو أنّ الشخص الذي تبحث عنه غير موجود. اسمعني ولا تسألني. لم يكن الشخص الذي تبحث عنه موجودا أبدا، لذا ليس من الغريب ألّا يتذكّره أحد. ستفهم ذات يوم."

قطب باسل، ولم يفهم شيئا. لقد كان يزور الجدّ عليّ منذ نعومة أظافره، وكان يأخذ الجزر منه دائما، ويتحدّث معه عن الكثير من الأشياء طوال الوقت، فكيف ألّا يكون موجودا؟ كان باسل سيُجنّ، ولكنّه توقّف عن التفكير في هذا للآن. فحسب كلام معلّمه، سيأتي وقت يفهم فيه ما يحدث بشكل جيّد.

حدّق إدريس الحكيم إلى تلميذه، وابتسم مفكّرا: "حسنا، حتّى لو أراد إجابة مقنعة فلن يجدها عندي. يجب أن ينتظر الوقت فقط ليحلّ كلّ شيء."

بقي باسل بعد ذلك لمدّة قليلة مع معلّمه، ثم عاد مرّة أخرى إلى منزله. أمضى أيّاما هانئة هناك دون حصول أيّ شيء. فقط نفس الأيام الهادئة التي اعتاد عليها بصغره. اعتادت ان تكون هذه الأيّام مجرّد ملل بالنسبة له عندما كان صغيرا، ولكنّه يجدها الآن باعثة للراحة.


وفي أحد الأيّام، كان باسل قد قرّر شيئا، فاستخدم خاتم التخاطر: (يا تورتش، أريدك أن تقوم بالتالي.)

وبعد أيّام أخرى، ذهب ليخبر أمّه والعمّة سميرة مع حضور أنمار بشيء كان يجب الانتهاء منه. وقبل دخوله إلى المنزل، كانت أنمار تتحدّث مع أمّها ولطيفة: "نعم. ذلك حقّا حدث."

وضعت لطيفة وسميرة يديهما على فميهما من الدهشة وقالتا: "إنّ هذا لخبر مسعد. حتّى أنا لم أتوقّع أنّ باسل سيُقدِم على هذا الخطوة بهذه الجرأة. هنيئا لك يا صغيرتي."

نهضت سميرة من على كرسيّها وعانقت أنمار قائلة: "وبهذا، سيكون أبواكما سعيدين أيضا."

تحرّك حاجب أنمار عند سماع ذلك، وفي عندها دخل باسل ثم جلس ودخل في الموضوع مباشرة: "لم أخبركما عن هذا. لقد التقيتُ بجدّتي، والتقت أنمار بعائلتها، العائلة الإمبراطورية كريمزون."

نبض قلبا لطيفة وسميرة بسرعة كبيرة للغاية بعد ذلك، وأصبحت تعبيراتهما جامدة. لقد علمتا أنّ هذا اليوم آتٍ لا محالة، وعندما غادر الاثنان المنزل قبل عام، شكّا في أنّ فرصة معرفة الطفلين بهويّتهما ستكون كبيرة. واليوم بعدما واجههما باسل بهذه الحقيقة، لم تعلما ما الوجه الذي يجب عليهما صنعه أو الكلام المناسب لقوله.

لقد كانت قرية باسل في أقصى جنوب الإمبراطوريّة، ولم تكن تلّم بالأخبار كثيرا. فلم يكن هناك ساحر حتّى، وكانت القرية مجرّد منطقة زراعيّة منعزلة لا تصلها الكثير من الأخبار. ولهذا لم تعلم الأمّان عن أميرة الإمبراطوريّة الجديدة أنمار، أو حتّى عن الجنرال الأعلى باسل.

وحتّى لو بلغت الأخبار هذه القرية، فلن تصل إلى الأمّين. لقد كانتا مجرّد امرأتين عاديتين لا علاقة لهما بعالم السحر أو السلطة. لو وصلت الأخبار إلى القرية فسيعلم عنها زعيمها أو الشخص الذي يتكلّف بأمورها. وفي الوقت الحالي، وضع عثمان نفسه كذلك الشخص، لذا علم عن ظهور الأميرة الجديدة، وعن الجنرال الأعلى، ولكنّه لم يكن ليتخيّل أنّهما باسل وأنمار في الواقع.

بلعت الأمّان ريقهما ثم بدأت لطيفة بالتحدّث: "بما أنّك تعلم عن كلّ شيء الآن، فلن أخفي أيّ شيء بعد الآن. نعم، لقد أردت إبعادك عن عائلة كريمزون، أنت وأنمار. لقد اتفقنا على هذا معا حتّى نحميكما."


أكملت من بعدها سميرة: "وفوق كلّ ذلك، لم نعلم إن كانت عائلة كريمزون ستقبل بكما. أنتما طفلا الشخصين اللذين اختارانا على عائلتيهما، وخاناهما. لم نكن سنقوم بالمجازفة بجعلكما تواجهان حياة صعبة حيث تشعران بالنبذ." رفعت سميرة رأسها وحدّقت إلى عينيْ باسل، ومن ثمّ إلى عينيْ أنمار، وواصلت: "أنا لست نادمة أبدا على اختياري ذلك."

أمسكت لطيفة يدها ثم قالت: "ولا أنا."

ابتسم باسل وأنمار آنذاك، فتكلّمت أنمار: "لا تقلقا، فلقد التقينا بالعائلة، وتلقيّنا أفضل المعاملة."

دمعت أعين لطيفة وسميرة عند سماع ذلك، فتابع باسل: "لم نأتِ كي نسأل لماذا خبّأتما عنّا ذلك. أتينا لطلب شيء منكما فقط."

حدّق باسل بجدّية إلى أمّه والعمّة سميرة، ثم قال: "يجب أن تواجها ماضيكما. فكما أنا متأكّد من أنّ عائلة كريمزون مستعدّة تماما للقائكما، آمل أن تكونا كذلك أيضا."

مسحت الاثنتان دموعهما، ثم أجابتا بعد قليل من الوقت استغرقتاه في استرجاع الذكريات: "لكما ذلك. سنواجهه."

وقف باسل مبتسما، ثم قال: "حسنا. فلنذهب إذن."

استغرب جميعهنّ، فسألت لطيفة: "إلى أين؟"

رفع باسل يده ثم أشار بها إلى اتّجاه محدّد، قائلا: "إلى الشمال، حتّى العاصمة."

"هاه؟" استغربت لطيفة وسميرة من هذا الأمر: "ولكن..."

أجاب باسل عن تساؤلهما: "كلّ شيء في أهبة الاستعداد."

تدخّلت أنمار بعدما فهمت ما يحدث: "لا تقل لي."

اقترب باسل من باب الخروج قائلا: "نعم. وسيلة نقلنا هنا مسبقا."

تعجّبت الأمّان: "وسيلة نقل؟"

فتح باسل الباب، فطلّت الأمّان، فإذا بهما تتفاجآن بالمشهد أمامهما.

صـــهـــيـــل


قفز خيل ملكّيّ، وتطاير شعره فبدا كأنّه يحلّق فوق قوس قزح بسبب الألوان الطبيعيّة التي يملكها شعره. كان هذا الخيل يجرّ عربة كبيرة تتسع لأشخاص عدّة، وكان عدد الأفراس ستّة. كان المنظر أمام الأمّان مدهشا للغاية، ولم يعلما كيف لمثل هذه المخلوقات النادرة أن تكون أمام المنزل.

نزل شخص من العربة، ثم تقدّم نحو باسل وانحنى أمام باسل، قائلا بلهجة محترمة: "لبّى التابع النداء."

ابتسم باسل ثم قال: "شكرا لك يا تورتش. يبدو أنّك أعددت وسيلة نقل مريحة كما أُخبِرتَ."

رفع تورتش رأسه ثم نظر إلى أمّ باسل وسميرة، فصُعِقَ تماما، وبدأت الشكوك تتخلّله. هل حقّا هاتان المرأتان هما والدتا باسل وأنمار؟ لقد كانتا آيتان في الجمال ولم يستطِع إبعاد نظره عنهما لفترة طويلة. لقد كانت أمّ باسل صاحبة شعر أسود حالك، يجعل النفس تضطرب، وتشتاق للمسه. وكانت سميرة نسخة كبرى من ابنتها أنمار. كانت الاثنتان من أجمل نساء هذا العالم بلا شكّ.

عبس باسل ثم قال مبتسما نصف ابتسامة: "كيف تركت شي يو يا تورتش؟"

صُعِق تورتش مرّة ثانية فاستفاق من أحلامه، فهرع بعد ذلك إلى العربة مسرعا، قائلا: "سأقود يا سيّدي، على إشارتك."

ضحك باسل وأنمار بعد رؤية تصرّفاته. أخذت لطيفة وسميرة وقتهما في محاولة استيعاب ما يحدث، والتي باءت بالفشل ثم قالت أُوْلَاهما: "ما كل هذا يا بنيّ؟ لمَ يناديك بـ'سيّدي'؟ وألم يبدو شخصا مهمّا؟ أعلم أنّ الجنرالات فقط من يرتدون دروعا فضّيّة. ما الذي يحدث؟"

حكّ باسل ثم قال: "كيف أفسّر هذا يا ترى. لنختصر الأمر." رفع باسل أصبعه وأكمل: "ببساطة، لقد فعلت شيئا مذهلا وأصبحت الجنرال الأعلى."

"هــــاه؟" صُدِمت الاثنتان تماما.

أخذت أنمار جانبه ثم ارتسمت على محياها ابتسامة مشرقة، قبل أن تقول: "وأنا بعد أحداث عدّة، أصبحت أميرة عائلة كريمزون الجديدة."

"هــــاه؟"

صدمة بعد الأخرى، جعلت ذقنا الاثنتين يسقطان أرضا من الدهشة. قالت لطيفة بسرعة: "الجنرال الأعلى؟ أتعني الشخص الذي يتحكّم في جيوش الإمبراطوريّة بأكملها؟"


أكملت سميرة: "وماذا تعنين بالأميرة الجديدة؟" سبقهما باسل وأنمار إلى العربة ثم قال: "حسنا، حسنا. ستعلمان عن كلّ شيء في طريقنا إلى هناك. لدينا كلّ الوقت."

كان الناس مجتمعين ببوابة القرية، بينما ينظرون إلى المشهد المذهل أمامهم. لقد كان هناك مئات الجنود ذوي المستوى الخامس أمامهم، والعديد من ذوي المستوى السادس. كان ذلك منظرا مدهشا جدّا بالنسبة لأولئك القرويّين. كلّهم حدّقوا إلى الجيش الصغير أمامهم، مرتعبين، متحمسين، منتظرين معرفة ما يحدث.

وفجأة، أتت عربة من خلفهم. كانوا قد سبق ورؤوا هذه العربة تدخل، ولكن لا أحد تجرأ على تبعها. والآن، بعدما شاهدوها من جديد، ترقّب الجميع رؤية راكبها ليعلموا من الشخص الذي أتى بهذا الجيش المدهش إلى أبوابهم.

أتى شخص مسرعا إلى البوابة بينما يصرخ: "ابتعدوا، ابتعدوا." كان هذا هو عثمان، الشخص الذي أصبح الآمر الناهي في القرية لأنّه غدا ساحر مستوى ثانٍ. جاء بسرعة لأنّه أراد أن يعلم من هذا الشخص المدهش الذي أتى. فإن كان حظّه جيّدا، فسوف تكون لديه الفرصة ليرتقي ويملك منصبا ذا نفوذ جيد بعد العمل تحت إمرة هذا الشخص المدهش.

مرّت بهم العربة حتّى خرجت من البوابة، وفجأة، توقّفت فنزل منها تورتش وذهب إلى أعلى البوابة. اقتلع رأس ملك الثعابين الشره وحرقه إلى رماد. فجعل ذلك عثمان يتجمّد في مكانه من الغضب. لقد كان ذلك رمزه وشعاره، وما فعله تورتش لم يعطه أيّ ماء وجه.

تقدّم عثمان إلى الأمام ثم خاطب تورتش بلهجة محترمة، فبعد كلّ شيء، كان من الواضح أنّ تورتش ساحر بمستوى مرتفع: "المعذرة يا سيّدي. أيمكنني المعرفة لمَ أزلت شعار قريتنا؟"

حملق تورتش إليه ثم قال: "ومن أنت؟"

حكّ عثمان يديه وقال بابتسامة متكلّفة: "أنا عثمان أبو عثمان، زعيم هذه القرية الحالي."

"هوو." ابتسم تورتش ثم قال: "ومن أعطاك هذا اللقب؟ هل أُجمِع عليه من أهل القرية؟"

"هذا..." تمتم عثمان وقال: "لا في الواقع، ولكنّهم لم يبدوا منزعج..."

"إذا لست بزعيم شرعيّ." قاطعه تورتش ثم أكمل: "سأجيبك، لا، سأجيبكم. كونوا فخورين. اليوم يوم سعدكم. اليوم، قرّر أقوى رجل في هذا العالم أن يمنح قريتكم حماية خاصة منه. إنه الجنرال الأعلى لإمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، والشخص الذي أصبح بطل العالم في الآونة الأخيرة، بطل البحر القرمزيّ."

لم يعلم الكثير من الناس معنى كلام تورتش الأخير، ولكن كلّ واحد منهم كان على دراية بلقب الجنرال الأعلى. لقد كان يُمنح هذا الشخص إلى أقوى رجل في الإمبراطوريّة فقط، والذي يُعتبر مؤهّلا لقيادة جيوشها كقائد أعلى.


تحمّس الجميع بعد قليل من الوقت استغرقوه في استيعاب كلام تورتش. لقد كان معنى ذلك أن قريتهم أصبح لها مستقبل زاهر لا محالة، ولن يمرّ وقت طويل حتّى تصبح مدينة عظيمة. فحماية الجنرال الأعلى لم تعنِ فقط حراستهم، وإنّما مساعدتهم في حياتهم وتجارتهم، ومعاونتهم على بناء مدينة عظيمة.

تقدّم عثمان إلى الأمام ثم قال بلهفة: "في الواقع، لقد سمعت بإنجازات الجنرال الأعلى المتتالية، وقد حلمت طوال الوقت الذي سمعت فيه عنه بخدمته. لقد سمعت أنّه شابّ يقاربنا العمر فقط، ولكنّه بلغ ما لم يبلغه أحد قبله. إنّه حقّا مفخرة لنا، وسأكون سعيدا للغاية إن استطعت الخدمة تحته. سيكون ذلك أشرف شيء في حياتي كلّها."

ابتسم تورتش وتقدّم إليه. ربت على كتفه فقال: "أوه، هكذا إذن، هكذا إذن. يبدو أنّك شخص مستقيم عكس ما اعتقدت. في الواقع، لقد كان سيّدي يريد لقاءك أيضا."

نزل شخص من العربة الضخمة فجأة، فسقطت عليه كلّ الأنظار. وبعد ذلك، بدأ العديد من الأشخاص يتمتمون: "انتظر، أليس ذلك باسل؟"

"لا شكّ في هذا. ليس هناك شخص بمثل تلك المواصفات."

"ما الذي يفعله في عربة الجنرال الأعلى؟"

"هل يمكن أنّه استطاع أن يصبح تابعا له؟"

"واااه، لو كان هذا صحيحا فذلك عظيم. لطالما ظننت أنّه سيكون شخصا عظيما."

استمرّت الهمسات، كما استمرّت خطوات باسل، مقتربا بذلك إلى تورتش وعثمان. بقي هذا الأخير فاتحا فمه من الصدمة، وفجأة، ومضت بعض الأشياء الغريبة في ذهنه جعلته يصاب بالجنون في لحظة واحدة.

"لا، ذلك مستحيل ! لا يمكن ! غير وارد ! محال ! كذب ! يجب ان يكون من مخيّلتي ! "

تذكّر بعض المواصفات التي وصلته: (إنّه فتى مراهق. شعره كالدّم لونا، وعيناه تسايران تلك الحمرة كالجمرة. ترافقه فتاة بشعر ذهبيّ، اتّضح أنّها الأميرة الجديدة، اسمها أنمار. اسمه باسل.)

"لا ! "

ربت تورتش مرّة ثانية على كتف عثمان، فجعل ركبتيه تفشلان بسبب ذلك. لقد كان يعلم تماما ما القادم من فم تورتش: "افرح يا عثمان أبو عثمان، فكما تمنّيت، ها أنت ذا في حضرة بطل البحر القرمزيّ، الجنرال الأعلى، باسل."


ارتجف عثمان في الأرض، وأراد أن يحفر قبرا ويدفن نفسه به.

وقف باسل أمامه ثم حدّق إليه بازدراء، قائلا: "ها أنا ذا هنا. إذن، تريد أن تخدمني يا صرصور؟"

أخذ باسل خطوة أخرى فوضع بها قدمه بين رجليّ عثمان، ثم أكمل: "اعتبارا لصداقتنا الطويلة، سأمنحك فرصة في ذلك."

كانت الخطوة التي خطاها باسل قويّة بشكل أكبر ممّا يمكن لعثمان تحمّله. فبلّل بنطاله من شدّة الرعب.

واصل باسل: "قف وتصرّف كما فعلت طيلة السنين الماضية أمامي، ولك ما تريد."

فزع عثمان أكثر، ونظر إلى عينيْ باسل فوجدهما تحملان كمًّا هائلا من الضغط. فقط نظراته كانت كافية لجعله يرضخ. لقد كان دائما يظنّ أنّ هذا الفتى القرمزيّ وحش صغير، ولكنّه تأكّد من ذلك اليوم، وعلم انّ الوحش الصغير قد نضج كثيرا عمّا كان عليه سابقا.

سقط بعد ذلك عثمان فاقدا الوعي كلّيّا، فاستدار باسل وغادر. لمحت عيناه أثناء ذلك فتاةً تقف بعيدا، لا تقدر على الاقتراب من مكانهم، فابتسم بعدما تذكّر صورة أنمار في عقله، وأكمل طريقه غير مهتمّ، ولكنّه تمتم: "أكنت سأقع في حبّ هذه؟ يا لها من مسخرة."

وقف باسل أمام العربة ثم تكلّم بصوت مرتفع: "من اليوم فصاعدا، لم يعد هذا المكان قرية منعزلة متعرّضة للخطر دائما. الآن بهذا المكان، أعلن أنّها تحت حمايتي. أنا باسل، أمنح هذا المكان اسم مدينة العصر الجديد ! "

ركب باسل العربة، وترك الناس لابثين في أمكانهم، غير مصدّقين ما حدث قبل لحظات أمام أعينهم. مرّت لحظات سكون، وأحس كلّ شخص كما لو أنّه يتواجد عميقا داخل البحر. كانت مشاعرهم مختلطة، ومن الصعب التفريق بين كلّ شعور عن الآخر.

لحق تورتش باسل ثم أخذ دور الحوذيّ من جديد، وحرّك الخيل الملكيّ. وفي اللحظة التي لمح الجمهور بها تحرّك العربة، تحرّكت قلوبهم كذلك، فأصبح هناك شعور واحد يتملّكهم. كان ذلك السرور الذي ولّد حماسا غير طبيعيّ لدى جميعهم.

ومباشرة بعد رجوعهم إلى وعيهم وإحساسهم بذلك الأحساس، انطلق صياحهم فتحوّل المكان من السكون إلى صخب تخلّله الفرح. لقد كان هذا أفضل خبر سبق وسمعوه في حياتهم.

لقد كانوا مصدومين بسبب حقيقة كون باسل – واحد منهم - صار الجنرال الأعلى، ولكنّهم تناسوا صدمتهم هذه مؤقّتا ليتمتّعوا بالخبر المفرح الذي جعل من كلّ واحد منهم في قمّة السعادة. لقد كان مصير قريتهم واضحا الآن بعدما قرّر الجنرال الأعلى توفير حمايته لهم. ستصبح القرية مدينة مزدهرة مثل أفضل المدن الأخرى، ولها حرّاس وجنود من الأرقى. ستتحسّن تجارتهم وتُبنى أكاديميّة في مدينتهم. سيُنمّون سحرة بمدينتهم التي سيفخرون بها كمدينة أسّسها الجنرال الأعلى، وسمّاها بمدينة العصر الجديد.

تبعت الهتافات العربة طوال الوقت حتّى اختفت عن الأنظار تماما. وعندما هدأ الجميع أخيرا، تحرّك الجنود الذين كانوا أمام بوابة القرية. لقد كان عددهم يصل للمئات، وكانوا هنا لسببين. أوّلهما حماية القرية، وثانيهما كان المساعدة في تحويلها إلى مدينة.

تقدّم الجنودَ شخصٌ ارتدى درعا فضّيّا، فكان من الواضح أنّه ساحر في المستوى السادس. كان شابّا فقط ممّا جعل الأنظار تتساقط عليه كالمطر. حمل نظرة مستقيمة وبدا شابّا مخلصا في حياته لما ولمن حوله.

رفع الشابّ ذراعه إلى الأعلى وقال بصوت مرتفع: "لدينا مهمّة أعطيَت لنا من سيّدنا باسل، ولا يجب علينا خذله فيها. يا من أقسمتم بخدمة الجنرال الأعلى، أنتم موكّلون بترميم هذه القرية، وجعلها مدينة مؤهّلة. سنحوّل هذا المكان إلى نقطة تجاريّة هامّة ومكان للسياحة يزوره الناس من شتّى أنحاء العالم ليروا أوّل مكان يبنيه بطل البحر القرمزيّ. فلنجعله مدينة العصر الجديد ! "


[هواااه]

صرخ الجنود فهزوا المكان، وبتحرّكهم جعلوا الأرض تتذبذب، فأرجفوا قلوب الحاضرين.

تكلّم بعض الناس فيما بينهم: "هذا مهيب ورهيب حقّا ! "

"معك حقّ. إن واجه أيّ جيش مثل هؤلاء الجنود فلا شكّ أنّه سيموت لا محالة."

"يا له من أمر. إذن هؤلاء هم جنود تشكيل الجنرال الأعلى؟ توابع باسلنا ! حقّا مثير للافتخار ! "

تقدّم ذلك الشابّ الذي كان يقود كلّ أولئك الجنود إلى الناس، ثم قال: "من يتزعّمكم؟"

نظر الناس إلى بعضهم بعضا، ثم أشاروا إلى رجل عجوز أتى من الخلف. كان هذا الرجل العجوز نحيلا للغاية، ولكنّه كان يتمتّع بروح قويّة تمثّلت في نظراته الثابتة والعميقة. حدّق الرجل العجوز إلى الشابّ لوقت قليل، ثم قال: "عينان جيّدتان. إنّها لمفخرة لنا أن يساعدنا أمثالكم؛ فتشكيل الجنرال الأعلى شيء يحلم أيّ صغير وكبير أن يتلقّى المساعدة منه."

ابتسم الشابّ، وصافح العجوز الذي مدّ يده إليه، ثم قال: "إنّه فخرنا نحن أن نساعد موطن الجنرال الأعلى. ولكن يجب أن أتأسّف، فنحن لسنا تشكيل الجنرال الأعلى في الواقع ولكنّنا مجرّد توابع جانبيين."

صُدِم الناس بعد سماع هذا الكلام، وأعادوا النظر مرّة أخرى إلى الشابّ والجنود خلفه. لقد كانوا سحرة من المستوى الخامس والسادس، فكيف ألّا يكونوا التشكيل الذي ذاع صيته كثيرا في الآونة الأخيرة؟

غاب العجوز في ذكراته، ثم عاد بعد وقت لم يعلم أحد عن مدّته. حدّق إلى الشابّ أمامه، والذي قال: "يبدو أنّك كنت تتذكّر شيئا ما."


ابتسم العجوز ثم أجاب ضاحكا: "هاهاها. ذلك صحيح. فلتوّي، ظهرت بعض الصور في عقلي من الماضي. أنا المشرف هنا على المكتبة، لذا تذكّرت الجنرال الأعلى باسل عندما كان يأتي إليها ويمضي مددا طويلة يخزّن المعلومات في ذاكرته. لقد كان حقّا طفلا غريبا، ولكنّني لم أتوقّع يوما أن يصل إلى كلّ هذا في هذا السن الصغير حتّى لو كنت أظنّ أنّه سيصير ساحرا ماهرا عندما يكبر."

ضحك الشابّ مع العجوز قليلا، فسأل ذلك ثانيهما: "بالمناسبة. بم أناديك يا أيها السيد الشابّ؟"

"لا، أرجوك. لا داعٍ لتتكلّم برسمية معي." ابتسم الشاب وأكمل: "يمكنك مناداتي بـ'الحارس جون' فقط. لقد أتيت وأتباعي لحراسة هذا المكان كدورنا الأساسيّ، ومساعدتكم في كلّ ما تريدون."

ابتسم العجوز وحدّق إلى عينيْ الشاب، ثمّ قال: "إنّك تعجبني، وخصوصا عينيك. إنّهما مستقيمتان وخالصتان. والأكثر من ذلك، أنت تذكّرني نوعا ما بنفسي. أنا من اختاره أهل القرية ليكون الشيخ. يمكنك مناداتي بـ'الشيخ عهد'."

تحرّك الحارس جون ثم قال للشيخ عهد: "لم لا نذهب للاستعداد والتحدث قليلا. فبما أنّ هناك فرصة للاستماع عن قصص حول طفولة سيّدنا، فكيف لي أن أضيعها؟"

***

مرّت أيّام منذ مغادرة باسل والآخرين القرية، وبسرعة الخيل الملكيّ لم يأخذوا وقتا طويلا للوصول إلى العاصمة كما لم يتأخّر تورتش عند قدومه إلى القرية. وبمجرّد ما أن دخل باسل إلى العاصمة حتّى كان الجنود على طول الطريق مصطفّين، منظّمين المكان، معطين له أفضل آمان.

كانت لطيفة وسميرة متعجّبتين كثيرا من هذا الأمر، وما زالتا تندهشان من المعاملة فائقة الاحترام، ومن كون باسل الجنرال الأعلى وأنمار أميرة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة. والأكثر من ذلك، من عودة عائلة كريمزون إلى سابق عهدها بل وأفضل. لقد كانت العاصمة شيئا جديدا لهما بشعار العائلة الإمبراطوريّة كريمزون، والذي كان عبارة عن شعلة قرمزّية يحملها ظلّ بيديه فوق رأسه.

نظرت لطيفة إلى الشعار ثم تذكّرت ما قاله زوجها آنذاك: "أتعلمين يا لطيفتي، ذلك الظلّ هناك هو ظلّ سلفي. قيل أنّ السلف باسل قد جعل شعار عائلته يمثِّل ما فعله صديقه بالضبط. لقد كان سلفي كريمزون حامل الشعلة القرمزيّة المختبئ في الظلال والحامي."


ابتسمت لطيفة ثم نزلت دمعة بعدما أكملت تذكّرها تلك الذكرى: "لا أعرف إن كانت هذه مجرّد إشاعة، ولكن قيل أنّه كان هناك سبب لكون سلفي قويّا جدّا، ولتمريره دمه وموهبته إلى عشيرتنا. أُخبِرنا أنّه واجه شيطانا، أو ملاكا، لا أحد يعلم بالضبط، ولكنّه كان بالتأكيد كيانا مذهلا. قام هذا الكيان بتعديل دمه وروحه وأعطاه كنزا ما. وإلى اليوم، لا أحد يعلم ما هو أو أين ذلك الكنز، ولكنّنا نعلم أنّ تعديل الدم والروح ذاك هو ما تسبّب في إنشاء عشيرتنا."

نزلت دمعة أخرى من عين لطيفة الأخرى، وغاصت في ذكرياتها من جديد: "ولكن لكلّ شيء ثمن. فمنذ القدم، تبعت عائلتنا لعنة لم يستطع أحد معرفة كيفية النجاة منها. كانت لعنتنا أن نعيش في الظلّ، ونموت به. وإن خرجنا إلى الضوء احترقنا فمتنا. وإن ارتبط أحدنا بآخر، حامت اللعنة حوله منتظرة الفرصة للقضاء عليه. لربّما هذا هو ثمن تعديل الدم والروح. لربّما ذلك عنى أنّه أكمل مهمّته ولم يعد هناك حاجة لبقائه حيّا."

حدّق باسل إلى أمّه ثم قال: "لا تقلقي يا أمّي. كلّ شيء سيكون على ما يرام."

ابتسمت لطيفة ولم تقل شيئا. لقد كانت تفكّر في المصير الذي ينتظر ابنها. أسيكون مثله مثل غيره من عشيرة النار القرمزيّة؟ حدّقت بعد ذلك إلى أنمار ثم تذكّرت ما قالته عندما كانوا في القرية، وعبست مرّة أخرى. هل سيواجه باسل نفس مصيره أبيه، وتواجه أنمار ما واجهتْه؟

وفي الجهة الأخرى، كانت سميرة منكمشة على نفسها، بينما تتذكّر أفعال كريمزون أكاغي وعائلته تجاهها. لقد تعرّضت للاحتقار منهم في تلك السنة، وما زال الأمر يؤثّر عليها حتّى الآن. ما زالت نظرات الازدراء التي وُجِّهت إليها آنذاك راسخة في عقلها ولم تستطع محوها.

اقتربت أنمار إلى أمّها وقالت: "الأمر مختلف هذه المرّة. لقد كان جدّي في ذلك الوقت مستميتا جدّا وأراد أن يعيد عائلته إلى مجدها، ولكن بعدما اختفى أبي وهرب معك، ندم كثيرا على ما فعله في حقّكما. فلو كان هناك أيّ شيء لا يزال يندم عليه جدّي، فلا شكّ أنّه أنتما الاثنتين."

قبضت أنمار يد أمّها ثم هدّأتها. لقد كانت سميرة في حالة سيّئة جدا.

ابتسمت أنمار وقالت: "وفوق كلّ شيء، أنت أمّي أنا، الأميرة كريمزون أنمار، وخطيبة جنرال الإمبراطوريّة الأعلى."

ابتسمت سميرة ثم ضحكت: "أنت حقّا لا تتغيّرين يا أنمار."


لم يسمعهما باسل حينذاك ما تكلّما عنه لأنّه كان يواسي أمّه، ويتكلّم معها حول أبيه.

دخل أربعتهم إلى القاعة الرئيسيّة، وكانت لطيفة وسميرة محنيتي الرأس، ولم تقدرا على رفعه. فمع أنّهما تعلمان أنّ باسل هو الجنرال الأعلى، وأنّ أنمار هي أميرة الإمبراطوريّة، وأنّهما أخبِرا أنّ عائلة كريمزون قد تغيّرت كثيرا عن تلك الفترة العصيبة، إلّا أنّ قلبيهما لم يستطيعا المرور بكلّ ذلك بسهولة.

وفجأة، دون أن ترفعا رأسهما، وجدتا نفسيهما تنظران إلى ذلك الرجل – كريمزون أكاغي. لم تحتاجا أن تحرّكا رأسيهما الموجّهين نحو الأسفل حتّى تواجهانه، ومع ذلك استطاعتا رؤيته. وذلك عنى شيئا واحدا فقط لا غير. صدِمتا كثيرا حتّى أنّهما لم تصدِّقا ما إن كان ذلك حقيقة أم لا.

كان الكبير أكاغي منحنيا عند أقدامهما، بينما يقول: "ندمت وندمت، ثم ندمت فندمت. انتظرت هذه اللحظة بفارغ الصبر. أنا آسف يا سميرة، أرجوك تقبّلي منّي خالص الاعتذار وسامحيني. أنا أعلم أنّ الأوان قد فات عن هذا، ولكن..."

نطقت سميرة بسرعة: "م-ما الذي تفعله؟"

أكمل الكبير أكاغي: "لقد فعلت أمرا شينا في حقّك، وأنت أيضا يا لطيفة. حتى لو كنت مررتُ بفترة سيئّة، لم يكن عليّ معاملتكما كذلك. أنا خجل من أسلافي."

قبضت سميرة ولطيفة ملابسهما، وتذكرتا الماضي، ثم نزلتا على الأرض ورفعتا الكبير أكاغي، ثم قالت سميرة: "أرجوك ارفع رأسك أوّلا."

كانت نظرات الكبير أكاغي شاحبة، وامتلأت عيناه بالدموع. وفي الجهة الأخرى، لم تعلم سميرة ولطيفة ما المعمول. لقد كانت هذه لحظة لا تصدّق. لم يكن هذا هو كريمزون أكاغي من آنذاك. لقد كان شخصا مختلفا عنهما كلّيّا.

ابتسمتا ثم وقفتا بعدما جعلتا الكبير أكاغي يقف أيضا، وأومأتا إلى بعضهما بعضا، وقالتا في نفس الوقت: "نسامحك يا كبير العائلة."


نزلت الدموع من عيني الكبير أكاغي ثم قال بتأسّف: "لولا عنادي وقساوتي في ذلك الوقت، لما مررتما بتلك المعاناة، وما كان ليموت أكاي وجاسر. كلّ ذلك خطئي."

اقتربتا الاثنتان من الكبير أكاغي ثم قالت سميرة: "لقد كان أكاي يدافع في الواقع عنك، ويخبرني أنّك أصبحت كذلك بعدما مات ابنك الأوّل مسموما فقط. وأنّك كنت تفعل ما تراه مناسبا لمصلحة العائلة فقط."

عانقتاه معا، فجعلتا قلبه يتسارع من الفرح، ومن الشعور بتخفيف الحمل الثقيل الذي كان يحمله طوال ذلك الوقت. لقد كان ينتظر أن تُغفر له أعماله ويصلحها من جديد.

بادلهما العناق وبكى كالطفل الرضيع. بادلتاه البكاء أيضا، ثم قالت لطيفة: "لقد كان يعلم جاسر أهمّيّة البقاء في الظلّ، ولكنّه أراد دوما الخروج للضوء. فعندما علم أنّ أكاي ينوي الهرب، أراد أن يتبعه كذلك. أراد أن يعيش مختلفا عن بقيّة أعضاء عشيرة النار القرمزيّة ويتجنّب ما آلوا إليه كلّهم – اللعنة."

عبس باسل عندما سمع ذلك، وأثار ذلك اهتمامه قليلا. فهذه المرّة الثانية التي يسمع فيها أمّه تتحدّث عن هذه اللعنة. لقد ظنّ أنّها قصدت في المرّة الأولى، عندما عاد إلى المنزل، أنّها فرحت لأنّه نجى من الموت. ولكنّه سمعها تقولها لمرّة أخرى وعلى أبيه وعشيرة النار القرمزيّة.

قطب الكبير أكاغي كذلك، وتذكّر ما آل إليه أعضاء عشيرة النار القرمزيّة خلال حياته. لقد اختفت العشيرة في عهده، لذا كان موضوع اللعنة تلك يدور دائما في عقله. لقد كانت مجرّد حكاية قديمة تمتدّ لآلاف السنين عن سلف العشيرة كريمزون، ولكنّ علاماتها ظلّت تتكرّر كثيرا حتّى صار من يعلمون بشأنها يصدّقون وجودها.

قال الكبير أكاغي بعدما نظر إلى باسل وتنهّد: "بالتأكيد، بكل تأكيد سيكون الأمر مختلفا هذه المرّة." ربّت بعد على كتف لطيفة، وصنع ابتسامة مشرقة. لقد كان هذا يوما مفرحا له كثيرا.

ذهب الجميع بعد ذلك إلى الفناء، فالتقوا هناك بجدّة باسل، وبالأميرة سكارليت. كان هناك الكثير من الدموع، وغُمر المكان بمشاعر السعادة والسرور. اختفت الأحقاد وانتشر الوداد. نُسِيت الذكريات المرّة وذُكِرت الحلوة. لقد كان ذلك يوما حافلا بالنسبة لهم، وكان باسل في قمّة سعادته أيضا.

وذات يوم، أراد باسل أن يفتح ذلك الموضوع الذي ظلّ يشغل باله. طلب حضور أمّه والكبير أكاغي وانفرد بهما. لقد كانت هناك بعض الأشياء التي تؤرقه ووجب عليه قطع شكّها.

"يا أمّاه، ويا أيّها الكبير، أخبراني ما تعرفانه عن اللعنة." كان باسل يحمل تعبيرا جدّيا، لذا عندما سمعه الاثنان علما أنّ الإجابة الصادقة هي الشيء الوحيد الذي سيرضي فضوله ولا شيء آخر.

عبست لطيفة، وتذكّرت بعض الأشياء قبل أن تقول: "إنّها الشيء الذي سلب منّا أباك."

لم يتكلّم باسل، وانتظرهما يكملان ما لديهما.

نطق بعد ذلك الكبير أكاغي: "إنّها شيء لحق عشيرة النار القرمزيّة منذ تأسيسها. قيل أنّ سلف العشيرة قد أبرم اتفاقا مع كيان خارق، واستطاع بذلك اكتساب قوّة وذكاء مرعبيْن، وأصبح باستطاعته تمرير كلّ ذلك إلى أبنائه وأحفاده. وفي كلّ جيل تزداد فاعليّة الاتفاق، فيزداد أعضاء العشيرة قوّة وذكاء. ولكن نحن في عالم به أخذ يرافقه عطاء؛ حملت الاتفاقيّة لعنة صاحبت كلّ تلك المزايا."

"...فكما مرّر سلف العشيرة قوّته وذكاءه إلى أبناء دمه، نقل لعنة تقوّت جيلا بعد الآخر أيضا. قيل، حسب خبرات أجيال بعد أجيال من أعضاء العشيرة، أنّ هذه اللعنة تسقط في حالتين. كان إذا خرج أحد أعضائها إلى الضوء وغادر الظلام، صرعته. وإذا ارتبط وخلّف نسله أصبح مهدّدا بالموت، وتبعه حظّ سيّئ للغاية. وحتّى لو لم يمت من سوء الحظّ مات من قصر العمر. هكذا كان مصيرهم. عندما يلدون يقلّ طول عمرهم."

رشف باسل الشاي، ثم أنزل الفنجان، وتمعّن، وفجأة بدون أن يشعر تذكّر تلك اللحظة أثناء قتاله ظلّ الشيطان. لم يعلم بالضبط لمَ حدث له، ولكنّه لطالما امتلك حدسا قويّا جدّا. ابتسم باسل ثم تمتم: "هل يا ترى حدسي هذا جزء من الموهبة التي نُقِلت إليّ؟"


نظر إلى أمّه التي كانت تبادله النظر، بعينين خائفتين على ابنها الذي يعتبر *** عشيرة النار القرمزيّة الوحيد المتبقّي، وارتجفت عندما فكّرت بما قد يحدث له. لقد كانت تحاول دائما إبقاءه في الظلّ، لكنّ ابنها شابه أباه واستعصى عليها فعل ذلك. وها قد صار باسل ضوء هذا العالم نفسه كبطله.

حدّق باسل إلى عينيْ أمّه، ثمّ اقترب منها وقال: "يا أمّي. لعنة كانت أم مصيبة، لأحطّمنّها وأبقى دائما إلى جانبك." انحنى وقبّل رأس أمّه، ثم أكمل حديثه مع الكبير أكاغي: "أهذا كلّ شيء؟"

"لا." أجاب الكبير أكاغي: "هناك شيء آخر. لا أحد يعلم مدى حقيقة هذه الإشاعة، فعلى عكس اللعنة لم نرَ أيّة آثار لها. قيل أنّ سلف العشيرة قد أخذ من الكيان الخارق كنزا كجزء من الاتفاقيّة، ولكنّنا لا نعلم ما هو هذا الكنز أو أين تموضع."

وضع باسل يده على ذقنه، وفجأة، طرأت له فكرة في باله. أخرج من خاتم التخاطر ثلاث مخطوطات وبسطها أمام الكبير أكاغي: "ألديك فكرة عن هاته؟"

"تلك ! " قال الكبير أكاغي بدهشة: "أو ليست المخطوطات الغريبة التي كانت في قاعة كنزنا؟ لقد رأيتها مرارا وتكرارا. لا أحد يعلم عن ماهيتها، لذا لا أحد أعطاها أيّ اهتمام جيلا بعد جيل. لقد كانت هناك في قاعة الكنز دون أن يمسّها أحد لسببين، أوّلهما كان لأنّها عديمة الفائدة، وثانيهما كان لأنّها ذكرى من السلف. لقد سُلِبنا القصر من عائلة غرين فيما مضى، لذا ظننت أنّها رُمِيَت فقط. فلم أكن أظنّها ستجذب اهتمامك."

عبس باسل وقال: "لقد قلت أنّها ذكرى. كيف ذلك؟"

أجاب الكبير أكاغي دون تأخر: "ذلك... لا أحد يعلم في الواقع. كلّ ما مرّ لنا أنّها ذكرى من السلف. ولطالما تعلّمنا الحفاظ على كلّ ما خصّ أسلافنا والاهتمام بها."

جمع باسل المخطوطات بعد ذلك وقال: "هكذا إذن. شكرا لك. لا بأس إن احتفظت بهذه المخطوطات الآن؟"

ابتسم الكبير أكاغي وقال: "أنت من العائلة يا حليفنا باسل، لا مانع من ذلك."

أمضى باسل بعد ذلك أسابيعَ أخرى في العاصمة، وقضى بعض المهام التي احتاجت وجوده، من تدريبات للجنود وزيارات للأكاديميّة. لقد الإرشاد من الجنرال الأعلى بلحمه ودمه شيئا يقدِّره أيّ شخص في هذا العالم.

كانت أيّامه حافلة، حتّى انتهى منها أخيرا وقرّر العودة إلى القرية مع أمّه، والعمّة سميرة، إضافة إلى أنمار. كانت هناك مفاجأة منه لأمّه.


ودّعوا عائلة كريمزون، وشدّوا الرحال. كانت المناظر في العودة بالنسبة إلى لطيفة ومسيرة أكثر جمالا، وتأثيرا في النفوس. لقد مزاجهما جيّدا للغاية بعد تصالحهما مع عائلة كريمزون وأزالوا النقط السوداء فجعلوا الصفحة بيضاء من جديد، لذا كانت رؤيتهما للأمور مختلفة عن ذات قبل.

مرّت أيّام السفر بسرعة البرق، وبلغوا المكان الذي اعتاد أن يكون قريتهم. نطقت لطيفة على حين غرّة: "ما هذا؟ أليس من المفترض أن نرى القرية الآن؟"

ابتسم باسل، ثم أمر الحوذيّ بالتوقّف، ونزل مصطحبا أمّه معه، إضافة إلى أنمار وأمّها. كان المكان أمامهما صادما للغاية.

كان هناك حائط يصل علوّه إلى الخمسة عشر متر، ويمتد محيطا بما بداخله لآلاف الأمتار. تمركزته بوّابة كتلك التي لدى العاصمة كبرا وهيبة. كانت هنكا قواعد صغيرة يحرسها جنود على طول الحائط، فأعطى ذلك شعورا بالأمان لكلّ من يبقع بالداخل. لقد كان هذا بدون شكّ مظهرا لمدينة غنيّة كالعاصمة.

لمحت لطيفة بعض التجار ينتقلون عبر البوّابة الضخمة، ذهابا وإيابا. كانت الأجواء حيويّة للغاية خلف الحائط. كان ممكنا سماع أصوات الناس النشطة، وضحكاتهم السعيدة.

لقد كان ذلك منظرا غريبا لشخص أمضى أسابيع بعيدا عن هذا المكان تاركا إيّاه كقرية فيعود ويجده تحوّل لذاك.

أخذ باسل بيد أمّه وتمشّى معها إلى ما بعد الحائط. وعندما بلغا الحائط، قرأت لطيفة ما كُتِب هناك. كان المشهد من الخارج مهيبا ورائعا للغاية، ولكنّه لا شيء مقارنة بالداخل. اصطفّت المنازل برتابة، وتخلّلتها حدائق صغيرة، مع وجود نافورات بين الشوارع التي كانت واسعة. كانت الأرضية نقيّة للغاية، فكاد ينعكس ضوء الشمس عليها.

سُخِّرت الأنهار القريبة لتكون منبعا مائيا للمدينة، وارتبط بكلّ المنازل. كان هناك سوق كبير، ولم يكن مليئا بالتجّار، ولكنّه بدا حيويّا. لا شكّ في أنّه سيصبح سوقا مهمّا بعد مدّة فقط.

شعرت لطيفة وسميرة التي تبعتها بسرور كبير، وتمعّنا في المدينة التي اعتادت أن تكون قريتهما البسيطة. استنشقتا الهواء، فقالت لطيفة: "يا له من أمر عجيب. لقد تغيّر المكان، ولكنّ رائحته لا تزال هي نفسها."

نظرت إليها سميرة، وقالت: "معك حقّ. لربّما لأنّ هذه المدينة بُنِيت عن إخلاص وحب."

ابتسمت الاثنتان، وقالتا في نفس الوقت: مدينة العصر الجديد ! "

اقترب منهما باسل وقال: "سأحرص على ذلك يا أمّي، ويا عمّتي."


وفجأة، شعرت الاثنتان أخيرا بالنظرات التي تسقط عليهم من شتّى النواحي. لم تحسّا بسبب حماسهما، ولكنّهما أدركا أخيرا أنّهما يصاحبا جنرال الإمبراطوريّة الأعلى وأميرتها، إضافة إلى أنّ هذا الجنرال الأعلى هو من شيّد هذه المدينة.

ابتمست لطيفة وقالت: "إنّني حقّا لا أعتاد على كلّ هذه النظرات."

ظهر على حين غرّة شخص أمام باسل. لقد كان ذلك الحارس جون. كان هذا الأخير مجرّد حارس لوّابة العاصمة عندما التقى به باسل أوّل مرّة، ولكنّه صار الآن ساحرا في المستوى السادس، وكُفِل بحراسة هذه المدينة كلّها.

"مرحبا بك يا سيّدي." انحنى الحارس جون وقال: "بمَ أخدمك؟"

ابتسم باسل وقال: "شكرا لك يا جون. هل فعلت طبقا لما أخبرتك؟"

أومأ الحارس جون وقال: "نعم. لقد فعلت."

غادر باسل والأخريات بعد ذلك متجهين نحو مكان محدّد بقيادة الحارس جون، فسألت لطيفة: "إلى أين يا باسل؟"

ابتسم باسل: "فقط إلى المنزل."

بادلته لطيفة الابتسامة بعد ذلك: "هكذا إذن؟ لم أكن لأعرف أين نحن ذاهبين ونحن بوسط هذه المدينة الكبيرة."

أخذوا الطريق على مهل، وتمتّعوا بالمناظر على طوله، حتّى بلغوا هدفهم. فوجئت لطيفة وسميرة بعد ذلك مباشرة. لقد كان ذلك غير متوقّعا بعد المرور بكلّ ما سبق.

كان هناك منزلان لم يتغيّر شكلهما أبدا، وظلّا على حالهما. كان هذان المنزلان هما منزلا باسل وأنمار.


حدّقت لطيفة إلى باسل وقالت: "لماذا؟"

ابتسم باسل وقال: "وهل أخطأت؟"

نزلت دمعة من عينها، كما حدث لسميرة، فقالتا معا: "لا، لم تخطئ. شكرا لك."

لقد كان هذا المنزلان عزيزين على قلبيهما، وعاشا فيهما لخمسة عشر سنة كاملة كوالدتين، واختبرتا الحلوة والمرّة فيهما. لقد كان من الصعب رؤية اختفائهما ببساطة. وعندما رياهما على حالهما، لم تستطيعا ضبط مشاعرهما. لقد قدّرا ذلك حقّا. لم يهم إن تغيّرت المدينة أو العصر، طالما لم يتغيّر ذانك المنزلان.

كانت تلك أيّام سعيدة، وهانئة. أمضى باسل أسابيع أخرى، حتّى أتاه بلاغ من معلّمه.

تكلّم إدريس الحكيم على انفراد مع باسل: "لقد مكثت لفترة طويلة هذه المرّة. وجهتنا تعلمها."

عبس باسل وقال: "قارّة الأصل والنهاية ! "

ابتسم إدريس الحكيم وقال: "لا داعٍ للقلق هكذا. لا شيء سيحدث لك طالما تواجدت هنا."

نظر باسل إلى معلّمه وقال: "لا. ليس كذلك يا معلّمي. عبست لأنّني سأغادر أمّي مرّة أخرى، ولا أعلم متى سأراها من جديد."

حدّق إدريس الحكيم إليه وواساه: "لا تقلق إذن. لقد كنت أصنع مصفوفة طيلة الأسابيع التي مضت. يمكنك اعتبارها هديّة منّي بما أنّك صرت بالغا الآن."

ابتسم باسل وقال: "ذلك لطف منك يا معلّمي. سوف أغادر الآن وأنا مطمئنّ تماما. بالمناسبة، لقد قالت أمّي أيضا أنّها تهيّئ شيئا ما لي. أظنّه هديّة أيضا."

اتّفق باسل مع معلّمه على الموعد، وغادر قائلا: "سأوصل الخبر إلى أنمار أيّها المعلّم. ألقاك بعد أسبوع من الآن."


لقد كان هذا هو الأسبوع الأخير لباسل مع أمّه قبل أن يرتحل من جديد، لذا صرفه بالكامل معها، ومع العمّة سميرة. فمع أنّه سيغادر مطمئنّا عليهما، إلّا أنّ الفراق لمدّة طويلة قد يكون صعبا. لاسيما وأنّ لطيفة وسميرة مجرّد امرأتين عاديتين لديهما عمر قصير مقارنة بالسحرة.

وفي اليوم الأخير، سلّم باسل وأنمار على سميرة، فجعلاها لا تستطيع التحمّل، فذهبت إلى غرفة واختبأت فيها ريثما يغادران. وعندما كانا سيسلّمان على لطيفة، انهمرت الدموع من عينيها هي الأخرى ولم تستطِع التحمّل أيضا، ولكنّها أجبرت نفسها على رؤيتهما يغادران.

أعطت لطيفة حقيبة لباسل، فحملها. قالت بعد ذلك: "إنّها هديّتك يا باسل. لقد كنت أستعدّ طيلة السنة الماضية حتّى أعطيها لك. افتحها بعدما تغادر."

ابتسم باسل وقال: "شكرا لك يا أمّاه. سأعتز بها لبقيّة حياتي."

عانقت باسل بعد ذلك، وفعلت نفس الشيء لأنمار. لقد أحببتهما كثيرا، وأحبّاها كثيرا.

"حسنا، أنا ذاهب يا أمّي." قالها باسل بعينيه الحمراوين اللتين لمعتا نوعا ما.

"رافقتك السلامة يا باسل. واهتم جيّدا بأنمار، فهي صديقة طفولتك العزيزة. آه، أظنّ أنّها الصديق الوحيد الذي تملك على أيّ حال. هوهوهوهوهو."

قام باسل بإجابة أمّه ونظرة ملل على وجهه: "أنا لا أحتاج إلى أيّ أصدقاء. وأيضا هي ليست صديقتي. إنّها فقط تلحقني منذ نعومة أظافرنا."

"هذا صحيح، يا عمّتي نحن لسنا صديقين، نحن خطيبان متعهّد كلّ واحد منّا للآخر بالزواج منه." أجابتها أنمار بابتسامة مشرقة.

اختفت نظرة الملل من على وجه باسل لتتحوّل إلى نظرة تفاجؤ: "هاه؟ ما الذي تقولينه أيّتها الحمقاء المتخيّلة؟ متى وعدتك أنا بشيء مثل هذا؟"

أجابته أنمار بابتسامة خفيفة مغمضة العينين: "هيّا، هيّا. هل تدّعي الجهل؟"

بدأ باسل ينزعج وأجابها بصوت مرتفع: "هاه؟ أيّ جهل تتحدّثين عنه؟ ما لم يحدث لم يحدث، ولهذا توقّفي عن إخبار الناس بهذا الهراء."

بدأت الدموع تتجمّع في عيني أنمار، وعند رؤية لطيفة لذلك صرخت في وجه باسل قائلة: "يا باسل، أعرف أنّك ستشعر بالخجل إن قيل لك هذا أمام شخص آخر، ولكن لا ترفع صوتك بهذه الطريقة في وجه شخص وعدته بالزواج." وبدأت لطيفة تربّت على رأس انمار لتخفّف من ألمها، ولكن في تلك اللحظة ظهرت ابتسامة عريضة على وجه أنمار فردّ باسل بينما يشير بإصبعه نحو أنمار: "انظري يا أمّي، إنّها تضحك. إنّها تخدعك. إنّها لا تبكي. إنّها دموع التماسيح فقط."

نظرت لطيفة إلى باسل وقالت له بغضب: "ألا تخجل من نفسك؟ أن تبكي زوجتك المستقبليّة وبدل مواساتها تناديها بالمخادعة. لا أتذكر انّني ربّيتك هكذا."

عادت نظرة الملل إلى وجه باسل واستسلم عن محاولة تصحيح الأمر، ثم تمتم: "أناديها بالمخادعة؟ مناداتها بالمخادعة كلمة لطيفة عندما نتطرّق لوصفها." ثم قال: "حسنا لا يهم. لقد تأخّرنا. لنذهب الآن."

"حسنا." أجابته أنمار بالموافقة لتكمل لطيفة: "سأقولها مرّة أخرى. اهتم بأنمار جيّدا؛ فالإنسان لا يعلم قيمة الشيء الحقيقيّة إلّا بعد فقدانه." قالتها لطيفة وهي تضع أنمار على صدرها وتعاملها بحنان بينما تعتلي نظرة حزينة وجهها.

"إذن إلى اللقاء يا أمّي." "إلى اللقاء يا عمّتي."

أجابتهما لطيفة والدموع بعينيها: "إلى اللقاء يا طفليّ العزيزيْن. فلتحترسا."

غادر باسل وأنمار، باشتياق إلى منزليهما، وحنين إلى هذا الوطن. ستكون رحلة طويلة هذه المرّة، لذا سيتركان والدتيهما لمدّة طولى عن العادة. كانت عينا باسل تلمعان نوعا ما، فجعل ذلك أنمار تقترب منه قائلة: "قد تكون قد بلغت الخامسة عشر وصرت رجلا في أعين الناس، ولكنّك لا تزال طفلا عندما يؤول الأمر لأمّك حقّا."

حدّق إليها باسل، ولم يقل شيئا. غاب في بحر ذكرياته وهدّأ من نفسه. ابتسم بعدما فكّر لوقت قليل في كلام أنمار ووافقها على كلامها. لطالما فقد حسّه السليم عندما يؤوب الأمر إلى أمّه.

حدّق إلى أنمار ثم تذكّر ما قالته سابقا عن كونها خطيبته، فلم يعلم حتّى كان ينظر إليها طوال الطريق إلى معلّمهما. لم يشعر متى قطعا الطريق أبدا، وأحسّ أنّه حدّق إلى أنمار للحظة وجيزة فقط بالرغم من أنّهما استغرقا وقتا لا بأس به للوصول إلى إدريس الحكيم.

كان إدريس الحكيم ينتظرهما كالعادة، وعندما شاهدهما، وضع يده على لحيته الطويلة وضحك: "هوهوهو." قبل أن يقول: "ما بالك يا صغيرة، إنّ وجهك يبدو كأنّه على وشك الانفجار."

قبضت أنمار ذراعها اليسرى بيدها اليمنى وانكمشت في مكانها، ثم تمتمت: "ذلك..." وأدارت بعد ذلك رأسها نحو باسل.

نظر إدريس الحكيم إلى باسل، فوجده يحدّق إلى أنمار دون أن يرمش، ففهم ما يحدث. ضحك مرّة أخرى ثم قال: "أحم... يا أيّها الفتى باسل."

استفاق عندها باسل أخيرا من أحلام يقظته، ووجد نفسه أمام المعلّم فقال: "إيه. وصلنا. آسف أيّها المعلّم لأنّني لم أحيّيك بشكل لائق." انحنى باسل قليلا ثم شد قبضته بيده الأخرى: "التحيّة للمعلّم."

هدّأت أنمار نفسها ثم فعلت نفس ما قام به باسل. وعندما انحنت، أخذت نظرة خاطفة نحو باسل، فاتّسعت حدقتا عينيها عندما وجدت باسل ينظر إليها بالفعل، وبنفس النظرات التي لا تتزحزح، فاستقامت بسرعة واحمرّ وجهها أكثر ممّا سبق.

حكّ إدريس الحكيم لحيته ثم ابتسم، وتمتّع بما يحدث أمامه. لقد كان ممتعا مشاهدة توتّر هذين الاثنين وتصرّفاتهما البريئة. لقد كانا حقّا مجرّد طفلين منجذبين لبعضهما بالنظر إليهما وهما هكذا.


"أحم..." كحّ إدريس الحكيم ثم قال: "حسنا. لننطلق إذَن. سنأخذ طريقا طويلا قبل أن نصل إلى قارّة الأصل والنهاية."

تعجّب باسل فسأل: "ماذا تعني بذلك أيّها المعلّم؟"

تحرّك إدريس الحكيم بخطوات، لم تبدُ كخطوات. بدا كأنّه يقف في مكانه ولا يحرّك رجليه، ولكنّه لا يزال يتقدّم. كما لو أنّ هناك شيئا يزيحه عن مكانه السابق دون أن يحتاج إلى القيام بأيّ شيء.

حدّق باسل إلى تحرّكات معلّمه، فلمعت عيناه من الحماس. لقد كان إدريس الحكيم في الواقع يستخدم فنّه القتاليّ، وهذا الفنّ هو نفسه فنّ باسل القتاليّ. لقد كان إدريس الحكيم يستخدمه بطريقة سلسة ومرتاحة للغاية.

وضع باسل الحقيبة التي كان يحملها طوال الوقت على ظهره في مكعّب التخزين، ثم تحرّك باستخدام فنّه القتاليّ. أراد أن يلحق إدريس الحكيم الذي كان قد قطع مئات الأميال بالفعل.

بووم

انطلق مستخدما خطوات الرياح الخفيفة، وبقوّته القصوى. لقد كان قد بلغ الغصن الثاني مسبقا، والآن ازداد أكثر تحكّما فيه، لذا كانت سرعته كبيرة للغاية، فقطع عشرات الأميال في لحظات فقط. ولكن بالرغم من أنّه كان يتحرّك بسرعة مذهلة إلّا أنّه لم يلحق معلّمه وبقي يتتبّع الآثار التي خلّفها إدريس الحكيم خلفه عمدا.

أمّا أنمار، فقد ركبت الجوّ بضربها الهواء بقديمها وتكوين موجات اهتزازية سمحت لها بالتحليق بسرعة جنونيّة عبر السماء. كانت تنكمش على نفسها ثم تطلق ضربة من رجليها تجعلها تقطع عشرات الاميال في لحظات فقط. لقد من الواضح أنّها صارت تتقن فنّها القتاليّ أكثر ممّا سبق كذلك.

قطع الثلاثة آلاف الأميال في مدّة قصيرة بسرعتهم المدهشة، حتّى بلغوا منطقة محظورة توقّفوا عندها. وبالطبع، لم يلحق باسل معلّمه أبدا. كان إدريس الحكيم يتدبّر لوقت بالفعل قبل أن يصل باسل وأنمار.

حدّق باسل إلى الأرجاء، ثم قال: "إذَن هذه هي وجهتنا الأولى."

نزل إدريس الحكيم من جبل ثم وقف أمام باسل ثم قال: "لن نبرح مكاننا من هاهنا حتّى تتسيّدا هذه المنطقة المحظورة وتجعلانها تحت سيطرتكما. سيكون مستحيلا تسيّدها بشكل فعليّ وجعلها ملك لكما بما أنّكما لم تبلغا المستويات الروحيّة، ولم يصبح هذا العالم روحيا بعد، ولكن بمقدوركما جعلها تحت سيطرتكما."


تحمّس باسل قليلا ثم قال: "هكذا إذَن. ما المدة التي يجب علينا فعل ذلك بها؟"

"لا توجد مدّة محدّدة. ولكن كلّما كان أسرع كلّما كان أفضل. فحسب تقديراتي، ستصير هذه منطقة محظورة تحوز وحوشا سحريّة من المستوى الثاني عشر والثالث عشر عمّا قريب، وسيكون صعب عليكما عندئذ إخضاعها."

"صعب؟" استغرب باسل وقال: "كيف ذلك أيّها المعلّم؟ لمَ سيكون صعبا علينا بسبب وحوش بهذا المستوى؟"

اقترب إدريس الحكيم من الاثنين، ثم وضع يديه على جبهتيهما، فسطعتا هاتان الأخيرتان، ثم برزت نقطة الأصل عليهما بضوئها المشعّ، ورُسِم مسار نقط الأصل على جسديهما، فإذا بعينيْ إدريس الحكيم تتوهّجان بضوء فضّيّ، وتغيّرت صورته لوهلة، فصار شابّا بها، ثم صرخ: "ختم مؤقّت ! "

كان ذلك لوهلة وجيزة للغاية فقط، وحجب الضوء الفضّيّ رؤية أنمار ولم تستطع النظر إلى معلّمها، فلم تلمح صورته الشابّة.

اختفت نقطة الأصل من جبهتهما، وكذلك المسار من جسديهما، فأحسّ كلاهما بالغرابة نوعا ما. لقد اعتادا على الشعور بتدفّق الطاقة السحريّة في جسديهما، وبحر روحهما، لكنّ ذلك لم يعد يحدث بعدما انتهى إدريس الحكيم.

حرّك باسل يديه بغرابة، وحاول استخدام السحر، ولكنّه لم يستطِع أبدا مهما حاول. لم ينجح في شحذ أيّ قدر من عناصره السحرية. وكذلك كان الحال مع أنمار. لقد خُتِمت عناصرهما السحريّة تماما.

"أيّها المعلّم..."

ابتسم إدريس الحكيم ثم قال: "لهذا سيكون صعبا عليكما إن تأخّرتما."

"ها؟" تفاجأ باسل ثم قال: "ولكن، أيها المعلّم. إنّه مستحيل هزيمة وحوش بالمستوى الحادي عشر هنا دون سحر."


حدّقت أنمار إلى معلّمها، ثم فكّرت فيما قاله باسل. "دون سحر". تردّد ذلك في ذهنها مرارا وتكرارا حتّى فهمت ما يحدث. إنّه كما قال باسل تماما. من المستحيل لهما هزيمة وحوش سحريّة بالمستوى الحادي عشر بدون السحر، نعم بدون السحر. أحكمت قبضتها ثم لكمت الهواء فجأة، وإذا بفنّها القتاليّ يعمل دون أيّ صعوبة.

نظر باسل إلى ما فعلته أنمار، ثم فهم ما يحدث عندئذ. ابتسم ثم تنهّد وقال: "حقّا تحبّ التدريبات الجسديّة يا أيّها المعلّم."

"هوهوهوهو." ضحك إدريس الحكيم وقال: "بالطبع. لا يهم أيّ حاجز سحريّ، أو أثريّ أو روحيّ ملكت، كلّ ذلك سيكون بلا معنى إن ملكت جسدا ضعيفا. تذكّر هذا جيّدا. الدفاع المثاليّ هو الجسد الأكثر تحمّلا. تدرّب وتعذّب، وسترتاح بوقت الكفاح."

تنهد باسل وتقبّل الأمر الواقع، فليس كأنّ هناك خيارا آخرا له. التفت إلى أنمار ثم قال: "حسنا، لنذهب ونسرع في ذلك حتّى لا يطول بنا الأمر هنا."

"لا." أوقف إدريس الحكيم أنمار، ثم قال: "ستعملان مفترقين. لا يحقّ لكما تجاوز الحدود التي ستفرّقكما."

استغرب باسل، ثم نظر إلى أنمار، فوجدها تحدّق إليه بعينين تعبران عن رغبتها في البقاء معه. أحسّ بوخز غريب في قلبه، فاستدار مستعدّا للمغادرة دون أن يقول كلمة واحدة. شعر نوعا ما أنّه من الصعب عليه قول أيّ شيء في هذا الموقف، وأراد أن يذهب في أسرع وقت ريثما يمكنه ذلك.

قال إدريس الحكيم: "لك الجانب الشماليّ. وستأخذ الصغيرة أنمار الجانب الجنوبيّ. لا يحقّ لأحدكما تجاوز النهر الوسيط بين الجانبين."

انطلق باسل بعد ذلك مباشرة واختفى عن الأنظار. لا يعلم كم المدّة التي سيتطلّبها إخضاع الجانب الشماليّ، أو كم ستستغرق أنمار كيْ تنتهي بدورها. كان ذلك يعني أنّهما لن يلتقيا لمدّة طويلة. كان من الواضح أنّ أنمار لا تريد ذلك أبدا، ولكنّ باسل الذي كان معتادا على الهرب منها وكلّ ما كان يريده هو الابتعاد عنها، شعر أنّه يكره افتراقه عنها هكذا.

مرّت بعض الأيّام، وواجه باسل وأنمار العديد من الوحوش السحريّة بمختلف المستويات، لكنّهما كانا لم يواجها أيّ وحش سحري بالمستوى العاشر فما فوق. كان باسل في حالة عويصة، وكانت أنمار بنفس الحال. لقد ظلّا يقاتلان الوحوش السحريّة في ثالث أكبر منطقة محظورة لأيّام دون توقّف، وفقط باستخدام الفنّ القتاليّ. كم كان ذلك صعبا ومرهقا يا ترى؟

كان باسل يجلس متدبّرا في كهف، محاولا استرجاع طاقته السحرية التي فقدها في الأيّام السابقة. فلم تكن هناك فرصة له لفعل ذلك أبدا. بالإضافة إلى أنّه كان يحاول استنباط التعاويذ الذهنيّة الروحيّة أكثر حتّى يصير له رؤية واضحة للغصن الثالث. كان هدفه الأوّل حاليا هو الاختراق إلى الفرع المتوسّط من الفنّ القتاليّ الأثريّ حتّى تصير له فرصة جيّدة ضدّ وحوش المستوى الحادي عشر.

كان يضع باسل ذلك من أولويّاته لأنّه كان يعلم إن بدأ القتال ضدّ وحوش بالمستوى العاشر، فلا شكّ أنّه سيجذب بذلك وحوش المستوى الحادي عشر، والتي لن يكون قادرا على هزيمتها أبدا. وحتّى لو لم تأتي وحوش المستوى الحادي عشر، فسيكون هناك عدد كبير من وحوش المستوى العاشر ولن يستطيع هزيمتها جميعها.


وللمفاجأة، كانت أنمار تفكّر في نفس الشيء في جانبها.

لكن لسوء حظّ أحدهما، لم يسر الأمر كما كان مخططا له. كان سيّئ الحظ هو باسل، وكان ذلك بسبب الغارة التي تعرّض لها على حين غرّة من طرف حشد من الوحوش السحريّة.

كان إدريس الحكيم يراقب من بعيد، وعندما رأى ما يحدث، ابتسم قائلا: "يبدو أنّ الأمر قد بدأ أخيرا. لنرَ الصراع على المنطقة المحظورة الآن. من سيُخضِع من يا ترى؟"

كان في الواقع لا بدّ من حدوث هذا الحدث. فعندما يظهر غازٍ في منطقة محظورة، ستحشد الوحوش نفسها للمقاومة من أجل المنطقة المحظورة التي تعتبر وطنها، ومآلها، وحاميها.

يا إمّا باسل، أو الوحوش السحريّة.

تمتم إدريس الحكيم: "يبدو أنّ الوحوش قد قرّرت استهداف الفتى باسل أوّلا قبل الصغيرة أنمار."

لقد كانت الوحوش السحريّة كائنات تتبع غريزتها، وكان لها ذكاء يختلف حسب مستوياتها وأصنافها. كانت هناك وحوش سحريّة بذكاء مرتفع منذ الصغر، وعندما يمرّ وقت أطول وتكبر، تصير أكثر قوّة وذكاء، ثم تترأّس نوعها كالزعيم.

اختلفت الوحوش السحريّة في مستوياتها غالبا حسب أصنافها. فهناك بعض الوحوش التي يمكنها بلوغ مستويات مرتفعة للغاية، وأخرى يقف نموّها عند حدّ معيّن. يتباطأ تقدّم عمر الوحوش السحريّة عند عمر محدّد وتكبر بعد ذلك ببطء شديد حتّى تبدو كأنّها لا تزداد عمرا، ولهذا تعيش لمدّة طويلة للغاية.

وبسبب ذلك، اختلفت الوحوش السحريّة عن السحرة. فعلى عكس السحرة ذوي العمر المحدود، كانت الوحوش السحريّة بعمر مديد جدّا، وهذا أعطاها الفرصة لبلوغ المستويات الروحيّة بغض النظر عن سرعتها في ذلك. وهذا عنى شيئا واحدا فقط – أقلّ حدّ يمكن لأضعف وحش سحريّ بلوغه هو الخطوة الأولى في المستويات الروحية.

طالما بقيت روح الوحش سليمة فستكون له الفرصة في الغدو وحشا روحيّا مهما تعرّض للقتل من مرّات، ولكن إن حدث واضمحلّت روحه فستكون تلك نهايته الأبديّة. وبالطبع، انطبقت إعادة الإحياء على الوحوش السحريّة فقط، أمّا الوحوش الروحيّة، فكان الأمر مختلفا في حالتها تماما.

ما زال العالم الواهن عالما سحريّا فقط، ولم يشهد حتّى الآن ساحرا روحيّا أو وحشا روحيّا من قبل، ولكن بعدما ارتفع العديد من السحرة في المستوى، حتّى أنّ هدّام الضروس كان قد بلغ المستوى الرابع عشر سابقا، فقد حدثت تغيّرات كثيرة خصوصا في المناطق المحظورة التي استجابت لنموّ السحرة، فنمت الوحوش السحريّة التي تقطنها أيضا.


وحاليا، كانت أقوى الوحوش بثالث أكبر منطقة محظورة بالعالم الواهن تحتوي على وحوش سحريّة بالمستوى الحادي عشر، وكان ذلك شيئا مرعبا للغاية. ففي الشهور الأخيرة، ابتعد الكثير من السحرة عن هذه المنطقة المحظورة ولم يعد يقترب منها سوى سحرة المستوى السادس فما فوق خوفا من الموت.

كان باسل يعلم كلّ العلم مدى شراسة هذه الوحوش السحريّة. ففي الأيّام التي مضت، جاب الجانب الشماليّ طولا وعرضا، ثمّ قدّر عدد الوحوش السحريّة التي تقطن هنا. علم أنّ هناك زعيمين يترأّسان الجانب الشماليّ، أحدهما يترأّس الشمال الشرقيّ والآخرُ الشمالَ الغربيّ. كلاهما كانا وحشين بقمّة المستوى الحادي عشر، وكلاهما قد أتيا حتّى يقتلا الغازي الذي يحاول السيطرة على منطقتيهما.

كانت هناك عشرات آلاف الوحوش تتبع كلّ واحد منهما، ممّا جعلهما مهيبان للغاية. لقد كانا حقّا يقودان كلّ تلك الوحوش السحريّة كأنّهما جنرالان يقودان جيشا. لم تكن هناك سلطة تقيّد هذه الوحوش السحريّة على اتّباعهما سوى الغريزة التي ملكوها. الأضعف يطيع الأقوى. كانت وحوشا فحَكمها قانون الغاب.

كان زعيم الشمال الشرقيّ في السلاسل الجبليّة الحلزونيّة هو الأسد الشيطانيّ. لقد كان هذا الصنف في المستوى الخامس قديما، ولكنّه تطوّر عبر السنوات حتّى بلغ هذا المستوى. كانت قدرة الوحوش السحرية على التطور دائما موجودة، ولكنّها كانت مقموعة لسبب ما. وأتيحت لها الفرصة للتقدّم بالمستويات فقط بعدما كان سحرة العالم الواهن يحرزون تقدّما ملحوظا في بلوغ مستويات أعلى لم يسبق أن بلغها أحد.

