aahmedegypt
كبير النقاد✬ مراقب عام وكبير المشرفين
طاقم الإدارة
كبير مشرفين
مشرف
مراقب
مسؤول الدردشة
مشرف دردشة
العضوية الذهبيه
كاتب متميز
ناقد فني
الكاتب المفضل
نسوانجى جنتل مان
العضو الخلوق
نسوانجى مثقف
نسوانجي متفاعل
نسوانجي متميز
دكتور نسوانجي
أستاذ نسوانجي
عضو
ناشر قصص
نسوانجي قديم
ناشر المجلة
فضفضاوي برنس
- إنضم
- 27 أغسطس 2022
- المشاركات
- 7,564
- مستوى التفاعل
- 12,738
- نقاط
- 105,028
- الجنس
- ذكر
- الدولة
- egypt
- توجه جنسي
- أنجذب للإناث
وقعت أحداثُ هذه الرواية ، جميعها ، فى الليلة التى يُسفر صباحُها عن يوم الثلاثاء الموافق للتاسع من ذي القعدة سنة 1441 هجرية .. الموافق أيضاً للثلاثين من يونيو سنة 2020 ميلادية ، وهي سنة 1736 القبطية المصرية ، وسنة 2012 القبطية الأثيوبية ، وسنة 1399 الشمسية الفارسية، وسنة 5780 بحسب التأريخ التوراتى البادئ من آدم اليهود .. وقد نشرتها ، عملاً بالحديث الشريف : ألا لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس ، أن يقول بحقٌّ إِذا عَلِمه (رواه الإمام أحمد في المسند والترمذى فى السنن ، عن أبي سعيد الخدرى)
آخرتها إيه يا عبده ، يا غلبان قالها في نفسه هامساً ، ساعة الغروب ، وهو يصعد الدرجة الثالثة من سُلَّم منزله المكون من طابقين ، فقط منزله المتكوّم بلا هيبة ، القابع بلا حضور متميز في المكان ، ومن حوله ، حتى بدا سطح المنزل مثل قاعٍ عميقٍ لبئرٍ لم يحفرها ، أحد ، ومثل فناء خلفى للشواهق الثلاثة القبيحة التي أحاطت به بإحكامٍ خانق . حتى النوافذ التي فتحها سكان الشواهق المحيطة ، لتطل على الفراغ المستقر فوق سقف المنزل ، أغلقت ، بعد الواقعة المشهورة التي رفعت رأس عبده بين جيرانه الثقلاء ، الجاثمين على روحه . ما علينا من كل ذلك ، فالمهم الآن هو حسم الأمر المعلق منذ فترة ، فقد طال الصبر حتى : تقطعت أوصاله
عند الدرجة العاشرة من السُّلَّم الرخامي ، المسيجة حوافه بقضبان صدئة . رأى شقة الدور الأول
، المظلمة، المغلقة منذ وفاة جدته العجوز ، المحطَّمة . قضت هذه المرأة السنوات العشرة الأخيرة من عمرها ، لاتتحدث إلا عن فضائل زوجها ، وعن إنجازاته التى أهمها تشييد هذا المنزل منتصف القرن الماضي، العشرين . كان المرحوم قد شيَّده وسط فراغ رملي ، جعل المنزل يبدو آنذاك من بعيد ، کصرح أنيق .. ناء .. متوحد بطرازه المعمارى الذى لاشخصية له . ومن حوله دار شريط لايزيد عرضه عن مترين ، إلا من ناحية الواجهة الخارجية . يصل العرض هناك إلى ثلاثة أمتار . الشريط المحيط بالمنزل ، كان فيما سبق حديقة ، وصارت أرضُه الآن جَرْداء قاحلةً كالحقيقة
تنهد عبده لحظة أن لمح صدأ القطع النحاسية التي كانت قبل عقودٍ من الزمان ، تزين باب الشقة ..
تذكر يومى وفاة جده ، وجدته . كلاهما مات فى صحةٍ مقبولة بالنسبة لمن يناهز الثمانين ؟ صحة الجد بالطبع ، كانت أفضل .. أى شيء ذلك الذي انطوى بموتهما . سأل نفسه : أتراهما اليوم ينعمان ، معاً ، بسكينة الخلود، ويرتعان في رياض الجنة ؟ جاوب نفسه بما معناه: ربما يرتع الجد، أما الجدة فلا يبدو من حياتها المديدة ، الفارغة ، أنها عملت شيئاً تستحق به الخلود والرتع . وما الذي سيخلد منها بالضبط ! وهي التي قضت الأعوام الثلاثين الأخيرة من عمرها ، لاتضحك ولا تبكى . لم يرها طيلة عمره ، خارجةً عن مألوفها ، المحايد، الساكن دوماً. غير أنها انفعلت مرةً، وصرخت في وجهه بارتجافةٍ شديدة ، يوم همس في أذنها بأن جده لم يحسن اختيار موقع هذا المنزل
سلم الدور الثاني ، الأخير ، درجاته أكثر نظافةً ونصوعاً . رخام الدرج يزداد وهجه الأبيض ، كلما ارتقاه بدت لعينيه الدرجة العالية ، الأخيرة .
لماذا يتعلق قلبه بهذه الدرجة الرخامية العريضة ، بالذات ، ويتوجس منها ؟ هل لأنها علامة الوصول وقرب
الولوج ، أم لأنها علامة الخروج من شقته الرطبة . لم تعد تدخلها الشمس مذ صار المنزل تحت حصار الجدران الخلفية للعمارات الثلاثة المحيطة به .. لا ، بل لأن هذه الدرجة الرخامية ، العلامة النهائية الفارقة . نعم ، هى الفارقة بين الموت والحياة ، هي علامة وجودك يا عبده يا مطحون ! فكلما تعادل عليها مرورك (الصاعد الهابط) فأنت حى .. ويوماً ما ، ستمرُّ على هذه الدرجة صعوداً أو هبوطاً ، ثم لا تعادل الصعود بهبوط ، أو الهبوط بصعود .. فتكون عندئذ قد مت .
حَدَّث نفسه وهو يلتقط أنفاسه : عندما أموت ، هل ستقترن امرأتي الناعمة برجل آخر ؟ هل سترتخي له ؟ هل سيمر بباطن كَفّه الخشنة على أنحاء جسدها العارى الممدَّد بجواره ؟ .. إبيه يا عبده ، يا مخلول . لماذا ترعدك هذه الخواطر والأفكار .. مشغول بما سيحدث عندما تموت ! إنك الآن ميت وأنت حى .. تدور كالترس فى الفراغ ، ليلك كئيب ونهارك .. لا أحد يهتم بك ، يا مسكين ، مع أنك لم تقصر في شئ .. طيب، الصبر عموماً طيب ومطلوب . قد تنصلح الأمور الليلة ، وتكون آخرتها حلوة ... هه
قبل أن يُولى وجهه نحو باب شقته ، تسمرت قدماه على الدرجة الأخيرة ، الفارقة ، وأمال وجهه نحو بئر السلم .. رآه بئراً أخرى ، فارغةً ، كبئرِ الفراغ التي يستقر منزله بقاعها ، وبئر الفراغ التي انحفرت بداخله خلال الأسابيع الماضية .. بئر ، ثم بئر ، ثم بئر ! فمتى سيخرج من دوامات الآبارالمتداخلة ؟
أطال النظر لأسفل ، وقع نظره على الصندوق الخشبى المخصص للبريد . لاحظ للمرة الأولى ، أن حجمه كبير بالنسبة لأى صندوق مماثل ، وأن موضعه عجيب (أعلى الدرجة الأولى من السلم) .. مَنْ وضعه في مكانه هذا، ومَنْ صنعه بهذا الحجم : أبوك ؟ جدك ؟ المقاول الذي بنى المنزل ؟ مَنْ ..؟
أدهشته فكرة أن يكون وجود الصندوق سابقاً على وجود المنزل، وأن المنزل بطابقيه بنى خصيصاً لتحيط حوائطه حائلة اللون ، بهذه العلبة الخشبية الخطيرة التي صار ينظر إليها مؤخراً ، بارتياب، وصار مع بدء ورود الرسائل ، يسميها : صندوق المفرقعات ! .. قبل شهرين ، حين قال لامرأته الإسم الجديد للصندوق . لم تردّ ، ابتسمت بكسل ، ثم نظرت بأسى إلى بعيد ! ماذا لو نزل الآن فنزع الصندوق من مكانه ، ولو شاء حطَّمه ومحا من الوجود أثره ، أو فتته ثم أشعل فيه النار وراح يرقب احتراقه ، أو خلع جوانبه و واجهته فألحق قلبه بالفراغ المحيط به ، أو ...!!!!
انتبه إلى أن صوتها الناعم ككل ما فيها ، يكاد يأتى خفيضاً من داخل الشقة ، من الجانب الأيمن الصالة الرطبة ، من البقعة الوحيدة الخالية من الأثاث، ومنها يتفرع الممر المؤدى للغرف الثلاثة نبراتها الناعمة دافئة ، دافقةً ، فى تحنانها العميق غموض وسمو . خلع نعليه أمام باب الشقة ، كما يفعل دوماً ، وكما يحب أن يفعل زوارهما القلائل (معظمهم يتجاهل الأمر ويدخل بحذائه ، خاصةً النساء) أباح لنفسه أن يلصق أذنه بالباب ، حتى يتسمَّع تلك الأغنية التى تردّدها امرأته . أهى أغنية، أم نشيد قديم، أم ترنيمة سحرية ، أم همس جنون يتسلل إلى عقلها منذ بدء ورود الرسائل الغامضة ؟ .. ما الذي جرى للمرأة التي أحبها ، وكان يظهر إخلاصه لها . من بعيد سمع كلمات متفرقة ، من قولها :
محيطاً بلا نهاية .
.. وحدى ، أنا
سأبقى ، وأصير ..
أفعى ، عصية
.. وحدى ، أنا
سأبقى ، وأصير ..
أفعى ، عصية
·
نقر الباب بوجل، نقرةً خفيفةً خفية . لم يستعمل مفتاحه ، كيلا يفجؤها أو يُفاجأ هو بوقفتها السامقة التي يمكنه أن يتخيَّل روعتها . توقف ترنمها إذ ألفته لدى الباب . رآها آتيةً من خلف زجاج
الباب المغبش . ها هي تقترب إلى ناحيته ، كالحلم . صار بمقدوره أن يرى رفرفة خصلات شعرها المتهدّل بنعومته الآسرة ، على كتفيها العاريين كتفيها ، البضين ، البيضاوين ، المنحدرين بانسياب سحرى نحو مركز الإبط الدافئ، الممتدين بلون سحاب الصيف إلى حيث التقاء النهدين . في نهديها رقةً محيرة . لهما ملمس أوراق الورد ، وفيهما خلاصة الرحيق السماوى ، كله .
فتحت الباب وهى تنظر إلى حيث تتوقع أن ترى وجهه . غاصت نظرتها في قلب عينيه ، نفذت
من هناك إلى دماغه فأثلجتها ، ثم انصبت في نخاعه الشوكي فبعثت رعدةً خفيفةً غمرت ظهره
مهلاً ! كيف يمكنها بهذه العفوية ، النظر إليه بهذه العلوية ، وهذا التسامي . مع أنها أقصر منه قليلاً !
وكيف يمكن لعينيها أن ترفعه على هذا النحو ، لأعلى .. فتطيره .. وتنذره بالسقوط من شاهق
- إيه اللى سمعته منك ده ؟ .. وبعدين ، إيه آخرتها معاكى . يا حبيبتي ، كفاية كده . حرام عليكي . أنا بحبك ، ومخلص .....
..
لم يستطع أن يكمل ، كان ينوى أن يعلو بثورته إلى المنتهى، وبعدها يحط عند حَدَّ التوسل ، ثم يرسو على شط الذكريات الحلوة بينها .. فيستردها في النهاية ، يردُّها إليه من أفق النأي . لكنه لم يستطع أن يكمل . احتقن صوته وارتطمت كلماته بهذا الجدار المنيع ، الذي سرعان ما ارتفع في عينيها الواسعتين . ارتفع مثل سورٍ ممتد من بدء الخليقة ، إلى آخر زفرةٍ حَرَّى أطلقها وهو في حضنها المتجرد ، إلا من طغيان رغبتها المتأججة الطامحة إلى الإتاحة والمنح . كانت تلك المرة الأخيرة ، قبل سبعة وأربعين يوماً ، قبيل الفجر.
علا الجدار المنيعُ بعينيها ، مع احتداد نظرتها . ولما ضمت حاجبيها ، ازدادت عيناها غوصاً فيه .. فأسكتته
- أدخل .
قالتها حازمةً و استدارت مبتعدةً ، فتوغلت فى الممر المؤدى لغرفة نومها ، المؤدى لسريرها ، المؤدى للجنة التي طرد منها قبل سبع وأربعين ليلة .. لاحقها بناظريه مشدوهاً . خصرها بديع ، الثوبُ السماوى الفضفاضُ ، القصير ، يشفُ اللونَ الكُحلى لملابسها الداخلية . وما ملابسها الداخلية ، إلا قطعة واحدة ذات جناحين محلقين بردفيها ، يمسكهما شريطان لامعان يلتصقان ، بإحكام ..... بجانبيها النسيج الكحلى اللامع ، يمسك بالانسياب اللدن الناصع ، حتى لا ينفلت ! ليتها تخلع الثوب السماوى المشفّ ، ليرى ما يضطرم تحته من صراع بين اللامع والناصع ، مع حركة ردفيها الرزينة .. ولابد أن النصوع سيغلب فى النهاية وتنفلت اللدونة العاجية الشهية من حصارها .
غاص في نفسه ، هيَّجه التوقُ وفَرَكه الشوقُ .. هو محبوس عنها ، بها . وجسمها محبوس عنه بأشرطة داخلية لامعة ، وقطعةٍ من نسيج كحلى تكاد تشف ما تحتها . لقد شفّه الوحد .. فإلى متى سيدوم هذا الحبس ؟
قبل أن تتوارى عن عينيه المشدوهتين ، لمح بيدها وريقات لونها لون الكناريا، اعتقد أولاً أنها واحدة من الرسائل لكنه سوف يعرف ما فيها بعد ساعات) في يدها الأخرى كتاب ، مجلد صغيرأنيق
دست الوريقات في الكتاب وهى تغيب في الممر ، غير عابئة به .. اندفع ليدركها ، متجاهلاً الأطباق والأرغفة المصفوفة أرباعُها بإتقان ، فوق المائدة الدائرية المحصورة بأقصى زاوية الجانب الأيمن من الصالة . لم يلتفت ليعرف نوع الطعام المعد له اليوم . لحق بها في الغرفة . أراد أن يتكلم .. تاهت منه لفظة البدء .
هدوؤها الوقورُ يقلقه ، مع أنه كان مولعاً بوقارها وهدوئها قبل سنوات . قبل سنوات ، آه ، كانت بيضاء ، هادئة ، وقوراً .. يوم رآها للمرة الأولى . يوم خفق قلبه للمرة الأولى . يوم نوى للمرة الأولى ، والأخيرة ، أن يتزوج .
كانا قد التقيا في حديقة المبنى الكبير المسمى مجمَّع التدريب الذى أرسلا إليه ، كُلٌّ من جهته . هو ليدرس لثلاثة أشهر ، أصولَ توظيف الألوانِ البَرَّاقة في تصميمات أغلفة المنتجات الاستهلاكية صغيرة الحجم ! إذ كان لابد من حصوله على دورة التدريب السمجة ، هذه ، ليمكنه استلام وظيفته الجديدة في قسم الجرافيك بالشركة الدولية المجمعة لإنتاج الوجبات الخفيفة . وكانت هي قد انتظمت في مركز التدريب ، من قبل مجيئه بسبعة أسابيع ، بالدورة التدريبية عالية المستوى ، لتطوير مهارات الترجمة ومعالجة الألفاظ المشتركة بين عدة لغات، استعداداً لتسلم عملها كمترجمة في الهيئة الدولية المشتركة لضبط النصوص المترجمة من كل اللغات إلى الإنجليزية ، وحَتْ الكتاب على التأليف بها ! وهي الهيئة المعروفة اختصاراً ، بالأحرف العربية الثلاثة ، التي تبدأ بها كلماتها : هدم .
يومها ، هفا إليها حين مرَّت أمامه . صبا نحو جمالها ، حين دنا . انقلبت دولته ، لما تدانت، لما حيته بابتسامة من قاب مترين أو أدنى . تدله ، لما أوحت إليه بالاقتراب أكثر . طار فرحاً ، لما بادلته الكلمات والبسمات والإشارات كان هدوؤها ووقارها من النوع الأبيض الذى يحبه الرجالُ في النساء . كان كذلك فى ذاك الزمن ، ثم صار اليوم من النوع الرمادى الغامض ، الذي يكرهه الرجال في النساء ، صار عميقاً .. مقلقاً
- نواعم ..
ناداها بتمهل يناسب مفتتح الكلام الذى لم يعرف طيلة الأشهر الماضية ، كيف يبوح ، إليها به، لكنه يستشعرُبه
المستحسن أن يبدأ بمناداتها بهذا الاسم الواصف ، الذي اخترعه لها ليدللها ظاهرياً ،
بروحه من كُلَّ حرف فيه . كان قد همس به فى أذنها اليسرى ، عفوياً ، يوم احتضنها عاريةً لأول مرة . كانت النشوة تلفها ، بحيث زادتها الكلمة حَدَراً على خدر ، فزاد ذوبانها حتى شَعرَ أنها تسيل بين ذراعيه . نظر ساعتها في قلب عينيها ، وكرر الكلمة نواعم .. فأسبلت رموشها الكثيفة ، وراحت فيما يشبه الغيبوبة . بعد الإفاقة ، سألته لِمَ ناداها بهذا الاسم القديم ، الذى لم يعد يستعمله اليوم أحد ؟ قال ما معناه : لأن كل ما فيك ناعم ، وأنت مجمع النعومة ، وهذا اسمك عندى ، للأبد ....
جرى ذلك أيام زواجهما ، قبل قرابة سبع سنين . والآن ، ها هو واقف قرب بابها ، وقد صارت نعومتها قاسية ، قاصية ، نائية عنه موغلة في النأى .- نَعَمْ !
ردَّت بهدوءٍ عميق ، مُؤَثّر . فردَّته من غيبته اللذيذة في ماضيهما المشترك . أراح عينيه . شعرها المتهدلة خصلاته القوية ، على كتفيها . انزلقت عيناه نحو استدارة كتفها اليمنى . ماذا لو اقترب منها الآن، ولثم انحدار نقطة شمس الكتف البديع المنساب إلى دفء الإبط . يا ألله . من أية مادةٍ سماوية خُلقت هذه المرأة البديعة . هل ستزيحه عنها لو اقترب ؟ أم ستتركه يجتاحها ، مدفوعاً بغيه نحو غاياته ؟ .. أين غاياته منها ؟ أين ينتهى به مطافه السابع موجاتها المنسابة ، المتوالية . وإذا تركته يبحر فوق نواعمها ، إلى أين سيصل به المطاف ؟ أين هى من شوقه إليها ، واشتياقه ؟ .. الشوق يسكن باللقاء ، واشتياقه يهيج بالالتقاء .
- نَعَمْ !
قالتها هذه المرة بنعومةٍ آسرةٍ لا تخلو من سخرية هامسةٍ واشية بإدراكها حالة اضطرابه . زاده إدراكها اضطرابه اضطراباً .. اقترب خطوتين خجولتين ، واستعد للانكماش تحت ظلها . جثا أمامها على ركبتيه ، ثم افترش الأرض . أمال رأسه برفق ، نحو الوسادة القطنية التي تتكئ عليها . سَكَنَ ، ليسكنها . انكمش ، ليحَمْشها . هَبَطَ ، لتعليه .. دَنَا ، لتتدلّى
ارتخى جفناه حين مررت أنامل كفها اليسرى ، فوق منابت شعره . أخذه الدوار . حار سعيه في اختیار مدار : هل يكمل ما بدأه لها فتنساب هي إليه، كما أن يتمنى تفعل الآن ؟ أم ينتفض ، ويثور عليها ثورةً قد تفضى إلى استسلامها له . مضى وقت طويل منذ آخر استسلام . وقت طويل مضى منذ آخر مرة استلم فيها جسمها الذائب بين ذراعيه لينتشى بِخَمْرِهِ إلى حَدِّ المجون ، إلى حدّ النهم اللا أخلاقي ، نهم البدائيين المحرومين . بدت له ليلتها ، باستسلامها العارى من كل شئ ، إلا الرغبة في المنح ، كخبيئة نادرة صادفت نابش قبور تعيس
رفع كفيه ببطء نحو إبطيها ، ثم قارب بينهما ليحفّ ثدييها . مدت يدها اليمنى لتوقفه ، فتعلق بكفها
سحبه إليه بهدوء ناسك مخلص ، يجثو أمام تمثال إله قديم مندثر . مر بباطن كفها على وجهه ، اغتسل بنور أناملها ، لامس بشفته السفلى أطراف كفّها ، فتنهدت ، فارتجف حتى كادت دمعة تفيض من عينيه .. ناداها .
- نَعَمْ !
لم يستطع المجاوبة . ارتعش قلبه . سكن تماماً ، ثم استجمع وجوده كله ، ليندس بوجهه بين نهديها . التصق بشدة . وَدَّ لو غاص فيها حتى يتلاشى تماماً ، عله يولد ثانيةً من رحمها .
مرت بكفيها على كتفيه . استسلم لها حين رفعته بأمرٍ خفى . أترى ، هل مالت هي نحوه حتى صار بحضنها، أم هو الذي ارتقى إليها ؟
صارت تحيط خصره بباطن فخذيها . شفَّ ، وخَفَّ ، وهام . هو جات على ركبتيه يحيط خصرها بذراعيه ، وهي جالسة على طرف السرير ، وقد انكشف ساقاها و آن سُقياها . ماذا لو انكشفت كلها ، فتأجّجت وفاضت عين مياهها ؟
مد يده برفق ، فأزاح عن كتفيها الخيطين الممسكين بثوبها السماوى الشَّفَّاف . كلما انزاح الثوبُ
عن موضع من صدرها ، قبله . مسح فيه وجهه . بعد هنيهة ، تركته يهبط بالسحاب السماوي الحاجب للشمسين .. لما انكشف صدرها ، تنهد بحرقةٍ ، وأراح جبهته عليه .
.. شَعَرَ بالشلال يَسَّاقط ماؤه ، ثم لحظ انتفاضة خلاياها مع حَرِّ أنفاسه ، فازدادت شجاعته . أزاد لهيب قبلاته بحركة طرف لسانه ، ثم هبط بحمى القُبل اللاهبة ، من موضع افتراق الناهدين ، إلى حيث النعومة الخالصة .. هبط بملهباته ، ثم انحدر بها ، فانتهى عند الغاية والمنتهى .
- عبودي
قالتها بنعومة خالصة وقد أسبلت رموشها الرشيقة ، وانسدل شعرها . لفها شعور واش بأن خلايا جسمها ، جميعها ، تدعوه . راحت إلى أفق بعيد . سرت فيها موجات دفء متتالية غمرتها من أعلاها إلى أعلاها
نداؤها السحرى دغدغ روحه . ثَقُلت رأسه فأراحها عند ملتقى ساقيها .. مَرَّت على خاطره المرة الأولى التي نادته بهذا الاسم. لما سألها حينها ، قالت إن اسمه الجديد هذا، تدليل لكلمة عبده التي يناديه الناس بها . ثم أضافت بدلال ويُسر : عبدُ مَنْ ؟ أنت عبدى أنا عبدى الصغير .. عبودي !
ساعتها ابتسم مستخفاً بكلامها ، لم يكن يعرف ما خبأه الزمانُ له . بعد أيام سألها عن هذه الكلمة ثانيةً ، لما قالتها ثانيةً . فأجابت الإجابة نفسها ، بالسهولة نفسها . فوجم قليلاً ، ثم عبس وتوجس . في المرة الثالثة تكرّر الأمر ، فثار . طوّح ذراعيه . قام ، وجلس ، وقام . أراد أن يظهر لها حنقه من جرأتها عليه . طلب منها بحزمٍ وحسمٍ وعزم ، ألا تعود لمناداته بهذه الكلمة أبداً ، ولا تفكر فيها بعد ذلك أبداً ، ولا تظن أنه سيقبل ذلك منها ، أبداً ، مهما كان .. لكنها ظلت تناديه عبودي كلما قبلته وقبَلته وكاد يعتليهافي الأشهر الأخيرة ، كانت حين يشتعل بهما الشوق ويستقر قاربه فوق مياهها ، تشعر أن الذي بداخلها ، منه ، إنما هو جزء منها . غريب عاد لداره ، أو هو حجر انخلع من بناء ، ثم أعيد لموضعه . أسمعته في إحدى الليالي بعد هدأة الأمر ، بعدما خمدت كل الثورات التى تأججت بجسميهما ، وهمدت بينهما حُمى التوغلات والتشبثات . أسمعته ، وكأنها تقبله في أذنه اليسرى التي يدوخه همسها فيها أسمعته بصوتٍ ذى بحةٍ وفحيح سحرى ، عبارةً غريبة المعنى : صَحْ ، ما ذكر المذكر ، هو الذي أنث المؤنث
لم يفهم ذلك وقتها . وكان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يصله البيان والتبيان ،
، فيزيد من قلقه و دهشته واغترابه عنها .
- عبودي .
قالتها ثانية ، وكأنها تنطق بلغةٍ أخرى لا يفهمها إلا هو . قالتها بحروف غير الحروف . العين قريبة الهاء ، الباء رقّت كأنها تنهيدة *** رضيع ، الواو فاضت وتماوجت كمياه عين دافئة ، الدال خفتت حتى اقتربت صوتياً من التاء ، وما كادت الياء تبين لسمعه ، مع أن السكون كان تاماً . حولهما .. قالتها ، وقد أخذها الدَّوَارُ لما مَرَّ لسانه على أرضها ، وأحست بأصابعه المنغرزة فى ظهرها العارى ، تغوص كجذور أشجار قديمة ، فتداعب أطرافها بذور جنين كامن فيها منذ ألوف السنين .. ازداد التصاقهما تزلزل باطنها ، فانكشفت . تكشفت ، فأدركت . سَرَت ، فأسرت لنفسها :
إن ما يأتيني من خارج ، باعث لما هو كامنٌ أصلاً بداخلى . ففى منطقة عميقة منى ، تكمن النقطة التى بدأ منها الوجود ، النقطة التى خُلق منها الكون .. ماما ، إنني أشعر الآن برغبة عارمة في الهبوط لقاع المحيط ، أو التمدد عارية فوق كوكب مهجور ، أو جذب جبل ملئ بالأشجار نحو جسمی العارى الممدود فوق السرير ، الممتد من بدء الكون إلى منتهاه
راحت ، كما توقع هو ، تعزف بأنفاسها المكتومة بباطنها ، مقطوعة التأوهات السحرية . المقطوعة التي لا تتكرّر أبداً نغماتها . راحت تسافر به إلى ما وراء الوراء ، وفَوْق الفوق، وبعد البعد .
طاح قلبه وانداح ، لما دعته بأمرٍ خفى أن يتماوجا . زحف إلى قلب السرير منتشياً . تقلبا :
يغرس بخيمتها الوتد . شعر لحظتها أنه ينمحق ، يتناثر فى الكون كذرات لامتناهية الهيمان
غابت هي ، تماماً .. غامت رؤياها ، انكشف باطنها لما شعرت بقوة المحبة الطاغية ، تجتاحها توهجت في باطنها نقطة البدء ، نقطةُ سِرِّ الوجود ، نقطة النار المبدعة .. اجتاحت خلاياها ترنيمة الإلهة
القديمة :
أنا عشتار
النار الملتهبة التي استعرت في
الاسم الرابع من أسمائى الخمسين المقدسة ، هو :
نار المعركة المحتدمة
فاجعلني ، وحدى ، كخاتم على قلبك .. لأن المحبة قوية كالموت
النار الملتهبة التي استعرت في
الاسم الرابع من أسمائى الخمسين المقدسة ، هو :
نار المعركة المحتدمة
فاجعلني ، وحدى ، كخاتم على قلبك .. لأن المحبة قوية كالموت
شعرت بالكون كله يمورُ بباطنها ، فأغمضت عينيها وغابت فى أزمنة سحيقة .. شعرت بأمها
اشتاقت إليها ، جرفها نحوها التياعٌ لامحدود . نادتها نداء خفياً :
ماما ، أين أنت الآن أيتها الروح السارية فى العوالم القديمة ؟ .. ماما .. أخبريني ، هل الآفاق التي تتقاذفنى الآن ، مع هذا الرجل الذى يكاد ينغرس بأرضى ، هو ما ذكرته في رسالتك التاسعة ؟ أهذا الجنس المقدس الذي كانت كاهنات الرَّبة ، يمارسنه فى المعابد ؟ أترانى فى هذه اللحظة، تلك الأنثى في ذاتها التي حكيت لى عنها ، وما هو إلا واحدٌ من الرجال ، لا أكثر ولا أقل . تعرفين يا ماما ولايعرف هو ، أننى عرفت زلزلة الأعماق هذه ، مع غيره . عشتها بكل روعتها ، مرات .. مرةً مع الخبير الذي التقيته فبقيت غارقة فى بحر عشقه طيلة الصيف اللاهب ، سنة تخرجى وتوهجى واندلاعى كم كان ماهراً في التقاط شواردى وأناملى وانفراجة شفتى .. ومرةً مع لمسة الشاب الأشقر الذي انطلقت معه، أيام زرت ألمانيا فى صيف السنة الأخيرة من دراستي الثانوية . كم كان جميلا هذا الشاب، آه يا ماما ، ولكنى عرفتُ الآن فقط ، أن سرّ الإبحار فى الأنوثة قد يكون بمجداف أى رجل و عرفت أن النقطة / السِّرَّ ، إنما هي بداخلى أنا . وعرفت الدوار العلوى ، حين سمعتُ صلصلة الجرس بأعماقي . ماما ، إلى مَنْ أرفع نجواى . ولمن سأهمس بأسرارى ، وهذا الرجل الذي فوقي ، تحتى ، وبيننا هاوية عصور سحيقة ماما .... إلى أين تأخذينني ؟ أتراني سأعود يوماً ، مثلما كنتُ قبل إشراق رسائلك في كهف حياتي . لا ، لم يعد ذلك بإمكانى . ماما ، تلك ليلتى الأخيرة هنا ، وبعدها سأحلق نحوى، نحوك . لن أعود لما كنتُ فيه ، ولن تعاودني شكوكى .
- ماما ، خديني
انتبه (عبودی) حین همست بالكلمتين المفاجئتين شعر أنهما انفلتا . شفتيها ، ليدلاه على تفاهته، وعلى غيابه التام عنها !
كان الليل قد عم سكونه . رفع عبده رأسه مستغرباً . نظر إليها كطفل حائر ، متسائلاً . فتحت عينيها الواسعتين ، فقفزت نظرته المتسائلة فيهما . تأففت ، أشاحت عنه برأسها المستقرة على خصلات شعرها المفروش فوق الوسادة ، لاحقها بنظراته من جهة اليمين ، إلى الجهة اليسرى حيث أشاحت ثانيةً . حدَّق فيها باستغراب روح هائمةٍ عَلَتْ .. عَلِقَتْ .. ثم انزلقت من فوق سحابة . وَدَّ لو تتلقف الحائرة ، بنظرةٍ حالمة تحلّق به مجدداً . لكنها لم تترك له سبيلاً لذلك
أمام نظرته الطفلية ، المستغربة ، أسبلت جفنيها باستسلام محارب قديم انسحبت روحه ببطء من أطراف أصابعه ، فسقط سيفه من يده .
- تقصدى إيه بكلامك ، بتكلمى مين ؟
لم تكن لديها الرغبة في الإجابة . لم تكن لديها الرغبة في أي شئ دفعته بباطن گفيها ، کی ينزل عنها . تشبث . توسل إليها بانعقاد حاجبيه وتهدل شفته ، وبكل بؤس حاله رجاها أن تتركه لبضع دقائق ، كي يُنهى ما بدأ .. ازداد دفعها له ، وقد تكثَّرت حول عينيها خطوط الامتعاض ، فتكسرت روحه . ازداد تشبُّثه ، اهتزَّ فوقها وقد ارتجف من عمق رغبته الطامحة إلى إنهاء الارتواء .. لقد كاد الأمر يتمُّ ، وينزاح الهم :
- أرجوك يا حبيبتي ، دقيقة واحدة ، وخلاص .
نظرت تجاهه بحدة . شعر بنظرتها تخرق وجهه ، تحرقه ، تكاد تنتزع فروة رأسه . فارتمى مستلقياً بجوارها، كحطام سفينةٍ قذفتها موجة عاتية ، نحو رمال شاطئ مهجور
مرت عليهما دقائق ، أو دهورٌ . صار هواء الغرفة ثقيلاً . وصارا مُستلقيين ، ذاهلين بما هما فيه . عريهما ، ذهول البشر الأوائل .. كلاهما يحدق في سماء الغرفة .. كلاهما يرى ما لايراه الآخر .. كلاهما سادر في غيه ، هائم في غاياته
أنَّى سيلتقيان ، بعدما خُولِف بين طريقيهما ؟
شَقَّ جرس التليفون سكون البيت . فأفزعتها رَنَّةُ الصوتِ المفاجئ . كانت ساعتها تصغى لترانيم مندثرة تنبعث من ذاكرتها ، فانتزع الجرس روحها من هيمانها ، حتى بدت لها الرنات الحادة ، كصواعق تكاد تشقَّ رأسها .
استغربت قفزته غير المتوقعة ، قفزته النشطة المبتهجة ! حين اندفع من فوره بخفةٍ وزَهْللة ، نحو التليفون . بدا لها ساعتها ، وكأنه يؤدى دوراً كان من قبل مرسوماً له .. شدَّت الملاءة لتغطى بطنها العارى ، وصدرها . حدقت فيه حين عاد للغرفة مسرعاً ، ليلتقط على عجل ملابسه المتناثرة . أجاب نظرتها المستغربة ، من دون أن يلتفت إليها :
- الباشا في الطريق !

