٩٤ الأخير
أصرت على حضورها معها جلسة العلاج بالمشفى حتى تتمكن من الحديث معها بانفراد، ولم تتأخر أختها عنها فقد توطدت العلاقات بينهما كثيرًا في الفترة الأخيرة وخاصة حينما ظهر التغيير الجذري في تصرفات نيرمين وتحولت معاملتها للأفضل وقل ما بينهما من مشاحنات، جلست على المقعد المجاور لفراشها تطالعها بنظرات حانية قبل أن تستطرد نيرمين حديثها الجاد قائلة:
, -محتاجة أتكلم معاكي
, تعقدت تعبيرات وجه بسمة وهي تسألها باهتمام:
, -خير يا نيرمين؟ في حاجة تعباكي، المفروض يكون في دكتور هنا ولا ممرضة تساعدك و٣ نقطة
, قاطعتها مرددة بهدوء:
, -اطمني، أنا كويسة والحمدلله
, نظرت لها بأعين قلقة وهي تسألها:
, -أومال في٥ نقطة
, لم تكمل بسمة جملتها للأخير حيت ولج إلى الغرفة الطبيب نبيل الذي كانت قسمات وجهه متحمسة للغاية لمقابلة مريضته، هتف بمرح رغم هدوئه:
, -أنا بجد محظوظ إني شوفتك النهاردة
, تحرجت نيرمين منه رغم عدم قوله ما يسيء لكن لوجود أختها بصحبتها، فخشيت أن تفسر الأمر بطريقة خاطئة، رسمت على تعبيراتها علامات الجدية وهي ترد بنبرة رسمية:
, -ازي حضرتك يا د. نبيل
, قطب جبينه مرددًا بضيق مصطنع:
, -حضرتك؟! واضح إنك زعلانة مني!
, رسم على ثغره ابتسامة محببة وهو يضيف:
, -حقك عليا، الجلسة اللي فاتت كنت في مؤتمر طبي ومعرفتش أجي فعلاً
, ضاقت نظرات بسمة نحوه متفرسة وجهه وملامحه بدقة شديدة، ثم وزعت أنظارها على أختها التي بدت مرتبكة رغم جمودها الواضح، ابتلعت نيرمين ريقها قائلة وهي تضغط على شفتيها:
, -ولا يهمك
, استدار نبيل برأسه ناحية بسمة ليقوم بتحيتها مرددًا بنفس الابتسامة المتسعة:
, -أهلاً وسهلاً بيكي يا أستاذة
, ردت الأخيرة بجدية وهي تدقق النظر فيه:
, -أهلاً يا دكتور، أنا بسمة أختها!
, زادت حماسته بعد معرفته لهويتها، وهتف قائلاً:
, -و****، سعيد إني اتعرف عليكي
, التفتت بسمة برأسها نحو أختها لترمقها بنظرات ذات مغزى وهي تقول:
, -الظاهر إنك تعرف أختي من زمان
, أجابها بفخر:
, -طبعًا، أحسن معرفة!
, تعلقت أعينه بوجه نيرمين متسائلاً:
, -وازي البنوتة رنا؟
, مطت بسمة شفتيها لتجيبه بجدية صريحة:
, -مممم.. رنا، تمام!
, هز رأسه متابعًا بابتسامة مهذبة:
, -يا رب دايمًا، طيب أنا هاسيبكم مع بعض شوية، وهارجع تاني عشان نبدأ نجهز نفسنا للجلسة!
, ردت عليه نيرمين بجمود:
, -ماشي يا دكتور
, أمسكت بسمة لسانها بصعوبة حتى ينصرف ذلك الطبيب الغريب من الغرفة لتسأل أختها بفضول وقد برقت عيناها:
, -ايه حكاية المز ده؟
, رغم ارتباكها الملحوظ من نبرة أختها المتسائلة إلا أنها بذلت مجهودًا كبيرًا لتبدو طبيعية وهي تجيبها بفتور:
, -ولا حكاية ولا رواية
, غمزت لها الأخيرة مبدية عدم اقتناعها بحالة الإنكار التي تدعيها مرددة بلؤم:
, -ده واضح إن الموضوع كبير أوي!
, تنحنحت نيرمين بصوت خفيض متابعة:
, -سيبك دلوقتي منه وقوليلي بقى!
, -ايه؟
, سألتها مهتمة وهي تحدق فيها بنظرات قوية:
, -ناوية تتجوزي امتى؟
, لوت بسمة ثغرها للجانب مرددة بانزعاج:
, -يووه يا نيرمين، برضوه السؤال ده!
, تابعت نيرمين موضحة بنبرة شديدة اللهجة:
, -دياب جاب أخره، حرام اللي بتعمليه فيه!
, تهدل كتفي بسمة بشكل ملحوظ، وأخفضت رأسها قائلة بتذمر:
, -أنا مش عارفة هو مستعجل على ايه، الدنيا مش هاتطير!
, مدت نيرمين يدها نحوها ببطء لتمسك بكف أختها، نظرت لها الأخيرة بغرابة، فتابعت برجاء لطيف:
, -لو بتحبيني صحيح اتجوزي دياب وفرحينا كلنا، هو أنا ضامنة أعيش لبكرة، مستخسرة في أختك٧ نقطة
, شعرت بسمة بالانزعاج من حديثها المثير للأعصاب فقاطعتها بحدة:
, -ماتقوليش كده، بعد الشر عنك
, تحاشت النظر نحوها متجنبة نظراتها التي تتفرسها، هي لا تعرف سبب تلك الحيرة التي تجبرها على التردد في إتمام الزيجة، قرأت نيرمين ذلك بوضوح في أعين أختها، فتابعت بجدية دون أن يهتز لها جفن:
, -أنا عاوزة أحضر فرحك، حددي بقى ميعاد
, نكست بسمة رأسها قائلة بامتعاض:
, -**** يسهل
, سألتها بإلحاح أكبر:
, -يعني امتى
, ضغطت على شفتيها مرددة باستسلام بعد توسلها اللطيف لها سواء بنظراتها أو باللعب على مشاعرها:
, -هاشوف بقى
, أشارت لها نيرمين بسبابتها محذرة:
, -بسمة، أنا هانصحك تاني وأقولك أوعي تضيعي فرصة الحب من إيديكي وتركبي دماغك، دياب بيحبك وبيتمنالك الرضا ترضي!
, أخرجت تنهيدة تحمل الكثير من صدرها وهي ترد:
, -أنا عارفة ده
, تعجبت نيرمين من ذلك التخبط المسيطر على حالها فسألتها معاتبة:
, -طب ليه مدوخاه معاكي؟
, هزت كتفيها قائلة:
, -جايز مرتبكة، خايفة، قلقانة مش عارفة بصراحة!
, تابعت مضيفة بهدوء وهي تبتسم لها ابتسامة مطمئنة:
, -شيلي الحكايات دي من دماغك، وركزي معاه، إديله فرصة يعبرلك عن مشاعره!
, للحظة تذكرت بسمة مواقفها الجادة مع دياب، وكيف تصد كل محاولاته البائسة للتودد إليها، لم تخفِ ضحكتها وهي تقول بعبث:
, -بيني وبينك أنا منشفاه معاه على الأخر
, ضحكت نيرمين عاليًا، فلم تكن شكواه لها من فراغٍ، هو بلغ أقصى طاقاته على التحمل، لذلك ردت مؤكدة:
, -ما هو باين، **** يصلح الحال بينكم يا رب!
, ربتت بسمة على فخذ أختها برفق وظلت تطالعها بنظرات حانية تحمل في طياتها الكثير..
, ٤٢ نقطة
, حاوطتها أحضانه الدافئة فاحتوت ضعفها الذي أنهك عقلها، وعوضها عن لحظات الحزن التي عانتها بالتعبير عن حبه الشغوف -والذي لا ينضب- لها، شبك أصابعه في أصابع يدها تاركًا رأسها مسنودًا على صدره وهو معتدل على الفراش، داعب بيده الأخرى خصلات شعرها متسائلاً:
, -عاملة ايه دلوقتي؟
, مررت يدها على صدره برفق هامسة بامتنان:
, -أحسن الحمد**** يا حبيبي
, تابع محذرًا بجدية:
, -زي ما اتفقنا ماتفكريش في الموضوع ده تاني
, -حاضر
, -ده رزق بتاع ****، ولما يجي وقته هتلاقيه متيسر
, رفعت رأسها قليلاً لتنظر في وجهه وهي تبتسم لترد بنعومة:
, -**** يخليك ليا
, عمق نظراته المتيمة بها وهو يقول بغموض:
, -وبعدين يا ستي إنتي كده مش هاتكوني فاضية للمفاجأة اللي كنت عملهالك
, اعتدلت في نومتها محدقة فيه بأعين لامعة، سألته بتلهف:
, -مفاجأة، ايه هي؟
, رد بهدوء:
, -بصي أنا فكرت في حاجة كده تشغلي بيها وقتك بدل أعدة البيت لوحدك!
, زاد وميض عينيها وهي تسأله بتلهف أكبر:
, -ايه؟
, أجابها بهدوء متمرس ليجذب انتباهها بالكامل:
, -مش انتي كان نفسك تشغلي الدكان بتاعك، صح ولا أنا غلطان؟
, ردت بحماس كبير:
, -ايوه
, ابتسم متابعًا بهدوء رغم جدية نبرته:
, -أنا يا ستي بقالي فترة شغال توضيب في دكانك، والحمدلله الحاج زقزوق قفل الرفوف والمكاتب بعد توضيبها وبقت كل حاجة جاهزة على التشغيل!
, جلست القرفصاء إلى جوارها دون أن تفلت أصابعها من يده، وحدقت مباشرة في عينيه بأعين لامعة متسائلة بتنهيدة متلهفة:
, -إنت بتكلم جد يا منذر؟
, رسم على ملامحه الجدية وهو يرد بثقة:
, -طبعًا، هو في هزار في الحاجات دي!
, تهللت أساريرها هاتفة بتشوق:
, -يعني الدكان بتاعي بقى جاهز؟
, هز رأسه بإيماءة خفيفة مؤكدًا لها:
, -ايوه، شوفي بقى إنتي عاوزة تعملي فيه ايه!
, صفقت بيديها فرحًا، ثم هللت بحماس وقد برزت نواجذها من اتساع بسمتها المتحمسة:
, -****، أنا مش مصدقة، أنا دكاني هيشتغل!
, هبت من جلستها لتميل على زوجها محتضنة إياه بامتنان وهي تقول:
, -**** يخليك ليا يا حبيبي ومايحرمنيش منك أبدًا
, دق قلبه طربًا من رؤيتها على تلك الحالة الغبطة، سعادته تكمن في فرحتها، في إزاحة الهموم عنها، لف منذر يده حول خصرها قائلاً بهدوء:
, -أنا عاوز أشوفك دايمًا بتضحكي كده وفرحانة!
, اعتلته أسيف لتتمكن من تطويق عنقه، وحدقت فيه بنظرات عاشقة وهي تقول:
, -بأحبك أوي!
, رد بغموض عابث:
, -ناشف كده؟
, فهمت مقصده فتورد وجهها مرددة بخجل طفيف:
, -لأ طبعًا
, انحنت برأسها عليه لتعطيه قبلة بثت فيها أشواقها نحوه، أطبق بشفتيه عليها، وبادلها فيها مشاعرًا أكثر حسية وعمقًا واضعًا يده خلف رأسها، سحبها للحظات إلى عالم أخر مليء بالأحاسيس الفياضة، وحفزها لطلب المزيد، استجابت لنداءاته الغرامية، وسبحا سويًا في أنهر الغرام٣ نقطة
, مرت الدقائق وهما يتبادلان العشق بشغف لم ينقص من قدره شيء، أراحت أسيف رأسها على ذراعه متطلعة إليه بنظراتها المتقدة حبًا، لامس وجنتها الساخنة بأنامله برفق، ثم أردف قائلاً بهدوء:
, -المهم فكري في حاجة تكون مناسبة تعمليها فيه
, ردت بحيرة وهي ترمش بعينيها:
, -مممم.. عندي أفكار كتير، بس محتارة!
, أضاف موضحًا:
, -أهم حاجة تكون ماشية مع المنطقة هنا
, سألته بنبرة حائرة وهي تعض على شفتها السفلى:
, -ايه رأيك لو عملت مثلاً مشتل للزرع أو محل ورد؟
, أجابها بهدوء جاد:
, -هو صعب في الحتة هنا، بس فكري أكتر في حاجة مناسبة تمشي مع الناس اللي عايشين هنا!
, غاصت أكثر في أحضانه شاعرة بذلك الدفء المغري الذي يقدمه لها، ثم ردت عليه بتردد:
, -مش عارفة
, ضمها أكثر إلى أحضانه مستمتعًا بقربها الذي يذيب أوجاعه ويدخله إلى عوالم الإثارة والإغراء ليختبر كل مرة مشاعرًا أقوى وأعمق، رد عليها بتمهل:
, -لو إنتي عاوزة تعملي مشتل ممكن نخليه محل ورد مثلاً بس يكون صناعي، تعملي بوكيهات الورد للعرايس، هدايا، حاجة من اللي بتاكل مع الشباب
, رمشت بعينيها مرددة بإعجاب قليل:
, -هي فكرة مش وحشة
, استأنف حديثه بصوت جاد:
, -احنا ندرسها سوا ونشوف المناسب ونعمله، المهم في النهاية دكانك يتفتح!
, تنهدت هامسة:
, -مظبوط
, ربت على ذراعها الذي يحاوط صدره برفق قائلاً:
, -ويالا بقى أنا جعان، هاتعمليلنا ايه؟
, ابتسمت بثقة وهي تجيبه:
, -احلى أكل لحبيب قلبي
, أشار لها بحاجبيه مرددًا:
, -ماشي أما أشوف
, تسللت من أحضانه ساحبة معها الغطاء لتتوجه إلى المرحاض أولاً قبل أن تعد له الطعام الشهي الذي يهوى تناوله من يديها، تابعها بأنظاره حتى اختفت من أمامه فمط ذراعيه وشبكهما خلف رأسه محدثًا نفسه بسعادة:
, -**** يباركلي فيكي!
, ٣٥ نقطة
,
, لم يتوقع أن يتم إيداعه بالسجن لينفذ عقوبة جديدة استحقها بسبب أفعاله الغير قانونية وتجاوزاته الغير شرعية خاصة مع الصيدلانية فاطمة، تمسك بالقضبان الحديدية محدقًا بنظرات مصدومة في وجه القاضي الذي نطق الحكم عليه توًا، هي لجأت إلى أبرع المحامين للإدعاء بالحق عليه، فنال ما يستحقه بعد أن ثبت تورطه في الأمر، تحركت أعينه نحو والده الذي طالعه بنظرات أسفة، هو الجاني على نفسه قبل أي شيء، صاح مجد من خلف القضبان الحديدية بنبرة عالية:
, -سامحني يا أبا
, رد عليه مهدي بحزن كبير:
, -**** اللي بيسامح
, تابع صائحًا بتوسل:
, -حقك عليا، إن شاء **** هستأنف وهاخرج قريب من هنا!
, رد بفتور:
, -**** موجود
, أشار بيده لأخيه متابعًا بصرامة:
, -مازن خلي بالك من أبويا، حطه في عينيك، مش هاوصيك
, هتف أخيه الأصغر بضيق:
, -اطمن، أنا معاه
, جذبه الحارس من ذراعه ليبعده عن القضبان ليتجه نحو محبسه مع باقي المحتجزين بالقفص الحديدي، فلوح له مازن بيده مودعًا إياه، ثم أسند والده المتهادي في خطواته قائلاً:
, -أنا مش هاسكت، هاخلي المحامي
, قاطعه مهدي بهدوء:
, -مالوش لازم، أخوك غلطان، وافترى كتير على الغلابة، أنا راضي بحكم ****، المهم هو يعقل
, رد عليه بعدم اقتناع:
, -هو كان أول واحد، مافي غيره كتير
, هز مهدي رأسه رافضًا طريقة تفكيره المتهور والتي تدفعه إلى المهالك موضحًا:
, -بس مش كده! وأنا حذرته!
, -ماشي يا أبا، نتكلم بعيد عن هنا
, رد عليه بجدية:
, -ماتتعبش نفسك، اللي **** عاوزه هايكون، المهم أخوك يعقل زي ما قولتلك
, ٤٣ نقطة
,
, كان محقًا حينما اقترح عليها العمل وإلهاء نفسها في شيء يستحوذ على كامل تفكيرها بدلاً من الفراغ الممل الذي كانت قابعة فيه، انشغلت أسيف بإعداد الدكان الخاص بها ليصبح محلاً لبيع الورود الصناعية بالإضافة إلى الهدايا المميزة للصغار والكبار، واستخدمت أفكارها في تنسيق الباقات بطريقة جذابة ولافتة للأنظار بعد عملها بنصيحة زوجها منذر.