والآن بعدما كان قد بلغ هدّام الضروس المستوى الرابع عشر بالفعل والعديد من السحرة تجاوزوا القسم الثاني من مستويات الربط، فقد سمح للوحوش السحريّة بأن تتقدّم عدّة مستويات أيضا، وبعضها كان قد بلغ مستوى مرتفعا جدّا، وخصوصا في قارّة الأصل والنهاية.

والأكثر من هذا كلّه، ازدادت قوّة هذه الوحوش السحريّة بشكل أكبر في الأيّام الأخيرة، وعندما فكّر إدريس الحكيم فيما سبّب ذلك، تيقّن أنّه نموّ باسل المفاجئ. لقد بلغ باسل مستوى حيث أصبح ممكنا تلقيبه بشبه صاعد.

ابتسم إدريس الحكيم من بعيد ثم قال: "أتساءل ما الوحش السحريّ الذي سيكون الأسرع في الاختراق للمستويات الروحيّة بعدما يبلغ الفتى باسل نقطة التحوّل ويصير صاعدا حقيقيّا. يجب أن أصنع بعض المصفوفات استعدادا لتحوّل هذا العالم السحريّ إلى عالم روحيّ."


كان الأسد الشيطانيّ وحشا سحريّا بذكاء مرتفع جدّا، وإمكانيات متقدّمة. كان جسمه يساوي ثلاثة أضعاف الأسد العادي، وكان له ذيل ثعبانيّ، فبدا هذا الذيل لوحده كأنّه وحش سحريّ بالمستوى الثالث أو الرابع، وكان له قرنان رقيقان توهّجا باللون الأحمر فجعلا طبيعته البريّة شيطانيّة أكثر. كلّ خطوة منه جعلت الأرض أسفله تلتهب كما لو أنّ حمما مرّت عليها.

كان جسده البرتقالي قاسيا، ويستطيع تحمّل كلّ أنواع الضربات. كان للأسد الشيطانيّ هيبة كبيرة بين الوحوش السحريّة. وعندما زأر، جعل المنطقة حوله بأكملها تهتزّ، وكلَّ شيء ينصاع لأمره.

وفي الجهة الأخرى، تواجد وحش سحريّ مألوف نوعا ما. لقد كان ذلك نمر البرق الذي واجه باسل وأنمار ذات مرّة عند ذهابهما إلى العاصمة أوّل مرّة. لقد كان آنذاك في المستوى الرابع فقط، ولكنّه ارتفع بالمستويات بسرعة كبيرة للغاية. حتّى أنّ باسل قد اكتشف في الأيّام الأخيرة قوّته وصُدِم بسبب ذلك. لم يكن باسل ليظنّ أنه سيقاتل هذا النمر لمرّة ثانية دون يكون هناك فرق كبير بينهما في القوّة.

كان نموّ الوحوش السحريّة إلى هذه الدرجة سريعا ومخيفا، أسرع من نموّ السحرة حتّى. ولكن ذلك كان لسبب وجيه. فهذه الوحوش السحريّة كانت تحاول الاختراق للمستويات العليا دائما ولكنّها كانت مقموعة. ولهذا عندما اختفى القمع نسبيّا اخترق العديد منها عدّة مستويات مرّة واحدة.

لمح إدريس الحكيم شيئا ما، ثم حكّ لحيته قبل أن يقول: "هذا مثير للاهتمام. سيجد الفتى باسل صعوبة غير متوقعة بالنسبة له إن اعتمد المعلومات التي جمعها في الأيّام الأخيرة."

كان باسل قد أمضى أيّاما في ذلك الكهف، متدبّرا تارة، ومتدرّبا تارة أخرى. حتّى إدريس الحكيم لم يعلم ماذا كان يفعل هناك بالضبط. وعندما أتت الوحوش السحريّة التي تربّصت بهذا المكان لأيّام حتّى تيقّنت من وجود باسل بالداخل، خرج هو إليها ثم نظر إلى حشد الوحوش السحريّة العظيم أمامه. كانت الوحوش السحريّة بمختلف المستويات.

كان هناك عشرات الوحوش السحريّة بالمستوى العاشر، وهذا لوحده كان كافيا ليجعل أيّ ساحر بهذا العالم يرتجف. ومع ذلك، كان باسل هادئا أمام هذا المنظر المهيب. لطالما كان باسل طفلا غير اعتياديّ، ولم يتأثّر بالعديد من الأشياء، فكان هناك القليل من الأشياء التي تثير اهتمامه، لذا كان يتشبّث بأيّ شيء يثير اهتمامه لأّنّه يجد فيه متعة كبيرة.


وبعدما مرّ بتدريبات جهنّميّة من طرف معلّمه، واختبر معنى الحرب الطاحنة الحقيقيّ، وواجه الموت أكثر من مرّة، لم يرتعد أبدا من هول المنظر قبالته. كان باسل واثقا من نجاته كلّيّا، فلم يزعج نفسه بالخوف أو التوتّر.

حدّق إلى الحشد أمامه، ثم ابتسم ونزل الجبلَ. كان يتصرّف بتأنٍّ طوال الوقت ولم يزعج نفسه بالتسرّع.

نظر إليه زعيما الوحوش السحريّة ثم أطلقا هالتيهما، ونيّتيْ قتلهما الشرستين تجاهه. لقد كان ضغطهما لوحده قادرا على شلّ سحرة المستوى السابع.

وقف باسل بكلّ أريحيّة في مواجهة ضغطهما، ولم يتأثّر أبدا بذلك. أخذ الخطوة الأولى، ثم اختفى عن الأنظار في التالية. وعندما حاول الزعيمان معرفة إلى أين ذهب، وجداه قد قطع عشرات الأميال بعيدا عنهما.

كان ذلك غير متوقّع على الإطلاق، حتّى لهذه الوحوش السحريّة. فبالنظر إلى تصرّفات باسل، كان واضحا أنّه واثق بنفسه وسيتشابك معها في القتال.

ابتسم إدريس الحكيم وتمتم: "خيار حكيم يا فتى. فحسب معلوماتك التي جمعتها في الأيّام الأخيرة، هذان الوحشان بالمستوى الحادي عشر، والقليل من وحوش المستوى العاشر. ولكن الآن الأمر مختلف كلّيّا. إنّهما الآن في المستوى الثاني عشر، وهناك العشرات من الوحوش بالمستوى العاشر، إضافة إلى القليل من أخرى بالمستوى الحادي عش..."

حدّق المعلّم إلى باسل بتركيز أكبر، فلاحظ شيئا، تمتم مرّة أخرى: "ذلك مثير للاهتمام حقّا. حتّى أنا لم أتوقّع هذا."


عندما علم إدريس الحكيم عن شيء آخر، صارت تصرّفات باسل الحالية غير منطقيّة إليه أيضا، وصار غير قادر على تفسير سبب هربه ذاك. ظنّ أنّه هرب كي ينجو بحياته، ولكنّ الأمر كان مختلفا تماما.

قطع باسل مئات الأميال، وكانت الوحوش السحريّة تتبعه باستمرار. كان يبدو كأنّه فأر قد حوصر من جميع الاتجاهات ولم يعد هناك مهرب له. زاد ذلك من انتباه إدريس الحكيم أكثر فقط. لقد لاحظ أنّ باسل لم يكن يستخدم كلّ ما يملك للهرب، وبدل ذلك كان يبقي على مسافة آمنة بينه وبين الوحوش دونَ أن تخسره. كان واضحا أنّه يجرّها لمكان ما.

أدرك إدريس الحكيم أخيرا وجهة باسل، فعبس وتمتم: "إذن هذا ما أنت مقدم عليه يا أيّها الفتى باسل، حسنا، إنّه ليس ضدّ القواعد."

تنهّد إدريس الحكيم وحدّق إلى باسل بنظرات حنونة. لقد كانت أنمار تحبّ باسل كثيرا، وكان باسل يحاول لمدّة طويلة ألّا يحبّها، فظلّا بعيدين عن بعضهما بعضا. لا أنمار شعرت بالهناء في قلبها، ولا باسل استطاع الهرب من السلسلة التي كانت تقيّده.

وبمشاهدة حالتهما هاته، لم يسع إدريس الحكيم سوى أن يتذكّر تلك المرأة، فغطّت صورتها ذهنه لمدّة حتّى نسي كلّ ما يحدث حاليا ودخل لعالم لا بثانويّ أو رئيسيّ. كان بعالم آخر تماما أنشأته ذكرياته فغُمِر بمشاعر حرّكت كيانه كلّه. حتّى أنّ صورته العجوزة قد اختفت وحلّت مكانها صورته الشابّة. كلّ ذلك بسبب تلك الذكرى عن تلك المرأة.
لقد كان شكل هذه المرأة في عقله مترسّخا، لا يمكن نسيانه أو إزالته أبدا. ارتدَتْ فستانا حريريّا بلون أزرق فاتح، فجعل بشرتها البيضاء تبدو أكثر إثارة مما هي عليه. كانت تبدو كطفلة مباركة أنعِمت بوقار عظيم. كانت بعض أجزاء رجليها تبدو واضحة عبر فستانها، ممّا زاد من سحرها.

كانت بشعر أسود طويل يصل إلى قدميها، فكان جميلا كالليل الهادئ المزيَّن بنجومه المضيئة، والتي كان وجهها الأبيض يمثّلها، فأنار المكان الذي حلّه. كان لديها قوام يزلزل الممالك والإمبراطوريات. كان صدرها ونهدها مرتفعين ومكتملين. ملكت خصرا نحيفا، وردفا ثقيلا، وساقين طويلتين أكملتا ذلك التناسق بشكل مدهش. لقد كانت أم باسل جميلة جدّا، ولكنّها نقُصت ذلك الوقار والعظمة اللذين بورِكت بهما هذه المرأة. لم يكن هناك مجال للمقارنة حتّى في الواقع. لقد كانت تلك المرأة أحد أجمل عشرة نساء بالعوالم الأربعة عشر بأكملها.


عاد إدريس الحكيم إلى رشده بعد مدّة من الوقت ثم تمتم: "هل افتقدَتْني يا ترى؟" ابتسم بتكلّف قبل أن يضيّق عينيه حزنا، متنهدّا: "أو يجب عليّ القول هل سامحَتْني أوّلا؟"

لقد كان قلب إدريس الحكيم يتقطّع عندما يتذكّر هذه المرأة. حدثت الكثير من الأشياء في حياته، ومرّ بعذابات مختلفة. بدءا من صغره والتقائه بالملك الأصليّ إلى الآن، لم يكن هناك ما هو أصعب بالنسبة إليه أكثر من المعاناة التي يواجهها قلبه بسبب تلك المرأة. لقد كانت امرأة مختلطة الدم من عرقين، فكان هناك تعقّدُ مشاكلٍ لم يكن ممكنا حلّه سوى عن طريق إراقة الدماء.

ضاقت عينا إدريس الحكيم، وكان الحزن باديا على وجهه، ولم يستطع سوى أن يأمل: "لقد مرّت مدّة طويلة منذ آخر مرّة رأيتها فيها. أتساءل إن كانت ستسمح لي برؤيتها في المرّة القادمة على الأقل ! "

عاد إدريس الحكيم إلى هذا العالم بعد مدّة، ثم حدّق إلى باسل الذي كان يتّجه نحو ذلك المكان. شغّل نظرته السامية وبصر بها آلاف الأميال بعيدا. وفي ذلك المكان، كانت تقبع أنمار بينما تتدبّر فنّها القتاليّ. كانت قد بدأت تستنبط الغصن الثالث، ولم يتبقّ لها سوى القليل على بلوغ الفرع المتوسّط.

لقد كان الفنّ القتاليّ ذو الأصل السامي شيئا سيُسقِط لعاب كبار شخصيات العوالم. فعند إكمال كل الفروع، أي عندما ينتهي الساحر أو الساحر الروحيّ من استنباط وإتقان المرحلة الأثريّة، فسيُلقَّب عندها بالساحر الروحي الأثريّ. ولا يكون ذلك مجرّد لقب من فراغ. فالساحر الروحيّ الأثري له شأن كبير بسبب قوّته المرعبة.

كان الساحر الروحيّ الأثريّ صاحب فن بأصل سامٍ مختلف تماما عن ذاك الذي بفنّ لم يبلغ السموّ. فالفنّ القتاليّ يبلغ المثاليّة عندما يبلغ السموّ. غير ذلك، يبقى فنّا بثغرات لأنّه لم يبلغ الذروة حتّى يصير مثاليّا.

والآن، كانت أنمار تتدرّب على الفنّ القتاليّ السامي سحق الخلق. لو علم أيّ شخص من العوالم الروحيّة عن هذا فسوف يسقط فكّه السفليّ من الدهشة، ويصنع بركة من لعابه. سيريد أن يحصل عليه بأيّ طريقة ممكنة.

وفي تلك الأثناء، كان باسل قد بلغ هدفه. لقد كانت وجهته هي المكان الذي حرّم إدريس الحكيم عليهما عبوره – النهر الذي يفصل الجانب الشماليّ عن الجانب الجنوبيّ. لقد كان ذلك النهر مليئا بالوحوش السحريّة البحريّة، وانتقلت عبره أنواع مختلفة من الأسماك والمخلوقات البحريّة الأخرى.

معظم هذه الأسماك كان سحريّا، وكان هناك بالطبع أسماك عادية. كان هذا النهر يقطع مئات الأميال عبر السلاسل الجبليّة الحلزونية، وبدا كتنين مائيّ يعبر الأرض بعدما قرّر التخلّي عن السماء. كان هذا النهر غنيّا بطاقة العالم ممّا جعله يحمل أنواعا شرسة من المخلوقات البحريّة.


فالأسماك لوحدها هنا كانت قادرة على تهشيم سحرة المستوى السادس ببساطة. لذا غالبا ما ابتعد سحرة هذا العالم عن هذه المنطقة، أو بالأحرى، عن مركز السلاسل الجبلية الحلزونيّة.

وقف باسل عند النهر، ثم حدّق إلى الوحوش السحريّة التي تتبعه. ولكن عندما اقترب من ذلك النهر، توقّفت تحرّكات الوحوش السحريّة بتوقّف الزعيمان فجأة، ولبثت في أماكنها دون القيام بأيّ شيء. كان من الواضح أنّ هذه الوحوش السحريّة لا تستطيع الاقتراب من هذا النهر بأريحيّة.

ابتسم باسل ثم قفز على حين غرّة وغطس إلى أعماق النهر. كان ذلك جنونا بالنسبة لأيّ شخص من هذا العالم، ولو رآه أيّ شخص فستفشل ركبتيه من الرعب. لقد كان هذا النهر يُلقّب في هذا العالم باسم معيّن – نهر ددمم التنين.

كانت هناك أسطورة تقول أنّه في وقت ما قديما، انحدر تنين سامٍ إلى هذا العالم البسيط هاربا من شيء ما. فلبث بهذه السلاسل الجبلية لآلاف السنين، منتظرا إصابته البالغة تُشفى.

وفي ذلك الوقت، لم تكن هناك مثل هذه السلاسل الجبلية الحلزونيّة، ولكنّها برزت بعدما ظهر هذا التنين العظيم. قيل أنّ سقوطه ذاك سبّب زلزالا هزّ العالم الواهن لعشرة أيّام متواصلة، فبرزت هذه السلاسل الجبليّة الحلزونيّة بسبب ذلك. وبالطبع، نهر ددمم التنين كذلك.

قيل أنّ هذا النهر كان المكان الذي لبث التنين العظيم في أعماقه. وبسبب ذلك، فقد تغذى هذا النهر من دماء الوحش السامي طيلة آلاف السنين حتّى صار من أفضل ثلاث مواقع في العالم الواهن غنيّة بطاقة العالم. كانت هناك إشاعة على أنّ التنين العظيم ترك بصمة له كوريد تنين في أعماق هذا النهر.

لا يعلم احد إن كانت مثل هذه الأسطورة حقيقة أم لا، ولكن الشيء الأكيد كان هو غنى هذا النهر بالطاقة السحريّة. وبسبب ذلك، حمل في أعماقه أقوى الوحوش بهذا العالم على الإطلاق. قيل أنّه الوحش الذي يسكن في باطن هذا النهر هو أقوى وحش في العالم الواهن، وقيل أنّه لا يستطيع أن يكون أقوى من الوحوش السحريّة التي تتزعّم قارّة الأصل والنهاية.


اختفى باسل لوقت طويل، وبقيت الوحوش السحريّة تنتظر هناك بصبر. لم يتجرّأ أيّ وحش على الاقتراب أكثر من نصف ميل من البحيرة. كانت غريزة هذه الوحوش السحريّة حادة للغاية، وتجنّبت بسببها العديد من المخاطر، ولكن هذه المرّة لم يبدُ أنّها تتبع غريزتها فقط، وإنّما كان أقرب إلى تجنّبها هذه المنطقة المحرّمة لأنّها تعلم سبب ذلك.

وفي هذه الأثناء، كان باسل يستخدم فنّه القتاليّ لزيادة سرعته بداخل الماء، فانطلق كشعاع ضوء يخترق الأعماق. وصل إلى عمق حيث لم يعد هناك نور وبقي الظلام الحالك فقط. كان كلّ شيء يحيط به غير مرئيّ لعينيه.

وفجأة، أحسّ بنيّة قتل مرعبة آتية من خلفه، فأسرع بضرب عشر لكمات متتابعة دون توقّف، وفي كلّ لكمة ازدادت القوّة حتّى ولّد صدمّة داخل الماء كوّنت موجات عبرت طريقها إلى أن بلغت سطح النهر.

استخدم باسل حواسّه ثم واجه هذا المخلوق الذي لا يعلم عن شكله، ولكنّه كان قدّ مرّ بتدريبات متنوّعة من معلّمه حتّى يكون قادرا على القتال ولو بعينين مغلقتين. فلطالما كان واعيا، سيكون قادرا على القتال بنفس المردوديّة. وبالطبع، كساحر كان بإمكانه الرؤية قليلا في هذا الظلام، ولاسيما إن استخدم التعاويذ الذهنية الروحية، فسيكون قادرا على تعزيز نظره حتّى يصبح قادرا على الرؤية، ولكنّه لم يفعل ذلك واستغلّ الفرصة لشحذ حواسّه أكثر.

وبعدما قاتل باسل هذا المخلوق المجهول داخل النهر لوقت معيّن، علم عن طوله وعرضه، وعن قوّته القصوى أيضا، حتّى انّه استطاع تحديد شكله. لقد كان ذلك وحشا سحريّا بالمستوى العاشر، وبلغ طوله عشرة أمتار، وعرضه نصف طوله.

علم باسل أنّه عبارة عن حوت أعماق سحريّ، ولهذا لم يتخاذل أبدا واستخدم كلّ ما يملك من قوّة للهرب. لم يكن هدفه من الغوص عميقا هكذا هو القتال أبدا. لقد كان ذلك لتحقيق شيء آخر تماما.

لحق الحوت الضخم باسل إلى الأعماق بدون تردّد. لقد كانت هذه منطقته الخاصة، وموطنه، فلم يفكر لثانية قبل أن يتبع فريسته التي كان متأكّدا من قدرته على هزيمتها.

قابل باسل وحوشا سحريّة أخرى في طريقه، وبمجرّد ما أن كان يعلم أنّها بالمستوى العاشر فما فوق، كان يستفزّها ويهرب مرّة أخرى. وبعد مدّة، كانت هناك العشرات من الوحوش تتبعه في كلّ مكان.


كان ينتقل من مكان إلى آخر، بينما يستفز الوحوش السحريّة أكثر فأكثر بين حين والآخر. كلّ ذلك زاد من غضب الوحوش السحريّة، وتبعته بأكبر سرعة تملكها. ومع ذلك، كان باسل يستخدم فنّه القتاليّ لمدّة طويلة الآن، لذا كان قد بلغ ذروة سرعته، ولم يكن بمقدور حتّى هاته الوحوش السحريّة المائية أن تلحقه في بيئتها الخاصة.

وبعد وقت طويل، استطاع باسل أخيرا أن يحدّد الاتجاه الذي يريد أن يأخذه. فبعدما حاول كثيرا، لاحظ أنّ الوحوش السحريّة تنقص تدريجيّا عندما كان يأخذ هذا الاتجاه، وكانت الوحوش السحريّة تنقص بشكل تصاعديّ حسب المستوى. فكلّما قطع مسافة أكبر في هذا الاتجاه، اختفى وحش بمستوى أرفع.

تأكّد تماما من أنّ المسار الذي يأخذه هو الصحيح. وبعدما تعمّق كثيرا، اختفت كلّ الوحوش السحريّة التي كانت تتبعه، ولم تشأ أن تفعل ذلك مهما استفزّها.

تعمّق لمئات الأمتار أكثر، فأحس عندها بضغط كبير. لم يسبق له أنّ شعر أبدا بمثل هذه الهالة والنيّة القاتلة من أيّ وحش سحريّ. بدون شكّ، لقد هذا الوحش القابع هناك هو أقوى وحش سحريّ سبق وواجهه.

لا عجب في عدم جرأة الوحوش السحريّة على اللحاق به. لو اقترب أيّ كائن من هذا الوحش السحريّ فسيجد نفسه ميّتا قبل أن يعلم حتّى.

ابتسم باسل في الأعماق، وحافظ على استخدام تعاويذه الذهنية الروحية باستمرار حتّى يبقى فنّه القتالي في ذروة استخدامه، ثم قطع مئات الأمتار المتبقيّة في لحظات وجيزة.

وأمام باسل، كان هناك شيء عملاق. استخدم باسل نظر الساحر وزاد من قدرة ذلك بالتعاويذ الذهنية الروحية، فأصبح قادرا على رؤية ما أمامه. كان هذا الشيء الراقد هناك يبدو كأنّه لم يتحرك لمدّة طويلة جدا، حتّى أنّ الطحالب قد نمت على جسده.


كان باسل يبعد عنه بعشرات الأمتار فقط، لذا كان قادرا على استشعار هيبة هذا الوحش المرعبة. كلّ شيء في هذا العالم كان مجرّد نمل مقارنة بهذا الكيان المدهش. حتّى أنّه بلع ريقه عندما فكّر في نسبة تحقيق مراده. هل سيستطيع النجاة وتحقيق مراده؟ أم سيقضي عليه هذا الكيان المرعب قبل ذلك؟

شدّ عزيمته، ثم تحرّك في دائرة لمدة قبل أن ينطلق نحو الوحش السحريّ بسرعة مجنونة.

بووم

اصطدمت قبضة باسل بالوحش السحريّ، فكان ذلك بمثابة *** يلكم رجلا بالغا بكامل قوته. فحتّى لو كانت مؤلمة، لم تكن قاتلة أبدا أو أمكنها ترك جرح بالغ. وبسبب ذلك، استيقظ الوحش السحريّ من سباته العميق والطويل، وبالطبع، كأيّ أحد آخر، كان غاضبا للغاية. لم يكن هناك أيّ شخص أو حيوان أو وحش سينهض بمزاج جيّد بعد إيقاظه بمثل هذه الطريقة المؤلمة.

غواااااه

صرخ الوحش السحريّ، وفتح عينيه في نفس الوقت ثم نظر إلى ما سبّب له ذلك. رأى باسل يطفو أمامه، فازداد غضبه عندما علم أنّ مخلوقا صغيرا كهذا سبّب له ذلك الألم.

أمّا باسل، فقد حدّق إلى الوحش العملاق أمامه، ثم أشار بقبضته تجاه الوحش السحريّ العملاق، وابتسم متكلّفا، ممّا جعل الوحش العملاق يهيج ويصل غضبه إلى قمّته. وفي لحظة، انطلقت هالته ثم جعلت النهر كلّه يرتجف. هربت جميع المخلوقات بهذا النهر إلى أبعد مكان يمكنها بلوغه.

وفي نفس الوقت، ضرب باسل بقبضته فوصل تأثيرها إلى الوحش السحريّ، وبالطبع، لم يكن لها أيّ تأثير جسديّ عليه، وكانت مزعجة أكثر فقط لا غير. كلّ ذلك جعل من الوحش السحري العملاق يريد التخلّص من باسل بأسرع وقت، ولكن بأبطأ طريقة.

وفي اللحظة التالية، اختفى باسل من أمام الوحش السحريّ العملاق واتّجه نحو الأعلى، نحو سطح النهر. وعندما رأى الوحش العملاق باسل يهرب بعدما أغضبه لهذه الدرجة، زاد هيجانه أكثر، ثم تبع باسل بسرعة مجنونة. وفي لحظة، وجد باسل الوحش العملاق خلفه مباشرة وفمه مفتوح على مصراعيه مستعدّا لقضم باسل.

وفي الواقع، كان باسل من تعمّد ترك الوحش العملاق يلحقه. وعندما كان أن يُعضّ، زاد من سرعته أكثر فقضم الوحش السحريّ الماء فقط، ممّا زاد من غضبه إلى درجة مخيفة. لم يعد هناك أيّ شيء يستطيع إعادته إلى رشده غير القضاء على ذلك المخلوق الدنيء الذي تجرّأ على مضايقة سباته.

قام باسل برمي بعض اللكمات في طريقه إلى الأعلى، وذلك جعل الهائج ثائرا فقط. ازدادت سرعة الوحش السحريّ بدرجة مخيفة على حين غرّة، فلاحظ باسل أنّه يستخدم سحر الماء من أجل أن يزيد من سرعته. توقّف باسل عن استفزازه أكثر وانطلق بأقصى سرعة يملكها.

قطع آلاف الأمتار، وأصبح أخيرا في الجانب المضيء من النهر.

كان إدريس الحكيم يطفو بعيدا في السماء، وعندما أحسّ بهالة الوحش السحريّ في المرّة الأولى، تفاجأ أيضا. لم يكن يظنّ أنّ هذا الوحش قد بلغ مثل ذلك المستوى في الواقع. لقد كان ذلك غير متوقّع. ظنّ أنّه سيكون في قمّة المستوى الثاني عشر على الأكثر، ولكن ذلك كان مختلفا.

شعرت الوحوش السحرية خارج النهر بما كان قادما، فبدأ العديد منها يهرب بالفعل ولم يهتم للزعيمين بعد ذلك. كان الكيان الذي يقترب أكثر إخافة من الأسد الشيطانيّ ونمر البرق بالنسبة لها.

تناقص عدد الوحوش السحريّة بكثير عمّا سبق، فانخفض من عشرات الآلاف إلى الآلاف، ومع مرور الوقت، صارت مئات فقط. وبعد مدّة أطول، لم يتبقّ سوى حوالي المائة فقط.

كان ذلك منظرا غريبا للغاية. تفرّقت جميع الوحوش السحريّة في جميع الأنحاء. كان ذلك مشابها نوعا لما حدث عندما أتى إدريس الحكيم إلى هنا أوّل مرّة وأرعب الوحوش السحريّة فجعلها تخلي المنطقة بمحيط ألف ميل.

وبعد مدّة أخرى، انطلق شيء ما من النهر، فجعل الوحوش السحريّة تزيد من حذرها بسبب رعبها. كان هذا الشيء هو باسل الذي بلغ علوّا في السماء، وبعدما نزل إلى الأرض، نظر إلى عدد الوحوش السحريّة المتبقّية ثم ابتسم وتمتم: "لقد كانت النتيجة أكبر مما كنت أتوقّع ! "

حدّق إلى الوحوش السحريّة، كما فعلت هي الأخرى تجاهه. تقدّم خطوة إلى الأمام، فجعل بذلك الوحوش السحريّة تهلع. كانت غريزتها تخبرها أنّها عبثت مع الشخص الخطأ.

وفي اللحظة التالية، انفجر النهر فجأة، وظهر مخلوق عملاق جعل الوحوش السحريّة المتبقيّة ترتجف تماما. وقبل أن يكون هناك أيّ وقت لها للهرب، كان باسل قد اتّجه نحوها بسرعة كبيرة، فتبعه المخلوق العملاق، مّما أدّى إلى التصادم بينه وبين باقي الوحوش السحريّة بسبب باسل الذي دخل بينها.

كان ذلك الوحش يشبه التمساح، ولكنّه كان مختلفا عن ذلك بكلّ تأكيد. فعندما حلّق إلى السماء، انبسط جناحاه الكبيران، واللذان بدوَا كذينك الخاصّين بالخفّاش، إلّا أنّهما كانا أكثر صلابة وضخامة؛ فبدا لوهلة كتنّين عتيق أتى من عالم سامٍ. وعندما حرّكهما، اهتزّ المكان وعصفت الأرجاء. وبزئيره، شلّ حركة الوحوش السحريّة كلّها. كانت له مخالب يمكنها اختراق كلّ ما تلمس، وجلد حرشفيّ قاسٍ لا يقدر أحد على اختراقه. اتخذ شكل التمساح، ولكنّه امتلك مواصفات تنينيّة أسطوريّة.

حتّى الأسد الشيطانيّ ونمر البرق لبثا في مكانهما غير قادرين على الهرب ولا على الهجوم. وبسبب ذلك، مرّ باسل بين الوحوش ببساطة دون أن يتعرّض للإعاقة قطّ.

حدّق إدريس الحكيم إلى الوحش السحري ثم قال باهتمام: "هذا مثير للاهتمام حقّا. يبدو أنّ هذا المكان مميّز بالفعل ! أن يكسب مثل هذه المواصفات المدهشة، يا له من تطوّر. أتساءل إن كان سيتحوّل إلى شكل أقرب إلى التنين عندما يتأصّل."

ابتسم بينما ينظر إلى باسل، وأكمل: "يبدو أنّه أغضب وحشا قد لا يستطيع التعامل معه جيّدا فيما بعد؛ فهذه السحلية حقّا مذهلة بصفاتها العادية، ولكنّها قد اكتسبت أخرى أسطوريّة. تمساح الأعماق الفولاذي. لا، سيكون التمساح التنينيّ إن تأصّل وحدث أن تحوّل بشكل كبير."

وقف باسل خلف الوحوش السحريّة، والتي كانت تقابل تمساح الأعماق الفولاذيّ في تلك الأثناء. كان الوحش العملاق غاضبا للغاية، حتّى أنّه صار غير قادر على تمييز أيّ شيء آخر سوى باسل. لذا عندما أراد أن يتّجه نحوه، حرث طريقه إليه والوحوش السحريّة التي أمامه تحت أرجله الأربعة. سحقت كلّ خطوة منه عظام الوحش الذي لقي نفسه تحت ذلك الوزن العظيم والمخالب المهيبة.

وحوش سحريّة بالمستوى العاشر كانت مجرّد حشرات أمام هذا الوحش العظيم، ولم تقدر على الحركة أمامه، ففشُلَّت وكان مصيرها السحق. حتّى أنّه شحن طاقته السحريّة، وشحذها بمخالبه، فصارت المخالب أمواجا قاطعة. كان سحره الوحش العملاق هو الماء، وعلى الأغلب، لقد كان أقوى وحش سحريّ بهذا العنصر في العالم الواهن. فقط بإدارته للماء بأرجله، كان باستطاعته تكوين أمواج وركوب بحر يستطيع السباحة فيه كما يحلى. كان هذا الوحش السحريّ يستطيع صنع حقل حيث يعيث فيه فسادا كما يشاء.


وفي تلك الأثناء، لاحظ باسل شيئا غريبا يحدث لم يسبق له وأن رآه. كانت هناك طاقة غريبة تحيط تمساح الأعماق الفولاذيّ. كان لونها أزرق فاتح، وكانت مألوفة نوعا ما. وعندما دقّق النظر، وجد أنّ هذه الهالة الزرقاء لا تحيط بالوحش العملاق في الواقع، ولكنّها تنجذب إليه. كان ذلك أمرا غريبا، وتذكّر باسل نفسه عندما تنجذب إليه طاقة العالم. لقد كان ذلك مشابها نوعا ما لحالته.

كان الوحش يتقدّم إليه بسرعة كبيرة، ولهذا لم يكن لدى باسل وقت ليحلّل به الموقف جيّدا. ففي لحظة كان تمساح الأعماق الفولاذيّ قد شقّ طريقه نحوه، وقضى على العشرات من الوحوش السحريّة بالمستوى العاشر.

اقترب الوحش العملاق من باسل، ولكنّ هذا الأخير لم يثبت في مكانه وانتظر الموت. شغّل تعاويذه الذهنيّة الروحيّة وانطلق مباشرة إلى جهة الأشد الشيطانيّ. كانت سرعة باسل مدهشة للغاية، وعندما شاهده إدريس الحكيم، ابتسم وقال: "لقد فاجأني سابقا بعدما رأيته بعد أيّام صرفها في ذلك الكهف وخرج بهذا المستوى."

شاهد المعلّم تلميذه ينطلق بخطوات خفيفة بحيث يكاد المرء لا يرى صورة القدمين عندما كان باسل يحرّكهما، ونتيجة لذلك كان يولّد قوّة دفع عظيمة. تكرّرت العمليّة في دائرة، فسُخِّرت قوّة الدفع التي تكوّنت سابقا لتزيد من سرعة الحركة، وهكذا استمرّ الأمر. وفي اللحظة الأخيرة قبل أن يبلغ باسل الأشد الشيطانيّ، سُخِّرت كل قوّة الدفع التي تراكمت وانطلقت مرّة واحدة كلكمة صاحبها صوت يشابه الرعد.

بووم

كانت لكمة باسل تلك تحمل قوّته الجسديّة، والتي كانت هي نفسها تلك التي يملكها صاعد. لقد كانت قوّة جسديّة لا يستهان بها أبدا، ولوحدها كانت قادرة على سحق سحرة المستوى الثامن والتاسع. والآن بعدما أضيف لها فنّ أثري بأصل سامٍ، أصبحت قبضة باسل تساوي جبلا بثقلها.

انطلق جسد الأسد الشيطانيّ محلّقا رغما عنه واصطدم بجبل بسرعة مرعبة. وفي اللحظة التالية، أحسّ باسل بنيّة القتل القادمة من خلفه، فاستخدم فنّه القتاليّ للهرب، ولكنّه كان متأخرا خطوة، فتعرّض لقبضة التمساح العملاق بمخالبها، وبرشّاش مائيّ يستطيع اختراق معادن العالم الأقسى بسهولة. كان ذلك الرشّاش لوحده قادرا على اختراق سحرة المستوى الثامن التاسع بدروعهم السحريّة.

باام


تبع باسل الأسد الشيطانيّ وارتطم به ثم بالجبل، ولم يتوقّف الأمر عند ذلك الحدّ. بل اخترق باسل والأسد الشيطانيّ معا الجبل بسبب القوّة العظيمة، حتّى التقيا بجبل آخر. كان ذلك التمساح العملاق وحشا مرعبا حقّا.

"هوهوهو." ضحك إدريس الحكيم بينما يراقب، ثم قال مستمتعا بما يحدث: "لولا كونه صار يمتلك جسد صاعد، واخترق إلى الفرع الكبير أيّ الغصن الرابع من الفنّ القتاليّ، لكان في عداد الموتى."

كان ما فاجأ معلّم باسل هو اختراق الأخير في الأيّام التي صرفها في ذلك الكهف. لقد كان ذلك استثنائيّا كثيرا، ويقترب من أن يكون غير عادل. فعلى عكس إدريس الحكيم في صغره، عبقريّة باسل لا حدود لها، وتنمو مع مرور الوقت ولا تضمحلّ.

نهض باسل بجسد مخدوش فقط، فوجد الأسد الشيطاني يشحن طاقته السحريّة كي يهاجمه. لقد كان ذلك فعلا وحشا سحريّا في المستوى الثاني عشر، ولم يكن من السهل قتله بذلك فقط.

التهب جسده وأصبحت ناره قادرة على حرق وحوش المستوى العاشر بسهولة. زئر ثم انقضّ على باسل بجسمه الصلب، وفي نفس الوقت، توهّج قرناه الأحمران، ثم فحّ ذيله الثعبانيّ قبل أن ينشطر فجأة إلى ثعبانين. انشطر الثعبانان بعد ذلك ليصبحا أربعة، وفي لحظة، تفرّق كلّ ثعبان عن الجسد الرئيسيّ ساحبا معه أسد شيطانيّ.

كانت هذه قدرة الأسد الشيطانيّ الحقيقيّة – الانشطار. أو يمكن تسميتها بالنسخ أيضا. لم يكن هناك العديد من الوحوش السحريّة التي تملك مثل هذه القدرة المدهشة، وحتّى لو امتلكها بعضها، لا تكون قوّة هذه النسخ كبيرة، لأنّ قوّة الأصليّ تنشطر أيضا بانشطاره.

ولكن الحال كان مختلفا مع الأسد الشيطانيّ. فعندما انشطر إلى أربع، نقُصَت قوّته قليلا فقط، وكان يستطيع استخدام مقدار خمس وسبعين في المائة من قوّته الأصليّة بكلّ نسخة. وبالطبع، كانت هذه القدرة محدودة الوقت ولم يكن بإمكانه استخدامها لوقت طويل، ولكنّها لطالما كانت كافية ليتغلّب على المصاعب التي تواجهه.

حدث كلّ ذلك بسرعة كبيرة، ولم يكن لدى باسل وقتا ليردّ على هذا الهجوم المباغت.


بووم بووم

صنعت الأسود الشيطانيّة الأربعة حفرة منصهرة في المكان الذي كان يقبع فيه باسل، وتصدّعت الأراضي القريبة. كان الانصهار الذي حدث بسبب قوّة النار التي دُمِجت من النسخ الأربع، وكانت التصدّعات بسبب ثقلها. لقد كانت هذه النسخ قادرة على فرم خصومها بشكل سريع وبسيط – القوّة والنار العظيمان.

وثب باسل من إحدى التصدعات، محروق الذراع، ولكنّه كان لا يزال قادرا على تحريكها. فمهما حدث، يبقى صاحب جسد صاعد. حتّى لو احترق جلده كانت عضلاته وعظامه قويّة بشكل مذهل. حدّق إلى محيطه ثم ابتسم. لقد انحرف الأمر قليلا عمّا أراده، ولكن ليس لدرجة الخروج عن المسار الذي يجب أن تأخذه الأمور.

انتظر قدوم الأسود الشيطانيّة، وفي الوقت نفسه كان تمساح الأعماق الفولاذيّ آتيا بسرعة جنونيّة، وهذه المرة كان قادما محلّقا. حرّك جناحيه فاخترق بهما الهواء، ولوهلة، بدا كأنّه اخترق الفضاء نفسه. لم يعلم أحد ما حدث حقّا، إلّا إدريس الحكيم الذي كان يشاهد من الأعلى.

حكّ إدريس الحكيم لحيته ثم قال بعدما توهّجت عيناه حماسا: "مواصفات جنونيّة. كم من قرن، لا، كم من ألفيّة احتاج حتّى يكتسب مثل هذه الصفة المرعبة ويحوّلها لقدرة؟ هذا المكان مغرٍ حقّا، ولكن أظنّني سأتركه للفتى باسل."

"عندما يتحوّل هذا العالم السحريّ إلى عالم روحيّ، سنرى ما ستصل إليه هذه السحليّة. لا، قبل ذلك، لربّما تتأصّل أكثر من مرّة عند دخولها للمستويات الروحيّة مباشرة. إن حدث ذلك، فسيجب علينا العودة إلى هنا." تابع إدريس الحكيم قتال باسل باهتمام.

لقد أصبح باسل في الفرع الكبير الآن، ولم يتبقّ له سوى ثلاث مراحل حتّى يتقن الفنّ الأثريّ بالكامل، ولكن عند الوصول إلى الغصن الرابع، يصبح فهم واستنباط الأغصان الثلاثة المتبقية صعبا للغاية. لقد كانت تلك الفروع هي الأصعب في إتقان الفنّ الأثريّ، ولم يتجاوزها سوى القليل. فبعد كلّ شيء، يواجه الشخص اختبارا من الفنّ نفسه عندما يريد الاختراق، وهناك من يجد نفسه مقتولا بالتعاويذ الذهنيّة الروحيّة.

ظهر التمساح العملاق فوق باسل مباشرة، وبدا كأنّه انتقل عبر الفضاء، فوصل في لحظة واحدة فقط. لم تكن تلك مجرّد سرعة بسيطة، ولكنّها كانت تجاوزا للفضاء نفسه، ممّا سمح له بالانتقال لمسافات عديدة في وقت قصير جدّا.


رفرف جناحيّه، ثم استنشق الهواء، ونفثه مرّة واحدة، ولكن ما خرج من فمه لم يكن نفسه ما دخل من أنفه. لقد استنشق الهواء، ولكنّه زفر قنبلة اخترقت الفضاء بسرعة، وبلغت باسل في لحظة واحدة. كانت هذه القنبلة عبارة عن كرة من عنصر الماء، مركّزة بشكل خارق. كان شكلها الكرويّ يجعلها تبدو كجوهرة زرقاء تحمل قوّة سامية.

سقطت الجوهرة الزرقاء على باسل، ولكنّ هذا الأخير كان مستعدّا تماما بالرغم من سرعة الهجوم عليه. اختفى بعدما خلّف حفرة كبيرة وراءه نتيجة لإقلاعه القويّ، وفي المقابل، وجد الأسد الشيطانيّ الذي كان يتقدّم نحوه نفسه محاصرا في الدمار الذي صنعته الجوهرة الزرقاء.

فعندما لامست الأرض، محت محيطا قطره نصف ميل، وصنعت حفرة عمقها لا يرى. لقد كان ذلك هجوما من وحش سحريّ فاق كلّ توقّعات باسل. لقد كان وحشا سحريّا بقمّة المستوى الرابع عشر. لذا جعلت واحدة من أفضل هجماته فقط هذا المكان في حالة يرثى لها.

وبسبب هذا، كان مصير النسخ الأربع الموت، إلّا أنّ النسخة الأصليّة ضحّت بالثلاثة الأخريات ونجت بروحها. ومع ذلك، لم ينجُ الأسد الشيطانيّ بجسده معافى. قُتِل ذيله الثعبان، وتحطّمت بعض عظامه. كاد يُقتل حقّا.

وفي تلك الأثناء، كان باسل قد وصل إلى نمر البرق. وبمجرّد ما بلغه، حتّى فعل له نفس ما قام به للأسد الشيطانيّ سابقا. لكمه فجعله يحلّق، ولحقه بينما يتجنّب صواعقه التي كان يطلقها بالرغم من أنّه يطير بسبب قوّة الضربة.

عبر باسل من بين الصواعق كأنّ شيئا لم يحدث، واستمرّ في الاقتراب من النمر الذي كان يطير بسرعة كبيرة، ولكنّ سرعة تحليقه كانت أبطأ من سرعة باسل الذي يلاحقه، لذا شعر بضغط رهيب قادم من باسل الذي لا يتأثر بهجماته اليائسة.

وفي وسط هذا الضيق، قرّر النمر الأبيض والمخطّط بالأسود استخدام ورقته الرابحة.

زززن


ارتجف الهواء أسفل أقدامه، وفجأة تجمّعت هالة متموّجة حولهما. انكمش نمر البرق على نفسه، وبعدما مرور لحظات وجيزة واقتراب باسل أكثر حتّى صار بينهما حوالي خمسة أمتار فقط، انبسط بسرعة فائقة وضرب بأقدامه الهواء، فطنّ وولّد صوتا يصمّ الآذان. بدا كما لو أنّه استخدم الصوت كوسيلة يغيّر بها مساره الذي لم يكن لديه تحكّم فيه.

بووم

عُكِس مسار نمر البرق مباشرة بعد ذلك بسبب القوّة الهائلة التي أنتجها بفرقعته الهواء، وفوق ذلك، كان يحلّق بسرعة هائلة تجاه باسل. شحن بعد ذلك طاقته السحريّة، وامتدّ البرق على جسده، فبدا كنمر سامٍ يمكنه تحدّي التنانين الأسطوريّة. كانت تلك صورة وهمية فقط، ولكنّها لم تكن خاطئة كلّيّا. في المستقبل البعيد، قد يتطوّر أحد نمور البرق هذه بعدما يتأصّل إلى الأصل الحقيقيّ ويصبح ساميا.

بعدما أصبح نمر البرق اسما على مسمّى، التفّ حوله نفس الهالة المتموّجة السابقة، وبعدما قطعه متران بسرعته الخارقة فقط، كان قد أصبح ينطلق بسرعة الصوت، وثقب الهواء صانعا ضجّة كبيرة كالرعد.

ابتسم إدريس الحكيم من الأعلى البعيد، وتمتم: "أفضل هجوم لدى نمر البرق. نمر الصاعقة الرعدية. يبدو أنّنا سنشهد تحوّلَ عالم سحريّ إلى عالم روحيّ ممتع. لم يسبق لي أن رأيت ذلك، لذا سيكون هذا محمِّسا حتّى بالنسبة لي. العالم الواهن، هاه. سنرى بشأن ذلك."

كانت الخمسة أمتار مسافة قصيرة جدا، ولكن بسرعة باسل ونمر البرق، كانت عندها لا شيء تماما. ومع ذلك، في تلك اللحظة فقط تحوّل نمر البرق إلى هذا الطور المرعب وأصبح نمر الصاعقة الرعديّة. ومن هذه المسافة، لم يكن ممكنا لباسل المراوغة قطّ.

كان من الواضح من كلّ القوّة التي وضعها نمر البرق في هذا الهجوم أنّه علم أنّه ليس بأهل لباسل من ناحية القوّة الجسدية، وأنّ هجماته السحريّة لوحدها غير كافية، لذا دمجهما معا مع استخدام قدرته التي خوّلته استخدام الصوت، فجعل من نفسه بقوّة جسديّة وسحريّة مرعبتين.

انطلقت التعاويذ الذهنية الروحية من بحر روح باسل والتفّت حول جسده. لقد كان هو الاستخدام الفعليّ للتعاويذ بتسخيرها كدرع جسديّ يدعّم قدرة الجسم الهجوميّة والدفاعيّة. لقد كانت هذه التعاويذ عبارة أحكام تطبّق قواعدها على الوجود لتغيّرها طبقا لإرادة مستخدمها، ولكنّها لوحدها كانت عبارة عن كلمات رونية عتيقة، لا يعلم أحد عن ماهيتها حتّى يحلّ ألغازها.

كان سموّ هذه التعاويذ بلا نقاش، وكانت هيبتها تعطي شعورا بالنقص والخوف. كانت تكسب الاحترام بجدارة، وتجعل كلّ من رآها يبجّلها. لقد كانت هذه التعاويذ سامية للغاية، وأوضحت مدى عظمة صانعها. أيّ أحد قادر على صنع مثل هذا الفنّ السامي سيكون فاق السموّ بلا شك. لقد كانت تلك التعاويذ إحدى قمم المعرفة والحكمة التي بلغها البشر يوما.

تحوّلت التعاويذ إلى درع فضّيّ أحاط بباسل، وجعلته حصينا ضدّ كلّ الصدمات. وبالطبع، لم يكن جعلها درعا جسديّا ممكنا هكذا قبل أن يبلغ مستخدمها الفرع الكبير على الأقل. فعند ذلك المستوى يصير لديه فهم أعمق وتحكّم أكبر بالتعاويذ حتّى يستطيع تسخير هذه القدرة.


بووم تشش

صدى صوت التقاء الاثنان لأميال، وهزّ الجبال المحيطة. كان هجوم نمر البرق مدهشا للغاية، لكنّ باسل استخدم فنّه القتاليّ الأثريّ بذروته إضافة لتعاويذه الذهنيّة الروحيّة بشكل مباشر. كانت النتيجة متعادلة لوقت، واستمّرت صاعقات ورعد نمر البرق في محاولة اختراق جسد باسل، إلّا أنّه كان قاسيا لوحده فما بالك بعدما حُصِّن بالتعاويذ. كان جسم باسل في هذه الحالة يشبه قطعة ألماس أثريّة لا يمكن لشيء خدشها حتّى.

باام

انتهى الضجيج أخيرا بعدما أرسِل نمر البرق محلّقا إلى الأفق بسبب لكمة باسل الخارقة، وهدم جبلا بعدما اصطدم به، ثمّ سقط على الأرض ميّتا فورا.

وفجأة، حلّق تمساح الأعماق الفولاذيّ تجاه جثّة نمر البرق بسرعة كبيرة وبدا مستميتا. كما لو كان يحاول بلوغ شيء ما قبل فوات الأوان. جعل تصرّفه ذاك باسل مذهولا، ولم يعلم ما الذي يفعله هذا الوحش العملاق. لقد كان غاضبا كلّ هذا الوقت، ولكنّه نسي باسل كما لو لم يهتم به أصلا.

لاحظ باسل شيئا بعدما اقترب التمساح من جثّة النمر؛ كان يحدث نفس الشيء مرّة أخرى؛ كانت هناك طاقة غريبة تنجذب إلى جسمه. وبعدما دقّق باسل النظر أكثر، لاحظ أنّ هذه الطاقة تتجمّع في صدر الوحش العملاق قبل أن تُشفط بسلاسة.


ابتسم إدريس الحكيم بعدما نظر إلى باسل المندهش، ثمّ قال مستمتعا: "لم أخبره عن هذا عمدا حتّى يراه بنفسه. لقد أصبح شبه صاعد على نحو غير اعتياديّ، وبدأ يقترب من رؤية العالم على حقيقته الأصليّة."

كان ذلك منظرا غريبا، وممتعا في نفس الوقت. كان ذلك شيئا جديدا اكتشفه باسل في هذا العالم، وكان مذهلا حقّا. كان لا يزال لا يعلم ما يحدث حقّا، لكنّه كان متأكّدا من شيء واحد – تنجذب تلك الطاقة الغريبة إلى تمساح الأعماق الفولاذيّ من جثت الوحوش السحريّة بعدما تموت.

التفت إلى جهة الأسد الشيطانيّ الذي كان يهرب في الأفق بعدما تخلّص من التمساح العملاق. كان باسل يلهث في تلك اللحظات من التعب. لقد استخدم فنّه القتالي لمدّة طويلة، وكان هذا لا بأس به طالما لم يستخدم الطاقة السحريّة في نفس الوقت لمدّة طويلة كي لا تُستنزف، ولكن بعدما استخدم التعاويذ الذهنيّة الروحيّة مباشرة استنزف كلّ ما تبقّى له من طاقة تقريبا. كان ذلك الدرع مكلّفا بشكل مدهش.

لحق الأسدَ الشيطانيَّ الذي ضعُفَت حالته بسبب هجوم الوحش العملاق السابق، واستخدم كلّ ما تبقّى من طاقة. عصر نفسه وقطّر كلّ ما يملك، ثمّ استخدمه مرّة واحدة في الهجوم التالي.

زباام

قطع باسل الهواء كما فعل للأسد الشيطانيّ الذي لم يجد فرصة ليردّ على ذلك، ومباشرة بعدها استُنزِف باسل تماما، فشدّ رحاله مغادرا المكان بأسرع ما يمكن. كان هدفه الوحيد هو الابتعاد عن هذا المكان وإيجاد ملجأ مناسب بعيدا عن الوحوش السحريّة ليرتاح فيه ريثما يعود لحالته الطبيعيّة. كان باسل راضيا بما أنّه حقّق مراده، وكلّ ما بقي هو انتظار أنمار كي تلعب دورها كما اتّفق معها قبل أن يُقدِم على هذه الخطّة.

غادر دون أن يلحقه تمساح الأعماق الفولاذيّ، وكان ذلك بسبب انشغال ذلك الأخير باستهلاك الطاقة التي تأتي من جثّة نمر البرق. لقد كان هذا هو الأمر الذي ظلّ يشغل ذهن باسل عندما ذهب. بدأ يضع جميع الاحتمالات لما يمكن أن يكون سببا في حدوث مثل تلك الظاهرة. لم يكن لديه شكّ في أن معلّمه يعلم عن ذلك، لذا فهم أنّه تُرِك جاهلا عن الأمر عمدا حتّى يكتشف ذلك بنفسه.

مرّت بعض أيّام أخرى، وتماثل باسل للشفاء تدريجيّا، وكانت طاقته قد شُحِنَت من جديد. لذا أخذ دوريّة في المنطقة من أجل أن يرى ما آلت إليه الأمور بعدما كان مختبئا في كهف بعيد عن النهر لمدّة طويلة.

اقترب بحذر من المناطق المجاورة إلى نهر ددمم التنين، وأمضى وقتا طويلا في التنقّل من هنا إلى هناك قبل أن يتجرّأ على أخذ خطوة قريبة حقّا من النهر. وفي ذلك الوقت، لسبب ما، كانت كلّ الوحوش السحريّة التي يلتقي بها في هذه المنطقة تبتعد عن طريقه كما لو أنّها رأت وحشا لا يقهر. وخصوصا تلك التي يقلّ مستواها عن العاشر. كانت تبتعد لمئات الأميال كما لو أنّ حياتها تعتمد على ذلك.

كان سبب ذلك واضحا للغاية لباسل بعد التفكير لقليل من الوقت. لقد قتل زعيميْ هذا الجانب الشماليّ، لذا أصبحت له هيبة عظيمة بهذه المنطقة حسب ما خمّن. لم يعلم باسل في الأول لمَ كانت تهرب هذه الوحوش منه عندما تلتقي به؛ فهو كان مختوم الطاقة السحريّة حاليا ولم يبدُ عليه من مظهره ذلك القويّ، لكنّ الوحوش السحريّة خافت منه لسبب ما.

علم باسل أنّ السبب الوحيد الممكن لذلك هو قضاؤه على الزعيمين. لربّما هناك شيء تستطيع الوحوش السحريّة من خلاله معرفة قتله لزعيميْها. وهذا ما كان لغزا له. كان لا يزال لا يعلم السبب بالضبط.

عندما تأكّد باسل من عودة تمساح الأعماق الفولاذيّ إلى سباته بأعماق نهر ددمم التنين، ذهب ليرى ساحة المعركة ويلتقط أحجار الأصل التي بقيت هناك. ولكن على عكس ما توقّع، لم يكن هناك ولا حجر واحد على الإطلاق. كما لو أنّ شخصا ما قد أخذهم. كان ذلك مريبا جدّا لأنّ باسل علم أنّ لا أحد سيصل إلى هذه النقطة. وما كان أكثر دهشة كان أنّ جثت الوحوش السحريّة لم تختفِ حتّى بعدما اختفى حجرها.


كان هناك العديد من الأشياء الغريبة التي حدثت مؤخّرا، وكان هذا إحداها. كان حدس باسل يخبره أنّ هذا يتعلّق بالأخريات أيضا. في الواقع، لقد كان يحلّل ما حدث سابقا مع تمساح الأعماق الفولاذيّ وجمع بعض الأفكار عن ذلك. والىن ازداد أمر غامض آخر جعله يفكّر في نفس الشيء ويربط الخيوط مع بعضها.

ابتسم ثمّ أخذ خطوات بطيئة نحو النهر بينما يفكّر: "هل يمكن أنّ تمساح الأعماق هو من أخذ تلك الأحجار؟ ولكن لماذا؟ هل تعود بأيّ نفع عليه؟ لم أرَ وحشا سحريّا يقتل آخرَ ويأخذ حجره الأصليّ من قبل. ويبقى أمر انجذاب تلك الطاقة من جثت الوحوش السحريّة إليه مثيرا للدهشة نوعا ما."

"...على كلٍّ، لديّ فكرة لست متأكّدا من صحّتها بعد، ولكنّي بعدما أصبحت شبه صاعد، صرت أرى الكثير من الأشياء بشكل مختلف نوعا ما. تبدو لي السماء والأرض واضحتين أكثر بطريقة ما. كما لو أنّه كان هناك غشاء على عينيّ وبدأ ينجلي. زاد إحساسي وارتباطي بطاقة العالم بشكل ملاحظ، وتطوّرت قدرتي على رؤية جوهر الأشياء. يمكنني معرفة عدد الوحوش السحريّة التي تحيط بمحيط أكبر من الذي اعتدت أن أستشعره، وليس ذلك فقط، بل وباستطاعتي الآن استشعار قوّتهم وأبسط تحرّكاتهم."

كان باسل مذهولا ممّا يحدث معه. لقد علّمه معلّمه عن مستويات الرّبط بشكل كلّيّ، ولكنّه لم يعطِه معرفة شاملة عن المستويات الروحيّة أو مرحلة الصاعد. صحيح أنّه يعلم بعض الأشياء، لكنّه لا يعلم المهم والحاسم. ابتسم باسل وعلم أنّ هذا مجرّد اختبار آخر من معلّمه. اختبارٌ أخذ بالفعل دروسا عن كيفيّة الإجابة عنه، ولكنّه لم يكن يعرف ذلك فقط.

راقب إدريس الحكيم من بعيد ثمّ قال: "لم أكن أظنّ أنّه سيصبح شبه صاعد، لذا توقّعت أنّ اختباره في كشف ماهية هذا العالم الحقيقيّة سيكون بعد حوالي عام من الآن. إنّه اختبار مؤكّد تجاوزه بالنسبة لأيّ شخص سيخترق المستويات الروحية، وبالنسبة لشخص مثل الفتى باسل شخص قد ربط كلّ نقط الأصل وهو بالمستوى الثامن فقط وأصبح شبه صاعد فبلوغ المستويات الروحيّة أمر طبيعيّ له لا غير."

ظهر كوب فضّيّ بيد إدريس الحكيم الذي جلس، ثمّ أخرج قنّينة مليئة بمشروب ما، فملأ الكوب. كان الكوب فضّيّ اللون، وعندما سُكِب فيه هذا المشروب، صار اللون الفضّيّ لامعا ومشرقا. كان هذا المشروب شفّافا وأنقى من أفضل مياه هذا العالم حتّى، وحمل معه هالة سامية، وجعل كلّ ما لمسه يرتقي لنفس سموّه. طهّر العديد من الأشياء، وجعلها تبدو عتيقة في اللحظة التي يتّصل بها.

تنهّد إدريس الحكيم بعدما حدّق إلى الأفق ونظر إلى أنمار بنظرته السامية السياديّة، ثمّ تمتم لنفسه: "حقّا يجعلانني أتذكّر الكثير من الأشياء التي تؤرّقني." رشف المشروبَ بعد ذلك، وتركه يمرّ في عروقه، ودمه، وروحه. ترك نفسه تغرق في الذكريات، وأخذ رشفة بعد الأخرى. كان ذلك المشروب غريبا؛ لم يكن نبيذا ولا عصيرا. كان مشروبا روحيّا تطهير الروح وإزالة المشاعر السلبيّة.

عاش حوالي ألف سنة طويلة، ولكن سنينا قليلة منها كانت كافية لتجعله يتعذّب لما بقي من حياته. كان فرحا طوال الوقت ونشيطا، لكنّه لطالما كان يعلم أنّ كلّ ذلك كان من أجل قمع تلك المشاعر الجيّاشة التي تموّج روحه.

لم يكن الأمر هو عدم قدرته على طلب السماح، لكن في قبوله. فحتّى لو كان حكيم الفنون السياديّ السامي الذي يخشاه الكثير من عظماء العوالم الروحيّة، إلّا أنّه كان مجرّد شخص عادي أمامها. لقد كانت تلك المرأة تجعله يعود للأصل حقّا، وتنسيه في كلّ شيء.

تغرغرت عيناه، فاستفاق بعد ذلك مباشرة. خبّأ الكوب والقنّينة، ثمّ وقف وعاد إلى وضعه الطبيعيّ. لم يعد هناك مشاعر جيّاشة تحاول زعزعة قلبه الحكيم، ولا ذكريات تجعله يغرق في بحرها. حدّق إلى الاثنين ثمّ قال: "يبدو أن إمضائي وقتا طويلا بجوارهما قد أثّر عليّ. يجب ألّا أسمح لنفسي بالانغماس في ندمي، وإلّا فقدت مساري الروحيّ."

كان أهمّ شيء بالنسبة للساحر الروحيّ هو المسار الروحيّ. ما أن يفقده، يفقد غايته في الحياة ووجهته، فيضيع في عالم ليس به نهاية ويتعذّب لما تبقّى من عمره. كان المسار الروحيّ شيئا يحدّده الساحر الروحيّ في حياته، وكان يشمل طريقة حياتهم، والغاية التي يرشدونها.

"يوما ما، سأحلّ لغز الأربعة عشر الأعظم ! " ظهر وميض من عيني إدريس الحكيم آنذاك بينما ينظر إلى الآفاق. مع أنّه في شكله العجوز، إلّا أنّ ذلك لم يمنع سموّه من الظهور في تلك اللحظة. كان لديه عزم وحسم ليس لهما مثيل.

***

كان باسل يجلس بجانب النهر، بينما يتدبّر بكلّ هدوء هناك. كان ينتظر شيئا ما، أو للدّقة، شخصا ما. وبالطبع، كان هذا الشخص هو أنمار لا غير. كانت قد تأخّرت عن الميعاد الذي يُفترض أن تصل فيه، لكنّه لبث في مكانه مؤمنا بقدرتها على المجيء. مضى اليوم الأول، والثاني، والثالث... فمرّ أسبوع. ومع ذلك لم يتحرّك شبرا واحد.

وبينما كان ينتظر، استشعر ساحة المعركة، وتذكّر ما كان يحدث مع تمساح الأعماق الفولاذيّ. لم يستطع أن يفهم بالضّبط ما ذلك، لكنّه كوّن تخمينات وشكوكا. ومن جهة أخرى، ظلّ يحاول معرفة سرّ ابتعاد الوحوش السحرية عنه. وبعد مدّة طويلة، استنبط شيئا ما كما أحسّ به بعد ذلك وفهم ما كان يحدث حقّا. أراد أن يختبر ذلك حالا. ففتح عينيه أخيرا ونظر إلى الجهة الأخرى من النهر، فوجد أنمار هناك.

وقفت أنمار بعيدة عن النهر بمئات الأمتار، والذي بدوره كان بعرض يمتدّ لآلاف الأمتار. ولكن بعينيّ الساحر كان من السهل رؤيتها. كانت ترتدي فستانها الأسود الذي أظهر بعضا من بشرتها المغرية، وخبّأ كل المناطق المهمّة. كانت تبدو كملاك اختار الأسود لونا له، وجعله يظهر ويخفي جماله في نفس الوقت.

كانت هادئة للغاية، وحدّقت إليه بعينيها الزرقاوين. كانتا تبدوان كما لو يمكنهما جعل أيّ شخص يقع تحت تأثيرهما، ويغرق في عمقهما. كانتا تمثّلان السماء بوسعها، والبحر بعمقه. فإذا نظر إليهما أحد، سبح في عالم أزرق لا ترى آفاقه، ولا أعماقه. سيجد الشخص نفسه مسجونا في ذلك العالم بدون أيّ فرصة للعودة.

كان الشخص الذي يصبح ساحرا يكتسب أيضا وقورا وهيبة تجعله مميّزا عن الطبيعيّين. فحتّى لو لم يكن جميلا كفاية، ستغطّي هالته ومستواه السحريّ ذلك. ولن يقف الأمر عند التغطية فقط، بل سيزداد جمالا في أعين الناظرين، كما لو أنّه ينفّذ وهما عليهم. ولكن ماذا عن شخص مثل أنمار بجمال ملائكيّ؟ كان من السهل تخيّل مدى الجمال الذي ستظهر به.

وفي المقابل، وقف باسل قرب النهر بينما يحدّق إلى ذلك المنظر الرائع أمامه. لقد كان دوما يرى جمالها، لكنّه لم يعتد عليه قطّ. كان هذا هو الاختلاف بينها وبين سائر النساء في الوجود. فحتّى لو التقى بأّيّ حسناء تسقِط الملوك والأباطرة في عشقها، كان سيعتاد عليها بعد مرور وقت لأنّه آلف على رؤية الجميلات.

أخذت أنمار خطوة بعد لحظات من السكون، فتبع الخطوة ضجيج وزمجرات كانت قادمة من خلفها. وبعد وقت قصير، ظهر حشد وحوش سحريّة بلغ عددها مئات الآلاف. كان هذا الموقف مثل الذي حدث مع باسل. وبالطبع، عندما اقتربت الوحوش السحريّة من نهر ددمم التنّين توقّفت كلّها.


تقدَّم هذه الوحوش السحريّة زعيماها، وأطلقا هالتيهما تجاه أنمار بغيظ شديد. كانا غاضبين لدرجة كبيرة وأرادا تمزيقها بأسرع وقت، إلّا أنّها كانت بعيدة عن منالهما في هذه اللحظات باقترابها من النهر. لقد كانت الغريزة تحكم هذه الوحوش السحريّة، لذا لم تستطع الاقتراب من النهر.

أمّا السحرة الذين كانوا بعقل وحكمة، فكان بإمكانهم اختيار الاقتراب من الخطر ولو علموا عن عواقبه. ففي هذه الأثناء، كان تمساح الأعماق الفولاذيّ نائما، لكنّ منطقته هذه لا تجرؤ الوحوش السحريّة على الاقتراب كثيرا منها.

كان زعيما الوحوش هما الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام. وكانا قد بلغا المستوى الثاني عشر، لكنّهما لم يتجرّآ على الاقتراب من النهر كما حدث مع زعيميْ الجانب الشماليّ. لا وحش سحريّ قادر على قمع غريزته التي تخبره بالابتعاد عن هذا المكان.

بلغت أنمار النهر بعد ذلك، فاستخدمت فنّها القتاليّ وطفت على الهواء قليلا باهتزازات تحت قدميها. وفي الجهة الأخرى، ولّد باسل قوّة دفع في كلّ خطوة يأخذها ممّا سمح له بالطفو فوق الماء. ففي الغصن الرابع، كان للمستخدم درجة تحكّم مدهشة في قوّة الدفع، فيستطيع بخطوات الريّاح الخفيفة أن يطفو فوق الماء.

كانت خطوات الاثنان ثابتة وغير متسرّعة. أخذا وقتهما في عبور آلاف الأمتار ببطء بينما ينظران إلى بعضهما بعضا دون إزاحة نظرهما. كانت المسافة بينهما واسعة، لكنّهما كانا يشعران بالقرب كما لو أنّهما يمشيان بمحاذاة أحدهما الآخر. بل وأكثر من ذلك، شعرا أنّهما يفهمان في هاته اللحظات نفس الآخر، ولا أحد قادر على فصل ذلك الارتباط بينهما.

كلّ خطوة أخذاها جعلت ذلك الاتصال الذي بينهما أقوى، وبدّدت جزءا من الواقع الذي يحيط بهما. ففي تلك اللحظات، لم يهم شيئا آخرَ غير الشخص قبالتهما والطريق المؤدّي إليه. بدا كأنّ الوجود نفسه كان ينكسر وينهار بقَطْع الاثنان المسافة بينهما.

اختفت العوالم غير المعدودة وبقي ذلك العالم الفارغ فقط. كان عالما مظلما بالكامل، وحمل طريقا واحدا في وسطه أنشأه الاتصال بين ذينك الاثنين. كان هذا الطريق المضيء هو الشيء الوحيد الذي يهمّهما بعدهما.


كانت تلك الخطوات بطيئة، لكنّهما لم يشعرا بالوقت الذي مضى في هذا العالم الفارغ. وعندما اقتربا أخيرا من بعضهما، ولم يتبقَّ من المسافة سوى إنش حتّى يتلامس جسداهما، حدّق أحد إلى الآخر كما لو كانا ينظران إلى منظر خياليّ لم يسبق لهما أن رأوه في حياتهما. كان هذا المنظر الخياليّ جذّاب كثيرا، وليس له مثيل في ما اتّسع من الخلق.

أراد كلّ واحد منهما النظر إلى ذلك المشهد الأخّاذ طيلة حياته دون أن يرمش ولو للحظة، وأن يدوم كلّ هذا إلى الأبد حتّى ينقطع ذلك الاتصال بينهما، ويفرّقهما الموت لا غير.

كان ذلك عالما خاصّا بهما، ولا أحد يمكنه الدخول إليه أو التدخّل به. استطاعا أن يكوّنا علاقة لا يمكن فهمها من طرف ثالث، وبلغا مرحلة مدهشة من فهم أحدهما للآخر. فبدون الحاجة لقول أيّ شيء، كان كلّ شيء واضحا لهما. ومع ذلك، علم باسل أنّه يحتاج إلى نقل أفكاره على شكل كلمات. علم أنّ أنمار تحتاج إلى سماعها من فمه مباشرة.

كانا قريبين من بضعهما كثيرا، فكانت ضربات قلبيهما سريعة جدّا. كانا يحسّان بتوتّر شديد، لكنّهما لم يريدا أن يزيحا نظريهما. ولكن عندما أراد باسل أن يفكّر في كلمات تفسّر مشاعره الحالية، لم يستطِع تكوين جملة واحدة. كان المرأى أمامه ساحرا أكثر ممّا تخيّل، فبلغ به الأمر أن ينسى كلّ كلمة يفكّر بها مباشرة.

لم تنفعه ذاكرته القويّة، ولا مهارته في الكلام. كل شيء يجيده أصبح عديم الفائدة أمام أنمار في هذا العالم الفارغ. كما لو أنّ أفكاره كانت تتبدّد في اللحظة التي تتكوّن فيها، وكلّ ما كان يتبقّى هو المشاعر التي لم يتوقّف إنتاجها بسبب تحديقه إلى الفتاة التي أمامه. جعله هذا يُجنّ ولم يعلم ماذا يفعل.

وفي الجهة الأخرى، لاحظت أنمار تصرّفاته تلك وابتسمت. ومباشرة بعد ذلك، جعلت المنظر الخرافيّ مضاعَف التأثير. ولكن لم تكن على عجل، فصبرت هناك حتّى يجدَ الفتى أمامها حلّا. لقد كان باسل في تلك اللحظات يبدو كفتى بريء حقّا.

أمضى وقتا في التململ، ولكنّه لم ينجح في تكوين كلمات مناسبة قطّ. وفجأة، بدا كما لو أنّه أدرك شيئا أخيرا. لقد كانت هناك كلمة واحدة لم تختفِ كما فعلت باقي الكلمات عندما فكّر بها. أدرك أنّه لم يحتج لقول جمل ولا شعر. ففي هذا العالم الفارغ الذي جعلهما متّصلين بالفعل، لم يكن لكلّ ذلك معنى. كلّ ما كان عليه فعله هو قول كلمة واحدة فقط.


ابتسم هو الآخر، فجعل أنمار تتأثّر بذلك، فأصبحت متوتّرة كذلك وكادت تزيح نظرها عنه. كان وجهاهما محمرّين، لكنّهما أبعدا خجلهما وأكملا النظر إلى بعضهما بعضا.

اقترب باسل منها حتّى اختفت المسافة التي بينهما كلّيّا، وتلامس جسداهما كما لو كانا سيعانقان بعضهما بعضا. ثمّ قرّب فمه إلى أذنها، وقال تلك الكلمة الواحدة. لقد كانت كلمة سحريّة يمكنها أن تصف كلّ ما احتاج لقوله. كانت هذه الكلمة كافية أيضا لأنمار حتّى تسعد كفاية.

بدا كما لو أنّ أنمار هي الوحيدة التي كانت قادرة على سماع هذه الكلمة في هذا العالم الفارغ.

انحنى جسدها، فاتّكأت عليه كما لو أنّها شعرت بالانهيار، وسقطت دمعة من عينها، فهزّت ذلك العالم الفارغ. فحتّى الآن، لم يسبق لها أن سمعته يقول لها هذه الكلمة قطّ. لقد كانت كلمة سحريّة حقّا.