الباشا .... ما الذي سيأتى بجدها الآن ؟ الساعة تقارب الثامنة مساءً . ثم أنها تحدثت إليه مساء أمس
، ولم يذكر شيئاً عن زيارة مرتقبة . زيارة مفاجئة إلى بيتها . ومن دون إخطار . لماذا ؟
في العادة ، يذهبان إلى بيت الجد ، معاً ، صباح كل أيام الجمع والأعياد . بلا استثناء ، بلا اعتذارات مقبولة ، بلا تقاعس في ذهاب عبده مع جدو إلى **** الجمعة . الغداء دوماً بعد أداء الصلاة ، ثم الإجابة عن الأسئلة المعتادة بالأجوبة المعتادة ، ثم تأكيد الجد ضرورة أن يسرعا بإنجاب ولدٍ شقى ما
برح الجد فى شوق إليه .. ثم الاطمئنان على أمورهما المالية ، ثم الشكوى من الأحوال الحالية وغلاء الأسعار ، ثم تسلُّل الصمت والملل إلى مجلسهم ، ثم ظهور علامات الإرهاق على وجه الجد .. ثم الإياب لبيتهما مع غياب الشمس
ما الذي يأتى به الآن ؟ زيارته الوحيدة إلى بيتها ، كانت بعد زواجها بشهرين . الزيارة (التاريخية) التي انقلبت معها أحوال كثيرة . لن تنسى أبداً ، ما جرى يومها : وقفتها الفرحة في الشرفة المطلة على مدخل البيت ، وقد هرول عبده لاستقبال الجد الباشا عند بوابة السور الحديدى المسيج واجهة المنزل .. هرول إليه ، كشعب مقهور يستقبل المخلّص .
وقف عبده ساعتها بجواره ، وقد شَع منه أدب معجون بتذلل لم تر مثيلاً له من قبل . حين دخلا من البوابة الخارجية ، الحديدية ، رفع الجدُّ وجهه نحو الشرفة ، لتحيتّها . ابتسم لها وهو ينظر لأعلى حيث تقف ، ثم انقبضت ملامحه فجأة ، وراح يشير بعصاه ، بتأفف ، نحو الحوائط الخلفية للشواهق الثلاثة ، الحوائط الحائلة الخانقة . التفت الجدُّ لحظتها إلى زوجها ، بغضب ، ولم تسمع من موضعها
ما قاله له
بعدما صعد الباشا إلى شقتها ، واستوى بعظَمته المعتادة على كرسيه الوثير . جَرَّتْ مقعداً مربعاً لا مساند له ، وجلست بخفة عروس بجوار جدَّها ، فَرِحَةً بحضوره . سألته بلطف عما أغضبه عند المدخل ، فكان رده أن قام ، معلناً رغبته فى الصعود لسطح المنزل . تحرّك ، فتحركوا خلفه . صعدوا جميعاً، ولحقت بهم مدفوعةً بتطفل لا سبيل لمقاومته ، خادمة لعوب كانت وقتها تعمل في بيتها ، وتملأه مرحاً بغنائها الدائم وسعادتها التي لا حدود لها ، ولا سبب ... جَدُّها سيطردها فى اليوم التالي لزيارته ، بالأحرى ، سيأمرها بطردها عبر مكالمة تليفونية . وبالطبع أطاعته ، فودَّعتها بعدما دست بيدها بعض المال وسلسلة عُنق ذهبية ، كان جَدُّها قد أهداها لها قبل سنوات ، و لم تستعملها أبداً
وقفوا ، ثلاثتهم ، على سطح البيت . في نقطة الوسط من السطح النظيف الخالى من كل شئ ذى بال ، إلا حبل غسيل .. الخادمة التصقت بباب السلم المؤدى للسطح ، لتراقب الأمر خلسةً ، عن كثب . أشار الباشا إشارته المتأفَّفة ذاتها إلى جدران الشواهق الثلاثة . ثم قال بعظمة بعدما تنحنح
- إيه الشبابيك الكثيرة دى ؟