, وصل إلى مسامعها أنباء حبس مجد فسعدت بتلك الأخبار السارة كثيرًا، وكانت من أوائل المهنئين لصديقتها فاطمة التي تخلت عن خوفها، وأثبتت شجاعتها في مواجهته، واستمرت في معركتها حتى حصلت على حقها القانوني في نهاية المطاف.
, عاونتها بسمة في تجهيز كل شيء ليتم افتتاح الدكان في حلته الجديدة في أقرب وقت بالتزامن مع افتتاح الفرع الجديد الخاص بالوكالة، فقد عَمِد منذر إلى تغيير نشاط المحال بعد فض الشراكة مع عائلة أبو النجا ليتحول إلى معرض حديث مزود بالتصميمات الجديدة للأدوات الصحية، الجميل في الأمر أن زوجها سينتقل لذلك الفرع للعمل إلى جوارها ليظلا على مقربة من بعض.
, قامت أسيف برص الباقات المعدة سلفًا على أحد الرفوف متسائلة باهتمام:
, -يعني اتفقتوا؟
, أجابتها بسمة بتنهيدة مطولة:
, -ايوه
, لكزتها أسيف في كتفها معاتبة:
, -بذمتك في عروسة تكون قالبة وشها كده؟!
, ردت عليها بتجهم:
, -أنا مكونتش حابة أستعجل
, نظرت لها بغرابة رافعة حاجبها للأعلى وهي تقول:
, -ده انتو بقالكم فترة كاتبين كتابكم
, ردت بعدم اكتراث:
, -في ناس بتفضل بالسنين
, صححت لها أسيف تفكيرها قائلة:
, -ده لما يكونوا مش جاهزين!
, زفرت بسمة بصوت مسموع وهي ترد:
, -خلاص ارتاحوا كلكم من الزن، أسبوعين وأتنيل أتجوز
, انفرجت شفتي أسيف بصدمة واضحة، لم تتوقع منها تلك العبارة، فردت مدهوشة:
, -وساكتة
, قوست فمها للجانب متسائلة بفتور:
, -هايحصل ايه يعني؟
, تفاجأت بابنة خالها تجذبها من يدها بغتة لتتحرك معها نحو باب الدكان هاتفة بتلهف:
, -ده احنا كده معندناش وقت خالص
, استغربت من تصرفاتها المريبة والمبالغ فيها وهي تسألها:
, -في ايه يا بنتي؟
, ردت عليها بجدية:
, -سيبي اللي في ايدك دلوقتي وخلينا نشوف هانعمل معاكي ايه يا عروسة
, أشارت لها بكفها متابعة باندهاش:
, -يا أسيف الدكان٤ نقطة
, نظرت لها بنظرات عميقة وذات مغزى قبل أن تقاطعها بحزم:
, -مش وقته خالص، ده احنا عندنا عروسة!
, سحبت بسمة يدها من كف أسيف الممسك بها مرددة بقلق:
, -بلاش توتريني، خلي الأيام دي تعدي على خير!
, لم تستدر بجسدها نحو الباب وهي تتحرك نحوه باندفاع طفيف، وبالتالي لم ترَ دياب وهو يلج إليه، لذا دون قصد منها ارتطم ظهرها بصدره، فسقطت في أحضانه، تلقفها من ذراعيها مانعًا إياها من السقوط، شعرت بقبضتيه عليها فالتفت نحوه برأسها تحدق فيه بصدمة، رمقها بنظرات عاشقة قريبة مليئة بالكثير من المشاعر المتأججة، تلون وجهها بحمرة قوية وسريعة، لم يفلتها منه، وهمس لها بعبث مستغلاً تلك الفرصة التي لا تتكرر كثيرًا:
, -وربنا أنا محظوظ ٣٤ نقطة ٣ علامة التعجب
,
,
, تخشب جسدها من ذلك الموقف الحرج الذي يتكرر دومًا معه، وكأن الأقدار تلعب معها وتخدمه مهيئة له الظروف لتجمع بينهما رغمًا عن إرادتها، حدقت فيه بنظرات مدهوشة، وحاولت التحرر من قبضتيه المحكمتين حول ذراعيها لكنه رفض إفلاتها مستغلاً كل لحظة متاحة له للتقرب منها، بدا الانزعاج واضحًا على محياها وهي تصيح بتشنج:
, -لو سمحت ماينفعش كده!
, لم يضغط عليها كثيرًا، فالمكان والزمان غير ملائمين تمامًا للجدال أو حتى لإظهار المشاعر والأحاسيس، أرخى قبضتيه عنها قائلاً بابتسامة متسلية:
, -وماله!
, وما إن نالت حريتها حتى تراجعت مبتعدة للخلف محدقة فيه بنظرات تحمل الضيق، ظل دياب يطالعها بنظراته العاشقة بجرأة أكبر غير متحرج من وجود أسيف معهما، أخرجته هي من تحديقه المطول متسائلة:
, -ازيك يا دياب؟ إيه الأخبار؟
, رد قائلاً بهدوء وهو يعبث بمؤخرة رأسه:
, -الحمد**** يا مرات أخويا!
, عاود دياب التحديق في بسمة التي كانت في حالة خجل واضحة، لم تختفِ بعد الحمرة المغرية الظاهرة على صدغيها، ولم تسكن رجفة جسدها المتوتر إلا قليلاً، ابتلعت ريقها مرددة بارتباك:
, -أسيف أنا هارجع البيت!
, سد عليها دياب الطريق بجسده ليمنعها من المرور أو التقدم خطوة للأمام قائلاً باستنكار:
, -ايه ده! انتي ماشية؟
, فركت أصابع كفها بتوتر وهي ترد بتجهم زائف:
, -ورايا حاجات في البيت، مش فاضية للهزار البايخ ده!
, دنا منها فتوترت أكثر من اقترابه الغير حذر، تلفتت حولها مبدية حرجها من تصرفاتها المتجاوزة لكنه لم يكترث بما يفعله، همس لها بتنهيدة حارة:
, -بس أنا ملحقتش أشبع منك!
, تنحنحت بسمة بصوت خفيض، ثم دفعته بيدها من كتفه لتتمكن من المرور قبل أن يحاصرها أكثر من ذلك، اندفعت مسرعة نحو الباب قائلة بجدية شديدة:
, -سلام يا أسيف!
, لم تستطع ابنة خالها الرد عليها بسبب فرارها الغير مبرر من الدكان، واكتفت بالابتسام المتعجب، صاح دياب بامتعاض مستنكرًا جفائها معه:
, -شايفة المعاملة؟
, حافظت على ابتسامتها الرقيقة وهي ترد بهدوء:
, -معلش بتدلع عليك
, احتدت نظراته قائلاً بوعيد:
, -بكرة يطلع عليها إن شاء ****، أنا ماسك أعصابي لحد النهاية!
, وضعت يدها على أنفها مانعة نفسها من الضحك على طريقته المضحكة، ثم قالت:
, -اصبر على رزقك، ده حتى بيقولوا الصبر مفتاح الفرج!
, رد ساخرًا بعبوس:
, -ده لو فضل فرج عايش!
, ٤٦ نقطة
,
, انحنت بجسدها للأمام لتجمع بقايا روث البهائم من الحظيرة بعد أن أمرها عمها كامل بتولي مهمة تنظيفها يومًا بعد يوم، لم تتصور مطلقًا أن تتحول حياتها من الترفه والرفاهية للشقاء والذل، لو أخبرها أحدهم أنها بعد أشهر ستكون في تلك الحالة وعلى هذه الوضعية لظنت أنه مجنون، لكنها الحقيقة المرة، نعم هي حصلت على وثيقة طلاقها من زوجها مازن، وباتت حريتها مشروطة حتى انتهاء عدتها لتزف إلى ذلك العامل الذي حُكم عليها بأن تكون زوجته، هو لا يبحث عمن يبادلها مشاعر الحب أو الحميمية، بل عمن تلبي له رغباته المنزلية وتؤدي واجباتها بإخلاص، هو يعاني من مشاكل في الإنجاب، ولم يسبق له الزواج، لكن لرغبة عمها في تأديبها وفي ستر فضائحها عرضها عليه، وارتضى الأخير بها ممتعضًا وكأن بها ما يشين، ولما تنكر ذلك وهي من ألقت بنفسها في التهلكة؟
, بكت ولاء قهرًا على حالها البائس، انتحبت بصوت خفيض محدثة نفسها:
, -أنا اللي جبت ده كله اللي نفسي، أنا افتريت وطمعت، وضاع مني كل حاجة!
, لم تستطع التركيز في أداء عملها، فانهارت باكية بحرقة أشد، لطمت على رأسها بكفيها متابعة بانكسار:
, -كنت غبية! غبية!
, أخفضت كفيها لتلطم على صدغيها حينما تذكرت ابنها، ذلك الصغير الذي تناسته في خضم معاركها، لم ينل من أمومتها ولا أحضانها إلا القليل، لم تكن أمًا بالمعنى الحقيقي، شعرت بوخزة عنيفة تضرب قلبها الذي انفطر على بعده، صاحت بنواح:
, -حبيبي يا يحيى! وحشتني أوي، يا ترى هاعرف أشوفك ولا لأ؟!
, اشتعلت رأسها بنيران الغيرة حينما اقتحم عقلها صورة بسمة بابتسامتها التي تستفزها وهي متأبطة لذراع دياب، احتقنت أعينها الباكية، وامتلأ وجهها بحمرة ملتهبة، بالتأكيد على تربعت على عرش قلبه، واحتلت مكانها الطبيعي، ما أصابها بخيبة الأمل هو إحساسها بأنه متيم بها ويعشقها بجنون، كورت أصابع يدها بقوة ضاغطة عليهم وهي تردد لنفسها:
, -بقيت نهايتي هنا، وهي خدت كل حاجة!
, أخرجها من شرودها الغاضب صوت زوجة عمها الصائح بحدة:
, -إنتي يا بت لسه مخلصتيش؟
, كفكفت عبراتها بظهر كفها هاتفة:
, -أهوو على طول
, أشارت بيدها متابعة بلهجة آمرة:
, -طب يالا أوام، لسه عندنا خبيز وموال أد كده!
, ٤٢ نقطة
, أسرعت في خطواتها متجهة نحو منزلها هاربة من حصار مشاعره الصادقة والتي تضعف بقوة جمودها الزائف معه، هو استحوذ على كامل تفكيرها رغم إنكارها لذلك أمامه، لكن انفعالاتها تعكس حقيقتها دون أن تضطر للبوح بذلك، توقفت في مدخل البناية لتلتقط أنفاسها قبل أن تصعد إلى منزلها فتظهر عليها علامات التوتر والاضطراب مما يجعلها فريسة لأسئلة أختها التي لا تنتهي عنه، أرادت الحفاظ على بقايا عقلها من كثرة إلحاح الجميع عليه، نعم هي تفكر فيه وبكثرة، لكنها تقاوم إحساس الرهبة الذي يعتري من آن لأخر ليوترها من مستقبل مجهول معه، أحيانًا يلوح في الأفق توترات علاقته السابقة مع طليقته، ناهيك عن وجود ابنه الذي ربما لن يتقبل وجودها في حياته لاحقًا إن اعتقد يومًا أنها احتلت مكان والدته، تصارعت أفكارها المتخبطة بداخل رأسها فأتعبتها، تنفست بعمق هامسة لنفسها بتوجس:
, -**** يستر، إن شاء **** هايحصل كل خير
, أكملت صعودها على الدرج بخطوات سريعة، ولجت إلى داخل منزلها متلفتة حولها بهدوء، حمدت **** في نفسها أن الصالة كانت خاوية من والدتها، فأسرعت في خطواتها مختبئة داخل غرفتها، وقفت أمام المرآة متأملة وجهها الذي كان يحتفظ بحمرته الملتهبة، تحسسته بظهري كفها فشعرت بسخونته المتقدة، شردت سريعًا في تقاربهما الشديد، نظرات الوله التي يطالعها بها، هي تزداد عمقًا يومًا بعد يوم، وجدت نفسها تبتسم عفويًا وهي تتخيل أفكارًا جامحة معه فنظراته لها توحي بذلك، وجرأته المباغتة تؤكد نواياه، زادت ابتسامتها العابثة، ثم تجهمت بشدة محركة رأسها مستنكرة شرودها الطائش، همست معاتبة نفسها:
, -مجنونة، بلاش الحاجات دي!
, ألقت بجسدها على الفراش لتكمل تحديقها الفارغ في سقفية الغرفة مستسلمة للذكريات الشيقة التي تجمعهما سويًا والتي لا تخلو من اللهو والنظرات العاشقة، تحركت أعينها نحو خزانة الثياب حيث يوجد داخلها ثوب عرسها الذي اشتراه لها دياب، كانت رافضة لتلك الفكرة في البداية، أرادت استئجار ما يليق بها، لكنه عارضها وأهداها إياه، تنهدت بعمق وهي تنهض من على الفراش لتتجه نحوها، فتحت الضلفة لتطالعه بأعين لامعة، مدت يدها ببطء تتحسس ملمسه من فوق الحافظة البلاستيكية التي تغطيه، عضت على شفتها السفلى بخجل، ثم سحبت يدها لتغلق الضلفة من جديد، استندت بظهرها على الخزانة لتشرد من جديد في أحلام وردية.
, ٤٤ نقطة
,
, أشرف بنفسه على وضع اللمسات الأخيرة لافتتاح فرعه الجديد بالتزامن مع دكان زوجته، ونقل إدارته إلى هناك ليكون إلى جوارها أغلب الأوقات بينما سيتولى أخيه متابعة الأعمال بالوكالة مع والده، لم ينزعج منذر من رغبة أسيف في تأجيل الإعلان عن ميعاد الافتتاح النهائي لانشغالها مع ابنة عمتها، بل على العكس رحب بذلك كثيرًا، فالطرف الأخر في الموضوع هو أخيه الأصغر، والذي سيحظى أخيرًا بالحب والاستقرار بعد فترة ليست بالقليلة من مشاكل متواصلة انعكست عليه، لكنه في الأخير خرج منتصرًا وظافرًا بحب جديد، كذلك رتب منذر لسفرة قصيرة يقضيها مع حبيبته وبصحبة العائلة بعد الانتهاء من تجهيزات العرس، فالجميع بحاجة لوقت مثل ذلك لتجديد النشاط والترويح عن النفس.
, وعلى مدار الأيام التالية، خصصت أسيف أغلب وقتها لتظل إلى جوارها، فالوقت المتبقي محدود للغاية، وتجهيز العروس يتطلب فترة كافية للتأكد من تجهيز كل شيء، كانت أسعد أوقاتها هي مشاطرتها تلك الفرحة خاصة أن نيرمين كانت على قدر المستطاع تعاونهما، خفف ذلك من وطأة الضغوط النفسية التي كانت تعانيها بسمة، وشعرت بدفء العائلة الذي حمسها كثيرًا، وبدد خوفها تدريجيًا، هي تخشى من تبعات الإقدام على تلك الخطوة الفارقة في حياتها، وجاهدت لصرف أي أفكار متوترة عن ذهنها.
, انتهت عواطف من إعداد الكعك والبسكويت الخاص بتلك المناسبة السارة وبدأت في وضعه في علب نظيفة لتوزعه على الأحباء، ورغم تعجب نيرمين من مبادرة والدتها في عمل ذلك إلا أنها أوضحت غرضها قائلة بود:
, -خلي الناس تفرح، وبعدين فرصة يا بنتي، إنتي معايا وإيدك بإيدي! هو أنا في ديك الساعة لما تكوني وسطنا وبتجهزي حاجة أختك ويايا، ده الفرحة مش سيعاني يا بنتي، **** يديمها علينا ويكمل شفاكي على خير!
, تلألأت عيناها بعبرات طفيفة تأثرًا بحديث والدتها، ربما هي سعت لإسعادها بطريقة غير مباشرة، أرادت أن تشعرها بأهمية وجودها، بأن الفرحة لن تكتمل إلا بحضورها معهم، تملكها إحساس سعادة صافٍ، دون تردد احتضنها قائلة بنبرة شبه مختنقة:
, -يا رب يا أمي!
, ربتت عواطف على ظهرها بحنو ثم تابعت هاتفة:
, -يالا يا بنتي، تعالي نشوف ناقصنا ايه!
, ٣٨ نقطة
, بدا المنزل بمن فيه كخلية النحل خاصة حينما حانت ليلة الزفاف، فلم تتوقف التنهئات ولا المباركات من الجيران والمعارف الذين تسابقوا في ذلك، ولم تهدأ صديقات العروس من الاحتفاء بها على طريقتهن، أصرت بسمة على إقامة زفة حتى لو كانت متواضعة عند منزلها قبل الانتقال للقاعة للاحتفال، فعلى عكس أخيه أراد دياب ألا يحرم عروسه من كل أحلام الفتيات من زفاف مميز، وزينات براقة، وصورًا تذكارية مختلفة، ورغم كون اليوم مشحونًا منذ بدايته إلا أنه كان سعيدًا، فالمهم أنها ستصبح بعد ذلك زوجته.