اختفى العالم الفارغ بعد ذلك الاهتزاز، وعاد الاثنان إلى الواقع. كان الأمر كما لو أنّهما انتقلا لعالم آخر حقّا وعادا للتوّ. نظر باسل إلى حشد الوحوش السحريّة فلاحظ أنّ ذينك الزعيمين لن يستسلما حتّى يفترسا أنمار.

اختفى أثر الدمعة من عين أنمار، فرفعت رأسها لتنظر إلى باسل، ثمّ وجدته يحدّق إليها بالفعل. لقد كان بينهما سكون ونوع من الاتصال قبلا، إضافة إلى كونها كانت تنتظره أن يقول لها ما أرادت سماعه، لذا كانت تستطيع أن تحدّق إلى عينيه مباشرة. ولكن الآن بعدما سمعت الكلمة السحريّة، كان من الصعب عليها الحفاظ على هدوئها بينما تنظر إلى عينيه.

لقد كانت عيناه الحمراوان مثل شمسين تنيران رؤيتها، لكنّهما كانا مشعيّن كثيرا ولم تتحمّل النظر إليهما مباشرة. كل ما أمكنها فعله في تلك اللحظة هو النظر إلى الأسفل بوجه محمرّ من الخجل. فعندما نظرت إلى باسل، بدا لها يتألّق أكثر من أيّ وقت مضى. كان مفعول الكلمة السحريّة أقوى ممّا اعتقدا.


ابتسم باسل بعدما شهد ردّة فعلها تلك، وتسارعت ضربات قلبه نوعا ما. لقد كان ذلك تصرّفا نادرا من أنمار الجرّيئة تجاهه. كان ذلك ظريفا وجذّابا بصورة لا توصف، فشعر بسعادة غامرة في هذه اللحظات. لم يعلم إن كان السبب في ذلك هو تصرّفاتها الخجولة الحالية، أم لأنّه واجه نفسه أخيرا وصارحها.

هدأت الأمور بينهما بعد مدّة، فنظرت أنمار إلى حشد الوحوش السحريّة وعبست: "الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام. لقد مررت بوقت عصيب حتّى استطعت استفزازهما كي يحشدا كلّ هذه الوحوش ويتبعاني. فقبل أن أصل لهما اضررت إلى مقاتلة وحوش بالمستوى العاشر والحادي عشر، ثمّ الاختباء باستمرار قبل أن أبلغهما أخيرا. صرفت أيّاما في التعافي لذا تأخرت عنك."

حدّق باسل إلى حشد الوحوش السحريّة، وبالأخص نحو الزعيمين. لقد كانا حانقين بشكل لا يوصف. حتّى هو لم يستطِع جعل زعيميْ الجانب الشمالي يصلان لهذه الدرجة من الغيظ. نظر إلى أنمار التي تتّكئ على جسده ثمّ ابتسم. لقد كانت دائما ماهرة في الخداع. من يعلم ما الذي فعلته لهاته الوحوش التي تتبع غريزتها حتّى تصير هكذا؟

كانت أنمار تشعر براحة كبيرة على صدر باسل. شعرت بالأمان، ولم يهم إن كانا في خطر يحدّق بهما من جميع الزوايا طالما كانا معا. مرّرت يدها على جذعه العلويّ بينما تتحسّس نضوجه. لقد كان بعمر الخامسة عشر فقط مع أنّ هذا عمر البلوغ والرشد في هذا العالم إلّا أنّه امتلك جسدا قويّا لا يملكه رجل في هذا العالم الواهن. شعرت بنبض قلبه متسارع الضربات، وأحسّت بقوّته الغامرة، فتركت نفسها تغرق في بحر العاطفة ذاك دون أن تخاف من الاختناق.

كانت عينا باسل لا تستطيعان النظر بعيدا عن أنمار لمدّة طويلة. فبسرعة وجد نفسه ينظر إلى شعرها الأشقر الذهبيّ الطويل، بينما تنزلق منه نظرات إلى جسدها المغري. لا رجل كان قادرا على مقاومة هذا الإغراء بسهولة، فما بالك بباسل الذي كان في تلك الحالة.

وفجأة، طرأت في باله فكرة وتطلّع إلى الآفاق كما لو كان يحاول إيجاد شيء ما. كان يريد أن يرى إن كان معلّمهما ينظر إليهما من مكان ما، لكنّه لم يجده مهما حاول بنظرات السحر. تنهّد بعد ذلك وتمتم لنفسه: "حقّا المعلّم... هل يمكن أنّ الغاية من هذا الاختبار لم تكن في الواقع الإخضاع فحسب...؟ حقّا الأفضل."


وفي هذه اللحظات، كان إدريس الحكيم يراقب عن بعد بنظراته السامية السياديّة، فضحك دون أن يستطيع المقاومة: "هوهوهو... يبدو أنّه أدرك. لا أريد أن أراك أيّها الفتى تقوم بخطأ مشابه لخطئي."

لقد كان إدريس الحكيم يعلم مدى صعوبة المسار الروحيّ، والذي احتاج إلى عقل وقلب سليم. فمهما بلغ الساحر من مستويات خياليّة، سيجد نفسه عرضة للانهيار الداخليّ يوما ما إن لم يحمل عقلا وزينا وقلبا رصينا. كان يعلم تمام العلم عن أمثلة من ذلك، وخصوصا صاحب أسطورة جون النهاية.

نظر المعلّم إلى تلميذيه وعبس: "العب بالنار كما تشاء، ولكن احرص على البقاء في الضيّاء، ففي الظلام يوجد فقط وباء بلا شفاء." تنهّد إدريس الحكيم بعدما ردّد المقولة الشهيرة في العوالم الروحيّة. لم يشأ أن يرى هذين الاثنان يقعان في نفس الموقف الذي هو فيه.

استمتع باسل وأنمار بهذه اللحظات وقدّراها.

سألت أنمار بعدما شرحت له سبب تأخّرها: "إذن ما الذي سنفعله الآن؟"

حملق باسل إلى الحشد البعيد، وأجاب باسترخاء. لقد كانت نبرته تجاه أنمار أكثر حنانا: "لا قلق. كنت أودّ فعل نفس ما قمت به في حالتي، لكنّ الأمور تغيّرت نوعا ما بعد قتلي الزعيمين. لذا أريد تجربة شيء ما." وبذلك، رفع ذراعه فأحكم قبضته.

لم يطرأ أيّ تغيّر ملاحظ لأنمار على باسل. فهو لم يحاول استخدام نيّة قتله أو هالته أو فنّه القتاليّ الأثريّ لقمع الوحوش السحريّة أو ما شابه، لذا وجدت تصرّفاته غريبة ولم تعلم ما الذي يحاول تجربته.

ولكن، لم تمر سوى لحظات وجيزة، وإذا بشيء غريب يحدث أمام عينيها فأثار دهشتها؛ على حين غرّة، ارتعدت معظم الوحوش السحريّة إن لم تكن كلّها، وفرّ العديد منها بدءا من الضعيفة وصولا إلى ذات المستوى التاسع حتّى. اتّسعت حدقتا عينيها ولم تكد تصدّق الأمر. نظرت إلى باسل مرّة أخرى فوجدته مبتسما كما لو كان يتوقّع حدوث هذا الأمر. سألته بسرعة: "م-ما الذي قمت به؟ أنا لم أشعر بأيّ طاقة تنبعث منك مهما كان نوعها."

بقي باسل محافظا على استرخائه بينما يراقب الوحوش السحريّة وردود أفعالها. كان لا يزال على وجهه نفس الابتسامة الهادئة، وأجاب مفسّرا: "بعدما قضيت على الزعيمين هنا، صارت الوحوش السحريّة تتجنّبني بطريقة غريبة. شغل هذا الأمر بالي طوال الوقت لذا كنت أحاول اكتشاف ماهيته. وأخيرا قبل وصولك بمدّة استطعت استنباط وإدراك ما يحدث حقّا."

"قد لا يمكنك فهمي حتّى ترين ذلك بنفسك، ولكن..." وفي هذه اللحظات تذكّر باسل معلّمه، وعلم لِمَ لمْ يخبره قبلا عن مثل هذا الأمر. لقد كان أمرا لا يمكن إدراكه سوى عن طريق اختباره حقّا. أكمل شرحه: "ولكن يمكنك القول أنّني بعدما قتلت ذينك الزعيمين، صارت هناك آثار روحيّة متبقيّة منهما عليّ كعلامة. وعندما ترى الوحوش السحريّة هذه العلامة تهرب طبقا لما تفرضه عليها غريزتها. يمكنك القول أنّه نفس الشيء بالنسبة لعدم اقترابها من نهر ددمم التنين هذا."

لم تستطِع أنمار استيعاب الأمر بأكمله كونها لا تستطيع رؤية مثل هذه الآثار التي يتكلم عنها باسل. سألت بعد ذلك مرّة ثانية: "أيّ آثار روحيّة متبقيّة؟ أين هي؟"

ربّت باسل على رأس أنمار بلطف بينما يداعب شعرها الحريريّ، ثمّ أجاب: "ستعلمين عن ذلك عمّا قريب. لقد كان بإمكاني ملاحظة هذه الآثار والتحكّم في استخدامها بشكل جيّد لأنّني صرت شبه صاعد كما تعلمين. لذا أظنّك ستدركين كلّ هذا عندما تصيرين صاعدة."

أومأت أنمار إليه برأسها، وانتظرت ما سيحدث تاليا بصمت فقط. وفجأة، ودون أن تتوقّع، وجدت نفسها تطفو في الهواء، أو للدقّة، محمولة من طرف باسل كأميرة أنقِذت من بطل. أحسّت بالخجل كثيرا فاحمرّ وجهها لدرجة كبيرة وكادت تفقد حسّها السليم. وما زاد الطين بلّة كان ابتسامة باسل المسترخية وقوله: "أريد التقدّم أكثر، لكنّني لا أريد الابتعاد عنك، لذا هذا هو الحلّ الوحيد."

انكمشت أنمار وخبّأت رأسها في صدرها. يبدو أنّ دروس المعلّم كان لها مفعول بعد كلّ شيء.

استمتع باسل بتصرّفات أنمار الحالية، لذا رضي عن نتيجة استجماعه شجاعته وقيامه بهذا الأمر. وجّه نظره بعد ذلك نحو الوحوش السحريّة التي انخفض عددها بشكل مهول. لقد كان يصل إلى مئات الآلاف، لكنّه اختُزِل الآن إلى المئات أو أقل.

أخذ الخطوة الأولى إلى الأمام، ثمّ أخرى، وبمدّة زمنيّة ملاحَظة بينهما. كان يتحرّك ببطء كما لو أنّه يريد إعزاز وحفظ كلّ لحظة من هذا الوقت في ذاكرته بجميع أحاسيسه. وفي الجهة المقابلة، كان الأمر صعبا على الوحوش المتبقيّة على عكس استرخاء باسل. فكلّ خطوة منه كانت كجبل بحمل كبير يسقط عليها. كلّما قطع المسافة واقترب منها، وَزُن الحمل وأحسّت الوحوش بنفَسها ينقطع وتُستعصى قدرتها على الوقوف بشكل جيّد.

وكلّما مرّ الوقت، نقُص عدد الوحوش السحريّة التي أمكنها تحمّله. وبسرعة اختفى عدد منها بدءا من ذات المستوى العاشر، وصولا إلى ذات المستوى الحادي عشر. وبعد مدّة معيّنة، كان باسل قد بلغ نهاية النهر عرضا، ولم يبقَ له سوى خطوة أخرى على عبوره. توقف عندئذ، وحدّق إلى زعيميْ الجانب الجنوبيّ بنفس الابتسامة الهادئة التي اعتلت وجهه طوال الوقت. ففي الوقت الذي اقترب فيه إلى هذه الدرجة، لم يكن أمامه سوى الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام.

لقد كان ذلك رهيبا للغاية، وجعل أنمار تشعر بالهيبة القادمة من باسل بالرغم من استرخائه، لكنّ استرخاؤه هذا لم يدم عندما بلغ تلك المرحلة، وفجأة، انطلقت نيّة قتله وهالته، وبالطبع صاحبهما الضغط من فنّه القتاليّ الأثريّ.

كلّ هذه الأشياء زادت من هيبة باسل ورعبه في أعين الوحشين السحريّين. لقد استطاع الزعيمان المحافظة على رباطة جأشهما حتّى الآن، ولكن بعدما أطلق باسل ضغطه المخيف لم يستطيعا الوقوف في هذا المكان بشكل جيّد لوقت أطول. لقد كان من الواضح أنّ غريزتهما كانت تخبرهما بالهرب إلى أقصى مكان يقدران على بلوغه.

فتح باسل فمه قائلا بهدوء: "هل حقّا تريدان منّي خلع حجريْ أصلكما؟"

بدا ذلك كتهديد بسيط نوعا ما، لكنّه حمل ثقلا رهيبا وأثّر بشكل كبير في غريزة وحشيْ المستوى الثاني عشر. لم يفقها شيئا ممّا قاله باسل، لكنّ نيّته أوضحت تماما ما أراد فعله.

صهل حصان مخالب الظلام، وصاحب صهيله ذاك زئير فجعله مختلف تماما عن الصهيل العادي، وفحّت الأفعى الكوبرا المجنّحة بصوت مختلط بزمجرة، فاستدارا معا واختفيا بسرعة كبيرة. لقد كانا يقفان هنا بصعوبة حقّا.

قال باسل لأنمار بعد ذلك بابتسامة خفيفة وعينين ضيّقتين: "سنكمل رحلتنا الآن ! "

أومأت أنمار برأسها وظلّت تحدّق إلى باسل بينما يبادلها النظرات دون أن يملّ. ظهر جوّ ورديّ بينهما، وظهرت بعض الأفكار في عقلهما جعلتهما يخجلان. لقد كانا حقّا مجرّد مراهقين واقعين في حبّ بعضهما في هذه اللحظات.

"لقد نجحتما . " صدر صوت من خلفهما فجأة، فجعلهما يعودان لهذا العالم من جديد. وعندما التفتا وجدا معلّمهما مبتسما، ويغمض عينا واحدة بينما ينظر بالأخرى إلى باسل يحمل أنمار. أومأ برأسه بعد ذلك دون قول شيء.

نظر باسل وأنمار إلى بعضهما بعضا قبل أن ينزلها. فباسل لم يكن وحده الذي اكتشف أنّ كلّ هذا من صنع معلّمهما، بل أنمار كذلك. نظرَت إلى إدريس الحكيم بعينين تحملان قمّة الاحترام والتقدير. لقد كان السبب في حدوث هذا الشيء المفرح لها.

اقترب منهما إدريس الحكيم، ثم رفع يديه ووضع أحد كفّيه على جبهة باسل والآخر على جبهة أنمار، ثم قال: "فتح ! "

وفي اللحظة التالية، أحسّ كلاهما بحيويّة فائقة. شعرا باختفاء الختم المؤقّت الذي كان يقمع طاقتيهما، وبتدفّقها في مسار نقط أصلهما وبحر روحهما من جديد. كان ذلك إحساسا مألوفا، لكنّه بدا جديدا ومنعشا. لقد مرّ حوالي شهرين منذ آخر مرّة شعرا فيها بطاقة حياتهما تعود إلى العمل كما اعتادت.

كان الأمر مختلفا قليلا لباسل عن أنمار. فهو ظلّ يختبر توغّل طاقة العالم لبحر روحه عبر جسده، ولكنّه لم يكن قادرا على استخدامها لأنّ تدفّقها كان يُختَم ما أن تدخل لبحر روحه. وبالطبع، حدث هذا لمدّة وجيزة فقط. فعندما بلغ باسل الحدّ الذي يستطيع تحمّله من طاقة العالم، أوقفها عن التوغّل، وهكذا صار مثله مثل أنمار.


ابتسم إدريس الحكيم ثم استدار قائلا: "هيّا. سنكمل رحلتنا."

"حاضر ! " أجاب الاثنان في نفس الوقت، وبدآ يلاحقان معلّمهما الذي كان قد ابتعد بآلاف الأمتار في لحظات. وبالطبع، كان يبدو كما لو أنّه يأخذ نزهة فقط. وبدا كما لو كان يركب الرياح، بينما يتحرّك العالم من أجله حتّى يتقدّم إلى الأمام. فـتحت تأثير خطوات الخفيفة، صار العالم بلا وزن وكلّ سرعته سُخِّرَت من أجله. لقد كان ذلك إتقانا تامّا للفن القتاليّ الأثريّ، خطوات الريّاح الخفيفة.

***

مرّت أشهر على الحرب الشاملة، وكان العالم الواهن في سلام لم يحظَ به من قبل. ففي هذا الوقت، كانت علاقة الإمبراطوريات الثلاث وطيدة واختفت الكثير من العداءات. أصبحت التجارة بسبب ذلك سهلة، وزاد الآمان بأضعاف.

كان الإمبراطور غلاديوس حزينا لفقدانه جنراليه على يد شهاب جِرم سابقا، وندم كثيرا على اتّخاذ مثل ذلك القرار في ذلك الوقت. لو أنّه أخفض من كبريائه فقط، لكان الحال أفضل الآن. ومع ذلك، لا ندم ينفعه الآن. كلّ ما كان قادرا على فعله هو الغدو أقوى من أجل حماية إمبراطوريّته من الخطر الذي ما زال يحوم حول عالمهم، والعمل يد بيد مع الإمبراطوريتين الأخريين لتحقيق أفضل نتيجة.

ومن جهة أخرى، كانت إمبراطوريّة الأمواج الهائجة في حالة من الحزن المستمرّ على الإمبراطور شيرو. لقد مات موتة شريفة يحلم بها كلّ رجل من هذا العالم، لكنّه يبقى مات. كان عزيزا على قلوب شعبه، كما كان والدا عطوفا على أبنائه وبناته.

كانت الصدمة قويّة للغاية، وجعلت الأبناء في حالة من الفوضى لوقت طويل قبل أن تتدخّل الأميرة شيرايوكي التي كانت معتادة على البقاء مبتعدة عن مثل هذه المشاكل.

"لقد مات والدنا الفاضل موتا بطوليّا حتّى ينقِذ عالمنا، وها أولاء أبناءه يتصارعون على الشيء الذي خاف منه في حياته أن يحدث بعد موته." ظهرت الأميرة شيرايوكي وسط القاعة الرئيسيّة التي كان عرشها فارغا، وصرّحت بذلك لإخوانها وأخواتها.


كان لديها ثلاث أخوات وأربع إخوان. عبسوا كلّهم بعدما سمعوا كلامها ذاك، فتكلّم أحد إخوانها. كان هذا أخاها الثاني: "يا أختي الصغرى، فلتبقي بعيدة عن هذه المشاكل كما اعتدت. أمّا ما قلق عليه والدنا، فلا تقلقي؛ نحن نحاول تقرير الشخص المثاليّ لوراثة العرش فقط. نحن نتّبع وصيّة أبينا الفاضل في عدم القتال والتحاور من أجل إيجاد الأفضل لإمبراطوريّتنا." كانت نبرته حادّة نوعا ما، ولكن لم يبدُ كأنّه يهاجم شيرايوكي بكلامه في نفس الوقت.

تطلّعت الأميرة شيرايوكي إليه بعينيها البيضاوين كبدرين ينيران الليالي، وقالت بصوت ناعم ترقّ له القلوب: "لقد مرّت أشهر وما زلتم تتحاورون؟ أنا لا أرى ذلك. لقد كانت وصيّة أبينا واضحة تماما. 'كونوا أمواجا هائجة، لكن متّحدة'. لا يهمّني ما تعتقدون نفسكم تفعلونه حاليا، ولكن كلّ ما يبدو له هو صراعكم على ذلك العرش."

"أنت..." عبس أخوها الأوّل بسبب طريقة كلامها: "لقد بالغتِ. وفي المقام الأوّل، هذا نقاش بيننا نحن، المؤهّلون والمرشحون لاعتلاء العرش، فلا تتدخّلي فيما لا يعنيك." كانت نبرته تحمل عزما، وبدا كلامه كمثل ذلك الذي يأتي من جنرال إلى تابعه.

حدّق الأخ الثالث إليها بهدوء ولم يقل شيئا. لقد كان يعزّ أخته كثيرا، لكنّه لم يستطِع الوقوف في جانبها بعدما أهانتهم جميعا بكلماتها تلك. كل ما استطاع فعله من أجلها هو عدم الرد عليها.

ولكنّ الأمر كان مختلفا مع أخيها الرابع. لقد كان منفعلا أكثر من جميع إخوانه، وكان كموجة هائجة في تصرّفاته وكلامه: "يا شيرايوكي، يا من تخبرنا بكلّ هذا، يا أيّتها السيّدة الفاضلة، ماذا عنك أنت؟ لربّما فشلنا في تحقيق وصيّة والدنا حتّى الآن، لكنّك تجاوزت ذلك بمراحل بالفعل. من كان السبب في موت أبينا الفاضل؟ لا، بل من ضحّى بإمبراطورنا العظيم من أجل أميرة قوم آخر؟"

ظلّت الأميرة شيرايوكي مغمضة العينين طوال الوقت، لكنّها عندما سمعت هذا الكلام فتحتهما واتسعت حدقتاهما. لقد ذكر أخوها الرابع أكبر ندم لها في حياتها. فمع أنّها فعلت ذلك من أجل هذا العالم، إلّا أنّه لم يغيّر من حقيقة تفضيلها شخص آخر على أبيها. لقد كان ذلك خيارا صعبا اتّخذته آنذاك، وما زالت آثاره جديدة وحيّة.

عبس الأخ الثالث عندما سمع الأخ الرابع، لكنّه ظلّ صامتا بالرغم من كلّ هذا. لربّما كان الأخ الأصغر وقحا، لكنّه قال شيئا في الصميم. لقد ذلك يوخز قلوبهم حقّا. كيف لأختهم الصغرى التي كان يدلّلها والدهم دائما أن تتّخذ مثل ذلك الخيار؟ لقد ذلك صادما من عدّة نواحٍ.

لم تستطِع الأميرة شيرايوكي التحدّث لوقت، فتدخّلت أختها الكبرى هذه المرّة. لقد كانت الابنة البكر في الواقع، وكان لها مكانة جيّدة في إمبراطوريّة الأمواج الهائجة حتّى، إلّا أنّها حافظت على ظهور قليل ومشاركات بسيطة. كان تعبيرها في هذه اللحظات سيّئا: "لربّما كان عليك المشاركة في الحرب الشاملة قبل أن تتجرّأ على البوح بمثل هذه الكلمات يا أخي الأصغر."


"ها؟ ! " صرخ الأخ الرابع مجيبا: "كيف لك أن تقولي هذا يا أختي الكبرى؟ أنت تعلمين كلّ العلم عن مدى رغبتي في الذهاب آنذاك لمرافقة والدنا في تلك الحرب، لكنّه كان الشخص الذي لم يوافق قطّ."

حملقت الأخت الكبرى إليه، فجعلت نظراته تتّجه إلى الأسفل. لقد كانت بشخصية قويّة للغاية حقّا، وكان يبدو عليها من شكلها وأسلوبها دمها الملكيّ. كانت ملكة بطبيعتها. أغمضت عينيها وتنهّدت راثيةً لحال أخيها الصغير. أومأت برأسها لليمين ثم إلى اليسار قبل أن تصرّح: "لكنّك تبقى لم تذهب."

عبس الأخ الصغير ولم يجد شيئا ليقوله لأخته المهيمنة. فلو كان هو موجة هائجة، كانت هي طوفانا لا يستطيع تخطّيه. بدا من محادثتهم مدى تأثير هذه الأخت الكبرى في العائلة الإمبراطوريّة.

تدخّل آنذاك الأخ الأكبر. لقد كان أصغر من الأخت الكبرى بسنة فقط، لكنّه كان يملك نفوذا أكبر منها بكلّ تأكيد. وبعد كلّ هذه الشهور من ظهور الإكسيرات، كان قد بلغ قمّة المستوى السادس بالفعل وغدت له شعبيّة كبرى ممّا كانت عليه في الإمبراطوريّة.

"يا أختاه. يمكنك أن تدافعي عنها كما تشائين، لكنّها أنقذت غريبا بالتضحية بأبينا. كان يمكن معاقبتها كآثمة أبديّة، أو خائنة للإمبراطوريّة. لولا كونها أختنا الصغرى العزيزة على قلوبنا، لما كان لها مكان بيننا الآن." كان الأخ الأكبر واضحا في نيّته. لقد كان بشخصيّة ملكيّة حقّا. ظلّ حكمه مبنيا على مكانته كالأمير الأوّل وليس كأخ.

نظر الأخ الثاني إلى شيرايوكي وتنهّد. لقد أخبرها سابقا أن تبقى بعيدة عن نقاشهم مصلحةً لها فقط؛ كان يعلم أنّ الأمور ستصل إلى هذا وتصير هي في موقف سيّئ. لقد كان قاسيا في معاملته لها عمدا لأنّ نظرته للقادم كانت واضحة. لقد أعزّ أخته مثل أخيه الثالث، لكنّه كان مختلفا عنه. كان شخصا حازما ويمكنه اتّخاذ قراراته الخاصّة بعزم.

أراد أن يقول شيئا ما، لكنّ الأخت الكبرى كانت مستعدّة للإجابة عن الأمير الأوّل بالفعل. وجّهت إصبعها نحو إخوانها الأربعة، وقالت: "أنتم الأربعة." ثم أشارت إلى نفسها وثم أختيها الأخريين: "ونحن الأخوات الثلاثة. أخبرني يا أخي الأوّل، من منّا ذهب؟"


عبس الأمير الأوّل وقال: "لقد أخبرناك. لقد أمرنا أبونا الفاضل بعدم الذهاب حتّى نرتقي بالإمبراطوريّة إن حدث وتوفّى. أتقولين أنّه كان يجب علينا أن نعصي؟ فماذا نكون عندئذ؟"

رثت الأخت الكبرى مرّة أخرى لحال أخيها الأوّل. كلّ ما كان يفكّر فيه دائما هو الأوامر واتّباعها، وطريقة سير الحكم. وقفت هناك بجانب الدرج المؤدّي إلى العرش، وقالت: "كنّا لنكون بجانب أبينا عند موته. لا يهمّني موته البطوليّ بقدر ما أهمّني رؤية لحظاته الأخيرة."

رفعت يدها وأشارت بإصبعها إلى الأميرة شيرايوكي ثم قالت: "في بعض الأحيان يا أخي الأوّل، لا يجب أن تطيع أباك بشكل أعمى. فبالرغم من أنّها اتّخذت خيارا قاسيا على قلبها، إلّا أنّها كانت الشخص الوحيد الذي ذهب لمرافقة أبينا الفاضل في حربه الأخيرة. لقد سمعَتْ أوامره مثلنا، لكنّها ذهبت. لقد كانت تعلم بقيمتها عند العدوّ فاختارت أن تغامر بحياتها حتّى تضمن لنا مستقبلا. لقد كانت الشخص الذي اختار حياة شخص آخر على حياة أبينا، لكنّ ذلك كان بأمر منه.

لقد كانت أختنا الصغرى، الأميرة الرابعة، أزهر شيرايوكي هي الشخص الوحيد الذي أحبّ أبانا أكثر من أيّ أحد آخر."

تنهّدت الأخت الكبرى من جديد وأكملت: "لقد كانت بطلة في الحرب الشاملة، وبسبب تصرّفاتها أنقذت أرواحا عديدة. قد تلومونها على موت أبينا الفاضل، لكنّكم تحاولون إيجاد عذر يبرّر موقفكم لا غير. يا أخي الأوّل، أخبرني عن اختيارك لو كنت في نفس الموقف؟ هل كنت لتطيع أبانا كما فعلت أختنا الصغرى أم تعصيه؟"

عبس الأمير الأوّل بعدما سمع هذا الكلام. لقد كانت أختهم الكبرى حكيمة حقّا. كان معها حقّ في كلّ ما قالته حتّى الآن ولم يجد ما يردّ به. لقد كانت أولويّاته هي طاعة الأوامر دائما، سواء كان الآمر أو المأمور. فهل يمكنه وضع اللوم على أخته الآن لأنّها أطاعت أباها؟ أم هل يجب أن يعاقبها لأنّها عصته وتبعته إلى الحرب؟ أصبح ذهنه مشوّشا بالكامل.

لم تترك الأخت الكبرى فرصتها هذه تضيع سدى وأضافت: "يا أخي الأوّل، إنّك تصلح جنرالا، لكن ليس حاكما. أنت تعلم أنّني لا أهينك."

اتّفق معها الأمير الأوّل في الواقع. فهو لم يكن حاقدا على شيرايوكي، كان فقط ينظر إلى الموقف من جهته ولم يضع نفسه بمكانها. ظلّ يفكّر في ما كان ليختاره لو سقط في نفس موقف أخته الصغرى.

واصلت الأخت الكبرى: "وأنت يا أخي الثالث. لربّما تكون لديك بعض الأفكار في ذهنك، لكنّك لا تجرؤ أحيانا على الإقدام عليها. وتلك صفة لا يجب أن يتحلّى بها الحاكم. الحسم ضروريّ لاتّخاذ القرارات الصعبة. قد يكون بإمكانك أن تصبح اليد اليمنى وتقترح أفكارك فقط."


حدّقت بعد ذلك الأخت الكبرى إلى الأخ الأصغر، ثم تنهّدت كأنّها لا تريد الحديث عنه حتّى. لقد كان شخصا منفعلا كثيرا، لذا لم يكن من المرشّحين لاعتلاء العرش حتّى. كان هو بنفسه يعلم ذلك جيّدا.

بقي عندئذ الأخ الثاني. كان ينتظر رأي أخته عنه بفارغ الصبر. لقد كانت الأكثر حكمة بينهم وكان لكلامها عندهم شأن. وهذا كلّه بدون ذكر قوّتها. ففي الحقيقة، لقد كانت قويّة جدّا. كان ذلك واضحا بعد ملاحظة تصرّف الأخ المنفعل تجاهها.

نظرت إلى أخواتها الثلاث ثم قالت: "أخواتي كلّهن صغيرات عن الحكم، لذا دعونا لا نتحدّث عنهنّ. أمّا أنا، فلست ملائمة للحكم. كلّكم يعلم أنّني لا أحبّ التقيّد بمنصب." وبالطبع كان هذا صحيحا. فبالرغم من أنّها كانت بمكانة جيّدة في الإمبراطوريّة، إلّا أنّها شاركت في أحداث بسيطة ولم تتدخّل بالأمور الكبرى.

نظرت إلى الأمير الثاني ثم قالت: "تبقى أنت أفضل اختيار لنا يا أخي الثاني. لربّما أنت الوحيد الذي يحمل بعضا من الحكمة وعزما يليقان بحاكم."

ابتسم الأمير الثاني ثم قال: "شكرا لك أختاه على مدحك لي، لكنّني أعتقد أنّ أخي الأكبر ملائم أكثر لهذ..."

"لا ! " قاطعة الأمير الأوّل فجأة وقال: "أختنا الكبرى معها حقّ. حتّى لو كنت غبيّا، ما زلت قادرا على إدراك حدودي. سأتضامن بالاعتناء جيشنا العظيم وأريحك من هذا على الأقلّ."

تكلّم الأمير الثالث أخيرا بعد صمته الطويل: "مع أختنا الحكيمة الحقّ. لديك يا أخانا الثاني ما نملكه ولا نملكه. ولا تقلق، سنكون في جانبك دائما."

حدّق الأخ الأصغر إلى أخيه الثاني ولم يقل شيئا، وعندها وجد أخته الكبرى تحملق إليه، فاقشعرّ جسده وقال بسرعة لأخيه الثاني: "نعم، نعم. أخي الثاني هو الأكثر ملاءمة."

لقد كان يخشى أخته الكبرى حقّا. وعندما رأى الجميع تصرّفاته، لم يسعهم سوى أن يضحكوا. وخصوصا الأخ الأوّل؛ إذْ كان صوت ضحكه مرتفعا جدّا. تحرّك بعد ذلك واقترب من شيرايوكي فوضع يده على رأسها وقال: "اعذري أخاك الأكبر هذا. لم أكن فقط غبيّا كفاية لكيلا أفهم معاناتك، لكنّني أضفت إلى ذلك إلقاء اللوم عليك أيضا."

تطلّعت شيرايوكي إليه بعينيها اللتين تغرغرتا بالدموع، فجعلت قلبه يهتزّ. تململ بعد ذلك في مكانه عاجزا عن معرفة ما يجب فعله. لقد كانت تلك دموع الأخت الصغرى في العائلة، ولم يكن الأخ الأكبر يعلم كيفيّة التعامل معها.

اقتربت الأخوات منهما، فقالت الأخت الثانية: "انظر كيف جعلتها تبكي. لقد كانت أختي الكبرى محقّة بشأنك. همف ! "

ربّتت الأخت الثالثة على رأس شيرايوكي، ورمت نظرة عبوسة تجاه أخيها الأكبر. لقد كان يتململ فيما سبق، لكنّه أصبح الآن متجمّدا في مكانه. وبعدما رأوا هذا يحدث، ضحكوا عليه فكان دور الأخ الأصغر حتّى يضحك بصوت مرتفع.

اقترب جميعهم من شيرايوكي، وواسوها. تكلّمت الأخت الثالثة بينما تحاول إقاف دموع أختها الصغرى من النزول جفنيها: "أنت لم تخطئي يا أختنا الصغرى. لقد قمت بالخيار الصحيح."

نزلت الدموع من عيني شيرايوكي على يد أختها الثالثة، وعانقها الجميع. لقد كان هذا الأمر يؤرّقها حتّى الآن، وما زال سيفعل مستقبلا، ولكن على الأقلّ حظيت بفهم إخوانها وأخواتها ودعمهم لها.

مرّ وقت طويل قبل أن تتوقّف عن البكاء، وقالت بعدما مسحت دموعها: "لن أنسى أبانا أبدا ما حييت. لقد اخترت، وسأتعايش مع ذلك. لن أترك تضحية أبينا تذهب سدى أبدا."

ابتسم الجميع بينما يحدّقون إلى عينيها ذواتا احمرار بسبب البكاء. لقد كانت أختهم الصغرى بعد كلّ شيء، وبعدما تفاهموا أخيرا، ندم من أساء إليها بكلامه على ما قاله لها سابقا، واعتذروا جميعا سواء أأخطؤوا بشأنها أم لا.

نظرت إلى إخوانها وأخواتها الذين يعانقونها ثم قالت بحزم بعينيها: "كونوا أمواجا هائجة، لكن متّحدة."

ابتسم الأخ الأكبر وقال بينما يحكّ رأسه: "نعم، ذلك صحيح. لقد كدنا ننسى وصيّة أبينا الفاضل باتّهامنا لك." أمسك بعد ذلك يد أخته الصغرى، ثم أعطى يده الأخرى لتمسكها الأخت الكبرى، فوقفوا جميعا في النهاية مشكّلين دائرة بينما يمسك أحدهم يد الآخر.

تكلّموا في نفس الوقت كما لو امتلكوا نفس الروح والعقل: "سنكون أمواجا هائجة، لكن متّحدة."

في إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، كانت الأجواء حماسيّة نوعا ما هذه الأيّام بشأن ذلك الخبر الذي تلقّوه. فبعد مرور أشهر على الحرب الشاملة، بدأ ينسى الناس أخيرا أحزانهم على فقدانهم أعزّائهم، وواصلوا حياتهم.

وما أثار بعض الروح فيهم من جديد وحفّزهم كان الإعلان الذي أصدرته عائلة كريمزون.

"سيصبح العالم في الأيّام القادمة مشتعلا. أنا متشوّق لرؤية الأكاديميّة الجديدة التي تبنى. قيل أنّها ستحمل أفضل المواهب في العالم على الإطلاق من جميع الأكاديميات المنتشرة في بقاعه."

"نعم، نعم. يبدو أنّها تقع في الحدود بيننا وبين إمبراطوريّة الأمواج الهائجة. لقد مرّ شهر الآن منذ أن بدأ بناؤها. يقال أنّها تبنى على أساس سحريّ غنيّ بعدد هائل من أحجار الأصل، وهذا بدون الإشارة إلى حقيقة كونها تبنى بـ'الأرض المسالمة المباركة' ودعم من سحرة بالمستوى السادس والسابع."

أصبح سحرة المستوى السادس والسابع شيئا طبيعيّا في العالم الواهن بعد مرور أشهر على الحرب الشاملة. ففي تلك الحرب، علم العالم عن القوّة العظيمة الحقيقيّة، وعرفوا أنّ هناك مستويات أخرى بعد المستوى السابع.

وبعد هذه الحرب، ساهم كلّ من الجنرال رعد والجنرال منصف، إضافة لبعض رؤساء العائلات في نشر طريقة الاختراق. لقد كانت طريقة الاختراق نفسها، لذا لم يكن هناك داعٍ لاحتكارها. وخصوصا بما أنّ العالم أصبح يحتاج إلى سحرة بالمستوى الثامن فما فوق.

أكمل الناس حواراتهم: "ليس ذلك فقط. لقد سمعت أنّ الجنرال رعد والجنرال منصف الذي اخترق إلى قسم مستويات الربط الثاني وبعض الشخصيات من تشكيل بطل البحر القرمزيّ يدعّمون أساس تلك الأكاديميّة."


صدِم بعض الأشخاص الذين لم يكونوا يعلمون بهذا: "أووه! ذلك حقّا مدهش. يبدو أنّ هذه الأكاديميّة ستصير شيئا مذهلا بالمستقبل حقّا."

تدخّل آخر في الكلام: "ولا تنسوا المدينة التي أسّسها الجنرال الأعلى. لا شكّ في أنّها ستكون مدعّمة بتقنيات مدهشة. قد أذهب وأسكن فيها. عندها سأعيش مرتاح البال طيلة حياتي."

"هاهاها. معك حقّ. لربّما سنفعل ذلك قبل أن يصبح السكن مستعصيا فيها."

كانت هناك الكثير من المواضيع التي أصبح يتحدّث عنها سكّان العالم الواهن. كانت الأجواء هكذا في جميع الإمبراطوريّات، وأينما حلّت قدم الشخص كان يسمع بلقب بطل البحر القرمزيّ. لقد أصبح أسطورة بالفعل، وكانت هناك مسرحيّات تقام بناء عليه. لعب الأطفال فيما بينهم بينما يحاكون المعركة بين باسل وهدّام الضَّروس.

كانت الإمبراطوريّات في علاقة جيّدة بينهنّ، حتّى أنّهنّ قرّرن بناء تلك الأكاديميّة التي ستتكوّن من جميع عباقرة العالم، وتصبح قوّة يمكنها مجابهة أيّ خطر مستقبليّ.

كانت هذه فكرة باسل بالطبع. كان يريد فعل هذا بعدما تصبح الإمبراطوريّات على وفاق تامّ، ويمكنهنّ أن يتضامنّ إلى هذه الدرجة. فإن لم يكن هناك تعاون كلّيّ بينهنّ، لن تنجح هذه الأكاديميّة في بلوغ الذروة أبدا.

لم يكن كافيا تدريب السحرة الصغار في جميع الأكاديميّات كلّ على حدى؛ فوجب تأسيس مثل هذه الأكاديميّة التي ستجمع كلّ النخبة. وبالطبع، هؤلاء النخبة سيأتون من جميع الأكاديميات الأخرى بعدما ينجحون في عدّة اختبارات ويصبحون مؤهّلين.

كان الأمر كالتالي: تكوين المواهب في الأكاديميّات عبر العالم، وصقلها في الأكاديميّة العظمى. كانت هذه هي الطريقة الأكثر فعّاليّة حتّى ينمو عباقرة العالم الواهن في أسرع وقت.

مرّت أيّام، فأسابيع، فأشهر، وكانت الأخبار عن بطل البحر القرمزيّ مجهولة تماما ولم يعلم أحد عن مكانه. ومع ذلك، لم تتوقّف الأحاديث عنه ولا البحث عن مكانه. أراد بعض الأشخاص اللقاء بهذا الشخص المذهل وتمضية الوقت معه. لقد كانت لحظات معه تعدّ كفرصة لا مثيل لها وحظّ يمكنه جعل الشخص الصعود إلى قمّة العالم بكلّ سهولة.


***

في أحد الأيّام، استقبلت العاصمة مدينة السيف القرمزيّ شخصيّات مهمّة من جميع بقاع العالم. لقد كانوا عائلات نبيلة بأسماء ثاقبة ونفوذ عظيم. وبالطبع كان إخوة وأخوات الأمواج الهائجة من بينهم، وكذلك الإمبراطور غلاديوس. كان زعماء قبائل الوحش النائم حاضرين أيضا.

كانت هذه المناسبة تخصّ العديد من الأشياء. فقبل مدّة، اعتلى أمير إمبراطوريّة الأمواج الهائجة العرش، إضافة إلى السبب الرئيسيّ من أجل هذا الاجتماع. ولكن مع أنّه كان اجتماعا إلّا أنّه كان أقربا إلى احتفال بالمصادقة على ذلك القانون الذي اتّفقت عليه كلّ هذه العائلات المهيمنة على العالم الواهن – إزالة العبوديّة!

كان من الصعب في الشهور قبل الحرب الشاملة أن يتمّ هذا الأمر، ولكن بعدما رأى العالم قوّة تفوق المستوى السابع بكثير، ووحّدت الإمبراطوريّات قواها من أجل الاستعداد للخطر المستقبليّ، لم يعد هناك الكثير من العائلات المعارضة وصار تقريبا جلّ المهيمنين على العالم، سواء بتجارتهم أم قوّتهم، موافقين.

أصبح هذا القانون معلوما في العالم الواهن بأكمله، وأيّ شخص كان عبدا صار حرّا من حيث لا يدري، وبالطبع أجزِي المالك من طرف سيّد المدينة. كان هناك اختيار للعبيد بأن يبقوا كخدم للمالك بينما يتلقّون أجورهم، أو يغادرون بعدما أتتهم حرّيتهم.

كان هناك العديد من العبيد اختاروا البقاء كخدم مأجورين في الواقع على الحرّيّة. لقد كانوا أصلا أشخاصا لا مال لهم ولا منزل خاصّ، لا علاقات مفيدة ولا أعمال؛ كلّ ذلك جعلهم يهابون تلك الحرّيّة التي أرادوها في وقت ما؛ كان البقاء كخدم كضمان لهم بحيث يعملون ويتلقّون أجرة. من يعلم ما الذي سيحدث لهم دون منزل وعمل؟

ولكن حتّى لو أزيلت العبوديّة، تواجد عالم الجريمة وتواصل كلّ ذلك في الخفاء، لكنّه اختفى تدريجيّا من العلن. كان ذلك بداية جيّدة حتّى يتبدّد غالب ذلك مع الوقت.

وبالطبع بعدما لم يصبحوا عبيدا، صار لهم الحقّ في الدخول إلى أكاديميّات السحر للتعلّم، والحقّ في تلقيب أنفسهم. كان ذلك شيئا مدهشا للغاية في الواقع. لم يكن ليظنّ أحد أنّ شخصا اعتاد أن يكون عبدا سيدخل أكاديميّة سحر ويكون ساحرا بعد ذلك.


كانت الأجواء حيوّية لأيّام أخرى بسبب هذا الخبر، وعمّ الفرح والسرور العالم الواهن. كانت هناك أسر كاملة قد عَبُدت، فما الذي كان أكثر فرحا لهؤلاء الناس من اكتسابهم الحرّيّة؟ كانوا عند العبوديّة أقلّ من الحيوان، والآن بعدها صاروا بشرا كما ولِدوا أخيرا.

في هذه الأيّام، ظلّت العائلات ذات النفوذ في العالم الواهن والأباطرة الثلاثة مجتمعين في قصر عائلة كريمزون. لقد كان ذلك لسبب وحيد؛ كانوا ينتظرون انتهاء بناء الأكاديميّة العظمى حتّى يقيمون احتفالا لائقا بافتتاحها.

وبعد أيّام أخرى، انتهى بناؤها أخيرا، واستعدّ الجميع للذهاب إلى هذه الأكاديميّة من أجل رؤية افتتاحها. كان الافتتاح بإشراف الأباطرة الثلاثة، لذا كانوا متوجّهين إليها بالفعل ما أن سمعوا عن اقتراب اكتمال بنائها.

ركب الأباطرة الثلاث عربة واحدة يجرّها الخيل الملكيّ، وصاحبتهم لمياء ممثّلة قبائل الوحش النائم الحالية. تحدثوا في بعض المواضيع المهمّة. ومن بينها كان باسل وأنمار. تساءل الإمبراطور غلاديوس: "يا أيها الإمبراطور أكاغي، ما الأخبار عن بطل البحر القرمزيّ؟"

قطب الكبير أكاغي ثم أجاب: "ذلك... ما زلت لا أعلم في الواقع. فآخر مرّة سمعت منه كانت قبل شهور. لا يمكنني الاتصال به."

كان إمبراطور الأمواج الهائجة، أزهر هاكوتشو، يستمع طوال الوقت دون أن يتكلّم كثيرا، لكنّ اهتمامه أثير حينما سمع اسم باسل. لقد أراد اللقاء بهذا الشخص حقّا. فبعدما سمع تلك القصص عنه من أخته الصغرى شيرايوكي، أصبح معجبا كبيرا به وأراد أن يمضي بعض الوقت معه.

تدخّل عندما لاحظ عبوس الكبير أكاغي: "يا أيّها الإمبراطور كريمزون، لقد سمعت الكثير من الأشياء عنه، وبناء عليها، فلا أظنّ أنّ هناك داعٍ لقلقك. قد يكون هناك سبب لذلك."

علم الكبير أكاغي أن الإمبراطور هاكوتشو يحاول مواساته، لذا ردّ الابتسامة وقال: "معك حقّ. لقد حدث هذا من قبل، لذا أظنّه ليس غير اعتياديّ. تُشكر أيّها الإمبراطور أزهر."

ابتسم أزهر شيرايوكي ولم يدع الموضوع عن باسل ينتهي، لذا بدأ يسأل عن الكثير من الأشياء حوله طوال الطريق إلى الأكاديميّة العظمى.


أمّا لمياء، فقد ظلّت صامتة طوال الرحلة دون أن تتحدّث بشيء. لقد كانت هادئة وحادّة في طبعها، ولم تكن كثيرة الكلام. ما لم يكن هناك شيء يخصّ قبائلها بطريقة ما أو العالم عامّة، فلن تنبس ببنت شفة.

***

كان موقع هذه الأكاديميّة قريبا من مدينة العصر الجديد في الواقع. كان بالضبط بينها وبين السلاسل الجبليّة الحلزونيّة. اختير هذا المكان من طرف باسل بعد أخذه مشورة معلّمه. لقد كان هذا المكان غنيّا بالطاقة السحريّة، وكان قريبا من ثالث أكبر منطقة محظورة، والتي سيحتاجون إلى تسيّدها ما أن يصير العالم الواهن عالما روحيّا. ستكون السلاسل الجبليّة الحلزونيّة مكانا جيّدا لتدريب التلاميذ فيما بعد.

كانت الأكاديميّة على الحدود بين الإمبراطوريتين الشعلة القرمزيّة والأمواج الهائجة. كانت هذه الحدود تملك عدّة مناطق محظورة، ومرّت عبرها بعض الأنهار لتصبح غنيّة بطاقة العالم بعد مرور عصور. كان أحد هذه الأنهار هو نهر ددمم التنين. صبّ شلّاله مثله مثل الأنهار الأخرى ببحيرة كبيرة للغاية بدت كأنّها بحر صغير.

كانت هذه البحيرة شهيرة في العالم الواهن. فلقد كانت مصبّا للعديد من الأنهار الغنيّة بطاقة العالم، وخصوصا نهر ددمم التنين. ولهذا لطالما ما كانت هدفا للسحرة حتّى يستطيعوا تنمية قوّتهم أكثر. لقد كان تمضية أسبوع بهذه البحيرة مشابها لشهر بمنطقة محظورة، ونصف سنة بمنطقة عادية.

وقعت هذه البحيرة في منطقة غريبة. لم تكن هي بنفسها منطقة محظورة، لكنّها أحيطت بعدّة مناطق محظورة من جميع الزوايا وبدت كما لو أنّها كانت محاصرة في الداخل. كانت هذه المناطق المحظورة تحمل وحوشا سحريّة مرتفعة المستوى، فلم يكن يستطيع بلوغ هذه البحيرة سوى سحرة المستوى السادس فما فوق.

ولكن في هذه الأشهر الأخيرة، صارت مكانا مرعبا وجعلت الكثير من سحرة المستوى السادس ضحايا لها. كان هؤلاء السحرة قد بلغوا المستوى السادس بعدما ظهرت الإكسيرات، لذا أرادوا الإسراع والدخول إلى تلك البحيرة من أجل الارتفاع في المستوى بشكل أسرع، لكنّهم واجهوا الموت ولم يتغلّبوا عليه.

أصبحت المناطق المحظورة التي تحاصر هذه البحيرة تحمل وحوشا سحريّة بالمستوى السابع إلى التاسع، لذا كان من الصعب على سحرة لم يخترقوا إلى قسم مستويات الربط الثاني على الأقلّ أن يتجاوزها، ووجب أن يكون هناك تعاون بينهم حتّى ينجحوا ما لم يكن هناك ساحر بفنّ قتاليّ أثريّ أو وسيلة تجعله أقوى من مستواه الفعليّ.


كان ذلك مخيبا للآمال للكثيرين، كما كان تحدّيا لآخرين. هناك من استسلم، وهناك من جعل بلوغ تلك البحيرة كهدف آخر له. فعندما يكون ساحر قادرا على الوصول إلى هذه البحيرة، سيكون قد أصبح قويّا بالفعل لأنّه سيكون ساحرا عبر تلك المناطق المحظورة المرعبة، وسيُضاف عندها إلى ذلك تدرّبه في البحيرة المدهشة.

لقِّبت هذه البحيرة بـ'بحيرة العالم المباركة المحاصَرة'. كانت نقيّة جدّا ولمعت مياهها، وتراقصت الأسماك بجميع ألوانها من أعماقها إلى سطحها. تميّزت بهدوء يجعل الروح مسالمة، ويوصل بعضا من الحكمة الطبيعيّة. كان المكوث في هذه المنطقة منيرا لعقل الساحر.

امتدّ قطر البحيرة المباركة لعشرات الأميال، وجاورها غابة كبيرة، إضافة إلى بعض الجبال والسهول. كانت منطقة يعمّها السلام، وبدت كأرض مباركة لا يمسّها شرّ. كانت هذه المنطقة تُسمّى بـ'الأرض المسالمة المباركة'؛ فمع أنّ هذه الأرض لم تكن وفيرة الطاقة بالدرجة التي كانت بها البحيرة المباركة، إلّا أنّها كانت بجودة منطقة محظورة عادية. كانت أرضا هادئة للغاية ولم يبدو عليها آثار حرب قديمة أو أيّ شيء مشابه. بدت كأنّها قطعة من الجنّة في هذا العالم الفاني.

وفي هذه الأرض المباركة، أسِّست الأكاديميّة العظمى. لقد كان ذلك خبرا صعق الكثير من الناس في الواقع. فقبل أن تصبح الإمبراطوريّات على وفاق تامّ، كان من المستحيل السماح لأيّ شخص باحتكار هذه المنطقة. ولكن بعدما تحالفن، من كان هناك ليقف في وجههنّ ويمنعهنّ من تأسيس مثل هذه الأكاديميّة؟

وفي الواقع، لم يكن احتكارها ممكنا بالنظر إلى قوّة الوحوش السحريّة في هذه المنطقة. فلو أراد قوم فعل ذلك سيضطرّ لخسارة عدد هائل من الجنود حتّى يصل آخرين إلى مرادهم. كان أقوياء العالم يجتمعون ويوحّدون قوّتهم من أجل الدخول إليها غالبا. كانت منطقة مسالمة ففرضت سلمها على كلّ شخص أراد بلوغها.

وبالطبع، كانت قبائل الوحش النائم مشاركة في هذا التأسيس. فبعد كلّ شيء، كان وكر الوحش النائم كبلاد عظيمة توصل إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة بإمبراطوريّة الأمواج الهائجة. لم يكن ممكنا تركه خارج الأمر بعدما أصبحت جزءا من هذا العالم من جديد.

كان هناك العديد من السحرة خارج المناطق المحظورة المحيطة بالأرض المسالمة المباركة، وظلّوا ينتظرون وصول الشخصيّات المهمّة حتّى يقام افتتاح الأكاديميّة العظمى. لم يكن هناك أيّ شخص عادي هنا قطّ، واقتصر الأمر على السحرة من جميع المستويات. كان غير مسموح لغير السحرة بالقدوم إلى هذا الحدث في الواقع.

مرّت مدّة طويلة واجتمع مئات الآلاف من الأشخاص. كان كلّ واحد منهم متحمّسا لرؤية الأكاديميّة التي انتهى بناؤها أخيرا. أو بالأحرى، أراد غالبهم استغلال هذه الفرصة لرؤية الأرض المباركة؛ لطالما كانت مكانا أبعد ممّا يمكنهم بلوغه.

وعندما وصل الأباطرة الثلاث أخيرا، أصبح الجميع على أهبة الاستعداد لوضع قدمه داخل المناطق المحظورة من أجل العبور. لقد كان الجنرالان رعد ومنصف بقسم مستويات الربط الثاني، فكانت مرافقتهما إضافة إلى باقى تشكيل بطل البحر القرمزيّ أفضل ضمان.

نزل الأباطرة الثلاث ولمياء من العربة، فصنع الحاضرون ممرّا واسعا لهم. مع أنّ هؤلاء الأربعة لم يكونوا أقوياء بشكل جنونيّ، إلّا أنّ مكانتهم لوحدها كانت كافية لجعل الجوّ حولهم صعب التنفس فيه. لم يستطِع أحد أن يصدر صوتا فما بالك بإحداث ضجيج. كان الهدوء يعمّ المكان، لدرجة أنّه لو سعل شخص لتردّد صوته في جميع الأنحاء. وبالطبع لم يكن هناك شخص يجرؤ على السعال حتّى.

تقدّم الجنرالان رعد ومنصف بعدما كانا ينتظران وصول الأباطرة الثلاث والآخرين، ثم انحنيا وقدّما لهم التحيّة.

تكلّم الكبير أكاغي: "ارفعا رأسيكما."

استجاب الاثنان لأمره، فأكمل بعد ذلك: "هل الطريق مؤمَّن؟"

ردّ الجنرال منصف بعد ذلك: "نعم، يا جلالتك. إنّ قادة تشكيل الجنرال الأعلى يقمعون الوحوش السحريّة حتّى يكون الطريق آمنا."


ابتسم الكبير أكاغي ثم أضاف: "إذن ليس هناك وقت لنضيعه. قُودَا الطريق."

"حاضر يا جلالتك!" ردّ الاثنان والتفتا إلى جهة المناطق المحظورة.

كانت هذه المناطق المحظورة مترابطة كما لو كانت واحدة. كان هناك بضع سنتمترات تفصلهنّ عن بعضهنّ. ولكن هذا الممرّ الذي صنعته هذه السنتمترات أغلقته منطقة محظورة أخرى إمّا من الأمام أو من الوراء، ولهذا كان عبورها مستحيلا دون دخول بعضها.

تطوّر مستوى قادة التشكيل عمّا كان بكثير، لذا كان بإمكانهم كبح الوحوش السحريّة التي تتواجد هنا. فَبِاجتماعهم معا، لم يكن هناك شيء يوقفهم. كانت الوحوش السحريّة ذات المستوى الثامن والتاسع هنا سهلة التعامل معها بالنسبة لهم بما أنّ هذه الوحوش السحريّة تفرّقت في تلك المناطق المحظورة.

تبع الأباطرة الثلاث ولمياء العديد من الشخصيات المهمّة. كان من بينها أمراء وأميرات إمبراطوريّة الأمواج الهائجة، ومعظم الجنرالات من جميع أنحاء العالم، إضافة إلى العديد من الشخصيّات المهمّة؛ كان هذا حدث عالميّ ولم يرد أحد منهم تفويته. وأخيرا دخل جميع السحرة الذي أتوا إلى هنا.

كانت المناطق المحظورة تختلف، فكان الطريق إلى الأرض المباركة مليئا بالعديد من المناظر المدهشة. كانت هناك وحوش سحريّة تطير فوق الجبال، وأخرى تتراقص في الأنهار. كانت المناطق المحظورة كأراضٍ مباركة في الواقع لولا وجود الوحوش السحريّة.

كان الطريق مؤمّنا من الجنرالين رعد ومنصف حتّى بلغوا نقطة التقوا فيها بقادة التشكيل. كان قادة التشكيل في الواقع يقاتلون الوحوش السحريّة طول الطريق الذي أتى الجنرال رعد والآخرين، ولهذا كان خاليا من الوحوش السحريّة. وبالطبع لم يكن ذلك كافيا فأخذ الجنرالان رعد ومنصف الجبهة.

عندما التقوا بقادة التشكيل، كانوا قد بلغوا آخر منطقة محظورة قبل الدخول أخيرا إلى الأرض المباركة. لم ينتظروا كثيرا وأكملوا تحرّكهم. ولكن هذه المنطقة المحظورة لم تكن بالشيء السهل.

كان بها أربع وحوش سحريّة بالمستوى التاسع. كانت هزيمتهما ستأخذ بعض الوقت لذا استعدّ قادة التشكيل والجنرالات كلهم للدخول في معركة.


كانت المناطق المحظورة التي تحيط هذه الأرض المباركة بشكل مباشر كلّها تحتوي على ثلاث وحوش بالمستوى التاسع أو أكثر في الواقع. لذا لم يكن الأمر مهمّا من أين يدخل المرء، لأّنه سيضطرّ لمواجهة وحوش بهذا المستوى مهما كان اختياره.

لم يكن هزيمة تلك الوحوش السحريّة بالمستوى التاسع صعبا عليهم مجتمعين. لقد كانوا قوّة مدمّرة حقّا لا يمكن زعزعتها بسهولة. لم يأخذوا وقتا طويلا قبل أن يصنعوا طريقهم إلى الأرض المباركة.

وبمجرّد ما أن وضعوا أقدامهم بها حتّى شعروا بسكينة لا مثيل لها. أحسّوا أنّهم في جنّة لا صراع بها. أعطى كلّ شيء وُجِد بها شعورا بالرقيّ والسموّ. حتّى عشبها كان غنيّا بطاقة العالم، فما بالك بالجبال والسهول، إضافة إلى تلك البحيرة المباركة. لقد كانت أرضا مسالمة مباركة حقّا.

مرّوا بالجبال والسهول والغابة الكبيرة، حتّى بلغوا أخيرا مرادهم. كان هناك أمامهم مبانٍ بدت كالقصور، وتوهّجت حوائطها كما لو أنّها مصنوعة من الألماس. كان بها عدة أجنحة بدت كالقلاع، وارتفع العديد منها آلاف الأمتار إلى السماء. كان هناك جبل في المركز بُنِيَ على قمّته قصر طلّ على بقيّة العالم بهدوء وسلام، وبدا كأنّه مكان يعيش به مخلوق سامٍ.

امتدّت الأكاديميّة لعشرات الأميال، وبدت كمدينة صغيرة. كان بها كولوسيوم وعدد من المعاقل التدريبيّة. انقسمت إلى أربع مناطق كبرى اختلفت في جودة مبانيها ومصادر طاقة العالم. فمثلا، كان ذلك الجبل المركزيّ غنيّا بطاقة العالم أكثر من أيّ مكان آخر في هذه الأرض المباركة غير البحيرة المباركة. كان يمرّ بهذا الجبل العديد من الأنهار التي كانت غنيّة بطاقة العالم، لذا كان أفضل من أقرانه.

أحسّ الجميع بشعور رائع. لقد مرّوا من المناطق المحظورة وأحسّوا بغناها بطاقة العالم، لكنّها كانت خطرة وتعجّ بالوحوش السحريّة فكان الشعور بها مشؤوما نوعا ما. أمّا هذه الأرض فقد كانت مختلفة؛ كانت مسالمة وهادئة أكثر من أيّ مكان آخر. كانت الحيوانات بجميع أنواعها تعيش في هدوء هنا.

لاحظوا عندما دقّقوا النظر أنّ هناك خيل ملكيّ في العديد من الأماكن، وليس هذا فقط، كانت هناك العديد من المخلوقات التي تشبهه. كلّ هذه المخلوقات كانت كيانا بين الحيوانات والوحوش السحريّة. كانت قويّة لدرجة معيّنة، ولم تبدُ كأنّها تحمل بغضا تجاه البشر أو ما شابه عكس الوحوش السحريّة.

كان هناك أيل بقرون طويلة ومتوهّجة تبدو كمرجان مصنوع من نوع من اليشم. كان توهّجها ذاك يبعث ألوانا مختلفة من كلّ زاوية. كان هناك طيور بمختلف الأنواع، وبتحليقها خلّفت وراءها أقواس قزح برّاقة. قفزت بعض الأسماك من الأنهار وبدت كجواهر حيّة بلمعان زعانفها وتألّق حراشفها.

صعد الأباطرة ولمياء إلى قمّة الجبل المركزيّ، ثم حدّقوا إلى الأكاديميّة العظمى التي كانوا بمركزها. لقد كانت شيئا مدهشا حقّا.

تضامنت الإمبراطوريّات الثلاث ووكر الوحش النائم من أجل تغذية أساس هذه الأكاديميّة بشكل جيّد، وبنيت على أساس سحريّ بعدد هائل من أحجار الأصل، ثمّ دعِّمت من قبل سحرة كُثر بمستوى مرتفع. استغرق بناؤها كلّ هذا الوقت لهذا السبب.


وقف الأباطرة ولمياء منتظرين استمتاع السحرة بتلك المناظر المدهشة، وتحدّثوا فيما بينهم حتّى يقرّروا بعض الأشياء، واتّفقوا بعد ذلك على ترك الكبير أكاغي يتكلّف بالإعلان المهم.

وصل خبر التجمّع إلى الجميع، فذهبوا إلى أسفل الجبل المركزيّ وانتظروا الكلمة من الكبير أكاغي. كان هذا الأخير يشعر بحماس لا مثيل له، وفرحة كبيرة للغاية. من كان يعلم أنّ والعالم الواهن في وقت ما سيبلغ هذا الحال ذات يوم؟

أخرج مكبّر الصوت وتكلّم: "إنّه ليوم عظيم حقّا. أشكر كلّ من ساهم في بناء هذه الأكاديميّة العظمى، وقدّم بذلك إلى عالمنا خدمة كبيرة. من اليوم فصاعدا، ستكون هذه الأكاديميّة رمزا لاتّحادنا، وقوّة تضامننا. وبهذه القوّة، سنواجه كلّ المخاطر المستقبليّة ونحمي عالمنا من كلّ الشرور."

تنهّد هنا بعدما تذكّر باسل وأنمار. ودّ لو تواجدا هنا. أكمل بعد ذلك: "في الحرب الشاملة، تيقّنا بأنّنا مجتمعين لا نوقَف. عندما نضمّ أيدينا، يثقل وزننا، وتزدهر حضارتنا."

"لذا أنا هنا اليوم، بالنيابة عن الإمبراطوريّات الثلاث العظمى ووكر قبائل الوحش النائم، بالنيابة عن العالم، أعلن عن افتتاح 'أكاديمية الاتّحاد المباركة'!"

تحمّس الجميع وأحسّوا بنشوة مذهلة. تسارعت ضربات قلوبهم وشعروا بدمائهم الساخنة تتدفّق بسرعة كبرى بشرايينهم. لقد كانت تلك لحظة يعلن فيها العالم الواهن عن اتّحاده أخيرا من أجل ضمان مستقبل آمن. لم يكن لهذا مثيل في التاريخ قطّ.

"أكاديميّة الاتّحاد المباركة!"

ردّدوا ذلك الاسم مرارا وتكرارا، ولم يهمّ أصل الشخص في هذا المكان، لأنّهم كانوا كلّهم من العالم الواهن. لم يكن هناك شخص يستطيع إيقاف زخمهم عندما يجتمعون هكذا.

***


في مكان ليس بالبعيد جدّا عن الأرض المسالمة المباركة، قريبا من مدينة العصر الجديد، تزلزلت الأرض للحظات في منطقة محظورة وارتفع الغبار إلى الأعلى كما لو أنّه فقد وزنه، واهتزّ بشكل عنيف مع الزلزال، ثم ارتجّ الهواء، وفي اللحظة التالية، سقط الغبار كما لو أنّه صار يزن آلاف الأطنان.

بااام

سحقت الأرض بسبب هذا الغبار، وتوقّف الزلزال أخيرا. كانت تلك مجرّد لحظات، لكنّها كانت مرعبة للعين الناظرة. كان هناك بعض الأشخاص قريبين من هذا الحدث، لذا أحسّوا بالقشعريرة، ومرّت برودة عبر عظامهم كنصل من الصقيع يتخلّل جسدهم.

لم يكن ذلك مجرّد قشعريرة، لقد كان شعورا بالخوف لدرجة الموت. فشُلَت ركابهم وسقطوا على الأرض غير قادرين على الوقوف من جديد. كلّ هذا حدث أثناء ذلك الزلزال، وعندما توقّف أخيرا، لم يحدث ما كانوا يتوقّعون.

ظنّوا أنّهم سيستطيعون الوقوف ما أن ينتهي هذا الزلزال ويختفي ذلك الشعور المفزع من قلوبهم، ولكن بعدما هدأت الأمور أخيرا، تكسّر الفضاء أمام أعينهم كأنّه قطعة من الزجاج. كما لو أنّه مرآة تهشّمت لقطع صغيرة. فظهر فراغ بلون بنفسجيّ داكن في الجهة الأخرى من الفضاء المنكسر.

لقد كانوا جميعا سحرة بالمستوى الخامس، وكانوا يحاولون غزو هذه المنطقة المحظورة من أجل العثور على بعض الكنوز وجمع أحجار الأصل، لكنّهم لم يتوقّعوا أنّ شيئا كهذا سيحدث.

وبعدما حدّقوا إلى الجانب الآخر من الفضاء المنكسر، وجدوا أنفسهم غير قادرين على البقاء واعيين حتّى. أحسّوا كما لو أنّهم ينظرون إلى هاوية بدون عمق، ويأس يمكنه غمر آمال المخلوقات وجعلها تسقط في تلك الهاوية لتختفي بدون آثار. وبالطبع، لم يكن كلّ هذا بسبب نظرهم إلى الجانب الآخر من الفضاء المنكسر، وإنّما بسبب ما كان يظهر منه.

لقد كان ذلك مخلوقا يجعل باقي المخلوقات تخضع له بمجرّد وقوفها أمامه. كان يمكنه جعلهم يجنّون بفقدانهم آمالهم، وينتحرون من أهوال الأوهام التي تغزو عقولهم. كان كلّ شيء يصبح عديم القيمة والفائدة أمام هذا المخلوق.

كان كلّ هؤلاء السحرة بالمستوى الخامس، لكنّهم كانوا أقلّ من النمل أمام هذا المخلوق الذي بدا لهم كجبل شاهق مقارنة بهم. كان وزنه رهيبا للغاية وسحقهم به دون أن يحتاج لرفع إصبع حتّى. فقط بالنظر إليه، كانوا قد فقدوا الأمل في الحياة، والاهتمام بها أيضا، فارتعبوا ممّا قد يحدث لهم مستقبلا.


بووم بووم بووم

انفجر المكان مرّة تلو الأخرى كما لو أنّ هناك معركة شرسة تحدث، وتحوّلت المنطقة المحظورة في الأميال المحيطة إلى غبار.

حدثت كلّ هذه الانفجارات بشكل سريع ومفاجئ.

كان سبب هذه الانفجارات الأصليّ هو الخوف، ولكن ليس من الموت، بل من اليأس الذي أتى من ذلك المخلوق أمامهم، فلم يكن هناك خيار آخر أمامهم سوى أن ينتحروا!

كلّ السحرة بالمستوى الخامس الموجودين هنا انتحروا واحدا بعد الآخر بتفجير بحر روحهم! لقد كان ذلك جنونيّا. من سيختار الانتحار حتّى لو واجه الموت؟ كل شخص سيحاول النجاة وليس الموت عندما يهربون من الموت.

لكن وا حسرتاه، لم يكن ما واجهوه موتا، وإنما يأسا عظيما!

نطق المخلوق فجأة بينما يخرج من ذلك الفضاء البنفسجيّ الداكن، وكان صوته هادئا كثيرا، وبدا كما لو أنّه شعر بخيبة أمل نوعا ما عندما رمى كلّ أولئك السحرة بحياتهم: "ليس جيّدا، ليس جيّدا. لقد ماتوا بتلك البساطة. نسيت أن أقمع هالتي بسبب تحمّسي. ليس جيّدا، ليس جيّدا."

قبل مدّة قصيرة، كان هناك ثلاث أشخاص يتحرّكون بغابة ما بهدوء بينما يستمع اثنان منهم إلى ثالثهما. كان هؤلاء الثلاثة هم إدريس الحكيم وباسل وأنمار.

"في المستويات الروحيّة، تصبح روحك كاملة مكتملة عندما يستحوذ بحر روحك الذي يتغيّر عند بلوغ مرحلة الصاعد وبدء الاختراق على روح وحش روحيّ ويندمج معها."

استمع الاثنان بحرص، فسألت أنمار بعد ذلك باهتمام: "كيف يتغيّر بحر الروح؟"

نظر المعلّم إلى باسل ثمّ قال: "قد يكون للفتى باسل فكرة عن ذلك. عندما يبلغ الساحر قمّة المستوى الرابع عشر، ويربط نقط أصله كلّها، ثمّ يرتبط بإرادة روحه، يكون قد أصبح صاعدا حقيقيّا. وفي ذلك الوقت، يختار الساحر الصعود إلى المستويات الروحيّة."

"ويفعل ذلك عن طريق ضغط بحر الروح نفسه حتّى يصير مندمجا بالجسم الأبيض في بحر روحه، أو ما يكون بعد ذلك جسده نفسه. يمكن للفتى باسل الذي ارتبط بإرادة بحر روحه أن يفهم ما أعنيه بالضبط."

أومأ باسل ثمّ حدّق إلى أنمار وقال شارحا: "عندما قاتلت ظلّ الشيطان، ارتبطت بإرادة بحر روحي، فاستُبدِل جسدي بالجسم الأبيض هناك، وعندها أحسست أنّه لديّ تحكّم مثاليّ في بحر روحي بأكمله."

حدّقت أنمار بعد ذلك إلى المعلّم وانتظرته يكمل. لقد كانت هناك الكثير من الأشياء التي عليهما تعلّمها. لقد مرّت شهور منذ أن بدآ التدرّب مع المعلّم، فقرّر أخيرا إخبارهما بهذه المعلومات المهمّة.

واصل إدريس الحكيم: "عندما يدمج الصاعد بحر روحه مع جسده، تصير الروح كاملة ويمكن القول أنّه قد وضع الخطوة الأولى في المستويات الروحيّة، لكنّ روحه تكون ما زالت غير مكتملة، فتكون غير مستقرّة وغير متراصّة. يمكن القول أنّ المستويات الروحيّة تتطلّب روحا أشدّ، لذا يلجأ هذا الساحر الصاعد إلى جعل روحه مكتملة."