يومها ، كانت تعرف مسبقاً أن زيارة جَدها (الأولى) لن تمر بسلام ، لكنها توقعت منه أشياء أخر ، أقل تأثيراً . من قبيل إبداء الرأى فى توزيع الأثاث بالمنزل ، أو النصح باستبدال هذه الخادمة ، أو إضافة لوحة قرآنية يرى هو ضرورة تعليقها على الحائط ، أو التنبيه إلى أهمية غرس أشجار بالحديقة الشريطية الجرداء المحيطة بالبيت .. وكانت سترضى بما سيقول ، وكان زوجها سيرضخ لأى شيء يأمر به الباشا بل سيجتهد في تنفيذه . لكن الذي حدث ، كان أعلى مما توقعته . فالجدُّ ينظر لأعلى ، ويعرب عن ضيقه الشديد بالنوافذ التي فتحها سكان العمارات الثلاثة ، من قبل أن تعمر هي البيت بسنوات ! لم تلحظ الأمرَ ، و لم يكن زوجها يرى ضرراً من تلك النوافذ .. مع أنه نشأ وتزوج وسيموت ، بهذا المنزل المتواضع ذى الطابقين والسطح الخالى .
أدار الجد رأسه فى الجهات الثلاثة . زَمَّ شفتيه الدقيقتين ، حكَ ذقنه الحليقة بعناية ، ثم استدار راجعاً نحو باب السطح ، بعدما قال بحزم وغيظ مكتوم :
- الشبابيك دى غير قانونية .. لازم نتصرف !