, شغلت نيرمين طرحة أختها بيدها بحب أخوي صادق، فحينما ارتدتها بدت أكثر إشراقًا وجمالاً، تأملت بسمة نفسها في المرآة غير مصدقة أنها عروس بالفعل، ارتسمت تعابير السعادة والفرحة على محياها، رفعت أبصارها نحوها لتقول بامتنان:
, -**** يخليكي ليا يا نيرمين، حلوة أوي
, ردت عليها بابتسامة لطيفة:
, -إنتي اللي حلوة من يومك!
, صدحت أصوات الدفوف والمزامير لتعلن عن قدوم الزفة أسفل البناية، أعقبها إطلاق الزغاريد العالية، فارتبكت في غرفتها وانقبض قلبها بقوة، شعرت بدقات قلبها تخترق أذنيها من فرط الاضطراب الممزوج بالتوتر، وضعت نيرمين يدها على كتفها هامسة لها بعبث:
, -اهدي يا عروسة، علقة تفوت ولا حد يموت!
, ضاقت نظراتها وهي ترد بخوف:
, -بلاش توتريني بزيادة، أنا أعصابي تعبانة
, -و**** ما في أحلى منك عروسة
, قالتها أسيف بنبرة رقيقة وهي تدنو منها حاملة في يدها عطرًا أنثويًا لتغرق به ثوبها، حركت بسمة رأسها نحوها مرددة:
, -إنتي شايفة كده؟
, أكدت لها بثقة:
, -طبعًا!
, أطلت نيرمين برأسها من النافذة مرددة بحماس:
, -العريس جه تحت والزفة جاهزة، يالا بينا
, هتفت بسمة بخوف:
, -لالالا، استنوا شوية!
, غمزت لها نيرمين بعبث:
, -خدي راحتك يا بسوم!
, تصلب جسدها من فرط التوتر، فتابعت بتهور غير مدركة سذاجة تفكيرها:
, -أقولكم على حاجة، احنا نأجل الجوازة دي كام يوم، أنا مش مستعجلة!
, حدقت فيها أسيف بغرابة وهي تسألها:
, -إنتي شايفة كده؟
, أومـأت برأسها مرددة:
, -أيوه
, اقتحم الغرفة دون استئذان الصغيران يحيى وأروى هاتفين بحماس مرح:
, -مس بسمة
, ركضا نحوها ففتحت ذراعيها لتستقبلهما في أحضانها مرددة:
, -حبايبي
, هتفت أروى بابتسامة متسعة:
, -مبروك يا مس
, أضاف يحيى ببراءة وهو يشير بيده:
, -بابي طالع ورايا، بس أنا سبقته!
, ارتبكت من مجرد ذكر اسمه، وحاولت الحفاظ على ثباتها مرددة بحذر:
, -أوكي يا حبيبي
, تابع الصغير قائلاً ببراءته المحببة:
, -بابي قالي إنك هتنامي معانا بعد كده، صح يا مس؟
, تورد وجهها كليًا من تلك العبارة الصريحة، وردت بخجل:
, -احم ٣ نقطة ايوه
, وضعت أسيف يديها على كتفي الصغيرين قائلة بهدوء:
, -يالا يا حلوين نطلع برا عشان٤ نقطة
, لم تكمل جملتها للأخير حيث انتبه الجميع لدقات دياب الخافتة المصحوبة بصوته المتسائل:
, -ينفع أدخل؟
, انتفض جسد بسمة في مكانه من مجرد سماع صوته، وانكمشت على نفسها رهبة من الموقف برمته، رمشت بعينيها في ارتباك، وبدأت في الضغط على أصابعها محاولة تخفيف حدة التوتر التي تعتريها، ردت نيرمين بترحاب:
, -طبعًا
, بتمهل متشوق ولج إلى داخل الغرفة باحثًا بعينيه عنها، تجمدت أنظاره على شخصها الذي سلب عقله، فغر فمه للأسفل مبديًا انبهاره بجمالها الذي زاد توهجًا بارتدائها لثوب الزفاف، هتف غير مصدق:
, -اللهم صلي على النبي، هو في كده، أخيرًا هنتجوز!
, أخجلها غزله الصريح، وتوترت أكثر، جاهدت أسيف وبسمة لإخفاء ضحكاتهما المتسلية، اقترب دياب أكثر، فزاد ارتباك بسمة، أمسكت بكف ابنة خالها هامسة برجاء:
, -خليكي يا أسيف!
, ردت عليها بصوت خفيض وهي تشير بعينيها:
, -خليني ايه بس، ده العريس مستني!
, سحبت يدها منها ببطء تاركة إياها بمفردها مع عريسها الذي يحترق تلهفًا في مكانه، نظرت بسمة إلى نيرمين هامسة لها بتوسل:
, -نيرمين ماتمشيش! أنا٣ نقطة
, قاطعتها بجمود زائف:
, -باين ماما بتنادي برا، هاروح أشوفها!
, نظرت لها باستنكار معاتب لتخليها هي الأخرى عنها وتركها بصحبته، ظل يتابع باستمتاع تصرفاتها الخجلة دون أن يعلق عليها، وانتظر بشوق انصراف الجميع من الغرفة ليصبحا سويًا، سلط أنظاره اللامعة عليها مرددًا بعبث:
, -ايه بقى؟
, تراجعت للخلف مبتلعة ريقها بتوتر كبير، ثم ردت بحدة وهي تشير بسبابتها محذرة:
, -في ايه؟ لو سمحت مش هاسمح بأي تجاوز
, مازحها مرددًا:
, -هو أنا في القسم ولا حاجة يا أبلة؟
, تابعت محذرة بلهجة شديدة:
, -خليك مكانك!
, رد ببلاهة:
, -ده أنا جاي أديكي الورد، خايفة ليه؟
, أخفضت أنظارها لتحدق في باقة الورد التي كانت بحوزته، عاودت النظر إليه مرددة بعبوس:
, -طيب، هاتها!
, استغرب تجهمها المبالغ فيه، ولكنه برر ذلك لنفسه بكونها في حالة ارتباك، تلك الحالة التي تسيطر على أغلب العرائس في ليلة زفافهن، لم يتعجل أي شيء منها، حتى وإن كان الانتظار يقتله شوقًا إلا أنه لم يرد إرغامها على شيء، على الأقل حاليًا، نظر لها بوجه خالٍ من التعبيرات قائلاً:
, -مش يالا بينا، الناس مستنية تحت، لسه ورانا حاجات كتير!
, ردت باقتضاب:
, -ماشي
, تابع آمرًا وهو يشير بعينيه:
, -هاتي إيدك
, قطبت بسمة جبينها متسائلة بحدة طفيفة:
, -ليه؟
, رد ساخرًا من تساؤلاتها العجيبة:
, -محتاجها خمساية، مش هنأنجش (نرتبط) في بعض واحنا خارجين!
, ردت بامتعاض:
, -طيب
, تحركت بتمهل جاذبة ثوبها للأعلى لتتمكن من السير دون أن تتعثر فيه، وقفت قبالته متحاشية النظر فيه، لكنه بالطبع لم يضيع الفرصة هباءً، جاب بأنظاره ببطء على ثوبها المميز محدقًا فيها بإعجاب شديد، حينما رأه لأول مرة في محل ثياب الأفراح لم يتردد لثانية في شرائه، اقتناه فورًا، هو صمم من أجلها هي فقط، تأبطت في ذراعه باستحياء، شعر برجفتها وهي تتناول منه باقة الورد، فابتسم لها بسعادة، همس بأنفاس حارة لفحت وجنتها:
, -بس و**** قمر!
, ردت عليه بإيجاز وهي تتجنب التطلع إلى وجهه رغم يقينها بنظراته التي تخترقها:
, -شكرًا
, مال عليها متسائلاً باستجداء محبب:
, -مافيش كلمة حلوة ليا؟
, ردت بعبوس:
, -لأ
, مط فمه هامسًا:
, -براحتك، ادلعي زي ما إنتي عاوزة!
, أدارت رأسها في اتجاهه متسائلة بحدة:
, -بتقول ايه
, ابتسم لها ببلاهة وهو يجيبها:
, -يالا عشان الزفة يا حبيبتي، بيزمروا تحت وبيضربوا كلاكسات، بيب بيب، سمعاهم!
, لم تتمكن من إخفاء ضحكتها التي تشكلت على شفتيها لتزيدها إغراءً وأنوثة من دعابته الطريفة، طالعها بنظرات أكثر شغفًا ورغبة طامعًا في تذوق رحيق الحب من على شفتيها، هي بالفعل أسرته بعفويتها، بعنادها، بحدته،ا بعصبيها، وبطريقتها الغير متكلفة فبات معشوقها، وباتت حبه الأول والأخير بعد سنوات عجاف من المعاناة والبكاء على أطلال الماضي المشين، فقط ساعات معدودة ويصبح الحلم حقيقة ٣٧ نقطة !!
,
, جلست باستحياء على المقعد الخاص بالعروسين في منتصف القاعة تراقب بنظرات شمولية ومتوترة أوجه المتطلعين إليها من المدعوين، رسمت تلك الابتسامة المصطنعة على ثغرها لتخفي ارتباكها الكبير، انتفض جسدها قليلاً حينما شعرت بتلك اليد توضع على كتفها، أدارت رأسها للجانب لتجد والدتها محدقة فيها بنظرات حانية وهي تربت عليه برفق ، مالت عليها هامسة:
, -زي القمر يا بنتي، **** يحميكي ويكفيكي شر العين
, اكتفت بسمة بالابتسام المجامل لها وهي تهز رأسها بإيماءة خفيفة، ثم عاودت التحديق أمامها، جاهدت لتخفي حالة التوتر والصراع التي تعتريها، هي خائفة مما هي مقبلة عليه، فتنتظرها حياة جديدة مليئة بالكثير من التحديات والقرارات، عليها أن تكون فيها عقلانية تفكر بتريث وتتجنب حالة الاندفاع الأعمى التي تسوقها في بعض التصرفات، تنفست بعمق لتحافظ على جمودها الزائف، توجهت أنظارها نحو عريسها الذي كان يرقص طربًا مع محبيه، بالطبع لم يدخر وسعه في دعوة معارفه وأقربائه وأصدقائه ناهيك عن كل من له صلة به، امتلأت القاعة عن بكرة أبيها، وتسابق الجميع في تقديم التهنئات والمباركات له كل على طريقته الخاصة، تنهدت مطولاً حامدة **** في نفسها أنها أثرت الجلوس على التمايل والرقص أمام تلك الأعين الذكورية التي تعج القاعة بها.
, سعادة لا توصف تملكته حينما رفضت النهوض وتضاعفت أكثر ببقائها في مكانها كالملكة شامخة لا تطالها الأيدي، دق قلبه بقوة معلنًا عن حبه اللا محدود لها، لم تفارقها عيناه، وبين الحين والأخر كان يلتفت نحوها ليرمقها بنظراته العاشقة بالرغم من إحاطة الشباب له ممن يماثلونه عمرًا أو أصغر بقليل ليقوموا بواجبهم معه، تسابق دياب معهم في إظهار حماسه بليلة العمر، وزادت الأجواء حماسة مع انفعالهم المندمج بالأغاني الشعبية المحمسة.
, كان يترقب على جمر متقدة مرور الساعات لينفرد بها فيتمكن من التعبير لها عن مشاعره العميقة لها، ألهى عقله بما يحدث حوله مؤقتًا كي لا يهلك من كثرة الانتظار والتفكير.
, على الجانب الأخر جلست نيرمين على الطاولة القريبة من مقعد العروسين واضعة على حجرها رضيعتها، لم تفارق البسمة شفتيها، وتمايلت برفق مع النغمات المحفزة للحواس مداعبة ابنتها التي كانت تضحك ببراءة، انحنت على جبينها تقبلها، ضمتها إليها وأكملت دندنتها مع الأغاني، أبعدت أسيف أعينها المتطلعة إليها لتستدير برأسها نحو والدة زوجها، كانت بحاجة للعون، فتحركت صوبها، سألتها بنعومة:
, -عاوزة مساعدة مني يا طنط؟
, أجابتها جليلة بقلق:
, -اتأكدي يا بنتي إن كل حاجة موجودة في البوفيه ده، مش عاوزين الناس تاكل وشنا
, -حاضر
, أشرفت معها على إعداد الطاولات المعدة بالطعام الشهي وساعدهم الطهاة في رص الصحون بطريقة منمقة تمكن المدعوين من تناول ما يشتهون، دنا منهما منذر متأملاً زوجته المنهمكة فيما تفعل بهيام، مرر أنظاره ببطء على ثوبها الكريمي بنظرات لامعة، هو ملائم لها، ويزيدها رونقًا وتميزًا، أخرج من صدره تنهيدة حارة تحمل الكثير، وصرف عن ذهنه التفكير في أمور لا تصلح إلا في منزلهما، التوى ثغره ببسمة عذبة وهو يتساءل باهتمام:
, -إيه الأخبار؟
, ردت جليلة بابتسامة عريضة:
, -اطمن يا منذر، كل حاجة تمام
, هز رأسه بإيماءة خفيفة، ثم وضع يده على ظهر زوجته متسائلاً:
, -عاملة ايه يا حبيبتي؟
, أجابته بهدوء رقيق:
, -كويسة يا حبيبي!
, دس منذر يديه في جيبي بنطاله متابعًا بمرح:
, -الواد دياب أصحابه مولعين الفرح على الأخر
, التفتت برأسها حيث ينظر، وردت ضاحكة:
, -ايوه، ماهو باين!
, أضاف بجدية مشيرًا بحاجبيه:
, -كويس إن بسمة مقامتش ترقص مع أصحابها!
, ردت عليه أسيف موضحة:
, -هي من الأول قيلالي إنها مش حابة تعمل كده
, -أحسن
, ارتفع حاجبي أسيف للأعلى مبدية تفاجئها بظهور ذلك الشخص عند مدخل القاعة، هتفت فجأة باندهاش:
, -إيه ده؟
, نظر لها منذر بغرابة متعجبًا تبدل حالها، وقبل أن يحرك شفتيه ليسألها تابعت هاتفة:
, -بص هناك، شايف من جه؟
, نظر إلى حيث أشارت متسائلاً باقتضاب:
, -مين؟
, ارتسم على ثغرها ابتسامة متحمسة وهي تجيبه:
, -دكتور نبيل!
, حل الوجوم على وجهه وتبدلت تعابيره للانزعاج، نظر لها مرددًا بتجهم:
, -و****، ومالك مهتمة أوي كده؟!
, ردت بحماس وابتسامتها لم تفارق شفتيها:
, -أنا مش مصدقة، ده جاي الفرح، أكيد نيرمين هتفرح أوي، ده إنسان كله ذوق و٣ نقطة
, اشتعلت نيران الغيرة بصدره لمجرد مدحها لغيره، لم يتحمل المزيد من الترهات عنه، فقاطعها صائحًا بحدة:
, -أسيف!
, زادت تعجبها من صلابته الحادة، وردت متسائلة بحذر:
, -في ايه؟
, تابع بجمود لا يبشر بأي خير:
, -مش واخدة بالك إنك زودتيها؟
, قطبت جبينها مبررة حديثها:
, -ليه بس؟ بالعكس و**** د. نبيل محترم وأخلاقه عالية، المفروض نرحب بيه!
, كانت على وشك التحرك نحوه لتستقبله لكنه أوقفها جبرًا قابضًا على ذراعها، تأوهت من قوة ضغطته، وهتف آمرًا بلهجة صارمة:
, -إياكي تتحركي من هنا!
, استنكرت هجومه الغير مفهوم عليه، بالإضافة إلى طريقة إمساكه بها، حاولت نزع ذراعها من قبضته، لكنه لم يفلتها، ظلت أنظاره المحتقنة مسلطة على وجهها، ضغطت على شفتيها قائلة بامتعاض:
, -مايصحش يا منذر، ده ضيفنا، ومايعرفش حد إلا احنا
, هتف محذرًا بتهديد ضمني:
, -هي كلمة يا بنت رياض، ولو خالفتيها هايبقلنا كلام تاني مع بعض!
, فغرت ثغرها مصدومة من نبرته العدائية، ردت متسائلة بعدم تصديق:
, -قصدك ايه؟ إنت عاوز تمد إيدك عليا؟
, أرخى أصابعه عنها قائلاً بصلابة:
, -افهمي انتي بقى!
, احتدت نظراتها نحوه مستنكرة ما يفعله، ردت بغيظ:
, -بقى كده يا منذر!