فهمت أنمار ما عناه المعلّم واحتاجت إلى التعليق: "هكذا إذن. لهذا يحتاج إلى الاستحواذ على روح وحش روحيّ!"

ابتسم المعلّم ثمّ قال بعدما نظر إلى باسل: "ذلك صحيح. يبدو أن الفتى باسل قد اكتشف ذلك مسبقا."


حكّ باسل رأسه: "ليس تماما. كانت لديّ شكوك فقط."

طرأ سؤال في بال أنمار: "كيف تكون تلك الخطوة الأولى في المستويات الروحيّة؟ هل يمكن أنّه مثل ما حدث لباسل؟ لقد سمعتك تقول أنّه لمس الدرج الأوّل من المستويات الروحيّة عندما أتيت لتعالجه بعدما قاتل الأقدم الكبير."

أجاب المعلّم: "نعم، في ذلك الوقت ظننت أنّه بسبب مخاطرته أثناء ذلك القتال، لكنّ السبب كان المخطوطات الثلاث. كانت هي السبب في اكتسابه تلك القطعة الأرضيّة، لذا ما زال لم يلمس الدرج الأوّل من المستويات الروحيّة في الواقع."

كانت أنمار تعلم بالفعل عن قضيّة المخطوطات. حدّثها باسل عن كلّ ما حدث معه في هذه الأشهر الأخيرة التي أمضياها معا. لم تشعر بالراحة عندما علمت أنّ هناك نيّة ما تحاول السيطرة على باسل، لذا عبست عندما ذكر معلّمهما ها الأمر.

لاحظ إدريس الحكيم ذلك فواساها: "لا قلق يا أنمار الصغيرة. لن يحدث شيء للفتى باسل طالما وُجدْت."

ابتسمت أنمار كذلك. لقد كان لكلام معلّمهما أثر حقّا. كان ذلك نتيجة لثقتها الكبيرة فيه. لم يكن هناك شخص تعرفه قادر أكثر من معلّمهما.

استأنف إدريس الحكيم شرحه: "حسنا. بعدما ينجح الشخص ويمتلك روحا كاملة مكتملة، يصير عندها ساحرا روحيّا عامّة، و'سيّدا روحيّا' خاصّة. يكون بنطاق 'الأرض الواسعة'."

"ولكن قبل ذلك، أثناء عمليّة الصعود والاختراق، يحتاج الشخص إلى 'تقنية تكامل تأصّليّ' حتّى يستطيع دمج روح الوحش الروحيّ بروحه."

"تقنية تكامل تأصليّ؟!" تعجّب باسل وأنمار. لقد كانت هذه أوّل مرّة يسمعان فيها هذا الاسم.

"صحيح." أجاب المعلّم: "تقنية التكامل التأصّليّ هذه هي ما يمنح الصاعد القدرة على دمج الروحيّن معا. وبالطبع لا تقف فائدتها عند ذلك الحدّ. فعندما يصير الشخص ساحرا روحيّا، تنمو روحه الكاملة المكتملة مع الوقت، وتكسب خواصّ الروح الوحشيّة التي استحوذ عليها، لكنّ مدى قوّة وآفاق ذلك تكونان وفقا لتقنية التكامل التأصّليّ."

اندهش باسل وأنمار من هذا الأمر الغريب. لقد بدأ معلّمهما يتحدّث عن شيء لم تكن لديهما فكرة عنه قطّ، لذا كان ذهولهما كبيرا.


واصل إدريس الحكيم: "هناك اختلاف في تقنيات التكامل التأصّليّ، لكنّنا سنترك ذلك ليُشرح لاحقا عندما تقتربان من الاختراق."

فهم باسل وأنمار الفكرة العامّة للآن، ولكن كان هناك شيء يشغل باسل فسأل عنه: "يا أيّها المعلّم، ما الذي يقبع بعد نطاق الأرض الواسعة؟ ما الذي يفوق السيد الروحيّ؟"

ابتسم إدريس الحكيم كما لو أنّه كان ينتظر هذا السؤال، وقال بجدّية: "هذه هي المستويات الروحيّة."

"نطاق الأرض الواسعة – سيد روحيّ"

"نطاق الأرض الحيّة – حاكم روحيّ"

"نطاق الأرض الوفيرة – ملك روحيّ"

"نطاق أرض العالم – إمبراطور روحيّ"

"نطاق نهر العالم – روحانيّ مبارَك"

"نطاق بحيرة العالم – روحانيّ سامٍ"

"نطاق بحر العالم – روحانيّ أسطوريّ"

"نطاق شجرة العالم – سلطان روحيّ"

"نطاق نواة العالم – سلطان مقدّس"

"نطاق أصل العالم – سلطان أصليّ"

"العالم – مؤسّس عالم"

تحدّث إدريس الحكيم: "هذه هي كلّ النطاقات التي عرفتها العوالم الروحيّة."


انبهر الاثنان ورسّخا كلّ المعلومات التي عرفاها اليوم في عقلهما. لقد كان كلّ ذلك مذهلا للغاية. وبالأخصّ عدد المستويات الروحيّة المتبقيّة أمامهما. لقد أشار ذلك إلى شيء واحد فقط – كم كان العالم كبيرا!

كان ذلك محمّسا كثيرا وبالخصوص لباسل. لطالما أراد الاكتشاف وأثير اهتمامه بمثل هذه الأشياء. فُتِح أمامه باب إلى عالم واسع عندما تعلّم السحر، لكنّ ذلك لا يقارن أبدا مع هذا العالم الذي اكتشفه الآن. لقد كان ذلك عالم هائل للغاية لدرجة لا يتخيّلها.

وفي أثناء ذهوله، فكّر في ما قاله معلّمه، فسأل مباشرة: "أيها المعلّم، قلت كلّ النطاقات التي عرفتها العوالم الروحيّة. هل يمكن أن يعني ذلك أنّ هناك احتماليّة لوجود مستويات أخرى لا تعلم عنها العوالم الروحيّة؟"

حدّق إدريس الحكيم إلى باسل ثمّ ابتسم وقال: "لا أحد يعلم ذلك. ربّما يعرف الأشخاص الذين بلغوا مستويات شاهقة مثل مستويات السلطنة بعض الأشياء، ولكن أشخاص مثلنا لا يمكنهم أن يدركوا مثل هذه الأمور حاليا."

"مستويات السلطنة!" كرّر باسل ذلك ووضع هدفا آخر له في الحياة. فسأل مرّة أخرى: "وماذا عن مؤسّس عالم؟ هل يمكن أنّه يعلم عن ذلك؟"

ابتسم إدريس الحكيم ثمّ أجاب: "وجود مؤسّس عالم عبر التاريخ بنفسه مشكوك في أمره، فما بالك بعلمه من جهله بهذا. يقال أنّ هناك شخص واحد فقط في كلّ الأزمان قد بلغ مثل ذلك المستوى، وهذه بنفسها مجرّد أسطورة."

قطب باسل وقال: "كيف إذن يوجد هذا المستوى إن لم يبلغه أحد؟"

ابتسم إدريس الحكيم مرّة أخرى وأجاب: "معك حقّ. بما أنّ المستوى موجود فلا شكّ أنّ أحدا قد بلغه. ولكن لأنّه ليس هناك أيّ معلومات كافية عنه أو آثار متبقيّة منه، فقد أصبح مجرّد أسطورة عبر التاريخ، وبقي لقب 'مؤسّس عالم' فقط. لربّما وُجِد، لكنّه اختفى بدون ترك أيّ دليل على ذلك. وهذا سبب في اعتقاد بعض الأشخاص أنّه مجرّد أسطورة لا أكثر بالرغم من وجود اسم المستوى."

فهم باسل ما يقوله ملعلّمه، لكنّه أراد أن يعرف أكثر فسأل مرّة ثانية: "حسنا إذن، ما الذي تعتقده أنت حول ذلك يا معلّمي؟"

سرح إدريس الحكيم بأفكاره بعدما سئل عن هذا، ومرّ وقت قصير قبل أن يتنهّد ويجيب: "أنا أقول أنّه وُجِد مثل هذا الكيان."

لمعت عينا باسل قبل أن يسرع في طرح سؤال آخر. لقد كان شرها جدّا تجاه بحر المعرفة الذي يقف أمامه: "لماذا أيّها المعلّم؟ يجب أن يكون هناك سبب لذلك."


فكّر إدريس الحكيم لقليل من الوقت مرّة أخرى، وتذكّر بعض الأمور التي كانت سببا في جعله يؤمن بهذه الأسطورة. لقد كانت هناك الكثير من الأشياء المخفية من طرف أشخاص عظماء ولم يريدوا أن يكشفوا عنها. كانت هناك محرّمات وجب على الشخص عدم الاقتراب منها.

ربّت على رأس باسل ثمّ قال: "فلنترك ذلك لما هو مقدّر. قد يأتي وقت وتعلم، لكنّك يجب أن تكون دائما مستعدّا لحمل ثقل تلك المعرفة إنْ كسبتها يوما ما."

لم يفهم الاثنان ما قصده إدريس الحكيم من كلامه الغامض ذاك، ولكن بما أنّه أنهى الموضوع فلم يحفرا به أكثر أيضا وقمعا فضولهما وأنهيا أسئلتهما عنه.

تحرّكوا مرّة أخرى، وحدّق باسل إلى الأفق كما لو أنّه يحاول رؤية مكان معيّن. نظر بعد ذلك إلى إدريس الحكيم ثمّ قال: "ولكن أيّها المعلّم، ما حاجتك في الذهاب إلى الأرض المسالمة المباركة؟"

أجاب المعلّم باسترخاء: "ذلك من أجل وضع بعض المصفوفات عليها ودعم أساسها. يجب أن يكون كلّ شيء مضبوطا استعدادا لتحوّل هذا العالم إلى عالم روحيّ. سأمرّ على بعض المدن الكبرى لاحقا."

انبثق موضوع جديد يثير اهتمام الاثنين، فسبقت أنمار في السؤال هذه المرّة: "ما الذي سيحدث عندما يتحوّل هذا العالم إلى عالم روحيّ؟ ومتى سيقع ذلك؟"

أجاب إدريس الحكيم بنفس الهدوء: "عندما يجعل أحدكم روحه كاملة، سيصبح هذا العالم روحيّا."

تفاجأ باسل وأنمار. إن عنى ذلك شيئا واحدا، فهو أنّه عندما يصير الساحر صاعدا، ويضغط روحه حتّى تصبح مندمجة مع الجسد، فسيغدو هذا العالم روحيّا. كان ذلك شيئا عجيبا للغاية وغير متوقّع بتاتا.

أكمل إدريس الحكيم بنفس الوتيرة: "وبذلك الوقت، سيكون الأمر كما لو أنّ العالم كلّه أضحى منطقة محظورة."

صُعِق باسل وأنمار مباشرة بعد هذا التصريح. يصبح العالم كلّه منطقة محظورة؟ ما المقصود بذلك بالضبط؟ هل يمكن حدوث ذلك حتّى؟ وكيف سيحدث؟

ابتسم إدريس الحكيم عندما رأى نظراتهما المندهشة وقال: "ليس منطقة محظورة بالضبط، ولكن..."


فجأة، توقّف إدريس الحكيم عن الكلام وأحسّ بشيء جعل وجهه يسودّ كما لو أنّه سمع باقتراب نهاية العالم. لقد كان وجهه جدّيّا للغاية أكثر من أيّ وقت مضى.

جعل ذلك تلميذيه يصابان بالتوتّر أيضا. لم يعلما ما الذي يحدث في هذا العالم حتّى يجعل معلّمهما هكذا.

"هذا سيّئ!" هلع إدريس الحكيم، ثمّ صرّح: "مدينة العصر الجديد في خطر! الحقاني إلى هناك ولتكن مهمّتكما أن تخلوَا المدينة وتهربا بالناس إلى أبعد مكان عن هناك."

كان موقع الثلاثة حاليا قريبا من الأرض المسالمة المباركة. كانوا يتوجّهون إلى هناك من أجل الغرض الذي أراد إدريس الحكيم أن يقضيه.

لم يفهما ما تحدّث المعلّم عنه، لكنّ شيئا واحدا كان يهمّ: مدينة العصر الجديد في خطر! وليس أيّ خطر بسيط، لقد كان ذلك خطرا جعل إدريس الحكيم يتصرّف بذلك الشكل.

باام باام باام

اختفى إدريس الحكيم مباشرة بعد ذلك بانفجارات هائلة سبّبت الزلزال في المناطق المجاورة. ذهب بأقصى سرعة يملكها وقطع آلاف الأميال في وقت قصير جدّا. لقد كانت مثل هذه المسافة لا شيء يذكر بالنسبة لساحر روحيّ في مستواه. بالأحرى، حتّى لو كان العالم الواهن شاسعا للغاية، كان صغيرا جدّا مقارنة بعالم روحيّ، أمّا مقارنة بالعالم الأصليّ، فكان لا شيء سوى جزيرة في عالم به ملايين الجزر.

عبس باسل وأنمار ثمّ فعّلا طاقتيهما السحريّتين وفنّيهما القتاليّين وانطلقا بسرعة كبيرة تجاه المدينة أيضا. لقد كان ذلك أروع خبر سمعاه في حياتهما حتّى الآن. كانت تلك المدينة مسقط رأسيهما، وكان بها الكثير من الأشخاص الأعزّاء على قلبيهما، وأكثر من ذلك، لقد كانت والدتاهما هناك، وكان ذلك أكثر من سبب كافٍ حتّى يهلعا.

كان إدريس الحكيم يحلّق في السماء كنجم ساطع يتحرّك بسرعة ضوئيّة. لم يكن هناك مجال لرؤية شكله عندما حلّق بهذه السرعة العجيبة وخلّف وراءه صورا عديدة كأطياف لشكله. كان يقطع آلاف الأميال في ثوان قليلة ويمكنه بلوغ مراده فقط بخطوات قليلة.

تحدّث إلى نفسه بينما يصنع وجها عبوسا: "لا بدّ وأنّه هو. إنّه يملك حقّا وسيلة للدخول إلى العوالم الروحيّة دون الحاجة إلى بوّابة عالم، فلو استخدم بوابة عالم لاستشعرت ذلك. يبدو أنّه أتى لأنّ هدّام الضّروس مات، وعندئذ وجد مدينة العصر الجديد لأنّني وضعت عليها مصفوفة روحيّة."

كزّ على أسنانه ثم ظهرت له مدينة العصر الجديد. كان هناك حاجز يحيط بها من جميع الزوايا. كان هذا الحاجز يتموّج بشكل عنيف وظهرت به بعض الثغرات بعد لحظات، ثم انكسر في اللحظة التالية كقطعة من الزجاج.

"اللعنة. لقد كان ذلك حاجزا مخصّصا ليصدّ كلّ الأخطار الموجودة في العالم الواهن فقط ولم أدعّمه كفاية ليصمد أمام أشخاص من مستويات روحية مرتفعة. قد يكون بإمكانه الصمود أمام سيّد روحيّ حتّى، لكنّه لن يقدر على مقاومة ما يفوق ذلك." لم يكن إدريس الحكيم يظنّ أنّ شيئا كهذا سيحصل، لذا صنع هذه المصفوفة أوّلا حتّى يدعّمها لاحقا.

لم تمرّ سوى لحظات حتّى كان إدريس الحكيم فوق مدينة العصر الجديد، وبالطبع، لاحظ آنذاك أشخاصا يطوفون في السماء، وفي نفس الوقت، انتبهوا له أيضا. لقد كانوا ثمانية أشخاص يغطّون أنفسهم ولم يمكن رؤية مظهرهم غير واحد منهم الذي كان يشبه البشر لكنّه لم يكن إنسانا بلا شكّ.

تقدّمهم هذا المخلوق الذي ارتدى معطفا أسودا غطّى جسده بالكامل، ولم يُرى سوى رأسه ذو الشعر الأشقر. تمركز عند جبهته قرنين صغيرين ذهبيّين، وطالت أنيابه كمصاص دماء من أساطير الأجداد، وعندما فتح عينيه ثم حدّق إلى إدريس الحكيم، انطلق وهج ذهبيّ من عينيه الصفراوين جعله يبدو كوحش سامٍ استيقظ من سبات عميق، فحدّق إلى الوجود فاكتشف أسراره الكبرى. لقد كان وجوده بحد ذاته ثقيلا على القلوب لتتحمّله. لم يكن يطلق هالة ولا نيّة تجاه المدينة، ومع ذلك جعل الناس بها تفشل ركابهم ويسقطون في هاوية لا قعر لها من اليأس.


لقد كان هذا الشخص بوجه أبيض شاحب كما لو أنّه لم يرى أشعة الشمس لعصور، وبدا كأنّه شابّ نبيل من عائلة سامية. كان أصله العتيق ودمه الملكيّ جليّا، وحمل كلّ تصرّف منه هيبة عظيمة كما لو كان العالم وما فيه موجوديْن لإظهار روعته بسموّه عليهما فقط.

كان الناس مرتعبين من الذي يحدث أمامهم، وزاد فزعهم حينما رأوا وجه هذا الشخص وتذكّروا ما حدث قبل خمسة عشر سنة. لقد كان هذا الشخص يملك وصفا مطابقا للغاية لأحد الشياطين التي اشتُهِرت بعد الدمار الشامل.

حدّق هذا الشخص إلى إدريس الحكيم لمدّة طويلة قبل أن ينطق أخيرا بصوت هادئ: "ليس جيّدا، ليس جيّدا. يبدو أنّ عادتك السيّئة في تغيير مظهرك لم تتغيّر. هل يمكن أنّك خجول لهذه الدرجة؟ مرّ وقت طويل يا حكيم!"

لوحظ تغيّر في وضعية وقوف السبعة الآخرين عندما سمعوا ما قاله، ثم نظروا إلى الرجل العجوز أمامهم بتعجّب. لقد كان هناك شخص واحد يناديه قائدهم بهذه الطريقة، ولم يكن سوى إدريس الحكيم. لقد كان هذا الأخير منافسا أبديّا لقائدهم منذ طفولتهم. كانا عدوين لدودين في الواقع أكثر ممّا كانا منافسين. لقد كان العالم حولهما هو ما اعترف بهما كمنافسين لبعضهما.

"حكيم الفنون السامي السياديّ؟!" صُدِموا ولم يحسّوا حتّى كانوا قد صاحوا بلقبه بصوت مرتفع. تكلّم أحدهم مرّة أخرى: "م-ما الذي يفعله هنا؟ ليس هناك مجال ليعلم بقدومنا!"

لقد كانت دهشتهم كبيرة جدّا. كان ذلك شيئا طبيعيّا. لقد أتوا إلى هذا العالم الواهن ظانّين أنّه لا أحد يمكنه معرفة بقدومهم إلى هنا. والآن يوجد شخص مثل الحكيم السياديّ أمامهم، وظهر بسرعة كبيرة للغاية، كما لو أنّه قد حسب موعد مجيئهم وسبقهم بخطوة.

كان السبعة مذهولين، لكنّ قائدهم بدا غير متفاجئ. كان وجهه جامدا دون أن يحدث تغيّر في تعبيراته ثم تكلّم: "لا داعٍ للاندهاش. عندما عاد إليّ قرص بحيرة المائة الفضّيّ، علمت أنّه لابدّ من وجود شخص بمستوى حاكم روحيّ أو أعلى هو السبب. فليس هناك مجال لشخص بمستويات الربط بهذا العالم الواهن أن ينجو من ذلك الثقب الأسود الذي أضمرته في القرص."

حدّق عندئذ إلى إدريس الحكي ثم قال: "ولو كان هناك شخص ليس بمستوى شاهق كفاية ليكسر الفضاء ويدخل إلى العوالم الأخرى عنوة، فلابدّ من أنّه يملك وسيلة ما مريحة للانتقال مثلي. وعلى حدّ علمي، فليس هناك شخص آخر يحبّ فعل هذا أكثر منك يا حكيم. وإضافة لذلك، عادتك في إنشاء المصفوفات الروحيّة في العديد من الأماكن لا تتغيّر. بمجرّد ما أن رأيت هذه المصفوفة ولاحظت مثاليتها تأكّدت عندها كلّيّا أنّها بنيت بحكمتك السياديّة."


حدّق إدريس الحكيم إلى الأشخاص أمامه دون أن ينبت ببنت شفة. لقد كان جلّ تركيزه حاليا على إبعاد هؤلاء الثمانية عن هذه المدينة بأكبر سرعة. كان يعلم مدى شناعة ذلك الشخص أمامه.

حملق قائد تلك المجموعة إلى إدريس الحكيم وقال: "ليس عاديا، ليس عاديا. ليس من عادتك الصموت أثناء حضوري. ألا يجب أن نتناقش كالعادة؟ أنت تجعلني أشعر بالوحدة يا حكيم. وما بالك ما تزال بذلك المظهر؟ ذلك غير مريح نوعا ما. أنا أحب رؤية شكلك الحقيقيّ. ألن تلبّي طلبي الأنانيّ تقديرا لمعرفتنا الطويلة؟"

لم يجبه إدريس الحكيم وظلّ محافظا على هدوئه بينما يفكّر في وسيلة لتحقيق مراده.

تنهّد ذلك القائد وارتسم على وجهه خيبة الأمل ثم قال: "ليس رائعا، ليس رائعا. أنا أشعر بالوحشة هنا يا حكيم. على كلٍّ، إن لم تكن ستناقشني هذه المرّة، فسأجعلها سؤالا منّي وجوابا منك. الرفض غير مقبول أو سأفعل بالضبط ما لا تريده أن يحدث في هذه اللحظات."

قطب إدريس الحكيم بينما ينظر إلى تصرّفات ذلك الشخص المعتادة. لقد كان شخصا يصعب التعامل معه حقّا. لقد كان يمكنه رؤية حقيقة هذا العالم كما لو أنّها شمس ساطعة في منتصف النهار بقمّة فصل الصيف. لا شيء كان باستطاعته الهروب من إدراكه للأمور.

لقد فهم إدريس الحكيم ما عناه. فكّر ذلك القائد بهذا الشكل: بما أنّه أتى مسرعا إلى هذه المدينة بهذا الشكل بعدما استشعر دمار المصفوفة، فلابدّ من أنّ ذلك يعني أنّ هذه المدينة مهمّة له.

كلّ شيء كان واضحا لقائد تلك المجموعة، لذا هدّد بتدمير هذه المدينة إن لم يجب إدريس الحكيم عنه تساؤلاته.

لم يقل إدريس الحكيم شيئا، لكنّ ذلك القائد علم أنّه صمته ذاك كان علامة عن الرضى، فأشار إلى المدينة أسفله وقال: "أوّلا، ما الذي تعنيه هذه المدينة لك بالضبط؟"


كان إدريس الحكيم لا يزال في شكله العجوز، ثم أجاب بهدوء كبير: "يمكنك التخمين أنّني أُعِزّ شخصا بها."

نظر القائد إلى إدريس الحكيم بعينيه اللتين توهّجتا من جديد، ثم صرّح: "حسنا، حسنا. نعم أنا أعلم أنّ هناك شخصا مهمّ لك حتّى تحميه بمصفوفة روحيّة مصنوعة بحكمتك السياديّة، ولكن ما قيمته بالضبط؟"

عبس إدريس الحكيم. لقد كان يعلم أنّه لا مفر لتخبئة الحقيقة أمام هذا الشخص، لذا قال الحقيقة. فلو ساء مزاجه لن يبق من تلك المدينة بالأسفل شيئا قبل أن يستطيع الذهاب لحمايتها في الوقت المناسب.

لو أنّه استخدم الحكمة السياديّة، لاستطاع خداعه أوّليّا، لكنّ ذلك لن يغيّر النتيجة النهائيّة لأنّ القائد سيعلم أنّه يخبّئ الحقيقة فورما يرى استعماله للحكمة السياديّة بعينيْ الحقيقة خاصّتيْه.

"حسنا، حسنا." تكلّم إدريس الحكيم بسرعة: "لا مفرّ، سأخبرك. حقّا تحبّ جعل الأمور صعبة على الأشخاص يا إبلاس. يبدو أنّ عادتك لم تتغيّر أيضا."

ارتجّ الهواء حول إدريس الحكيم بعد ذلك، فظهرت صورته الحقيقيّة، كشابّ بشعر فضّيّ يصل إلى كتفيه وعينين زرقاوين. ارتدى رداءً به أنماط عديدة من النقوش الروحيّة فجعلته يبدو كإمبراطور شابّ يمكنه أمر العالم ونهيه.

ابتسم إبلاس أخيرا حينما رأى صورة إدريس الحكيم الحقيقيّة، وقال بصوت فرح: "يبدو أنّك صرت صادقا أخيرا. الآن يمكننا التحدّث."

ابتسم إدريس الحكيم وقال: "هل حقّا تحبّ البحث في أموري؟ ما العيب في حماية امرأة أو بعض من النساء في العوالم الروحيّة؟ أنت تعلم أنّني أعشق الجمال وأقدّر النساء. لم يكن بإمكاني ترك جوهرة من المدينة تضيع قبل أن أصقلها."


كان إدريس الحكيم صادقا في كلامه للغاية، إلّا أنّه كان بنيّة مختلفة تماما عمّا قاله. بالطبع كان كلامه عن عشقه للجمال وتقديره للنساء حقيقة، وكذلك مسألة الجوهرة، إلّا أنّ الاثنين لم يكن لهما علاقة ببعضهما. لقد كان يعني بالجوهرة باسل. كان كلامه حقيقة، فلم يرى إبلاس كذبا بها.

حدّق إبلاس إلى إدريس الحكيم وبدا غير مقتنع نوعا ما، وظلّ يفكّر في العديد من الأشياء. كيف علم إدريس الحكيم عن هدّام الضّروس حتّى أتى وقضى عليه؟ هل هناك شخص خائن في صفوفهم أخبره بذلك؟

كان إبلاس مشوّشا. بالطبع حتّى لو كان هناك خائن، فلن يعلم هذا الأخير حتّى بما قام به إبلاس؛ لقد كان أمر تدريبه لهدّام الضروس سرّا لا يعلمه أحد. أتى إلى العالم الواهن بعدما تمّت الاتفاقيّة بين الملك الأصليّ وملك الشياطين، ولم يعلم أحد عن ذلك أيضا.

فكّر لقليل من الوقت، وفجأة فهم أمرا وحدّق إلى إدريس الحكيم ثم ضحك بصوت مرتفع قبل أن يقول: "ليس سيّئا، ليس سيّئا. نعم هذا صحيح. لستَ هنا لأنّك علمت بقدومنا، أنت هنا لغرض ما وصادف ذلك معرفتك لهدّام الضروس."

فهم إبلاس بعض الأشياء بسرعة كبيرة بمجرّد ما أن فكّر قليلا. لقد كان شخصا مرعبا حقّا. نظر إلى مدينة العصر الجديد ثم قال: "أتساءل إن كان لهذا الأمر علاقة بهذه الجوهرة التي تريد صقلها بشدّة."

قطب إدريس الحكيم بعدما عاد اهتمام إبلاس إلى المدينة، وشدّ قبضته. فكّر لقليل من الوقت: (فقط انتظر قليلا. لا تقم بأيّ شيء لثوان أخرى.)

لقد كان إدريس الحكيم ينوي فعل شيء ما في الثواني القادمة على ما يبدو، لكنّ تلك الثواني بدت طويلة للغاية.

لاحظ إبلاس صموت إدريس الحكيم، فضحك وصنع وجها متحمّسا كطفل وجد لعبته المفضّلة التي كان يبحث عنها، واخترقت عيناه كلّ شيء فرأتا توتّر إدريس الحكيم الشديد.


"يا حكيم، أتعلم لمَ تعجبني؟ ليس لأنّك حكيم العوالم الروحيّة، أو خبير فنونها السامي، أو لأنّك بنّاء المصفوفات المثاليّة، أو لأّنك التابع الأقرب إلى الملك الأصليّ. أنت تعجبني لأنّني مهما فعلت لم يكن بإمكاني رؤية اليأس في عينيك ولو للحظة واحدة في الألفيّة التي عرفتك بها. وكشيطان اليأس يجب أن أستاء من ذلك، أليس كذلك؟ لكن أتعلم لماذا لم أستأ؟ كلّما صعُب عليّ إسقاطك في اليأس، زاد حماسي عندما أفكر في اللحظة التي سأحقّق فيها ذلك."

بَسَرَ إدريس الحكيم عندما سمع كلامه ذاك. لقد كانت هناك ثوان فقط يحتاجها، لذا أراد أن يطيل هذا الكلام قدر المستطاع، فأجاب: "لا تفكّر ولو للحظة يا إبلاس أنّني خائف منك أو في طريقي لليأس. شتّانَ ما بيني وبين اليأس."

ابتسم إبلاس وقال: "قل ما شئت. لربّما أنت محقّ، لكنّني أرى حقيقة توتّرك عندما أوجّه اهتمامي إلى هذه المدينة. وبالطبع، توتّرك ذاك أكبر من الذي قد يأتي من اهتمامك بجمال إحداهنّ."

رفع إبلاس يده التي كانت مغطّية بقفّاز أسود، وقال ببرودة بينما ينظر إلى المدينة: "أفضل طريقة للبحث عن شيء ما هي إزالة كلّ ما يعيق رؤيتك."

ظهرت شعلة في كفّ إبلاس، وفي لحظة واحدة تضخّمت حتّى صارت كرة عملاقة بشكل لا يصدّق. لقد كانت كشمس مصغّرة لكنّها حملت نفس الشدة. كلّ شخص في المدينة شعر بضيق تنفّسه وذابت ملابسه من الحرارة. تعرّقوا كثيرا وسقطوا على الأرض متقبّلين الأمر الواقع وحكموا على أنفسهم بالموت كما لو أنّ نهاية العالم قد أتت. كلّ من رأى تلك الكرة النارية العملاقة سيعتقد أنّ الشمس انخفضت إلى عالمهم لتنهيه.

أنزل إبلاس يده ببطء بعد ذلك، وسقطت الشمس المصغّرة بسرعة جنونيّة كما لو كانت نجما متحرّكا. لقد حُكِم على مدينة العصر الجديد بالإبادة – هذا ما فكّر فيه كلّ شخص.

وفجأة، سطعت أرضية المدينة بأكملها وانطلق أربعة عشر عمود من مختلف الأنحاء. لقد كانت هذه الأعمدة هي ما استعمل إدريس الحكيم في بناء هذه المصفوفة. كانت أعمدة يصل طولها إلى العشرين متر، وكانت أسطوانيّة الشكل، وبلغ طول قطرها الخمسة أمتار.

لم يعلم أحد أين كانت هذه الأعمدة الضخمة التي لم يسبق لهم رؤيتها. لقد كانت تحمل العديد من النقوش الروحيّة عليها، واختلفت أنماطها. بدت كأنّها مصنوعة من مواد غير عادية، وما أكّد ذلك كان عدم تأثرها بحرارة تلك الشمس المصغّرة.

اقتربت الأعمدة من بعضها فالتقت وشكّلت زهرة دارت بشكل دائريّ بسرعة كبيرة للغاية. لقد كانت كمروحة تستطيع تبديد كلّ شيء بقوّة رياحها، وقطع أيّ شيء لذرّات متناثرة.

التقت المروحة العظيمة بالشمس المصغّرة وجعلت العالم يشهد زلزالا دبّ الرعب في قلوبهم من أصغرهم إلى أكبرهم. وعندما حدث ذلك تذكروا كلّهم ذلك اليوم قبل خمسة عشر سنة. يوم الدمار الشامل.

ارتعب الحاضرون في الأرض المسالمة المباركة ونطق الكبير أكاغي بينما يصنع وجها شاحبا مثله مثل الجميع: "ما الذي يحدث في عالمنا الواهن؟"

كان باسل وأنمار قد اقتربا من مدينة العصر الجديد، فأحسّا بالصدمة التي نتجت عن التقاء ذينك الهجوميْن، ورفعا رأسيهما ليريا ذلك المنظر المهيب. كانت الشمس المصغّرة والمروحة العملاقة مدهشتين للغاية وجعلتاهما يفهمان مدى ضعفهما أمام هذه القوّة الهائلة.

أسرعا بكلّ ما يملكان حتّى ينفّذا ما قاله لهما المعلّم. لقد كانت تلك هي الطريقة الوحيدة ليقدموا بها مساعدتهما. كانت هذه المعركة من مستوى آخر تماما ولم يكن لهما مكان بها. شدّ باسل وأنمار قبضاتهما وأكملا مسيرهما بالسرعة القصوى.

تزلزل العالم بأسره تقريبا عندما التقت المروحة العظيمة بالشمس المصغّرة، وعندما انفجرا معا في نفس الوقت بعدما تلاحما لمدّة، هبّت العواصف في العديد من الأماكن في العالم الواهن وانتقلت السحب آلاف الأميال كما تبدّد بعضها. لقد كانت تلك قوّة عظيمة للغاية لم يشهد العالم الواهن مثل لها فيما سبق.

كان إبلاس قد قام بهجوم مشابه في يوم الدمار الشامل مرارا وتكرارا على العديد من القرى، لكنّ هذه الشمس المصغّرة كانت مختلفة جدّا. لقد كانت بطاقة روحيّة وليس سحريّة فقط. فلو أنّها نزلت على المدينة، لن تختفي هذه الأخيرة فقط، بل مئات الأميال ستختفي كأنّها لم توجد من قبل ولن يبقَ سوى الرماد.

اختفت الشمس المصغّرة، وتبدّدت الأعمدة معها. كان الغرض من هذه الأعمدة بناء مصفوفة روحيّة يمكنها حماية المدينة من وحوش روحيّة بنطاق السيد الروحيّ، لكنّ المصفوفة اخترِقت بسهولة من طرف إبلاس، ومع ذلك بقيت الأعمدة سليمة لأنّها كانت بأعماق الأرض بعيدا محميّة بحاجز أقوى، لذا استغرق إدريس الحكيم بعض الوقت حتّى يجعلها تأتي دون أن يحسّ إبلاس وأتباعه بأيّ شيء غريب.

تنفّس الناس الصعداء بعدما هدأت عواصف الرياح لكنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا بما أنّ أرجلهم لم تكن قادرة على حملهم. كلّ ما كان يسعهم فعله هو النظر إلى أولئك الكيانات العظيمة فوق رؤوسهم وانتظار موتهم المحتّم.

وفجأة، ظهر شخص فوق رؤوسهم بعلوّ مئات الأمتار، وأسفل إبلاس وأتباعه بمئات الأمتار. كان ذلك إدريس الحكيم بالطبع. لقد حقّق مراده بإنقاذ مدينة العصر الجديد من الهجوم الذي لن يكون باستطاعته صدّه دون أن يترك إبلاس يستغلّ تلك الثغرة التي ستظهر في دفاعه بسهولة.

لو كان عدوّا آخر لما كان إدريس الحكيم بهذه الحيطة، لكنّه كان إبلاس ولم يكن لديه خيار سوى التحرّك بأقصى درجات الحذر.

والآن بعدما أنقذ المدينة أوّليّا، صار هدفه إنقاذها كلّيّا. ظهرت ثلاث كرات فوق رأسه كان لونها أزرق فاتح مائل إلى الأبيض، وبدت كأنّها تحمل مجرّات وكواكبَ بداخلها لتراقبها بحكمة سياديّة. أحاطتها حروف رونيّة كانت عتيقة لدرجة أنّه لا أحد استطاع فهمها أو تحليلها.


دارت الكرات الثلاث فوق رأس إدريس الحكيم بسرعة ازدادت مع الوقت، وتسابقت معها الحروف الرونيّة بدورانها على الكرات نفسها في الاتجاه المعاكس. ازدادت سرعة الاثنين حتّى أصبحت صورتهما غير واضحة.

توهّج جسد إدريس الحكيم بضوء فضّيّ ممّا جعله يبدو كقمر تجسّد في هيئة إنسان، فبدا كأنّما كان ينير العالم برؤيته له، ويظلمه بغض بصره عنه. لقد كان يبدو كملاك، وانتشرت هيبته طولا وعرضا في جميع الأنحاء. جعل الناس في المناطق القريبة والبعيدة على حدّ سواء تحسّ بمشاعرَ متضاربة؛ أحسّوا بسكينة عندما لمحوا الضوء الفضّيّ، لكنّهم خافوا من عظمته وهيبته اللتين غمرتهما.

تكلّم إدريس الحكيم بأسلوب لا يضاهى، لا من حيث هدوئه أو ثقته أو عظمته. لم يكن لذلك علاقة بالقوّة، وإنّما كان ذلك بسبب شخصيته التي هابتها العوالم الروحيّة عندما كان يكشّر عن أنيابه ويمشّط أعداءه دون أن ترمش له عين: "لا أعلم ما الذي جرّك إلى هنا يا إبلاس، فأنت لن تجيء فقط لأنّ قرص بحيرة المائة الفضّيّ قد عاد إليك بتلك الطريقة، لكنّني لا أهتمّ بذلك أيضا."

كانت كلّ كلمة من إدريس الحكيم تهزّ القلوب، وتردّد صداها في المسامع والقلوب لمدّة طويلة. بدت كلماته كما لو أنّها تحمل حقيقة لا يمكن دحضها، وجلبت معها عزيمة لا يمكن ثبطها.

نظر بعينيه الزرقاوين إلى إبلاس وأتباعه، فجعلهم يشعرون أنّ عينيْ وحش عتيق كبيرتان كالسماء تحدّقان إليهم. لم يكن هناك شيء يستطيع الهرب تحت هذه السماء الشاسعة.

شعّت عيناه فظهرت بها ثلاث أضواء فضّية تألّقت كنجوم في السماء الشاسعة. كان هناك نجمان يدوران حول البؤبؤ الأمين ببطء شديد كما لو كانا متوقّفين، واتّخذ النجم الثالث البؤبؤ الأيسر فلكا له بنفس السرعة.

عندما انبثقت هذه النجوم الثلاثة في السماء الشاسعة، أنارت بصر الوحش العتيق فسمحت له بالرؤية عبر العديد من الأشياء الخفيّة.

صدى صوت الوحش العتيق من جديد: "يبدو أنّك أتيت بحفنتك المفضَّلة. أمم... أربعة حكّام وثلاثة ملوك. لقد تطوّروا بوتيرة متوقّعة. هذا كثير على مجرّد زيارة كما توقّعت."

كانت مستويات هؤلاء الأشخاص واضحة كالشمس لإدريس الحكيم حتّى بدون استخدام الحكمة السياديّة. لقد كان مستواه أعلى من مستوياتهم ولم يكن بإمكانهم إخفاء شيء عنه. وحتّى لو كانت لديهم وسيلة مذهلة ليفعلوا بها ذلك، فعندئذ ستكشف حكمته السياديّة ذلك بكلّ بساطة.


ركّز إدريس الحكيم بعد ذلك نظره على إبلاس، فعبس قليلا ثم صرّح: "مثير للاهتمام. يبدو أنّك تجاوزت توقّعاتي مرّة أخرى يا إبلاس. ذلك ما يجعلك الخصم المناسب دائما. سيجعل ذلك من هذا تحدّيا مناسبا لي لأجد تنويرا من أجل رفع درجة حكمتي السياديّة."

نظر إبلاس إلى إدريس الحكيم لمدّة طويلة بتعجّب كما لو أنّه يرى أغرب شيء في حياته. مرّت لحظات طويلة قبل أن ينفجر ضحكا. بدا كأنّه سمع أفضل نكتة في حياته.

استغرب إدريس الحكيم من تصرّف إبلاس المفاجئ. لم يكن شيطان اليأس يضحك بهذه الطريقة إلّا وكان الأمر صاعقا. لم يستطع إدريس الحكيم أن يفهم فاستفهم: "شاركني متعتك يا إبلاس، أنت تجعلني أشعر بالوحدة هنا."

توقّف شيطان اليأس عن ضحكه أخيرا وأعاد النظر إلى إدريس الحكيم. أصبحت تعبيراته باردة مرّة أخرى، ثمّ سأل: "لم أكن أظنّ أنّك لا تعلم سبب مجيئي إلى هنا. لا أظنّها ستكون متعة لك يا حكيم، ولكن على كلٍّ، بما أنّني متشوّق لرؤية الوجه الذي ستصنعه عندما تسمعها منّي، فسأخبرك."

كان إدريس الحكيم قلقا نوعا ما. فبما أن إبلاس قالها بهذا الشكل، لابدّ وأنّها ستصدمه.

"العالم الأصليّ في فوضى وأنت هنا تقضي عطلتك دون أن تعلم شيئا."

قطب إدريس الحكيم بعدما سمع ذلك وانتظر إبلاس يكمل.

"باختصار، ليست هناك اتفاقيّة بين سيّدنا ملك العوالم الأربعة عشر وحاكمها الأبديّ وملكك الأصليّ الذي يخال نفسه يعتلي عرش قمّة العالم."

أحسّ إدريس الحكيم كما لو أنّ صاعقة سقطت عليه، فتركته متجمّدا في مكانه غير قادر على معرفة ما إذا كان ما سمعه حقيقة أم مجرّد توهّم.


كيف له ألّا يعلم عن ذلك؟ لو أنّ شيئا كهذا حدث لَعَلِم في أقرب وقت ممكن. ظهرت احتماليتين في عقله: إمّا إبلاس كذب، والذي كان أقرب إلى المستحيل لأنّه لم يكن ليكذب في شيء كهذا، وإمّا فسخ الاتّفاقيّة قد حدث مؤخّرا جدّا، وهذا كان أقرب إلى الحقيقة في نظره.

وردت فكرة في باله مباشرة بعدما سمع هذا الخبر وتذكّر ما أُخبِر به قبل سنتين عندما ذهب إلى العالم الأصليّ. لم يعلم أحد عمّا حدث في القتال قبل سنتين بين الملك الأصليّ وملك الشياطين الذي اتّخذ الفضاء السحيق ساحة له. لقد اختفيا آنذاك في مكان لا يعلم أحد أين يقع، وعندما انتهت المعركة أخيرا أعلِنت الاتفاقيّة من طرف الملك الأصليّ وملك الشياطين.

لم يدرِ أحد كيف توصّل ذانك العدوّان اللدودان إلى هذا الحلّ الوسيط بعد تلك المعركة التي شطرت الكواكب وأخمدت النجوم، لكنّهم لم يتجرؤوا على الدخول في هذه المسألة العويصة. لقد كان الملكان كيانيْن هائليْن للغاية، ولم يتجرّأ على الوقوف بجوارهما أو ضدّهما سوى عظماء العوالم الروحيّة الحقيقيّين، أو بعض الأغبياء الذين لم يعلموا معنى القوّة الحقيقيّة.

استنتج إدريس الحكيم من كلام إبلاس أنّ ذلك حدث مؤخّرا، لذا لابدّ وأنّ حروبا طاحنة ستتخلّل العوالم الروحيّة مرّة أخرى. وما زال أمر فسخ الاتفاقيّة ذاك يؤرّقه؛ لطالما تساءل عن الذي جعل ملك الشياطين يوافق على هذه الاتفاقيّة في المقام الأوّل.

لم يرد الملك الأصليّ التكلّم عن الموضوع، فلم يحاول إزعاجه في انعزاله الروحيّ، وحتّى عندما تكلّم مع نيّته عبر إبرة اختراق الأبعاد لم يجرؤ على طرح السؤال. لقد كانت تلك حقّا مسألة لا يجب على أشخاص غير الملك الأصليّ وملك الشياطين التدخّل فيها.

أراد أن يغادر إلى العالم الأصليّ فورا ويساند الملك الأصليّ في الحرب، لكنه وجب عليه قضاء غرضه أوّلا هنا قبل أن يفكّر في ذلك.

حدّق إلى إبلاس وقال بعبوس: "إذن، أيمكنني القول أنّ الهدف من قدومك هو نفس الهدف الذي أتيت من أجله قبل خمسة عشر سنة؟"

أجاب إبلاس على مهل: "لقد كنت أريد استخدام ساحرَ العالمِ الواهنِ الروحيَّ الأوّلَ كوسيط بعدما ينمو جيّدا بعدما تُفسخ الاتّفاقيّة، لكن أظنّني سآخذ الطريقة الأخرى كما كان مخطّطا من قبل."

كان يعلم إدريس الحكيم ما الهدف من مجيء إبلاس إلى هذا العالم قبل خمسة عشر سنة بناء على أمر ملك الشياطين.، ولكنّه اضطرّ للعودة بعدما نودي من طرف ملك الشياطين نظرا إلى حاجتهم له.


كان وجود إبلاس في الحروب ضدّ قوّات الملك الأصليّ لا غنى عنه مثله مثل العديد من الشخصيّات العظيمة حتّى لو لم يكن في مستواها الروحيّ. كان لديه شيء يجعله متميّزا عن الآخرين مثل إدريس الحكيم.

في الواقع، كان هناك لقب له غير شيطان اليأس. لقد كان يعرف في العوالم الروحيّة بـ'مدبّر الحروب الشيطانيّ'. كان حضوره يصنع فارقا ملاحظا بكثير. لم يكن هناك منافس له في هذا المجال غير إدريس الحكيم، لذا عندما كان هذا الأخير بالحرب مع قوّات الملك الأصليّ، احتاج العدوّ إلى إبلاس فنادوه.

عبس إبلاس ثم أكمل: "لو أنّ الوغد الحقير لم تسانده بقيّة العوالم المتحالفة معه طيلة السنوات الماضية لكانت هناك فرصة لي حتّى أجد الوقت المناسب كي أنفّذ الخطّة بسلاسة، لكنّني كنت مقيّدا لذا نويت تجهيز الأمر باستخدام ذلك الفتى. ولكن للأسف..."

تنهّد ثم أكمل: "على كلٍّ، لقد أخبرني سيّدنا أنّه ليس من الضروريّ وجودي هذه المرّة لذا يمكنني بدء العمل. وبالطبع جاءت الفرصة لآتي وأرى الشخص الذي تساءلت عن هويّته، فالتقينا كما ترى."

فكّر إدريس الحكيم في كلام إبلاس، إضافة إلى بعض المعلومات الأخرى، فاكتشف شيئا صرّح به مباشرة: "هكذا إذن. لقد حُلّ اللغز أخيرا. كنت أتساءل لمَ يجب أن يكون أنت بالضبط ولم يأتِ أحد آخر إلى هنا بما أنّك مشغول، لكنّني أظنّ أنّه يجب أن يكون أنت حقّا، يا مدبّر الحروب الشيطانيّ. فبدون هبتك لن ينجح هذا الأمر." ابتسم بعدما قال ذلك مباشرة.

قطب إبلاس مرّة أخرى وقال: "ليس سيّئا، ليس سيّئا. قد أكون لم أتغيّر، لكنّك حقّا ما زلت كما أنت يا حكيم. دائما يعجبك كشف الأمور التي لا يريد الأشخاص منك اكتشافها. على كلٍّ، لقد أتيت إلى هنا عازما على إنهاء هذا الأمر من أجل بدء سيادة سيّدنا على العوالم الروحيّة."

كشّر إدريس الحكيم ثم قال: "أتعلم شيئا يا إبلاس؟ لطالما تساءلت عن شيء ما. كيف لشخص مثلك لا يحترم أحدا سواء أكان قوّيّا أم ضعيفا، وكلّ شخص بالنسبة له مجرّد حشرة يدهس عليها بينما يتمتّع بذلك، أن يعترف بأحد كسيّده؟ ولكن يبدو أنّ ملك الشياطين يعرف كيف يروّض مخلوقا مثلك."

لم يجبه إبلاس عن كلامه هذا. لقد كان هذا موضوعا حسّاسا له نوعا ما، ولطالما تجنّب الحديث عنه.


ابتسم إدريس الحكيم بتكلّف: "حسنا، بدون مزاح، يمكنني التفهّم بما أنّني اختبرت شيئا مشابها مع جلالته."

تكلّف إبلاس الابتسام أيضا دون أن يقول شيئا. لا أحد يعلم إن كان حال إبلاس مع ملك الشياطين هو نفس الحال لإدريس الحكيم مع الملك الأصليّ، لكن يمكن القول على الأقلّ أنّهما متشابهان في الكثير من الأشياء.

كلاهما تابع مخلص للملكين المهيمنان على العوالم الروحيّة، وكلاهما عنصر مهمّ في جانبهما. لقد كانت هناك الكثير من الأشياء المشتركة بينهما، لذا لقّبتهما العوالم الروحيّة بمنافسيْ المسار الروحيّ. لقد كانا مرتبطيْ المصير في العديد من الأمور.

مرّ بعض الوقت من الهدوء، فتنهّد إبلاس أخيرا بعدما بدا كأنّه كان يفكّر في شيء ما، وقال بنظرة جدّيّة: "لقد رافقتني يا حكيم في مساري الروحيّ لمدّة طويلة وأمتعتني متعة مختلفة عن تلك التي أتلقّاها من اليأس، ولكن أظنّه حان الوقت أخيرا لإنهاء كلّ هذا. لقد تناقشنا قليلا، ولكن يجب أن يكون ذلك كافيا كآخر حوار بيننا." تألّق بؤبؤا عينيْ إبلاس بعد ذلك بضوء ذهبيّ.

توهّجت النجوم الثلاثة في عينيْ إدريس الحكيم، وردّ بنفس الجدّيّة: "وجدتني أشعر بنفس الشيء. وفي الواقع، لطالما أردت حسم نتيجة قتالنا. كفانا جدالا ودعنا نبدأ قتالا. لنجعله آخر قتال بيننا يا إبلاس."

لم يضف أحدهما كلمة أخرى بعد ذلك، فعمّ السكون لوقت طويل مرّة أخرى، حتّى أن عملة معدنية سيتردّد صداها لمدى بعيد لو أنّها أسقِطت.

ززن

بوف


بصوت جعل الشخص يشعر كما لو أنّ سيفين قد تقاطعا، اختفى إدريس الحكيم من مرأى الجميع. وبصوت ثانٍ غريب، انكشف مكانه بعدما كانت ذراعه قد اخترقت جسد أحد السبعة الذين كانوا خلف إبلاس.

انطلقت هالة هائلة فجعلت الناس المحيطين على مدى بعيد وليس ناس المدينة فقط يسقطون على الأرض هلعا وشللا. لقد كانت تلك هالة صاحبتها نيّة مستبدّة للغاية جعلت كلّ شيء يرضخ لها تحت طغيانها العظيم.

جعلت هذه الهالة والضغط من ذلك الهجوم إبلاس والستّة الآخرين يتراجعون عدّة خطوات إلى الوراء رغما عنهم. أمّا الشخص الذي اخترِق جسده، فقد كان ميّتا بعدما سُحق قلبه في يد إدريس الحكيم التي خرجت من الجهة الأخرى من جسمه كحبة طماطم ضغِطت ليخرج عصيرها.

صُعِق الجميع إلّا إبلاس الذي حافظ على هدوئه في جميع الحالات؛ لقد رأى عبر تحرّكاته إلّا أنّ ذلك كان متأخرا نوعا ما لأنّه استخدم الحكمة السياديّة.

بدا لوهلة كما لو أنّ إدريس الحكيم قد اخترق الفضاء وانتقل آنيا إليهم، ولم يعلموا إن كان قد فعل ذلك حقّا أمّ أنّها كانت سرعة فائقة فقط. جعلهم ذلك يشعرون بظلّ خلف ظهورهم يمكنه قتلهم في أيّ لحظة. لقد كان ذلك هو الشعور بالخوف من الموت أمام وحش كإدريس الحكيم.

"حاكم روحيّ في ضربة واحدة؟!" صرّح أحد الستّة صارخا.

"إدريس الحكيم، خبير الفنون السامي السياديّ!" قالها أحد آخر منهم بصوت مرتجف.

وفجأة، امتدّت هالة جعلت كلّ شيء يحسّ بظلام أبديّ يتخلّل قلوبهم وشعروا بأجسادهم تسقط في هاوية لا قعر لها. قارعت تلك الهالة هالة إدريس الحكيم وجعلت الجوّ مشحونا. حتّى أنّ السحب تكاثفت وصعق البرق بينما هدر الرعد. كانت تلك هالة إبلاس.

"أيّها القائد!" فرح الستّة وتذكّروا أنّ قائدهم موجود. لقد كانت هالة إبلاس منافسة لهالة إدريس تماما لوقت محدّد، لكنّها فاقتها حتّى قليلا. كان هذا الصراع قويّا لدرجة جعله الناس في العديد من المدن القريبة يفقدون الوعي، وأجبر السحرة على التقيّؤ بسبب شعورهم بالدوار وثقل تنفّسهم بعدما سقطوا ممدّدين على الأرضيّة.

"حاولوا أن تحافظوا على حياتكم!" عبس إبلاس وأكمل: "لا أعلم إن كنت أستطيع القتال وحمايتكم في نفس الوقت."

علم إبلاس أنّ هناك شيء مختلف هذه المرّة بإدريس الحكيم عن كلّ المرّات السابقة، وخصوصا بحكمته السياديّة التي لم يستطِع أن يرى من خلالها شيئا قطّ. لم يكن واثقا من حماية أتباعه بينما يقاتله.

ارتعد الستة ولم يفكّروا لوقت أطول قبل أن يسرعوا ويبتعدوا آلاف الأميال. فحتّى لو لم تكن مسافة بعيدة على إبلاس وإدريس، كانت كافية لهم للهروب من مدى هجماتهما والتورّط في مجال دمارهما.

وبالطبع، لم يتجرّؤوا أيضا على الاقتراب من المدينة التي حماها إدريس الحكيم، خوفا من أن تكون نهايتهم سريعة دون أن يعلموا كيف ماتوا كما حدث لصاحبهم.

حدّق إدريس الحكيم فجأة إلى قلب المدينة برؤيته السحيقة فرأى باسل وأنمار يخلوان الناس. كان هناك بعض السحرة الذين أحسّوا بالخطر بعدما دُمّرت المصفوفة فابتعدوا عشرات الأميال عن المدينة، لكنّهم علموا أنّ ذلك ليس كافيا لينجوا من هيمنة ذينك الكيانيْن المرعبين.

حدثت الكثير من الأشياء في العالم الواهن التي فتحت عصرا جديدا كالقسم الثاني من مستويات الربط، والإكسيرات، والأسلحة الأثريّة، ولكن كان هذان الكيانان أكثر ممّا يمكن لعقولهم تحمّله.


بدأت الناس تخلو مدينة العصر الجديد بعدما أظهر باسل نفسه كالجنرال الأعلى، وبالطبع ساعده الحارس جون وباقي قوّات المدينة. لقد كانت الإجراءات الاحتياطيّة في حالة ما إذا وقع شيء كهذا مثاليّة، لذا كان الإخلاء سريعا للغاية. تكلّف السحرة بمساعدة السكّان حتّى يغادروا بخفّة كبرى.

باام بووم باام

تفرقع الهواء واختفى إدريس الحكيم وشيطان اليأس وبقي طيفاهما فقط في المكانين اللذين اعتادا على العوم فيه. سُمِعت عدّة ضربات جعلت هدير الرعد لا يُسمع عندما صدى صوتها، وانطلقت شرارات من التلاحمات التي حدثت بين الاثنين امتزجت مع البرق في السماء وسقطت في العديد من الأماكن مخلّفة حفرا من الرماد.

كانت كلّ لكمة منهما تزلزل العالم وتجعل الناس يخافون من مجيء دور انكسار السماء على يد هذين المخلوقين المهولين.

لقد كان كلّ ذلك مجرّد تلاحم جسديّ بين إدريس الحكيم وشيطان اليأس، إلّا أنّ كل لكمة حملت معها وزن جبال وسرعة البرق. كانت هذه بداية القتال المعتادة بين هذين الاثنين؛ لطالما بدآ معركتهما بشحذ جسديهما عن طريق تبادل بعض الضربات.

انهارت العديد من المناطق التي دُعِّمت بالسحر بمدينة العصر الجديد بعدما سقطت عليها تلك الشرارات البرقيّة وانتشرت فيها العواصف المتولّدة من الصدمات الصوتيّة، فما بالك بما حدث للمناطق العادية بالمدينة. لقد أصبحت مدينة العصر الجديد أطلالا في دقائق! وبالطبع حدث نفس الشيء للعديد من المناطق المحيطة.

ولحسن حظّ السكّان أنّهم كانوا قد أخلوا المنطقة القريبة من الضرر الأكبر مسبقا، وكلّ ما كان يهدّد حياتهم قد تصدِّي له من باسل وجميع السحرة الآخرين.

ابتسم إدريس الحكيم بعدما رأى أنّ المدينة قد أصبحت خالية في دقائق بعدما وصل باسل، ورضي عمّا فعله. وبالطبع لم يحتج لقول أيّ شيء لباسل، لأنّ هذا الأخير كان يعلم ما عليه فعله جيّدا. لقد كان ذلك التلاحم الأخير مجرّد قتال جسديّ لا غير، ولم يُستخدم فيه فنونا قتاليّة ولا سحر ولا تقنيات روحيّة. كلّ ذلك كان إشارة للمدى الهائل الذي سيشمله دمار هذه المعركة.

تنفّس باسل الصعداء عندما وجد أمّه والعمّة سميرة. لقد كان هذا أهمّ شيء له في تلك اللحظات الصعبة. كلّ ما فكّر فيه هو سلامتهما ولم يعتبر شيئا آخرَ حتّى تأكّد من صحّتهما وعافيتهما. لقد كانت أمّه بالخصوص سببه في إدخال نفسه في شيء مزعج كتقوية العالم الواهن. لو لم تكن موجودة لما أقلق نفسه بكلّ ذلك وتمتّع بإرضاء فضوله فقط.


كانت الوسيلة الوحيدة المضمونة لإعطاء لوالدته مكانا آمنا للعيش في العالم الواهن هو جعل العالم الواهن آمنا.

بصق إبلاس بعض الدم من فمه ثم مسحه، وحدّق إلى إدريس الحكيم بعينين ضيّقتين: "يبدو أنّني لا أملك ولن أملك فرصة أمامك بالقتال الجسديّ ما حيينا. ما الجحيم الذي مررت به يا حكيم حتّى يصير لديك ذلك الجسد القاسي؟"

كان إدريس الحكيم يلمع بضوء فضّيّ كعادته، ولم يكن هناك خدش واحد عليه. ابتسم بتكلّف وأجاب: "مجرّد تدريبات خفيفة يا إبلاس، لا يمكنها أن تُعتبَر من طرفك حتّى."

كان إدريس الحكيم يستخدم حكمته السياديّة، لذا كانت كلّ كلمة منه تبدو حقيقة مطلقة، فلم يستطع إبلاس الرؤية عبره حتّى بعينيْ حقيقته، ولكن حتّى بدون الحاجة لاستخدام عينيه في هذه اللحظات كان يعلم تماما أنّ إدريس الحكيم كان يلاعبه فقط. لقد كان هذا شيء خاص بينهما دائما. كانا عدوّيْن لدوديْن، ولكن بما أنّهما لم يختما نتيجة معاركهما قطّ أصبحا يتعلّمان من بعضهما بعضا كصديقين متنافسين. كانت علاقتهما نادرة للغاية.

أزاح شيطان اليأس نظره عن إدريس الحكيم، ثم نظر بعينيه اللتين تستطيعان كشف ما ستره الكفّ إلى عشرات الأميال بعيدا. كان يحدّق بالضبط إلى شخص ما كان يهرب مع الناس، أو يجب القول كان يقودهم. وبالطبع كان هذا الشخص هو باسل.

ابتسم إبلاس ثم نظر إلى إدريس الحكيم بينما يقول: "لقد كنت ترمي بعض النظرات إلى ذلك الاتّجاه لذا تساءلت عمّا يثير انتباهك أثناء تبادلنا الضربات، ولكن... أنت يا قاسي الرأس صعب المراس علّمت شخصا من العالم الواهن؟!" وضع يده بعد ذلك على وجهه، فظهر من بين أصابعه تلك الابتسامة التي كان يحاول إخفاءها. لقد كانت تلك عادة به.

قطب إدريس الحكيم بعدما علم إبلاس عن هذا الأمر.

ضحك شيطان اليأس بصوت مرتفع أخيرا بعدما أزال يده. رفع ذراعيه إلى الأعلى وقال بصوت مرتفع: "حسنا، حسنا. الآن هذا جيّد، فعلا جيّد."

"لا تحاول القيام بشيء غريب يا إبلاس!" أسرع إدريس الحكيم في التكلّم: "أنت تعلم..."

"غريب؟!" قاطعه إبلاس فجأة مواصلا حديثه بصوت مرتفع: "أيّ غرابة تتحدّث عنها يا تُرى؟ أو لستُ أتصرّف كعادتي؟ هذا هو أنا يا حكيم. لا تنسَ، حتّى لو كنت تعطيني متعة مختلفة، فلن تقترب أبدا من تلك التي أناشدها منك."


"مسَّ منه شعرة وسأسلخ من أقربائك عشرة!" تحدّث إدريس الحكيم بتجهّم يعتلي محياه. امتدّت نيّة قتله طولا وعرضا فجعلت الناس تعتقد أنّ وحشا من جحيم ما قد اجتاح عالمهم الفاني هذا. أكمل بنفس الوتيرة: "لا تكن جشعا كي لا تلقى مصيرا بشعا!"

"هاهاها!" ضحك إبلاس بصوت عال من جديد وقال: "تهدّدني؟ أنا يا حكيم؟ لا أكون جشعا؟ ومتى كنت قانعا؟ إنّك تطلب الكثير. لقد حرمتني من رؤية النظرة التي أريد على محياك طيلة ألف سنة، فكيف تريدني أن أضبط نفسي. هاهاها!"

"اليوم، إنّه اليوم. لا، بل الآن." ارتعش جسد إبلاس من الحماس، ثم التفت بسرعة مرعبة واخترق بصره 'باسلا' كاشفا كلّ شيء.

انكسار

تشقّق الهواء فجأة كقطعة زجاج، فاختفى إبلاس في نفس الوقت. لقد استخدم فنّه القتاليّ في تلك اللحظة، وعلى ما يبدو، فقد كان يشبه فنّ هدّام الضروس القتاليّ.

وبالطبع، لم يفت ذلك إدريس الحكيم الذي رأى برؤيته السحيقة نوايا إبلاس، وبتحليله الشامل جهّز أفضل طريقة لمقاومة ذلك، وبتحكّمه السليم طبّق كلّ ذلك.

ززن

اختفى إدريس الحكيم في نفس الوقت بعدما خلّف صوتا يشبه صوت تقاطع سيفين، وظهر مرّة أخرى فوق باسل بمئات الأمتار. كانت سرعته كبيرة للغاية ففاق إبلاس بكلّ سهولة واعترض طريقه. كان إبلاس في هذه الأثناء أمامه ببعد عشرات الأمتار.

أرجع إدريس الحكيم ذراعه إلى الوراء استعداد للّكم، ثم أطلق ضربة صاحبها عاصفة وهدير رعد أرعب الناس.


أرسِل إبلاس محلّقا عدّة أميال مصطدما بعد ذلك بالخراب الذي اعتاد أن يكون مدينة العصر الجديد. لقد كانت تلك ضربة مدمّرة بشكل لا يصدّق. فلو كان هناك حاكم أو ملك روحيّيْن أمامها لشعرا بالوهن والعجز الكلّيّيْن، ولم يكن ليتبقى منهما عظما إلّا وتحوّل إلى غبار بداخل جسميهما المفرومين.

ومع ذلك، انبثق شيطان اليأس من الغبار كوميض ضوئيّ كما لو لم يحدث له شيء. كان على ما يرام، حتّى أنّ تعبيراته كانت مشرقة. كان مزاجه جيّدا كثيرا أكثر من أيّ وقت مضى.

أكمل باسل والآخرون الهرب دون التوقّف. تأكّد بعض الأشخاص أخيرا أنّه عليهم الهروب بعيدا بمئات آلاف الأميال إن أرادوا أن ينجو من آثار دمار هذه المعركة.

تحدّث إدريس الحكيم آنذاك بنظرات عازمة: "أنا أقسم لك يا إبلاس، لو مسسته بأيّ شرّ، لأقتلنّك حتّى لو كان الثمن روحي."

"هاهاها!" ضحك شيطان اليأس مرّة أخرى متمتّعا: "نعم. تلك النظرات هي بداية متعتي. أتشوّق لرؤية تغيّرها."

نظر إلى باسل البعيد ثم قال: "سيكون فتاك فاخر غيورا يا حكيم لو رأى ما تفعله من أجل هذا الفتى." أكمل ضحكه ثم واصل كلامه بعد ذلك: "هناك أمر يشغل بالي. أصبحت أريد أن أعرف هل كان هذا الفتى أم أنت من قتل فتاي."

صمت إدريس الحكيم ولم يجبه.

لوّح إبلاس يده قائلا: "لا، لا تحتاج للإجابة حتّى. لقد كان من الغريب أصلا تدخّلك وقتلك مجرّد ساحر. لابدّ وأنّك تركت هذا الفتى يتعامل معه. يبدو أنّه يستعمل خطوات الرياح الخفيفة، ويبدو أنّ هناك شيء غريب يحدث في بحر روحه. هذا مثير، مثير للغاية. لربّما يكون أحد ألغاز العالم التي لطالما حيّرتني."

عبس إدريس الحكيم عندما سمع ذلك. لقد كان ذلك بسبب أنّ إبلاس قال شيئا آخر غير رغبته في استعمال باسل في صالحه ضدّه. لقد أراد شيطان اليأس أن يرى اليأس في وجهه، لذا أراد أن يستخدم باسل، لكنّه الآن أبدى اهتماما لما يحدث مع باسل وربطه بألغاز ما.

شكّ إدريس الحكيم في ما إذا كان إبلاس يعلم شيئا عن حالة باسل، لذا ازداد قلقه أكثر؛ فبذلك ستكون رغبة إبلاس بباسل أشدّ. لطالما كان التعامل مع هوسه صعبا، لكنّه الآن سيصير أصعب.


لم يجرؤ إدريس الحكيم على التفكير لثانية أخرى، ففعّل طاقته الروحيّة، وإذا بأرض واسعة يمكنها حمل السماء وتغطية العالم تظهر تحته مباشرة. لقد كانت حمراء كثيرا كما لو أنّها اعتادت أن تكون ساحة قتال سُفِكت فيها دماء الملايين. كانت هذه الأرض واسعة كأرض إمبراطوريّة ما بشسوعها، وغطّت جزءا كبيرا من العالم الواهن في لحظة.

لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ؛ انبثقت أعشاب وأزهار في الأرض الواسعة فجأة فبدت حيّة للغاية ووفيرة بالطاقة الروحيّة. بدت كأنّها أرض عالم عميقة مباركة تحمل كمّا هائلا من جوهر طاقة العالم. كان بها نبع طاقة روحيّة متّصل بجذر شجرة لم تنبت بعد تعمّق إلى نهايتها ممّا جعلها تكسب قوّة عظيمة، وتمركزها جوهر روحيّ بدا كأنّه الروح نفسها.

عبس إبلاس عندما رأى هذه الأرض الواسعة ونطق: "نطاق أرض العالم!" ابتسم بتكلّف ثم أكمل: "حسنا، حسنا. هذا غير متوقّع نظرا لموهبته الميّتة. يبدو أنّ الحكمة السياديّة تغيّر الشخص حقّا."

لم يتوقّف دور الحكمة السياديّة في جعل مظهر إدريس الحكيم لوحده متخفّيّا، بل جعلت مستواه غير معروف لأشخاص يفوقونه بمستويات مرتفعة كثيرا أيضا. لم يستطع شيطان اليأس رؤية هذه الحقيقة حتّى بعينيْ حقيقته.

جعلت هذه الأرض الواسعة العالمَ الواهنَ مظلّلا للحظات، قبل أن تختفي مرّة أخرى. وللدقّة، لم تختفِ وإنّما تحوّلت، أو يجب القول اندمجت مع رمح خشبيّ كان بيد إدريس الحكيم. صار الرمح الخشبيّ بعد ذلك مشعّا، وأصبح أحمرا، وبدا كما لو أنّه صار ثقيلا بوزن تلك الأرض الواسعة، وغنيّا بطاقتها، ومدعّما بقوّتها.

لقد كان ذلك سلاح إدريس الحكيم الروحيّ.

ظهر كلّ شيء للعيان عندما قرّر إدريس الحكيم استخدام سلاحه الروحيّ المدعّم بنطاقه بأكمله. لقد عنى ذلك أنّه يستخدم كلّ ما يملك من قوّة روحيّة في سلاحه الروحيّ.

كان عندما يجعل الساحر الروحيّ كنزا ما سلاحه الروحيّ، يدمجه تماما بروحه ممّا يجعله قابلا للاندماج بالنطاق الروحيّ بالطبع. كلّ ذلك يجعل السلاح الروحيّ يحمل خواصّ النطاق الروحيّ الذي بلغه الساحر الروحيّ ويدمج قدراته الخاصة بها.

وبعدما ينهي الساحر الروحيّ ذلك يكون قد اكتمل سلاحه الروحيّ أخيرا.

ابتسم إبلاس حينما رأى ما فعله إدريس الحكيم وقال بهدوء بالرغم من تفاجئه سابقا: "أرض واسعة كإمبراطوريّة، وحيّةٌ حمراءٌ، ووفيرةٌ لامعةٌ، وعميقة."

حكّ ذقنه ثم صرّح: "في الواقع، لم أكن أظنّ أنّك ستبلغ مرحلة العمق بنطاق أرض العالم، لكن أنّك نجحت بطريقة ما."

كان إدريس الحكيم يحدّق إليه بازدراء من السماء كمخلوق سامٍ ينظر باستصغار إلى بقيّة المخلوقات. لم يتكلّم قطّ وواصل شحذ سلاحه الروحيّ بينما يتحكّم فيه بشكل استثنائيّ، حتّى شيطان اليأس كان غيورا من درجة التحكّم تلك.


صنع إبلاس ابتسامة باهتة وأكمل: "فوجئت تماما عندما رأيت عمق أرض عالمك. هل يمكن أنّك وجدت كنزا ما ساعدك؟ أجد تحقيقك هذا ولو بحكمتك السياديّة صعب التصديق، نظرا إلى موهبتك الميّتة. وإضافة إلى ذلك، لا يجب أن تبلغ هذا العمق بما أنّك بلغت تلك المراحل فقط بنطاقاتك الثلاثة الأولى."

صمت إدريس الحكيم كما لو أنّه يخبر شيطان اليأس أن يكفّ عن الكلام، ثم ضرب قاعدة رمحه الأحمر اللامع بالهواء، فصدى صوتٌ في جميع الاتّجاهات بموجات صوتية لم يبدُ أنّها تضعف بينما تتنقّل عبر المسافات البعيدة.

أصبح كلّ شيء هادئ بعدما هدأ الصوت أخيرا، وعندئذ تكلّم إدريس الحكيم أخيرا بصوت هادئ، ومع ذلك كان صوته يخترق الروح ويتلاعب بالعواطف: "يا إبلاس، انس عاداتنا. لننهِ هذا الآن."

كشّر إبلاس عن أنيابه الطويلة فجأة، فتجلّى تعطّشه للدماء ونيّة قتله الوحشيّة. شعرت الوحوش في الكثير من المناطق المحظورة بجميع مستوياتها بالرعب واختفت من المرأى إلى أعمق مخابئها. شعر ناس مدينة العصر الجديد الذين كانوا يهربون بالهلع أكثر فأكثر، وأصبحت خطواتهم أسرع فأسرع.