بعد يومين ، فقط ، أغلقت النوافذ بطوب أسمني أ أشد قبحاً من الجدران المحيطة ، فصار المشهد أكثر تشوها وإيلاماً . . جميع النوافذ أغلقت، عدا واحدة فى حائط الطابق الثاني عشر من العمارة الوسطى . هي نافذة صغيرة على كل حال . بعد شهور عرفت من محصل الفواتير الشهرية المجمعة ، أن النافذة اليتيمة الباقية ، مفتوحة بحائط شقةٍ خالية اشتراها منذ سنوات ، زميل قديم لجدها ، اشتراها لحفيد سعيد له ، لن يبلغ سنَّ الزواج قبل أعوام طوال .
الزيارة الأولى (المتوقعة) انقلبت معها الأحوال ، فما الذى ستفعله الزيارة الثانية ، المفاجئة ؟ الجيران قبل الزيارة الأولى كانوا محايدين ، وكانوا ربما نظروا إليها بلطف يليق بعروس شابة سكنت منزلاً كان من قبلها شبه مهجور . منزلاً يسكنه شاب شبه مجهول ، لم يكن أحدهم يكترث به أصلاً ، إلا فتاة متوسطة الجمال فى عينيها غباء ورغبة فى زواج مبكر ، كانت تسكن في شرفة الدور الأول من العمارة
القائمة على يمين السور الخارجي للمنزل .
بعد الزيارة الأولى صار الجيران يتحاشون النظر إليها ، وصار زوجها مرهوب الجانب ، معروفاً لدى الكافة
بوصف يثير تقرزها وافتخاره : نسيب الباشا !
- الباشا في الطريق .. إلبسى بسرعة

قالها على عجل وهو يمدُّ لها ثوباً يناسب الزيارة المباغتة لها . أما هو ، فلسوف يتضح أنه زار جدها
صباح اليوم، واشتكى له من أحوالها معه . كان قد أطال شكواه ، فلم يهتم الباشا . وأطال في وصف التحولات التي طرأت عليها في الشهور الأخيرة، فلم يهتم الباشا . وارتَّج صوته وهو يرجوه بعين دامعة، أن يتدخل في الأمر ويتحدث إليها عساها تعود إلى صوابها ، فلم يهتم الباشا . ذكر له أن حفيدته تتلقى رسائل من أمها ، فقرر على الفور زيارتهما بعد **** المغرب .
سمع عبده صوت السيارة تقف قبالة السور الحديدي ، فهبط مسرعاً ليشرف بالاستقبال وانكمشت هي
فوق أقرب كرسى إلى باب الشقة . غرقت فى نداء داخلى ، ومناجاة خفية، ترجمتها ماما ، جدى في طريقه ، بعد دقيقة سيجلس أمامي، ستجوس نظراته في أرجاء روحي ، سيمزق بكلماته حبل نخاعی سيلقى بحباله فوق رأسى ، سيطوحنى فى الفراغ ، سيذروني في الهواء .. ثم أخذها بكاء لم يلبث أن صار ، لحظة دخول الباشا من باب الشقة ، نشيجاً .
..مد الجد يد التحنان لحفيدته . احتضنها ، فازداد بكاؤها ونشيجها بعد حين هدأت ، إلا من زفرات متقطعة مهما كان ، فإن لجدها حضناً دافئاً ، وفى قلبها حب عميق له . في حضنه اشتاقت لزمن طفولتها وارتاحت لعبق ملابسه ، ففيها تلك الرائحة الخاصة التي تذكرها دوماً ببيتها الأول ،المريح .
- تفضل يا باشا