, انتبهت جليلة للشجار الدائر بينهما، فتدخلت على الفور قبل أن يتفاقم ويتطور للأسفلـ هتفت متسائلة:
, -في ايه يا ولاد، إنتو اتحسدتوا ولا إيه؟
, رد منذر بتشنج:
, -اسأليها
, اغتاظت من تحميله اللوم دون سبب مقنع وكأنها ارتكبت جريمة ما، وجل ما قالته هو الترحيب بالضيف، صاحت بنبرة متعصبة:
, -شايفة يا طنط؟!
, نظر لها مطولاً بحنق، استشعرت من نظراته عصبية جمة رغم عفوية تصرفها، أطلق سبة خافتة قبل أن يتركها وينصرف مبتعدًا عن الاثنتين، تابعته أسيف بأعين متوهجة للغاية متعجبة مما حل به من عصبية غير مبررة، لم يكن على تلك الحال قبل لحظات، وفجأة تحول للنقيض، وبات يهددها بالضرب إن خالفت أوامره، كانت تلك هي المرة الأولى منذ زواجهما التي ينفعل فيها عليها بتلك الطريقة الهوجاء، خفق قلبها بقوة، بدت العبرات محبوسة في مقلتيها أخرجتها جليلة من شرودها العابس متسائلة:
, -ايه اللي حصل؟ فهميني يا بنتي!
, كزت أسيف على أسنانها بغضب كاتمة في صدرها ضيقها منه، لكن عكست تعبيرات وجهها حالة الاستنكار والغضب التي تتقد بداخلها، استشفت جليلة نشوب خلاف حاد بينهما، واستمعت إلى تفاصيله منها، حاولت لملمة الأمور بينهما، فأردفت قائلة بهدوء:
, -متزعليش نفسك، هما الرجالة كده طبعهم حامي!
, صاحت مستنكرة وهي تلوح بذراعها:
, -بس مش للدرجادي يا طنط! بقى أنا يقولي كده
, ربتت جليلة على ظهرها متابعة بلطف:
, -معلش، مايقصدش، وإنتي بردك استحملي شوية، هي الست عليها الاستحمال، وصدقيني شوية وهتلاقيه هدى ورجع زي الأول
, زفرت أسيف بغضب دون أن تعجب، لا جدوى من الجدال معها، فهي ستدافع عن ابنها وستبرر له تصرفه المبالغ فيه معها، كتمت بصعوبة ضيقها، وحاولت جليلة توضيح الأمور لها من منظورها الشخصي، أصغت لها دون مقاطعة حتى قالت بجدية:
, -المهم تتصالحوا مع بعض، اوعوا تباتوا متخانقين!
, ردت بعد اقتناع وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
, -إن شاء ****
, ابتسمت لها جليلة قائلة بود:
, -**** يصلح حالك يا بنتي! ويهدي سركم مع بعض
, ٥٨ نقطة
, نظر لها بتأمل قبل أن يتقدم بخطوات ثابتة نحو الطاولة التي تجلس عليها، لم يتأخر في تلبية دعوتها والحضور إلى حفل زفاف أختها، تشكل على تعابير وجهه ابتسامة متشوقة وهو يردد:
, -مدام نيرمين!
, استدارت برأسها نحوه على إثر صوته المميز، تفاجأت بوجوده بالقاعة، لم تستطع إخفاء علامات الاندهاش من على وجهها، تداركت الموقف سريعًا، وحاولت النهوض من مقعدها لترحب به قائلة:
, -دكتور نبيل
, أشار لها بيده لتجلس وهو يرد:
, -خليكي مرتاحة، أنا قولت أجي أبارك بنفسي للعرسان
, جلست نيرمين باسترخاء على المقعد معيدة وضع رضيعتها على حجرها، وردت بلطف:
, -**** يبارك فيك
, تابع بهدوء دون أن يخفي ابتسامته عن ثغره:
, -وعقبالك إن شاء ****!
, تورد وجهها من جملته تلك، ورغم يقينها أنها عبارة مجاملة لكنها لمست قلبها، سريعًا اقتحم عقلها ذكريات متنوعة من ماضيها الموجع حتى لحظة اكتشافها لمرضها، تنهدت قائلة بضجر:
, -متشكرة، أنا خلاص خدت حظي، ومستنية٤ نقطة
, قاطعها مشيرًا بكفه:
, -احنا اتفقنا على ايه!
, ابتسمت لصرامته المحببة معها، وهزت رأسها بتفهم، تابع مضيفًا بصوته المتحمس:
, -وبعدين ينفع نزعل في يوم زي ده؟!
, ردت مبتسمة:
, -عندك حق
, لمحته عواطف من أعلى "الكوشة" فتهللت أساريرها، مالت على ابنتها لتهمس لها بشيء ما في أذنها، ثم تحركت بتمهل نحو طاولة نيرمين، هتفت مهللة بسعادة وهي تمد يدها لمصافحة نبيل:
, -ازيك يا ضاكتور
, بادلها التحية قائلاً:
, -أهلاً يا حاجة
, -شرفتنا يا ابني
, -**** يخليكي يا رب، وألف مبروك للعروسة، **** يسعدها
, ردت بامتنان:
, -يا رب يا ابني، وعقبال ما نفرح بيك!
, انعقد ما بين حاجبيها وهي تتابع:
, -مش إنت لسه ماتجوزتش؟
, أجابها بابتسامة مصطنعة رغم خبوها قليلاً:
, -لأ أنا اتجوزت وانفصلت!
, تفاجأت نيرمين بذلك، فلم يسبق لها أن سألته عن أي شيء يخصه، واليوم هي اكتشفت عنه القليل، ردت والدتها بود:
, -أها، **** يعوضك خير بالأحسن
, وجه أنظاره نحو نيرمين مرددًا:
, -إن شاء ****
, تابعت عواطف قائلة:
, -اتفضل ارتاح يا ضاكتور
, هز رأسه وهو يقول:
, -شكرًا
, تركتهما عواطف بمفردهما متجهة نحو ضيوفها لترحب بهم، ساد صمت حذر بينهما، لم تحاول فيه نيرمين كسره، واكتفت بالتحديق في أي شيء إلا هو، استشعرت نظراته المسلطة عليها، وعمدت قدر المستطاع على عدم الالتفات نحوه، استغل نبيل الفرصة لتأملها على راحته، كانت أكثر حيوية عن وجودها بالمشفى، أحدث ظهوره في حياتها فارقًا ملحوظًا معها، وهي لا تستطيع إنكار ذلك، حاول التودد إلى مريضته التي شغلت باله مؤخرًا، فاستطرد حديثه هاتفًا:
, -ماشاء **** بنوتك شبهك
, التفتت نصف التفاتة نحوه وهي تجيبه باقتضاب:
, -تسلم
, لاحظ صمتها الطويل واكتفائها بالرد بالكلمات الموجزة، فأكمل متسائلاً باهتمام:
, -ممكن سؤال إن مكانش ده يزعجك؟
, استدارت نحوه مبدية تحفزها لسؤاله الغامض وهي ترد:
, -اتفضل
, أومأ بعينيه قائلاً بحذر:
, -هو أبوها فين؟
, تشنجت تعبيرات وجهها، فتابع موضحًا بحرج:
, -احم.. قصدي يعني بيجي يشوفها ويسأل عليها و٣ نقطة
, انزعجت من ذكره لشبيه الرجال، من أذاقها العذاب والذل، تجرعت على يده ألوانًا مختلفة من المهانة والإذلال حتى قسى قلبها وأصابه الحقد والغل، لم يعبأ يومًا بمشاعرها ولا برغباتها، فقتل فيها كل شيء وتحولت إلى ما هي عليه، وما عزز من ذلك جحود عائلته وشراستهم معها، أفاقت من شرودها المؤقت مرددة بامتعاض عابس:
, -لأ، ومش هايشوفها لأنه في السجن!
, صدم مما قالته واكتفى بالإيماء برأسه متفهمًا، تابعت مضيفة بتشنج:
, -أنا مش بأحب أتكلم عنه، سيرته بتقفلني!
, خاف أن تكون قد استاءت من حديثه وتسبب في إيلامها بصورة غير مباشرة، فاعتذر فورًا قائلاً:
, -أنا أسف، مكونتش آآ٤ نقطة
, قاطعته بفتور:
, -عادي
, أخفضت أنظارها لتداعب رضيعتها بحنان أموي مغدقة عليها بقبلات صغيرة، ابتسم للطفها معها، وسألها بهدوء:
, -تسمحيلي أشيلها شوية؟!
, استغربت من طلبه المريب، لم تتمكن من رفضه، فابتسمت قائلة:
, -اتفضل
, تناول الرضيعة منها ليهدهدها بود، ظلت ابتسامته الساحرة مرسومة على ثغره، ربت على ظهر رنا برفق قائلاً بنبرة ذات مغزى:
, -ماشاء **** على الجمال، إنتي زي ماما حلوة وضحكتك جميلة!
, خجلت نيرمين من غزله المتواري عنها، وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه رغم تلك الحماسة الرهيبة التي تملكتها، انتابتها مشاعرًا مختلفة عن ذي قبل، أحاسيسًا لم تخوضها أبدًا، هي ظهرت لها في وقت حرج لتكون كالضوء في النفق المظلم لترشدها في دربها المرير، لم تشعر بشفتيها وهما تبتسمان بنعومة، لكن التقطتها عيناه فزادتا إشراقًا.
, تعمد الجلوس إلى جوارها ليقلص المسافات بينهما، ناولها الرضيعة قائلاً:
, -**** يباركلك فيها
, ردت مجاملة:
, -يا رب!
, تنهدت بعمق لتتابع بحزن واضح:
, -نفسي بختها يكون أحسن مني وتعيش حياتها و٤ نقطة
, قاطعها نبيل بجدية:
, -إن شاء ****، وبعدين أنا عاوز أقولك على حاجة كنت مأجلها لحد ما أخد رأيك فيها
, قطبت جبينها متسائلة باهتمام وهي تعدل من وضعية رضيعتها على حجرها:
, -حاجة ايه دي؟
, رد بلا تردد:
, -دلوقتي في علاج جديد، هو تجريبي بس هايفيد حالتك كتير
, لوت ثغرها للجانب قائلة بتهكم يائس:
, -أخره يعمل ايه؟ هايأجل موتي كام يوم والسلام!
, عاتبها مرددًا برفق:
, -بلاش روح التشاؤم دي، كل حاجة بإرادة ****!
, مد يده ببطء ليضعها على كفها المسنود على الطاولة بعد أن أسندته متابعًا:
, -وأنا متعشم خير
, نظرت مصدومة إلى يده التي تحتضن راحتها، ثم عاودت التحديق في وجهه بأعين متسعة، لاحظ اندهاشها فسحب كفه ببطء قائلاً بابتسامة مهذبة:
, -أسف
, هزت رأسها بإيماءة خفيفة وظلت ترمش بعينيها بتوتر ملحوظ متحرجة من فعلته تلك، ومع ذلك لم يندم على تصرفه المتجاوز، وظلت ابتسامته المشرقة تزين وجهه بالإضافة إلى نظراته المتأملة لها.
, ٥١ نقطة
, التهت بمتابعة المدعوين متجنبة الحديث معه كاتمة في نفسها ضيقها من تصرفه المبالغ فيه، ومع ذلك بدا وجهها عابسًا للغاية، حاولت أن تبتسم لكن كانت بسمتها باهتة، اختلست النظرات نحوه فوجدته مشغولاً بالحديث مع والده، ضجرت أكثر من تجاهله المقصود لها خاصة حينما التقت أعينهما معًا، فرمقها بحدة قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنها، نغزة قوية ضربت قلبها فألمتها من جفائه القاسي، أولته ظهرًا، وأخفت قدر المستطاع ضيقها، سلطت أنظارها على العروس التي كانت تمرر أنظارها على الجميع، لوحت بيدها لها كتعبير عن اهتمامها بها، ثم أسرعت بالذهاب للمرحاض لتختفي بداخله قبل أن تنهمر عبراتها تأثرًا، لا تعرف ما الذي أصابها لتصبح على تلك الحالة الضائقة ويختنق صدرها على الأخير.
, زفــــر دياب بصوت مسموع وهو يلقي بثقل جسده المنهك من كثرة الرقص ومجاراة الشباب في حركاتهم الحماسية، التفت نحو عروسه هاتفًا بمرح:
, -هدوا حيلوا **** يحرقهم، مش ملاحق
, نظرت له بأعين قلقة وهي ترد:
, -فرحانين عشانك!
, وقبل أن يضيف كلمة أخرى اندفع الصغير يحيى نحوهما صائحًا ببراءة:
, -تعالي نقرص يا مس بسمة!
, عقد دياب ما بين حاجبيه متعجبًا من جملته تلك، وسأله بغرابة:
, -مين دي اللي تقرص يا يحيى؟
, ردت بسمة موضحة بابتسامة سعيدة:
, -قصده نرقص، الأطفال بينطقوها غلط
, حك دياب مؤخرة رأسه متفهمًا، ونظر لصغيره مطولاً دون أن يعلق عليه، تابع يحيى قائلاً بإصرار:
, -يالا يا مس
, اعترض والده عليه مبديًا انزعاجه:
, -هو أنا مش مالي عينك ياله!
, عبس يحيى بوجهه مرددًا:
, -بابي
, ربتت بسمة على ظهر الصغير بحنو، ثم انحنت قليلاً على جبينه طابعة قبلة صغيرة عليه وهي تقول:
, -معلش يا حبيبي، ماينفعش هنا
, احتج الصغير على رفضها قائلاً بتجهم:
, -ما بابي بيقرص من الصبح!!
, رد عليه دياب مازحًا:
, -هو أنا شغال ناموسة ولا ايه؟
, بدا الصغير مُصرًا على اصطحابها له، ولن يقبل بالرفض مطلقًا، لذلك عمدت إلى استخدام أسلوب الرفق معه، وضعت كفها على طرف ذقنه لتمسح عليه بحنو وهي تقول:
, -شوية وهارقص معاك
, حرك رأسه وهو يقفز مرحًا في مكانه، ثم اندفع عائدًا ليلهو مع الصغار بالقاعة، أمسك دياب بكف يدها ضاغطًا عليه بأصابعه، فنظرت له بجدية، قرب كفها منه وهو يمازحها قائلاً:
, -زي العسل، طالع لأبوه
, اكتفت بتحريك رأسها بالإيجاب وهي تستعيد يدها منه، سألها بغموض غامزًا بطرف عينه:
, -ايه بقى؟
, ردت بحدة طفيفة:
, -نعم
, تابع بابتسامة متسعة:
, -مش هاتقولي حاجة؟
, قوست بسمة فمها قائلة باقتضاب:
, -لأ!
, أشار لها بكفه مكملاً:
, -بشوقك، المهم خمساية والبوفيه يفتح
, حذرته بسمة بسبابتها بصرامة واضحة:
, -بأقولك ايه، أنا مش بتاعة حركات التورتة، خد بالك!!
, فهم مقصدها فيما يتعلق بتبادل القبلات العابثة أثناء تقطيع قالب الحلوى، بالطبع لم يكن ليقبل بذلك أمام مرأى رفاقه من الشباب، فمازالت حميته مسيطرة عليه، ورغم جدية ملامحه إلا أنه رد بلطف وهو يوميء بحاجبيه:
, -وأنا مقبلهاش أصلاً
, التفتت لتنظر أمامها قائلة بتنهيدة:
, -كويس اتفقنا على حاجة
, رد عليها بغموض وهو يطالعها بنظراته الوالهة:
, -احنا متفقين من زمان، بس انتي اللي مش واخدة بالك!
, التقطت أذناها كلماته الصادقة ومع ذلك ظلت متيبسة في مكانها دون أن يظهر أي تغيير ملحوظ على تعابيرها، فقط ضغطت على أصابعها بقوة محاولة تخفيف حدة التوتر المستحوذة عليها.
, رغم ضيقه منها إلا أن أعينه كانت تعرف الطريق إليها بين الجميع، انقبض قلبه بقوة حينما لم يجدها حوله، لم يستطع منذر التحكم في عينيه التي بحثتا عنها بتلهف، حبس أنفاسه مترقبًا وهو يجول بين جموع الشباب الذين يملأون القاعة، تنفس الصعداء حينما رأها تحادث والدته، همس لنفسه بضيق:
, -تعبتي أعصابي!
, التفتت أسيف فجأة لتجده محدقًا به، حاولت أن تبتسم له لتزيل ما بينهما من مشاحنات عملاً بنصائح والدته، لكن عبوسه الصارم صدمها، نظر لها بحدة قبل أن يوليها ظهره ويتحرك مبتعدًا موجهًا لها صفعة قوية في قلبها، رأتها جليلة على تلك الحالة الواجمة فمسحت على ظهرها هامسة لها:
, -معلش، تلاقيه لسه مضايق، بس شوفتي جه يدور عليكي لما ملاقكيش
, هزت رأسها بإيماءات خفيفة رغم عدم اقتناعها بمعظم ما قالته، ومع ذلك كانت محقة في أمر واحد أنه أتى من أجلها وإن كان لا يزال غاضبًا، تنفست بعمق مخرجة زفيرًا يحمل الكثير من الهموم وتابعت بفتور باقي الحفل.