كان باسل عابسا طوال الوقت بينما يتساءل عمّا سيحدث، وعندما شعر بنيّة قتل شيطان اليأس زاد قلقا أكثر من ذي قبل. اقتربت منه أنمار ثمّ أمسكت يده وقالت بصوت حازم: "ما هذا الذي أراه على محياك؟ أيمكن أنّه قلق؟" أحكمت إمساكها ليده ثم أكملت بنظرة أكثر جديّة: "لا تنسَ يا باسل، إنّ معلّمنا هو الأفضل."

ارتاح قلب باسل قليلا عندما سمع كلمات أنمار. لقد كانت هذه الكلمات هي أشدّ شيء يريد سماعه في هاته اللحظات. ابتسم في وجهها قائلا: "معك حقّ. إنّه الأفضل."

قطبت أنمار حينما رأت ابتسامة باسل، فعلمت أن هناك شيء غريب. توقّفت فتوقّف معها باسل، فسألته مباشرة بعد ذلك: "ذلك الوجه، أيمكن أنّه حدسك؟"

نظر باسل إلى جهة معلّمه ولم يجب أنمار بعدما كان قد أعطاها الإجابة بتعبيراته تلك. لم يكن قلقه من فراغ، لقد كان من حدسه الذي لطالما كان صائبا، لذا لم يستطع أن يخفي هاجسه وخوفه من تحقّق ما لا يريده أن يحدث.


أفلتت أنمار يده، ثم وضعت بعد ذلك كفّيها على وجهه وجعلته ينظر إليها مباشرة، فاقتربت من وجهه حتّى صارت عيناها قريبتين من عينيه، فقالت بعد ذلك: "إنّه الأفضل، لذا سيتفوّق حتّى على حدسك هذا."

تنهّد باسل بعدما حدّق إلى أنمار لمدّة طويلة عن قرب، ثمّ وضع جبهته على جبهتها وقال: "معك حقّ. فهكذا يكون الأفضل."

أمسك يدها ثمّ أكملا الجري بعيدا. لقد كانا يعلمان أنّه يجب عليهما الابتعاد إلى أقصى ما يستطيعون. وبالطبع، كان باسل قد استخدم خاتم التخاطر وأبلغ الكبير أكاغي كي يغادروا إلى العاصمة ويتّخذوا أقصى إجراءات الاحتياط، وكذلك فعل الإمبراطوران الآخران. لقد علموا أنّ خطرا مشابها لما حدث قبل خمسة عشر سنة يغزو عالمهم، لكنّ باسل طمأنهم بأنّ هذه المرّة مختلفة عن السابقة؛ هذه المرّة يوجد شخص قادر على التعامل مع هذا الخطر، ولم يكن هذا الشخص هو بنفسه، وإنّما أحد آخر.

فهم الكبير أكاغي من كلام باسل أنّ هذا الشخص يجب أن يكون أقوى من باسل بكثير، وتذكّر ما حدث في نهاية الحرب الشاملة. بما أنّ باسل ليس الشخص الذي سيتعامل مع هذا الأمر، يجب أن يكون ذلك الشخص أقوى منه بالطبع.

أصبح العالم الواهن مرتعبا بعدما حدثت كلّ تلك الزلازل والعواصف. لقد كان هناك هدوء وسكون مؤخّرا، ولكنّ كلّ ذلك صار كحلم عابر بعدما أيقظهم ذلك القتال الجنونيّ. لقد كان هذا معنى قتال يهزّ العالم.

تبقّى في أكاديميّة الاتحاد العظمى تشكيل بطل البحر القرمزيّ فقط، وشغّلوا أعظم وسائلهم الدفاعية استعدادا للأسوء.

نظرت أنمار مرّة أخرى إلى إدريس الحكيم كما لو أنّها تحاول ترسيخ شكله في ذاكرتها؛ لقد هذا الشكل جديدا عليها؛ لم يسبق لها أن رأت معلّمهما هكذا أو تخيّلت أنّه سيكون شابّا في الواقع ليس عجوزا.

سألت باسل باهتمام: "هل كنت تعلم عن مظهر معلّمنا؟"


أومأ باسل رأسه وقال: "لقد سألته عن السبب الذي يجعله يقوم بذلك، فأخبرني أنّها مجرّد عادة. يحبّ أن يلاعب الآخرين، وخصوصا الأقربين."

تنهّد باسل بينما ينظر إلى أنمار؛ كان يفكرّ آنذاك في شيء واحد – علم أخيرا ما السبب الذي جعل أنمار تروق لمعلّمه بلقائهما الأوّل. كان غريبا في الواقع أن يتّخذها إدريس الحكيم تلميذه له بتلك البساطة.

وبالطبع، كانت هناك مقاصد أخرى لإدريس الحكيم وراء تعليمه أنمار، فحتّى لو أعجبته شخصيّتها التي أشبهت خاصته نوعا ما، لم يكن ليجعلها تلميذه له بتلك السهولة. لقد كان يفكّر في الأفضل لتلاميذه، لذا أرادها أن ترافق باسل في مساره الروحيّ الطويل. لم يكن هناك ما هو أفضل من مرافق أبديّ يفهمك ويقدّرك مهما حدث. لقد رأى بحكمته السياديّة مدى حبّها له، وقدّر أنّه حتّى لو فرّقتهما عصور فسوف تبقى مشاعرها لباسل نفسها أو تزداد فقط.

حدّق إدريس الحكيم إلى وجه إبلاس المتحمّس واستعدّ جيّدا. حافظ شيطان اليأس على ابتسامته تلك وارتفع إلى السماء فجأة في لحظة واحدة. ظهر بيده اليمنى سلاح معقوف يشبه الهلال شكلا. لقد كان هذا السلاح يبدو بسيطا من الوهلة الأولى كسلاح سحريّ، ولكن بعد التدقيق بأعين جيّدة، يمكن للشخص أن يعرف أنه ذو أصل عتيق ولا يُدرَك غوره.

حدّق إدريس الحكيم إلى هذا السلاح وتذكر بعض الذكريات القديمة. نظر إلى إبلاس ثمّ قال: "لقد حصلتَ على مثل هذه الأداة الجيّدة آنذاك، لكنّك حقّا كنت ولا تزال جشعا؛ مع أنّك كسبتَ 'سيف هلالِ الألفِ عصرٍ' إلّا أنّك طمعتَ في قرص بحيرة المائة الفضّيّ."

ابتسم إبلاس وردّ: "لطالما كنت أنا وسأبقى كذلك. لن أتغيّر أبدا. أتعلم لمَ؟ ذلك لأنّني أحبّ نفسي هكذا."

كان شيطان اليأس يفتخر بشخصيته علانيّة. في الحالات الطبيعيّة، كان بعض الأشخاص سيفقدون حسّهم السليم بعدما يقومون ببعض الأفعال الخاطئة إن لم يثوبوا إلى رشدهم بسرعة، أو سيؤنِّبهم ضميرهم ممّا يجعلهم يكرهون أنفسهم أو لا يمدحونها على الأقلّ، ولكن كلّ ذلك كان مختلفا مع إبلاس.

لم يزد كلمة على ذلك وفعّل طاقته الروحيّة التي انتشرت في جميع الاتّجاهات وأسقطت العالم الواهن في رعب شديد من يأس عميق.


ظهرت بعد ذلك أرض واسعة غطّت العالم الواهن. لقد كان من الواضح أنّها أكبر من الأرض التي أظهرها إدريس الحكيم. كانت هذه الأرض زرقاء اللون، وأشعّت كما لو أنّها تستمدّ ضوءها من الشمس، فأنارت السماء أعلاها والأرض أسفلها. كانت أعشابها وأزهارها التي انبثقت من أعماقها كقطع من اليشم والمرو. كان عمقها مثل العمق الذي بلغته أرض إدريس الحكيم.

مرّ عبرها نبع طاقة روحيّة كان واضحا أنّه أغنى من الخاص بإدريس الحكيم، ولكن ليس ذلك ما كان مدهشا، بل ما كان يحدث بمرور طاقة هذا النبع في هذه الأرض ذات الخصوبة بشكل لا يوصف.

قطب إدريس الحكيم كما لو كان ينتظر حدوث شيء ما، وفي اللحظة التالية، أصبحت الزهور والأعشاب أشجارا فجأة وتحوّلت إلى غابات جاورتها بعض الجبال التي ظهرت من الأعماق بسرعة خاطفة. كان هذا بسبب التغذية التي تلقّتها من نبع الطاقة الروحيّة في الأرض.

كان جذر شجرة لم تنبت بعد يتغذّى من هذا النبع باستمرار، لكنّ نموّه كان أبطأ بكثير مقارنة بالأعشاب والأزهار الأخرى.

صنعت الجبال ممرّا معوجّا امتدّ عبر الأرض الواسعة بأكملها حتّى بلغ باطنها واتّصل بنبع الطاقة الروحيّة. وفجأة بدأت أشجار الغابات تقطّر بعض القطرات بدت كرحيق يطيل العمر عبر شربه ويغذي الروح بحيويّة وطاقة غير محدودتين. كان هذه القطرات بلون أزرق وبدت كأنّها كانت فيما سبق طاقة استخلِصَت من أحجار الأصل السامية، وكُثِّفَت عندئذ لدرجة مدهشة.

نزلت القطرات ببطء، لكنّها سرعان ما أصبحت كالمطر فشبَّعت الأرض الواسعة. غاصت بعد ذلك حتّى التقت بنبع الطاقة الروحيّة وجعلّته يغلي كأنّه تعرّض لقطرات من الجحيم. وبعد لحظات هدأ النبع، ثم انفجر في اللحظة التالية في المنطقة التي يتّصل بها مع الممرّ الذي صنعته الجبال.

خلّف هذا الانفجار هيجانا من النبع، فانطلق هذا الأخير، بعدما أصبح لونه أزرقا، عبر الممرّ صانعا نهرا غنيّا بالطاقة الروحيّة المركّزة. كان هذا النهر أزرقا وجعل لمعان الأرض الزرقاء يبدو باهتا مقارنة به. لقد كانت درجة طاقته الروحيّة مختلفة عن تلك التي تتمتّع بها الأرض الواسعة أو التي كان يملكها قبلا عندما كان نبعا.

انزلقت مياه هذا النهر عبر بعض الشقوق وغنّت الجبال والغابات فجعلتها برّاقة عمّا كانت عليه بشكل ملاحظ بكثير، ومرّة أخرى قطّرت الأشجار قطرات من نفس النوع السابق وتكرّرت نفس العمليّة. كانت دورة تصبح فيها الطاقة الروحيّة مركّزة بأضعاف كثيرة.


كانت الأرض الواسعة مهيبة، ولكن عندما انبثق هذا النهر أصبحت تبدو مباركة بشكل لا يوصف، وللدّقّة، لقد غدت مباركة حقّا. اكتسبت رقيا روحانيّا وجعلت إبلاس الذي كان يقف عليها يبدو كمخلوق سامٍ أتى بقارّة من عالم مبارك إلى هذا العالم الواهن.

توهّج جسد شيطان اليأسّ بضوء ذهبيّ وبدا كشمس ساطعة تجسّدت في جسد شخص ما. كان في هاته اللحظات يبدو مباركا بالرغم من الهالة الفظيعة التي كانت تنبعث منه، وجعل كلّ شخص يقرّ بعظمته ويهابه.

كان إدريس الحكيم لا يزال عابسا، وعندما لاحظ شكل إبلاس الحالي لم يسعه سوى أن يصرّح: "نطاق نهر العالم مدهش حقّا، يتغيّر الشخص تماما حينما يصير روحانيّا مباركا."

فكّر أثناء ذلك في الكثير من الأمور. لو لم يكسب الحكمة السياديّة لكان مجرّد حشرة أمام إبلاس لا يمكنها بلوغ الذروة مهما تدفّق الزمن. كان شيطان اليأس عبقرّيا منذ ولادته، ولم يكن هناك العديد من أقرانه في كلّ العوالم الروحيّة. لقد كان مستقبله واعدا للغاية.

تمتم إدريس الحكيم لنفسه: "أرض واسعة كقارّة، وحيّة زرقاء، ووفيرة مشعّة، وعميقة." تحسّر على الفرق في الموهبة العظيم بينهما وأكمل: "إنّه يفوقني في النطاقات الثلاث الأولى، ويعادلني في الرابع، لكنّه قد بلغ نطاق نهر العالم بالفعل."

كانت هناك مراحل بجميع النطاقات، وعلى ما يبدو، فإنّ شيطان اليأس يفوق إدريس الحكيم في مراحل نطاق الأرض الواسعة، ونطاق الأرض الحيّة، ونطاق الأرض الوفيرة، ويعادله في نطاق أرض العالم، ولكنّ إدريس الحكيم كان لا يزال لم يبلغ نطاق نهر العالم لذا كان أضعف في المستوى الروحيّ عامّة.

لكنّه مع ذلك لم يفقد ثقته بنفسه قطّ. لقد لاحظ كلّ هذا برؤيته السحيقة عندما رأى عبر إبلاس والسبعة الآخرين في الأوّل، ولم يعبّر عن ذلك سوى بمثير للاهتمام. لم تكن المستويات الروحيّة مطلقة في القتال بين السحرة الروحيّين، وخصوصا عندما أتى الأمر إلى إدريس الحكيم، خبير الفنون السامي السياديّ. لقد كان يثبت في العديد من القتالات الماضية مرارا وتكرارا أنّه لم يُلقَّب بذلك من فراغ.

حتّى لو كانت موهبته ميّتة، فبحكمته السيادية غطّى ذلك بمشقّة وكان متفوّقا في جهة الفنون القتالية بشكل طاغٍ. كان ذلك يعوّضه بشكل كبير، بل وفاق مرحلة التعويض وكان يمنحه أفضليّة عظيمة.

اختفت الأرض الواسعة التي غطّت جزءا عظيما من العالم الواهن واندمجت بالسيف الهلاليّ الذي كان في يد إبلاس، مانحة إيّاه وزنها العظيم، وطاقتها الوفيرة، وقوّتها الشديدة. أصبح بعد ذلك أزرقا وأطلق وهجا جعل لمعان رمح إدريس الحكيم الأحمر خافتا. كان من الواضح أنّ السيف الهلاليّ كان أقوى بكثير وأغنى بطاقة روحيّة أشد تركيزا ممّا كان عليه الرمح الأحمر.

اكتمل سلاح شيطان اليأس الروحيّ أخيرا.

حدث كلّ هذا في مجرّد لحظات وجيزة جدّا، ولكنّها كانت كافية لإظهار عظمة روحانيّ مبارك للعالم الواهن، أو جزءا منها على الأقلّ. علم باسل أنّ العالم الواهن سيتعرّض لدمار كبير وأمر كلّ سحرة الاستدعاء أن يستدعوا وحوشهم السحريّة ويساعدوا الناس على الهرب إلى أقاصي العالم بعيدا عن ذينك الاثنين، وأخبر الكبير أكاغي أن يقوّوا دفاعاتهم إلى أقصى الدرجات ويختبئوا من الكوارث التي قد تحدث.

قطب أتباع إبلاس الستّة واختفوا من المكان الذي كانوا فيه إلى مكان أبعد بكثير ثم استخدموا كنزا يبدو كبركة مائية صغيرة حتّى يراقبوا عبره المعركة.

كانت هناك مراحل بكلّ نطاق من المستويات الروحيّة، وفورما ينهي الساحر الروحيّ مرحلة ما كلّيّا، فإنّه يكون مؤهّلا للاختراق إلى النطاق التالي، لكنّ ذلك يكون أصعب بطبيعة الحال، ولا يمنحه فرصا جيّدة في بلوغ مراحل مرتفعة في النطاقات القادمة، ويتوقّف نموّه عند نطاق محدّد في النهاية، وفي المقابل كلّما أكمل مراحلَ أكثر سهُل اختراقه إلى النطاقات التالية وزادت فرصه في بلوغ مراحل عليا بها.

كانت موهبة إدريس الحكيم ضعيفة للغاية، لكنّه استطاع التعويض عن ذلك بحكمته السياديّة. أمّا إبلاس، فقد كان من أفضل عباقرة العوالم الروحيّة. قيل أنّ شخصا بموهبته الطبيعيّة لا يظهر إلّا مرّة في عشرة آلاف سنة.

كان بلوغ نطاق نهر العالم يتطلّب تجاوز اختبار تحت القوانين الطبيعيّة التي تحاول قمع انبثاق كيان مثل هذا. لقد كان الساحر الروحيّ الذي يتجاوز هذا الاختبار يدعى بـروحانيّ مبارك.

كان لذلك سبب وجيه؛ ففي الحقيقة، لم يكن هدف تلك القوانين الطبيعيّة النهائيّ هو قمع انبثاق كيان كروحاني مبارك إلى الوجود، وإنّما كانت كممتحِن يختبر أهليّة الشخص الذي يريد بلوغ ذلك النطاق، لذا سمِّي ذلك 'اختبار العالم'، وعرِف أيضا وغالبا بـ'اختبار الجدارة'.

وبعدما يتجاوز هذا الاختبار، يكسب الروحانيّ المبارك قطرات الحياة من جوهر العالم الروحيّ حتّى يصنع نهر عالمه الخاصّ. كانت قطرات الحياة هذه تغذّي نبع أرضه الواسعة حتّى يصبح في النهاية نهرا يمدّه بالحياة.

كان هذا النهر الروحيّ يمثّل حياة جديدة بالنسبة للساحر الروحيّ، أو على الأقلّ بدايتها. فبعدما يصير هذا النهر بحيرة، وتصير البحيرة بحرا، وينتهي إكمال النطاقات الأخرى، سيكون الساحر الروحيّ مستعدّا عندئذ لُيُمتحن من جديد ليُرى إن كان أهلا لاكتساب تلك الحياة الجديدة بأكملها، أم سيمنح حياته الخاصّة التي نمّاها كلّ الوقت الماضي بفشله.

كانت قوانين هذا العالم الطبيعيّة مبرمجة على اختبار هذه الكيانات التي تحاول تجاوز الاختبارات بدون استثناء، ولم ولن يمرّ سوى الجدراء. كان هذا هو السبب في كون عالم السحر والروح يتّخذ منحى النجاة للأجدر، وليس للأقوى.


على مرّ التاريخ، كان هناك العديد من العباقرة الأقوياء؛ إذ هزموا كلّ أعدائهم ومنافسيهم أثناء تسلّقهم إلى القمّة، لكنّهم فشلوا في الاختبار النهائيّ. وفي الجهة الأخرى، كان هناك أشخاص أخذوا وقتهم في الصعود ببطء وقوّوا أسسهم الروحيّة حتّى بلغوا ما لم يبلغه العديد من الأقوياء، وكان هناك آخرون استخدموا مخطّطات واستراتيجيّات لينجحوا في ذلك. كان ذلك خير دليل على نجاح الأجدر وليس الأقوى.

***

فاضت طاقة شيطان اليأس وغمرت العالم الواهن بأكمله جاعلة إيّاه يسقط في يأس عظيم. لم يتجرأ أيّ شخص على التفكير في مواجهة صاحب هذه الطاقة فاختبؤوا في جحورهم.

لم تكن طاقة إدريس الحكيم بندّ لها أيضا؛ استطاعت فقط أن تصارعها من أجل إنارة هاوية اليأس تلك التي يكاد العالم الواهن يسقط فيها. كان إدريس الحكيم في هاته الأثناء كقمر يضيء الظلام السحيق، وكان نوره بالكاد يجعل الرؤية واضحة لأولئك الذين لا يزالون يبحثون عن ضوء الأمل.

كان السيف الهلاليّ الأزرق في يد إبلاس كقطعة من نجم أزرق يجعل الشمس تبدو كشعلة ضئيلة، وكان شيطان اليأس كمخلوق جبّار يمكنه تلويحه ومحو باقي النجوم والمجرّات به.

كان رمح إدريس الحكيم الأحمر خلّابا ومهيبا، وبدا كما لو أنّه صنِع من دماء مخلوقات جبّارة لا تعدّ ولا تحصى. كان يملك قمعا يطبّقه على العالم وقواعده فيحكم بما يشاء.

لم يمرّ وقت طويل على انتهاء الاثنين من استعداداتهما، لكنّ تلك اللحظات القصيرة مضت كأنّها عصور انقلبت فيها الهاوية أملا تارة، واختفى النور متحوّلا إلى ظلام عميق تارة أخرى. كانت تلك العصور من صنع ذينك الاثنين لا غيرهما.

ززن بووم


وفي لحظة، انشقّت سماء العالم الواهن وسقط منها ضوء أحمر يحيطه ضوء فضّيّ بينما تحرّكه رياح تستطيع تحريك الكواكب والنجوم. اتّخذ الضوء الأحمر شكل رمح عملاق، بينما كان الضوء الفضّيّ سرابا للنجوم التي غلّفته حتّى كادت تغطّيه، ثم التفّت حولهما زوابع وأعاصير جعلت الضوءين يتوهّجان أكثر فأكثر في كلّ جزء من الألف من الثانية.

كان يتحكّم في هذا الرمح العملاق إدريس الحكيم، ولم يكن ممكنا رؤيته قطّ إلّا إذا كان الشخص يملك عينين جيّدتين للغاية كعينيْ حقيقة إبلاس.

ارتجف الهواء تحت إبلاس وانشقّت الأراضي ثم تحولّت إلى غبار، وكلّ ذلك كان بسبب الضغط الذي تولّد من طبقات الهواء الزجاجيّة المشوَّهة التي ظهرت وأحاطته من جميع الجهات. كانت هذه التشوّهات الزجاجيّة كأشكال خماسيّة عديدة متداخلة فيما بينها، ولم يكن ممكنا مرور أيّ شيء عبرها.

صرخ إدريس الحكيم الذي ظهر من العدم فجأة: "رمح العدم!"

كان هجومه ذاك أحد أقوى هجماته. لقد حوى كلّ تقنياته مجتمعة مرّة واحدة.

اختفى إدريس الحكيم في كلّ جزء من الألف من الثانية فبدا كأنّه ينتقل عبر الفضاء ويتجاوز الزمن. لقد كانت تحرّكاته تلك تتجاوز مستوى الإمبراطور الروحيّ بكثير ولم يكن ذلك ممكنا إلّا عن طريق شيء واحد – الفنون القتاليّة، وليست أيّة فنون؛ لقد وجب أن يكون أصلها سامٍ أو لن يكون لها هذه الفعّاليّة والمثاليّة.

كان إبلاس مبتسما عندما كان يستعدّ لذلك الهجوم من غريمه، وفي لحظات كان قد شوّه جزءا كبيرا من المنطقة المجاورة، فبدا كما لو كان قد أنشأ عالما ثانويّا يمكنه التحكّم فيه كما يشاء. لقد كان نتاج فنّه القتاليّ الروحيّ.

فجّر بعد ذلك طاقته الروحيّة التي كانت خالصة لدرجة لا تصوّر. كانت الطاقة الروحيّة الخاصة بنطاقات الأرض مجرّد قمامة أمامها، فما بالك بكم هي نفاية كانت الطاقة السحريّة أمامها؟ لقد كانت هذه طاقة روحانيّ مبارك تجاوز اختبار الجدارة وجعل طاقة جوهر العالم ملكا له.

فلو كان السحرة والسحرة الروحيّون يستنزفون طاقة العالم، فلقد كان سحرة لنطاقات الروحانيّة يستنزفون طاقة جوهر العالم، وكانت تلك الطاقة مباركة ويمكنها إحداث تغيّر في قوانين هذا العالم على يد الروحانيّ المبارك. ولهذا كان العالم مبرمجا على عدم ترك أيّ شخص يحصل على هذه الميزة إلّا بتجاوزه اختبار العالم.


غمرت هذه الطاقة ذلك العالم المشوّه فتحوّلت مباشرة إلى شموس تحرّكها عواصف، وفي مركزها تواجد سيف هلال الألف عصر، وكان يمدّها بالطاقة اللازمة كوسيط بينها وبين شيطان اليأس. لقد كان يبدو ذلك العالم المشوّه كمجرّة تخلّلتها نجوم سبحت بينما تصنع موجات تموّجت فزادت المجرّة تعقيدا.

تكوّن بحر نجوم هائج عاصف وانطلق ليجابه رمح العدم. كلّ ذلك جرى بتحكّم إبلاس الذي صرخ أيضا: "سيف المجرّة المشوَّهة!"

باام

التقت المجرّة المشوّهة برمح العدم واختلطت قوانينهما فجعلت من قوانين العالم الواهن عديمة الفائدة. كلّ شيء أصبح تحت سيطرتهما ولم يعد هناك منطق خارجيّ يمكنه شرحهما. لقد كانا أبعد وخارج سلطة هذا العالم، وتحت سلطتهما تحوّل العالم الواهن إلى كوكب يكاد ينكسر من شدّة الاهتزاز الذي كان يحدث به، لكنّه كان لا يزال عالم سحريّا ولم يكن من السهل تدميره. ومع ذلك، تشتّت الجبال المحيطة وجفّت الأنهار المجاورة وأظلمت السماء.

وفي المقابل، استمرّ رمح العدم في اختراق كلّ شيء مبيدا كلّ ما يعترض طريقه على يد إدريس الحكيم. لقد كانت قوّة هذا الرمح مدهشة للغاية وفاقت كلّ المتوقّعات. لقد كان ذلك بسبب خاصّية الرمح الخشبيّ الأصليّة - مضاعفة الطاقة السحريّة!

كانت طاقة إدريس الحكيم كإمبراطور روحيّ أقلّ بكثير من طاقة روحانيّ مبارك، وأقلّ نقاوة منها، لكنّه كان بإمكانها تعزيز طاقته وجعلها تنمو بشكل مرعب عبر قدرة الرمح الخشبي. لقد كان ذلك مثلما حدث مع باسل في معركته الأخيرة ضدّ هدّام الضروس.

كان سرّ قدرة هذا الرمح الخشبيّ يكمن في أصله. لقد كان مجرّد غصن ورث قدرة الشجرة الأمّ في الواقع. لقد كانت هذه القدرة تسمح له باستنزاف طاقة المستخدم واستخدامها كمحفّز يجعله يشفط طاقة العالم حتّى يضاعف الطاقة التي تلقّاها مسبقا من المستخدم.

ولكن لم يكن هذا هو الجزء المرعب في هذا الهجوم، لقد كان ذلك بسبب ما جعل إدريس الحكيم يُلقَّب بخبير الفنون السامي السياديّ.


لقد كان ذلك بسبب تحرّكات إدريس الحكيم حامل رمح العدم التي لم يستطِع إبلاس رؤيتها حتّى لو كان روحانيّ مبارك إلّا بعدما استخدم عينيْ حقيقته بكامل قوّتهما.

ضحك إبلاس ثم تحكّم في سيفه الهلاليّ من بعيد ولم يتجرّأ على الالتحام مع إدريس الحكيم عن قرب. لقد كان متأكّدا من تعرّضه لجراح بالغة لو التحم معه بشكل مباشر.

. كانت المجرّة المشوّهة تطلق أضواءها الغريبة في جميع الاتجاهات، بينما تتفرقع نجومها كقنابل نارية، وشحذت العواصف ذلك فكوّنت كمّا هائلا من النيران الزرقاء التي اندمجت في النهاية بالسيف الهلاليّ الأزرق، والذي اخترق بعد ذلك المجرّة المشوّهة نفسها ليخلّف دويا هزّ العالم الواهن بزلازل لم تتوقّف إلّا بعد مرور وقت طويل.

التقى رمح العدم بسيف المجرّة المشوّهة فجعلا عشرات الأميال تتحوّل إلى غبار كآثار لاصطدامهما، وسبّبا الرعب والفزع لناس العالم الواهن من هولهما.

كلّ الأشخاص المهمّين ردّدوا بهلع: "أيّ أهوال هذه؟!"

"أهوال نهاية عالمنا قد حلّت!"

حاول سيف المجرّة المشوّهة بكلّ ما يملك من قوّة اختراق رمح العدم، لكنّ إدريس الحكيم كانت له اليد العليا هنا باستخدامه شيئا آخر غير الطاقة الروحيّة بشكل مباشر.

فلو كان شيطان اليأس قد استخدم طاقته الروحيّة مباشرة وفنّه القتاليّ الروحيّ عن بعد، فلقد كان إدريس الحكيم يفعل الاثنين بشكل مباشر ممّا منح له أفضليّة. وبالطبع لم يكن إبلاس ليتجرّأ على الاقتراب من إدريس الحكيم وهو في هذه الحالة بسهولة.

انشقّ الهواء وظهرت فراغات بنفسجيّة إثر شدّة الالتقاء بين السلاحين الروحيّين؛ لقد كان ذلك الالتحام عظيما لدرجة مهولة. حتّى قوانين العالم انكسرت وصُنِعت شروخ فضائيّة أصبحت مباشرة بوّابات لمأوى العدم.


وتحت تحكّم وتحليل إدريس الحكيم، وبصيرته السحيقة، أَضعِف كلّ شيء بشكل كبير ثمّ نُفِيَ إلى ذلك العدم. لقد كان كلّ ذلك ممكنا لأنّه كان إدريس الحكيم، خبير الفنون السامي السياديّ.

صرخ شيطان اليأس: "نعم! هذا هو خبير الفنون السامي السياديّ. هذا هو الشخص الذي هابته العوالم الروحيّة وعجزت الكثير من الشخصيات العظمى عن قتله."

فتح ذراعيه على مصراعيهما ثم أكمل بشكل هيستيري: "لا أحد غيرك في العوالم الروحيّة يمكنه أن يكون منافسا جديرا لي. نعم، كلّ العباقرة مجرّد حشرات أمامي، إلّا أنت يا حكيم؛ ولهذا تعجبني، أنت يا من أجبرت كلّ عباقرة العوالم الروحيّة على سلك الطريق الطويل واحتكرت الطريق المختصر. اليوم، باعتباره كآخر يوم لك، أنا أقرّ بأنّك الأفضل!"

"نعم، أنت الأفضل يا مستخدم ثلاثة فنون قتاليّة روحيّة ذات أصل سامٍ!"

كان هذا هو ما أرعب العوالم الروحية بشأن إدريس الحكيم. لقد كان ذلك بسبب كونه يستخدم ثلاثة فنون قتاليّة سامية بينما اقتصر الأمر على فنّ قتاليّ واحد لباقي السحرة بجميع مستوياتهم! لقد كان أفضل مستخدم فنون قتاليّة! لقد كان خبير الفنون السامي السياديّ!

فرقع سيف المجرّة المشوّهة الهواء ومرّ عبر البوّابات الفضائيّة ثم عاد إلى صاحبه بسرعة لا تضاهى. لقد كان ذلك سلاح روحانيّ مبارك بعد كلّ شيء ولم يكن ممكنا التأثير عليه حتّى بتحكم إدريس الحكيم.

توهّج السيف الهلاليّ في يد إبلاس فانبعثت منه نار بنفسجيّة اللون غطّت السماء فجأة فجعلتها مظلمة. لقد كانت تلك النار مرعبة لدرجة لا توصف؛ أذابت كلّ ما أحاط بها في محيط عشرات الأميال بسرعة كبيرة. كانت الشمس في هاته اللحظات لا شيء أمامها.

اختفى إدريس الحكيم وظهر بعيدا بمئات الأميال في لحظات بعدما رأى تلك النار البنفسجيّة واتّخذ الحذر منها جدّا. لقد كانت تلك نار روحانيّ مبارك، وكانت بالدرجة الخامسة من سبع درجات بإمكانيّة النار الوحيدة، وفي هذه المرحلة كان يمكن لهذه النار أن تبخّر نهرا كاملا بسرعة كبيرة.

لقد كانت هذه الدرجة صعبة المنال ولم يبلغها سوى شخصيات هيمنت على العالم.

كان يعلم إدريس الحكيم تمام المعرفة أنّ شيطان اليأس ما يزال يلعب فقط ولم يظهر شيئا من قوّته الحقيقيّة، وبالطبع كان الحال نفسه معه أيضا. فحتّى لو أراد هذان الاثنان القتال حتّى الموت بأسرع ما يملكان، كان لابدّ لهما من أن يمرّا بكلّ خطوة على حدة قبل أن يطلقوا تقنياتهم العظمى.

***

ظهرت نجوم زرقاء في السماء البنفسجيّة، وتحرّكت الجبال أسفلها بسبب الأعاصير التي قلَعَتها من أعماقها فحوّلتها إلى رصاص قُذِف بعدما تملّكته النار البنفسجيّة.

انطلق الرصاص بسرعة مهولة عابرا مئات الأميال في لحظات وجيزة قبل أن يصطدم بإدريس الحكيم، لكنّ هذا الأخير لم يتحرّك من مكانه وبسط كفّه ثم لوّح بها فقط، فإذا بكلّ تلك الجبال البنفسجية تندثر وتختفي بعدها مباشرة كما لو لم توجد من قبل.


رفع إبلاس سيفه الهلاليّ ثم وجّهه تجاه السماء البنفسجيّة، فشفط كلّ تلك الطاقة مرّة واحدة وصقلها، ثم بتلويح من يد شيطان اليأس، اختفى هو وسيفه عن الأنظار بعدما خُلِّف صوت دندنة وانكسر الهواء ثمّ تشوّه الفضاء بشكل كبير، وبعدئذ انبثق مسار فضّيّ يبدو كضوء قمر يمكنه إيصال زمان بزمان واختراق أيّ مكان.

لم يكن هذه المرّة تشوّه الفضاء هذا بسبب فنّ إبلاس القتاليّ، وإنّما حدث عن طريق قدرة سيف هلال الألف عصر. كان الأمر مشابها جدّا لما حدث عندما اخترق سلاحه الروحيّ المجرّة المشوّهة سابقا.

صرّح إدريس الحكيم بعدما رأى السيف الهلالّيّ: "ضوء ألف عصر، صنع الممرّ، حتّى بلغ المقرّ!"

لو عنى شيئا بهذا الكلام، فلقد كان ذلك حول قدرة سيف هلال الألف عصر. لقد كانت إحدى قدرات هذا السيف تخوّله أن يصنع ممرّا عبر الفضاء ويتجاوز به المسافات حتّى يبلغ هدفه؛ لقد كان ذلك بسبب أصله العريق. قيل أنّ هذا السيف قد غمر بأعماق أرض محرَّمة وتعرّض لضوء هلال مبارك طيلة ألف عصر. لقد كانت تلك أعماق أرضا محرّمة، إلّا أنّ ضوء الهلال عبرها وبلغ مقرّه – مكان السيف الهلاليّ. استمدّ هذا الأخير آنذاك تلك القدرات.

لقد كان كنزا عتيقا يسيل لعاب العديد من الشخصيّات العظمى من أجله حتّى!

وبالطبع، لم يكن أيّ شخص مؤهّلا ليحصل على مثل هذا السيف العظيم. لقد كان كلّ شيء يتحقّق عن طريق اختبارات الجدارة، ولم يكن ليظفر به سوى الأجدر. لقد كان شيطان اليأس هو الأجدر به على مرّ العصور التي عاصرها هذا الكنز العتيق.

كان هذا الممرّ الذي يصنعه السيف الهلاليّ يبدو كضوء فضّيّ يمكنه اختراق الزمكان حتّى يصل إلى مراده في أقلّ وقت ممكن. والآن على يد روحانيّ مبارك، كان قد صُقِل تماما وأصبح سلاحا روحيّا، لذا صاحَبه في هذا الممرّ كلّ شيء يتعلّق به حتّى صاحِبه.

أصبحت المسافة البعيدة بلا معنى أمام تقدّم إبلاس، ولم يمرّ وقت ملاحظ حتّى كان يلوّح بسيفه ليقطع إدريس الحكيم. كان هذا الأخير في أتمّ استعداداته، شغّل رمح العدم مرّة ثانية، لكنّ هذه المرّة كان هناك شيئا مختلفا به.

في الهجمة السابقة، استخدم إدريس الحكيم فنّين قتاليين فقط، لكنّه هذه المرّة كان يستخدم الثلاثة معا.

كان إبلاس جاهزا لذلك أيضا؛ استخدم فنّه القتاليّ كدفاع مثاليّ، وزاد به سرعته عبر تشويهه للفضاء بشكل متسارع. كان ممرّ السيف الهلاليّ يسمح للشخص بالسفر عبره بسرعة مدهشة، لكن بعدما أضاف إبلاس الفن القتاليّ إلى ذلك أصبح لا يرى بشكل جيّد حتّى لعينيْ إدريس الحكيم. لقد كان ذلك مرعبا جدّا.


وجّه إدريس الحكيم رمحه إلى نهاية الممرّ التي ظهر منها إبلاس، وأطلقه بقوّة كسرت الفضاء وظهرت شروخ به. لقد كان تلك القوة القادمة منه عظيمة جدّا.

اختفى رمح العدم كما حدث في الهجمة السابقة، لكنّه هذه المرّة لم يظهر من جديد إلّا بعدما كان قد بلغ مراده. لقد كان ذلك بسبب قدرة فنّ إدريس الحكيم القتاليّ الثالث؛ كان قد استخدم سابقا فنّيْن قتاليّيْن فقط.

كان فنّه القتاليّ السامي الأوّل هو "صدْم العالم"، والذي كانت مرحلته الأثريّة تُلَقّب بـ"خطوات الرياح الخفيفة" الذي يتدرّب عليه باسل.

كان الثاني هو "سحق الخلق" الذي تتدرّب عليه أنمار وهي حاليا في المرحلة الأثريّة "سحق الأرض"

وكان الثالث هو "قضاء الفضاء".

كانت هذه هي فنون إدريس الحكيم القتاليّة الساميّة، وكان بمراحلها الروحيّة.

يبدأ الفنّ القتاليّ بالمرحلة الأثريّة، ثم الروحيّة، وينتهي عند الساميّة. كان يُلقّب الأشخاص الذين يبلغون الدرجة الرابعة بالمرحلة الروحيّة من فنّ قتاليّ سامٍ بخبراء الفنّ السامون.

وفي حالة إدريس الحكيم، فلقد كان يفوق ذلك بكثير. لقد لُقِّب بخبير الفنون السامي السياديّ كنية على حكمته السياديّة وسيادته في عالم الفنون القتاليّة. لقد كان ذو طغيان في هذا المجال.

***

بعدما انطلق رمح العدم، أصبح كلّ شيء آخر متوقّفا دون حركة. لقد كان سريعا لدرجة لا توصف. لقد كان ذلك رمحا من إمبراطور روحيّ مدعّم بثلاثة فنون قتاليّة روحيّة، وفوق كلّ ذلك، لقد تحكّم فيها بحكمته السياديّة.

كان حكيما سياديّا بالدرجة الثالثة، وكانت حكمته السياديّة تكسب في كلّ درجة قدرة خاصّة.


في الدرجة الأولى، اكتسب "البصيرة الحكيمة السحيقة". في الدرجة الثانية، امتلك "التحليل الحكيم الشامل". في الدرجة الثالثة، امتلك "التحكّم الحكيم السليم".

كلّ هذه القدرات جعلت التنبؤ بأفعاله مستعصٍ، والهروب من ملعبه الخاصّ أكثر صعوبة. كلّ شيء كان يخضع لبصيرته التي جعلتْ ممّا رأته عاريا، وتحت تحليله أصبح مفهوما، وبتحكّمه صار له مملوك.

لقد كان هجوم شيطان اليأس مدهشا للغاية، لكنّ إدريس الحكيم لم يكن إمبراطورا روحيّا عاديا.

في اللحظة التي ظهر فيها رمح العدم ثانية كان قد بلغ هدفه بالفعل. لم يكن يحتاج لقدرة خاصّة مثل قدرة السيف الهلاليّ حتّى يعبر تلك المسافات؛ فبفنون إدريس الحكيم القتاليّة كان يمكنه عبور ما يفوق ذلك حتّى.

وبالطبع، لم يتفاجأ إبلاس قطّ. لقد رأى من خلال ما حدث بعيني الحقيقة ولم يتأخّر لحظة في ردّه.

بووم

التقى السلاحان الروحيّان وجعلا العالم الواهن يشهد زلازلَ مرّة أخرى، ولكن مهما حدثت هذه الزلال لم يعتد الناس عليها، وظلّوا مختبئين آملين في هدوء الأمور كيلا أعماق أراضيهم لهم قبور.

اختفى إدريس الحكيم بعد هذا الالتقاء وظهر خلف إبلاس مباشرة ثمّ رفع كفّه ونزل بها بكلّ ما يملك من قوّة. لقد كانت هذه كفّا يمكنها قمع المخلوقات السامية والجبّارة. كانت كـكفّ تنين عتيق اجتاح السماوات وغزا الأراضي.

سقطت الكفّ بثقل لا يحتمل على جسد إبلاس فجعلته يختبر ألما حارقا حتّى سعل الدم ثلاث مرّات بكمّيات كبيرة، فاضطرّ بعد ذلك إلى التخلّي عن سلاحه الروحيّ في مواجهة رمح العدم وتراجع عدّة خطوات إلى الخلف. كلّ خطوة منه قطعت عشرات الأميال بعيدا بسرعة كبيرة.

شغّل فنّه القتاليّ من جديد وصنع مجرّة مشوّهة كالسابق، وهذه المرّة أنشأ أخريات حتّى كوّنت عناقيد من مجرّات مشوّهة. كان كلّ واحد منها يبدو كعنقود عنب متّصل بالآخر قبل أن يكوّنوا شجرة في النهاية. لقد كانت تلك شجرة مضيئة بالداخل بلون بنفسجيّ مظلم، وجعلت الناس يتساءلون عن ماهيتها من الخارج إذ بدت كشجرة سامية مكوّنة من جوهر عالم روحيّ.


كلّ شيء كان ضئيلا أمام هذه الشجرة الجوهريّة!

شدّ إبلاس عليها من جذعها الذي كان به مقبضا من أجله، ومباشرة عاد السيف الهلاليّ بعدما صنع ممرّا إلى قلب الشجرة، ثمّ أصبح عندئذ نواتها وصقل كلّ طاقتها. أصبحت الشجرة الجوهريّة لامعة وبرز في مركزها السيف الهلاليّ كهلال يشعّ بنوره في كون غير متناهٍ.

لوّح شيطان اليأس بعد ذلك بالشجرة الجوهريّة تجاه إدريس الحكيم، فحدث ما لم يتوقّعه أحد.

اختفت الشجرة من يد إبلاس وظهرت ثانية أمام إدريس الحكيم في جزء بسيط من الثانية كما لو انتقلت عبر الفضاء.

كان إدريس الحكيم مستعدّا بعدما استرجع رمح العدم إلى يده، لذا التقى بالشجرة الجوهريّة بكلّ ما يملك من قوّة. استخدم فنونه القتاليّة في كامل فعّاليتها، وقدرات حكمته السياديّة الثلاث، إضافة إلى مستواه الروحيّ كداعم.

كانت الشجرة الجوهريّة ككون معقّد من المجرّات، وكان رمح العدم الذي لم يوقفه شيء كشظية صغيرة تتنقّل من كوكب إلى كوكب، ومن نجم إلى نجم، ومن مجرّة إلى أخرى، محاولةً بعثرة ذلك الكون.

لقد كانت تلك الشجرة الجوهرّية مهيبة للغاية بعدما ملكت قدرة السيف الهلاليّ، لذا تجاوزت العديد من هجمات رمح العدم، لكنّ هذا الأخير كان أسرع بكثير من ذلك. لقد كان يقترض قوّة دفع هائلة بـ"صدْم العالم"، ويسحق كلّ شيء بجاذبيّة عظيمة بـ"سحق الخلق"، ثمّ يمرّ من خلال كلّ شيء ويصدّ أيّ شيء بـ"قضاء الفضاء".

سمح له قضاء الفضاء بتشويه الفضاء فيصدّ بذلك شتّى أنواع الهجمات عبر توجيهها إلى مكان آخر، وأعطاه قدرة الانتقال عبره بشكل مؤقّت. لقد كان رمح العدم يخترق الفضاء ويبلغ هدفه بسرعة أكبر من السيف الهلاليّ لهذا السبب.

كلّ هذا حدث تحت سيطرة إدريس الحكيم بسلاحه الروحيّ – رمح العدم. كلّ شيء يستهدفه يصير عدما من القوّة العظيم أو ينفى إلى العدم مجبرا.

اختفى إدريس الحكيم من جديد ثم ظهر خلف شيطان اليأس مرّة أخرى، وفعل نفس الشيء كالمرّة السابقة، إلّا أنّ هذه المرّة لم تكن كفّا لكن قبضة.

توقّع إبلاس في الواقع هذا في كلتا المرّتين، لكنّه لم يقدر على التعامل مع ذلك في الوقت المناسب. فلو كان رمح إدريس الحكيم بتلك السرعة والقوّة بعدما طبّق عليه الفنون القتاليّة، فكيف هو الشخص الذي طبّق عليها تلك الفنون؟

كان هذا سبب آخر في موت حاكم روحيّ على يده بكلّ سهولة سابقا.

سقطت قبضته، فاختفت في لحظة وظهرت في التاليّة أمام إبلاس بقوّة دفع يمكنها تحريك عالم وبجاذبيّة يمكنها قمعه؛ كلّ شيء تحوّل إلى عدم تحت هذه القبضة.

أُرسِل إبلاس محلّقا مئات الأميال بعيدا ثم ارتطم بالأرض مخلّفا بذلك حفرة امتدّ طولها آلاف الأمتار وعمقها المئات.

أمّا رمح العدم، فكان قد شتّت ما استطاع من الشجرة الجوهرّية حتّى اصطدم بالسيف الهلاليّ وكسر رابطته بها، ثمّ عاد إلى صاحبه في النهاية.

لقد كان تلك قوّة ثلاثة فنون قتاليّة روحيّة ذات أصل سامٍ!

زهزق شيطان اليأس كثيرا حتّى كاد الناس يعتقدون أنّه يتقيّأ دما من الضحك لا من ضربة إدريس الحكيم، ومسح الدماء من على فمه ثمّ حدّق إلى خصمه بعينين تشتعلان حماسا. من كان يعلم ما إذا كانت تانك عينان تحدقان باحترام إلى الشخص أمامهما، أم مجرّد عينين تتربّصان بفريستهما المفضّلة.

أشعّ جسده فجأة ثمّ أطلق أشعّة في العديد من الاتّجاهات، وفي لحظة، اختفت كلّ آثار الدماء التي غطّته والجروح والكدمات التي غطّت جسده. لقد أصبح جديدا كسابق عهده كأنّما لم يُضرب قطّ.

عبس إدريس الحكيم وتمتم: "الشفاء الذاتي!" تنهد ثم أكمل: "حقّا الروحاني المبارك شيء مدهش. بمجرّد ما أن تحصل على البركة فتكسب قطرات الحياة، يتسنّى لك شفاء نفسك من هجمات حتّى بمثل هذا المستوى بهذه السرعة."

توهّج جسد إبلاس مرّة ثانية بنور ساطع يجعل العين تُغمَض أوّلا قبل أن يشعر صاحبها بالاحتراق. انطلق ضوء ذهبيّ من أعماق روحه مانحا الذين سقطوا في هاوية اليأس أملا، قبل أن يدركوا أنّه كان طعما فقط يقود إلى يأس أعظم سحقا. كان كتلك الشمس التي أنارت العالم، لكنّها أحرقته ما أن ظهرت.

التفّت حوله عواصف من شأنها تمزيق كلّ ما يوجد إلى جزيئات متبعثرة، وصاحبتها أعاصير قلبت العالم رأسا على عقب. وكلّ ذلك كان وقودا للشمس حتّى تزداد سطوعا أكثر وفتكا أشدّ من ذوي قبل.

وفي الجهة الأخرى، امتدّ ضوء إدريس الحكيم الفضّيّ إلى جميع الأنحاء والزوايا من أجل قيادة الناس بحرص أكبر حتّى لا يُخدَعوا من طرف الضوء الذهبيّ، بعث فيهم السكينة والطمأنينة وجعل الروح تشتعل أملا من جديد بعدما أصبحت رمادا بسبب الشمس الفتّاكة.


أحاطته عواصف وأعاصير أيضا قوّت لمعان الضوء الفضّيّ، وحمت كلّ شيء من العواصف والأعاصير الأخرى، وأضعفت قوّة تلك الشمس المرعبة.

تفاجأ الناس في العالم الواهن بأجمعه من جديد، وأحسّوا باقتراب نهاية عالمهم بسبب معركة هذين الاثنين لحظة تلو الأخرى.

اليوم، عرف العالم الواهن حقّ المعرفة إمكانيات السحر الحقيقيّة، وأنّه كلّ شيء بمستويات الربط لا يُعدّ سوى المرحلة التمهيديّة إلى عالم الروح الحقيقيّ؛ كلّ شيء من أجل كسب حياة جديدة بإمكانيات غير محدودة؛ كلّ شيء من أجل بلوغ تلك القمّة غير المبلوغَة ولا المعلومة.

حدث كلّ ذلك في لحظات وجيزة للغاية، وبعدما ظهر إدريس الحكيم وشيطان اليأس مرّة أخرى، لم يكونا نفسيهما بعد ذلك. لقد بدا للجميع أنّ هناك شخصين... أو يجب القول شيئين لا يعلمون ماهيتهما قد حلّا مكانيهما.

اتّضح شكل الأوّل في المكان الذي اعتاد أن يكون به إبلاس وبدا كأسد ذهبيّ عظيم. كانت لبدته تبدو كشمس وُضِعَت كـتاجٍ ملكيّ فوق رأسه الذي يعلو بفخر وكبرياء، وانتشر تألّقها على باقي الجسد، فجعلت من اللون الذهبيّ يلمع بشكل مستمرّ وأقوى فأقوى مع مرور الوقت. كلّ شعرة منه تألّقت بإشعاع يبيّن مدى غنى هذا الأسد بطاقة جوهر العالم.

كان هذا الأسد الذهبيّ العظيم عملاقا بشكل لا يعقل. بلغ حجمه خمسين مترا طولا. كلّ ذلك كان جزءا بسيطا من هيبته؛ فما أثار الدهشة في قلوب الناس هو حضوره السامي وروحه القويّة التي جعلت الناس ترتعد من هوله. لم تكن ذلك روح وحش أو ساحر، وإنّما شيء فاق ذلك.

لقد كان ذلك شعورا مختلفا تماما عمّا شعروا به من قبل؛ لم يكن ذلك الرعب بسبب هالته المفزعة أو يأسه المظلم؛ لقد كان ذلك بسبب إحساسهم بدمه الملكيّ الذي يسري في عروقه ويجعله جديرا بحكم العالم كعاهله الفاضل، وروحه المختلفة عن أيّ شيء سبق ورأوه.


وفي الجهة المقابل له، لاحظوا ظهور نمر فضّيّ لا يصغر ولا يكبر الأسد الذهبيّ العظيم حجما. لقد كان ببرا أبيضا ملكيّا مخطّطا بالأسود، وكانت عيناه الزرقاوان مهيبتيْن للغاية وتجتاح العالم، وكان بريقه يغطّيه، وفقط أنفاسه كانت غنيّة بطاقة العالم كما لو كانت ضبابا روحيّا.

انطلق الوحشان المرعبان وتلاحما عن قرب، فاهتزّ العالم الواهن من جديد واحترقت العديد من أراضيه وانشقّت، تساقطت الجبال الشامخة وجفت الأنهار المديدة، أظلمت السماء فاختفت الشمس والقمر وانطفأت النجوم كلّها في السماء الشاسعة، فكان الأسد الذهبي والنمر الفضّيّ هما المصدر الوحيد للضوء حاليا.

كان حجماهما كبيريْن للغاية، لكنّ سرعتهما لم تتأثّر بذلك، بل أصبحت أكبر بكثير حتّى. فغبارا أصبحت مئات الأميال بجوارهما بإلقاء الأسد الذهبيّ شموسا تصحبها رياح يمكنها قلب العالم وقطعه، ومواجهة النمر الفضّيّ له بنجوم وأقمار ركبت العواصف وقادت الأعاصير.

كلّ شيء أصبح بلا معنى عندما كشّر ذانك الوحشان الهائلان عن أنيابهما، ولم يهمّ إن كان شخصا أو وحشا أو مخلوقا ساميا، كلٌّ على حدّ سواء كان مآله الموت تحت هيبتهما العظيمة.

لقد كانت تلك معركة تفوق فهم ناس العالم الواهن بكلّ المعاني، ولم يعلم أحد ما الذي كان يحدث بالضّبط غير الدمار الذي كان ينتشر في عالمهم لحظة بعد الأخرى كوباء بلا شفاء.

هدأت الأوضاع ووضع الوحشان مسافة بينهما، وتارة أخرى، حدث المذهل وفوجئ الناس؛ اختفى هذه المرّة الوحشان الساميان من السماء وظهر كيانان مختلفان، فبدا لوهلة كما لو أنّ ذينك الوحشين قد ضُغِط حجماهما حتّى صارا شيئين آخرين.

بلع أولئك الستّة الذين كانوا يشاهدون من بعيد عبر "بركة المراقبة السامية" أرياقهم، وقوّوها بإضافة كميّة كبرى من أحجار أصل سامية حتّى يتسنّى لهم مراقبة ما يحدث بصورة أوضح وأقرب. ركّزوا أنظارهم جيّدا بعدما شغّلوا أبصارهم الروحيّة.

لقد كانت هذه معركة ستهزّ نتيجتها العوالم الروحيّة فتسبّب السعادة للكثير، والكآبة لعدد كبير. من لمْ يتساءل يوما عن الأقوى بين هذين الاثنين؟ من لم يرد أن يرى نتيجة نزالهما النهائيّة؟ من لم يرد أن يشهد المعركة الأخيرة بين أفضل عباقرة العوالم الروحيّة؟ كان هناك عدد ضئيل جدّا من الأشخاص الذين بلغوا درجات عظمى في عالم الروح ولم يعودوا يهتمّون بهذه الأمور الدنيويّة البسيطة بالنسبة لهم.


علم الستّة أنّ قائدهم وإدريس الحكيم قد بدآ الشيء الحقيقيّ.

كان ما ظهر في مكان شيطان اليأس هو نفسه في الواقع، إلّا أنّه كان هناك العديد من التغيّرات التي طرأت عليه؛ طال شعره الذهبيّ وأصبح كلبدة أسد خشنة غطّت ظهره، وبرزت أنيابه أكثر ثم تغيّر شكل بؤبؤيه فأصبحا كأنّهما شمسين صغيرين، وتمركزهما نقطتان سوداوان مشتعلتان بلون بنفسجيّ يمكنهما اختراق وبلع أيّ شيء والنظر إلى حقيقته.

أصبح جسده أطول قليلا وصُقِلت عضلاته لدرجة لا توصف. لقد بدا كما لو أنّ قوّة ذلك الأسد الذهبيّ العظيمة قد خُزّنت في جسده ذاك؛ كان تلويح واحد منه قادر على سحق البرّ، وفرق البحر، وفلق البصر.

لقد كان دمه ملكيا أصلا، والآن غدا أكثر سموّا من ذي قبل. لقد أصبحت روحه ذاتها ملكيّة. كان محاطا بصورة ذلك الأسد الكبير كما لو كانت تحمي جسده وتقوّي روحه.

لقد هذا هو تحوّلُ شيطانِ اليأسِ الروحيُّ، ومُنِح لقب "أسد شمس الحقيقة السامي".

أمّا إدريس الحكيم، فقد حدث معه شيء مشابه. ظهر على ظهره معطف فرو يبدو مصنوعا من ذلك النمر الفضّيّ سابقا، وبدا مندمجا مع لحمه الخاصّ من الكتف إلى الكتف فجعله يبدو كصيّاد يرتدي جلد فريسته السامية، ممّا جعل منظره الهادئ سابقا يظهر شرسا نوعا ما.

صارت عيناه الزرقاوان المزيّنتان بالنجوم برّاقتين أكثر من قبل وامتدّ وريد أسود كسلسلة جوهريّة من جفنيه إلى ذقنه فصدره مرورا بجميع نقط أصله في النهاية. كان ذلك كوشم أسود يميّز ببرًا ساميا عن أقرانه.


لقد كان هذا هو تحوّلُ إدريس الحكيم الروحيُّ، وسُمِّيَ بـ"الببر حاكم القمر الحكيم".

أحسّ الجميع بظهور روحين قويتين في سماء العالم الواهن؛ لقد كانتا روحا ساحرين مستحوِذيْن على روحيْ وحشين روحيّيْن. كانت تلك هي اللحظة الأولى في تاريخ العالم الواهن أنْ شهدَ تحوّلا روحيّا.

مجرّد الحضور في نفس المنطقة والعالم مع هذين الكيانين جعل التنفّس صعبا والوقوف أصعب. نسي الناس شيئا يسمى بالشجاعة وحاولوا الابتعاد قدر المستطاع عنهما. لقد كانوا مجرّد نمل أمام ذلك القمر وتلك الشمس.

تحدّث فجأة شيطان اليأس بنبرة سياديّة كملك يخاطب عبيده: "عندما تظهر شمس الحقيقَة، لا تخفى دقيقَة؛ وتصير كلّ نفس رقيقَة. يعبر الأسدُ الذهبيُّ الممر، مغلِقا المفر، فله آنذاك يعود الأمر؛ فهو المدمّر المدبِّر."

اهتزّت صورته بعدما ردّد تلك التعويذة، ثم التفّت حوله فجأة قوانين تحكم هذا العالم وتضع قواعد لا يمكن خرقها. اخترقت جسدَه وروحَه كلّ تلك القوانين الروحيّة التي اتّخذت شكل حروف لغات عتيقة للغاية لا يعلم شخص معناها، فدعّمتهما من كلّ النواحي.

كانت تلك تقنية تكامل إبلاس التأصّليّ. لقد كانت تقنيات التكامل التأصّليّ هي ما يسمح للساحر بالاستحواذ ودمج روح الوحش الروحيّ مع روحه، وفي نفس الوقت جعلت كلّ من تقنيات الساحر الأصليّة تتكامل مع قدرات الوحش الروحيّ الأصليّة، منتجة بذلك قدرات جديدة كلّيّا.

فعل إدريس الحكيم نفس الشيء فحدث معه نفس الأمر. كانت تعويذة تقنية تكامله التأصّليّ كالتالي: "يطلع ويسطع القمر، فيرتفع الببر، فيخضع البرّ والبحر. يسود الحكيم، بالقانون السليم، فله التسليم بدون غريم؛ فهو الصميم."

قد أصبحا الآن في الشكل النهائيّ للساحر الروحيّ؛ كان التحوّل الروحيّ هو أقوى تقنية يملكها الساحر الروحيّ إذ يصاحب ذلك استخداما مجهِدا للغاية للطاقة الروحيّة وتقنيات جديدة تتطلّب جهدا أكبر.


كان هذا التحوّل يستنزف طاقة الساحر الروحيّ بشكل سريع للغاية ولم يكن يمكنه البقاء في هذه الوضعيّة لوقت طويل، لاسيما بعد البدء في استخدام "تقنيات التحوّل".

كانت تقنيات التحوّل هذه هي ما يستخدمه الساحر في طور التحوّل الروحيّ، وكلّ واحدة منها كانت تتطلّب كمّا هائلا من الطاقة الروحيّة حتّى تُنَفّذ؛ فكانت هناك أفضليّة للأشخاص ذوِي المستوى الروحيّ الأعلى، وبالخصوص الذي أكملوا مراحلَ أكثر في نطاقاتهم؛ كلّ ذلك كان لأنّهم يكونون يملكون طاقة روحيّة وفراء ونقوى.

كان الستة يشاهدون من بعيد معركة هذين الاثنين الأخيرة. لقد كان ذلك قتالُ أسدِ شمسِ الحقيقةِ السامِي والببرِ حاكمِ القمرِ الحكيمِ النهائيُّ الذي سيحدّد نتيجة كلّ المعارك السابقة بينهما.

كان أولئك الستة متحمّسين كثيرا لرؤية نتيجة هذه المعركة بغض النظر عن الفائز بها، نظرا لأهمّيتها الكبرى في العوالم الروحيّة، ولكنّهم لم يكونوا ليعلموا قطعا ما الآثار المرعبة المستقبليّة التي ستكون بدايتها نتيجة هذه المعركة؛ لم يكونوا ليتخيّلوا إطلاقا العصر الذي سيجدون أنفسهم فيه في المستقبل؛ إذ سيكون عصرا تتسابق فيه الأجناس والأعراق كلّها من أجل بلوغ تلك القمّة الخرافيّة وكسب الحياة الجديدة، من أجل السيادة العظمى وحلّ اللغز الأعظم!

ظهر رمح العدم في يد إدريس الحكيم مع ظهور تغيّرات عديدة عليه، فكان يتميّز بأنماط خطّيّة سوداء متداخلة في بعضها مشكّلة أحاجي وألغاز من لغات عتيقة لا يمكن تتبّع أثرها عبر الأزمان والعصور القديمة. صنعت تلك الأنماط السوداء صورة نمر، فتوهّجت فجأة بضوء فضّيّ جاعلة صورة النمر تنبثق إلى الوجود الفعليّ كما لو كانت نمرا حقيقيّا.

طُبِعت صورة النمر على السلاح الروحيّ والتفّت عليه فاندمجت معه. كان هذا شيء لا يستطيع فعله سوى أشخاص محددين؛ وجب أن تكون روح وحشهم قد تأصّلت على الأقلّ سبع مرّات في المجموع، وأن يصقل الساحر كلّ تأصل بتقنية التكامل التأصّليّ على حدة حتىّ يخلق تزامنا بين روح الوحش المندمجة مع روحه وسلاحه الروحيّ.

لقد كان رمحه الخشبيّ في هاته اللحظات يمثل وجوده بنفسه؛ لقد كان روحه الأصليّة، وروح الوحش، وهما معا، فكان روحه المتحوّلة، فحمل كلّ تقنياته السحريّة والمتحوّلة معه. لقد كانت هذه هي صورة سلاح الساحر الروحيّ الحقيقيّ. كان كما لو أنّ الساحر الروحيّ يحوّل روح وحش روحيّ إلى سلاح خاصّ به بعد المرور بعدّة مراحل لا يمكن الاستغناء عنها أبدا.

لقد كان ذلك هو تحوّل السلاح الروحيّ.

ابتسم شيطان اليأس ثم رفع رأسه إلى السماء الشاسعة ووضع يده على وجهه قبل أن يتكلّم: "هاهاها، يا لسخرية القدر؛ يا لسخرية العالم، ويا لسخرية قوانينه وطبيعته؛ على مرّ التاريخ، ظهرت العديد من المواهب العظيمة الثاقبةِ أسماؤُها، لكن ولا واحد منها ملك الحكمة السياديّة واقتصر الأمر على المواهب الضعيفة جدّا أو الميّتة فقط."

رفع سبّابته ثم أشار بها إلى غريمه: "أنت يا حكيم تعلم أكثر منّي ومن أيّ شخص آخر ما أعني بكلامي هذا. أنت تعلم أنّ 'أرض الوهب والسلب العتيقة' اختارتك لسبب، وتعلم أيضا لمَ توجّب أن تكون أنت بالضبط. الأمر لا يتوقّف عند موهبتك الميّتة، بل يفوق ذلك بكثير ويصل إلى حدّ الألغاز المحرّمة."

لقد كان صوت شيطان اليأس كهدير رعد تردّد في السماء لوقت طويل، وبدا كمخلوق جبّار ينطق بكلمة، فتكون الحقيقة.


حملق إدريس الحكيم إليه بعينيه العميقتين وغاب في ذكرياته لقليل من الوقت قبل أن يستدرك نفسه: "قد تكون محقّا، لكن هذا يعني أنّك قد تكون مخطِئا. لربّما اختِرت لسبب، لكنّني أعلم أيضا أنّني أعطيت فرصة، وسأستغلّها في تجاوز الاختبار بكلّ جدارة مهما حدث."

كانت هناك العديد من الأشياء التي ناشدها إدريس الحكيم في حياته ممّا جعله يلج إلى العديد من العوالم الثانويّة ويجوب العوالم الروحيّة باحثا في الكثير من الأمور. كانت هناك ألغاز أراد أن يحلّها، وكانت هناك أهداف أقسم على تحقيقها بوسيلة أو بأخرى.

لقد ظلّت أرض الوهب والسلب العتيقة هناك لعصور لا تحصى، ولم يعلم أحد عن مصدرها أو أصلها، أو عن أسبابها الخاصّة أو أسباب وجودها أصلا، لكنّ كلّ هذا كان مجرّد سؤال وجب على إدريس الحكيم حلّه في الاختبار العظيم الذي وجده أمامه. لقد كان الامتحان الذي يختبره أكبر وأشدّ تعقيدا بكثير.

ضحك إبلاس مرّة أخرى كما لو كان يستهزئ، لكنّه توقّف بسرعة فرمق إدريس الحكيم بنظرات جدّيّة: "يا حكيم، يا صاحب العقل السليم، يا من لطالما كان لي غريم، دعنا لا نراوغ كثيرا بما أنّ هذه نهاية أحدنا. كلانا يعلم أنّنا في الواقع نبحث عن نفس الإجابة. سمِّه اختبارا أم لغزا محرّما، فالإجابة عنهما واحدة. أنت مثلي ومثل ملكنا العظيم، تريد السيادة العظمى وبلوغ القمّة الخرافيّة. على الرغم من أنّ الملك الأصليّ يحاول قدر المستطاع منع كلّ شخص أن يعلم عن كل تلك الأمور، إلّا أنّنا نحن على الأقلّ وبعض الهرمى المقموعين نعلم."

حدّق إدريس الحكيم إليه لوقت قليل، ثمّ انبثقت صورة فتى بشعر قرمزيّ وعينين حمراوين في ذهنه، جاعلة إيّاه يبتسم بشكل عريض، تاركا شيطان اليأس متسائلا عمّا يفكر به؛ فحتّى لو ملك عينيْ الحقيقة، لم يمكنه الرؤية عبر الحكيم السياديّ.

تنهّد إدريس الحكيم أخيرا فأجاب: "لربّما تكون محقّا، لكنّ إجابتك ليست سوى جواب لسؤال آخر من الاختبار أيضا. لربّما هي إجابة مهمّة وتتيح للشخص الإجابة عن الكثير من الأسئلة الأخرى، لكنّها ليست هدفي ولن تكون أبدا يا إبلاس. هناك الكثير من الأشياء التي تغفل عنها يا غريمي، ولا أعتقد أنّها طفيفة. لقد حسبت وحسبت فحسبت بحكمتي السياديّة، ليلا نهارا، لمدّة طويلة جدّا، وأخيرا استطعت اكتشاف بعض الأشياء الطفيفة. فبكلّ بساطة بالرغم من تعقيداته..."

كان كلام إدريس الحكيم غامض حتّى بالنسبة لشيطان اليأس، ومع ذلك لم يضف كلاما أكثر من: "كلّ شيء مقدَّر، وكلّنا نُختبَر!"

سها شيطان اليأس حتّى وجد نفسه يردّد نفس الجملة الأخيرة مرارا وتكرارا في ذهنه. لقد كان تأثيرها على عقله كبيرا، وجعلت من كلّ الغموض ضبابيّا أكثر فقط. لقد كان من الواضح أنّ إدريس الحكيم لا يلاعبه بما أنّ هذه كانت معركتهما الأخيرة، لذا هوسه بالألغاز المحرّمة جعله يتساءل عن كلّ هذه الأشياء لوقت طويل قبل أن يعود إلى الواقع الحيّ أخيرا.

رفع سيفه الهلاليّ ثم فعّل تحوّل سلاحه الروحيّ، فانطلق ضوء ذهبيّ مشكّلا أنماط قوانين عالميّة ظهر منها أسد ذهبيّ زأر فهز العالم، ثمّ التصق بالسيف الهلاليّ حتّى اندمج معه وزاد من هيبته.

انتهى الأقوال وحضر النزال! لقد قيل كلّ ما يجب أن يقال بينهما، ولم يكن هناك حاجة لإطالة ما يجب عليهما إنهاؤه. كانت هناك بعض المشاعر المختلطة تتخلّل قلبيهما، لكنّها كانت خفيفة جدّا حتّى تثقِل مساريهما الروحيّين. لقد كان أحدهما حكيم العوالم الروحيّة السياديّ، وكان الآخر مدبّر الحروب الشيطانيّ.

تمتم إدريس الحكيم بتعويذة ما، وفعل شيطان اليأس نفس الشيء، فأطلقا سلاحيهما في نفس الوقت تجاه بعضهما.

كان هذان السلاحان الروحيّان يحملان كلّ خوّاص هجماتهم السابقة والتي لم يظهراها بعد، وفاقا ذلك حتّى أنّهما اكتسبا قدرتيْ الوحشين الروحيين واستخدماها في نفس الوقت. صوحِبت الفنون القتاليّة في هذا الهجوم أيضا ولم يُترك شيء. لقد كان هذا أقوى هجوم لهذين الاثنين حرفيّا!

صرخ إدريس الحكيم بكلّ يملك: "الصميم عديم الغريم!"

صاح شيطان اليأس في نفس الوقت: "الدمار المدبَّر!"

تجاوز السلاحان الروحيّان قواعد هذا العالم بعدما سخّرا قوانينه لصالحهما، وكانا في هاته اللحظات ككيانين في حد ذاتهما. صاحبتهما العديد من الصور التي أرعبت الناس وأظلمت العالم تارة فأنارته في اللحظة التالية. بدا كما لو أنّ العالم يتشوّش من شدّة القوّة العظيمة لهذين السلاحين.

اخترقا الفضاء نفسه وعبرا المسافات كأنّها لم تكن أصلا، وشقّا السماء أعلاهما والأرض أسفلهما، وبَرَقا ما بينهما بألوان مختلفة ومتنوّعة. لم يعلم أحد ما الذي كان يحدث بالضبط؛ كان هذان السلاحان شيئان يفوقان فهم البشر بكثير.

كان باسل يتحرّك بعيدا بآلاف الأميال، وفي اللحظة التي انبثق فيها السلاحان الروحيّان المتحوّلان إلى الوجود ثقُل تنفّسه وصعُب عليه التحرّك، وغاب كلّ المحيطين به عن الوعي إلّا سحرة المستوى الخامس فما فوق استطاعوا الحفاظ على وعيهم بشقّ الأنفس.


لقد كان أوّل السلاحين بدون خصم، وكلّ ما جابهه كان مصيره العدم، وكان ثانيهما مدمّرا مدبِّرا؛ فلا شيء أضاءته حقيقته أمكنه الفرار منه، وانتظر دوره في التعرّض للإبادة فقط.

صنع سيف الأسد الذهبيّ ممرّات متعددّة وتنقّل عبرها حتّى لا يسمح بتوقّع حركاته، وراوغه رمح الببر الفضّيّ بسلاسة عبر الفنون القتاليّة الثلاثة التي سمحت له بالانتقال عبر الفضاء بسهولة.

كانت المعركة بين السلاحين شديدة وازدادت حدّةً مع مرور كلّ لحظة. لقد كان العالم الواهن ينهار أمام أعين الناس، وحدثت الكثير من الزلازل تلو الأخرى، وعصفت بهم الأعاصير، وجرفهم الطوفان. لقد قلب القتال العالم الواهن رأسا على عقب حرفيّا.