قالها عبده بأدب لا يخلو من تصاغر ودناءة ، مشيراً بباطن يده اليمنى ، إلى الكرسي الكبير الذي اعتقد أنه أفضل موضع الجلوس الجد ثم انطلق من فوره إلى المطبخ لإعداد المشروب الطبيعي ، سابق التجهيز ، الذى يعرف أن الباشا يحبه. لما عاد إلى الصالة بعد دقائق ، وجد الجدَّ قد جلس فوق الأريكة الوثيرة التي بوسط الصالة ، وأجلس حفيدته بجواره .. بداية غير مطمئنة
غاص عبده في حيرته ، حَدَّثته نفسه المضطربة بالأمر ، فجاوبها ليطمئنها : سنرى ما سيكون من أمرهما ، لقد أخليت مسؤوليتى ، وأبلغت جَدَّها المسئول عنها ، أطال **** أعوامه التي قاربت الثمانين وإن لم يحسم هذا الرجل الكبير الأمر ، بعد كل محاولاتى للإصلاح ، فلا ذَنْبَ لى . ليته يحسم الأمر لصالحي، ويردُّها مما صارت فيه. إن مجرد مجيئه اليوم ، يعد إنجازاً .. ودليلاً على أنه يهتم ، ويستجيب بسرعة ، ويقف بسيارته ذات الأرقام المميزة أمام منزلى . أنا نسيبه الوحيد ، مقامى كبير عند صاحب المقام الكبير . هو قائد بطبعه ، وسيقود معركـتى حتى النصر . سينتصر هو ، وأحصل أنا على الغنيمة .
برفق ، وضع عبده المشروب قريباً من يد الجد ، ثم ظل واقفاً حتى أشار إليه الباشا : اجلس . فجلس متقلقلاً . بدا له من المناسب أن يبدأ هو الكلام . برفق . كاد يتحدث ، ليلخص ما يجرى في الشهور الأخيرة ، ويشرح أحواله وقلقه على امرأته ، الحبيبة ، ثم يترك الأمر في النهاية بيد الرجل الكبير، ويلتزم بما سيقرره الجد ، العظيم ، من أحكام سوف تعيد الأحوال سيرتها الأولى .. نوى أن يبدأ كلامه باللفظة المعتادة الجاذبة للانتباه . اللفظة التى بدأ منها يوم تقدَّم للزواج منها ، قبل سبع سنين
استجمع كل أدبه وشجاعته وخنوعه ، وبدأ :
- في الحقيقة يا باشا

- أسكت انت يا عبده .. (قالها الجد بحزم)

- حاضر يا فندم .
هَزَّ عبده رأسه صعوداً وهبوطاً . اشتد غوصه في حيرته. رجح أن الباشا لم يقصد إهانته . إنما هو فقط متأثر ، بشدة ، مما يجرى . إذن لا داعى للحرج . حتى امرأته لم تلتفت نحوه لما أسكته الباشا ، ما زالت تميل برأسها على كتف جدها . لو كان في الأمر ما يدعو للإحراج ، لوكان فيه ما يعنى الإهانة لكانت على الأقل قد رفعت رأسها ، ونظرت بازدراء نحوه . إذن ، لابأس : أسكت انت يا عبده ! حاضر يافندم .. حاضر يا باشا .. حاضر يا كبير .. حاضر یا غتيت .. حاضر یا ابن الكلب ، حاضر ، لما نشوف آخرتها معاك ومع الدلوعة حفيدتك .. الصبر عموماً حلو ، ومطلوب .
مَرَّت على الصالة دقيقة ثقيلة ، نفذت إلى مجلسهم من قلب السكون العميق ، بعدها مَدَّ الجد رجليه على استقامتهما ، فاعتدلت هي . رفع الجد جبهته ، فتهيأوا لسماع القول الفصل :
-شوفى يا بنتى ، أنا بلغنى النهاردة كل حاجة بتحصل في البيت ده .. أنا كنت ملاحظ في الفترة الأخيرة حاجات مش مفهومة ، بس كنت فاكر إنها مشاكل الحبل . وبعدين خاب أملى ، لما عرفت من عبده
-عبده ! هوه حضرتك عرفت إيه يا جدو ؟

- اسكتى شوية لحد ما تسمعى آخر كلامي . عبده ، أنا اللى طلبت منه يمر على النهارده .كنت عايز اطمن عليكي .. إنما سمعت منه حاجة عجيبة جداً

التفت الباشا بحدة نحو حفيدته ، وقد مطّ صدره فارتفعت ذقنه قليلاً فوق المقبض العاجي لعصاه التي يتكئ عليها، وسيهش بها على نعجته الصغيرة ، وقد يضرب بها إن لزم الأمر . صار الجد أكبر حجماً ، فازداد انكماشها . وجه كلامه المباشر إليها :
- إسمعى بأه ، إنتى عارفة إن عندى مشكلة قديمة مع والدتك ، بس انتى عمرك ما سمعت منى كلمة واحدة وحشة، فى حق الست دى . أنا احترمت كُونها أمك . بس هي في الحقيقة ، كانت مجرد وعاء، لا أكثر ولا أقل .
- يا جدو .
- إسمعي . لازم تعرفى إن انتى بنت أبوكي ، بنت أبوكي وجدك . والأب والجد ، شئ واحد **** بيقول من سابع سما كما أنعمت على أبويك إبراهيم وإسحق يعنى الجد أب . وأنا أبو كي وجدك اللى بتحملى اسمه .. أنا أبو كى وجدك اللى بيحبك .. ولا عندك أى شك
- لا يا جدو . وأنا كمان بحب حضرتك جداً ، وماليش غيرك هنا .

- طيب فوقى ، واعرفى مصلحتك .. وإيه إن شاء **** ، حكاية الجوابات

- أبداً يا جدو . كان عندى شوية أسئلة ، وماما بتجاوبني عليها

نزلت كلمة ماما على الجد كقذيفةٍ مباغتةٍ هَزَّت مخيمات تعيسة . شعر لوهلة بجيش من عقارب يدب تحت ملابسه ، وبآلاف من أفاع تتوغل في دهاليز روحه .. ارتج ، ثم اجتاحه خمودٌ بدأ بمقدمة رأسه ، ثم غاص الخدَرُ في بدنه كله . أَحَسَ بأمها ، قريبةً منه . شعر بها تلامس شعر رأسه ، وتتدفق في حبل وريده . أغمض عينيه إذ تذكر ، فجأة ، يوم أحاطت به جيوش أبناء العم في الدفرسوار .. كان يومها نقيباً يزهو كتفه بالنجوم الثلاث ، ويزهو عمره بالسنوات الثلاث والثلاثين ، ويزهو جنوده بروحه المتوتثِّبة الطامحة للقتال ومواجهة الغزاة . فلما وصلته الأوامر بالسكون التام تحت الحصار .. ارتج ، ثم اجتاحه خمود بدأ بمقدمة رأسه ، ثم غاص الخدر في بدنه كله
أحست الحفيدة بوقع الكلمة على جدها، فأشفقت عليه ورقت لسنواته الثمانين . التاع قلبها ، فغاصت في نفسها وتدثّرت بالصمت . إذا كانت الكلمة قد أزعجته بظاهر حروفها على هذا النحو ،فماذا لو عرف أن ماما هي أحد الأسماء الخمسين المقدسة ، التى خلعها أهل سومر على الأم العظيمة والربة الأولى ننخرساج فكانوا يبتهلون إليها ، بها . ثم انتقل الاسم الإلهى إلى البابليين ، ليصل من بعدهم إلى كل لغات البشر ، اسماً لكل أم !
كان عبده قد لاحظ اضطراب الرجل الكبير تحت وطأة الكلمة ، فتعجب بأدب وغض بصره . أطرقوا ثلاثتهم لثوانٍ كان الجد يستجمع فيها قواه ، ويستعين بكل موروثه ليحفظ توازنه أمامهما رفع رأسه ببطء ، والتفت نحوها قائلاً :
- والست دى بتجاوبك على إيه ، إن شاء **** ؟ أبداً يا جدو ،
- حاجات كده كنت عاوزه أعرفها .

- تعرفى إيه ، إنتِ مش عارفة حاجة أبداً .. أنا كنت فاكر إن الست دى ماتت وارتحنا منها و**** شئ عجيب ، أبو كي يموت فى عز شبابه ، ودى تعيش لحد النهارده ! استغفر اا**** .. استغفر اا**** .
- يا جدو ، مفيش داعى لكل الكلام ده.

- يعنى إيه مفيش داعي ، إزاى تكلمينى كده بدل الكلام الفاضي ده ، رُوحى خلفيلك حتة عيل ، جوزك برضه من حقه يحس إن هو والد

- يعنى إيه والد ! الراجل ما يقدرش يولد ياجدو ، وما يصحش نقول عليه والد . هو بس أب .. وبعدين مفيش داعى ، أصلاً ، نتكلم في الموضوع ده .

- مفيش داعى ، بتقوليها تانى .. و**** عال . هوه ده الأدب اللى انا ربيتك عليه . خلاص ، إنتى وامك نويتم على الخراب . أنا عارفها ، وعارف ألاعيبها

- يا جدو ما يصحش كده ، ماما إنسانة محترمة ولها سمعة دولية

- سمعة إيه ، دولية ، على إيه إن شاء **** .. اسمعى ، إنت تقومى دلوقت وتحرقى الجوابا دى كلها ، وتبطلى خالص تتصلى بيها ، وإلا و**** .. و**** ، لو خربتي بيتك بأفكارها السُّودا ، أنا هاخرب بيتها . وها عرف أوصل لها فى أى مكان ، تكون مستخبية فيه .

- ماما مش مستخبية يا جدو .