, ٤٨ نقطة
, أوشك الحفل على الانتهاء، وبدأ المدعوين في الانصراف واحدًا تلو الأخر، ولم يتبقَ إلا أفراد العائلتين وقليل من الحضور يتبادلون الأحاديث العابرة، لاحقًا توجه العروسان نحو السيارة مصحوبان بالزغاريد والدعوات بالذرية الصالحة، ساعدت أسيف بسمة على وضع ثوبها إلى جوارها لتجلس بارتياح وهي تحدثها قائلة:
, -**** يسعدك يا بسومة، تستاهلي كل خير و****
, ردت عليها ابنة عمتها بتوتر:
, -أنا مرعوبة جدًا
, طمأنتها قائلة بتأكيد:
, -متخافيش، دياب بيحبك أوي
, ردت بسمة بتخوف بائن:
, -عارفة ده، بس قلقانة!
, ضحكت مرددة بعبث:
, -ده طبيعي، مش عروسة بقى، أومال العريس يعمل ايه؟
, صاح دياب مهللاً وهو يستقل السيارة ليجلس إلى جوار عروسه:
, -هاترغوا كتير، أنا تعبت، عاوزين نروح!
, ثم أدار رأسه تجاه النافذة ملوحًا للواقفين:
, -متشكرين يا جدعان، عملتوا الواجب وزيادة
, رد عليه منذر بجدية:
, -اتجدعن يا عريس وارفع راسنا
, كور دياب قبضة يده قائلاً بتفاخر:
, -اطمن يا ابن أبويا، انتو معاكو غضنفر (أسد) في البيت!
, ضحك منذر من دعابته الطريفة، وتابع باهتمام ركوب الجميع في السيارات لكنه لم يجلس إلى جوار زوجته التي تيقنت من استمرار ضيقه منها، فكرت مليًا في إزالة رواسب تلك المشاحنة الطفيفة بينهما على طريقتها الخاصة بالمنزل، ربما كبرياؤه يمنعه من المبادرة بالتصالح لكنها ستسعى لكسر أي حواجز بينهما.
, ٤٠ نقطة
,
, أعد لها المنزل الخاوي بالطابق الأخير بالبناية التي تقطن بها عائلته لتكون عش الزوجية، وأسسها بكل ما تحتاج إليه من أثاث جديد وأجهزة حديثة، شعرت بسمة بالارتياح لأنها لن تضطر للانتقال بعيدًا عن أمها وأختها، فهي تبعد فقط عنهما عدة دقائق سيرًا، ترجلت من السيارة بمفردها ناثرة ذيل ثوبها خلفها، ودع دياب عائلته قائلاً بمرح:
, -احنا عارفين السكة من هنا
, ردت عواطف بود:
, -مش هاوصيك يا ابني على بنتي، دي نور عيني
, آمال رأسه مؤكدًا بجدية دون أن تختفي ابتسامته:
, -اطمني يا حماتي، دي الحتة اللي في اليمين والشمال!
,
, حمل منذر الصغير يحيى على كتفه بعد أن غفا في نهاية الحفل، اتجه لمدخل البناية بخطوات متهادية، رأى والدته تصعد على الدرج بتريث، تنحت للجانب لتفسح له المجال للمرور متسائلة:
, -هو نام؟
, أجابها بجدية مشيرًا بعينيه:
, -ايوه، هاطلعه ونازل تاني
, اقترحت عليه جليلة بنبرة دافئة:
, -ما تبات يا ابني معانا
, رد باقتضاب:
, -لا
, عبست قليلاً بوجهها وهي ترد:
, -ده مراتك مش هاتمانع يعني، وهي٤ نقطة
, قاطعها بهدوء:
, -أنا عارف، بس سبيني على راحتي يا أمي
, هزت رأسها متفهمة وهي تقول:
, -ماشي يا منذر، وبالراحة عليها سامعني؟
, مط فمه قائلاً بتجهم:
, -إن شاء ****
, تنهدت مضيفة بتفاؤل:
, -**** يهدي سركم! العين بردك عليكم!
, لم يعقب عليها وواصل صعوده المتأني للطوابق العليا، تبعته والدته بتريث متمتمة بكلمات خفيضة تدعو له بصلاح الحال.
, ولج دياب مع حبيبته بسمة التي تأبطت ذراعه إلى مدخل البناية، وقبل أن يقدم على شيء مخجل أو متهور حذرته بصرامة:
, -مش عاوزاك تشيلي، ماشي!
, قطب جبينه متعجبًا وهو يرد عليها ساخرًا:
, -هو أنا قادر أشيل نفسي، كملي لسه السلم طويل، احنا أخر دور يا أبلة!
, تابعت بصلابة وقد تحولت تعبيراتها للجدية:
, -على مهلي، مش تسربعني
, هز رأسه مداعبًا:
, -حاضر هاشيلك الطرحة بس، ده أخري!
, أكملا صعودهما على الدرجات التي لا تنتهي ببطءٍ شديد، لم ترغب في صعود والدتها معها واكتفت بتوديعها في المدخل بعد أن رأت الإرهاق متمكنًا منها، كذلك لم تكن بحاجة إلى وجودها، فكل شيء معد سلفًا في المنزل، وبالتالي عدم صعودها لن يؤثر في شيء، الأمر المقلق بالنسبة لها هو اختلائها معه، هي متأكدة أنه لن يفوت الأمر دون أن يتودد بشتى الطرق لها، وهي في حالة تعب لا تحسد عليها، عصرت عقلها بشدة لتصل إلى فكرة مقنعة أو حجة ما تمكنها من تأجيل تلاحمهما الجسدي والوجداني معًا، لكن لتصارع الأفكار في ذهنها لم تصل لشيء، نفخت مغمغمة مع نفسها بكلمات متبرمة، في حين تغمد دياب سعادة لا توصف لرحيل الجميع بعد ذلك اليوم المشحون، مضي الكثير ولم يبقَ له فقط إلا لحظات معدودة لينفرد بها أخيرًا، نعم إنها ليلته المنشودة والتي طال انتظاره لها ٣٥ نقطة !!
,
, عادت لتجلس بالسيارة مع عمتها وابنتها الكبرى ورضيعتها النائمة، احتلت المقعد الأمامي وبقيت أنظارها مثبتة على المدخل، لم تتوقف الاثنتان من خلفها عن الثرثرة الخاصة بأجواء الحفل، وظلت هي صامتة أغلب الوقت ترد بكلمات مقتضبة إن وجه إليها أي سؤال، لمحت منذر وهو يخرج منه بوجهه الخالي من التعبيرات، تأهبت في جلستها وتسارعت دقات قلبها، وعمدت إلى التطلع إلى وجهه بأعين متلألأة وكأنها تناديه بنداءٍ خفي، لكن خيب أملها بعدم النظر نحوها، استطرد هو حديثه قائلاً بصوت رخيم:
, -معلش أخرتكم
, ردت عليه عواطف بود وهي تهز رأسها:
, -ولا يهمك يا ابني
, نظرت له أسيف مجددًا برجاء لكنه تجاهلها وتطلع أمامه بنظرات جامدة، شعرت بوخزة أخرى في قلبها من ذلك الجفاء القاسي الذي يمارسه معها، ابتلعت غصة مريرة عالقة في حلقها مقاومة رغبتها في البكاء، أخرجها من تأملها الشارد فيه صوته الجاد حينما تابع:
, -هاوصلكم ونروح على طول!
, ردت عليه عواطف بابتسامة محببة:
, -بأمر ****، **** يسلم طريقك، هانتعبك معانا
, ابتسم مجاملاً:
, -على ايه بس، ده واجبي!
, أضافت مادحة بعفوية:
, -ابن حلال الضاكتور نبيل!
, تحفزت حواس منذر بضيق ملحوظ لمجرد ذكرها اسمه، لم يستطع إخفاء انزعاجه من الحديث عنه، فقد تسبب ذلك في حدوث جدال حاد مع زوجته والتي رأت بوضوح تلك التغييرات البائنة على قسماته المشدودة بعد تطرقها لشخصه، ضغط بأصابعه على المقود مانعًا نفسه من التفوه بحماقات أو حتى إظهار ضيقه، تابعت عواطف مسترسلة:
, -ده فضل قاعد لأخر الفرح، كان مبسوط لبسمة ودياب و٣ نقطة
, أغمض عينيه ليضبط انفعالاته ويحافظ على هدوئه الزائف طوال حديثها المزعج عنه، لكن وجهه تشنج أكثر عندما هتفت:
, -ده حتى سأل عليكم
, التفت عقب تلك الجملة إلى وجه أسيف التي كانت تطالعه بأعين لامعة، ورد بجمود مريب:
, -اه واضح!
, استشعرت تهديد خفي من كلماته المقتضبة، عمدت إلى تغيير مسار الحوار إلى شيء أخر كي لا يثير هذا الموضوع حنقه أكثر من ذلك، تنحنحت قائلة بنبرة شبه مهتزة:
, -احم.. عمتي، حاولي تاخدي الدوا المسكن بتاعك عشان ضهرك، انتي تعبتي جامد النهاردة
, ردت عليها عواطف مبتسمة:
, -كله يهون يا بنتي عشانكم
, استدارت أسيف برأسها نحوها لتقول بابتسامة باهتة:
, -**** يخليكي لينا
, آمالت عواطف رأسها للأمام قليلاً لتحدق عاليًا في الشرفات العلوية، ثم أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها وهي تتابع برجاء:
, -إن شاء **** تكون ليلة هنا على العرسان، أنا وضبتلهم الأكل و٣ نقطة
, قاطعها منذر بجدية:
, -اطمني يا ست عواطف، مافيش حاجة ناقصة عندهم
, ربتت على كتفه قائلة بامتنان:
, -**** يسعدهم ويسعدك!
, -يارب
, قالها وهو يدير المحرك لينطلق بالسيارة في اتجاه البناية التي تقطن بها عمة زوجته، ظل ملازمًا للصمت لم ينبس بكلمة رغم محاولة الجميع اجترار الحديث معه، تفهمت أسيف سبب صمته المزعج، وتعهدت لنفسها ألا تجعل الجفاء يستمر طويلاً، هي تعشقه ولن تقبل مُطلقًا بتلك المعاملة الجافة منه، فحيل النساء لا تنضب أبدًا، وحتمًا ستجد وسيلة لإذابة الجمود المؤقت بينهما.
, ٤٢ نقطة
, -أخيرًا
, قالها دياب بتنهيدة تحمل الكثير وهو يوصد الباب خلفه ليتمكن من الاختلاء بزوجته التي أذاقته الكثير كي يصل لهذه اللحظة، راقبها وهي تلج للداخل متأملة المكان من حولها بنظرات شمولية، اعتلى ثغره ابتسامة عابثة لم يبذل مجهودًا في إخفائها، أدارت بسمة رأسها في اتجاهه قائلة بأنين وهي تجاهد لنزع حذائها عن قدميها:
, -رجلي ورمت من الجزمة، يا ساتر يارب
, رد قائلاً بابتسامة متسعة:
, -معلش، اليوم كان طويل، احنا نصلي ركعتين كده عشان **** يبعد عنا الشيطان ونتوكل على **** في اللي جاي!
, وافقته الرأي، فالأمر مستحب كل من هم مقبلين على الزواج لكي يرزقهم **** المودة والرحمة ويجنبهم الشيطان، استعد الاثنان لأداء الركعتين، وما إن فرغا منها حتى فرك دياب كفي يده معًا هاتفًا بحماس:
, -ايه يا عروسة؟!
, طالعته بنظرات قلقة، هي تعلم نواياه نحوها خاصة أنها الليلة المنشودة، شعرت بجفاف كبير في حلقها، بدقات قلبها تتصارع داخلها، تهدجت أنفاسها نوعًا ما وهي تحذره برجاء غريب:
, -بأقولك ايه، بلاش البصات دي
, اتسعت ابتسامته حتى برزت نواجذه، وردت عليها بتسلية:
, -يعني مش أمتع عيني بالجمال؟
, تعمدت الظهور بمظهر خشن أمامه، فصاحت بنبرة متصلبة:
, -بص أنا دماغي وجعاني ومصدعة جامد، وجسمي مكسر ومش قادرة و٣ نقطة
, قاطعها مازحًا وهو يشير بذراعيه في الهواء:
, -فيكي ايه سليم يا أبلة عشان أفهم بس؟!
, ردت عليه بإباء وهي ترفع رأسها للأعلى في شموخ:
, -أنا بأفهمك من الأول عشان تكون على نور، مش قادرة أعمل حاجة النهاردة خالص
, فغر فمه مدهوشًا من تصريحها المستتر وفهم سريعًا المقصد من ورائه، ردد مستنكرًا:
, -نعم، هو أنا بأقولك اكنسي واغسلي! ده احنا هانقول كلمتين على الهادي كده
, كتفت ساعديها أمام صدرها قائلة بجمود:
, -وحتى الكلام تعبانة منه
, ضاق ذرعًا من طريقتها المتنافرة معه، ومع ذلك كانت نظراته نحوها تعكس غيظه، زفر بصوت مسموعًا مزيحًا عن صدره أي انزعاج، وحافظ على هدوء انفعالاته معها، لاحظ حالة الارتباك التي تظهر في نظراتها المترددة نحوه، كذلك تلك الارتعاشة الخفيفة في ثوبها، فخمن أنها تهز ساقها بعصبية، ربما هي متحرجة منه، متخوفة من بقائها معه، فالأمر جديد عليها، كما أنها لا تزال عديمة الخبرة فيما يتعلق بالزواج، بالإضافة إلى تمرسه عنها بحكم زيجته السابقة، أظهر ابتسامة مشرقة وهو يدنو منها قائلاً بإعجاب:
, -بس ايه الحلاوة دي، الفستان جامد عليكي
, ردت بحذر وهي ترخي ساعديها:
, -ميرسي
, تابع مازحًا كطريقة لجذبها للحديث معه وتخفيف حدة التوتر الظاهرة عليها:
, -بس كده، مافيش كلمتين زيادة
, هتفت ضاغطة على شفتيها:
, -ايوه!
, قام دياب بنزع سترته عنه فاتسعت مقلتاها إلى حد ما وهي تهتف بصوت شبه مصدوم:
, -إنت بتعمل ايه؟
, رد باستغراب:
, -هاغير هدومي
, غطت سريعًا عينيها بكفي يدها وهي تقول باستنكار:
, -مش قدامي عيب كده!
, أخفض دياب عينيه لينظر إلى قميصه مرددًا باستغراب:
, -ده أنا لسه لابس! بتداري وشك ليه؟
, اعتلى ثغره ابتسامة عريضة وهو يضيف ساخرًا:
, -أومال لو شوفتيني بالفانلة هاتعملي ايه؟!
, رفعت كفها أمام وجهه محذرة بصرامة:
, -إياك
, حرك كفيه في الهواء قائلاً بإحباط:
, -خلاص هافضل بهدومي!
, أخرجت بسمة تنهيدة قوية من جوفها، ثم وضعت يديها أعلى رأسها محاولة نزع الطرحة التي تزينها، استصعبت الأمر في البداية، وضجرت سريعًا من نجاحها في إزالتها بمفردها، صاحت مزمجرة:
, -أعوذو ب**** من دي تهمة على دماغي!
, تحرك صوبها ليقف قبالتها، تساءل بحذر:
, -تحبي أساعدك؟!
, ردت مستسلمة:
, -يا ريت! بس خد بالك!
, -حاضر
, مرر دياب أنظاره على الطرحة باحثًا عن بدايتها لكي ينزعها عنها دون أن يتسبب في إيلامها، لكنها كانت كاللغز بالنسبة له، حدق مدهوشًا في عدد المشابك المعدنية المثبتة بها مرددًا بتعجب:
, -ايه كمية الدبابيس دي؟
, أجابته بسمة مبررة ببساطة:
, -عشان الطرحة ماتقعش!
, رد عليها بسخرية:
, -ده لو بيثبتوها مش هاتكون كده!
, بعد محاولات حذرة نجح الاثنان في إزاحتها عن رأسها، تنفست بسمة الصعداء لكونها قد ارتاحت من ذلك الثقل الذي أصابعها بصداع مستمر طوال الحفل وتسبب في إيذاء أذنيها، نزعت المشبك الذي يربط شعرها لتحرره في الهواء وهي ترد:
, -متشكرة
, تجمدت أنظار دياب عليها بعد حركتها تلك، حدق فيها كالصنم لبضعة لحظات، لم تعرف أنها قد ألهبت مشاعره دون قصد وحفزت أعصابه للتودد إليها، باغتها بلف ذراعيه حول خصرها، فانتفضت مصعوقة من حركته تلك، دفعته بيدها صائحة باضطراب:
, -أنا قولت ايه
, رفض إفلاتها قائلاً بتنهيدة حارة بعد أن ضمها إليه أكثر:
, -ده أنا جوزك!