لم يكن ذلك قتالَ ساحرين روحيّين عاديّا، لقد كان في النهاية قتال الحكيم السياديّ ضدّ مدبّر الحروب الشيطانيّ. كانت معركتهما مترقّبة طيلة القرون الماضية، إلّا أنّها قُدِّر لها أن تكون في العالم الواهن الذي لم تُلقِ له العوالم الروحيّة بالا، على أساس ضعفه ووهنه الذي لم يسمح له بالتحوّل إلى عالم روحيّ حتّى.

كانت فنون إدريس الحكيم القتاليّة لوحدها كافية حتّى تخترق الفضاء، وبحكمته السياديّة حسب كلّ ذلك وحللّه ثم رأى عبره فاستخدم أفضل الوسائل ليهجم بأحسن الفعّاليّات.

كان الرمح الخشبيّ ينتقل من مكان إلى آخر عبر الفضاء، بينما تحرّك السيف الهلاليّ عبر ممرّاته الفضّيّة المتعدّدة التي كانت كشعب مرجان ملتصقة ببعضها في بحر عظيم.

ازدادت سرعة الاثنين لوقت طويل واستمرّ هذا الأمر لدقائق دون أن يتدخّل صاحباهما؛ لقد كان جلّ تركيزهما على سلاحيهما؛ لقد كان السلاحين الروحيّين أهمّ شيء في تلك اللحظات، والذي يتفوّق في المعركة بينهما يفُز.

حام الرمح الخشبيّ حتّى بلغ مراده واستطاع أخيرا التوغّل إلى الشعب المرجانيّة دون فشل. لقد كانت تلك ممرّات السيف الهلاليّ الخاصّة وكان بإمكانه التنقّل عبرها بأريحيّة، لكنّ لا شيء آخر لا علاقة له به تمكّن من استخدام هذه الممرّات، لذا كان رمح الببر الفضّيّ في الواقع يستخدم "قضاء الفضاء" كأساس وباقي القدرات الأخرى كدعم حتّى صنع فضاء داخل تلك الممرّات نفسها. لقد كان هذا مستحيلا لأيّ شخص آخر لا يملك ثلاثة فنون قتاليّة وحكمة سياديّة!

وجد إبلاس سلاحه الروحيّ قد أصبح مقيّد الحركة ولم يكن هناك مكان للتراجع غير المواجهة المباشرة. لقد كانت تلك ممرّاته الخاصّة وكان واثقا من تفوّق سلاحه الروحيّ الذي يتفوّق أصلا على سلاح غريمه الروحيّ.


طرأت فكرة في باله، ففجّر كلّ تلك الشعب المرجانيّة مرّة واحدة صانعا تموّجا هائلا في العالم الواهن. أصبحت السماء صافية وأشعّت الشمس بنورها العظيم، فأعمت الناس قبل أن يفتحوا أعينهم من جديد ليروا مشهدا مدهشا، وكلّ ذلك كان من أجل تشتيت انتباه إدريس الحكيم وإضعاف هجومه.

لقد كان السيف الهلاليّ يتّجه بممرّ وحيد تجاه الرمح الخشبيّ الذي كان ينطلق مباشرة نحوه أيضا مخترقا الفضاء.

باااااام

اصطدما أخيرا فتحرّكت أراضي العالم الواهن بأكمله دون استثناء، حتّى أن الناس شعروا بابتعاد السماء كما لو كانت فقاعة تنتفخ مع الوقت مشيرة بذلك إلى اقتراب انفجارها. لقد كان هذا القتال أكثر ممّا يمكن للعالم الواهن أن يتحمّله كعالم سحريّ في طريق النموّ.

تصارعت الشموس والنجوم، وتشاحنت الأعاصير والعواصف عند الالتقاء، فغُمِرت تلك المجرّات التي شوهِدت كصور وهميّة بالضوءين الفضّيّ والذهبيّ.

فُعِّلت قدرتيْ الوحشين الأصليتين فكانت قدرة الأسد الذهبيّ تمكنّه من كسر الفضاء نفسه، وكانت قدرة الببر الفضّيّ تخوّله أن يعدم كلّ شيء كما لو لم يوجد من قبل عبر جعل الفضاء المحيط بالشيء المراد إبادته يتبدّد ويختفي.

كان كلّ شيء مختلط، لكنّ شيطان اليأس علم أنّ قوّة الفنون الثلاثة كانت كبيرة للغاية ولاحظ خسارته أمام تلك القوّة الهائلة. لقد كان إدريس الحكيم مرعبا للغاية أكثر من أيّ مرّة قاتله فيها أو أيّ أخبار سمعها عنه من قبل. لقد كان هذا هو خبير الفنون السامي السياديّ الحقيقيّ.

كسر السيف الهلاليّ الفضاء مرارا وتكرارا حتّى يُخسِر الرمح الخشبيّ قدرته في التنقّل عبر الفضاء، لكنّ الرمح الخشبيّ كان يبدّد فضاء ويصنع واحدا آخرَ مرارا وتكرارا أيضا وفاقت سرعته سرعة السيف الهلاليّ في ذلك.


كان توقّع إبلاس صحيحا بعدما رأى من خلال ذلك بعينيْ حقيقته، لكنّه كان متأخرا خطوة على الحكمة السياديّة. لقد حسب إدريس الحكيم كلّ هذا لذا لم يكشف عن ورقته الرابحة هذه إلّا بعدما ترك شيطان اليأس يستخدم كسر الفضاء.

تأكّد إدريس الحكيم من عدم وجود أيّ شيء متبقٍّ في جعبة خصمه، لذا أخرج كلّ ما لديه وضاعف القوّة الروحيّة عبر قدرة الرمح الخشبيّ. لقد كان كلّ شيء مدمجا حتّى تكوّنت مثل هذه التقنية العظيمة. لقد كانت هذه هي تنقيّة رمح الببر الفضّيّ المتحوّلة.

"الصميم عديم الغريم!"

لقد كانت تجعل كلّ شيء يتبدّد عن طريق قدرات الفنون القتاليّة، وقدرة الوحش الروحيّ الأصليّة. كلّ في كلٍّ خَلَق مثل هذه التقنيّة التي مكنتّه من تبديد الفضاء وصنعه كما يشاء بسرعة كبيرة.

شارفت طاقة إدريس الحكيم الروحيّة على الانتهاء بعدما استخدم هذا الهجوم النهائيّ، لذا استخلص كلّ قطرة من أرض روحه ووظّفها.

وفي الجهة الأخرى، كانت طاقة إبلاس تفور وما زال يتمتّع بقدر كبير منها، إلّا أنّه مهما استخدم منها لم يمكنه مواجهة هذا الهجوم العظيم.

عضّ شفته السفلى ثم تغرغرت عيناه بالدموع وأصبحتا حمراوين فجأة، ثم نزلت دمعتان منهما شقّا طريقهما عبر وجنتيه الشاحبتين.

تكلّم بنبرة حزينة بينما تُرى انعكاسات تلك الأضواء التي صنعها السلاحان الروحيّان على الدموع المتجمّعة في عينيه حيث ظهرت صورة إدريس الحكيم بينها: "وداعا يا صديقي!" بدا كأنّه يودّع عزيزا على قلبه.

تعجّب إدريس الحكيم من كلام إبلاس، لكنّ تعجّبه هذا كان لا شيء بعدما أحسّ بالقشعريرة تتخلّل عظامه، وتمرّ عبر روحه، مستنزفةً آماله مستبدلةً إيّاها بيأس عظيم. لقد كان ذلك الشعور مألوفا لشخص مثل إدريس الحكيم، لكنّه كان نادرا للغاية، ولم يتوقّع قطّ أن يحسّ به في هذه المعركة، وخصوصا بعدما وصلا إلى هذه المرحلة فيها.

رفع إبلاس ذراعه، فعاد إليه السيف الهلالي، سامحا للرمح الخشبيّ بفعل ما شاء له. أخفى سلاحه الروحيّ بعد ذلك، فظهر في يده صحنا متصدّعا، بدا فخّارا فقط لا غير، لكنّه لم يكن مصنوعا من الطين في الحقيقة، ولا أحد علم ما أصله أو مصدره. لقد كان مجرّد صحن بمظهره، لكنّه كان الشيء الذي سبّب ذلك الشعور لإدريس الحكيم.

كان ذلك الصحن مملوءا بسائل أحمر قرمزيّ بدا كالدم، وتخلّلته قطرات زرقاء فاتحة للغاية كطاقة روحيّة أنقى من تلك الخاصّة بجوهر العالم. كان مصدر الصحن والمكوّنات التي به مجهولا بما أنّها لم تكن عادية بالرغم من مظهرها البسيط.

اختفت الدموع من عينيْ شيطان اليأس، فقال مرّة أخرى بكلّ برودة: "مت!"

أحسّ عندها إدريس الحكيم بالنيّة العظيمة التي حملتها كلمة إبلاس؛ لقد كانت شيئا مألوفا قليلا له، لكنّه لم يعلم ما مصدرها مَهما حاول التفكير، ولكن كلّ ذلك لم يعد مُهمّا بعدما وجد نفسه أمام شيء جعل روحه تتزعزع حتّى، ويرى نهاية مساره الروحيّ تقترب.

لقد كان ذلك شعوره بالموت القادم نحوه!


كان الرمح الخشبيّ يكاد يبيد روح إبلاس حتّى، لكنّه توقف فجأة أمام جدار قرمزيّ ظهر على حين غرّة. كان الصحن الفخّار الصغير بيد شيطان اليأس هادئا طوال الوقت كما لو لم يحدث شيء، لكن كان من الواضح أنّه مصدر ذلك الجدار الأحمر الذي بدا شلّال دماء يسقط من السماء.

كان شلّال الدماء ذاك يحمل كمّا غير معقول من الطاقة الروحيّة المركّزة إذْ فاقت بكثير كلّ ما ملكه شيطان اليأس نفسه. حتّى أن مستوى هذه الطاقة الروحيّة كان عاليا للغاية وفاق كلّ توقّعات إدريس الحكيم.

كان رمحه يستطيع اختراق وإبادة كلّ شيء، لكنّه كان عديم الفائدة أمام هذا الشلال الأحمر. لم يستطِع أن يمرّ عبره أو تبديد الفضاء أو صنعه. كل شيء صار غير قابل للتطبيق بعدما أصبحت كلّ قوانين العالم تحت سيطرة شلّال دماء السماء. لقد كان ذلك جنونيّا ولم يكن هناك كثير من الاحتمالات حتّى لا يعلم إدريس الحكيم ما كان يحدث بالضبط.

استرجع رمحه الخشبيّ بسرعة قبل أن يتحطّم في محاولته اختراق الشلّال الأحمر، ثم تنفّس بصعوبة بسبب استخدامه كمّا هائلا من طاقته الروحيّة، وتحسّر على الموقف الذي وجد نفسه فيه. لقد كان إبلاس لا يزال يملك قدرا لا بأس به من الطاقة الروحيّة، وعنده الآن كنز سامٍ في جعبته ليستخدمه كما يشاء على ما يبدو.

سأل إدريس الحكيم صارخا، متعجّبا: "كيف؟ كيف لك أن تملك كنزا كهذا تحت تحكّمك؟ يجب أن يكون كنزا من مستويات السلطنة على الأقلّ." ركّز إدريس الحكيم باستخدام حكمته السياديّة فحلّل كلّ ما بصره: "لا شكّ في هذا. إنّه من مستوى سلطان أصليّ."

ابتسم إبلاس ولم يقل شيئا تاركا إدريس الحكيم يحلّل وضعه كما يشاء. لقد كان ذلك كنز سلطان أصليّ حسب كلام إدريس الحكيم، ولم يكن أيّ كنز. لقد كان بصريح العبارة سلاحا روحيّا لشخص اعتاد أن يكون سلطانا روحيّا في وقت ما.

أكمل إدريس الحكيم كلمات ذهوله: "لقد رأيت وفطنت بالعديد من الأمور، لكنّ هذا فاق كلّ توقّعاتي يا إبلاس!"


رفع شيطان اليأس الصحن الفخّار الذي كان يحجم اليد إلى الأعلى ثم اختفى الشلّال القرمزيّ، فتكلّم بعد ذلك: "لقد أخبرتك أنّ هناك ألغاز عالميّة لطالما حيّرتني. سأخبرك عن سببها الأصليّ؛ إنّه هذا الصحن الذي أحمله. لقد كان الحصول عليه هو أفضل ثروة وحظّ ملكتهما يوما."

دار السائل الأحمر في الصحن ببطء فتجمّعت كلّ القطرات الزرقاء الفاتحة في مركز الدوامة التي صُنِعت، وازدادت سرعة الدوران بشكل مستمر حتّى أصبح الشخص يستطيع سماء أصوات صفير وأصوت تشبه احتكاك قطع حديد بأخرى. كان ذلك الصوت عامّة بعدما اختلط يشبه صرخات موت مخلوقات لا تعد ولا تحصى.

"ما زلت لم أجعله سلاحيّ الروحيّ الخاصّ بعد، لكنّني سأنجح في ذلك يوما ما، لكنّ هذا الاتصال بيني وبينه كافٍ حاليا لإنهاء أمرك يا حكيم بكلّ سلاسة. اليوم، ستُطوى صفحة من كتاب التاريخ، ولن يُذكر وجودك بعد الآن."

"فلأجعلنَّها سماءً تصبّها دماءً، وعصرا لا يحكم فيه بشرا."

أشعّ الصحن الفخّار من المركز، وارتفع منه بريق بنفس لون القطرات الزرقاء، ثم التقى بالسماء في الأعلى كما لو اتّصل بها، فامتدّ عبره السائل الأحمر حتّى التقى هو الآخر بالسماء. كان هذا السائل الأحمر يأتي من الصحن الصغير، لكنّ غوره بدا لا يسبر مهما طال الوقت، حتّى لطّخ السماء محوّلا إيّاها لبحر دماء.

أصبح العالم قرمزيّا للحظات، وفي هذه اللحظات قُمِع الجميع وسقطوا على الأرض فورا. كان ثقل سماء الدماء كبيرا للغاية ولم يكن هناك بشر في العالم الواهن قادر على تحمّله.

صعدت القشعريرة مع جسد إدريس الحكيم، إلّا أنّه لم يكن حتّى في هذه اللحظات يفكّر في نفسه، ولكن في تلميذيه. لقد كان إبلاس شيطان اليأس، لذا كان يعلم أنّه لن ينسى أمر باسل أبدا وسيظلّ يتذكّره حتّى يستعمله ضدّه ليسلب منه نور عينيه ويظلم مساره الروحيّ؛ كان ذلك هدف إبلاس الأكبر.

وكما توقّع إدريس الحكيم، وجد السماء الحمراء قد بلغت مدى بعيد وصولا إلى باسل، فاستجمع كلّ ما ملك من طاقة وانطلق بخفّة كبيرة إلى موقع تلميذه حتّى يوقف ما على وشك الحدوث.

لقد كان إبلاس قادرا في هذه اللحظات على قتل إدريس الحكيم، لكنّه لم يرد فعل ذلك بكل تلك البساطة، لقد أراد أن يفعلها بطريقته المفضّلة. أراد أن يرضي عطش الألفيّة السابقة. لم يكن هدفه استخدام باسل لهزيمة إدريس الحكيم قطّ، ولكن فقط لرؤية اليأس في عينيْ إدريس الحكيم.


ساحت السماء الحمراء كمعدن يذوب، وسقطت منها بعض القطرات التي تحوّلت إلى أنصال عظيمة بسرعة كبيرة، ثمّ اتّجهت مباشرة إلى هدفها.

كانت هذه الأنصال الحمراء قادرة على اختراق أيّ دفاع يوجد في هذا العالم، ولم يكن هناك ما يستطيع إيقافها، حتّى إدريس الحكيم بنفسه الذي قدم لاعتراضها وجد نفسه يمرّ بوقت عصيب جدا لتحقيق ذلك.

صرخ إدريس الحكيم بكلّ ما يملك ثم فعّل حكمته السياديّة: "أقدّم لك روحي، فاسلبي ما شئت وسخّري كلّ ما احتجت. زمني لك، ولكن روح ابني له وحده."

دارت كرات الحكمة السياديّة الثلاث فوق رأس إدريس الحكيم، واستجمعت قوانين عالميّة عظمى لا يعلم أحد عن معناها أو مصدرها، حتّى غدريس الحكيم بنفسه لم يكن قادرا على مواكبة كلّ تلك التغيّرات في المجرّات والنجوم التي حملتها حكمته السياديّة في الكرات الثلاث.

أحسّ بعد ذلك بروحه تُعصَر وتتقطّع إلى أشلاء، حتّى أنّ عظامه تكسّرت كلّها وذبل لحمه قليلا كما لو كان يشيخ.

صرخ: "لا شخصَ أزليّ أبديّ بل أمديّ، فلا فانٍ سرمديّ."

ابتعدت الكرات الثلاث عن بعضها حتّى صارت المسافة بينهما تقاس بآلاف الأمتار، ثم أطلقت بعد ذلك كل واحدة منها نورا أزرقا فاتحا، فالتقت الأضواء الثلاثة فوق رأس إدريس الحكيم، ثمّ اخترقت نقطة الاتقاء نقطة أصل جبهته.

لمع جسده بنفس اللون الأزرق، ثمّ رفع إصبعه فإذا بالكرات الثلاث تكوّن حاجزا لا يمكن اختراقه بسرعة كبيرة، فارتدّت عندئذ كلّ تلك الأنصال الحمراء وتبدّدت من شدّة ردّة فعل حاجز الكرات الثلاث.

تعجّب إبلاس ثم قال صارخا: "ستتمادى إلى حدّ التضحية بزمنك يا حكيم! كم فقدت الآن؟ خمسين سنة؟ أم هي مائة سنة؟ لكن كلّ ذلك بلا معنى يا صديق الألفيّة. حتّى لو ضحيّت بروحك نفسها لن تنجو من هذا؛ لن تسلم من يأسي. اغرق!"


ساحت السماء الحمراء كلّها مرّة واحدة فوق إدريس الحكيم، ثم تشكّلت لتصبح نصلا واحدا مركّزا. لقد كان هذا النصل يبدو حيّا نوعا ما، وظهرت به العديد من الصور. كلّ تلك الصور حملت معها مناظر الشؤم البؤس، من حروب وقتل وعصور كارثيّة على مرّ التاريخ.

كان هذا النصل الأحمر كنصل دماء العصور نفسها.

انطلق بسرعة جنونيّة حتّى التقى بحاجز الكرات الثلاث، فكانت الضجيج مرعبا لدرجة لا توصف. كان أيّ شخص يسمع هذا الضجيج يسمع صرخات الموت تتردّد مرارا وتكرارا في ذهنه حتّى تجعله يختبر شعور الموت نفسه، فما بالك بإدريس الحكيم الذي كان يختبر ذلك مباشرة؟

ابتعدت الكرات الثلاث عن بعضها أكثر فأكثر فأصبح الحاجز أقوى وشاخ إدريس الحكيم أكثر. أصبح حاليا يبدو كشخص في عمر الأربعين بعدما كان شابّا في العشرينات من عمره. لقد كان يستخدم زمنه نفسه حتّى يُخوّل له أن يستخدم الحكمة السياديّة لمقاومة هجوم إبلاس بعدما فرُغت طاقته الروحيّة.

كان هذا الحاجز عظيما وبإمكانه صدّ هجمات روحانيّ مبارك بكلّ سهولة، لكنّ هذه المرّة كان السلاح سلاح سلطان أصليّ للأسف، فكان أكثر ممّا يستطيع تحمّله.

اخترق النصل الأحمر الحاجز ومرّ عبر إدريس الحكيم، من خلال جسده وروحه نفسها. أحسّ عندئذ بروحه تتآكل شيئا فشيئا كما لو كان هناك حاصد أرواح يأكلها ببطء. لقد كان واضحا أنّ تلك هي قدرة النصل الأحمر، أو للدقّة، قدرة الصحن الفخّار.

وصل نصل سماء الدماء بعد ذلك إلى باسل الذي كان ساقطا على ركبته، عاجزا عن التحرّك.

كان إدريس الحكيم ممدّدا على الأرض غير قادر على تحريك إصبع واحد بعدما أصبح على شفا الموت، وصار يشاهد باسل يقترب من الموت أمام عينيه غير قادر على فعل أي شيء.

"توقّف يا إبلاس. لا تحتاج إلى ذلك."


"هاهاها" ضحك إبلاس من قلبه ثمّ تكلّم صارخا: "لا تقل لي مثل هذه الأشياء في هذه الأثناء. تعلم وأعلم، إنّي لست بمتوقّف."

كان النصل عند رأس باسل، وأبسط نيّة من إبلاس كانت كافية حتّى يخترقه به بكلّ سهولة ماحيا إيّاه من الوجود كأنّه لم يوجد أصلا.

شاهدت أنمار والآخرين ما كان يحدث أيضا دون القدرة على فعل شيء، وانتظروا حصول معجزة ما فقط. لقد كانوا في موقف يائس حقّا. لو لم يظهر شخص بمستوى عالٍ للغاية كافٍ لمجابهة إبلاس بسلاحه ذاك، فلن تكون هناك فرصة لباسل حتّى ينجو.

"اغرق يا حكيم!"

قالها إبلاس ثم ترك النصل يخترق باسل.

"كـــلّا!" صرخ إدريس الحكيم في نفس الوقت بينما يتقيّأ الدماء وتتآكل روحه في نفس الوقت. لقد كان الآن في حالة لا يُحسد عليها. فبعدما تعرّض لقدرة الصحن الفخّار، أصبح محكما عليه بالموت؛ أصبح وجبة لسلاح إبلاس حتّى يغدوَ أقوى.

ززززن

اخترق النصل جبهة باسل، ومرّ عبر نقطة أصله هناك محاولا بلوغ روحه نفسها، حتّى بلغها وبدأ يخترقها. كلّ هذا حدث في غمضة عين ولم يكن هناك وقت للملاحظة حتّى. فقط إدريس الحكيم وإبلاس من كانا يعلمان ما كان يحدث بالضبط.

صرخ باسل وشقّت أصواتُ ألمه السماءَ، وفطرت قلب إدريس الحكيم. لقد كان يرى تلميذه الذي يعدّه ابنا له يتعذّب أمامه قبل أن تُستنزف روحه نهائيّا. كانت نظراته تصير خافتة أكثر فأكثر ممّا زاد من تحمّس شيطان اليأس؛ لقد كانت تلك هي النظرات التي لطالما أراد رؤيتها.


انطلق بريق أبيض من باسل أعمى الجميع فجأة، وصاحبه صوت غريب لم يعلم أحد عن ماهيته أو من كان صاحبه. كان هذا الصوت يترك شعورا مريبا في الأنفس إذْ كان كأزيز بصدى عالٍ.

صرخ الصوت الغريب وسط أشعّة الضوء فأصمّ الناس أجمعين قبل أن يردّد بلهجة متكبّرة للغاية: "أنا السلطان ذو الطغيان، حاكم الأزمان المطوية في صفحات النسيان. فمن يمكن أن تكون حتّى تتجرّأ على استخدام ذلك الصحن ضدّي؟ من أنت حتّى تملكه أصلا دون رخصة منّي؟"

فتح إبلاس عينيه على مصراعيهما غير مصدِّق لما يحدث. ألم يكن ينهي أمر تلميذ حكيم قبل قليل؟ من هذا الشخص الذي ظهر فجأة بينما يعلن نفسه حاكما للأزمان؟ وقبل ذلك، كيف له أن يوقف شيئا كنصل سماء الدماء؟

تحدّث شيطان اليأس بسرعة سائلا: "مَن أنت؟ مِن أين أتيت؟"

تردّد صوت الأزيز مرّة أخرى حاملا نيّة عظيمة به: "لا تجعل السلطان يكرّر كلامه أيّها المنحطّ. لستَ من الأربعة عشر حتّى لكنّ ذلك الصحن في حوزتك، بل وتستخدمه أيضا، وهناك رابط بينكما. إنّك لا تعلم كم هذا مثير للغضب يا أيّها الشقيّ."

بَسَرَ إبلاس لمّا سمع ذلك الكلام وحدّق إلى الصحن الفخّار في يده، محاولا كشف ما يدور حاليا. ما علاقة هذا الصوت بالصحن الذي يملكه؟ هل يمكن أنّه إحدى الإجابات عن تلك الألغاز؟ كلّ شيء أصبح أكثر غموضا له وأراد أن يعلم ما يحدث بأسرع وقت.

عادت بعض الذكريات إلى ذهن شيطان اليأس، فامتلأ ذهنه بتلك اللحظات التي مرّت عليه صعبة للغاية. تردّدت بعض الأصوات التي آلمته كلّما سمعها في عقله فكانت تجعله دائما يجدّد قسمه على إتمام ذلك الأمر وإنهاء ما بدأَتْه وما خلَّفتْه وراءها له. لقد كانت تلك التي تملأ عقله في هذه اللحظات هي السبب الأصليّ في دخوله إلى عالم من الألغاز التي لم يكشف أحد عبر الأزمان الغطاء عنها.

وأخيرا بعد مدّة طويلة للغاية، لمح دليلا في مكان غير متوقّع. لقد أحسّ مباشرة بالنيّة العظيمة التي تتكلّم من خلال باسل، لذا فهم بعض الأشياء بعدما بصرها بعينيْ حقيقته بسرعة كبيرة، إلّا أنّ الأسئلة الهامّة ما زالت بلا أجوبة.

تكلّم بعدما هدّأ نفسه: "ليس جيّدا، ليس جيدا؛ مجرّد نيّة تتجرّأ على التكبّر أمامي؛ لربّما لو كانت إرادتك أو روحك على الأقلّ لكنت أعطيتهما بعض الاعتبار، لكنّ مجرّد نيّة، وليست حتّى كاملة بل مجرّد جزء منها يجرؤ على التعجرف."

"هاهاها!" ضحك الصوت الغريب قبل أن يجيب: "إنّك تثق في بصرك بشكل أعمى. هناك حقائق عدّة في هذا الكون الشاسع لا يمكن لأعين حقيقتك أن تبصرها."

عبس شيطان اليأس ولم يزد كلمة أخرى حتّى كان قد شحن الصحن الفخار من جديد، فلطّخ السماء بالأحمر واستعدّ لإلقاء هجمة أخرى.

انشقّت السماء فجأة، وظهر فضاء أسود لا يُرى قعره أبدا، ولم يكن بداخله شيء سوى أصوات تتردّد مرارا وتكرارا. كانت تلك الأصوات تصرخ وتنادي طالبة النجدة، لكنّ لا شيء استطاع الدخول إلى ذلك الفضاء أو الهروب منه بمحض إرادته. كان ذلك الفضاء كسجن أبديّ مفصول تماما عن أيّ فضاء وبُعد آخريْن، وبه عانت الأرواح الأمريّن لسنوات لا تُعدّ ولا تُحصى كحصى تُسحق بجبل أقسى.

قطب إبلاس بعدما حدّق إلى ذلك الفضاء ثم صرّح: "يبدو استخدام سلاح روحيّ من درجة سلطان أصليّ لمرّة ثانية قد شغّل اختبار العالم. يبدو أنّه لديّ هجمة واحدة قبل أن أُختبَر."

رمق باسل، أو للدقّة، رمق الشيء الذي يتحكّم في جسده حاليا ذلك الفضاء وصرّح: "سجن الظلام الأبديّ. يا له من شيء بغيض."


كان هناك شيء يمنع السلاطين في العوالم الروحيّة من الحكم إطلاقا كما يشاؤون؛ فلو شاء سلطان ما، لأباد أمما وإمبراطوريّات برمّتها بسهولة كبيرة مهما كان عدد السحرة الروحيّون الذين يجب عليه مواجهتهم، إلّا أنّه كان هناك قمع حرمهم من فعل ذلك.

كان على السلاطين خوض اختبارات عدّة من أجل الخروج إلى العالم في الواقع، فعندما يصل الساحر الروحيّ إلى مثل ذلك المستوى، يصبح هو بنفسه شيئا غريبا يخرق قوانين العالم بشكل كبير، فيُقمع بشكل أكبر، أو بالأصحّ، يُختبَر إن كان كفؤا للكينونة التي أصبح عليها.

عدد قليل للغاية من نجح في تلك الاختبارات، وأقلّ من تجاوز معظمها، ولا أحد تخطّاها كلّها، فبقيت تلك القمّة الخرافيّة غير مبلوغة على مرّ العصور.

اتّضحت صوره باسل بعدما انقشع كلّ الغبار واختفى الضوء المشع أخيرا، فكان شكله عاديا إلّا أنّ الضوء في عينيه كان باهتا، فكان واضحا أنّه غير واعٍ. لقد كان حاليا تحت سيطرة نيّة ما.

تكلّمت تلك النيّة بصوتها الغريب مرّة أخرى: "يا شقيّ، لديك خيارين. تُسلّم ذلك الصحن إليّ، تمُت بهناء؛ تجعلني آخذه عنوة، تمُت بشقاء."

"لا هذا ولا ذلك." أجاب إبلاس مباشرة بينما يستعدّ لإطلاق هجمته. كانت السماء دامية، وفي لحظات فقط ساحت كلّها ثم تشكّلت لتصبح رمحا عظيما. كان هذا الرمح شيطانيّا للغاية وحمل معه قوّة روحية هائلة لا يمكن تصوّرها. لقد كان ذلك أفضل هجوم يمكن لإبلاس القيام به بالصحن الفخّار.

سقط الرمح وفي لمحة عين كان قد بلغ باسل بالفعل. كان كلّ شيء عديم الفائدة أمامه، لم يهمّ إن كان إمبراطورا روحيّا أو حتّى روحانيّا مباركا، فكلاهما تحتّم عليه أن يموت وقُرٍّرَ مصيره لمّا واجه سلاحا روحيّا بمستوى سلطان أصليّ يتحكّم فيه روحانيّ مبارك.

ولكن على عكس المتوقّع، توقّف الرمح أمام أعين باسل التي لم تكن تبصر شيئا في الواقع. لقد كان باسل مجرّد ساحر في مستويات الربط في الأصل حتّى لو كان يختلف قليلا بسبب الميزة المدهشة التي يملكها، إلّا أنّ هذه النيّة كانت قادرة على إيقاف مثل ذلك الهجوم المرعب.

استغرب شيطان اليأس كثيرا وزادت تساؤلاته وشكوكه مع الوقت؛ فمهما نظر إلى الأمر وجده غير معقول، وليس هو فقط، بل حتّى إدريس الحكيم الذي كانت روحه تُستنزف بسبب الصحن الفخّار اتّسعت حدقتا عينيه ولم يرمش قطّ.


كان الصحن الفخّار سلاحا روحيّا بمستوى السلطان، وحتّى مع محاولات إدريس الحكيم المتتابعة إلّا أنّه لم ينجح في الهروب من القيد الذي وضع عليه فكانت روحه نفسها تصبح تغذية للصحن الفخّار ومالكه، إبلاس. لقد كان في وضع لا يُحسد عليه أبدا.

تكلّم الصوت عبر باسل مرّة أخرى: "لا تجرُأنَّ يا شقيّ. أنا سلطان الأزمان، لا أقع في نفس الخطأ لمرّة ثانية. في ذلك العصر، كنت صغيرا طموحا وهرعت وأسرعت إلى تلك القمّة، لكنّني أخطأت. أنا لن أعيد نفس الأخطاء هذه المرّة. فلأجعلنَّ من الأربعة عشر تعود إلى أربع عشرة؛ ولأبلغنَّ الأصل!"

لم يفهم أحد ما كان يتكلّم الصوت عنه، إلّا أنّه بدا عازما ومصمّما بشكل مخيف. لقد كان صوته عميقا وحمل معها تاريخا عتيقا. الألم والأمل والشجاعة واليأس والصبر وكلّ شيء آخر احتاجه الساحر الروحيّ حتّى يعبر مساره الروحيّ كان مضمونا في كلماته تلك.

"إنّه صحني، ولن يؤثّر عليّ يا شقيّ."

ظهرت ثلاث مخطوطات فوق رأس باسل وتحرّكت الحروف بها حتّى كوّنت أنماطا مختلفة تماما عن التي كانت عليه سابقا، فأصبحت غير مفهومة لأيّ شخص مهما كان. لقد كانت تلك الأنماط غريبة جدّا ولم يعلم عن حقيقتها سوى تلك النيّة.

تكوّنت عدّة قوانين فجعلت العالم بأكمله ينقلب رأسا على عقب، وكما لو أنّ الطبيعة نفسها أصبحت تستجيب للمخطوطات الثلاث.

نطق الصوت مرّة أخرى: "طغيان السلطان!" كانت لهجة النيّة طاغية بالرّغم من أن صوته كان هادئا.

وفجأة، ظهرت تشقّقات على الرمح الذي كان أمام عينيْ باسل، وفي اللحظة التالية انكسر ثمّ تحوّلت شظاياه إلى فتات ثم غبار حتّى اختفت مندمجةً بذلك مع الهواء الطلق.

ارتعب إبلاس من هذا المشهد، وقبل أن يستجمع أنفاسه، تزلزل العالم مرّة أخرى واتّجهت أنظار الجميع إلى السماء، إلى حيث وقع سجن الظلام الأبديّ.


أفرز ذلك الفضاء الأسود دخّانا أسودا كثيفا بدا، وبعد لحظات بدأ الدخّان الأسود يتّخذ أشكالا كلّ واحد منها شابه الآخر، أو يجب القول كانت متماثلة تماما. كانت هذه الأشكال السوداء كتجسيد للموت لِما خلّفته من هالة مشؤومة وشعور حانق يجعلان الأنفس تضيق صدورها وتُغمَر بظلام أبديّ.

هلع إبلاس، وإدريس الحكيم، وحتّى تلك النيّة. لقد كان ذلك اختبار من درجة كبيرة في الواقع ولا يمرّ به سوى سحرة روحيّون بلغوا درجة رفيعة كالروحانيّين السامين أو الأسطوريّين. كلّ هذا حدث بسبب ظهور سلاح روحيّ لسلطان أصليّ، ونيّة لا يعلم أحد عن مستوى صاحبها الحقيقيّ، إضافة لتلك المخطوطات التي كانت كنزا عتيقا حتّى عينيْ حقيقة إبلاس لم ترَ من خلالها.

بلغ عدد تلك الأشكال السوداء سبعة، وكانت تبعث دخّانا أسودا يبدو كسمّ فتّاك بحدّ ذاته، وعندما يدقّق المرء في أوجهها يرى جماجمَ سوداء تكاد لا ترى في ذلك المعطف الحالك الذي يغطّي بقيّة الجسد إن كان هناك جسد تحته أصلا.

لقد كانت تلك كائنات مجهولة المصدر ولم يعلم أحد عن مصدر طاقتها لأنّها لم تستخدم الطاقة السحريّة ولا الروحيّة ولا أيّة قوانين من الوجود. لقد كانت طاقتها تلك غامضة جدّا. كلّ ذلك جعل الناس تتساءل وتضع نظريّات واحتمالات.

كانت تلك كيانات مجهولة، إلّا أن حقيقة فتكها وكونها ما اتُّخذ كمشرف عن اختبارات الجدارة، جعل السحرة الروحيون يلقّبونها بهذا الاسم: "ممتحِنوا الظلام" وهناك من لقّبهم بحاصدي الأرواح لكونهم غالبا ما يحصدون أرواح السحرة الروحيّين عند اختبارهم.

"عديمو الروح الملاعين!" صرّحت النيّة وردّد بصوت غاضب.

"هذا سيّئ!" قالها إبلاس وحدّق إلى إدريس الحكيم مرّة أخيرة ثم إلى باسل. راودته بعض الأفكار فعضّ شفته السفلى وتحسّر.

"يا حكيم، إنّها نهايتك. أنا مضطرّ للمغادرة الآن لكنّ روحك ستكون دوما معي، يائسةً خائبةً. لقد كانت هذه أوّل مرّة أستخدم فيها هذا الصحن الفخّار، وكانت عليك. لقد رأيت النظرات التي أردتها في عينيك، لكنّني في الواقع ما زلت غير مقتنع، لكنّني لن أنغمس في الجشع؛ لقد وجدت لعبة جديدة!"

انتهى إبلاس من كلامه واختفى بسرعة البرق إلى توابعه، فشقّ الفضاء بكنز ما كما فعل عندما أتى إلى العالم الواهن، وفي اللحظة الأخيرة، رمق أنمار وباسل، ثم غادروا عبر ذلك الفضاء البنفسجيّ الذي انغلقت كلّ الممرّات إليه بعد ذلك.


رأت النيّة كلّ ما حدث ولم يسعها سوى أن تصرخ غاضبة: "أيّها الشقيّ اللعين، لم تهرب بصحني فقط، بل وتركت عليّ التعامل مع عديمي الروح البغضاء هؤلاء. لن أنسى هذا أبدا."

كان ممتحِنوا الظلام في طريقهم آنذاك إلى باسل، وكلّ ما استطاع الناس فعله في تلك الأثناء هو المشاهدة. مشاهدة اختبار الجدارة لأوّل مرّة يحدث في العالم الواهن.
**
مرّ الوقت، وكان هناك أناس غائبين عن الوعي في أرض قاحلة لا يمكن رؤية أيّ إشارة للحياة فيها غير أولئك الناس النائمين. من بينهم، كان هناك شخصان فقط مستيقظين، ولم يكن هذان سوى إدريس الحكيم الذي كان يزحف حتّى يصل إلى المستيقظ الآخر.

وفي الواقع، المستيقظ الآخر لم يكن واعيا أيضا، وإنّما كان هناك شيء يحرّكه فقط. لقد كان ذلك باسل الذي تحرّكه تلك النيّة. كان جسد باسل داميا، وأحسّ إدريس الحكيم بروحه الضعيفة التي تطغى عليها تلك النيّة بشكل كامل.

لقد كانت روح باسل في تلك الأثناء ككرة في يد تلك النيّة. لم يكن هناك ما يمكن فعله وخصوصا بالنسبة لإدريس الحكيم في حالته تلك. لقد كان حيّا بالكاد، وكانت روحه تتآكل بسبب الصحن حتّى الآن. لقد كان ذلك الصحن الفخّار كنزا مرعبا للغاية، وحافظ على تأثيره بالرغم من أنّه بعيد بعوالم.

اقترب إدريس الحكيم كفاية ثم تطلّع إلى باسل، حدّق إليه كما لو أنّه يحاول النظر إلى النيّة التي تقبع داخله. بقي على ذلك الحال لمدة كافية حتّى قال أخيرا: "أعِد لي ابني."

حدّقت إليه النيّة عبر عيني باسل ثم ابتسمت كما لو كانت تسخر منه، قبل أن تقول: "لقد مات هذا الصبيّ مرّتين بالفعل، وفي الأولى نجح في استرداد جسدي منّي لأنّني أرخيت دفاعي لأنّني وصلت إلى ما انتظرته لعصور، لكنّني لا أخطئ نفس الخطأ لمرّة ثانية. هذه المرّة لن ينجح أبدا. إنّه جسدي، كان كذلك وسيظلّ كذلك."

صمت إدريس الحكيم كما لو كان يفكّر في بعض الأشياء، وقال أخيرا: "وأنا، إنّه ابني، كان كذلك وسيظلّ كذلك."


سطع جسد إدريس الحكيم فجأة، إلّا أنّ ذلك لم يصاحبه دمار ولا أيّ شيء، فقط السكينة والطمأنينة غمرت جسد باسل الذي تعرّض لذلك الضوء. ارتعبت النيّة حتّى أنّها صرخت: "ما الذي تحاول فعله؟! ألا تدري ما أنت مقدم عليه؟!"

"هوهوهوهوهوهو!" ضحك إدريس الحكيم لمدّة طويلة جدّا، ثم سقطت دمعة من عينه اليمنى، فسقطت دمعة أخرى من العين الأخرى، فنزلت دموع من كلتا العينين بشكل متتابع حتّى صنعت مجرى من الماء المالح الذي سقط في فم إدريس الحكيم المفتوح من الضحك.

امتزجت مرارة الدموع بحلاوة الضحك، وجعلت من قلب إدريس الحكيم يتقلّب. لقد اختلطت مشاعره كثيرا في تلك اللحظات عندما قرّر إنهاء هذا الأمر كلّيّا.

"أعلم أنّه لا يمكنني إكمال مسيرتي في المسار الروحيّ حتّى لو تعافيت من هاته الجروح الجسديّة بمعجزة ما، ومتيقّن من فشلي في إنقاذ ابني لو حاولت وأنا على هذه الحال. أنا لا أستطيع السماح لنفسي وأفشل في كوني دائما الأفضل. إنّه يعدّني الأفضل، فما عليّ سوى أن أكون أكثر من ذلك لا أقلّ."

"لقد كانت ألف سنة مديدة مجيدة. لديّ العديد من الأشياء التي ما زلت أريد بلوغها وتحقيقها، لكنّها كلّها لا شيء مقارنة بابني. لقد راقبته لخمس عشرة سنة، فأحببته، وكسب احترامي وتقديري، ولطالما تخطّى توقّعاتي. لن أتركه يذهب هكذا وأنا أعلم أنّه في يوم من الأيّام سيبلغ ما أردته يوما، ويحكم العوالم الأربعة عشر كلّها، كما سيفكّ كلّ ألغازها وألغاز ما يقبع وراءها."

قالت النيّة بسرعة: "هل أنت في رشدك أم فقدت عقلك يا أيّها الشقيّ؟! قد تكون تلك أرض الوهب، لكن لا تنسى أنّها أيضا تبقى أرض السلب!"

"هوهوهوهو!" أكمل إدريس الحكيم ضحكه ثم قال أخيرا: "ابني أهمّ من روحي!" كانت جملته الأخيرة تلك نابعة من قلبه كلّيّا، ولم تحمل ذرّة شكّ أو تردّد، حتّى جعل تلك النيّة تهلع.

قالت النيّة بسرعة كبيرة: "حسنا، حسنا! ما رأيك في هذه الصفقة؟ لقد بلغتُ ما بلغتُ سابقا في خمس آلاف سنة، لكنّني واثق من فعلها في خمسين سنة هذه المرّة وأفوق ذلك حتّى. عندئذ سوف أتخلى له عن هذا الجسد وأمنحه ما يتمنّى حتّى."

كان الصوت متوتّرا كثيرا. ضحك إدريس الحكيم أكثر فأكثر ثم قال: "إنّي لست بتاركك تمكث هناك متحكّما في ابني ولو لدقيقة أخرى."

"اللـــــعنة!" صرخت النيّة وأرادت أن تهاجم إدريس الحكيم إلّا انّه لم يستطع اختراق ذلك الضوء قطّ. لقد كان جسد باسل حاليا ضعيفا للغاية وروحه قاست كثيرا بعدما واجه أولئك الممتحنين الظلاميّين. كان عاجزا عن فعل شيء أمام كلّ تلك القوّة الهائلة التي قدمت مع ذلك الضوء من إدريس الحكيم.

كان جسد إدريس الحكيم يتحلّل مع ذلك الضوء في نفس الوقت كورقة تحترق، إلّا أنّ رماده كان زاهيا مشعّا. كانت كينونته بنفسها تتبدّد، وشمل ذلك روحه وجسده وإرادته ونيّته حتّى. كلّ شيء كوّن إدريس الحكيم يوما كان يختفي. من كان ليتخيّل آلام تلك اللحظات؟ إلّا أنّ إدريس الحكيم ظلّ صامدا، مجاهدا، من أجل أن يكون ذلك الأفضل.

"لــك كــلّ مــلــكــت يــومــا يــا ابــنــي!"

اختفى جسد إدريس الحكيم تقريبا كلّه في هذا الوقت، تبدّدت روحه، ثم إرادته، وكلّ ما تبقّى هو قليل من نيّته.

"لقد وهبتِني لكنّني خنتكِ، فـــها أنا ذا اسلبيني!"

كان ذلك آخر ما قاله إدريس الحكيم قبل أن يختفي تماما من الوجود
مضحيا بنفسه من أجل ابنه وتلميذه باسل.................يتبع!!!!


(الجزء الثامن)

كلّ ما تبقّى من إدريس الحكيم، أو ما دلّ على وجوده على الأقلّ، كان ذلك الضوء الذي أحاط بباسل من جميع الجهات فغلّفه حتّى أصبح لا يُرى من الخارج. كان ذلك الضوء كشعلة حياة حملت معها خبرات لا تُعدّ ولا تُحصى، لقد كانت تمثّل حياة إدريس الحكيم نفسها في الواقع، بكلّ شيء مرّت به من عقبات وانعطافات، إلّا أنّه بدا أنّها حملت معها حيوات عديدة، وكلّ واحدة منها حملت معها خبراتها أيضا.

أصبح شكل الضوء كبيضة ضوء يقع باسل بداخلها كجنين يتغذى ببطء شديد على كلّ المغذّيات ويستفيد من جميع مزاياها، وأثناء ذلك كان ضوء البيضة يطلق أشعّة في جميع الاتجاهات. كانت تلك العمليّة التي قام بها إدريس الحكيم مستعصية للغاية كونها شيء يتحدّى إرادة أرض الوهب والسلب العتيقة؛ لقد كانت شيئا استحقّ أن يُمسح من الوجود من أجله.

كانت أرض الوهب والسلب العتيقة أرضا تمنح هبة ما لأولئك الذين ينجحون في الاختبار، لكنّها كانت تسلب أولئك الذين يفشلون فيه. قليل القليل من تجرّأ وتقدّم حتّى يمرّ بذلك الاختبار الذي كانت نسبة النجاح فيه أقلّ من نسبة النجاح في بلوغ مستويات السلطنة.

وحاليا، كان باسل يكسب شيئا لا يجب على المرء اكتسابه إلّا عن طريق واحد ألا وهو الاختبار الذي تضعه، فكان هذا أمرا فريدا في كلّ الأزمان بأيّ مكان. لم يحدث مثل هذا الشيء قطّ على مرّ العصور؛ فلا أحد تجرّأ على خيانة أرض الوهب والسلب العتيقة، أو واتته نفسه أن يعرّض روحه لشيء مجهول تماما.

بعد دقائق، تحرّك شخص من بين الغائبين عن الوعي وتقدّم إلى البيضة المشعّة فحاول لمسها، لكنّ جسمه ارتدّ لمئات الأمتار بشكل عنيف واصطدم بجبل فتقيّأ الدماء بكثرة. كان هذا الشخص هو أنمار التي ارتدّت بعض الصور في عقلها في الوقت الذي اصطدم فيه رأسها بالأرض.

رأت صورة إدريس الحكيم والكلمات التي قالها قبل أن يختفي تماما؛ كانت قد أصبحت واعية على ما يبدو في ذلك الوقت واستطاعت أن ترى وتسمع كلّ كلمات معلّمها الأخيرة. وقفت مرّة أخرى وقطعت خطوة تلو الأخرى بينما تُزامن كلّ واحدة منها دمعةٌ كانت تسقط من إحدى عينيها في كلّ مرّة.

كانت هناك وحيدة وسط تلك الأرض القاحلة بينما تقترب من البيضة المشعّة التي لم تصدر صوتا هي الأخرى. كان الهدوء قاتلا في هذه الأثناء بشكل يجعل المرء لا يصدّق أنّه كان هناك زلازل بعدد مرعب قد حدثت انطلاقا من هذا المكان الميّت.


حاولت أنمار مرارا وتكرارا لمس البيضة المشعّة من أجل أن تلمس باسل، إلّا أنّها أُرسِلت محلّقة مرّات أخريات فقط. كانت محاولاتها عقيمة، وحتّى بعد مرور وقت طويل كان الحال نفسه.

استيقظ الناس في المناطق المجاورة بعد مرور ساعات بينما يحاولون مجاراة ما حدث بعقولهم الصغيرة التي لم ولن تقدر أبدا على استيعاب ما وقع. لقد كان كلّ شيء يفوق أكثر تخيّلاتهم جموحا.

اقترب الحارس جون مع بعض الجنود من أنمار بعدما رأوها ما تزال تحاول الاقتراب من البيضة المشعّة التي سبّبت لها كلّ تلك الجروح البليغة والدماء التي غطّت كامل جسدها حتّى أصبح شعرها الذهبيّ أكثر حمرة وميولا للبرتقالي بعدما امتزج بالدم الأحمر.

كانت تريد لمس باسل ورؤيته في أقرب وقت ممكن، أرادت أن تشاركه المعاناة التي مرّ بها، أرادت أن تحزن معه على معلّمهما، أرادت أن تكون معه.

"سيدتي الصغيرة... أرجوك كفاك... إنّ سيّدنا باسل لم يكن ليريد أن يراك هكذا... هذا كثير."

وبالرغم من كلام الحارس جون، إلّا أنّها لم تهتمّ، أو كما بدا.. لم تسمعه، وظلّت رؤيتها مركّزة على بيضة الضوء تلك فقط.

"ساعدوني على إيقافها!"

صرخ الحارس جون آمرا الجنود خلفه ثمّ تقدّموا كلّهم مرّة واحدة ووقفوا في طريق أنمار، ولكنّها تقدّمت إلى الأمام كما لو لم يكن أمامها شيء، وعندما اصطدمت أخيرا بجسد الحارس جون، أدركت فقط أنّ هناك شيء يمنعها من التقدّم، لذا شحنت ما لديها من طاقة سحريّة وفعّلت فنّها القتاليّ ثم صرخت: "لا شيء يمنعني من مقابلة رجلي!"


وعندما كانت ستطلق هجوما كان سيقتل كلّ من أمامها، ظهرت لطيفة وسميرة فجأة وراءها وقبضتا يديها بينما تقولان: "سيكون بخير يا أنمار، ارتاحي فباسل لن يريدك هكذا."

هدأت أنمار بعدما سمعت ذينك الصوتين المألوفين وعادت إلى رشدها أخيرا. بصرت من كان أمامها ثمّ نظرت إلى أمّها وعمّتها لطيفة قبل أن تسقط في حضنهما بينما تبكي.

كانت حزينة للغاية على فقدان معلّمهما، ولم ترد شيئا آخر في هذه الأثناء سوى الكون مع باسل حتّى يتشاركا نفس المشاعر والأحاسيس التي لم يكن هناك شخص في هذا العالم يمكن أن يفهمها. لقد كان إدريس الحكيم أبا لهما أكثر من معلّم، علّمهما السحر وكلّ شيء متعلّق به، لكنّه أيضا ربّاهما وحماهما وراقبهما كوالدهما. لقد كانت معزّته لا توصف في قلبيهما.

حدّق الحارس جون إلى المشهد أمامه ثم وجّه نظره إلى البيضة المشعّة وتحسّر؛ أراد أن يقول شيئا لكنّه لم يعلم ماذا ينطق، وفي النهاية سأل فقط: "ما الذي يحدث لسيّدنا؟ هل سنراه مرّة أخرى؟"

حدّقت أنمار إلى بيضة الضوء ثم نظرت إلى الأرض وقالت: "لا أعلم، لكنّني أعلم أنّه شيء في مصلحته فقط. سيكون علينا أن نصبر إلى أن يحين موعد عودته."

كانت أنمار تعلم أنّ معلّمهما قد فعل شيئا لباسل في آخر اللحظات من أجل إنقاذه، لذا كانت واثقة من نجاحه. لقد ضحّى إدريس الحكيم بحياته من أجل تحقيق ذلك ولم يكن هناك مجال للفشل.

نظر الحارس جون إلى الأرجاء حوله ثمّ أمر الجنود: "ساعدوا الناس وعالجوا كلّ مصاب وخفّفوا عنهم بأيّ طريقة."

"حاضر!"

التفت بعد ذلك إلى أنمار ثم قال: "يا سيّدتي الصغيرة، بعدما رأيناك سابقا، لا أظنّه بوسعنا نقل سيّدنا باسل في وضعه الحالي من ذلك المكان، لذا سنخيّم هنا حتّى يعود إلينا. أين تريدين أن نضع خيمتكن؟"


حدّقت أنمار إلى أمّها ولطيفة ثم أجابت مباشرة: "خيمتنا ستكون هي نفسها خيمة باسل."

"سمعا وطاعة!" أجابها الحارس جون مبتسما ثم غادر ليبدأ عمله.

شربت أنمار إكسير العلاج وتكلّمت مع الكبير أكاغي عبر خاتم التخاطر عن كلّ ما حدث، وأعلمته بحالة باسل الحالية فأخبرها بقدومه العاجل، وليس هو فقط، بل جميع رؤساء العائلات الكبرى من الإمبراطوريّات الثلاث وكلّ شخصيّة مهمّة قد أتوا. لقد كان الأمر متعلّقا ببطل البحر القرمزيّ، لذا كان كلّ شخص مهمّ بهذا العالم مهتمّا.

مرّ اليوم الأوّل، وكان باسل على نفس الحال بداخل البيضة المشعّة.

ثمّ اليوم الثاني، الثالث... أسبوع... أسبوعين... لا شيء تغيّر.

حضر الأباطرة الثلاث وعلموا عن الوضع جيّدا، وتعجبّوا لحال باسل لمّا رأوه فلم يفقهوا شيئا. حاول العديد منهم حلّ لغز تلك البيضة المشعّة إلّا أنّهم تعرّضوا للرّفض التام منها وظلّ غموضها مبهما كما كان.

كان جميع الأشخاص الذين التقوا بباسل حزينين على وضعه ذاك، مرتقبين لحظة عودته فقط، عاجزين عن فعل شيء آخر.

مرّ شهر، فتبعه الثاني والثالث... ولا شيء تغيّر.

رُمِّمت الأرض القاحلة حتّى بدأت الروح تعود إليها، وشُيِّدت المباني فيها من جديد، وبدأت مدينة العصر الجديد تعود شيئا فشيئا إلى سابق عهدها. كانت تلك فكرة التشكيل، إذ ظنّوا أنّه سيكون من الجيّد رؤية المدينة مزدهرة كما يجب أن تكون بعد الاستيقاظ من نوم عميق.


كانت أنمار في مبنى بُنِي على تلك البيضة المشعّة، منتظرة باسل على نفس الحال. لم تأكل ولم تشرب قطّ طيلة المدّة الماضية واعتمدت على طاقة العالم في تغذية نفسها فقط. اختلط حزنها على معلّمها مع فقدانها لباسل كلّ هذه المدّة فجعلها تصوم الأكل والشرب، والكلام أيضا، إذ كان طلبها من الحارس جون قبل ثلاثة أشهر الشيءَ الأخير الذي قالته حتّى الآن.

مرّ نصف عامٍ، وهدأت قلوب الناس أخيرا بعد اختبار تلك الزلازل التي زعزعت أرواحهم وزرعت الرعب فيها.

كان حال باسل هو نفسه، كما كان حال أنمار التي تنتظره. حاولت أمّها وأمّ باسل التخفيف عنها، ولكن لم يكن هناك شيء يستطيع تحقيق ذلك غير لقائها بباسل.

كانت بعض الشخصيات المهمّة تزور باسل من حين إلى آخر، ولكن بعد مدّة نقُصت تلك الزيارات وكانت لطيفة وسميرة وأتباع باسل القريبين هم الوحيدين الذين داوموا على زيارته يوميّا، أمّا أنمار فكانت معه في كلّ لحظة.

كانت ستّة أشهر طويلة للغاية، ولم يسبق لأنمار أن عانت نفسيّا لهذه الدرجة لكلّ هذه المدّة. بدأت الشكوك تراود قلبها القلِق، لكنّها دائما ما تخمدها بثقتها في معلّمهما؛ مهما تأخّر الأمر فسيعود لا محالة؛ إنّه صنع معلّمنا؛ الأفضل؛ كلّ تلك الأفكار جعلتها تصبر وتصبر ثم تصبر مرارا وتكرارا حتّى تجتاز هذه الفترة العصيبة.

وفي يوم من أحد تلك الأيّام، وبعدما سكن العالم الواهن أخيرا، حدث شيء جعل النيام يستيقظون والواعين يهلعون والشجعان يخضعون. أمام أعين كلّ شخص انشقّت السماء لنصفين على مداها كلّه، ثم انشقّت إلى أربع بعد ذلك، وبعد لحظات أصبحت الشقوق لا تُحصى وامتدّت عبر السماء كلّها.

أصبحت السماء كزجاجة متصدّعة بشكل كبير، وأيّ لمسة من أيّ شخص كانت لتسقطها شتاتا. وفي الوقت الذي كان فيه كلّ شخص مرتعد من حدوث ذلك الأمر، تزلزل العالم عدّة زلازل مرّة واحدة كما لو كان ينقلب رأسا على عقب حرفيّا، فانكسرت السماء بصوت جعل العالم الواهن بأكمله يهتزّ وتصدى فيه كلمة واحدة رسخت في قلب السامع والأصمّ على حدّ سواء.

"ختم!"


بعدما حدث هذا الأمر، لم تسقط السماء ولا شيء، فقط استمرّت الزلازل حتّى هدأت بعد يوم كامل من الاهتزازات المتواصلة. كان ذلك الحدث غريبا للغاية ولم يعلم أحد ما حدث بالضبط، إلّا أنّه بعد سماع تلك الكلمة، أحسّ كلّ شخص بالرغبة في الخضوع إلى صاحبها والمثول أمامه من أجل تلبية كلّ طلباته. كانت تلك كلمة أتت من سلطان أمكنه حكم أيّ مكان في أيّ زمان.

تساءل الناس عمّا حدث في الأيّام القادمة لمدّة طويلة، وكثُرت الإشاعات والتخمينات عن مصدره. كان هناك من قال أنّه مخلوق سامٍ قد صبّ غضبه على العالم الواهن، وهناك من قال أنّه تحذير من الشياطين، وهناك من قال أنّها عقاب من الخالق، وهناك من قال أنّها حادثة طبيعيّة لسبب ما.

اختلفت الآراء ولكن ولا واحد استطاع نسيان تلك الكلمة التي انتقلت عبر نيّة سامية، ولم يستطيعوا فهم المعنى وراءها.

وبين كلّ هذا، كانت البيضة المشعّة على نفس حالها. كان باسل لا يزال بداخلها بينما يمرّ بعمليّات مختلفة لا يعلم أحد عن ماهيّتها سوى الخالق.

مرّ وقت طويل حقّا، حتّى كان عاما، إلّا أنّ باسل ما زال لم يظهر بعد.

كان حال أنمار سيّئا نفسيّا للغاية، إذ لم تنطق حرفا لمدّة سنة كاملة، وصامت كلّ شيء إلّا ما يكفي من طاقة العالم حتّى تبقى على قيد الحياة. لقد كانت ظاهرة باسل فريدة للغاية ولم يعلم أحد كم ستدوم، فعام أصلا كان أكثر من كافٍ للعديد حتّى يبدؤون يؤمنون بحقيقة أنّه قد لا يعود أبدا، ولكن أنمار ظلّت ليلا نهارا تراقبه دون راحة.

حتّى بالنسبة لساحر في مستواها كان عدم النوم لكلّ هذه المدّة شيئا مذهلا للغاية ويتطلّب إصرارا عظيما، فالنوم بالأصل غريزة لا يمكن مقاومتها إلّا عن طريق قوّة إرادة كبيرة، فما بالك بصومه أيضا لمدّة سنة كاملة.

تعجّب الناس من حال باسل، لكنّهم كانوا مذهولين من حالها بنفس الدرجة أيضا. كان هناك العديد من الأشخاص الذين قدّروا ولاءها الذي لن تجده إلّا بعد بحث قد لا يكفي عمر واحد له، وتمنّى الكثير لو كانت هناك ملاك حارس مثلها يراقبهم دائما ويهتمّ بهم أكثر من نفسه.

لو أثبت هذا شيئا ما، فهو تخمين إدريس الحكيم حينما قرّر تعليمها بجانب باسل كونها ستكون رفيقة مساره الروحيّ الدائمة، إذ كان حبّها له حقّا يستطيع تجاوز آلاف السنين واختراق العوالم بالرغم من أنّها صغيرة. فمهما يمرّ من الزمن، له تكن خير العون، ومهما يفرقهما المكان، تبلغه قبل فوات الأوان.

لقد فعلت الكثير من أجله، ومعزّتها له كانت كبيرة للغاية، فلم يجد باسل خيارا آخر سوى تناسي كلّ شيء يمكن أن يخرّب ذلك الانجذاب الذي بينهما. لقد كانت أنمار تستحقّ بكلّ جدارة وبالرغم من أنّه تجاهلها لحوالي خمس سنوات، إلّا أنها لم تيأس قطّ وواظبت على ملاحقتها له حتّى كسبته من جديد.

كلّ شخص كان ليرجو وجود مثل هذا الشخص في حياتهم، لذا كلّ من رآها على تلك الحال احترمها بشدّة وقدّرها لدرجة كبيرة في قلبه وتمنوّا من قلوبهم أن يعود باسل لها.

في أحد الأيّام، ظهر ضيف مألوف نوعا ما لأخوي القطع، وبمجرّد ما أن رياه حتّى رميا بنفسيهما عليه كما لو أنّهما نمران جائعان قد وجدا فريسة أخيرا. كانت عيناهما حمراوين للغاية وحتّى أنّهما فعّلا طاقتهما السحريّة إلى أن بلغت أوجها من أجل قمع ذلك الشخص.


دفعاه على الأرض ولم يتركاه يهرب قطّ، لكنّ ذلك الشخص لم يقاوم وربّت على ظهرهما بينما يبتسم بلطف بوجهه الطفوليّ ذاك، ثم قال بصوت مختنق: "هيّا ابتعدا عنّي، كفّا عن هذا، لن أهرب إلى أيّ مكان، لم أكن سآتي إلى هنا على أيّ حال إن كنت سأهرب."

حدّقا إليه كما لو كانا لا يثقان به، لكنّه حافظ على ابتسامته اللطيفة تلك حتّى اقتنعا أخيرا فنهضا وتركاه يقف أخيرا. نفض الغبار من على جسده بينما يتمتم: "حقّا يا له من إزعاج هذا الذي ورّطت فيه نفسي، حقّا يجب ان أصلح من عادتي الغبيّة تلك."

كان هذا الشخص هو أوبنهايمر فرانكنشتاين، العالم المجنون.

لقد كان يقصد بكلامه الأخير ذلك الاتّفاق الذي عقده مع إدريس الحكيم، وعندما اختفى هذا الأخير من الوجود، أحسّ هو أيضا بذلك، إلّا أنّه ما جعله يستغرب لم يكن ذلك، فهو لم يكن يهتمّ في الواقع إذا مات إدريس الحكيم أم عاش، لقد كان استمراريّة ذلك الاتفاق الذي يقيّد روحه ما جعله يتعجّب.

"في ذلك الوقت، كنت متحمّسا لكلّ تلك المعرفة التي ملكها ذلك العجوز، ولم أهتمّ بالثمن الذي يجب عليّ دفعه، ولكن بالتفكير في الأمر ثانية... آآه حقّا هذا ألم في المؤخّرة."

كان يشتم ويتذمّر دون توقّف لسبب ما فترك الاثنين مستغربين. قبضاه من يديه ثم جرّاه دون نطق أيّ كلمة، فأوقفهما وقال: "لقد قلت لكما لا حاجة لكلّ هذا. أنا أعلم ما حاجتكما بي، وهذا أنا ذا أعْلِمْكما أنّها الغرض من مجيئي أصلا. هيّا أزيحا يديكما قبل أن أبترهما." ابتسم في نهاية كلامه كما لو أنّه يمازحهما، إلّا أنّ كلامه حمل نيّة شرسة يمكنها زرع الفزع في القلوب بسهولة.

لم يشعر أخوا القطع حتّى وجدا نفسيهما قد ابتعدا عنه عدّة أمتار، فتنهّد بعد رؤيتهما كذلك وقال: "أخيرا بعض المساحة. حافظا على هذه المسافة وتقدّما أمامي، فأنا لا أحبّ البشر كما يبدو عليّ."

صعدت القشعريرة مع جسديهما فحمدا ربّهما على بقائهما على قيد الحياة حتّى الآن بعدما اقتربا منه بتلك الطريقة وإلى تلك الدرجة. لقد كان سبب تلك القشعريرة هذه المرّة مختلفا عن السابق، لم تكن هذه المرّة نيّته ولا هالته أو شيء من هذا القبيل، لقد كان فقط تعبير وجهه. بدا لوهلة كما لو أنّ شيطانا ما قد استحوذ على *** ما فصنع من خلال وجهه الطفوليّ تعبيرات شيطانيّة لم يكن أحد ليتوقّعها.


تحرّك الاثنان وحاولا مجاراة ما يقوله للآن فقاداه إلى حيث تقع البيضة المشعّة، حيث يوجد باسل. وفي طريقهما التفت كاي ثم تساءل: "كيف لا تحبّ البشر وأنت منهم؟ أتكره نفسك أيضا؟"

"كوكوكو." ضحك الشابّ بوجهه الطفوليّ ضحكة ساخرة ثمّ قال: "أكره نفسي؟ هذا محال. أنا أحب نفسي أكثر من أيّ شيء آخر في هذا الوجود. أنا فقط لا أعدّ نفسي بشريّا."

"ها؟" تفاجأ الاثنان من هذا الردّ ولم يريدا أن يتحدّثا مع هذا المجنون أكثر من ذلك فأكملا بقيّة الطريق بصمت.

استأذنا قبل أن يدخلا، فوجدا أنمار جالسة في غرفة أمام البيضة المشعّة كالعادة، فتكلّم الأخ الأكبر غايرو: "يا سيدتي الصغيرة، لقد أحضرنا شخصا قد يقدّم مساعدة ما."

حدّقت إليه أنمار ثمّ أرجعت نظرها إلى بيضة الضوء من جديد كما لو كانت لا تهتمّ. لقد حاول العديد من الأشخاص فعل شيء ما لكن لا أحد نجح في تغيير شيء.

دخل أوبنهايمر فرانكنشتاين فرمق أنمار لقليل من الوقت قبل أن يتقدّم إلى البيضة المشعّة، ثمّ حدّق إليها لوقت طويل دون أن يرمش قطّ بالرغم من تلك الأضواء التي تجعل الشخص يغمض عينيه رغما عنه.

"هذا...!" تفاجأ الشابّ ثمّ جنّ جنونه فجأة ورمى بنفسه على البيضة المشعّة: "يا له من عجب!"

بااام

ارتدّ جسده فحلّق آلاف الأمتار بعيدا واصطدم بعدّة مباني حتّى ارتطم بصخرة ضخمة فشتّتها، فكان جسده محترقا ومليئا بالجروح العميقة.


شاهد أخوا القطع ما حدث وفهما لمَ مُنِع على الشخص لمس تلك البيضة المشعّة. لقد سمعوا بما حدث لأنمار، لكنّه لم يكن بهذه الشدّة. وبالطبع كان ذلك شيئا طبيعيّا لأنّ أنمار كانت تحاول لمس تلك البيضة فقط وذلك ما حدث لها، أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين فقد رمى بنفسه عليها.

نهض بينما لا يزال يحمل نظراته المتحمّسة تلك، ثمّ حدّق إلى البيضة المشعّة واختفى في لمح البصر قبل أن يظهر من جديد أمامها، فصرّح: "هكذا هو الأمر، إنّه حقّا لجنين ينمو داخل بيضة محميّة."

انذهل الاثنان من سرعته المرعبة وهدوئه رغم تلك الجراح التي تغطّي جسمه، وجعل أنمار تُظهر تعبيرا آخر أخيرا بعد سنة كاملة من الجمود، إذ عبست وأبدت اهتماما. لقد كان ذلك التصريح شيئا جديدا عليها ولم تفهم ما الذي يقصده بذلك، فحملقت إليه وانتظرته يكمل كلامه.

أحسّ أوبنهايمر فرانكنشتاين بنظراتها الشرسة ثم أكمل: "لا أعلم الكيفيّة التي يحدث بها ذلك، ولا المدّة التي سيأخذها مثل هذا العجب، ولكن ما أعلمه أنّ ذلك المز... السيّد باسل ينمو بطريقة ما داخل هذه البيضة. باختصار، يمكنكم القول أنّه عندما يظهر، فستكون تلك ولادة جديدة له."

نظر أخوا القطع إليه بوجه مستاء وفكّرا في نفس الشيء: "ألم يكن سيقول 'ذلك المزعج' للتوّ؟ هذا الشخص..."

وبالنسبة لأنمار، لم يكن ذلك مهمّا إطلاقا وركّزت فقط على كلامه، إلّا أنّها لا تزال غير مقتنعة بما قاله ونظرت إليه بحدّة أكبر جاعلة إيّاه يتنهّد.

أكمل بعد ذلك: "حسنا، حسنا. لك السبب في تفكيري بذلك. أنا أعلم أنّني تحمّست لدرجة كبيرة ورميت بنفسي على هذه البيضة، لكنّ ذلك كان لسبب في الواقع وليس مجرّد غباوة منّي."

نظر إليه الأخوان بوجه خال من التعابير وفكّرا مرّة أخرى في نفس الشيء: "لا، لقد فقدت رشدك قبل قليل يا هذا."


واصل شرحه: "لقد رميت بنفسي كذلك حتّى أتأكّد من شيء توجّب عليّ تحسّسه جيّدا. طيلة هذا الوقت، تعاملت مع الروح بطرق عدّة حتّى صرت أفهمها لدرجة كبيرة، وخصوصا بعد التقائي بذلك العجوز، ولهذا يمكنني الجزم، هذه البيضة عبارة عن شيء مشابه للروح لكنّها ليست روحا، ويحمل معه أشياء كثيرة لا أعلم ماهيتها. لكنّني أعلم أنّها كلّها تعمل كتغذية لذلك الـ... للسيّد باسل."

فكّر بعد ذلك في شيء ما لم يخبرهم به: "حسن، هناك سبب آخر وهو الاتفاق الذي عقدته مع ذلك العجوز. أنا أفهم الآن لمَ ما يزال قائما بالرغم من أنّني علمت أنّه مات. يا له من عجب."

أكمل كلامه مع نفسه: "والآن بعدما تأكّدت ممّا جعل الاتفاق يسري حتّى بعد اختفاء روح العجوز، لا أظنّ أنّه تبقّى لي ما أفعله هنا، ومن الأفضل المغادرة قبل أن يستيقظ ذلك المزعج" التفت ونظر إلى أنمار فوجدها قد اقتنعت بكلامه وتفسيره، لذا استدار وهمّ بالمغادرة.

"انتظر..." تكلّم غايرو فجأة بينما يصنع تعبيرا مصدوما من شيء ما.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين بسبب ذلك والتفت إليه: "أوّل شيء، لا تتحدّث معي بصيغة الأمر تلك وحاول إضافة صيغة الطلب إليها، وثانيا، كن متأكّدا من أنّ انتظاري لك يستحقّ، وثالثا، اعلم أنّك إذا لم تطبّق هذين الشيئين الاثنين مرّة أخرى فلن تجد رأسك مكانه."

ابتسم أوبنهايمر فرانكنشتاين في نهاية كلامه تلك الابتسامة الطفوليّة البريئة بينما يحدّق إليه بعينيه اللتين لا تجاريان تلك الابتسامة إطلاقا إذْ ظلّتا جامدتين حتّى شوّش عقل غايرو بتعبيراته غير المتناسقة تلك.