- يعنى إيه يا بنت؟

- یعنی مش معقول كده يا جدو . كفاية بقى ، كفاية اللى عملته معاها زمان .. وبعدين هِيَّ دلوقتى بتعمل دراسات مشهود لها فى أكبر أكاديميات العالم ، ها توصل لها إزاى يعنى ؟

بوغت الجدُّ بهذا الردّ المفاجئ .. تذكر عبده فالتفت نحوه ، وكأنه يتأكد من وجوده . رآه في مكانه ، وقد زَرَّ كتفيه قليلاً ، فازدادت هيئته حقارة . لما التفت إليه الباشا تشجع ، فقال دون أن يتروى :
- عيب كده يا حبيبتى ، الباشا عاوز مصلحتك .

التفتت نحوه بحدةٍ . أهى نظرة تلك التي حدجته بها، أم صفعة انهالت بها على وجهه . شعر عبده بالنظرة ، فمد يده بتلقائية إلى خده الأيمن ، وتحسّسه بأطراف أصابعه .. أدرك أن عليه التزام الصمت ، وعليها هي وجَدُّها أن يجدا مخرجاً . غاص ثانيةً فى حيرته وأمانيه : يظهر إن الموضوع تعقد . لو طلب الباشا أن يأخذها عنده لبضعة أيام ، حتى تهدأ النفوس ، فسوف أرحب . سأقضى هذه الأيام مع صديقى الصدوق ، نايل ، سوف نمرح كثيراً ، ونزهلل معاً . وبعد أيام سوف تشتاق لى ، وتعود . ليت الباشا يقف الآن ، ويأمرها بلهجة قاطعة أن تقوم لترتدى شيئاً فوق ما ترتديه ، وتُعدّ شنطتها ، ويرسل سائق سيارته لينزل بالشنطة .
تابع عبده حواره الداخلي اللذيذ : هو طبعاً لن يستأذن منى . ماشى الحال . المهم إنى سأستريح من قلقى منها ومن اشتهائي لها ، لأيام ، يتولى هو خلالها شطف كل الأفكار الغريبة من رأسها . طبعاً ، وستعود إلى حضنى كما كانت دوماً ، إمرأةً شهيةً تحبُّ الالتصاق الليلي ، وتدَّعى أنها حنون توفِّى زوجها حقه ستعود حتماً بعد أيام ، لتوفينى حَقى المسلوب ، وزيادة .. هي تحب أردية النوم الخليعة ، سوف أشترى لها أروع وأبدع وأخلع ملابس للسرير . آه يا كلبة ، سوف أعود لما كنت أفعله فيك أيام العسل والمن والسلوى . ولن تتفوَّهى إلا بالآهات ، لن تفكري في ترديد عبارات عبيطة من نوع : ما أَنثّ المؤنث هو الذى ذكرِّ المذكر ! .. ما هذا العبط ؟ تريدين شيئاً ، خذيه ، ضعيه حيـث شئت.. أنثَّ المؤنث ! هه .
- يا جدو

- أسكتى .. إسمعي كلامي ، وإياك تقاطعيني تاني

- يا جدو ، أنا كنت بوَضح لحضرتك

- توضحى لحضرتى . توضّحى إيه . واحدة زيها تترك عيلة زيك وهي عندها سبع سنين ، عيلة يتيمة . قال إيه ، علشان تعمل خزعبلات مشهود لها .. مشهود لها

- يا جدو ، أرجوك .. إنت عارف إنها تركتنى غصب عنها ، لما انت أجبرتها على كده وعارف إنك حاصرتها علشان تطردها من البلد ، وهددتها بتلفيق قضية تقضى بسببها عمرها في السجون .

- أسكتى يا حيوانة .. إيه الجرأة دى . بتتجرأى على أنا .. على أنا .. علشان البنى آدمه دى ، الملعونة .. الكافرة . أستغفر ا**** . أستغفر اا**** . صَحَ ، الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم . هي خلاص قدرت تجرى فى دمك . استغفر اا**** . دى يا حمارة عاوزه تفسدك . صدق ا**** العظيم ، صدق ا**** العظيم ﴿وإنما جزاء الذين يفسدون في الأرض ..﴾

- يا جدو ، لو سمحت كفاية كده

- كفاية كده .. هي الحكاية وصلت للدرجة دى ، يبقى أنا لازم اتصرف . لازم أقطع رأس الحية . وها قطع ديلها

- مش ها تقدر يا جدو .

- يعنى إيه يا بنت .

- يعنى كفاية كده . وبعدين أنا مش هاسمح بعد كده لأى حَدٌ ، يقول أى حاجة وحشة في حق ماما
قالت ذلك وقد ارتفع صدرها فجأة ، وانتفضت بعينها نظرة الحزم ، نظرة الحسم ، نظرة التهيؤ للانقضاض . صارت أكبر حجماً وأكثر بهاءً ، حين رفعت رأسها فاهتزت جدائل شعرها لتحيط بوجهها الذى بدا لحظتها ، وكأنه قُدَّ من الرخام الأبيض الصلب . وزادها انعقاد حاجبيها وزَم شفتيها ، بأساً على بأس . بدت لهما ، كمغارة تعتقل بداخلها عاصفةً على وشك أن تنفلت ، فتجتاح كل شئ أمامها .
و كان عبده قد استطال فترة سكوته ، فدعته نفسه ليثبت حضوره بأى شئ يقوله .. ليته ما فعل ! فما كاد يُنهى كلامه ، إلا وصدمه كلامها . قال ، فقالت :
- يا حبيبتى مش كده ، بالراحة شوية .

- إنت تسكت خالص .. خالص .

نظر عبده في عين الجدِّ ، فلمح هناك تعاطفاً ، فانكمش متدثّراً بتعاطف الرجل الكبير .. وبعد لحظة سكون من دون سكينة ، تولى الجدُّ الدفة وقد كساه اليأس :
- يا بنتى إهدى شوية ، واهتدى

- اهتدى ! أنا خلاص اهتديت يا جدو . بَس واضح إنى مش هاهدأ أبداً بعد النهارده
- ما علينا من الكلام ده ، خلينا في موضوعنا

حَدَّث نفسه
- موضوعنا خلص خلاص ، مافيش فايدة ياجدو من الكلام .. يعنى ما تتعبش نفسك

ارتبك الباشا . ساد صمت . هواء الصالة صار خانقاً . قامت فجأة ، فاتجهت من فورها إلى شرفة غرفة نومها ، رداؤها يرفُ بقوة مع حركتها الواثقة ، المنفعلة ، الرزينة . نظر عبده نحوها مبهوتاً ، علقت عيناه بحركة أطراف شعرها الناعم المرفرف ، حتى غابت عنه في ظلام الممر بعدما توارت ، بما يود أن يعلنه : آه يا كلبة ، إيه الجرأة دى على الباشا .. على الباشا .. تقاطعيه ، وتحرجيه ، وتتركيه وتمشى . طبعاً ، هى دى آخرة الدلع . طيب آخرة الحكاية إيه ؟ جدك فظيع طبعاً ها يحطمك ، ويحطّمنى معاكى ! طيب وانا مالي . منك لله ، إنتي وامك .
أحس عبده أن عالمه كله يرتج ، وينذر بانهيار مروّع . لا يمكن لهذا الإنهيار ، إلا أن يكون مروّعاً . ماذا تريد هذه البنت وماذا تريد أمها منها ، ومنى . التفت بكله نحو الجد :
- يظهر إن الموضوع كبير يا باشا

- اسمع يا عبده ، الموضوع حسّاس ، ومعقد . البنت متلخبطة .. ولازم برضه نراعى نفسيتها . ويمكن يكون من الحكمة ، معالجة الموضوع ده برفق . حضرة سيدنا النبي ، قال : الرفق ما دخل في شئ إلا زانه وماخرج من شئ إلا شانه

عبده أخذه الدوار ، ثم ارتدَّ لوجوده بعد هنيهة لم يعرف كم امتدت به .. ما الذى يجرى ؟ ها هو يضيع ، وها هو الباشا يكلمه الآن ، رجلاً لرجل ، عن الرفق . غاب عن الجلسة وهو يحادث نفسه : حلو ، حلو جداً .. الباشا بيحترمني دلوقتي . بس الاحترام ده ، مُش ها يوصلنا لأى شئ .. طيب وبعدين .. السنيورة ، الدلوعة ، الكلبة ، بنت الشيطانة .. قامت وزبلت جدها غير أى احترام ، والباشا الكبير قاعد يكلمنى ، راجل لراجل ، عن الرفق .. وزانه ، وشانه ! يا فرحتى بالكلام
- يا عبده ، أنت معايا ؟

- معاك يا باشا .. معاك

تكلّما لنصف ساعة ، دون أن يقولا شيئاً مفيداً ، أو يصلا لأى حَلٌّ . العجيب أن الباشا ظاهره متماسكاً ، وكان عبده من الطيبة والخبث ، بحيث تجاهل ما لمحه من ارتباكه الباطن . لاداعى لإحراج الرجل الكبير ، يكفيه ما فيه
دار عبده ثانيةً ، في البئر التي بداخله . ناجي نفسه : طيب وبعدين يا عبده ؟ آخرتها إيه يا مسكين . طبعاً ، لازم تكون مسكين ، زى أبوك وأمك . هاتيجى القوة منين . وآدى الباشا ، عمال يقول كلام عبيط : الموضوع حساس . البنت حساسة من صغرها . الموضوع عايز رفق . الأزمات بتحصل في كل بيت ، و تمر بسلام بإذن اا**** . ا**** كفيل بدفع شرّ الوليه أمها . كانت نايمة كالفتنة ، لعنها ا**** ولعن من أيقظها . هى افتكرت دلوقتى إن عندها بنت ، بعد كل السنين دی .. کلام ، کلام ، کلام .. يا خيبتك يا عبده
انسحب عبده إلى أقصى مناطق فراغه ، حادث نفسه بما يستحيل البوح به : الرجل شاخ ، وأنا ضعت ! كل حاجة ضاعت . كان الحال ماشی ، لولا ( عبودی) .. ولولا (خديني يا ماما) .. إيه يا عبده ، ما تسيبها تقول اللى عاوزه تقوله . مالك أنت ؟ زعلان ليه .. لازم تعمل مشكلة ، ما كانت عريانة تحتك .. الكلبة
- يا عبده