, استجمعت كل قوتها لتدفعه بقبضتيها من صدره، ونجحت في الانسياب من أحضانه، نظرت له بحدة وهي تصيح بانفعال:
, -ده مش يديك الحق تقرب مني بدون رضايا
, نظر لها مستنكرًا ردها الفظ، ثم هتف بضيق:
, -يعني المفروض أخد إذن الأول؟
, أومــأت برأسها قائلة:
, -أيوه!
, تراجعت مبتعدة عنه عدة خطوات تاركة مسافة فاصلة بينهما، وتابعت بامتعاض:
, -أنا يدوب أغير الفستان وأنام، ولوحدي!
, لوى ثغره هاتفًا باستهجان صريح:
, -لا و****! كمان!
, لوحت بذراعها من بعيد وهي تصيح بحدة:
, -قولتلك تعبانة، قدرني شوية!
, تفاجأ من حالة العصبية التي سيطرت عليها دون سابق إنذار، تنهد مستاءً وهو يفرك مؤخرة رأسه في حيرة، تمتم مع نفسه بإحباط:
, -شكلها ليلة طويلة!
, هزت بسمة جسدها بعصبية، لا تعرف ما الذي أصابها، لكن فاق التوتر لديها حد المسموح به، لذلك اندفعت بخطوات شبه متعثرة وهي تجرجر ثوبها نحو غرفة النوم، وقبل أن تلج للداخل أوقفها صوت دياب المهلل بجدية:
, -لالالا، أنا ماينفعش معايا كده، أنا هانزل أقضي السهرة مع أمي تحت!
, فغرت فمها مشدوهة من جملته، ارتفع حاجبها للأعلى وهي تطالعه بنظرات حادة، أكمل ببرود:
, -ولا أقولك أنا هاتصل بأم يحيى ارغي معاها و٣ نقطة
, مجرد الحديث عن طليقته السابقة أصابها بحالة من الفوران السريع، احتقنت دمائها بالأدرينالين، واهتاجت خلايها، اتجهت بتمهل مقلق ناحيته ووجهها مصطبغ بحمرة جلية، استشعر دياب غضبها المتأجج بها، هتفت متسائلة بغيظ:
, -تكلم مين؟
, ابتسم لنجاح كلماته في إثارة حفيظتها، ارتدى قناع الجمود على وجهه، ورد بعدم مبالاة ليستفزها أكثر:
, -أم يحيى، وهي ما هتصدق، صحيح هاتستغرب إني بأكلمها السعادي وكمان في يوم زي ده و٤ نقطة
, لم يكمل عبارته للنهاية فقد تحركت بسمة صوبه تنتوي لكزه بعنف في صدره للحديث عنها هكذا غير مكترث لمشاعرها، صرخت بلا وعي:
, -مين دي اللي هاتكلمها؟
, تراجع متحاشيًا هجومها الوشيك عليه ومحاولاً إخفاء ضحكاته المتسلية، لحقت به متابعة بصوت متشنج:
, -رد عليا!
, كركر ضاحكًا من عصبيتها الواضحة، فتوقف في مكانه ينظر لها بأعين لامعة، تمكنت من الوصول إليه، وبدأت في ضربه بعصبية بقبضتيها في صدره وكتفيه، تفادى ضرباتها المتلاحقة قدر المستطاع وهو يهدئها قائلاً:
, -بأهزر و****!
, كزت على أسنانها صائحة بصوت محتد:
, -ماتجبليش سيرتها، سامع!
, أمسك بها دياب من معصميها قابضًا عليهما بقوته فمنعها من الاستمرار في التطاول باليد عليه، عجزت عن تحرير رسغيها فصرخت به:
, -سيب ايدي
, رد قائلاً بتريث:
, -اهدي بس!
, لم تنجح في إفلات رسغيها المقيدين بيديه، نظرت له بأعين مشتعلة وهي تأمره:
, -دياب، أنا قولت ايه
, غمز لها قائلاً بابتسامة ماكرة:
, -مش المرادي يا أبلة!
, استشعرت من نبرته وجود خطب ما، خاصة أن نظراته كانت موحية للغاية، ازدردت ريقها بتوتر، ارتجفت نبرتها قليلاً وهي تسأله بتوجس:
, -قصدك ايه؟
, رد بغموض أجفل جسدها:
, -هو دخول الحمام زي خروجه؟!
, تصلبت عروقها من طريقته تلك، فهمت على الفور مقصده، واستخدمت قوتها لتتحرر منه، شدد من قبضتيه عليها وهو يفصل بين رسغيها ليتمكن من إدارتهما خلف ظهرها، قربها أكثر إليه فألصق جسدها بصدره، شهقت مصدومة، وتوترت أنفاسها، نظرت إليه بأعين قلقة للغاية، حاولت أن تظهر له رفضها لما ينتوي فعله، فصاحت بتشنج:
, -انت بتعمل ايه؟
, نظر لها بأعين لامعة محافظًا على ابتسامته الهادئة، زادت رهبتها من صمته المريب، وتوترت نظراتها نحوه، تلوت بسمة أكثر برسغيها –وكذلك بجسدها- مجاهدة للتحرر منه، لكن زاده هذا إصرارًا على التشبث بها وعدم تركها، همس لها بحرارة لفحت وجهها:
, -نشفتي ريقي ودوختيني وراكي عشان أتجوزك!
, تحاشت النظر إليه مركزة تفكيرها على تخليص معصميها منه وإبقاء مسافة آمنة لها، تعمد الضغط بأصابعه عليهما لتنتبه له، رفعت رأسها في وجهه هاتفة بصوت متألم:
, -انت بتوجعني!
, لم يعطها فرصة للشكوى أو حتى الأنين، أحنى رأسه عليها ليطبق على شفتيها بشفتيه مقبلاً إياها بشوق قوي، فحبست أنفاسها رغمًا عنها، تخشب جسدها من فعلته المباغتة وتحفزت حواسها، اتسعت حدقتاها مصدومة وعاجزة عن ردعه، أبعد رأسه لمسافة محدودة ليتمكن من الهمس لها:
, -بأحبك!
, التقطت بسمة أنفاسها لثوانٍ معدودة قبل أن يعاود هو تكرار القبلة ولكن بعمق أكبر، بث لها فيها كامل أشواقه ومشاعره الفياضة، شعرت بخدر قوي يسري في جسدها، بارتخاء تدريجي يصيب عضلاتها المتشنجة، للحظة بدأت تتراجع عن مقاومتها وتستسلم لتأثير أحاسيسه التي تخترقها بلا أي مقدمات، فأغمضت عينيها واندمجت مع تأثير قبلاته الحارة التي نقلتها إلى عالم أخر.
, أرخى قبضتيه عنها ليحاوط خصرها ويلصقها أكثر به، ظل محنيًا عليها يضاعف لها من قبلاته الرومانسية حتى انهارت مقاومتها له، تراجعت برأسها للخلف وصدرها يعلو ويهبط متأثرًا من فرط الحماس، واستندت بيديها على كتفيه محاولة التقاط أنفاسها، نظر لها متأملاً حمرة وجنتيها المغرية، وضع يده على طرف ذقنها متحسسًا إياه بأنامله ورافعًا وجهها إلى عينيه:
, -ياه، كنت مستني اللحظة دي من زمان!
, مال برأسه نحوها ليقبلها مرة أخرى، لكنها وضعت إصبعها على فمه، وهمست بصوت خفيض يحمل الخجل:
, -استنى لوسمحت!
, لهث صوته وهو يسألها:
, -ايه؟
, ردت هامسة:
, -هـ.. هاغير فستاني
, التوى ثغره بابتسامة عابثة وهو يقول لها:
, -أساعدك!
, هزت رأسها نافية:
, -لأ، استنى هنا
, حذرها بلطف وهو يمرر يده على ذراعها:
, -ماتطوليش عليا
, أومــأت بالإيجاب قائلة:
, -حاضر
, انسلت من أحضانه متجهة نحو غرفة النوم لتبدل ثوبها، اختلج قلبها مشاعرًا قوية حفزتها بدرجة عجيبة لم تتخيلها وهيأتها لما هي مقبلة عليه معها، أغلقت الباب خلفها بهدوء، واستدارت باحثة بعينيها عن ردائها الأبيض لترتديه في تلك الليلة، كانت ترتجف وهي تبدل ثوب الزفاف، لا تعرف إن كانت تلك الرجفة بسبب الخوف أم الحب.
, ٥٤ نقطة
, صعدت خلفه على الدرج محدقة في ظهره بأعين تحبس العبرات بداخلها، فتح باب المنزل متوجهًا نحو الصالة متجنبًا حتى النظر إليها، أحزنها ذلك كثيرًا ومع ذلك قاومت رغبتها بالبكاء أمامه، هتف بجمود:
, -أنا هاقعد هنا شوية!
, لم ترد عليه، واكتفت بالإيماء الخفيف برأسها، ظلت متسمرة في مكانها عدة ثوان آملة أن يرمقها بأي نظرة لكنه لم يستدر نحوها، تحركت بتمهل نحو غرفة النوم وهي تكتم شهقة تحاول الخروج من جوفها مصحوبة ببكاء حزين، أغلقت الباب خلفها، ونكست رأسها باكية، وضعت يديها على عينيها تاركة لعبراتها الحرية للانسياب بغزارة على وجنتيها، تذكرت كلمات والدته المشجعة لها بالمبادرة بالمصالحة حتى وإن كان هو المخطيء، رفعت وجهها للأعلى ماسحة بظهر كفها الدمعات الساخنة عنها، حدثت نفسها قائلة بصوت شبه مختنق:
, -ماشي يا منذر!
, اتجهت نحو خزانة الملابس لتنتقي منها ما سترتديه، لفت انتباهها ذلك القميص الحريري القصير المنزوي على الشماعة الأخيرة، حدقت فيه مطولاً متأملة لونه الزهري، تحسسته بأناملها شاعرة بملمسه الناعم، ابتسمت لنفسها معتقدة أنها ستجذب أنظاره بلونه المغري على جسدها، لم تتردد في اختياره، وبدأت في ضبط مظهرها، وعدلت من وضعية مساحيق التجميل بعد أن تلطخت بفعل بكائها، نفضت شعرها خلف ظهرها، ووضعت شريطًا من الستان على مقدمته تاركة بعض الخصلات تغطي جبينها، نثرت من عطرها على عنقها وكتفيها، استعدت للخروج إليه بعد أن ألقت نظرة أخيرة على مفاتنها التي تسلب العقول، ابتسمت لنفسها برضا وسارت نحو الخارج متشوقة لاستعادته في أحضانها.
, تغنجت بجسدها بدلال مثير وهي تتجه نحوه، استنشق أنفه عبيرها الذي غزاه بكل قوة فتصلبت حواسه من اقترابها، تحركت عيناه تلقائيًا نحوها فرأها على تلك الوضعية المغرية، جمد أعصابه قبل أن تفلت منه وتنهار حصونه أمام جمالها المهلك، دارت حوله لتطوق كتفيه بذراعيها، ثم أسندت رأسها على كتفه هامسة له بتنهيدة تذيب القلوب:
, -احضرلك العشا يا حبيبي؟!
, طبعت على صدغه قبلة مطولة متوقعة أن يتجاوب معها لكنه بدا أكثر صلابة مما ظنت، حدق منذر أمامه مرددًا بجمود:
, -مش عاوز!
, أصرت على عرضها قائلة بدلال:
, -إنت مكالتش حاجة في الفرح، مش معقول هتنام جعان، ثواني ويكون العشا عندك
, قبلته في نفس المكان مجددًا قبل أن تعتدل في وقفتها لتسير بخيلاء أمامه علها تحدث في نفسه تأثير ما، فضلت ألا تنظر خلفها تاركة لخيالها تخيل أعينه وهي تتفحص جسدها بدقة متناهية.
, اتجهت أسيف نحو المطبخ لتعد له عشاءً خفيفًا، قامت برص الصحون واضعة بها قطعًا من الجبن واللانشون والمربى وغيرها مما يصلح لتناوله في صينية معدنية كبيرة، سارت بتمهل نحوه راسمة على شفتيها ابتسامة ناعمة، اقتربت منه قائلة برقة:
, -أنا جهزتلك العشا يا حبيبي!
, صاح بقوة أرعبتها وجعلت يديها ترتعشان بقوة:
, -قولتلك مش عاوز!
, شحوب مريب حل على بشرتها حينما رأت تلك القسوة تنبعث من نظراته، سألته بقلب منقبض:
, -ليه بس؟ دي حاجات خفيفة و٣ نقطة
, زفر مهددًا بعصبية:
, -يووه، يعني أسيب البيت وأمشي عشان ترتاحي!
, خفق قلبها أكثر من تهديده المخيف، وتلألأت عيناها بعبرات قوية، سألته بصوت مختنق:
, -للدرجادي زعلان مني؟
, أشاح بوجهه للجانب مبرطمًا بكلمات متشنجة لم تفهمها بوضوح، ظلت تلك الرجفة القوية تعتريها، خشيت أن تسقط الصينية من يديها فتحدث فوضى بالمكان، حاولت أن تتوقف عن الاهتزاز، وردت بحذر وهي تبتلع ريقها:
, -طب.. حقك عليا، أنا مقصدش!
, أشار لها بكفه آمرًا:
, -قفلي على السيرة دي خالص، سامعة
, هزت رأسها قائلة:
, -حاضر!
, ساد صمت ثقيل بينهما للحظات عجزت فيها عن إيجاد الكلمات المناسبة لإخراجه من حالة الضيق المتمكنة منه، سألته بتردد:
, -يعني مش هتاكل معايا و٣ نقطة
, قاطعها بحدة ألجمتها وهو يرمقها بنظراته القوية:
, -ابعدي عني السعادي يا بنت رياض!
, أخافها صوته المتشنج ونظراته المحتقنة نحوها، لا يحتاج الأمر لكل هذه العصبية والانفعال الغير مبرر، مجرد عناد ميؤوس منه مسيطر عليه جعله رافضًا الاستماع إليها، انسابت عبراتها أمامه بعد صده لها، هي حزنت كثيرًا لطريقته الجافة معها، وأصابها جفاؤه المؤلم بإحباط قوي، أولته ظهرها لتتحرك بخطوات متخاذلة عائدة نحو المطبخ، شعر منذر بالضيق لحدته معها رغم اجتهاده لضبط أعصابه، لكنه بحاجة لبعض الوقت ليتجاوز فقط المسألة، ربما في الصباح سيصفو قلبه لها، اعتصر قلبه ألمًا لرؤيتها تبكي، وما زاد من تأنيب ضميره أنه المتسبب في ذلك، زفر لاعنًا عناده الأحمق الذي يهلكه قبلها.
, لم تستطع إيقاف تلك الرجفة التي حلت بساقيها وهي تسير نحو المطبخ، شعرت بالبرودة تجتاح جسدها وتزيد من رعشتها، ظلت يداها تهتز بقوة مهددة بإيقاع الصينية بين لحظة وأخرى، غلف عيناها عبرات كثيفة فلم تعد ترى بوضوح، لكن الأمر المقلق حقًا هو ذلك الدوار الذي أصاب رأسها بقوة، أصبحت غير قادرة على التحكم في خطواتها أو حتى في اتزانها، ترنح جسدها بصورة مقلقة، شعرت أن الأرض تميد بها، فقدت السيطرة على كل شيء من حولها، وفجأة ظلام دامس سيطر على أعينها لتسقط بعدها فاقدة للوعي.
, هب من مكانه مذعورًا حينما سمع صوت الارتطام القوي للصحون الذي بدا كأنه انفجار كبير، ركض بلا تردد نحو المطبخ ليجد زوجته تفترش الأرضية الصلبة بجسدها، والزجاج المهشم متناثر من حولها، جثى على ركبتيه أمامها هاتفًا:
, -أسيف، حصل ايه؟
, ظن في البداية أنها تعمدت فعل ذلك لتسرعي انتباهه وترقق قلبه نحوها، لكنه أدرك أنها مغشية عليها، هوى قلبه في قدميه حينما لم تستجب لأي محاولات لإفاقتها، مرر ذراعيه خلف ظهرها وأسفل ركبتيها ليحملها، نهض بها متجهًا نحو غرفة نومهما، أسندها بحذر على الفراش ثم مسح بكفه على وجنتها صائحًا بخوف كبير:
, -أسيف، ردي عليا، سمعاني، أسيف
, ظل يضرب على وجنتها برفق علها تفيق لكن دون جدوى، كانت مغيبة تمامًا عما حولها، استدار نحو التسريحة باحثًا عن زجاجة العطر، انتزع غطائها بقوة ووضع بعضه على كفه ثم قربه من أنفها لتشمه، لم يظهر أي مؤشر حيوي على تأثرها به، زاد هلعه عليها حينما رأى تلك الجروح في ساقها وذراعها، لقد تسبب قطع الزجاج الحادة في جرحها، ركض نحو المرحاض ليحضر عدة الإسعافات الأولية وبدأ في وقف معالجة جروحها قبل أن تزداد سوءًا، عاتب نفسه وبقسوة شديدة لكونه لم يرفق بها ولا لتوسلاتها البريئة، سب نفسه بشراسة وهو يضمدها.