بلع غايرو ريقه ثمّ ندم على فعله هذا، لكنّه تشجّع وسأل: "كيف؟ أين كلّ تلك الحروق والجروح العميقة التي كانت تغطّي جسدك؟"

فتح كاي عينيه على مصراعيهما من الدهشة أخيرا بينما ظلّت أنمار هادئة كونها قد لاحظت ذلك بالفعل. لقد كان جسد أوبنهايمر فرانكنشتاين مغطّى بالدماء، لكنّها كانت دماء فقط وكلّ الجروح قد سبق والتأمت كما لو أنّها لم تحدث أصلا، وجميع الحروق شُفِيت فأصبحت بشرته بيضاء ناصعة ورطبة كالتي لدى الأطفال. كان ذلك شيئا مرعبا للغاية بالتفكير فيه؛ فهو لم يستخدم إكسير علاج أو أيّ شيء له نفس الفعّاليّة. لقد كانت تلك قدرة جسده الشفائيّة البحتة.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين ثمّ استدار مغادرا، أثناء ذلك رفع ذراعه وصرّح: "لا تجعلني أكرّر كلامي، فأنا أكره الأغبياء بقدر ما أكره البشر أنفسهم."


استغرب الأخوان وفكّرا في معنى كلامه، حتّى أدركا شيئا ما أخيرا عندما تذكّرا كلامه سابقا: " أنا فقط لا أعدّ نفسي بشريّا!" صدت تلك الجملة في عقليهما وزعزعتهما فارتعبا. هل كان يقصد ذلك حرفيّا؟ يجب أن يكون الأمر صحيحا لأنّ لا بشر لديه تلك القدرة الشفائيّة المذهلة.

أنزل ذراعه التي رفعها سابقا وتنهّد: "حقّا هؤلاء البشر، لماذا ليس هناك ولو شخص واحد ذكيّ بينهم؟" كان الشابّ يتذمّر بوجهه الطفوليّ. من كان ليعلم أنّ السبب الحقيقيّ وراء كرهه للبشر هو غباؤهم الذي يراه في كلّ واحد منهم؟

"انتظر!" رنّت الكلمة في عقله فجعلته يتوقّف عن تذمّره فجأة وتحوّل تعبيره المنزعج إلى تعبير بارد بعث معه نيّة قاتلة كوحش التهم مئات آلاف الوحوش حتّى كوّن تلك الهالة الشرسة التي انطلقت من جسده دون أن يحتاج إلى استخدام أيّ طاقة سحريّة أو أيّ شيء مشابه.

سقط غايرو وكاي على الأرض والتصق جسداهما معها من شدّة الضغط وكادا لا يصدّقان أنّ ساحران في المستوى التاسع مثلهما قد حدث لهما مثل هذا الشيء هكذا. لقد كانا ساحرين بمستوى مرتفع بالنسبة للعالم الواهن، إلّا أنّهما كانا مجرّد فرخين صغيرين أمام ذلك الوحش المرعب.

"لقد عفوت عنك في الوهلة الأولى لمعرفتنا بالرغم من أنّك جعلت من انتظاري دون فائدة، لكنّك تجرّأت وحاولت فعل نفس الشيء لمرّة ثانية."

"مـ-ما الذي تتحدّث عنه يا هذا؟ نحن لم نفعل شيئا كذاك!" تكلّم غايرو بصعوبة بالغة بينما يحاول النهوض لكن بلا فائدة.

"همم؟" استغرب أوبنهايمر فرانكنشتاين ثمّ تذكّر أخيرا ذلك الشعور الذي أحسّ به؛ ففي الواقع، لم يكن ذلك كلاما موجّها له وإنّما كانت نيّة مباشرة رنّت في عقله.

توقّف مباشرة عند ذلك وحدّق إلى البيضة المشعّة أمامه وفكّه السفليّ مفترق عن العلويّ بفارق كبير، غير مصدّق لما حدث للتوّ. فكرّ مستغربا: "هل يمكن أنّني تخيّلت ذلك فقط؟"

انتظر أوبنهايمر فرانكنشتاين دون أن يشعر لمدّة لا بأس بها قبل أن يستدير مرّة أخرى محاولا المغادرة من جديد.

"لا تجعلني أكرّر كلامي أيّها العالم المجنون، فإيّاي انتظرنّ!"

أدار أوبنهايمر فرانكنشتاين رأسه بسرعة فائقة وحملق إلى بيضة الضوء تلك. فبالرغم من أنّ اللهجة التي استُخدِمت في مناداته كانت مستبدّة، إلّا أنّه تأكّدا أخيرا عندما سمع 'العالم المجنون'. لم يكن هناك سوى شخص واحد في هذا الوجود يناديه بذلك اللقب.

"المزعج..."

***

رنّ الصوت في عقل أوبنهايمر فرانكنشتاين من جديد بنفس اللهجة: "انتظر هنا حتّى أخرج، فهناك ما أريدك أن تقوم به."

كان ذلك الصوت متسلّطا، ولم يعطِ اعتبارا للطرف الآخر، كما لو كان واثقا لدرجة لا يمكن زحزحة معتقداته ومبادئه تلك التي تبني قانونه السامي. كان شيئا طبيعيّا بالنسبة له أن يتكلّم مع الآخرين بتلك الطريقة، ولم يكن على المرء في الواقع أن يعتبره تكبّرا، لأنّه لن يكون تكبّرا إن كان هو نفسه كبيرا كفاية ليكون أهلا لكلامه ذاك.

عبس أوبنهايمر فرانكنشتاين ثم فكّر في بعض الأسباب التي جعلت باسل قادرا على التحدّث معه عبر نيّته فقط بالرغم من أنّه في تلك الحالة، ووجد أنّ الاتفاق بينهما هو الوسيط الوحيد الذي يمكن أن يخوّل له الإمكانيّة لفعل ذلك.

ولكن مع ذلك، لم يكن الاتفاق أصلا مع باسل، فكيف له أن يكون قادرا على القيام بشيء لا يقدر عليه سوى خبراء حقيقيّين؟ فهو لم يسمح له بأن يتكلّم معه عبر عقله لذا يجب أن يكون في مستوى مرتفع أو يملك شيئا خاصّا يسمح له بذلك. كان متعجّبا من ذلك الأمر لوقت طويل.

حدّق إلى البيضة المشعّة بنظرات عبوسة: "سأنتظر عندما أريد، وليس عندما تأمرني بذلك."

رنّ الصوت في عقله من جديد: "سوف تنتظر كما أخبرتك، لأنّه أصلا مهما ابتعدت فسأجدك بكلّ سهولة. لا تصعّب الأمور على نفسك لأنّها في كلّ الحالات سهلة عليّ."

قطب أوبنهايمر فرانكنشتاين مرّة أخرى وبدأ يخمّن في ما قاله باسل. كان يشكّ في ما إذا كان ذلك الاتّفاق هو ما سيسمح له بإيجاده بتلك السهولة.

سرح بأفكاره لقليل من الوقت ثم تنهّد وتمتم: "حقا يا من له إزعاج!" ندم على قدومه إلى هنا أصلا، وندم أكثر على عادته السيّئة التي تجعله يتبع اهتماماته بدون تفكير دائما.

ردّ بعد تفكيره أخيرا: "حسنا سأنتظر لكن لأنّني أريد ذلك وليس لأنّك أخبرتني بذلك، لذا أخبرني عن السبب، وشيء آخر، لا تنادني بالعالم المجنون."


عمّ الصمت قليلا بعد طلب أوبنهايمر فرانكنشتاين الأخير قبل أن يرنّ في عقله الصوت: "أنا أريدك من أجل أختهما، أظنّه حان الوقت لجعلها تستيقظ أخيرا، فحتّى لو كانت في حالة توازن حاليا لا يجب تركها على ذلك الحال."

قطب أوبنهايمر فرانكنشتاين، والسبب كان تجاهل باسل لطلبه، لكنّه هدّأ نفسه ثم قال: "ألا يجب أن تكون قادرا على التكفّل بذلك بنفسك؟ لم الحاجة إليّ؟ لقد فقدت اهتمامي فيها بالفعل، أنا لا أريد."

"لا..." تكلّم باسل حالا: "لا تحاول ملاعبتي فأنت ما زال لديك اهتمام بها، وسأقول لك شيئا، لربّما أخبرك معلّمي ببعض الأشياء لكنّه ترك أشياء مخفية عنك، ما الذي تظنّه تلك الفتاة ستصير يوما؟"

تشوّش أوبنهايمر فرانكنشتاين قليلا وعبّر عن رأيه بصراحة وبثقة كونه كان خبيرا في هذا المجال: "إن نجحت حقّا في إنقاذها، فلربّما تصير مثلي عندها."

"هوهوهو..." ضحك باسل ضحكة لم يكن يضحك مثلها قبلا، وقال ساخرا: "يا أيها العالم المجنون، لربّما أنت عبقريّ بين العباقرة، وبصراحة، لم أكن لأجاريك في هذا المجال قطّ سابقا، لكنّ العديد من الأمور تغيّرتْ. على كلّ، عندما ننقذ تلك الفتاة وتولد من جديد، فستكون مخلوقا أسمى من الذي أنت عليه حاليا."

"كوكوكو..." ضحك الشاب ساخرا هو الآخر قبل أن يكمل سخريته كلاما: "تغيّرت؟ أتساءل ما الذي تغيّر بك؟ لربّما إن أخبرتني فـلك مساعدتي عندئذ، وشيء ثانٍ، لا تنادني بالعالم المجنون."

"هوهوهو..." بادله باسل نفس أسلوب الضحك قبل أن يردّ: "لا تفرغ مياهك الثمينة في سطل رمل، فلن ينبت شيء ولا أنت بحاصد. لربّما يوما ما، إذا كنت بالمزاج المناسب، سأجعل جهودك تثمر، لكنّ ذلك سيحدث فقط إن بدأت بالاستماع إليّ."

"دعنا نركّز على المهمّ، أتريد أن تعلم ما الذي ستصير عليه تلك الفتاة أم لا؟"

حافظ أوبنهايمر فرانكنشتاين على نظراته العبوسة كونه لم يحبّ طريقة باسل في التكلّم معه، لكنّ اهتمامه بتلك الفتاة كان دائما، والآن بعد كلام باسل قد زاد اهتمامه بها أكثر. تنهّد ثمّ أجاب: "كوكوكو، لا تقلق، عملي هو جعل الرمل ينبت، فلم يسبق لجهد منّي أن ضاعَ، ولا شيء في يدي ساعَ."

كان أخوا وأنمار في تلك اللحظات الطويلة مستغربين من تصّرفات الشابّ أمامهم، فبعدما كان مغادرا غيّر رأيه وظلّ هناك جامدا بينما تتغّير تعبيراته في كلّ مرّة. كان ذلك نوعا ما مريبا وحقّا قرّر ذانك الأخوان ألّا يتعاملا معه من حينئذ فصاعدا، أمّا أنمار فكانت تفكّر في آخر كلمة قالها، المزعج. لقد كانت تعلم تماما ما الي قصده بها، لذا كانت مترقّبة ما يحدث.

لوّح أوبنهايمر فرانكنشتاين يده وقال: "سأنتظر هنا، لكنّ ذلك فقط لأنّه انتظاري لك سيستحقّ."


لم يجبه باسل بعد ذلك وترك الأمر كما هو عليه. كلّ ما أراد ان يسمعه هو جواب فقط لذا لم يتكلّم بعد ذلك، فبالتفكير بالأمر، كيف يمكن أن يكون مزاج باسل الحالي بعد فقدانه لمعلّمه الذي ضحّى من أجله؟

حدّقت أنمار إلى الشابّ أمامها واقتربت منه بعد وقت قليل ثم أشارت إلى البيضة المشعّة ونطقت أخيرا: "ما الذي أخبرك به؟"

تعجّب أخوا القطع من سؤالها وفكّرا في ما تقصده. لقد حدثت بعض الأشياء الغريبة للتوّ وخصوصا مع الشاب العجيب أمامهما، لكنّهما لم يفهما سببها مهما خمّنا.

نظر أوبنهايمر فرانكنشتاين إلى الفتاة الهادئة أمامه، وتفاجأ نوعا ما من فهمها للأمور بسرعة دون الحاجة إلى شرح شيء، فاستدار مغادرا بينما يقول: "طلب منّي انتظاره فقط."

أحسّت أنمار بالراحة لدرجة كبيرة فجأة كما لو أن جبلا قد أزيح عن صدرها، وبرقت عيناها ثم التفت إلى أخوي القطع وقالت بابتسامة هنيئة: "هل يمكن لأحدكما أن يأتي بطعام إليّ، وأرجوا أن يكون بالجزر."

ابتسم أخوا القطع وفرحا كثيرا لرؤية ذلك الوجه المشرق أخيرا بعد مدّة طويلة؛ لقد فهما ما الذي قصدته مباشرة بعدما ريا ذلك التعبير الذي اعتلى وجهها. انحنيا قليلا بعد ذلك وأجابا في نفس الوقت: "سمعا وطاعة يا سيّدتي الصغيرة."

لقد كانت تلك لحظة مفرحة، ولم يريدا أن يحتكراها وحدهما فنشرا الخبر بين القريبين إلى أنمار وباسل، فعمّ الفرح والسرور بسماع ذلك الخبر وعاد الأمل ليسطع بشدة في قلوبهم التي كادت تظلم وتستسلم تماما.

شاركت لطيفة وسميرة أنمار الفرحة بعدما سمعتا هذا الخبر، وصارتا أكثر تفاؤلا عمّا كانتا عليه من قبل وخصوصا بعد مشاركة أنمار الطعام معهما من جديد كما عهدتا.

مرّت بعض الأياّم حتّى مضى شهر آخر، وعندها حدث تغيّر في البيضة المشعّة أخيرا جعل قادة التشكيل وكلّ أتباع باسل القريبين إضافة إلى الأباطرة الثلاثة وكلّ رئيس عائلة مرموقة يحضرون.

استقّرت كلّ تلك الأشعّة التي كانت تنبعث منها، وبدأ صوت ما بداخلها يدقّ كما لو كان ضربات قلب، وبعدما ركّز المحيطون سمعهم جيّدا، وجدوا أنّها كانت صوتا لدقاّت قلب حقّا، إلّا أنّها كانت قوّية للغاية حتّى جعلتهم يشكّون في صحّة ذلك.

هزّت تلك الدقّات البيضة المشعّة في كل مرّة تدقّ بها، وتسارعت مع الوقت فاهتزّت البيضة المضيئة أكثر أيضا، حتّى أصبحت الدقّات طنينا متواصلا وجعلت البيضة تهتزّ بشكل متواصل، وفي الأخير أطلقت صوت صفير جعلهم كلّهم يسدّون آذانهم لقوّته.


صفيـــــر

تكسّر


تكسّرت البيضة المضيئة فجأة وتهشّمت إلى شظايا ضئيلة، وكلّ شظيّة بعد ذلك اختفت في الهواء كالرماد.

وبالطبع، لم تكن أنظار الحاضرين مركّزة على مثل هذه الأشياء، بل على الشخص الذي كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر لكلّ تلك المدّة، والذي فعلا ظهر من تلك البيضة كما أُخبِروا.

كانت نظرات الجميع متعجّبة ومستغربة، وأحسّوا جميعا بنفس الشعور الذي تملّك قلوبهم فجعلهم كلّهم يفكّرون في نفس الشيء: "أهذا بشر؟"

كان الشعور الذي تملّكهم مختلطا بمشاعر مختلفة، إذ أحسوّا بالاحترام والتقدير الفطريّ تجاه الشخص الذي ظهر أمامهم، وشعروا بالسكينة نوعا ما عندما تحسّسوا هالته التي كانت تنبعث منه، والرغبة في الخضوع له عندما حدّقوا إلى عينيه اللتين كانتا تريان عبرهم بسهولة.

عادوا إلى رشدهم بعد قليل من الوقت، ففكروا مرّة أخرى: "ماذا كان هذا قبل قليل؟"

لقد شعروا بإحساس غريب ولكنّه اختفى بعد مدّة لحظات جاعلا إيّاهم يظنّون أنّهم كانوا يتوهّمون لا غير، إلّا أنّ ذلك الشعور ظلّ محفورا في أعماق أرواحهم جاعلا إيّاهم لا ينسون ذلك الإحساس.

تطلّعوا إلى باسل الذي ظهر أمامهم، فوجدوا شعره الأحمر قد طال حتّى بلغ كتفيه، وطوله زاد فبلغ ستّة أقدام، وكانت عضلاته مصقولة بالرغم من أنّها لم تكن ضخمة إلّا أنّها كانت تبدو قاسية كالفولاذ إذْ برزت عبر ثيابه التي كانت ضيّقة عليه لصغرها.

كان نموّه ذاك سريعا نوعا ما مقارنة بالوقت الذي مضى، وتركهم ذلك مندهشين لقليل من الوقت، حتّى كُسِر الهدوء أخيرا بخطوة صنعتها أنمار ولا أحد آخر عندما تقدّمت إلى باسل.

نظر باسل إليها ثم رقّ قلبه فجأة، فشعر الجميع أخيرا بأنّ عينيه لم تعودا تريان من خلالهم. رمت انمار بنفسها عليها فعانقها هو الآخر قبل أن ينطق أخيرا: "لقد عدت."


سقطت دمعتان من عينيْ أنمار وأجابت: "افتقدتك بشدة!"

"وااااه"

صاح الحاضرون من الفرحة وتقدّم واحد بعد الآخر ثمّ أحاطوا بالاثنين عن قرب. رحّب كلّ واحد منهم بعودته على طريقته ودمعت أعين أمّه وعمّته سميرة إضافة إلى أعين توابعه القريبين منه، واكتملت فرحتهم أخيرا.

ابتسم باسل في وجوههم ثم قال: "يبدو أنّني أقلقتكم."

ظهرت جدّته من بين الحشد وعانقته كما فعلت أمّه وعمّته سميرة بالفعل ثم قلن: "لقد ظننّا أنّ اللعنة قد تمكّنت منك."

بادلهنّ باسل العناق وأجاب: "اللعنة؟ شيء كهذا لن يتمكّن منّي أبدا فلا داعٍ للقلق."

لقد كانت تلك هي اللحظة التي طال انتظارها، فسعد الكبير والصغير بمجيئها، وبسرعة أقيمت وليمة للاحتفال بعودة باسل السليمة من المجهول. لم يعلم أحد عن الذي حدث معه، ولا أحد لاحظ أيّ تغيّر به سوى نموّه الجسديّ، لذا كانوا مسرورين كثيرا لأنّهم لاقوه من جديد.

فقط، كان هناك شخص واحد ظلّ يحدّق إليه من بعيد بعينين عبوستين. كان ذلك أوبنهايمر فرانكنشتاين الذي تنهّد وتمتم: "لأجعلنّ الرمل ينبت يا أيّها المزعج."

كان هناك معقل جديد بني في مدينة العصر الجديد في الأشهر الماضية من أجل التشكيل، إذ أرادوا البقاء إلى جانب سيّدهم قدر المستطاع فمُنِحوا رغبتهم تلك من الكبير أكاغي، وكان موقعه في مركز المدينة في الواقع من أجل أن يكونوا دائما قريبين من أيّ خطر يحلّ عليها.

بني المعقل والمدينة نفسها من جديد كما حدث لأكاديميّة الاتّحاد العظمى؛ فكلاهما بني على أساس قويّ للغاية ولا يجب أن يدمّرا إلّا إن حدث شيء مهيب جدّا كما حصل قبل سنة.

وليس هذا فقط، حتّى العديد من المدن في العالم الواهن رمِّمت وزادت من شدّة حراستها وأمنها، ومتانتها عبر تدعيمها بكلّ الوسائل الموجودة من نقوش أثريّة وسحريّة وطاقة سحريّة. كلّ ذلك من أجل زيادة فرص النجاة إلى أقصى قدر ممكن، حتّى أنّه زِيدَ بذلك أكثر في أكاديميّة الاتّحاد العظمى أيضا.

بدأت التدريبات في أكاديميّة الاتحاد العظمى بالفعل كما كان مخطّطا بعد أسابيع منذ تلك الفاجعة قبل سنة واستُقطِب العديد من الطلبة العباقرة من كلّ أنحاء العالم مع حفاظهم على انتماءاتهم بالطبع؛ فتلك الأكاديميّة لم يكن هدفها سوى تنمية أولئك الذين يُعتبرون ذوي فائدة للعالم الواهن بمواهبهم.

كانت الفائدة الوحيدة التي كانت تتلقّاها في المقابل هي الحصول على عهد من كلّ طالب يقسم فيه على أن يستجيب ثلاث مرّات إلى الأكاديميّة في أيّ زمان ومكان من أجل الوقوف في صفّها وحمايتها شرط ألّا يضطرّ إلى معارضة وطنه الأصليّ، وإن حدث ووجد نفسه في موقف حيث يجب عليه مساعدة وطنه على إيذاء الأكاديميّة، فلن يستطيع لأنّه محرَّم عليه مدى حياته في العهد الذي عقده.

كانت الأكاديميّة أصلا في صفّ كلّ الأوطان في العالم الواهن، لذا لم يكن هناك خوف على وقوفها يوما ما في وجه أيّ إمبراطوريّة في العالم الواهن بدءا منها، فالأكاديميّة حاليا يترأّسها ممثّلين للأباطرة الثلاث بعدما كانوا هم أنفسهم في الأوّل ولكن استقالوا من أجل التركيز على أدوارهم الأساسيّة.


كان هؤلاء الممثّلين أشخاص ذوِي مكانة مرموقة أصلا في إمبراطورياتهم، ووجب أن يكون بهم ثقة عالية اكتسبوها بعد العديد من الأعمال المشرّفة التي كانت كلّها تهدف إلى تحسين عالمهم ككلّ وخدمة الجنس البشريّ دون تمييز. كان هذا الاختيار صعبا جدّا لكنّ الكبير أكاغي كان يضع في حسبانه شخصا مسبقا، ولم يكن هذا الشخص سوى الجنرال "كاميناري رعد"

لقد ساهم الجنرال رعد في زيادة أمن إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة كثيرا عبر نشر فرقه في جميع أنحائها وخصوصا فرقة السنبلة الخضراء التي كان مركزها العاصمة وقادها هو بنفسه. قيل أن تلك الفرقة جعلت من العاصمة أأمن مكان في العالم الواهن يمكن للشخص أن يعيش به نظرا إلى عدم وجود أيّ جريمة من أيّ نوع فيها خلال السنة الفارطة.

أمّا عن الإمبراطور أيرونهيد غلاديوس، فقد اختار الجنرال كروز الذي كان عونا له في كلّ الأوقات واشتهر بمساندته لجميع المواطنين دون تفرقة، حتّى أنّه كان معروفا بتحرير العبيد، وأكثر من ذلك، لقد كان قائد الجنرالات الأربع الذين لم يصوّتوا لشهاب جرم سابقا ولم يخونوا وطنهم.

وعن الإمبراطور أزهر هاكوتشو فقد اختار أخاه الثالث "أزهر زهير" الذي سيكون عونا له دائما بأخذه لهذا المنصب.

تحرّكت أوضاع العالم الواهن بكثرة وانعدمت العبوديّة في الظاهر على الأقلّ حتّى أصبح هناك عدد أكبر من الناس لديهم فرصة في الغدو سحرة، وبذلك ستزداد قوّة العالم أجمع بسرعة كبرى. أصبح الآن أيّ شخص قادر على دخول اختبارات أكاديميّات السحر من أجل تعلّمه، ولم يعد هناك تمييز في ذلك قطعا، بالرغم من بقاء التمييز بين الناس، فالعنصريّة لا تختفي بتلك البساطة.

كان هذا أحد أهداف باسل؛ فحتّى لو لم يكن قادرا على توحيد العالم أجمع، على الأقلّ سيكون قادرا على تحقيق مثل هذه الأمور التي ستجعل من العالم الواهن ينمو بشكل كبير وواضح، وكلّ ذلك من أجل حماية أمّه، بالرغم من أنّ الأمر لم يعد يقتصر على أمّه فقط بعد الآن.

واليوم، اجتمعت العديد من الشخصيّات المؤثّرة في العالم الواهن لرؤية هذا الشخص الذي كان له الأثر الأكبر في تغيير أوضاعهم، وقلب عالمهم رأسا على عقب. أرادوا أن يشاهدوا هذا الشخص العظيم الذي سيكون له مستقبلا أعظم لا محالة، وبالطبع الكثير منهم أرادوا فقط أن يتقرّبوا منه بأيّ طريقة لضمان جزء ولو صغير من ذلك المستقبل القادم.

جلس الأباطرة الثلاثة على طاولة واحدة، وبالطبع أخذ جانبهم باسل، إضافة إلى أنمار التي لم تفارقه منذ استفاق، حتّى أنّها كانت تقبض يده ولم تفارقها كلّ ذلك الوقت. كانت كلّ الأعين هذه المرّة عليه وعلى أميرة إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة التي شاع عنها الكثير بخصوص قوّتها ودهائها الكبير وجرأتها المدهشة التي تجلّت في مواجهة الأعداء وترك نفسها تسجن حتّى تتلاعب بالعدوّ كما تشاء.

كانت الأنظار مركّزة طوال الوقت عليهما وارتعب الناس أكثر عندما أطالوا التحديق إليهما كونهم يدركون عندها أنّ ذانك مجرّد شابّين بالسادس عشرة سنة فقط، إلّا أنّهما بلغا ما لم يقدر أيّ شخص على بلوغه أو حتّى فكّر في فعل ذلك من قبل. لقد كان ذانك الشابّان هما المثال الحيّ لمستقبل هذا العالم.

كانت النقاشات مستعمرة القاعة الكبيرة، وكلّ مجموعة تخلّل حديثها بطل البحر القرمزيّ وحادثة تخصّه، وفجأة أصبحت الأحاديث كلّها عن نفس الشيء، وخصوصا بعدما كانت أنمار تقبض يد باسل كما لو أنّها تخبر العالم الواهن أنّها هي امرأة باسل وهو رجلها.

كانت الأحاديث تدور حول ما إذا كانت هناك فرصة ليتّخذ بطل البحر القرمزيّ خطيبة ثانية، نظرا إلى ما قد شاع عن كون أميرة الشعلة القرمزية خطيبته مسبقا. كانوا قد فقدوا الفرصة في الحصول على المرتبة الأولى، ولكن إن كان شخصا كباسل بمثل هذه المرتبة في العالم الواهن إذ لا يحدّد مكانته لا نبالة ولا أيّ طبقة اجتماعية بل جعل لنفسه مكانة مرموقة خاصّة، فسيكونون سعداء حتّى بالحصول على المرتبة الرابعة.

اقترب شخص ما من الأباطرة الثلاثة فانحنى وقدّم نفسه: "أرجوكم اسمحوا لي أنا نورثرولر كافل أن أقدّم نفسي لكم."

أماء الإمبراطوران هاكوتشو وغلاديوس رأسيهما له فقط، أمّا الكبير أكاغي فبدا يعرفه، فأجاب: "أوه، خليفة عائلة نورثرولر، لقد قدّمت خدمة جيّدة لتشكيل بطل البحر القرمزيّ عندما أرادوا الذهاب إلى الرياح العاتية، لقد وعدتك بمقابلة مع سيّد التشكيل كمكافأة، لذا ها هو ذا مستعدّ لذلك."

كان الكبير أكاغي قد أحكى لباسل طبعا عن هذا الأمر سابقا، ولم يمانع مقابلة الأشخاص في هذه الوليمة التي أقيمت من أجله بعد عودته المنتظرة.

اقترب نورثرولر كافل من باسل وأنمار، ثم انحنى قليلا ورفع رأسه قائلا: "حقّا جمال الأميرة الذهبيّة لا يقارعه جمال في عالمنا الواسع، ولا رجل يستحقّه غير بطل البحر القرمزيّ العظيم. إنّكما لزوج متكامل!"

حدّق إليه باسل وأنمار دون أيّ تغيّر في ملامحهما، فجعله ذلك يتململ في مكانه مبتسما بتصنّع ولا يعلم ماذا يفعل كونه لم يتوقّع تلك الاستجابة. وبالطبع كانت هذه الاستجابة طبيعيّة من باسل وأنمار؛ فباسل لم يكن يهتمّ لآراء الآخرين بشأن هذه الأمور، ولا أنمار كونها كانت تعتقد ذلك من زمن طويل ولا حاجة لشخص آخر أن يقول ذلك حتّى تقتنع أو يكون حقيقة.


كان تعبير باسل جامدا، بينما يحدّق إلى كافل الذي توقّف أخيرا عن صنع تلك الابتسامة وفهم مقصده؛ "لو كان هناك شيء بعقلك يجب عليك قوله، فتقيّأه بسرعة ولا تضع وقتي." فكّر كافل بذلك بعدما فهم أنّ نظرات باسل تقول ذلك.

انحنى من جديد وتكلّم: "اليوم، جئت ألتمس قلبك الواسع أن يقبل أختي الصغرى." حدّق إلى ركن ما فأماء لأخته التي ظهرت بين الناس، وتركّزت عليها الأنظار فجأة.

غرمت الهمساتُ المكان، وحتّى لو اختلفت أساليبها فـفحواها كان واحدا: "ذلك الشقيّ، لقد سبقنا." لقد أرادوا أن يستغلّوا هذه الفرصة النادرة للتكلّم مع باسل، لكنّ ذلك الشابّ قد سبقهم إلى ذلك ممّا جعل نسبة نجاحهم تقلّ.

كانت النظرات تقيّم فتاة النورثرولر وظهرت العديد من التعبيرات الحسودة نظرا إلى جمالها الخلّاب والشرس، وأسلوبها النبيل في التحرّك، فكانت بارزة وسط الناس كلبؤة بين القطط، وكانت نظراتها الحادّة من عينيها الذهبيتين ملكيّتين بالفطرة، وكان لون بشرتها قريبا للسمرة أكثر من البياض، فكان جمالها متميّزا كما كان أسلوبها الراقي ولم يكن ليلائمها شخص غير أسد يحكم بهيمنة كبيرة.

انتشرت الهمسات من جديد: "فلنرَ إن كانت اللبؤة الذهبيّة ستكون قادرة على الوقوف في وجه الجنيّة الذهبيّة ومقارعتها."

كانت أنمار كمثال عن المستوى الذي يجب أن تكون عليه المرأة قبل أن تعرض نفسها على باسل، لذا وجب على أيّ واحدة العبور من ذلك الاختبار أوّلا قبل أن تصل إلى باسل.

انحنت اللبؤة الذهبيّة قليلا كتحيّة ثمّ رفعت رأسها وقدّمت نفسها ولم تخشَ شيئا، كانت فخورة ولم يكن ليخرج كلامها من فمها لشخص ما إلّا وهي تنظر إليه بعينيها المتألّقتين: "أنا نورثرولر زهاء، أعرض نفسي عليك يا السيد باسل."

حدّقت بعد كلامها إلى أنمار كما لو أنّها تخبرها أنّها أتت، وستأخذ هذه المكانة لا محالة.


ابتسم باسل بعدما رأى هذا الأمر يحدث، جاعلا شابّيْ النورثرولر يظنّان أنّهما أحسنا الفعل، إلّا أنّهما لم يعلما أنّ باسل ابتسم في الواقع بسبب ما سيحدث، ولهذا لم يزد عن تلك الابتسامة شيئا.

وقفت أنمار في مكانها ثم حدّقت إلى نورثرولر زهاء التي كانت تبادلها تلك النظرات، فأطالت إحداهما النظر إلى الأخرى حتّى بدأت فتاة النورثرولر فجأة تُغمر بزرقة عينيْ أنمار إلى أن وجدت نفسها مغمورة بعالم أزرق، وعندما حاولت التنفّس لم تستطع.

بقيت تختنق في ذلك العالم حتّى فقدت جميع أنفاسها وفقدت وعيها، وعندئذ وجدت نفسها على الأرض بشكل خاضع، بينما تقطر عرقا وتتنفّس بصعوبة بالغة غير قادرة على رفع رأسها لتنظر إلى أنمار بشكل مباشر.

تفاجأ الناس جميعا ولم يعلموا ما حدث حقّا. لم يكن هناك استخدام للسحر أو أيّ مواجهة بالهالات أو ما شابه على الإطلاق، ومع ذلك أصبحت اللبؤة الذهبيّة في ذلك الوضع المزري حيث لا تستطيع استجماع أنفاسها حتّى.

نظر كافل إلى أخته التي سقطت بعدما كان حالها يتغيّر دون أن يعلم السبب؛ فكانت ترتجف وتسارع تنفّسها حتّى اختنقت وبسبب ذلك زاد ضغط دمها وارتفعت ضربات قلبها حتّى هلعت وسقطت على الأرض مصدومة. كل ذلك حدث بعدما رأت نظرات أنمار فقط.

ارتعب الناس ممّا حدث ونظروا إلى أنمار بأعين يتملّكها الخوف، ومن كان لديه بعض الأفكار الجرّيئة خبّأها في أعماق قلبه حتّى دفنها وجعلها تختفي بلا ظهور لها لمرّة ثانية؛ كلّهم تخلّوا عن محاولاتهم التي كان مصيرها واضحا.

اندهش كافل كثيرا وساعد أخته على الوقوف، حتّى نجحت بعد عدّة محاولات، وعادت لرشدها أخيرا، وعندئذ سألها: "ما بك؟ ما الذي حدث لك؟"

لم ترفع نورثرولر رأسها هذه المرّة إطلاقا وتحدّثت: "لقد رأيت... رأيت العالم الذي أحاول دخوله عبر عينيها. لا... بل جزء منه فقط، فأنا لم أشهد بذلك العالم شيئا حتّى."


لم تفعل أنمار شيئا سوى التحديق إليها بعزيمتها، ونيّتها، وإرادتها، فجعلتها ترى العالم الذي تعيش فيه مع باسل؛ جعلتها تدرك اختلاف عالميهما الكبير.

تمتمت زهاء لأخيها كافل: "لنعد يا أخي، فذلك العالم أبعد ممّا نستطيع بلوغه."

فهم نورثرولر كافل لمَ ابتسم باسل أخيرا، وعلم أنّ جرأتهما تلك لم تكن سوى شيء مسلّ له إذْ كان يعلم مآلها بالفعل، وعلم أيضا أنّه لم يستهزئ بابتسامته تلك، وإنّما ابتسم كوْن بعض الأشخاص في هذا العالم لا يعلمون أنّ تكبّرهم ذاك أكبر منهم بكثير ولا يستحقّونه، وبسبب ذلك لا يرون حقيقة كونهم غير جديرين بالوقوف بجانب الكبار الحقيقيّين.

جلست أنمار بعد ذلك وقبضت يد باسل من جديد، ثمّ حدّقت إلى الجمع الذي نظر إليها باحترام لهيبتها، وخيبة أمل تقبّلوها بسرعة. لقد كانت حقّا امرأة تستحقّ الكون بجانب بطل البحر القرمزيّ، ولا واحدة يمكنها التدخّل بينهما بتلك السهولة.

قالت بعد ذلك بكلّ برودة: "أجر الإقامة في عالمنا غالٍ."

لقد كان ذلك شيئا طبيعيّا بالنسبة لها فكانت هادئة في قولها ذلك.

نظر كافل إليها وإلى باسل، فبدا كما لو أنّه ينتظر منه شيئا، إلّا أنّ باسل لم يفعل شيئا سوى رفع حاجبه كما لو كان يقول له: "لقد سمعت ما قيل وكفى."

تقبّل كافل ذلك وتراجع مع أخته خائبيْ الأمل، وحمد العديد من الأشخاص ربّهم لأنّهم لم يجرّبوا حظّهم بعد رؤيتهم الأخوين على ذلك الحال.

استكملت الوليمة كما كان مقرّرا، وغادر باسل وأنمار بعدما قابلا الكثير من الأشخاص للعديد من الأسباب إلّا أنّ غالبها كانت محاولات للتقرّب منهما كمحاولة ضيافتهما مثلا وعرض الخدمات عليهما أيضا وما إلى ذلك...

جلس باسل وأنمار بغرفة لوحدهما، بنفس الغرفة التي ظلّت فيها تنتظره لمدّة سنة كاملة، فابتسم عندما فكرّ في ذلك ونظر إليها، ثمّ ومض في عقله صورة معلّمه يقول: "حبّها له حقّا يستطيع تجاوز آلاف السنين واختراق العوالم بالرغم من أنّها صغيرة."

تمتم باسل لنفسه بعد ذلك: "شكرا لك أيّها المعلّم"

كان يشكره عن جعل أنمار بجانبه عندما لم يكن يريد.

حدّق إلى عينيْ أنمار بعدما اقترب منها، ووضع يده على وجنتها فتحسّسها وقبّلها بعد ذلك على شفتيها مباشرة. كانت تلك القبلة مليئة بالشغف تجاهها، فأحسّت أنمار بالدفء كثيرا، ووصلها شغفه ذاك فنزلت دمعة من عينها، ولامست يده التي تحمل وجهها، فـبادلته القبلة.

بقيا على ذلك الحال لثوان قبل أن يتوقّف باسل جاعلا الزمن يتحرّك أخيرا بعدما بدا كما لو توقّف لعصور، فنظر إليها بعينين جدّيّتين وقال: "لقد حزنت على معلّمنا لسنة كاملة، والسبب الذي جعلني أتأخّر كثيرا هو عدم تقبّلي ذلك حتّى أنّني لم أرد قبول ما أراد وهبي، لكنّني تجاوزت كلّ ذلك الآن."

"أنا أعلم حزنك، لذا دعينا نحزن هذه الليلة، وننهي هذا مرّة واحدة."

أومأت رأسها له، فأكمل: "يا أنمار، لقد علِمتُ الكثير، أصبحت أعرف الكثير، بقدر ما لا يمكنني تجاهله إطلاقا. هناك العديد من الأشياء التي يجب عليّ إنجازها أثناء عبوري المسار الروحيّ، هناك عدّة أهداف لابدّ لي من تحقيقها، وهناك ستائر يجب إماطتها."

"لقد قطع معلّمنا طريقا، وأراني إيّاه جيّدا، وهذه المرّة على طريقتي، سأصنع طريقي، وأبلغ ما ناشده يوما، وما لم يكن يضع له حسبانا."

"أعلم أنّني اختِرت، لكن يبدو أنّ ذلك طريقة لبقة لوصفها فقط، فهناك العديد من الأمور الخفيّة والتي علمت عن الكثير منها، لكن الشيء الأساسيّ ما زال مفقودا، ولهذا سأجده يوما ما."

صنع باسل بسمة مغمضة العينين: "لقد تغيّرت نظرتي إلى العالم كثيرا، وقليل ما بقي على حاله، لكن أنت يا أنمار ما زلت أنت."

عانق أنمار عندها وقال: "هل ترافقينني في مساري الروحيّ يا أنمار؟"

ابتسمت أنمار وبادلته العناق مجيبة بعد ذلك: "حتّى يفرقنا الموت."

***

مضت تلك الليلة الهانئة، وبعدما واسى الاثنان بعضهما قرّرا ما سيفعلانه وحدّدا أهدافهما القريبة. كان باسل يستفسر عن بعض الأمور من أنمار في الصباح بعد الفطور، وعندئذ سمع بالحادثة قبل ستّة أشهر، والتي لم يعلم أحد حتّى الآن عن ماهيتها، إلّا أنّ باسل شكّ في بعض الأشياء التي جعلته يعبس ويضيق عينيه، وخصوصا عندما فكّر في كلمة "ختم" تلك.

مرّ باسل على أمّه والعمة سميرة، ثم رأى أحوال تشكيله فأعطاهم بعض النصائح لتحسين مهاراتهم كالعادة، ثمّ ودّع الأباطرة الثلاثة الذين شدّوا رحالهم، وأمضى بقيّة اليوم مع جدّته التي انتقلت للعيش مع عائلته. وهكذا ولّت أيّام أخرى دون حصول أيّ تغيّر، وتمتّع باسل بتلك الأوقات لحظة بلحظة وقدّرها كثيرا.

كان يعلم الآن أنّ هناك طريقا طويلا وشاقّا ينتظره، وقليل من الأشخاص سيكونون في جانبه بحلول ذلك الوقت. كان يعلم أنّه سيأتي وقت يودّع فيه عائلته الصغيرة التي لن تعيش طويلا. كان عمر البشر والسحرة الروحيّون مختلف للغاية، وقُدِّر عليهم الافتراق في نهاية المطاف لا محالة، لكنّ باسل لم يكن جشعا، وفقط رضي بما يملك حاليا وأراد أن يعيش مع تلك العائلة الصغيرة ما تبقّى من سنوات.

كانت حياة البشر مختلفة كثيرا عن حياة السحرة الروحيّين، ولهذا كان حامدا ربّه على وجود فرصة له على الأقلّ حتّى يعيش مع عائلته. كان السحرة الروحيّون يعيشون لآلاف السنين، بينما كان أكبر معمّري البشر يتراوح عمره بالمائة، ولهذا كان هناك اختلاف بينهما كالذي بين السماء والأرض ولم يكن هناك طريقة لجمعهما قطعا.

كانت كلّ لحظة يمضيها باسل حاليا ثمينة للغاية، وحاول تثمينها أكثر فأكثر بدل محاولة تمديدها دون الحصول على فائدة، وأكثر من ذلك، لم يرد أن يجرّ معه عائلته الصغيرة إلى هذا المسار المديد وجعلها تعاني على حساب توفير حياة طبيعيّة كما ناشدت أصلا.

كان باسل سابقا ليحاول تمديد عمر أمّه والأقربين منه، إلّا أنّ ذلك له عواقب وخيمة فهو خرق لقوانين العالم الطبيعيّة، فلكلّ شيء ثمن، ومثل هذه الأشياء ثمنها باهظ. أمّا الآن، فكان الأمر مختلفا كثيرا، وبنظرته الحالية إلى العالم، كان يعلم أنّه يجب عليه ترك عائلته الصغيرة تعيش بهناء كما شاءت في المقام الأوّل.

تجوّل باسل هنا وهنالك طيلة تلك الأيّام، وذات يوم، كان مستلقيا على تلّ أخضر يتحسّس الهواء العليل الذي يداعب بشرته، كان يتأمّل ويستشعر ما حوله، وبدا كما لو أنّه يبحث عن شيء ما في الواقع عبر استشعاره، وبالرغم من أنّ بعض الناس مرّوا بجانبه من حين إلى آخر، إلّا أنّهم لم يدركوا ما كان يفعل، وخمّنوا أنّه يسترخي فقط، فلم يزعجه أحد.


فتح عينيه بعد مدّة لا يعلم أحد كم استغرقت، ثمّ نظر إلى الأرض وتمتم: "لقد تضرّرت هذه الأرض كثيرا وحتّى بهذا الأساس الجديد فستكون رمادا عندما يصبح العالم روحيّا، ولكن سيكون صعبا ترميمها من جديد قبل أن يصبح هذا العالم روحيّا." فكّر لقليل من الوقت ثمّ أكمل التحدّث مع نفسه: "كما توقّعت، يجب عليّ تتبّع خطى المعلّم في هذا والاستعداد جيّدا قبل الترحال. يجب أن نبدأ في القريب العاجل."

التفت باسل فجأة وحدّق إلى مكان محدّد لم يكن به شيء في الواقع، لقد كان مجرّد امتداد للتلّ إلّا أنّه كان هناك صخرة بحجم الإنسان فقط. فتكلّم وبدا كما لو كان يخاطب الهواء الطلق: "لقد سمعتني. سنبدأ بعد أسبوع."

تموّج الهواء الطلق فوق الصخرة فجأة وتشوّهت صورته قليلا فظهر بعد ذلك شخص ما، كانت عينا هذا الشخص كبيرتين في وجهه الصغير، وعندما عبس بدا كطفل مستاء، وحتّى عندما تكلّم لم يكن صوته عميقا كثيرا حتّى لو كانت فيه رنّة صوت الرجال: "حسنا، حسنا. لقد كنت ابنا جيّدا طوال هذه الأيّام لكنّك تصبح متسلّطا هكذا عندما تخاطبني، أتظنّ محتوى الاتفاق كان أصير عبدا لك؟"

ابتسم باسل وقال ساخرا: "لا تقلق فأنا لا أستعبد الناس، ذلك شيء عفى عليه الزمن في نظري، ولكن نظرا إلى الاتفاق، أليس هذا أيضا أحد واجباتك طبقا لدورك أيّها العالم المجنون؟"

"أنت... حقّا...!" لم يعلم أوبنهايمر ماذا يقول، وخصوصا بعد استمرار باسل في مناداته بالعالم المجنون رغم كلّ محاولاته في تصحيح ذلك.

لوّح بيده والتفت بتطاير معطفه الأسود بالريّاح، وقال: "ألاقيك هنا بعد أسبوع إذا."

ابتسم باسل بعدما أغاظ ذلك العالم المجنون؛ كان يستمتع في الواقع بردّات فعله هذه.

تمتم لنفسه بعد مغادرة أوبنهايمر فرانكنشتاين بوجه جدّي: "والآن فلنجرّبها، أظنّها ستكون صعبة كونها المرّة الأولى."

جلس متربّعا وفجأة ارتفع إلى السماء على ذلك الحال، وبالطبع كانت هناك رياح طفيفة لكنّها كانت كفيلة بحمله ورفعه إلى السماء عاليا جدّا، حتّى فاق السحاب وزاد ارتفاعه أكثر فأكثر، إلّا أنّ تلك الأجواء لم تؤثّر عليه نهائيّا بسبب مستواه السحريّ والطاقة الهائلة التي غطّت جسده، كانت تلك الطاقة كبيرة لدرجة لا تُخيّل ولم يسبق لباسل أن سمح لطاقة العالم أن تنجذب إليه بتلك الكمّيّات الضخمة.

لقد كان جسده، وروحه، وتحكّمه وكلّ شيء كان يساعده على ترك طاقة سحريّة كبرى تنجذب إليه في مستوى آخر تماما عمّا كان عليه قبلا، وخصوصا جسده وتحكّمه اللذين كانا حقّا مرعبين لدرجة لا توصف، لم يكن حتّى أباطرة الروح قادرين على التحكّم بتلك السلاسة والبساطة.

ارتفع في السماء كثيرا ولمدّة طويلة جدّا حتّى بلغ الفضاء الخارجيّ كلّيّا، فإذا به يرى اتسّاع الكوكب الذي يعيش عليه ولم يرَ نهايته لكبره. كان ذلك كوكبا ضخما للغاية وامتدّ قطره لعشرات آلاف الأميال.

كانت الطاقة السحريّة تحمي جسد باسل تماما وتنفّس بشكل طبيعيّ حتّى بذلك المكان، وفجأة أبطل الريّاح تحته وترك نفسه يطوف على مدار العالم الواهن ببطء وفجأة أحاطه ضوء فضّيّ وغطّاه بالكامل ولم يعلم أحد عن الذي كان يحدث سواه والخالق.

مرّ وقت طويل حتّى حلّ الظلام في مدينة العصر الجديد، وتساءلت أنمار عن مكان باسل، كونها أردتها أن يأتي ليتعشّى معهنّ.

كان ذلك الليل هادئا، وفجأة، ظهر من سمائه المظلمة شعاع اعتقد الناس في البادية أنّه شهاب مارّ، ولكن بعد مرور قليل من الوقت لاحظوا اقترابه منهم فاندهشوا وصاح أحدهم: "إنّه نيزك!"

هرب الناس من اتّجاهه وبعد اقترب الشيء أكثر، صرخ أحدهم كان ساحرا، ولاحظ ما كان ذلك: "لا، إنّه بشر."

بااام

سقط ذلك الشخص على الأرض فخلّف حفرة كبيرة للغاية، وعندما اقترب منه الناس وجدوا جسده محترقا من عدّة جهات بينما كان مستلقيا على بركة من دمائه الخاصّة.

جاء التشكيل بسرعة مع الحارس جون ونادوا أنمار أيضا، وعندما حضروا أخيرا تعرفّوا على ذلك الشخص؛ وبالطبع لم يكن سوى باسل الذي سقط من السماء لسبب ما.


هلعت أنمار ولم تعلم ما حدث فسارعت ومددته بإكسير العلاج ثمّ أخبرت شي يو وبعض سحرة العلاج في التشكيل أن يسارعوا في علاجه وخصوصا روحه، فبالرغم من أنّ جسده كان متضرّرا بشكل كبير، إلّا أنّ روحه كان متضرّرة أكثر من ذلك.

فتح باسل عينيه بصعوبة بالغة بعدما قدِّم له العلاج لبعض الوقت، وبينما لا يزال يعالج، حاول التكلّم لكنّه تقيّأ قدرا كبيرا من الدماء مرّة واحدة، فجعل أنمار تهلع أكثر، لكنّه حاول مرّة أخرى وتمتم: "لا قـ-قلق."

هدأت أنمار عندما سمعت كلامه قليلا وارتاح بالها فأمرت بحمله إلى الغرفة التي أمضى فيها سنة كاملة من أجل إكمال علاجه هناك. لقد كان هذا الأمر عجيبا وحتّى بعد سؤاله لم يتلقّوا إجابة مرضية أو واضحة إطلاقا، إلّا أنمار التي شكّت في بعض الأمور وسألته مباشرة: "هل جرّبتها؟"

حدّق باسل إليها ثمّ استجاب ببطء كونه مازال مريضا حتّى بعد مرور ثلاثة أيّام في الواقع: "ذلك صحيح، لكنّني ضعيف للغاية على مستواها، وأكثر من ذلك، أنا لست مالكها الأصليّ، لذا لا أعتقد أنّه سيحدث وأرتاح باستخدامها قبل أن أبلغ مرحلة معيّنة."

فهمت أنمار ما عناه، فلمحت عبوسا منه جعلها تفهم شيئا آخر فسألت مباشرة: "ماذا اكتشفت؟ فانت لم تكن لتجرّبها دون استخلاص فائدة ما."

اختفى عبوس باسل وتفاجأ بسؤال أنمار؛ حقّا تفهمه في كلّ الأوقات. ابتسم قبل أن يجيب: "ما يكفي."

سعل قليلا ففكّر لقليل من الوقت قبل أن يكمل إجابته التي انتظرتها أنمار بصبر: "في ذلك اليوم، خُتِم عالمنا تماما عن باقي العوالم الأساسيّة والثانويّة دون استثناء."

وقفت أنمار فجأة من مكانها متفاجئة كثيرا بسبب ما قاله باسل وعلمت أخيرا ما المعنى وراء تلك النيّة العظيمة وكلمة "ختم". لقد كان ذلك غامضا جدّا، لكنّ باسل كشف ذلك الغموض عبر طريقة أكثر غموضا، وبالطبع كانت أنمار تعلم عن كيفيّة تحقيقه ذلك.

ومع ذلك، ومضت فكرة في بال باسل جعلته يعبس من جديد ماحيا تلك الابتسامة من على محياه، فأكمل: "لديّ شكّ بأنّ عالمنا ليس العالم الوحيد الذي حدث له هذا الشيء، وهذا يؤرقني ويجعلني أتساءل أكثر عن سبب حدوث ذلك، وعن ما قد يكون حدث بالضبط بين العوالم الروحيّة!"


عمّ الصمت لقليل من الوقت، وعندما فكّر باسل جيّدا قرّر ما يجب فعله لمرّة أخيرة فقال: "على كلّ، ختم عالمنا في صالحنا كثيرا، ويجب أن نستغلّ هذا الوقت جيّدا، فهذا الختم سيدوم لمدّة لا بأس بها على ما أظنّ، وبحلول ذلك الوقت يجب أن نكون مستعدّين لأسوء السيناريوهات."

كان في الواقع تحقيق مثل هذا الأمر شيئا في غاية الصعوبة، إذ تحتّم عليهما منذ الآن حتّى موعد انكسار الختم جعل العالم الواهن في نفس مستوى العوالم الروحيّة كي تكون لديهم فرصة ولو ضئيلة في مواجهة الأعداء على الأقلّ.

فكّرت أنمار أيضا وسألت: "ما هو أسوء السيناريوهات؟"

تنهّد باسل عندما فكّر بذلك، ولم يسعه سوى تمنّي عدم حدوث ذلك، لكنّه أخبر أنمار رغما عن ذلك.

لقد كان وجهها شاحبا عندما سمعت بما هو محتمل حدوثه في يوم ما من المستقبل، فشدّت قبضتيها أكثر كما اشتدّت عزيمتها.

تنهّد باسل ثمّ فكّر في شيء ما مرّة أخرى، وهذه المرّة لم يشارك تلك الأفكار مع أنمار. شغل باله صاحب تلك النيّة فإذا به يفكّر في الشخص القادر على ختم العوالم كلّها عن بعضها. وإن كان هناك شيء واحد كان متأكّدا منه، فهو التضحيّة التي تطلّبها ذلك الأمر، لأنّه حتّى بمستويات السلطنة، كانت التضحية غالية الثمن كثيرا!

راودته شكوك بأحوال العوالم حاليا، وحيّرته، وخصوصا عندما فكّر في الشخص الذي قد يكون ضحّى حتّى يضع الختم، وفكّر في ما جعل أصلا ذلك الشخص يضحّي. والآن بجمع كلّ على كلّ، صارت حتّى أسوء السيناريوهات التي أخبر أنمار عنها تبدو طفيفة.

قد يكون لديه بعض الأهداف الجديدة، لكن يبدو أنّ هدفه الأوّل لم يتغيّر وما زال قائما، وهو جعل العالم الواهن عالما روحيّا يستطيع حماية نفسه من أيّ شيء، ولكن بعدما علم عن الكثير من الأشياء، صار ذلك الهدف يبدو صعبا للغاية وتحقيقه قريب للمستحيل.


خاطب أنمار قائلا: "يا أنمار، سأذهب في رحلة عبر العالم الواهن من أجل الاستعداد لتحوّل عالمنا إلى عالم روحيّ، وبعد ذلك سأغادر إلى قارّة الأصل والنهاية مباشرة."

عبست أنمار ثم فهمت المغزى من كلامه، فسألت بالرغم من معرفتها الإجابة: "ألا يمكنني مرافقتك؟"

رفع باسل يده بصعوبة ثم وضعها على وجنتها: "أنت تعرفين أنّه ليس قضيّة يمكن أم لا، إنّما فقط أحتاج شخصا ما ليبقى هنا أثناء عدم وجودي. أحتاجك أن تبقي حتّى تعلّمي التشكيل الفنون القتاليّة التي سأمنحك إيّاها، وإرشادهم حتّى يخترقوا كلّهم إلى قسم مستويات الربط الثاني بأسرع وقت ويتقدّموا فيه بشكل أسرع."

تنهّدت أنمار، ثمّ قبضت يده وردّت: "حقّا... لا أحبّ بعض المرّات مهارتك في الإقناع."

ابتسم باسل ثم قَبّل رأسها ثم نام مباشرة بعد ذلك، لقد كان مصابا بشدّة وكان عليه أن يرتاح من أجل الرحلة الطويلة التي تنتظره.

***

مرّ يومان وشُفِي باسل روحا وجسدا، إلّا أنّ عقله بقي مشغولا طيلة الوقت فتدبّر باليومين الباقيين حتّى صفّى كلّ الشوائب التي غمرت بحر روحه، وذهنه الذي كان مشوّشا، وأعاد تدوير طاقته السحريّة بتفريغها وتركها تُملأ طبيعيّا من جديد.

كانت مثل هذه العمليّة بسيطة للغاية بالنسبة له حاليا، ولم يكن يحتاج للتركيز إلّا قليلا أثناء عملها، كما لو اعتاد على فعلها مرات لا تحصى.

فتح عينيه بعد مدّة قصيرة من انتهائه وحدّق إلى الغرفة التي تحيط به، ثمّ برق بؤبؤاه فجأة بضوء خافت وعندما نظر إلى العالم بهما، استطاع رؤية عالم آخر لم يسبق له أن شاهده.

كانت هناك أسماك ذهبيّة كلّ واحدة منها بحجم اليد تطفو في الغرفة، وبدا كما لو كانت تسبح في نهر ملتوٍ كان يتموّج بطريقة غريبة وغير متّزنة، فكان يلتفّ على نفسه ويلتوي بطرق مختلفة مشكّلا عدّة مسارات افترقت فيها الأسماك الذهبيّة؛ كلّ مجموعة منها أخذت اتّجاها.

نظر باسل إلى ما يحدث أمامه بحماس، فحتّى لو كان يعلم عن هذه الأشياء، إلّا أنّ النظر إليها بعينيه وتجربة هذا الأمر بشكل حيّ لمختلف تماما. أراد أن يرى ما يعلم، فخرج من الغرفة إلى المدينة وتتبّع مسار النهر الملتوي حتّى وجده مجرّد جزء بسيط من بحر لا نهاية له.

كانت مدينة العصر الجديد تفور بطاقة العالم التي تشكّلت على صور تمثّل الحياة نفسها؛ تقلّبت أمواج ذلك البحر وغاصت فيه أنواع مختلفة من المخلوقات المائيّة، وكان بعضها مجرّد أسماك صغيرة كتلك الذهبيّة، وكان الآخر يمكنه الارتفاع وبلوغ السماء كتنين عتيق كما في الأساطير.

كانت أرضُ مدينةِ العصر الجديد متوهّجةً في نظر باسل، ومنها انبعثت رائحة زكيّة تهدّئ الروح وتغذّي الجسد، وعندما تتبّع مسار الرائحة أحسّ بوريد يخترق أعماق الأرض أسفله حيث كان مليئا بطاقة العالم بشكل وفير للغاية؛ كان هذا هو سبب نصح إدريس الحكيم له سابقا ببناء المدينة فوق هذه الأرض؛ فعندما يصبح هذا العالم روحيّا، لا شكّ أنّ ذلك الوريد سيكون أساسا مذهلا كثيرا.


تمتم باسل لنفسه بينما يومئ برأسه: "لا عجب في بقاء هذه الأرض حيّة حتّى بعد تلك الفاجعة!"

***

ذهب بعد ذلك إلى معقل التشكيل ورأى أحواله وصرف وقتا هناك، فودّع أتباعه القريبين وذهب مباشرة إلى أنمار التي كانت في بيت أمّه والعمّة سميرة وجدّته، ثمّ قضى بعض الوقت معهنّ قبل أن يستعدّ للمغادرة في النهاية.

" " "رافقتك السلامة يا باسل" " "

قلنها معا في نفس الوقت بعدما ودعّنه بعناق جماعيّ فقط دون بكاء، فلقد استعدن لهذا جيّدا عندما علمن بالأمر، أمّا هو فلم يسعه عندئذ سوى الشعور بالدفء والاعتزاز بهذه اللحظات كما اعتاد أن يفعل.

***

كان باسل حاليا يقف على نفس التلّ الذي التقى فيه بـأوبنهايمر فرانكنشتاين سابقا، ودون أن يحتاج للكلام ظهر ذلك الأخير من العدم مرّة أخرى وتحدّث: "إذن، ما وجهتنا؟"

حدّق باسل بعينين تبرقان إلى العالم من جديد، واستشعر ذلك الوريد مرّة أخرى وأجاب: "ليس صعبا، سنبحث عن أشياء، ونضع أشياء، ثمّ ننتظر، وبذلك سنصنع أشياء."

"أووه، يا لك من شارح ماهر!" قال أوبنهايمر فرانكنشتاين ساخرا: "لو كنت لن تقول لي فأخبرني أنك لن تقول فقط."


ابتسم عندما غضب الشابّ أمامه، وأجاب: "أنت فقط لا تحتاج لشغل بالك بهذا، ستفهم في وقت لاحق، لكن ليس الآن." أجاب بهذا وهمّ مغادرا.

"أمم؟" عبس الشابّ فلحقه بسرعة بينما يصيح: "أنت... هل تخبرني بأنّني غبيّ؟ أنت... لقد تجاوزت حدودك حقّا."

تمشّى باسل بينما يتحسّس العالم غير مهتمّ بكلام الشابّ خلفه، لكنّ هذا الأخير استمر: "من ينادي الآخر بالغبي هو الغبيّ، ألا تعلم؟ أنت... صحّح كلامك الآن."

تجاهل باسل كلامه هذا وبدأ يسرع في تحرّكه بعدما وجد إشارة قويّة كان يبحث عنها، فازدادت سرعته مع الوقت بشكل كبير؛ لقد كان يبحث عن مصدر ذلك الوريد من السابق.

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يتبعه دون تأخير وبدا كما لو أنّه يلاحقه لإقناعه أنّه ليس غبيّا فقط لا غير، ولم يتعب من ذلك إطلاقا مهما مرّ من الوقت.

تتبّع باسل الوريد لمدّة طويلة، فكان الاثنان قد غادرا مدينة العصر الجديد وابتعدا عنها بمئات الأميال، ومع ذلك كان الوريد لا يزال ممتدّا، حتّى أنّه بلغ أمكنة لاحظ فيها باسل تفرّعه في جميع الاتّجاهات، وعندها فهم لم كان ذلك يحدث.

ففي الواقع، كان هذا الوريد يتفرّع فيمرّ بجميع المناطق المحظورة المجاورة، ويتغذّى منها بشكل متواصل، كما لو كان تنّينا يتغذّى على الوحوش من أجل نموّه، وعندما قطعا مسافة طويلة، وجد باسل الوريد متفرّعا في عدّة جهات لدرجة أكبر ممّا تصوّر فكان كشجرة عملاقة تحت الأرض لها جذور في العالم الواهن.

قطعا طريقا طويلا حتّى بلغا مكانا كان الوريد يغلي فيه من طاقة العالم ويكاد ينفجر بغناها، وكان ذلك المكان هو السلاسل الجبلّية الحلزونيّة، وبالخصوص بـنهر ددمم التنين. لقد كان الوريد متّصلا بأعماقه، أو للدّقّة، لقد كان هذا هو أصل ومنبع الوريد الحقيقيّ.

ابتسم باسل وفكرّ في الوحش النائم بالأسفل، ثمّ فهم لمَ كان مثل ذلك الوحش يملك كلّ تلك القوّة ومثل تلك الخواصّ المرعبة.

تمتم لنفسه: "لا أعلم إن كان ذلك تنّينا أسطوريّا حقيقيّا أم لا، لكنّه مهما كان فقد خلّف وراءه هديّة رائعة جدّا لعالمنا."

سمعه أوبنهايمر فرانكنشتاين يقول شيئا فسارع وتكلّم: "أنت... أنا هنا أتحدّث طوال الوقت لكنّك لا تعدّني موجودا حتّى. أحقّا تريد منّي مرافقتك؟" لقد كان فعلا يخاطبه طيلة تلك المدّة دون توقّف!

التفت باسل وحدّق إليه كما لو كان سيقول شيئا، لكنّه لم ينبس ببنت شفة فاستدار غير مهتمّ، وبسبب ذلك انزعج الشابّ أكثر وقال: "هوه... فهمت، لقد فهمت جيّدا. يبدو أنّ السيّد باسل يحسب نفسه ذكيّا للغاية ولا يريد إضاعة وقته في شرح مثل هذه الأشياء. حسنا، حسنا، لك هذا. لا أعلم كم سيأخذ هذا الأمر الذي تقوم به، لكنّني سأكشف ما تنوي فعله في غضون أسبوعين."

التفت باسل ثم ابتسم جاعلا الشاب يفقد أعصابه من جديد حتّى صرخ: "أنت... ما بال تلك الابتسامة المتعجرفة؟ حسنا، حسنا، في أسبوع، سأعلم ما تنوي فعله في أسبوع."

ابتسم باسل أكثر فجعل الشابّ يرتبك أكثر فأكثر بذلك، وظلّ أوبنهايمر فرانكنشتاين يتذمّر طوال الوقت.

كان باسل في الواقع يبتسم لسبب آخر تماما؛ فهو أصلا تعمّد إثارة غضب الشابّ ذو الوجه الطفوليّ وتلاعب به حتّى قال بنفسه أنّه سيكتشف ما يحاول القيام به، وكان ذلك هدف باسل الحقيقي؛ فلو لم يعلم أوبنهايمر فرانكنشتاين عمّا ينوي فعله حتّى، لن يكون هناك فائدة من جلبه كمرافق.

نظر باسل بعد ذلك إلى الجهة الأخرى من مسار الوريد، فهذا المنبع قطع طريقا على ثلاث جهات، وإحداها هي التي أتى منها باسل، والثانية كانت تلك التي تؤدّي إلى أكاديميّة الاتحاد العظمى، حيث وقعت بحيرة العالم المباركة المحاصَرة، أمّا الثالثة، فقد كانت في الواقع قريبة كثيرا من المنبع. كان المنبع في السلاسل الجبليّة الحلزونيّة، وما كان شهيرا بقربه من هذه السلاسل الجبليّة لم يكن سوى وكر الوحش النائم.

ابتسم باسل مرّة أخرى فاتّبع الاتجاه الأخير حتّى بلغ حدود الوكر، وهذه المرّة لم يعترضه أحد من القبائل، بل على العكس، وجد الحدود مفتوحة ولم يعد هناك وجود لخط الجون كالسابق، فصار الوكر مفتوحا على بقيّة العالم كما عهد قبل ستٍّ وخمسين سنة؛ فكان التجّار يدخلون ويخرجون عبره بوفرة، كما كان السوق الرئيسيّ مشغولا كثيرا.


كان هناك بعض الناس من العالم الخارجيّ يمازحون أعضاءً من القبائل، وآخرون يتحدّثون عن مواضيع جديّة، وآخرون يتبادلون الأفكار والمعلومات؛ تغيّر الوكر حقّا في السنة الفارطة عمّا كان عليه.

بالطبع كان ما يزال يحافظ على تقاليده ولم يغيّر شيئا منها، لا من حيث شكل المنازل التي كانت سقوفها وأسوارها تحمل علامات لوحوش، ومُشكَّلة على شكل بعض الطيور الجارحة أو الوحوش الأسطوريّة كـالعنقاوات والتنانين وطيور الرخّ السامية.

كان الوكر ينقسم لعدّة مناطق، وكلّ منطقة كانت تحكمها قبيلة ما ترأّست ثلاثة عشائر أو أكثر، وحاليا كانت هناك أربع قبائل ذاع صيتها في العالم كلّه بعد الحرب الشاملة، حيث قدّمن أداء مدهشا للغاية وكنّ خير التعزيزات. لقد كنّ قبيلة حاكم الأرض، وقبيلة حاكم الجوّ، وقبيلة حاكم الريّاح، وقبيلة حاكم المياه.

كانت زعيمة قبيلة حاكم الأرض لمياء هي التي تترأّس قبائل الوكر حاليا ولم يكن هناك معترض، فهي جعلت من علاقاتهم بالعالم الخارجيّ أفضل حالا ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى، وبفضلها اكتشفوا أنّ قبيلة حاكم النيران كانت خائنة وتعاونت مع عائلة غرين قبل ستٍّ وخمسين سنة من أجل الحصول على النفوذ، فـأنجتهم من شوكة في حلوقهم لم يعلموا عن وجودها.

في ذلك الوقت عندما أتى باسل إلى هنا، أخبر أبهم بأن يتسلّل إلى قبيلة حاكم النيران ويخبرهم أنّه من عائلة غرين حتّى يغريهم ليكشفوا عن حقيقتهم ببساطة.

استغلّت عائلة غرين قبيلة حاكم النيران في جعل قبائل الوكر تهاجم إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة آنذاك، وعندما انتهى غرضها منها خانتها ولم توفِ بوعدها في معاونتها على حكم القبائل بعد أن تصبح العائلة الحاكمة، وبذلك أصبحت قبيلة النيران تحتقر عائلة غرين كونها تمسك دليلا عليها يمكنه التسبّب في سقوطها، ألا وهو معرفتها بخيانتها للقبائل الأخرى.

لذا بكلّ بساطة، تنكّر أبهم بهويّة ابن عائلة غرين، وبالطبع منحه باسل شارة عائلة غرين حتّى يُتأكّد من هويّته، فظهر كأنّه يطلب المساعدة بعد فقدان عائلة غرين مركزها في الحكم، وبذلك جعل عائلة حاكم النيران تقع في فخّ كشف نفسها بنفسها.

وفي اليوم الحاضر، كان أبهم حاليا يقيم في هذا الوكر لسبب ما، وبعدما تعرّف بعض الأشخاص من قبيلة حاكم الأرض على باسل، نادوا أبهم الذي كان في السوق بسرعة ليرحّب به.

تجوّل باسل وأوبنهايمر فرانكنشتاين في السوق لقليل من الوقت، وكان باسل يتمتّع بما يحدث حوله، وبعد مدّة لا بأس بها ظهر أبهم أمامه مع بعض أعضاء قبيلة حاكم الأرض، وبالضبط من عشيرة الغبراء المظلمة، عشيرة لمياء.

كان أبهم متغيّرا نوعا ما، وكثيرا في الحقيقة؛ فطوله ازداد بشكل ملاحظ وكان أطول من باسل بحوالي شبرين حاليا، ونمت عضلاته بضعفين عن قبل عندما كان جسده مصقولا ومعتدل الحجم؛ لقد كانت الإقامة هنا لها تأثير كبير عليه على ما يبدو.

انحنى أبهم ومن خلفَه لباسل، وشبكوا قبضاتهم فقال أبهم: "مرحبا بك يا سيّدي، لم أكن أعلم بقدومك وإلّا كنت جهزت له بشكل أفضل."

ابتسم باسل ثمّ أجابه: "لا داعٍ، فأنا أيضا لم أكن أخطّط المجيء إلى هنا بشكل خاصّ. على كلّ، يبدو أنّك تتمتّع بوقتك هنا، هل وصلت إلى نتيجة ما مع لمياء؟"

احمرّت وجنتا أبهم فأجاب مسرعا: "م-ما الذي تقوله يا سيّدي؟ هاهاها، حقّا!" كان يحاول التغابي.

حدّق باسل إليه فقط دون قول أيّ شيء، وفجأة تكلّم أحد أعضاء القبيلة من خلف أبهم: "يا أيّها السيّد الشابّ أبهم، في الوقع، الكلّ يعلم ما تشعر به تجاه الزعيمة لمياء، فقط هي من لا تعلم."

"إيـــــه؟!"

كان أبهم متفاجئا حقّا، بالرغم من أنّه بقي هنا لأكثر من عام بينما يحاول التقرّب من لمياء ولاحظ الجميع ذلك. يبدو أنّه بليد في مثل هذه الأشياء، إلّا أنّ لمياء التي لم تلاحظ ذلك أيضا بسبب تركيزها على وظيفتها بليدة أيضا؛ كان ذلك ما فكّر فيه كلّ أعضاء عشيرة الغبراء المظلمة.

سارع وغيّر الموضوع: "على كلّ، ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيّدي؟ إن كان هناك ما يمكنني فعله فرجاء أخبرني."

أومأ باسل رأسه فقال: "إذن... أخبر لمياء أنّني أريد تسلّق شجرة الوحش النائم."

(لمن يريد خلفيّة عن 'شجرة الوحش النائم' فقد ذُكِرت ووُصِفت بالفصل 121 أوّل مرّة)

"هااا؟" رفع أبهم ومن خلفَه أصواتهم دون أن يشعروا عندما سمعوا هذا الكلام.

لقد أمضى أبهم مدّة لا بأس بها هنا وصار يعلم تمام العلم ماهية شجرة الوحش النائم المهيبة، ومعنى الاقتراب منها، وتسلّقها؛ فكلّ ذلك على حدّ سواء كان شيئا لا يحقّ سوى لكبار القبائل القياديّة فعله، وهذا إن كانوا حقّا يقدرون عليه أصلا.