- معاك يا باشا

عقارب الساعة تعدَّت العاشرة . كان متوقعاً أن الجد سينصرف ، وقد كان ما كان متوقعاً .. أما الذي كان ، و لم يتوقعه عبده فهو ما قرره الجدُّ / الباشا عند رحيله ، إذ قال بوضوح واستسلام إنه ، وياللعجب ، قد آن الأوان لأن يقوما بحلّ ما يقابلهما من مشاكل ، بأنفسهما . هما الآن أسرة ناضجة، كلاهما في الثلاثين. . ماعادا صغاراً ، فعليهما تولّى الأمر .. المساعدة الوحيدة التي يمكن الآن أن يقدمها له ، ولها ، هي النصيحة الذهبية التي لا يكف عن إسدائها تلميحاً وتصريحاً : عليكما بالإنجاب ! أضاف ما معناه : لن يخرجها من حالتها هذه ، إلا الأولاد . ولن تشعر أنت يا عبده ، بأنك رب أسرة ، إلا بالأولاد . الأولاد يا ولدى فرحة ، زينة الحياة الدنيا . قال ﴿ تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا ﴾ وقال الرسول الكريم : "تكاثروا فإنى مُباهِ بكم الأمم يوم القيامة"
- شد حيلك يا عبده

وقام الجدُّ منصرفاً .. وَدَّع عبده قبالة الباب ، وأصر على النزول وحده . قَبلَ عبده إصراره بيسر ، ووقف على العتبة الفارقة يرقبه وهو يغوص فى سلم المنزل، وكأنه شبح يتوارى في قعر بئر لا نهاية لعمقها .
عبده صار وحده
لف المنزل سكون ثقيل ، ضاغط .. عاقداً ذراعيه وكأنه يعتصر صدره ، دار عبده في صالة الشقة مرات . سار ذاهلاً يحدق فى لاشئ . تماوجت برأسه أفكار الأسى ، وترددت رنات رثائه لذاته : حتى ينتهى الحال بى إلى هذا ، أدور هنا حول نفسي، وهي في غرفتها تدور رأسُها في فلكِ لا أعرفه . لعلها ملت الحياة معى . وليكن ، ولكن هذا لا يبرّر نأيها عنى . الملل وارد بين المتزوجين . حالة عابرة ، فلا تضخم الأمر يا عبده . بعد أيام ستصفو ، وتعود كما أتمنى . هي ابنة أكابر . وسوف تعود إلى رشدها ، إلى حضنى . لن أنتظر عودتها ، سأشغل نفسى عنها ، سأتشاغل حتى تعود ، فأشغل نفسى بها حتى لا تعود للنأى ثانيةً . النصيحة الذهبية ، الإنجاب ، قد تكون حلاً ناجزاً . سوف تنشغل بحملها ، ثم بولادتها ، ثم بالوليد .. ثم وليد ثانٍ ، وربما ثالث ! لا أريدها أن تتفرغ لى ، أريدها أن تفرغ مما في رأسها . ما الذى تقوله لها أمها في الرسائل ؟ هل تدعوها للسفر خارج البلاد للحصول على عمل أمجد وعيشة أرغد ؟ أنا إذن عقبة في سبيلها، ولا سبيل لطرح فكرة الإنجاب المعوقة لها . مهلاً يا عبده ، الإنجاب من وجهة نظرها ليس معوّقاً . قبل أسابيع ، حين مَرَّت أمامنا تلك المرأة المتكورة التي تنوء بحملها . هل نسيت ، لقد قالت لك ساعتها : لاشئ يقدس المرأة مثل الإنجاب ... كلام أهبل ، فالقطة تلد أكثر من المرأة ، ولا تتقدس ! لما فاجأتها بهذه الحقيقة ، قالت مستهترة بالمفاجأة : القطة مقدسة منذ فجر التاريخ ! ما علينا ، المهم أنها تنظر للإنجاب بإيجابية . كما أنها تعمل في وظيفة جيدة ، راتبها يزيد ثلاثة أضعاف عن راتبي ، مع أنها لاتذهب إلى مؤسسة الترجمة إلا سويعات كل أسبوع . هي شبه متفرّغة ، وشبه مستغنية مالياً ، وشبه ناشز ! لعل الحلَّ أن أحادثها بإخلاص ومودة ، هی تحسن الإصغاء على كل حال ، وإن كانت لا تحسن الرد . تقذفنى بأفكار عجيبة . لا بأس ، سوف أحترم رأيها ، وأظهر احترامي لردودها السخيفة ، وأطيل في الحوار معها حتى تفيض بكل ما بداخلها لكل مشكلة حَلٌّ ، ولو عرفتُ مشكلتها سأعرف الحل ، أو أستشير مَنْ يعرف ، أو أقرر البقاء معها أو ترحيلها عنى . إذن ، أنا صاحب القرار فى النهاية، صاحب الحل والعقد . نعم ، سوف أحلُّ وأعقد ، لن أرضى بهذا الوضع المهين . أنا لست هيناً، كثيرات غيرها يتمنين شاباً مثلى . عندى عمل جيد، ومنزل موروث ، وقدرة جنسية ، ومؤدَّب ! أين صديقى نايل الخبير بالنساء ، لابد أن أستشيره .. هل سيعرف من حقيقة أمرها ما لم أعرفه ؟ لا أظن ، فهو خبير بنوع آخر من النساء . لا ، النساء نوع واحد . كلهن سواء ، لكن الظروف تختلف من واحدة لأخرى . كان يردد ذلك دوماً على مسامعى الجوهر واحد ، والمظاهر مختلفة . صَح . هايل يا نايل . ولكني سأؤجلك الآن يا صديقي ، ، وأحاول معها محاولة أخيرة . هي آخر المحاولات يا عبده . هيا .. تجمع ، تشجع ، ابتسم ، انطلق إلى غرفتها. ها هي ما تزال متحفّزة . اقترب ياعبده برفق، ابدأ بأي كلام .
- مالك يا حبيبتى ؟

لم تر تردّ ، و لم تردَّه عن الجلوس بجوارها على حافة السرير ، غير أنها قامت من فورها نحو الشرفة . لحق بها ، حاذاها ، دون أن يجرؤ فيمد ذراعه على كتفيها ، كما كان يودُّ . مرَّت عليهما نسمة لطيفة ، حركت أطراف شعرها نحوه . استبشر خيراً .
- حبيبتى ، جدك مشى متأثر وزعلان منك ، كلميه بكرة الصبح .

- ممكن تخليك في نفسك ، كفاية اللي عملته

أفهمها بهدوء أنه لم يقصد من زيارته للباشا صباح اليوم ، إلا إخراجها من الحالة التي صارت إليها
، وأنه لم يقصد أى إساءةٍ لها . ومع ذلك ، فإنه يعتذر عما سببه لها من دون قصد ، المهم النية .
- تعالى نخرج ، نروح نتعشى بره .

- شكراً .

- أنا جعان فعلاً .. نروح المطعم إياه

- أكلك جاهز في المطبخ .

أهذه .هی المرأة التي كانت تطير فرحاً إذا دعاها للخروج مساء ، أو لبَّى هو دعوتها للمطعم الخلوى الفاخر . ما الذي جرى لها ، الخروج هو هو ، والمطعم هو هو ، وأنا أنا .. إذن ، هي التي تغيرت . هي حُرَّة . هي الجانية على نفسها .. هل سأتوسل إليها لتخرج معى ، لقد فعلتُ كل ما بوسعى . كان نايل محقاً حين يردِّد : احتقر المرأة تحترمك ، وارفض المرأة تطلبك ، واصبر على الأرز يستوى ! وأنا صبرت عليها فلم تستو، ولسوف أرفضها إلى أن تطلبنى ، وإن اقتضى الأمر فسوف أحتقرها حتى تحترمني . لماذا لا تحترمني هذه المرأة ، هل تظن نفسها فَلْتةً بين النساء . صحيحٌ أنها جميلة ، وشهية ، وناعمة ، ولعوب عند اللزوم ، وبنت أكابر . لكنها ليست فلتة نادرة . هي مثل غيرها ، مثلهن جميعاً ... جميعهن سواء
- طيب . ها خرج لوحدى ، مُش ها اتأخر .

لم ترد ، ولم يكن أصلاً ينتظر منها رداً . بدَّل ملابسه في غرفته ، ثم مرق منها بسرع إلى الصالة ، إلى بئر الفراغ . فى طريقه التقط تليفونه الخاص وتعمَّد أن يُعلى صوت إغلاقه باب الشقة . هبط سلم المنزل مسرعاً، دون أن يحدق كعادته في العتبة الفارقة . في منتصف السلم ، اتصل بصديقه نايل فتأكد من أنه فى شقته الكائنة على بُعد دقائق من منزله . لم يحرك سيارته من موضعها المكان قريب ، المشى أفضل وأروح للنفس
لمحها لحظة خروجه من البوابة الخارجية ، لاتزال واقفة في موضعها .. كالتمثال ، كالصنم . إلى أى شئ تنظر ، إنها تحدق فى الفراغ الذي يملؤها . هي حُرَّة .
عقارب ساعته تلسع الحادية عشرة . قرّر أن يعدَّ النساء الجميلات اللواتي سيقابلهن في طريقه إلى نايل . هذه واحدة . الثانية . ثالثة بملابس ضيقة . رابعة مع زوجها . خامسة ..
- قابلت في سكتى ، عشرين واحدة حلوة .

ضحك نايل ضحكته الجوفاء الطفلية المعتادة ، أشار إليه ليدخل وهو يهمس له ، بأنه سيقابل الآن الواحدة بعد العشرين، سيرى بدراً في سن العشرين ! أغلق الباب ، وعلا صوته وهو يناديها :
-تعالی یا سگر ، صاحبى عبده وصل .

بحيوية مرحة ، جلجلت ضحكة نايل الجوفاء الطفلية ، حين دخلت عليهما سُكر من غرفة النوم الضيقة ، إلى الصالة الضيقة ، بملابس داخلية ضيقة . سلمت على عبده وشكرته لما قال إن جسمها جميل جداً . جلست بينهما . بدا جسمها أكثر جمالاً حين ارتخت على المقعد ، وأراحت ساقاً عارية ، فوق ساق عارية . أطَلَّ صدرها بقوة أكثر ، وكاد ينفلت في وجه عبده لما مالت بميوعة إلى الأمام ، كي تلتقط كأساً على الطاولة كان من قبل مصبوباً . بدت أكثر جمالاً ، حين أزاحت عن خَدِّها بظهر أصابعها اليسرى ، جدائل شعرها الفحمى الغجرى وابتسمت لما مست أطرافُهُ الجانب الأيمن من وجه عبده . سألها عن اسمها ، الحقيقي
- دلال .