, انحنى على جبينها ليقبلها معتذرًا:
, -حقك عليا! أنا مسامحك، فوقي بس وكلميني، أسيف سمعاني، أنا معاكي!
, ٤٥ نقطة
, انتظرها مترقبًا خروجها في أي لحظة بعد أن طال بقاؤها بالداخل، أنهى ثلاثة سجائر واضعًا بقاياهم في المنفضة الزجاجية وهو يذرع الصالة جيئة وذهابًا، حدث نفسه بتبرم:
, -هي بتعمل ايه كل ده؟
, تحرك بخطوات متوترة نحو باب الغرفة، ثم طرق عليه برفق وهو يتساءل بنبرة عالية:
, -ها يا حبيبتي خلصتي؟
, خشى أن تكون قد غافلته ونامت كما ادعت من قبل، تبدلت تعبيراته للشدة وزادت دقاته على الباب هاتفًا بنبرة عالية:
, -بسمة! اوعي تكوني نمتي؟
, أتاه صوتها قائلاً:
, -ثواني
, تنفس الصعداء لأنها مازالت مستيقظة، واتسعت ابتسامته اللاهية وهو يرد:
, -ماشي يا حبيبتي، بس ماتطوليش **** يكرمك!
, ردت عليه:
, -أنا طالعة!
, وكأن كلماتها تلك قد أوقدت نيران الحب بداخله، فاستعد جسديًا ونفسيًا لرؤيتها، فتحت الباب لتطل عليه بشكلها المثير، حدق فيها متأملاً ردائها الأبيض الذي تحاول جاهدة أن تخفي ما يبرزه من مفاتن جسدها من خلف قماشه الشفاف، عضت على شفتها السفلى قائلة بخجل:
, -أنا هـ٤ نقطة
, لم يعطها الفرصة لإكمال جملتها، طوق خصرها بذراعيه وهو ينحني عليها ليقبلها بشغف، لم تبدِ أي مقاومة معه، بل تجاوبت مع كل ما يقدمه لها من أحاسيس فياضة جعلت جسدها يندمج أكثر مع حبه الجارف، لم تفارقها شفتيه، جرفها سريعًا إلى عواصف عشقه اللا محدود، شعر بتأثيره القوي عليها، باستجابة خلاياها لفيض المشاعر، تراجع برأسه عنها ليتمكن من حملها، سار بها بتمهل نحو الداخل، ثم أجلسها على الفراش نازعًا قميصه عنه، طالعته بنظرات شقية ألهبت حواسه بقوة، همس بها برغبة:
, -الليلة مافيش نوم يا مزة!
, ضحكت بدلال وهي تعبث بخصلات شعرها، أومأت له بحاجبها قائلة بتحدٍ مثير:
, -بجد؟
, طقطق دياب فقرات عنقه وهو يحركه للجانبين، ثم تمط بذراعيه أمامها ليظهر لها قوته الجسمانية وعضلاته المشدودة، نظرت له بإعجاب وهي تعض على شفتها السفلى، رد عليها بعبث:
, -طبعًا، ده مش هزار، في ضرب نار!
, كركرت ضاحكة بميوعة بعد استعانته بكلمات لأغنية شعبية دارجة فأثارت رغبته فيها، وبالطبع لم تمر الثانية التالية إلا وكان في أحضانها يدفعها بخبرة محنكة نحو سعادة لا توصف.
, ٤٨ نقطة
, انتصبت بجسدها واقفة أمام المرآة مغمضة لعينيها ومكورة لأصابع قبضة يدها اليمنى، كانت بحاجة إلى شجاعة عظيمة لتحدق في وجهها من جديد، فقد تجنبت في الأونة الأخيرة التحديق في هيئتها بعد تأثيرات جرعات الكيماوي عليها، واليوم هي أرادت وبشدة التحديق في قسمات وجهها الذابلة، وضعت يدها المرتعشة أعلى رأسها لتنزع حجابها الذي بات رفيقها الذي لا يفارقها أبدًا، ابتلعت ريقها وهي تتطلع بأعين حزينة إلى بقايا شعرها بعد أن قصته ونال منه المرض، تجمعت العبرات سريعًا في مقلتيها، لم تمانع في سقوطهم على وجهها، هزت رأسها مستنكرة تفكيره فيها، كيف لشخص مثله أن يتودد لمريضة مثلها لا تملك أي شيء لتقدمه له؟
, أغمضت جفنيها مكملة بكائها المرير في صمت، ومع ذلك ظل صدى صوته العذب يرن في أذنيها كالطنين، انتبهت حواسها فجأة لرنين هاتفها، فتحت نيرمين عينيها وهي تدير رأسها تجاه الكومود، تحركت أعينها الباكية نحو رضيعتها النائمة، وفي أقل من لحظات كانت ممسكة به محاولة إيقاف صوته المزعج قبل أن يوقظ ابنتها، فغرت شفتيها مصدومة حينما قرأت اسمه على الشاشة، للحظة ظنت أنها تتخيل ذلك لكن حينما تكرر الرنين انتفضت في مكانها مفزوعة، نقلت الهاتف على وضعية الصامت، ثم ردت عليه بصوت هامس:
, -ألو
, أتاها صوته الرخيم متسائلاً بهدوء عذب:
, -صحيتك؟
, أجابته بصوت خفيض:
, -لأ، أنا لسه مانمتش
, أضاف متحمسًا:
, -ده من حظي
, تعجبت من اتصاله المتأخر، فسألته دون تفكير:
, -في حاجة؟
, صمت للحظات قبل أن يجيبها بحذر:
, -كنت محتاج أسمع صوتك قبل ما أنام
, شعرت بدقات قلبها تتسابق بقوة من جملته تلك رغم بساطتها، لم ترد الانخراط في أحلام لن تتحقق مطلقًا لذلك سألته بحدة رغم خفوت صوتها:
, -دكتور نبيل إنت بتعمل كل ده ليه معايا؟ اشمعنى أنا؟ أفتكر إن حالتي٤ نقطة
, قاطعها بهدوء أصابها بالارتباك:
, -صدقيني معنديش تفسير لده
, توهمت أنه نوع من التعاطف معها، إحسانًا خفيًا يتبعه مع مرضاه، لذلك ردت بكرامة:
, -لو كنت بتعمل ده شفقة فمافيش داعي منه، أنا متقبلة مصيري وعارفة نهايتي
, هتف موضحًا سوء الفهم لديها:
, -أبدًا و****، مش كده خالص يا مدام نيرمين! إنتي كده بتظلميني!
, تركت صوته ينساب إلى داخل خلايا عقلها وهو يتابع بتمهل:
, -بس اللي أقدر أقوله وأنا واثق فيه إنك بقيتي حد مهم عندي
, ارتجف بدنها من قوة كلماته العذبة، كان يروي عطش قلبها بعباراته، توترت أنفاسها فبدا صوتها واضحًا إليه، تابع برجاء غريب:
, -وأتمنى ميكونش ده بيزعجك!
, لم تعلق عليه واكتفت بالصمت الذي أصابه بالقلق، سألها بتلهف:
, -مدام نيرمين، إنتي معايا؟
, أجابته بخفوت:
, -أيوه
, همس لها برجاء أكبر:
, -أنا.. حابب تكون قريبين أكتر من بعض
, أربكها تصريحه فعجزت عن الرد عليه، شعرت كما لو كانت مراهقة صغيرة تعيش مشاعرًا غريبة عليها، هربت من تأثيره الذي يُحيي بداخلها أحاسيسها المفقودة قائلة بخجل:
, -تصبح على خير
, سألها متعجبًا:
, -بتهربي مني؟
, أجابته بصوت متردد:
, -أنا .. تعبانة!
, سمعت صوت ضحكته الخافتة يرن في أذنها وهو يقول:
, -تمام، وإنتي من أهله!
, ضغطت على زر إنهاء المكالمة سريعًا لتجلس على طرف الفراش وهي لا تصدق نفسها، وضعت يدها على وجنتها تتحسس بشرتها التي زادت سخونة بعد مكالمته تلك، شعرت بالحيوية، بالطاقة، بالقوة والنشاط، خجلت من نفسها لتفكيرها كالفتيات الصغار في أمور لم تعد تصلح لها، وقبل أن تفيق من حلمها الوردي انتبهت لرنين الهاتف الذي أعلن عن وصول رسالة نصية، قرأت ما دون فيها بصوت هامس:
, -على فكرة كنتي حلوة أوي النهاردة، تتخطفي!
, اشتعل وجهها كليًا، وكتمت بكف يدها صوت ضحكتها التي كادت تفضح أمرها، رددت مع نفسها بسعادة:
, -ده دكتور مجانين!
,
,
, تلفتت حولها بنظرات قلقة محاولة اكتشاف ذلك المكان الذي ظهرت فيه فجأة، اتضحت لها الرؤية تدريجيًا، إنها في منزلها القديم ببلدتها الريفية، رائحة المخبوزات تخترق أنفها، تلاحقت دقات قلبها بقوة وهي ترى والدها أمامها، هتفت بصوتٍ باكٍ:
, -بابا!
, فتح لها ذراعيه راغبًا في احتضانها فركضت بلا تفكير نحوه لترتمي بجسدها داخل أحضانه التي تشتاقها، بكت بفرحة أكبر وهي تقول:
, -وحشتني أوي يا بابا، كل الغيبة دي!
, رد عليها بصوته الحنون:
, -المهم إنك بخير يا أسيف! شوفتي مين جه معايا
, التفتت حيث أشار بيده، لم تكد تفيق من صدمتها السعيدة حتى رأت والدتها تقترب منها بمقعدها المتحرك، اتسعت ابتسامتها رغم بكائها وهي تقول:
, -إنتي هنا كمان يا ماما
, ردت عليها حنان بصوتها الدافيء:
, -ايوه
, هتف رياض قائلاً بهدوء:
, -شايفة مامتك معاها ايه!
, دققت النظر فيما تحمله والدتها بيديها، لم تتبينه بوضوح، كان ملفوفًا بغطاء ما، تحركت نحوها متسائلة:
, -ايه ده؟
, رفعت والدتها اللفة للأعلى قائلة بابتسامة صافية:
, -زين!
, أمعنت أسيف النظر في تلك الهدية التي أعطتها لها والدتها، كان رضيعًا صغيرًا يتأوه بصوت آسر وهو غافٍ، أمسكت به بعناية فائقة متأملة وجهه البشوش، تشكل على ثغرها ابتسامة عذبة وهي تقول:
, -****! ده حلو أوي!
, رفعت رأسها لتحدق في والديها متابعة بسعادة:
, -هو٣ نقطة
, قطمت عبارتها مجبرة حينما لم تجدهما حولها، اختفيا كما ظهرا من العدم، شعرت بالخوف وهتفت بهلع وهي تدور حول نفسها:
, -ماما، بابا! إنتو رحتوا فين؟ بابا، ماما!
, تمسكت بالرضيع الذي بحوزتها أكثر وظلت تنادي على أبويها ببكاء كبير، اشتاقت لأحضانهما التي احتوت أحزانها وفرحتها كثيرًا، عاودت النظر إلى الرضيع مرددة بنحيب:
, -ملحقتش أشبع منكم!
, ٤١ نقطة
, لمح تلك العبرات وهي تسقط من طرفي جفنيها المغمضين، فانقبض قلبه بخوف أكبر، لقد راها على تلك الحالة مسبقًا تبكي وهي غائبة عن الوعي، ألمه ذكل كثيرًا، شعرت بتأنيب الضمير لتعنيفه لها بقسوة، والأمر لم يكن بحاجة إلى كل ذلك التعصب والانفعال، رفعها إلى صدره، وضمها إليه، ثم مد يده على بشرتها ماسحًا دمعاتها برفق، همس لها وهو ينحني على جبينها:
, -أنا أسف يا حبيبتي، حقك عليا!
, ضمها أكثر وهو يضيف:
, -ردي عليا يا أسيف، أنا جمبك!
, أخرجت تأوهات خافتة مصحوبة بأنين مكتوم لكنها كانت مؤشرات قوية على قرب استعادتها للوعي، هزها برفق وهو يقول:
, -أسيف، سمعاني
, ردت وهي في حالة ما بين الغفلة واليقظة:
, -ملحقتش أقعد معاكو، استنوا شوية!
, ضرب منذر على وجنتها برفق كي تفيق هاتفًا:
, -أسيف، اصحي!
, تنبهت حواسها بدرجة كبيرة إلى صوته الذي وصل إلى مسامعها بقوة، فتحت عينيها ببطء محدقة في وجهه بأعينها الدامعة، همست له بأنين:
, -أنا مش عاوزاك تزعل مني
, ضمها إليه قائلاً بتنهيدة حارة:
, -وهو أنا أقدر، يا ستي غيراني عليكي لازم تفهمي ده كويس، مرضاش أبدًا أشوفك بتحكي عن غيري كده واسكت،
, أرجع رأسها للخلف ليحدق في وجهها بنظرات عاشقة، طبع قبلات متتالية على وجنتيها فابتسمت له، لمحت بطرف عينها تلك الضمادات التي تغطي ذراعها وساقها، انعقد ما بين حاجبيها باستغراب وهي تسأله:
, -هو حصل ايه؟
, أجابها مبتسمًا:
, -باين عليكي هفأ واتزحلقتي، حتة صينية مش عارفة تشيليها؟
, نظرت له بعبوس وهي تعاتبه:
, -على فكرة أنا٤ نقطة
, قاطعها قائلاً بود وهو يضع إصبعيه على طرف ذقنها:
, -انسي ، المرادي أنا اللي هاحضر العشا، مش انتي لسه جعانة؟
, أومأت برأسها دون أن تجيبه، فطبع قبلة عميقة على جبينها متابعًا بمرح أذاب أي حواجز بينهما:
, -خلاص نطلب دليفري بقى!
, زادت ابتسامتها إشراقًا ولمعت عيناها بوميض الحب الصادق الذي دومًا يخترق القلوب.
, ٤٥ نقطة
, مضى عدت أيام حتى أتى يوم الافتتاح الكبير لدكانها وفرع الأدوات الصحية الجديد، افترشت الطرقات بباقات الورد الكبيرة وكذلك بالرمال الملونة، زينت البنايات ومدخل المنطقة الشعبية بشرائط الإنارة الكهربائية الحديثة، وصدحت أصوات الموسيقى طوال اليوم، وقفت أسيف بين عائلتها تنظر إلى دكانها الذي ازدان بما فيه من ورود صناعية وهدايا شبابية بسعادة غامرة، تحقق حلمها، وباتت لافتة دكان والدها الراحل مضيئة بكلمة "خورشيد"، رقص قلبها طربًا وهي تقص شريط الافتتاح لتعلو الزغاريد من خلفها، انهالت عليها التهنئات من أهالي المنطقة وكذلك من المحيطين بها، دنا منها زوجها قائلاً:
, -وفيت بوعدي معاكي، صح؟
, ردت وهي تهز رأسها بالإيجاب:
, -ايوه
, مدت يدها لتمسك بكفه متابعة بامتنان:
, -**** يخليك ليا يا حبيبي، بأحبك
, ضغط بأصابعه على راحتها هامسًا:
, -مش قصاد الناس!
, ابتسمت له بخجل وتابعت التلفت حولها بنظرات متحمسة، لمحت بسمة وهي تتجادل مع دياب بجوار أحد الرفوف فسحبت كفها من راحة زوجها لتتجه نحوهما، تساءلت باهتمام:
, -خير
, ردت بسمة بعصبية طفيفة:
, -مش عاوز يجيبلي دبدوب أحمر
, رد دياب مبررًا بامتعاض وهو يشير بيديه إلى نفسه:
, -طب أنا راضي ذمتك، ده شكل واحد بتاع دباديب؟ ده حتى وحش في حقي، هيبتي قصاد أهل الحتة تروح!
, أشارت بسمة بسبابتها نحوه قائلة بغيظ:
, -شايفة!
, تقوس ثغر أسيف بابتسامة لطيفة وهي تقول:
, -خلاص أنا هاديهولك هدية
, تهللت أسارير بسمة بشدة، وأقبلت عليها تحتضنها بود كبير ماسحة على ظهرها بكفيها، هتفت بامتنان:
, -حبيبتي يا أسيف، اتعلم الذوق منها
, حك دياب مؤخرة رأسه مرددًا بمرح:
, -**** يكرمك، دايمًا كده تشكري فيا قصاد الناس!
, ابتعدت عنها بسمة لتضيف بتذمر:
, -اهوو، احنا على الحال ده مع بعض!