قيل أنّ هناك فائدة عظيمة تُستمد بالاقتراب من تلك الشجرة العظيمة، وحتّى أنّ هناك من استطاع فهم بعض النقوش الغريبة وتوظيفها من أجل القبائل، وهذا كان سبب وجود بعض النقوش الأثريّة في الزنزانة التي سبق وسجن باسل فيها هنا. ففي ذلك الوقت لم يعلم عن مصدرها، وفي الواقع قليل من علم عن هذه الحقيقة، لكنّه الآن كان يعلم عن ذلك أكثر من أيّ شخص في هذا العالم، حتّى أكثر من قبائل وكر الوحش النائم نفسها.

ابتسم باسل تاركا أبهم والآخرين حائرين، أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين فكان صامتا على غير عادته، وبدا سارحا في تفكيره. نظر إليه باسل وأومأ مرّة أخرى، راضيا.

كانت شجرة الوحش النائم تُعرَف بكونها أكبر شجرة في العالم الواهن، وكان أصلها غامضا جدّا، حتّى أنّها كانت فريدة من نوعها ولم يكن هناك ما يشبهها في العالم بأكمله. كانت الجاذبيّة حولها قويّة أكثر من جاذبيّة العالم العادية بأضعاف، وأضفت بهاءً لا مثيل على المكان فقط بكونها هناك، وعطاءً جعل الحياة في تلك النواحي غنيّة ووفيرة.

تبع باسل أبهم الذي كان يقوده من السوق الرئيسيّ إلى مقرّ عشيرة الغبراء المظلمة، وفي طريقهم إليها مرّوا بأرض خلّابة وغنيّة حيث كانت خضراء ووفيرة بالفواكه والثمار والطيّبات، لكنّهم بعدما مرّوا بها لمدّة لا بأس بها ظهرت أرض قاحلة، وكانت كصحراء مصغّرة محاطة بالأراضي الحيّة المثمرة. فكان هناك نخل في بعض الأماكن وبعض النباتات الصحراويّة كالصبّار، ونادرا ما كان يصادف الشخص ورودا بنفسجيّةً متوهّجةً بضوء مظلم كما لو كانت تبعث دخّانا أسوداً.

كان مثل هذا الأمر غريبا جدّا وخصوصا للغرباء، فحتّى أوبنهايمر فرانكنشتاين كان مذهولا ومتعجّبا من هذا الشيء؛ كيف لباقي الأراضي أن تكون بتلك الوفرة وهذه الأرض بينها لا تمتّ بصلة لها؟ كما لو أنّها قُطِعت وحمِلت فوُضعت هنا وبُتِرت علاقتها مع يحيط بها؛ كانت كأرض لُعِنَت فحُكِم عليها بالجفاف الأبديّ.

لاحظ أبهم هدوء باسل ثم ابتسم وتذكّر ما تحدّثا عنه عندما كانا آتيين إلى هنا أوّل مرّة، واقتنع مّرة أخرى بمعرفة باسل الواسعة، وبالطبع لم يكن باسل يعلم عن مثل هذه الأشياء في الواقع حتّى وقت قريب.

بدأ أبهم يتكلّم شارحا للشابّ ذو الوجه الطفوليّ المذهول والعينين البرّاقتين من الحماس: "قيل أنّ هذه الأرض بورِكت بسبب أعمال سلف القبيلة الأوّل وباقي أسلاف القبائل، فأنعِم عليها بعيش الرغد مهما مرّ من الزمن."

"بورِكت؟" تفاجأ الشابّ من طريقة الوصف المعاكسة لما يرى فتساءل: "كيف بورِكت وحالها هكذا؟"

أومأ أبهم رأسه كما لو كان يوافقه على كلامه، فحتّى هو تساءل عن نفس الشيء عندما جاء أوّل مرّة إلى هنا، وأكمل شرحه كما لو كان يكرّر ما قيل له من قبل: "في الواقع قد يبدو حالها سيّئا، إلّا أنّها أكثر من مثاليّة لقبيلة حاكم الأرض؛ فهذه القبيلة تنجب فقط أطفالا بسحر التحوّل المتخصّص في عنصر الأرض، وهذه تُعدّ بيئة مثاليّة لهم. قد تبدو غير مريحة، لكنّهم يستخرجون منها كنوزا تساعدهم على النموّ وتدريب أجسادهم حتّى يتطوّروا في تحوّلهم السحريّ. إنّ هذه الأرض ساحة مثاليّة لأولاد الأرض هنا."

فهم الشاب من شرح أبهم، وما كان غامضا له صار واضحا نوعا ما، لكنّ اهتمامه بأصل هذه الأرض كان قائما.


تمشّوا في تلك الصحراء القاحلة لوقت طويل، وأحسّ العالم المجنون بحرارة تلك الأرض التي لم يكن ليقدر بشر طبيعيّ على تحمّلها، كما لو كانت الشمس التي تشرق على هذه الأرض مختلفة وقريبة، إلّا أنّه علم أنّ تلك الحرارة كان سببها الأرض نفسها التي ولّدت أحيانا سرابا هنا وهناك فظهرت بعض الأبراج من القصص الخياليّة، ولكن عند الاقتراب تكون مجرّد صخور.

لم يكن ليظنّ أحد أنّه كان قبل مدّة لا بأس بها في أرض خضراء عندما يجد نفسه هنا. لقد كان أمر هذه الأرض غريبا للغاية.

قطعوا شوطا طويلا ومرّوا ببعض المنازل الحمراء التي كان تصميمها بشبه نبات الصبّار شكلا، وبدت كما لو كانت متّحدة مع الأرض التي بنيت عليها نظرا إلى كون أساسها عميق لدرجة كبيرة ومرتبط بتلك الأرض بشكل غريب، كما لو أنّه نبت منها ولم يبنى عليها. كانت تلك منازل بعض العشائر الأخرى، وكلّ عشيرة كانت قريبة من الأخرى مكوّنين بذلك غابات من تلك المنازل.

كانوا مرّة يمرّون بأرض وضعت ثقلا زائدا على الناس فقط بوقوفهم عليها، وتارة كانوا يخطون على أرض رمليّة حارقة، وكانت هناك أراضي كان هواؤها يحمل غبارا جعل التنفّس صعبا والتحرّك مقيّدا، فكلّما تساقط ذلك الغبار والتصق بجسد الشخص جعله يتخدّر، ولكن عند التركيز يجد الشخص أنّه لم يُخدَّر وإنما أصبح يزن أكثر فقط، فيكشف عندها أنّ ذلك الغبار الذي التصق به لوحده كان يزن كثيرا.

تمتم أوبنهايمر فرانكنشتاين لنفسه عندئذ: "أوه، لا عجب في امتلاكهم بنيات قويّة جدّا، فلو عشتَ في بيئة كهذه منذ صغرك سيكون من الطبيعيّ أن ينمو جسدك بشكل مرعب."

وبالطبع كان هذا سببا إضافيّا فقط، فأصلا كان أبناء هاته القبائل يولدون بأجساد قويّة، وإلّا ما كانوا ليتحمّلون العيش هنا في صغرهم منذ ولادتهم. لقد كانوا مباركين بهذه الهبة، فكانت هذه الأرض التي جعلت هبتهم تلك تُصقَل أكثر فأكثر مع الوقت مباركة بحدّ ذاتها. أثار تاريخ هذه القبائل اهتمام العالم المجنون كثيرا، وخصوصا أجسادهم تلك.

نظر باسل إليه فوجده يصنع نظرات غريبة ووجه ملتوٍ من الحماس، حيث كانت عيناه متّسعتين وفمه كذلك بسبب ابتسامته الغريبة تلك، كوحش مستعدّ لالتهام كلّ ما يمكن أن يلبّي شهواته. كان وجهه الطفولي في تلك الأثناء يبدو مجرّد جلدة لا علاقة لها بما يختبئ تحتها.

تنهّد باسل ثم قال: "لا تأتِك أفكارا غبيّةً!"

التفت العالم المجنون بسرعة وأجاب: "ها؟ ما الذي تتحدّث عنه؟ انتظر... أما زلت لم تغيّر رأيك بعد كلّ ما قلته طول الطريق إلى هنا؟ لقد أخبرتك مرارا وتكرارا أنا..."


عاد مرّة أخرى لتذمّره من باسل؛ لقد كان حقّا ينزعج كثيرا عندما يشعر أنّه وُصِف بالغبيّ، وخصوصا من باسل؛ فلربّما لو قالها له شخص آخر لم يكن ليعتبره أصلا نظرا لكونه يعدّ الناس عامّة أغبياء ولا يهتمّ بآرائهم، لكن باسل كان مختلفا.

تجاوزوا منطقة الغبار الوازن تلك، ودخلوا إلى أخرى كانت تحمل غبارا، إلّا أنّه كان أسودا وكلّ جسيّم منه بعث هالة مظلمة ضئيلة، وعندما اجتمع في بعض الأماكن بكثرة بدا كهالة سوداء مشؤومة.

التصق قليل من ذلك الغبار بجسد العالم المجنون، فلاحظ ذلك أبهم وحذّره: "احترس، فإذا لم تملك جسدا مضادّا لذلك الغبار بشكل طبيعيّ كالناس هنا، سيكون عليك التدرّب من أجل ذلك لمدّة طويلة حتّى لا تتأثّر بطبيعته الأكولة والمسمّمة، وغير ذلك ما عليك سوى مجابهته بدفاعك السحريّ."

"همم؟" ابتسم أوبنهايمر فرانكنشتاين بسبب كلام أبهم جاعلا إيّاه يتساءل عن سبب ذلك، فأخبره العالم المجنون: "سأريك شيئا مثيرا للاهتمام."

فتح فمه وبدأ يستنشق الهواء حوله حتّى أصبح استنشاقه قوّيا جدّا كزوبعة وشفط ذاك الغبار حوله بسرعة تزايدت في كلّ ثانية، وفجأة بدا فمه ذاك كـقعر دوّامة يمكنها التهام أيّ شيء بسرعة كبيرة، وبعد مدّة قصيرة كان قد التهم كميّات هائلة من الغبار حتّى صارت المنطقة حولهم خالية وواضحة.

اتّسع فم أبهم والآخرين معه وأعينهم دهشةً وكادت فكوكهم تصل إلى صدورهم؛ لم يصدّقوا ما حدث للتوّ إطلاقا، وخصوصا بعد انتهاء العالم المجنون من فعله ولعْقه شفته السفلى كما لو أخذ وجبة خفيفة.

"أوه، أنا أفهم الآن تركيبها جيّدا، ستكون مفيدة حسب طريقة استخدامها."

قال هذه الجملة فجعلهم أكثر اضطرابا من قبل. لقد كانت تسمّى تلك بالغبراء المظلمة، إذ التهمت وسمّمت ما لمسته، وأعمت ما بصرها، وخصوصا أجساد البشر؛ فإن لم يكن للشخص مقاومة لها من نوع ما فسيكون مآله التحوّل إلى غبار مظلم في النهاية. والآن، عندما يأتي شخص من الخارج ويشفط تلك الكمّيّات الهائلة، فلن تكون ردّة فعلهم سوى الاندهاش من قمّة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم.

أومأ باسل رأسه فقال: "مثير للإعجاب حقّا يا أيها العالم المجنون."


حدّق إليه أوبنهايمر فرانكنشتاين بعبوس ولم يقل شيئا، أمّا أبهم ومجموعته فاتّفقوا مع باسل تماما، وخصوصا بجزء الجنون.

تكلّم باسل مع أبهم: "يبدو أنّك صرت تملك تلك المقاومة الآن؛ يمكنني رؤية المشاقّ التي مررت بها في المدّة الماضية لتحقّق ذلك."

ابتسم أبهم وحكّ مؤخّرة رأسه قبل أن يقول: "لك فضل كبير في ذلك يا سيّدي، فلولا تدريباتك آنذاك لما تحمّل جسدي التدريب هنا، ومع ذلك ما زال يجب عليّ صقله أكثر."

أومأ باسل رأسه فأكملوا تحرّكهم بعد ذلك، وبعد مدّة قصيرة ظهرت منازل الصبّار من جديد بعدما كانوا في أرض خالية من الحياة، وكان ينتظرهم هناك العديد من الأشخاص أمام مدخل منطقة العشيرة، ومن بينهم كانت لمياء حاضرة.

كانت هناك الكثير من الهمسات عندما وصل باسل، وكلّها كانت تتكلّم عنه وعن الإشاعات المتعلّقة به. لقد كان ذائع الصيت حتّى بين القبائل، وخصوصا بعد تلك الحادثة ضدّ فضيلة كرم وما شهدوه في الحرب الشاملة.

اقترب من باسل بعض الأطفال بينما يتململون في أماكنهم، فربّت على رؤوسهم مبتسما وقال: "أسألوني عمّا شئتم."

فرح الأطفال وسارعوا في أسئلتهم واحدا تلو الآخر: "هل حقّا أنت ابن عملاق؟"

"هل أمكنك هزيمة عشرات آلاف الأعداء دون استخدام السحر حقّا؟"

"هل حقّا جسدك قويّ مثل كبارنا بالرغم من أنّك لست واحدا منّا؟"

"هل يمكنك نفث النار كسلفك التنين؟"

يبدو أنّه كانت له شعبيّة كبيرة بين الأطفال هنا وأسئلتهم حوله لم تنقص مع الوقت قطّ، فأجاب بعضها وما كان خاطئا بشأنه لم يجب عنه كي لا يحطّم أحلام هؤلاء *******، وعندئذ اقتربت لمياء وتدخّلت: "يا ***** الأرض، لم لا تذهبوا للعب قليلا مع أخوكم أبهم الأكبر ريثما أنتهي بأعمالي مع السيد باسل؟"


عبس الأطفال ثمّ قالوا مجتمعين: "حـــاضر." كانوا مستائين من عدم الإجابة عن كلّ تساؤلاتهم.

ابتسم باسل عندما رأى فضولهم ذاك وذكّروه بصغره، فربت على فتاة وفتى بينهم بينما يقول: "سأذهب لقضاء غرض ما، وأعود بعدئذ للعب معكم." ابتسم في نهاية كلامه فابتهج الأطفال.

تكلّمت لمياء بينما تشير بيدها لجهة ما: "من هنا من فضلك."

قادت الطريق إلى بيت الزعامة حيث أضيف هناك جيّدا؛ ذُبِحت بعض الخراف وأتى بعضهم بلحوم الوحوش السحريّة، وقدّموا له التمر والسمن والعسل، ثمّ قهوتهم التي كانت من عالم آخر. قدّموا له ضيافة كبيرة، فأصلا كانت القبائل هنا معروفة بسخائها تجاه ضيوفها.

ارتاح باسل وأوبنهايمر فرانكنشتاين، وبعد وقت انفرد باسل بلمياء في غرفة ليناقشا ما جاء من أجله في المقام الأولّ، وكانت لمياء من بدأت الكلام: "حسنا، بشأن طلبك، سأقولها مباشرة وصراحة، أخشى أنّه لا يمكننا السماح لك بالاقتراب من الشجرة."

أخرج باسل جزرة فعضّها ومضغ اللقمة ثم بلعها قبل أن يجيب: "حسنا، هذا ما كنت أتوقّعه أصلا. أنتم الشرفاء والفُخُر ما كنتم لتخالفون تعليمات أجدادكم وأسلافكم."

أخذت لمياء رشفة من قهوتها وأجابت: "لا يمكنك لومنا، فذلك ما أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؛ لقد كانت تعليمات أسلافنا التي مرّت عبر الأجيال هي ما نمّى قبائلنا لهذه الدرجة، وأكثر من ذلك، هي تبقى قوانيننا السامية التي وضعت." رفعت بعد ذلك الكوب لتأخذ رشفة أخرى.

أكمل باسل أكل الجزرة، واستمتع بمذاقها جيّدا، فقال بعد ذلك: "التي وُضِعت بسبب وحشكم النائم، أكمليها حتّى هنا. أو يجب أن أقول أبوكم الروحيّ بدل وحشكم النائم؟ فذلك سيكون أدقّ."

توقّفت يد لمياء بعد ذلك في منتصف أخذها تلك الرشفة، ونظرت إلى باسل بتعجّب قبل أن تقول: "ك-كيف تعلم عن ذلك؟"


"كيف أعلم لا يهمّ،" أجاب باسل مباشرة: "المهمّ أنّني أعلم. سأقول لك شيئا واحدا يا لمياء، ولا أظنّ أنّه يجب أن تفوّتوا مثل هذه الفرصة. عرضي هو أن أتسلّق الشجرة متى شئت، وفي المقابل أمنحكم الوصفة والتدريب والتقنيات السرّية من أجل إيقاظ الوحش النائم."

سقط الكوب من يدها فوقفت بسرعة من مكانها وتراجعت ثلاث خطوات غير مصدّقة لما سمعت لتوّها، ولم يسعها سوى أن تقف هناك متجمّدة بينما تفكّر في جميع الاحتمالات التي يمكن من خلالها أن يكتشف هذه الأمور، فطرأت فكرة في بالها.

"أ-أبهم...!"

قالت ذلك الاسم وشدّت قبضتها غاضبة وحاملةً نظرات ساخطة.

رمى باسل لقمة الجزرة الأخيرة في فمه ثمّ أجاب بعدما انتهى من أكلها: "أنتِ هناك، لا تتسرّعي في الحكم. اهدئي وفكّري جيّدا، فلم يكن أبهم ليكتشف هذه الأمور ولو تجسّس عليكم هنا حياته كاملة؛ فحتّى أعضائكم كلّهم، سوى زعماء القبائل الأربع القياديّة، لا يعلمون على أيّ حال، فكيف لأجنبيّ أن يعلم؟"

ارتخت يد لمياء بعد كلام باسل وهدأت قليلا، ثمّ جلست في مكانها مرّة أخرى وحملت الكوب الذي سقط ثمّ شربت الرشفة الأخيرة التي بقيت فيه وبلعتها بصعوبة. قالت بعد ذلك بلهجة محترمة: "أعتذر عمّا بدر منّي."

أومأ باسل ثم قال: "بالأحرى، اعتذري لأبهم، أنا أشفق عليه." حرّك رأسه يمينا وشمالا؛ لقد كان الشابّ مغرما بالمرأة، إلّا أنّ ثقتها به لم تكن عميقة على ما يبدو.

احمرّت وجنتاها فجأة ونظرت إلى الأسفل بخجل؛ لقد تصرّفتْ بشكل غير لائق كزعيمة قبيلتها ورأس القبائل كلّها.

لقد كانت طبيعتها المشكّكة جيّدة، فذلك ما ساعد قبائلها على الانفتاح على العالم من جديد، لكن بسبب ذلك أيضا قد يمكنها أذيّة مشاعر القريبين منها، وكانت تعلم ذلك جيّدا لذا كانت محرجة من نفسها.

استأنف باسل كلامه: "على كلّ، كما قلت سابقا، أنت لا يهمّك كيف أعلم، ولكن ما يجب أن يشغل بالك حاليا هو ما أعرضه عليكم. سأنتظر ثلاثة أيّام، لذا جهّزوا إجابتكم بذلك الحين."

وقف باسل وهمّ مغادرا الغرفة.

"انتظر..." وقفت لمياء ونظرت إليه لمدّة طويلة، إلى عينيه اللتين حدّقتا دون أيّة تردّد إلى عينيها، حتّى غمرتها ثقته التي كانت متجلّية بتصرّفاته، ولم يسعها سوى أن تسأل مرّة ثانية: "فقط... أخبرني فقط كيف علمت؟"

تنهّد باسل، ولا عجب من إصرارها، لقد كان ذلك أحد أكبر أسرار قبائل وكر الوحش النائم ولم يعلمه سوى خمسة في كلّ جيل، وكانوا قد أقسموا على حماية هذا السرّ إلى أن يأتي اليوم الذي يجدون فيه طريقة على تحقيقه.

استدار باسل ثمّ أجاب مرّة أخيرة: "لقد تعلّمت من الأفضل!"

***

كانت لمياء مشوّشة الذهن للأيّام الثلاثة القادمة ولم تنم مطلقا من شدّة تفكيرها المستّمر، فكلام باسل ظلّ يجول بعقلها جاعلا إيّاها تحاول تخمين معرفة كيف علم عن تلك الأشياء، وكانت تفكّر في اقتراحه لمدّة طويلة قبل أن تقرّر أخيرا مناقشة الأمر الكبار الثلاث الآخرين.

لقد كان سرّهم ذاك عظيما ولم يعلم عنه أحد في التاريخ سوى أقليّة مختارة بعناية كبرى، لكنّ هذا الفتى ظهر وتحدّث عن أشياء ليس له وسيلة ليعلم بها عنها، وذلك سيسبّب رعبا ورفضا شديدا من الكبار الآخرين فيحاولون بعد ذلك استخراج المعلومات منه بأيّة طريقة؛ لقد كان قانونهم هو إزالة أيّ طرف ثالث غيرهم يعلم عن ذلك الشيء؛ ولهذا تردّدت لمياء كثيرا قبل أن تذهب إليهم في اليوم الثالث.

انعقد الاجتماع بعجلة بعد رسالة لمياء، فأتى الزعماء الثلاثة وجلسوا على الطاولة في غرفة لم يعلم أحد عن مكانها. كانت تلك الغرفة مظلمة وما أضاء جزءا منها كانت عصا لمياء التي تحمل الحجر المضيء، وبسببه ظهرت بعض النقوش باختلاف أنماطها، وبعض أشكال الوحوش السحريّة وأخرى غير معلومة حتّى لهم، وكلّها كانت راكعة خاضعة لشيء ما لم يظهر نظرا لكونه بقي في الجزء المظلم.

كانت الطاولة مضاءة وكذلك الزعماء الثلاثة، فكان أوّسطهم نحيف البنية طويل الوجه، وأسمر قليلا لكنّه بدا ناضرا بإضاءة لمياء، وكانت عيناه كتينك اللتين لدى الصقر، فبدا وجهه بسبب ذلك حادّ التعابير طبيعيّا.

تكلّم هذا الشخص أوّلا بصوت أخنٍّ لكنّه كان حادّا في نفس الوقت: "أيْ لمياء، ما جلبنا؟ لقد قوطِع تدبّري وقيل لي أنّه أمر عاجل، من الأفضل أن يكون كذلك." كانت لهجته حادّة كذلك لكنّه لم يتجاوز حدوده.

أومأ الشخص الذي بجانبه على اليمين برأسه العريض مثله مثل جسده الكبير، وبدا حضوره ثقيلا ويجعل التنفس صعبا على الناس، فأكمل كلام سابقه: "لابدّ وأن يكون كذلك يا خليفة حاكم الجوّ، وإلّا لما كان خروجي من تدبّري في أعماق نهر ددمم التنين ذا فائدة؛ أنت تعلمين جيّدا أنّني أجعل لكلّ خطوة منّي فائدة."

ابتسم الشخص الثالث والذي كان معتدل الجسد لكنّه كان طويلا، وأطول من أبهم بحوالي شبر، وكلّ عضلة فيه بدت مصقولة بالرغم من أنّها لم تكن ضخمة، فكانت القوّة التي تكمن بجسمه ذاك بارزة. قال تابعا الشخص الثاني: "هيّا، هيّا، دعنا لا نكن قاسيين على خليفة حاكم الأرض يا خليفة حاكم المياه؛ لقد أثبتت أنّها حقّا تستحقّ مكانتها هذه في العديد من المناسبات، وأكثر من ذلك لقد وافقنا بأنفسنا على هذا الأمر، فلا يجب أن ننسى ذلك."


انحنت لمياء قليلا ثمّ قالت: "تُشكَر على حسن نيّتك يا خليفة حاكم الريّاح!" رفعت بعدئذ رأسها وقالت: "لكن لا داعٍ للقلق، أنا متأكّدة من أنّ كلامي اليوم سيجعلكم تنسون أمر التدرّب والتدبّر لمدّة."

عبس الثلاثة معا فوضع خليفة حاكم الريّاح يديه تحت ذقنه وقال: "أوه، مثير للاهتمام، ماذا لديك؟"

***

بالعودة بالزمن قليلا إلى اللحظة التي غادر فيها باسل غرفة خليفة حاكم الأرض، كانت الشمس ساطعة في الخارج كعادتها بعد العصر، جاعلة العالم أحمر اللون، فصار شعر باسل، المتطاير بذلك الهواء العليل منعش الروح، يبدو برتقاليّا نوعا ما بلمعان باهر.

وفي هذه الأثناء كان باسل يلعب مع ***** الأرض الذين التقى بهم عند مجيئه، لكنّ لعبه ذاك كان غريبا نوعا ما؛ بدا كما لو أنّهم يلعبون الغمّيضة، إلّا أنّ الأطفال جعلوا من الأرض نفسها مخبأ لهم.

كان باسل يتحرّك ببطء دون أن يزعج نفسه بالتسرّع، ويقف عند مكان محدّد ويغرس ذراعه فجأة في باطن الأرض ثمّ يخرجها حاملا بها أحد الأطفال، وتارة اخرى كان يغطس عميقا تحت الأرض فيعود إلى سطحها حاملا معه عددا من الأطفال مرّة واحدة، كما لو كان يصيد بعض المناجذ.

تجمّع كلّ الأطفال حول باسل بأعين متألّقة وقالوا بحماس شديد: "أوه، إنّ الأخ الأكبر باسل ماهر للغاية، في العادة حتّى الراشدون هنا لا يستطيعون إلقاء القبض علينا بهذه السرعة. إنّك ماهر."

كانوا يمدحونه كثيرا متعجّبين في نفس الوقت من أمره. نطق أحدهم بعينين جرّيئتين مليئتين بروح التحدّي: "الآن دورك أيّها الاخ الأكبر باسل، لن أرضى بالخسارة هكذا." كان هذا هو أخ لمياء الأصغر في الواقع.

ابتسم باسل ثُمّ ربّت على رأس الطفل وقال: "هذه هي الروح يا آدم. حسن، سأغوص هنا وحاولوا إيجادي كما فعلت. لا يهم متى تبدؤون ملاحقتي ما أن أنزل تحت الأرض."


أومأ الأطفال واستعدّوا جيّدا، وفي اللحظة التالية كان باسل قد اختفى بالفعل تحت الأرض، فسارع بعض الأطفال في ملاحقته مباشرة إلّا أنّهم لم يجدوا أثرا له قطّ، كما لو تبخّر تماما.

كان الأطفال متعجّبين أكثر من هذا الأمر، فبذلوا جهدا أكبر ليجدوا باسل لكنّهم لم ينجحوا مهما طال الأمر، فإذا بواحد منهم أسرع وأخبر أحد الراشدين: "إنّه مذهل حقّا، لقد مرّت أكثر من ثلاث ساعات لكنّنا ما زلنا لم نجده طريقة لتتبّعه حتّى."

استغرب الراشدون من هذا الأمر وتفاجؤوا؛ لقد كان ذلك أجنبيّ، وحتّى لو كان ضدّ ***** فقط، لقد كانوا ***** الأرض ولم يكن من السهل هزيمتهم تحت الأرض، فما بالك بالاختفاء من بصيرتهم وقدراتهم تحت الأرض كلّيّا. لقد كان ذلك غريبا، وجعل الراشدين مهتمّين أيضا، فدخل العديد منهم في اللعبة.

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يقف بعيدا يرى ما يحدث، ثمّ تكلّف الابتسام وقال ساخرا: "وأنا الذي كنت أظنّه يلعب فقط، من كان يعلم أنّه جعل من اللعبة عذرا فقط حتّى يختفي تحت الأرض. حقّا..."

كان العالم المجنون هو الشخص الوحيد الذي فهم المغزى من تحرّكات باسل، والذي كان في هذه الأثناء في مكان مضيء بالرغم من أنّه يُفتَرض أن يكون في ظلام دامس تحت الأرض. كانت تلك الإضاءة نابعة من شيء بدا كثعبان كبير ضخم للغاية، ولكن عند تدقيق النظر فيه تكون ماهيته واضحة أخيرا.

ابتسم باسل ثمّ قال: "يا له من أمر مثير. لو كان للمعلّم نفس المعلومات التي أملكها لكان قد وقف في هذا المكان بالفعل."

كان الثعبان الضخم في الحقيقة عبارة عن جذر سميك، وبدا لونه أخضر بسبب الطاقة الزرقاء التي مرّت عبره. كان الجذر نفسه كشريان تمرّ عبره دماء تجعل صاحب الشريان ينبض بالحياة.

وضع باسل يده على الجذر فغُمِر مباشرة بهالة هادئة إلّا أنّها كانت كالبحر الهادئ، فحتى لو لم تجعله يتقلّب فقد جعلته يغرق في سكينتها التي مثّلت سنينا لا تُحصى من الاستقرار في هذه الأرض. لقد كان ذلك مجرّد جزء بسيط من سكينة تلك الشجرة العظيمة.

تمتم باسل لنفسه عندئذ: "لقد جعل هذه الشجرة وكرا له حتّى أصبحت هكذا، هل يا ترى كان ذلك تنّينا أسطوريّا حقيقيّا؟ على كلّ، يجب أن أكسب ذلك الشيء مهما حصل حتّى أنجح في الباقي."


كان باسل يغرق شيئا فشيئا في ذلك البحر العميق، لكنّه كان هادئا تماما كما كان حال ذلك البحر؛ كما لو كان يعلم أنّ القاعدة لتجاوز هذا الاختبار هو ضبط النفس والعقل، وتهدئة الروح كي يتسنّى له السباحة كما يشاء في ذلك البحر؛ لقد كان يحسّ أنّ مساره الروحيّ يُختَبَر ما إذا كان مؤهّلا أم لا.

كانت الشجرة العملاقة تبعث شعورا بالخمول وكلّ من وقف أمامها وهُنَت قواه ولم يستطِع مجاراة تلك الرغبة في الدخول في سبات عميق، فيحسّ بروحه تُستَنزف بدءا من طاقته السحريّة، وكانت هناك خواصّ أخرى لدى الشجرة العظيمة غير هذه التي كانت أبسطها في الواقع.

مرّت مدّة طويلة وكان باسل لم يظهر بعد، فاستغرب الناس وزاد عدد الباحثين عنه، ولم يستطيعوا تحمّل فكرة هزيمتهم ضدّ أجنبيّ؛ فقد كان ذلك مخزيا لهم وضارّا لشرفهم أجمعين.

وصلت الأخبار لمسامع لمياء في ذلك الوقت، لكنّها كانت مشغولة كثيرا أثناء ذلك بالتفكير في الأمور التي شغل باسل بالها بها، ولم تشأ أن تضيع وقتها في المشاركة في تلك اللعبة.

مرّ وقت طويل حتّى فتح باسل عينيه فجأة وحدّق إلى نور يبدو كنقطة في مكان ما بالظلام المطموس في ذلك البحر، ثم ابتسم وتكلّم: "شكرا لاستجابتك دعوتي، لقد كنت أشكّ في حدوث هذا في الواقع، لكنّه حدث حقّا!"

"هوه!" رنّ الصوت مباشرة في ذهن باسل، فأحس كما لو أنّ النور يرسل أفكاره إليه عبر البحر، معطيا شعورا غامرا بالهيبة لباسل. لقد كان ذلك يوحي إلى مدى عظمة صاحب الصوت.

"يا فتى، يمكنني تخمين سبب مجيئك إلى هنا نظرا إلى ما تحمله من شؤم في أعماق روحك، فلذلك استجبت لك أصلا، لذا سأجيبك مباشرة، لن تحصل عليها منّي أبدا."

حافظ باسل على هدوئه، مبتسما، وشبك قبضته تجاه نقطة النور قبل أن يصرّح: "لا، اعذرني يا أيّها الموقّر، لكنّك مخطئ في هذا الأمر تماما بطريقتين؛ أمّا عن أولاهما، فأنت ستوافق تأكيدا على طلبي بأخذها، أمّا عن ثانيتهما، فهي أنّني سآخذها ولو كنتُ مخطئا في أولاهما."

عمّ السكون للحظات مرّت طويلة، فتكلّم الصوت من جديد بهدوء بالرغم من طريقة باسل المستفزّة في الكلام: "يا فتى، تبدو واثقا أكثر ممّا يجب، ولكن نظرا إلى كونك هنا، يجب أن تكون على علم على الأقلّ أنّني لن أقدّم مساعدة لأيّ من الأربعة عشر."


كانت ابتسامة باسل ملازمةً وجهه، فصرّح مرّة أخرى: "أنت مخطئ ثانية يا أيّها الموقّر؛ قد أكون من الأربعة عشر، لكنّك يجب أن تساعدني بسبب ذلك في الواقع لا الوقوف في طريقي."

"ها؟" استغرب الصوت من هذا التصريح فجأة وقال: "لا تقل شيئا غبّيا يعكّر مزاجي الجيّد يا فتى، كيف لي أنا أن أدنوَ إلى مستوى مساعدة أحد الورثة الملاعين؟"

"هوهوهو!" ضحك باسل وقال: "ملاعين إذا؟ معك حقّ، إنّني ملعون، لكنّني لا أُرضَخ لمثل هذه الأشياء إطلاقا، فلا تظنّني كباقي الورثة؛ لم ولن أهرب من هذه اللعنة مثل بعضهم، ولن أخسر ضدّها أبدا. أنا فقط أريد إخبارك أنّ فرصة ظهورك في الوجود مرّة أخرى ورجوعك إلى سابق عهدك سيكونان أسرع وأضمن بشكل خاصّ لو تعاونت معي."

لم يجب الصوت مباشرة وعمّ الصمت لوقت طويل، حتّى ظنّ باسل أنّ محادثته معه قد انتهت هناك، إلّا أنّ الصوت ردّ أخيرا: "مثير للاهتمام، أخبرني لم تعتقد كلّ ذلك، وعندئذ سأقرّر."

***

مرّت ثلاثة أيّام فظهر باسل أخيرا أمام الجميع فجأة، وفي ذلك الوقت، كان قد استسلم كلّ شخص بالفعل عن البحث عنه وبقوا ينتظرون عودته فقط.

اقترب أوبنهايمر فرانكنشتاين من باسل وأخذ يحوم حوله بينما يضع يده على ذقنه ويومئ رأسه بين الفينة والأخرى، كما لو كان يفهم شيئا ما. عبس أخيرا بعدما لاحظ شيئا وقال: "هذا... أنت... لِمَ أشعر بجريان طاقة تشبه طاقة تلك الشجرة بعروقك؟"

ابتسم باسل فقط ردّا عليه ثمّ التفت إلى جهة الناس الذين ينظرون إليه بتعجّب، فأشار إلى أبهم من بينهم وقال بعدما أتى مستجيبا له: "يا أبهم، أخبر لمياء أنّني سأكون في انتظارها عند حاجز الشجرة العظيمة الخارجيّ."


صنع أبهم وجها قلقا وتردّد: "ولكن يا سيّدي..."

لوّح باسل يده وقال: "لا تقلق، أنا لا أنوي خلق صراع بيني وبين القبائل بفعل شيء غير لائق، لكن لا تقلق، اقترابي أنا من الحاجز لن يُعدّ وقاحة بعدما أبرهن ذلك."

تنهّد أبهم كونه لم يعلم ما يتحدّث عنه باسل، فاستدار وهمّ مغادرا ليترك رسالة لـلمياء التي كانت في اجتماع في الوقت الحالي؛ لقد توجّب عليه إيصال الرسالة بشكل مباشر حتّى يلطّف الأجواء ولا يخرج الأمر عن السيطرة.

حدّق أوبنهايمر فرانكنشتاين بعد ذلك إلى باسل ثمّ قال: "لديّ فكرة نوعا ما عن سبب ذلك، لذا لا تحتاج إلى إجابة سؤالي، همف!"

ابتسم باسل مرّة أخرى من ردّة فعل العالم المجنون، وتمشّى بعد ذلك متبّعا مسارا غير مرئيّ لأحد. كان ذلك المسار خفيّا في الأرض وبدا كشجرة لكثرة تفرّعه بعدّة انعطافات، لكنّ واحدا منها فقط كان الطريق الصحيح، لذا كان مستحيلا قطع ذلك المسار بشكل سليم إلّا عن طريق بصيرة حكيم، وترخيص خاصّ.

***

في هذه الأثناء، كان كبار القبائل مجتمعين داخل ذلك المكان المظلم، وبعدما أخبرت لمياء الثلاثة الآخرين بما حدّثها به باسل، انتفضوا مرّة واحدة وعبسوا حاملين نظرات ساخطة، فقال خليفة حاكم الريّاح الذي كان هادئا طوال الوقت حتّى سمع ما سمع: "يا خليفة حاكم الأرض، سأتجاوز فكرة السماح لمثل هذا السمّ بدخول وكرنا والمكوث فيه لكلّ هذه المدّة، وأنتقل مباشرة إلى الاتفاق هنا والآن على استئصاله وإبادته للأبد."

ضرب خليفة حاكم المياه بيده على الطاولة فكسرها قبل أن يصرّح: "حالا! أنت تعلمين أن تأخّرنا كلّ هذه المدّة ***** لتعليمات أجدادنا وأسلافنا، وخرق لقانوننا الأسمى. يجب علينا حماية الشجرة العظيمة من كلّ تهديد حتّى يأتيَ الوقت الذي يظهر فيه الوريث الشرعيّ. عندئذ سنسمو ونسود."

أكمل خليفة حاكم الجوّ أخيرا: "لقد مرّت سنينا لا تعدّ ولا تحصى من الانتظار، وبسبب هذا الفتى الذي أعطى للعالم الواهن أشياء عظيمة جعلت منه يتطوّر بشكل مذهل، زادت فرصة ظهور وريثنا الشرعيّ بشكل كبير، لكن وا أسفاه. أيْ لمياء، قد يكون هذا السم ينجينا من سمّ آخر، لكنّه في النهاية يبقى سمّ آخر يستحسن إزالته أيضا."

كانت ردود أفعال هؤلاء الثلاثة منطقيّة كلّيّا في الواقع ولم تخرج عن توقّعات لمياء، لأنّه مهما حصل لا يجب على سرّهم ذاك أن يُكشَف وإلّا ستحلّ عليهم لعنة ودمار يُذهب كلّ ما بناه أسلافهم. توجّب عليهم إزالة أيّ خطر كهذا بأسرع وقت.

أحكمت لمياء قبضتها على عصاها واستجمعت أنفاسها فشدّت عزيمتها قبل أن تنطق أخيرا: "لقد أتيت اليوم لأخبركم أن تقبلوا شروطه، وفي المقابل أعدكم أنّنا سنتحصّل على ما وعدنا به."

صرخ خليفة حاكم المياه فجأة: "أجُننتِ يا هذه أم غزا ذلك السم عقلك؟ تجرّئي مرّة ثانية على الطلب منّا خرق قانوننا الأسمى ولن تري منّي شيئا سوى الغيظ والكره؛ فإنّي لأحتقر وحشا نائما أنْ أراه مُغرًى بأحلام أحد آخر."


أومأ خليفة حاكم الجوّ رأسه وقال: "لا كلام بعد هذا، فلنذهب الآن لتولّي هذه المصيبة."

زاد خليفة حاكم الريّاح على ذلك بوجه صارم: "قد تكونين رأس قبائلنا حاليا، لكنّك لا تعلوين قانوننا الأسمى. لا قلق، بعدما نحلّ هذه المعضلة ستظلّين الرأس، لكن بعدما نتأكّد من أن السم قد استُؤصل من عقلك تماما؛ فالجسد السليم في العقل السليم."

استعدّ الثلاثة للخروج، فوقفت لمياء في طريقهم وصرّحت: "أنا وحش نائم ولا أهزّ ذيلي لأحد آخر، لديّ فخري بذلك فلا داعٍ للتشكيك في ذلك."

حملق إليها خليفة حاكم المياه: "إذن..."

"ومع ذلك..." أكملت لمياء: "أنا ألتمس موافقتكم والمباركة من وحشنا النائم أن يكون هناك استثناء لمرّة واحدة فقط. أنا متأكّدة أنّ هذه الفرصة لا تُعوّض إطلاقا ولن نجد مثلها مهما حدث. فبامتلاكنا كيفيّة إيقاظ وحوشنا النائمة ستكون فرصة ظهور الوريث الشرعيّ أكبر بكثير، وعلى الأغلب لن يحدث ذلك في وقت بعيد."

وضع خليفة حاكم الريّاح يده على كتفها فصرّح: "كفانا يا خليفة حاكم الأرض، أنت تخزين نفسك لا غير."

تنهّد خليفة حاكم الجوّ وقال: "لننطلق، عمليّة الاستئصال بدأت."

خرج الأربعة من الغرفة الغامضة، وفي قاعة كانت بنفس الظلمة، توجّهوا جميعا نحو الباب الذي كان الجزء المضيء خلفه، وفي نفس الوقت ظهر شخص أمامهم بنفس طول قامة خليفة حاكم الريّاح تقريبا، ولمّا رأته لمياء المحبَطة فتحت عينيها على مصراعيهما وهلعت: "أبهم...!"


اقترب أبهم من الأربعة وانحنى قبل ينقل التقرير الذي يفترض أن يبلغه:" يا أيّها الزعماء الشرفاء، أتيت لأخبركم أنّ سيّدي باسل ينتظركم بحاجز الشجرة العظيمة الخارجيّ."

أصبحت تعبيرات الأربعة قبيحة فاقترب خليفة حاكم المياه من أبهم وحمله من عنقه بيده الضخمة تلك، فشدّ عليه حتّى جعل تنفّسه ضيّقا وآلمه كثيرا كونه كاد يكسر رقبته، فقال في تلك الوضعيّة: "أتمزح معي يا هذا؟ لا حدود لوقاحة هذا الشقيّ."

"انتظر من فضلك..." تدخّلت لمياء: "لا بدّ وأنّ له سببا وجيها لذلك، لم لا نستمع لأبهم أوّلا..."

صرخ خليفة حاكم المياه: "يكفي. لا تخبريني بمثل هذه الأمور الآن، فأنا لا آبه. ستتبعيننا الآن لتنفيذ حكمنا، أم تبقين في الخلف؟ هذا ما يهمّ." قالها فرمى أبهم بعد ذلك إلى الجانب كقطعة قمامة.

هرعت لمياء إلى أبهم فمدّت يدها نحوه محاولة مساعدته على الوقوف، لكنّها تراجعت عن ذلك في النهاية واستقامت متمتمة له: "متأسّفة يا أبهم!"

كان الثلاثة الآخرين قد تحرّكوا مسبقا، فلحقتهم لمياء بسرعة. لقد قرّرت ولم يعد هناك مجال للتراجع.

***

كان باسل في ذلك الوقت يجلس متربّعا أمام بحيرة شاسعة تخلّلتها غصون هائلة الحجم، ولمّا فتح عينيه ورفع رأسه ليلمح الشجرة العظيمة أمامه وجد علوّها شاهقا وقمّتها لا ترى.

كان جذعها عريضا كعرض بلدة صغيرة، وبالرغم من أنّها بدت عتيقة للغاية إلّا أنّ حيويّتها الوفيرة جعلت الحياة حولها غنيّة، فكانت تلك البحيرة تشعّ زرقة وتتلألأ، كما زخرت كلّ الأرض المحيطة بها على مدى عشرات أميال بخضرة مزيّنة بألوان زاهية تمثّلت في شكل أزهار وورود سحريّة.


لقد كانت الشجرة العظيمة والمنطقة المحيطة بها كنزا مثلها مثل بحيرة العالم المباركة المحاصرة بلا شكّ، حتّى أنّها شابهتها نوعا ما كونها محاطة بالجبال من جميع الجهات، وكلّ ما كان وراء تلك الجبال كان مناطق محظورة بأميال عدّة قبل أن يصل المرء إلى المناطق السكنيّة.

كان موقع هذه الشجرة يتمركز وكر القبائل في الواقع، أو بالأحرى، لقد كانت هذه الشجرة العظيمة هي نفسها الوكر الحقيقيّ الذي سُمِّي عليه هذا المكان. قيل أنّ وحشا أسطوريّا قد جعلها وكرا له لسنين عديدة حتّى ورثت الكثير من خواصّه وقوّته العظيمة، لكن لا أحد شهد ذلك في الواقع، واقتصر الأمر فقط على بعض قدرات أظهرتها طوال الوقت كتخدير من يقترب منها بسكينتها، وابتعاد قمّتها أكثر فأكثر عن كلّ من يحاول الاقتراب منها، إضافة إلى المظاهر الخياليّة التي تجعل المتسلّق يخال نفسه في عالم آخر.

كانت هناك قدرة أخرى أيضا، والتي جعلتها تحمي نفسها بدرع سحريّ لا يعلم أحد عن ماهيته، لكنّه كان يشبه نوعا ما حاجز الحماية السماويّة الخاصّ بالمناطق المحظورة، لكنّه كان مختلفا في نفس الوقت بكون عدم سماحه للأشخاص أقلّ من المستوى السابع بدخوله، وأبعد الوحوش السحريّة تماما، وفوق ذلك ميّز الوحوش النائمة عن الأجانب فلم يسمح لأحد بالمرور إلّا وكان وحشا نائما في الواقع.

وبالرغم من هذا كلّه، إلّا أنّه كان محرّما على الأجانب الاقتراب منه او محاولة عبوره، فقلّة مختارة فقط من أعضاء القبائل من يسمح لهم بمحاولة عبوره والانتفاع ممّا يقع بعده.

كان فعل باسل هذا وقحا تجاه القبائل وتحدٍّ لأسسهم وقوانينهم، وبالطبع لم يكن هناك ردّ فعل طبيعيّ منهم سوى أن يغضبوا منه لدرجة كبيرة.

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يحوم حول ذلك الحاجز، لكنّه عجز عن عبوره مهما حاول، فانزعج بسبب ذلك كثيرا كونه يرى أمامه تلك الأرض المثيرة للاهتمام، وتلك الشجرة العظيمة التي تحمل أسرارا عالمية حتّى. لقد كان مغتاظا في هذه اللحظات وقال بعبوس لباسل: "أنت، أفهم أنّه لابدّ من وجود مثل تلك الطاقة التي تسري في عروقك، ولكن ألا توجد طريقة أخرى للدخول؟"

ظلّ باسل محدّقا إلى الشجرة العظيمة باهتمام، وأجاب: "بلى هناك، لكنّك لا تقدر عليها في مستواك هذا."

وفي الواقع، كان باسل سيحاول تجريب تلك الطريقة لو لم يخرج بنتيجة مع الموقّر باالأعماق، فلابدّ له من الحصول على ذلك الشيء من الأساطير حتّى يستطيع الاستعداد جيّدا لتحوّل العالم الواهن إلى عالم روحيّ. ارتاح نوعا ما كونه لن يتجرّأ على مقاتلة القبائل بشكل مباشر من أجل حماية عالمه أجمع.


عبس العالم المجنون بينما يحاول اكتشاف طريقة حصول باسل على مثل الميزة، لكنّه لم يعلم فاضطرّ إلى السؤال: "أخبرني كيف حصلت على هذه الميزة؟" كان يريد الحصول عليها أيضا.

ابتسم باسل متكلّفا ورفع يديه فأجاب: "أوه، هل تخبرني أنّ السيّد نابغة لا يعرف هذا الشيء حتّى؟ لا بأس، إن أردتني أن أنيرك لهذه الدرجة فلا خيار آخر."

"لا..." صرخ العالم المجنون فجأة: "لا حاجة لذلك."

كان باسل يعلم كيف يتعامل مع شخص كالعالم المجنون. فلو رفض إجابته ببساطة لم يكن العالم المجنون ليستسلم بسهولة، فيكون مزعجا اكثر فقط، وبدل ذلك استفزّه وشكّك في عبقريّته، فجعله بذلك يقبل تحدّيّا رغما عنه بكشف ذلك الأمر بنفسه، فوفّر باسل عن نفسه العناء؛ لم يكن هناك طريقة ليشرح بها باسل مثل هذا الأمر لشخص آخر؛ لقد كان شيئا لا يجب على أيّ أحد أن يعلمه.

جلس باسل يتأمّل في عظمة الشجرة لوقت، وفجأة أتاه اتّصال جعله يعبس غير راضٍ بما سمع، فأجاب: (بوركت يا أبهم، يمكنك الاطمئنان فقط.)

ولم تمرّ مدّة طويلة حتّى سمع ضوضاء عالية الصوت آتية من خلف الجبال، فوقف وحدّق إلى الاتّجاه التي كانت آتية منه، إلّا انّ الضوضاء بدت تأتي من جميع الجهات كلّما اقتربت أكثر، وعندما توقّفت أخيرا فُهِم سبب ذلك.

نظر العالم المجنون إلى الجبال حوله فكانت مليئة بأعداد هائلة من الوحوش النائمة، فبلغ عددهم حوالي المائة ألف، وكلّهم كانوا سحرة فوق المستوى السادس على الأقلّ. كان ذلك منظرا مهولا ومهما كانت النفس شجاعة سترضخ للموقف وتجبن.

حملق كلّ واحد من تلك الوحوش النائمة إلى باسل بعيون مملوءة بالغيظ والاشمئزاز كما لو كانوا يرون عدوّهم الطبيعيّ، كما لو كان باسل هو الجزّار الذي ذبح أفراد عائلاتهم ومزّق بيوتهم واغتصب أراضيهم وحقوقهم. لقد كانت نظراتهم تلك مليئة بالعزيمة الكافية لقتل أيّ احد يعترض طريقهم في استئصال هذا السم الذي يغزوهم.

تنهّد باسل في هذه الأثناء ورفع يديه ثمّ قال: "يا لمياء، ظننتك جدرى من ذلك، لكن أظنّني طلبت ما يفوق قدراتك. لا قلق، أنا ماهر في الإقناع." ابتسم عندئذ وحدّق إلى خلفاء حكّام الطبيعة كما لو كان يقصدهم بجملته الأخيرة.

اسودّ وجه خليفة حاكم المياه واستشاط غضبا قبل أن يشير إلى باسل صارخا: [أنت وباء يحاول غزو وكرنا، أنت علّة تحاول الاستيلاء على كنزنا، أنت عدوّ لوحشنا النائم. لن نسمح لك بالبقاء على قيد الحياة أبدا، وطبقا لقانوننا الأسمى نقسم ألّا تحيا يوما آخر!]

[وااااه]

تابعت الحشود ذلك بصياح عظيم رعَد المكان.

هزّ باسل رأسه غير راضٍ ثمّ قال بعبوس: "أتظنّونكم تكسبون حسن وحشكم النائم بفعلكم هذا؟ لقد كنتُ أحفظ ماء وجوهكم بعدم قضاء غرضي دون إخباركم، لكنّكم واجهتم حسن نيّتي بسوء، فـبِئس فخركم هذا الذي يحرمكم من مبادلة حسن النيّة. تعالوا، سأدقّ رؤوسكم الخرِفة اليوم فتدركون عندئذ مدى قساوتها، وكم هي في حاجة ماسّة إلى بعض من الليونة."

"حسن النيّة؟" قال خليفة حاكم المياه ساخرا: "أتعدّ تهديد سلامة شجرتنا العظيمة حسن نيّة؟ هذا فقط كافٍ لقتلك، فما بالك بادّعائك حسن النيّة في وجوهنا؟ أتظنّك تستطيع خداعنا بهذه الكلمات اللّيّنة؟ قل ما شئت، فموتك غاد مقرّرا في اللحظة التي اقتربت منها من حاجز شجرتنا الأمّ؛ ذلك خير برهان!"

"برهان؟" هزّ باسل رأسه مرّة أخرى مستاءً: "أنتم فقط لا تستطيعون ترك السرّ ينكشف وتريدون حجّة ما لتجعلوا هؤلاء الناس كلّهم مقتنعين تماما بقتلي، فيمنحون كامل جهدهم في محاولتهم تحقيق ذلك، ومن خلال ما يبدو لي، يبدو أنّكم نجحتم حقّا."

حملق باسل إلى لمياء وقال بجدّيّة: "ستعذرينني يا لمياء، لكنّني حقّا أحتاج إلى طقطقة رؤوسهم حتّى يفهموا؛ فكما يوجد من يستوعب الشيء بالكلام فقط، هناك أيضا من يحتاج للضرب قبل أن يعقل، أمّا بالنسبة لأولئك من لا ينفع معهم هذا ولا ذاك، فمصيرهم واضح."

امتدّت نيّة قتل باسل بعد ذلك، متخلّلةً المحيط بأكمله غامرةً بذلك الحشد كلّه، فشعر عندئذ كلّ واحد منهم مرّة واحدة بالقهر من هيبة تلك النيّة فقط، ولمّا أطلق باسل هالته نحوهم زاد الطين بلّة فارتعدوا وهابوه أكثر فأكثر في كلّ ثانية تمرّ. لقد كانت نيّته وهالته في مستوى آخر عمّا توقّعوا.

شحبت لمياء من تينك النيّة والهالة: "ما الذي يحصل هنا؟ هل هذه نيّة قتل آتية من شابّ في مثل عمره؟ هل هذه هالة شخص في مستويات الرّبط؟ ما الذي يحدث بهذا العالم بالضبط؟"

شارك الباقون أفكار لمياء كما شاركوها نفس الشعور، ومع ذلك كان يحتاج الأمر أكثر من هذا حتّى تتزعزع ثقة الوحوش النائمة؛ فبالرغم من هذا الضغط المهول إلّا أنّ كلّ واحد منهم كان واثقا، كان واثقا في الشخص الذي بجانبه والذي بجانب من بجانبه. كانت تلك الثقة صامدة في كلّ المواقف، وبتجمّعهم معا لم يصمد أمامهم أيّ جبل فما بالك بمجرّد باسل؟

رفع خليفة حاكم الجوّ صوته الحادّ الأخنّ: "يا تشكيل هيبة السماء، تحرُّك!"


تابعه خليفة حاكم الريّاح: "يا تشكيل دوّامة الهلاك، تحرُّك!"

واصل خليفة حاكم المياه بغضب: "يا تشكيل طغيان الطوفان، تحرُّك!"

أكملت لمياء بعدما تردّدت للحظة: "يا تشكيل أولاد الأرض، تحرّك!"

كانت هذه هي التشكيلات الأربع الأساسيّة التي كانت في الأصل خمسة بوجود قبيلة حاكم النيران، وعندما تحرّكت هذه التشكيلات تبعتها جميع التشكيلات الأخرى التي لديها نفس خواصّ سحرها وكوّنوا بذلك أربع تشكيلات عظيمة.

امتلأت السماء بعدد كبير من الوحوش النائمة الطائرة، وكلّ واحد منهم تحوّل عبر سحر التحوّل إلى طائر من نوع ما، فهناك من صار يملك خواصّ تشبه تلك الخاصّة بالنسر إلّا أنّها كانت أكثر وحشيّة، وهناك من ملك خواصّ طير أبابيل، وهناك من اختلطت خواصّه بتلك الخاصّة بالحيوانات البرّيّة.

أمّا عن قائدهم خليفة حاكم الجوّ، فقد كان تحوّله بارزا بينهم كلّهم إذا صار نصفه السفليّ كالخاصّ بالأسد، وأصبحت ذراعاه كتينك اللتين يملكهما الصقر، وكانت ملامح وجهه هي نفسها تقريبا إلّا أنّ حدّتها زادت فغدت عيناه اللتان تشبهان عينيْ الصقرِ عينيْ صقرٍ فعليّا. حلّق في السماء بجناحيه الواسعين، فبدا كحاكم جوّ لا يمكن مقارعته.

لقد كان ذلك تحوّلا بخواصّ الفتخاء الذي كان وحشا مشهورا في العالم الواهن كونه يُعَدّ وحشا خارقا، وكان ذلك خير دليل على قوّة نسل حاكم الجوّ. ابتسم باسل من هذا الأمر وفكّر في بعض الأمور قبل أن يتمتم: "أريد حقّا أن أرى إلى أين سيصل بعدما يستحوذ على روح وحش الفتخاء، لكنّ مدى تطوّره سيكون معتمدا على كم من مرّة يتأصّل فيها."

كان الوحوش السحريّة تخترق إلى المستويات الروحيّة بطريقتها الخاصّة؛ فعندما تبلغ المستوى الرابع عشر تستهلك طاقة الوحوش السحريّة الأخرى عن طريق قتلها أو إخضاعها، وتأكل أحجارها الأصليّة حتّى تقوّي من خاصتها.

يقال أنّه في المستوى الرابع عشر يصبح للوحوش السحريّة نوعا من الحكمة التي تجعلها تريد مزيدا منها، وكلّما استهلكت وحوشا سحريّة أخرى كلّما زادت تلك الحكمة، كما لو أنّها تأخذ حكمة تلك الوحوش السحريّة.

ما أن تصل هذه الوحوش السحريّة إلى مستوى معيّن من الحكمة، تفهم وتدرك جذورها فتتأصّل، وعندئذ تدخل إلى المستويات الروحيّة. وبالطبع كانت هناك اختلافات كثيرة في عمليّة التأصّل تلك، فهناك وحوش سحريّة تنجح وأخرى تُلتَهم من أصلها، كما كانت بعض الوحوش السحريّة التي اكتسبت حكمة عظيمة قادرة على التأصّل لعدّة مرّات في عمليّة اختراقها. كانت تلك الوحوش مرعبة كثيرا وقليل من تجرّأ على الاقتراب منها.


وفي العوالم الروحيّة كان وحش الفتخاء مخلوقا نادرا مثلما كان في العالم الواهن، ومع ذلك قليل من تجرّأ على الاستحواذ على روحه، لكن السبب هذه المرّة لم يكن فقط لصعوبة ذلك، وإنّما لصعوبة تأصيل روح الساحر الروحيّ بعدما يندمج معها.

كان الساحر الروحيّ يؤصّل روحه أيضا بعدما يندمج مع روح الوحش المستحوذ عليها، وكانت هناك درجات واختلافات بذلك أيضا، وأيّ ساحر روحيّ مستحوذ على روح الفتخاء كان عبقريّا لا محالة ورُغِب به من العديد من الممالك والإمبراطوريّات.

كان هذا هو السبب في قول باسل قوله ذاك سابقا.

أمّا عن تشكيل دوّامة الهلاك، فقد شكّلوا نجمة خماسيّة كان مركزها قائدهم، خليفة حاكم الريّاح، والذي تحوّل إلى مخلوق يشبه السحليّة إلّا أنّه كان يقف على رجلين مثل الشخص، وكانت بشرته الخضراء تعكس الضوء كونها قشرة صلبة كتلك الخاصة بالياقوت، وحافظ وجهه على القليل من ملامحه بينما تغيّر لون عينيه للأصفر المتوهّج بينما أمسى شكل رأسه حادّا.

هزّ باسل رأسه وصرّح: "مثير للاهتمام امتلاكك تحوّلٍ كذاك بالرغم من أنّ السحليّة التنّينيّة غير موجودة في عالمنا الواهن. إنّ أباكم الروحيّ قد أوجد عرقا جديدا حقّا."

كان ما أرعب الناس بشأن الوحوش النائمة هو كونهم يولدون بإمكانيّة تحوّلهم بدل أن يحصلوا عليها في قتال ضدّ وحش ما، وتوجّب فقط أن يصيروا سحرة قبل أن يستطيعوا التحوّل، وبالطبع لم يكن ذلك صعبا على القبائل التي عُرِف أعضاؤها كلّهم كسحرة تحوّل.

أتى دور حاكم المياه، فانشقّت الأرض أسفله، فانطلق عامود مائيّ حاملا إيّاه بالسماء، مظهرا هيبته التي تمثّلت في شكل مختلف كلّيّا عن أيّ وحش سحريّ بحريّ في العالم الواهن أو يملك سحر الماء على الأقلّ. لقد كان ذلك تحوّلا إلى وحش يبدو من خلال شكله ذي أصل عتيق وإمكانيّات غير محدودة.

ظهرت زعنفة على ظهره وامتدّت على طوله حتّى اتّصلت بذيله، أمّا رِجلاه فقد أصبحتا ضخمتين كما حدث لباقي جسده، وصار وجهه أسودا ومرّت عبره أشرطة بيضاء كانت فيها نقوش ما مشكّلةً بذلك نمطا معيّنا بدا ككتابة عتيقة لا أحد يعلم عن مصدرها.


فكّر باسل: "يا أيّها الموقّر، أنت حقّا كنت تزعم أن تجعل هذه القبائل أساسك المستقبليّ؛ حتّى أنّك وهبت حاكم المياه مثل هذا الوحش المرعب. فحتّى لو كان مجرّد نسخة لا يمكن مقارنتها مع الأصل، إلّا أنّه في يوم من الأيّام سيقترب كثيرا من الأصل."

أكمل تفكيره أكثر: "لكن ما يثير الاهتمام أكثر هو حصولك على كلّ هذه الخواصّ من تلك الوحوش الأسطوريّة، فما لم تكن ملمّا تماما بتشكيل أرواحها وجيناتها لما استطعت تحقيق هذا."

ابتسم باسل بعد ذلك وصرّح بينما يحملق إلى حاكم المياه: "يبدو أنّك تملك موهبة جيّدة حتّى لو كان رأسك حجرة، نظرا لكونك ورثت تحوّلَ نسخة من اللوياثان* حتّى ووضعت عليه سيطرتك."

(لوياثان 'أو ليفاياتان' هو وحش بحريّ أسطوريّ. ابحثوا عنه في غوغل لمزيد من المعلومات.)

كانت نظرات حاكم المياه تغدو أكثر جدّيّة في كلّ مرّة يصرّح فيها باسل بشيء عن تحوّلاتهم وأسرارهم التي قليل من يعلمها، فزادت رغبته في إبادة هذا الفتى الخطر عليهم أكثر فأكثر مع مرور كلّ لحظة.

وأخيرا، عضّت لمياء شفتها السفلى وحدّقت إلى الأرض أسفلها غير قادرة على مواجهة نظرات باسل التي بدت كأنّها تنتظر قرارها، وتأسّفت في قلبها لما آلت إليه الأمور، ولكن لم يعد هناك رجعة في هذا، فكلّ شخص يجب أن يتّخذ قرارات صعبة في حياته، لذا شحنت وشحذت طاقتها السحريّة فصارت التربة أسفل قدميها سوداء مظلمة فجأة.

تحوّلت عيناها أوّلا فصارتا أكثر ظلمة وسوادا بعدما كانتا حمراوين، وظلّت حمرتهما السابقة في حدقتيْ العينين فقط كنجمين أحمرين يقبعان بفضاء حالك. اهتزّ حولها الهواء وانبعث من جسدها دخّانا أسود، وملأت قشور بنيّة أطرافها الأربع، وعندما لمعت هذه القشور بأشعّة الشمس كانت تبدو كأحجار كريمة تزيّن جسدها ذا القوام المثاليّ.

طال شعرها الأسود أكثر وبلغ قدميها، وعندما ركّز الناس أنظارهم عليه وجدوه يهتزّ وكلّ شيء يلمسه يصبح غبارا أسود.

ابتسم باسل وحدّق إلى وجهها الحادّ، والذي صار أكثر جاذبيّة عن قبل نظرا إلى اللمعان الذي غطّى بشرتها السمراء فزوّدها بجمال أخّاذ. لم يسعه سوى أن يمدح: "جميل! حتّى لو كان مجرّد نسخة، يبقى تحوّلَ تنين أرضيّ."


بسط باسل ذراعيه وتحسّس كلّ ذرّة حوله كما لو كان يستشعر الحياة الموجودة هنا ويستمتع بها، وفجأة انبعث منه ضوء انطلق في جميع النواحي وأنار محيطا شاسعا فمرّت هالة ذلك الضوء عبر جسد كلّ واحد من الوحوش النائمة.

كان إحساسهم هذه المرّة مختلفا تماما عن المرّة التي ألقى فيها نيّة قتله، فشعروا بالحنين ودقّت قلوبهم بسرعة كأطفال يحنّون إلى أبيهم الغائب، ويتشوّقون إلى حضنه الواسع وصدره الرحب. كان ذلك شعورا غريبا جدّا ولم يعلموا ما الذي يحدث معهم.

فزع الحكّام الأربعة: "هذا...!"

لم يفهم أحدهم ما يحدث حقّا، لكنّ الشيء الوحيد الأكيد كانوا هم الوحيدون المتيقّنون منه. لقد كانوا الحكّام لذا كانت صلتهم بشجرتهم العظيمة كبيرة، وسبق لهم أن انتعشوا بظلالها وناموا بأغصانها وجابوا عالمها الخياليّ، فعلموا تماما أنّ هذا الضوء وتلك الهالة اللذين ينبعثان من جسد باسل يُشعِرانهم بنفس تلك الأحاسيس.

فقد حاكم المياه رشده فصرخ: "يا لعين، ما الذي فعلته حقّا بشجرتنا العظيمة؟ كيف لك... أنت، أجنبي، أن تملك مثل هذه الهالة وهذه الطاقة. هذا مستحيل... إنّك عفريت."

حملق إليه الثلاثة الآخرين فقط دون أن ينبسوا ببنت شفة، فما يحدث للتّوّ أمامهم يكسر جميع معتقداتهم وقوانينهم التي بنوا عليها أساسهم طيلة السنوات المديدة التي مرّة.

"لعين؟ عفريت؟" تساءل باسل ساخرا ثم أكمل: "هوهوهو، لربّما معك حقّ في ذلك، وخصوصا في أولاهما، ولكن مع ذلك، فإنّ الحقيقة التي تشهدونها بأعينكم تلك فعلا حقيقة لا يمكن نكرانها، ولو فعلتم ذلك سيكون الأمر بالنسبة إليكم كنكران أصلكم، وعصيان رغبة أبيكم الروحي، رغبة وحشكم النائم."

استشاط حاكم المياه غضبا من فلسفة باسل، ولم يعد قادرا على الصبر أكثر، فتجاهل كلّ ما يقوله باسل وأمر تشكيله بالاستعداد. وبالطبع فهم الحكّام الثلاثة سبب فعله مثل هذا الأمر؛ فلو لم يسرعوا في إنهاء هذا الفتى، من يعلم ما إذا كان قادرا على التأثير بوحوشهم النائمة.


تحدّث حاكم الجوّ من السماء بصوته الحادّ: "سنشرّح جسدك ونتعمّق في بحر روحك حتّى نعلم عمّا تخفيه، أمّا الآن، فيجب رضخك مهما يكن."

لم يقل حاكم الريّاح وحاكمة الأرض شيئا، وكلّ ما فعلاه هو الإشارة إلى تشكيليهما بالاستعداد بشكل أفضل للهجوم في أيّ لحظة.

[دوّامة الهلاك!] [هيبة السماء!] [طغيان الطوفان!] [أولاد الأرض!]

صرخ الحكّام الأربعة بصياح لبدء المعركة: "يا تشكيل الطبيعة الأمّ، اعصف بأجوائك، غلّف بجوّك، أغرق ببحرك، اسحق ببرّك، احرق بألهبتك."

انطلقت القوّات جميعها في آن واحد بعدما صرخ الحكّام بصياح بداية المعركة، فكان المشهد أمام باسل مروعا للقلب، ولم يكن هناك أيّ باسلٍ قادر على الصمود أمام نيّات القتل المتوحّدة تلك فما بالك بمواجهة أصحابها جميعا مرّة واحدة.

ابتسم العالم المجنون نصف ابتسامة من بعيد ثمّ حدّق إلى باسل: "اتركني خارج هذا الأمر من فضلك، لكنّني سأحرص على رؤية ما الذي ستفعله بتلك الطاقة الغريبة التي تجري في عروقك. نعم، شيء ما تغيّر بك أو أضيف إليك على الأقلّ بعدما عدت بعد ثلاثة أيّام، وله علاقة بذلك الضوء سابقا. يجب أن أعلم عن هاته الأشياء مهما حصل، بما أنّ هذه أعضاء القبائل يشبهونني نوعا ما."

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين قد استغلّ الفرصة عندما بعث باسل ذلك الضوء وابتعد عن ساحة المعركة، وبالطبع لاحظ باسل ذلك لكنّه لم يهتمّ، فهو يعلم تماما أنّ العالم المجنون لا يحبّ القتال، ولا يطمح للقوّة وإنّما المعرفة.

فكّر باسل لنفسه في شيء ما وابتسم متكلّفا قبل أن يصرّح: "حسنا، فلنطرق بعض الرؤوس العنيدة، فمن اليوم فصاعدا، أنا وليّ أمركم!"

***
اهتزّت الأرض بتحرّك مائة وحش نائم، فزُعزعت الجبال وفزعت جميع المخلوقات المجاورة، حتّى أنّ العديد من الوحوش السحريّة في المناطق المحظورة المجاورة هرعت إلى وكورها خوفا من نيّات القتل والهالات المرعبة اللّتين أثبطتا أيّ عزيمة.

تحرّكت الريّاح العاصفة، وثقُل التنفّس، وانقلبت الأرض، ثمّ هاجت المياه من أعماقها، فبدا الأمر كما لو أنّ الطبيعة الأمّ قد ثارت وجلبت معها كوارثها لتسقط على داء يقتلها.

تساقطت نجوم بألوان متنوّعة من السماء، وكانت حقيقتها هجمات سحريّة من تلك الوحوش النائمة المجنّحة التي تحكم السماء وتتلاعب بالجوّ، فصاحب النجوم برقا ورعدا جعل المناطق المجاورة تحترق وتتصدّع أراضيها.

هبّت في الآن ذاته أعاصير وعواصف مزّقت كلّ مخلوق ولم تترك شيئا سوى الغبار، حتّى أنّ الجبل أمامها صار رملا متناثرا في الجوّ بسرعة خياليّة.

انشقّت الأرض فسقط باسل في قاعها، فتساقطت تلك النجوم كلّها عليه مرّة واحدة بعدما ركبت تلك الأعاصير والعواصف، فأُغلِقت عليه الأرض بباطنها وسحقته بوزنها العظيم، والذي كان بإمكانه جعل حتّى ساحر بالمستوى الرابع عشر يتذوّق ألما مروعا، فما بالك لمّا أضِيف لها تلك النجوم راكبة الريّاح القاتلة؟

اهتزّت تلك الأرض وانفجرت بأعماقها، فتزلزلت المناطق المحيطة لوقت طويل، وفجأة............ يتبع!!!!!!!!
جميلا اوى بس انجز فى الجزء التاسع عشان انت شوقتنى
 
  • حبيته
التفاعلات: Dealor
  • بيضحكني
التفاعلات: darkangile
تسلم ياغالي
بكره ان شاء **** الجزء🙏🌺🌺
مش كان امبارح على اساس انهارده
يابنى ايهاب نفسه يخطف حد
 
مش كان امبارح على اساس انهارده
يابنى ايهاب نفسه يخطف حد
مهو انهارده يعم ان شاء ****
هينزل الجزء الجديد
 
  • حبيته
التفاعلات: BABA YAGA
انت بدأت تكملها من اول الجزء الكام؟
لا ي حبيب اخوك القصه دي كلها منقوله مكتبتش فيها حاجه
انما قصه حياتي مبهدله هي الي بكتبها وبكملها
 
  • الموضوع ده يدعو للتفكير
التفاعلات: PepOoz69
لا ي حبيب اخوك القصه دي كلها منقوله مكتبتش فيها حاجه
انما قصه حياتي مبهدله هي الي بكتبها وبكملها
طب ولما هي كلها منقولة بتنزل الاجزاء بالقطارة ليه 🙄🙄
 
  • بيضحكني
التفاعلات: BABA YAGA
  • بيضحكني
التفاعلات: PepOoz69
  • بيضحكني
التفاعلات: BABA YAGA
  • بيضحكني
التفاعلات: PepOoz69

المواضيع المشابهة

عودة
أعلى أسفل
0%