- اسم حلو . بتعرفى نايل من فترة ؟

- آه، من فترة طويلة جدا ، من سبع ساعات

صاح نايل بطرب :
- أيوه كده يا حلوة ، يا مزهللة

لما استغربت الكلمة الأخيرة ، تطوع عبده بالشرح من واقع خبرته الطويلة بعالم نایل ومفرداته : الزهللة كلمة اخترعها نايل لتجديد اللغة العربية وإنقاذها من الضياع ، أصلها : زَهْلَلَ يُزَهِلِلُ زَهْلَلَةً ، فهو مُزهلل وهي مُزهللة وهم مزهلِّلون . وتكون حالة الزهللة ، حين تفاجئنا البهجات والفرحات : بهجة الطفل بالألعاب النارية في ليالى الأعياد ، فرحة المراهقين بالقبلة الخاطفة الأولى .. طلة العروس في كامل زينتها ، هيجان جلسة السَّمَر عند السُّكْر ، جلجلة الرقص المحموم بالرغبة ، إقلاع الطائرة لرحلة طال الإعداد لها ، الطيران لموعد غرامي طال انتظاره ، زقزقة العصافير في الفجر الصافي .. هذه كلها ، زهللات !
سمعته باهتمام وابتسام ونظرات وحركات شبقة . خلال شرحه المطوَّل ، شعر عبده بميل مفاجئ نحوها . لن يمانع نايل إذا صرح له برغبته فيها ، لن يعزّ عليه صديقه فتاةً كهذه . هو صديق عمره ، سيوافق على منحها له ، من دون تردد . وهى أيضاً ، لن تتردد في المنح . لن يضطر لمطاردتها ، لن يجهد روحه . هي جاهزة بالفعل ، ومزهللة بطبعها ، وهو جاهز .. الأمور سهلة ، لماذا نعقد الحياة ؟ الحياة في الأصل بسيطة، كل الرجال وكل النساء يشتهى بعضهم بعضاً ، فلماذا التعقيد ثم البحث عن حلول .. هذه فتاة غير معقدة . محلولة ، وحلوة . سمرتها صافية ، وضحكتها رائقة ، وجسمها بديع . سوف تمنحنى ما أريد وما لا أريد ، ستعطينى كل فواكه أرضها ... كيف يمكن لنايل ، أن يعرف هذا العدد الوفير من النساء .
- إزاى عِرفتى نايل ، هُوَ شاطر في صيد النِّسا . صح ؟

أجابته بلا اهتمام كبير ، بما ملخصه أن سؤاله دال على أنه شخص طيب ، لايعرف عن النساء إلا القليل ! إذ لا يوجد رجل واحدٌ قادر على صيد امرأة . شرحت له بألفاظ ركيكة ، أن المرأة تنوى أولاً ، ثم ترسل بعض الإشارات بحسب ما يسمح به الحال والمجال . ثم تبتعد قليلاً وكأنها تهرب ، فيطاردها مَنْ اختارته هي أولاً . ثم تتمنع عليه حتى تعطيه الإحساس اللذيذ بأنها طريدة فارةٌ ، وأنه صياد ماهر ثم تتلكأ ليدركها . ثم ترضى بقنّصه لها . ثم تمنح ما قررت هي منذ البدء أن تمنحه . ثم تتركه يتلذذ بها حيناً، وينتشى بقدرته على الوصول إليها . فتسعده بذلك إلى وقتِ معلوم، تقرره هي وفق ما تراه من
أهمية إسعاده .. سألها باهتمام :
- طيب ، وهيه تسعد إزاى ؟

أفهمته أن الرجل من التفاهة بحيث يسعد فقط بالنهايات، وبنجاحه فى الاقتناص . أما المرأة ،فيسعدها البدء ، والمنتهى ، وما بينهما . هي تسعد باختيارها ، وتسعد بمضي الأمور وفق ما تهوى وتقرر ، وتسعد بتفاصيل اللعبة ، وتسعد بالتمهيدات ، وتسعد لحظة تحقق الأمر .. وتسعد بقدرتها المتجددة على بدء أمرٍ جديد
- طيب ، والحب الرومانسي فين يا دلال ؟

- ده كان زمان .. وجبر !

- لأ يا دلال ، الحب لازم يبقى موجود ، دايما

قال عبده عبارته الأخيرة ، بمسكنةٍ تفيضُ وداعةً ورقة . فجاوبته دلال بنظرة من طرف عينها ، تفيض ميوعةً ودفئاً . ازدادت رغبته فيها ، وتوهجت . كاد عبده يبوح ، بما أدركته هي من دون بوح . غير أن نايل المنتبه دوماً ، انتبه إلى ما هما على وشك الشروع فيه ، وأدرك بفطرته وخبرته أن الوقت غير مناسب ، وأن صديقه غير مهيَّأ للخوض فيما يود الغوص فيه
تدخل نايل فى الحوار ، فأفهمه أن دلال طالبة جامعية تواظب على الذهاب للنادي الصحي وتهتم بلياقة جسمها اللائق أصلاً . تعرف إليها ظهر اليوم في حديقة النادى ، تناولا الغداء معاً . وتحابا بسرعة . هى تحبُّ الحب ، ولا تفوت أية فرصة لنيل المحبة . لم يخرجا من غرفة النوم ، منذ ثلاث ساعات
وهو يدعوها لقضاء الليلة عنده، لكنها لن تستطيع هذه المرة . أضاف نايل إنها أحلى امرأة عرفها في حياته (هو يصف كل حريمه بهذا) لكنها لابد أن ترحل الآن .. رَدَّت دلال بدلال :
- إيه ده يا نايل ، إنت بتطردنى ؟

قفز نايل إلى جوارها ، ضاحكاً . أمطرها ببضع قبلات ، وهو يضم شفتيها بإصبعيه :
- لا يا حبيبتي ، بس عبده عنده موضوع كبير .

- طيب يا عبده ، يا هادم اللذات .. هأهأ

لم تستغرق الفتاة إلا دقائق ، غسلت فيها وجها فى الحمام وارتدت ملابسها في غرفة النوم ،وعادت متهيئةً للخروج . سلمت على عبده وقبلته على خديه قبلتين خاطفتين . في طريقها للباب ، دس نايل في شنطتها شيئاً ، أظنه ورقة مالية . وبعد قبلة طويلة نسبياً ، رحلت
- هيه يا عبده .. مالك يا صاحبي ؟

كادت عينا عبده تدمعان وهو يقصُّ عليه ما يعانيه ، ويغرق فيه . حكى ، ما كان من أمره مع امرأته . كيف فرح بها يوم التقاها ، وفرح يوم وافقت على الزواج منه ، وفرح بانتظام الأمر في سنوات الزواج الأولى (كان نايل يعرف كل ذلك) تابع عبده حكايته وشكايته : انقضى زمن الفرح منذ بضعة شهور ، أو بضع سنين ، هو لا يستطيع أن يحدد بالضبط ، انفصلت بروحها عنه . لم تعد تحادثه ، لم تعد تسعد بمجيئه للمنزل ، لم تعد تتزيَّن له كما كانت تفعل . دائماً شاردة ، نائية ، منكفةً على النصوص التي تترجمها ، وكأنه غير موجود . حاول أن يردها إليه من غيابها عنه ، ، بكل الطرق . اشترى جهازاً جامعاً جديداً ، فيه كل وسائل الاتصال ، تعمل شاشته باللمس ، إنتاج أصلى لشركة محترمة . لم تسعد به . اشترى الأسبوع الماضى مطبخاً جديداً ، ألوانه زاهية ، دفع فيه مبلغاً كبيراً ، وقسط الباقى . لم تسعد به بالقدر الكافى . حاول أن يحادثها ، ردته .. داعبها ، صَدَّته .. صبر عليها ، نسيته ! الأمر يتعلق بالرسائل التي تتلقاها مؤخَّراً ، بكثرة ، من أمها . أخبرته بالأمر حين وصلتها الرسالة الأولى : والثانية ، ورفضت أن تريه الرسالتين . قالت إنها أمور خصوصية : لا أعرف يا نايل ماذا يجرى خلف ظهرى . أمها هذه لم أرها من قبل ، ولا أود أن أراها . الباشا يكرهها جداً . ذهبت إليه صباح اليوم وأخبرته اليوم بالأمر ، فجاء إلينا الليلة . ليته ما جاء . الأمور ازداد تعقدها بعد زيارته . الرجل شاخ ، فلم يعد يسيطر على حفيدته . ما زلت أحبها ، هي زوجة ممتازة .. محترمة .. بنت أكابر .
- هي بتحشش ؟

باغته السؤال . نظر عبده لنايل مستغرباً ، ما هذا الذى يسأل عنه ؟ تردد قليلاً ، ثم أخبره أنها تحب رائحة الحشيشة . لكنها لا تدمن أية مخدرات ، ولا كحوليات ، ولا أدوية مهدئة ، ولا نباتات مهيجة من تلك التي شاعت مؤخراً . مرات قليلة دَخَنا الحشيشة معاً ، على سبيل المرح والترفيه عن النفس . هي لم تطلبها أبداً ، ولكنها لم تمتنع عن تدخينها في المرات التي دعاها لذلك . في مرة ، أخبرته خلال لحظة صفو ، أنها دَخَّنت الحشيشة أولاً على سبيل التجربة ، مع صديقاتها في المدرسة الثانوية . ثم مرات قليلة ، خلال دراستها الجامعية ، وبضع مرات معى .. ما الذي تفكر فيه يا نايل ؟
- ولا حاجة ، أنا بس عاوزها تنفك شوية معاك ، وتهبط شوية .

قام نایل من فوره إلى غرفة نومه ، وعاد بقطعة هرمية بنية اللون ، فى حجم فنجان صغير ..صاح مبتهجاً :
- آخر مخترعات ألفين وعشرين لإسعاد البنى آدمين وفرفشة النسوان الزعلانين .

الحشيشة ملفوفة بإتقان ، فى ورق شفّاف مفضَّضِ الأطراف . فتحها نایل بعناية مرحة ، وهويمدها نحو أنف عبده . أخبره أنها من نوع ممتاز ، يستغرق احتراقها نصف ساعة . عليه أن يشعل قمتها المديبة ، ثم يُطفئ اللهب ويترك بخور الروقان يملأ فضاء غرفة صغيرة مغلقة . ويدعوها برفق ، لدخول الغرفة بعد دقائق من بدء احتراق بخور الحشيشة . أضاف ما معناه : لا تخش شيئاً ، هو نوع ممتاز ، مجرب . المادة المخلوطة بالحشيشة آمنة ، هى مضافة إليها فقط لتحفظ جمرتها متأججة وبخورها متصاعداً لمدة ثلاثين دقيقة . هناك نوع آخر ، أقوى ، اسمه بخور الهيمان ولكن هذا النوع أفضل لكما . البنات يفضّلنه ! ينتهى أثره في الدماغ بعد ساعتين ، كل العقد التي بينكما ستنفك خلال الساعتين أضاف : سوف تدعو لي بعدها . هيا، أدركها قبل أن تنام . اتصل بي صباحاً ، بعد الحادية عشـــــرة ، سأنتظر أخبارك الحلوة . قم يا بطل ، أنت فارس هذه الليلة . سهرة سعيدة يا صاحبى .
وطار عبده نحوها .. فأين سيحط ؟




