, ضحكت أسيف قائلة:
, -**** يخليكم لبعض دايمًا
, استمرت ثلاثتهم في الحديث الودي حتى انضم إليها منذر قائلاً بلهجة شبه صارمة:
, -عاوز المدام شوية
, التفتت برأسها نحوه مرددة:
, -ايوه يا منذر
, أشار لها بعينيه لتتبعه في زاوية الدكان حيث الأجواء أهدأ قليلاً، سحب نفسًا عميقًا لفظه دفعة واحدة ليقول بعدها بجدية:
, -بصي يا ستي أنا كان عندي شغل في راس البر، هانشطب أرضيات كام فيلا هناك عشان المصايف، فعاوز أخدك معايا تغيري جو
, ارتفع حاجباها للأعلى وهي تهتف بعدم تصديق:
, -بجد؟!
, أومأ برأسه مؤكدًا بهدوء:
, -ايوه، جهزي نفسك!
, استدارت برأسها للجانب قائلة باعتراض صغير:
, -بس الدكان، أنا ملحقتش آآ٤ نقطة
, قاطعها هاتفًا بهدوء جاد:
, -خلي بسمة تتابعه لحد ما نرجع، ولو مانفعش اقفليه!
, ضغطت على شفتيها مرددة:
, -خلاص هارتب أنا معاها ونسافر سوا يا حبيبي
, -ماشي، أسيبك لزباينك وأروح أشوف شغلي
, -اوكي يا حبيبي
, ودعها بلطف قبل أن يتجه عائدًا نحو أخيه ليصيح فيه بلهجة آمرة:
, -يالا يا باشا، ورانا مصالح
, لوح له دياب قائلاً:
, -حاضر، جاي في ديلك يا منذر!
, انتظر ابتعاد أخيه عن الدكان ليقترب من أسيف، توسلها برجاء مرح:
, -أمانة عليكي يا مرات أخويا متعصيش الأبلة عليا، لأحسن بيردم عليا في الأخر، وأنا مش ناقص!
, ضحكت على أسلوبه التهكمي في استجدائها، ثم ردت قائلة:
, -طيب، إنت بس تؤمر
, هلل متحمسًا:
, -حبيبة قلب أخويا وأم عياله إن شاء ****!
, أخفت ابتسامتها بكف يدها وهي ترد بخجل:
, -يا رب!
, ٤٢ نقطة
,
, رغم انشغاله بالأعمال في مدينة رأس البر الساحلية إلا أنه خصص لها وقتًا ليمضيه معها ومع عائلتهما التي أصرت على قدومهم معهما ليحظى الجميع بأوقات طيبة، استأجر لهم منزلاً واسعًا بالقرب من الشاطئ، ومكثت كل أسرة في غرفة خاصة بهم، كانوا يتجمعون في أوقات الطعام وبعد الظهيرة ليتسامروا ويستعيدوا ذكرياتهم، غلف لحظاتهم السعادة والهناء، أوشكت العطلة القصيرة على الانتهاء، فقرر منذر اصطحاب زوجته للسباحة سويًا في وقت مبكر من الصباح كي يتجنبا الزحام والأعين المتلصصة، كانت في قمة سعادتها معه، ظل الاثنان يلهوان وسط الأمواج ويتقاذفان المياه على بعضهما البعض بمرح واضح، شعرت أسيف بدوار شديد يصيب رأسها، بإنهاك غير مبرر يخدر خلايا جسدها، ضعفت قدرتها على الوقوف في المياه، فانهارت فجأة وسط الأمواج، نظر لها منذر بهلع، أسرع ناحيتها محاولاً الإمساك بها قبل أن تغرق صائحًا بفزع:
, -أسيف! في ايه؟
, أجابته بنبرة واهنة:
, -مش عارفة مالي، تعبانة أوي
, حاوطها من خصرها قائلاً:
, -تعالي احنا هنرجع
, ردت بصوت خفيض وهي تحاول التشبث به:
, -ماشي!
, ساعدها على السير حتى بلغا الشاطئ، بدا صوتها لاهثًا وهي تقول بصعوبة:
, -مش قادرة، دماغي بتلف جامد!
, لم ينتظر أكثر من ذلك، انحنى قليلاً بجذعه وحملها مكملاً سيره نحو منزل الشاطئ، هبت جليلة واقفة في مكانها حينما رأتهما على تلك الحالة، سارت بخطى سريعة نحوهما وهي تهتف بتوجس:
, -ايه اللي حصل يا ابني؟
, أجابها منذر بحيرة:
, -مش عارفة يا أمي، داخت جامد مني!
, تنحنت للجانب لتسمح له بالمرور والصعود على الدرجات التي تؤدي للشرفة الواسعة بذلك المنزل، التقى بعواطف في طريقه نحو الداخل، لطمت على صدرها وهي تشهق مفزوعة:
, -أسيف، يالهوي، مالها؟
, رد بضجر:
, -معرفش، تعبانة
, لحقت به مرددة بقلق:
, -نشوفلها ضاكتور بسرعة، بس قابلة تغير هدومها لأحسن تاخد برد
, -ماشي
, قالها منذر وهو يلج إلى الغرفة الخاصه به وبزوجته، اقترب من الفراش ليسندها برفق عليه، ثم اعتدل في وقفته ممررًا أنظاره عليها، زفر بضيق مبديًا انزعاجه مما يحدث معها من حالات دوار وإغماء متعاقب.
, ٤٣ نقطة
,
, لم تتوقف جليلة ولا عواطف عن إطلاق الزغاريد فور تأكيد الطبيب الذي فحص زوجة ابنها البكري لخبر حملها، كانت ما تمر به هي العوارض الأولية للحمل، ولكونها كانت مشغولة بالكثير من الأحداث التي دارت مؤخرًا، لم تنتبه للتغيرات التي طرأت عليها، لم يصدق منذر أذنيه، سيرزقه **** بعد فترة انتظار طويلة بنعمة عظيمة من نعمه، بكى متأثرًا لسماعه ذلك الخبر المفرح، احتضنه أخاه قائلاً:
, -مبروك يا منذر، إنت بتعيط يا جدع، وده كلام؟!
, كفكف منذر عبراته بظهر كفه هاتفًا بتضرع شاكر:
, -اللهم لك الحمد والشكر، يا ما انت كريم يا رب!
, رد عليه دياب وهو يهز رأسه:
, -**** يراضيك دايمًا، أيوه بقى عاوزين الواد يحيى يلعب مع ولاد عمه!
, -**** معاها ويكملها على خير
, -إن شاء ****
, وضع طه يده على كتف ابنه قائلاً بصوته الخشن:
, -رزق **** مالوش ميعاد ولا حدود يا منذر
, رد عليه ابنه مؤكدًا بثقة:
, -فعلاً، يرزق من يشاء بغير حساب!
, تابع طه مضيفًا وهو يعيد ضم يديه معًا على رأس عكازه:
, -**** يكرمك ويقوم مراتك بالسلامة، المهم تطلع حاجة لله عشان **** يفتحها أكثر في وشك
, -ده لازم
, ٤١ نقطة
, ولج إليها راسمًا على ثغره ابتسامة لا توصف، تأملها بأعين ممتنة وكأنها قد أهدته كنزًا لا يقدر بثمن، رأت في عمق نظراته حبًا أكبر وأصدق، حبًا انتشلها من حزن قاسٍ وأتى بها إلى أرض الأحلام، تلون وجهها بحمرة لطيفة وهي تطالعه بنظراتها الوالهة، همست له بخجل:
, -أنا طلعت حامل!
, دنا منذر من فراشها ليجلس إلى جوارها، ثم مد يده ليلتقط كفها، احتضنه بين راحتيه ماسحًا عليه بقوة، رفعه إلى فمه ليقبله قائلاً:
, -بأحبك اكتر من الأول، والحمدلله إن **** هيرزقني منك بعيل
, رمشت أسيف بعينيها قائلة بصوت خفيض شبه متردد :
, -منذر لو رنا كرمنا بولد، أنا عاوزة أسميه زين
, قطب جبينه متسائلاً باستغراب:
, -اشمعنى؟
, سحبت نفسًا كبيرًا أخرجته على تمهل وهي تسرد له ذلك الحلم الغريب الذي رأته من قبل، نعم كان يحمل لها البشارة بمولود سيملأ حياتها سعادة لكنها لم تفهم الرسالة، ابتسم لها منذر بعذوبة، ثم رفع يده ليضعها على وجنتها، داعب بشرتها بلطف وهو يقول:
, -بأمر ****، ولو بنت يبقى زينة!
, زاد لمعان حدقتيها وهي تنظر إليه، كما تشكل على محياها ابتسامة صافية وهو يضمها إليه لتشعر بدفء أحضانه التي أدمنتها.
, ٥٧ نقطة
,
, مرت الشهور ورزقها **** بمولود أسماه زوجها بـ "زين" تيمنًا برؤياها السابقة، أقيم له حفل "سبوع" شعبي في دكان خورشيد، ذلك المكان الذي شهد على الكثير وكان السبب الرئيسي في قدومها إلى هنا لتلتقي بنصفها الأخر، جمعهما التحدي والقوة، التحدي والعناد، الحب والتضحية، الصدق والمشاعر العميقة، هنا ولدت بذرة حبهما، وهنا حصدا ثمار عشقهما.
, أعد منذر لرضيعه مهدًا وضعه في زاوية الدكان أسفل الصورة الفوتغرافية الخاصة بعائلة أسيف ليكون إلى جوار والدته وهي متواجدة به، كذلك كي يتمكن من رؤيته حينما يعرج عليهما من فرعه.
, ألقى نظرة أخيرة عليه قبل أن يسير نحو الخارج مطفئًا الأنوار، أوصد الدكان خلفه واضعًا مفاتيحه في جيب بنطاله، ثم توجه بعدها إلى منزل أبيه حيث اللقاء الأسبوعي لتجمع أفراد العائلة معًا، وجد ابن أخيه يلهو مع الصغار عند مدخل البناية، فاقترب منه عابثًا بخصلات شعره وهو يقول بصيغة آمرة:
, -اطلع يا يحيى، الغدا اتحط
, رد عليه الصغير ببراءة:
, -مس بسمة عملتلي الأكل، أنا هالعب شوية مع ثحابي (أصحابي)
, ابتسم له منذر قائلاً بهدوء:
, -ماشي يا سيدي، الأبلة اللي مدلعاك على حِسنا
, أكمل صعوده على الدرج حتى بلغ باب المنزل فدس المفتاح في قفله، ولج إلى الداخل مستنشقًا رائحة الطعام الشهية التي تعبق الأجواء، تحركت معدته متأثرة بالراحة، بالطبع لم يخلو المنزل من الأصوات المتداخلة للحديث النسائي، هز رأسه متعجبًا من قدرتهم العجيبة على الثرثرة وأداء العديد من الأعمال في آن واحد، هتف بنبرة عالية ليلفت الأنظار إلى وجوده:
, -سلامو عليكم يا أهل الدار
, ردت عليه جليلة بنبرتها الحانية:
, -وعليكم السلام يا ابني، 5 دقايق والأكل هايكون جاهز، الشوربة بتغلي على النار و٤ نقطة
, قاطعها مشيرًا بكفه:
, -براحتكم، أومال فين زين؟
, ردت عليه تلك المرة عواطف وهي تحمل الصحون الفارغة بيديها:
, -مع عمته والبت رنا يا سي منذر!
, رد عليها مازحًا:
, -من دلوقتي قاعد وسط البنات، أنا عاوز عضمه ينشف، ومايبقاش عيل طري!
, اعترضت عليه جليلة قائلة بجدية:
, -ده راجل ابن راجل ومن ضهر راجل
, هتفت أسيف بمرح وهي تدنو من زوجها:
, -ده أبو الرجالة كلهم!
, حدق منذر في وجه زوجته البشوش غامزًا لها:
, -مين يشهد ليه زيكم؟
, ابتسمت له بنعومة محببة لقلبه، طوق كتفيها بذراعه متبادلاً معها غزلاً متواريًا جعل وجهها يلتهب بسخونة واضحة، عضت على شفتها السفلى بحياء جلي، فاستمر في مداعبة أذنها بكلماته الساحرة، لكن أخرجتهما جليلة من لحظتهما الخاصة صائحة بجدية:
, -يالا أوام زمانت خطيب نيرمين جاي!
, عبس وجهها نوعًا ما من ذكر اسمه، شعرت أسيف بتبدل تعابيره، وحاولت ألا تظهر تأثرها بذلك، أضافت عواطف بابتسامة متسعة:
, -أول مرة يشرفنا الضاكتور نبيل
, ضاقت نظرات منذر نحو زوجته وهو يسألها بتجهم:
, -انتو عازمتوا السمج ده هنا؟
, ردت عليه بصوت خفيض وهي تشير بحاجبيها مستنكرة نفوره الغير مبرر منه:
, -مش هايبقى جوزها، وبعدين هو٥ نقطة
, قاطعها محذرًا بصرامة:
, -هـــا، هانعيدوه تاني
, ردت بدلال وهي تطالعه بنظراتها العاشقة:
, -لأ **** من دي النوبة!
, ضمها أكثر إلى صدره مبديًا إعجابه بطاعتها له، ثم سار معها نحو طاولة الطعام، في حين دست بسمة الطعام في فمها وتناولته بشراهة عجيبة، هتفت من بين أسنانها وهي تلوك الطعام في جوفها:
, -مش قادرة! طعمه يجنن
, تبعها دياب حاملاً صينية البطاطس الساخنة ناظرًا لها بتأفف وهي تتلذذ باستمتاع بقطع الطعام الشهية، أخفض نظراته نحو بطنها المنتفخ قائلاً بسخرية:
, -ارحمي كرشك شوية، هاتبلعينا بعد كده!
, نظرت بسمة إلى حيث يشير فتعقدت تعبيراتها بضيق، تلاشت ابتسامتها ليحل التبرم على ثغرها، صاحت فيه بحدة طفيفة:
, -****، مش عيالك هما اللي جعانين جوا بطني، ده أنا بأكل بتلات أرواح!
, لكزها برفق من كتفها قائلاً:
, -ده زي 3 دقات كده!
, نظرت له شزرًا وهي ترد:
, -ماتبقاش رخم
, أضافت جليلة بنبرة ودودة وهي تربت على ظهر زوجة ابنها الأصغر:
, -حقها تاكل وتتبسط، دي حبلى وفيها روحين بتكبر، ماشاء **** **** معاها ويعينها
, رد عليها دياب بعبوس زائف:
, -ادعيلي أنا يامه، أنا مش ملاحق!
, كركرت ضاحكة وهي تقول:
, -العيال بيجوا برزقهم، وإنت ماشاء **** عليك، **** فتحها في وشك وبزيادة
, رد بصوت خفيض وهو يفرك مؤخرة عنقه:
, -ماهو واضح، جوز من أول مرة، أومال لو طولت شوية، هاجيب كام؟!
, انتبه الجميع لوقع دقات عكاز الحاج طه المصحوبة بصوته الخشن وهو يقول:
, -احم٣ نقطة يالا يا جماعة
, ردت عليه جليلة:
, -حاضر يا حاج
, هتفت عواطف بنبرة متحمسة:
, -نيرمين طالعة مع خطيبها على السلم، هاروح أفتحلهم
,
, وما هي إلا لحظات وتجمع حول مائدة الطعام جميع أفراد العائلتين، ترأس الطاولة الحاج طه، وجلست على يمينه زوجته جليلة التي ظلت واقفة على قدميها تقدم ما أعدته من مأكولات شهية للجميع، وعاونتها عواطف التي جلست إلى جوارها، في حين جلس منذر في الجهة المقابلة لأبيه وإلى يساره زوجته أسيف التي كانت تختلس النظرات إليه بين حين وأخر حينما يداعب ساقها بقدمه فتبتسم له بحياء محذرة إياه من كشف أمرهما، لكنه كان مستمتعًا بغزلهما الصبياني، جلس دياب على يسار والده وإلى جواره نبيل وخطيبته، وبالطبع لم تكف عواطف عن تحفيز زوج ابنتها المستقبلي لتناول ما لذ وطاب من الأطعمة المنزلية المعدة بالسمن البلدي، في حين فضلت بسمة الجلوس على الأريكة لتشعر بالاسترخاء وتمد ساقيها المتورمتين دون حرج، مررت أسيف أنظارها ببطء على أوجه المحيطين بها شاعرة بفرحة لا توصف، لقد منحها **** عائلة كبيرة تفخر بها، وعوضها بزوج محب ومخلص بذل ما في وسعه ليمحو آثار ما عانته من مآسٍ موجعة، ورزقها طفلاً زين حياتها ببراءته وضحكاته التي تنسي أي هموم وأحزان، تنهدت بارتياح متمنية في نفسها أن تدوم تلك السعادة للأبد.
,
, -تمت بحمد ****-